حر الصيف وتذكيره بعذاب النار
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الجنة والنار, مخلوقات الله
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
28/5/1425
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أزمان وأمكنة وأوقات تذكر بالدار الباقية. 2- حكم البروز للشمس في شدة حرها تعبّدًا. 3- شدة الحر فيها تذكير بشدة الموقف يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسمون، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)).
لقد جعل الله تعالى وتقدس في هذه الدار الفانية دار الدنيا أزمانًا وأمكنة وأوقاتًا تذكّر بالدار الباقية دار الآخرة، فمن الأزمان فصل الربيع الذي يذكّر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، ومن الأوقات وقت السحر الذي يذكّر برده ببرد الجنة، وفي الحديث الذي خرجه الطبراني: ((إن الجنة تفتح في كلّ ليلة في السحر، فينظر الله إليها، فيقول لها: ازدادي طيبًا لأهلك، فتزداد طيبًا، فذلك برد السحر الذي يجده الناس)). وروى سعيد الجريري عن سعيد بن أبي الحسن أن داود عليه السلام قال: يا جبريل، أي الليل أفضل؟ قال: ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر. تلكم ـ عباد الله ـ تذكِّر بنعيم الجنة.
وأما ما يذكر بالنار وحرها وزمهريرها ـ أجارنا الله منها ـ فقد جعل الله تعالى في الدنيا أشياء كثيرة أيضًا تذكر بالنار المعدة لمن عصاه وما فيها من الآلام والعقوبات، من أماكن وأزمان وأجسام وغير ذلك.
أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحرّ أو البرد، فبردها يذكّر بزمهرير جهنم، وحرّها يذكر بحر جهنم وسمومها. وأما الأزمان فشدّة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير، قال الحسن: "كلّ برد أهلك شيئًا فهو من نفَس جهنم، وكل حر أهلك شيئًا فهو من نفَس جهنم". وفي الحديث الصحيح أيضًا عن النبي قال: ((إذا أشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) ، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي والترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار)).
عباد الله، إن اتقاء حرِّ الشمس أمرٌ فطري، والتعرضَ لَها والوقوف فيها غير مشروع إلا لحاجة، أما البروز للشمس في شدة حرها تعبدًا فمنهي عنه، إلا إذا كان للجهاد في الصيف مثلاً، قال الله جل شأنه معاتبًا من ينهى عن ذلك: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].
وكذلك المشي إلى المساجد للجمع والجماعات وشهود الجنائز ونحوها من الطاعات، فكلها مأجور المسلم على فعلها ولو كان الحر شديدًا، ولو استدعى ذلك الانتظار في الشمس الحارة، ولعل الرجوع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر بانصراف الناس من موقف الحساب فريق إلى الجنة وآخر إلى النار، فإن الساعة والقيامة تقوم يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، قال ذلك ابن مسعود، ثم تلا قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان: 24].
أيها المسلمون، ينبغي لمن كان في حرّ الشمس أن يتذكّر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة ويُزاد في حرها، وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار، فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر. قال قتادة وقد ذَكر شراب أهل جهنم، وهو ماء يسيل من صديدهم من الجلد واللحم، فقال: "هل لكم بهذا طاقة أم لكم عليه صبر؟! طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله".
نسيت لظى عند ارتكانك للهوى وأنت توقى حرّ شمس الهواجر
كأنك لَم تدفن حميمًا ولَم تكن له في سياق الموت يومًا بحاضر
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقّوا الغبار، فبكى ثم أنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي يبقى بشاشته فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا
فِي ظل مقفرةٍ غبْراءَ مظلمةٍ يطيل تحت الثرى فِي غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثًا
والشيء الذي يفضل عمله من الطاعات في الأيام الحارة لمن لا يتضرر به الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر. ووصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله فقال له: عليك بخصال الإيمان، وسمى أولها: الصوم في شدة الحر في الصيف.
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه ورأى أعربيًا، فدعاه إلى الغداء معه، فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى، دعاني إلى الصيام فصمت، قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم، صمتُ ليوم أشدّ منه حرًّا، قال: فأفطر وصم غدًا، قال: إن ضمنت لي البقاءَ إلى غدٍ، قال: ليس ذلك إليَّ، قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدِر عليه؟!
وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا مع رسول الله في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإنَّ الرجل ليضع يده على رأسه من شدّة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة.
نفعنا الله بهدي الكتاب وسنّة الهادي والأصحاب، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5176)
منحة الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
11/7/1425
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منحة الإسراء والمعراج وقعت حين بلغت الدعوة أصعب مراحلها. 2- الظروف الصعبة التي سبقت حادثة الإسراء والمعراج. 3- وصف حادثة الإسراء والمعراج كما وصفها النبي. 4- فضل الصلوات الخمس. 5- دعوة للخشوع في الصلاة. 6- علو منزلة النبي ورفعة قدره. 7- اختلاف العلماء في تعيين ليلة الإسراء والمعراج. 8- عدم مشروعية الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج لوجهين اثنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، حادثة الإسراء والمعراج لنبينا محمد تواترت بها الروايات عن خمسٍ وعشرين صحابيًا نقلوها عن نبيهم ، وإنها نعمة انفرد بها ، وتكريم خصه الله تعالى به من بين سائر رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجاء هذا التكريم للنبي الكريم ونال هذه المنحة من مولاه بعد أن بلغت الدعوة أصعب مراحلها وأقسى أيامها، ووصلت عداوة المناوئين له الذروة في إلحاق الأذى به وأصحابه حتى كاد الأمر يتجاوز قوة احتماله.
عمُّه الذي كان يحميه ويدافع عنه مات، وزوجته الرؤوم خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتسلّيه وتسرّي عنه ماتت، ففقد الحماية وفقد المؤانسة والقوم في طغيانهم يعمهون، فتحتم عليه البحث عن بدائل؛ فذهب إلى الطائف يعرض دعوته على ثقيف، إلا أن الرد جاء قاسيًا ومؤيِّسًا؛ رفضوا دعوته، وطردوه، وأغروا به سفهاءهم، وعاد طريدًا وحيدًا إلى بلدٍ أُخرج منها، ليقبل عليها خائفًا يترقب، ولم يستطع دخول مكة إلا بجوار رجل كافر هو المطعم بن عدي.
في هذه الأثناء وجو الدعوة ملبدٌ بسحبٍ من الأذى كثيفة وعلاماتُ وقرائن قحط الإجابة بادية على أهل مكة، هنا تفيض رحمة الله على عبده وأحبِّ خلقه إليه وأفضل الأنبياء كافة، تأتي منحة الإسراء والمعراج، وكان ذلك في السنة الثانية عشرة من البعثة.
جاء في الصحيحين أن النبي كان في بيته، فجاءه جبريل عليه السلام، فأخذه إلى المسجد الحرام، وفي الحجر ـ وهو جزء من الكعبة ـ فرج صدره، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره، ثم أطبقه، ثم أسرى به إلى بيت المقدس على البراق، وهناك صلى بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، وتنقل من سماءٍ إلى التي تليها، وأثناء تنقله في السماوات التقى بالأنبياء: آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى بن زكريا في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة عليهم الصلاة والسلام، وسمع صريف أقلام الملائكة، وهناك فرض الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، فراجع ربه بمشورة من أخيه موسى عليه السلام حتى خُففت إلى خمس صلوات. ثم انطلق به جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي شجرة عظيمة جدًا فوق السماء السابعة، ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله تعالى من الوحي وغيره.
أيها المؤمنون، لئن كان الرسول منح معراجًا في جسده وروحه إلى السماء وكشف الله له معاينة كثير من الآيات وعجائب الأرض والسماوات، فإن غيره من المسلمين لهم أيضًا حظ من هذا المعراج كلَّ يوم خمس مرات، لكنه معراج بالروح فقط، إنها الصلوات الخمس؛ يقف المسلم فيها بين يدي ربه. أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن النبي قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن)) ، فذكر منها: ((وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) ، وفي صحيح مسلم أن النبي كان يقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي، وما استقلت به قدمي)) ، وفي صحيح مسلم أيضًا أن النبي قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) ، ولا زال نبينا يأمر بالصلاة ويعلمها أصحابه حتى كانت آخر وصاياه قبل أن يفارق الدنيا، فقد أوصى الناس فقال: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) كرر ذلك مرارًا. رواه البخاري.
إذا وقفت ـ أيها المسلم ـ بين يدي مولاك في الصلاة فتحقق أنه سبحانه مقبل بوجهه عليك، يسمعك ويراك، فاعبده بالإحسان كأنك تراه، ولا تلتفت عنه بعينك أو قلبك فينصرف وجهه عنك، تفكر وتدبر أن الصلاة شرعت وفرضت على نبينا حين عرج به إلى السماء، وتذكر أن الله تعالى خالقُ الدنيا والآخرة وما فيها، وعالم الغيب والشهادة، وأنه على كل شيء قدير، فاعرج بنفسك لمولاها، وأشغلها بتملقه ودعائه؛ لأن النفس لا بد أن تنشغل، فالصلاة أقوال وأفعال، فللأقوال معنى، وللأفعال مغزى، ولا تحرم نفسك من فيوضات الجليل الرحيم سبحانه ونعمه التي أودعها في الصلاة، ومن أعظمها وأجلها المناجاة بينك وبين السميع البصير وأنت تقرأ سورة الفاتحة، ليست الصلاة طقوسًا ولا حركاتٍ آلية لا يعقل لها معنى، وإنما هي مدرسة تربي المؤمنين على أنبل معاني الخير والحب والفضيلة في زحمة الحياة وصخبها وشرورها. إنها معراج الروح إلى الله تعالى في اليوم خمس مرات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق؛ ولأجل ذلك حفت الجنة بالمكاره والنارُ بالشهوات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عبد ربه حق العبادة حتى كأنه يراه، وجُعلت قرة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الحشر والتناد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المؤمن، تذكر أنك عندما تريد أن تلقى مسؤولاً يفوقك بمنصبه تطلب المقابلة أولاً، فينظر في الطلب وموضوعه، ويحدّد الزمان والمكان، هذا إذا قُبل الطلب، وقد لا يقبل، أما مقابلة الحق سبحانه فهي بيد العبد زمانًا ومكانًا، لا ينهيها الله عز وجل حتى ينصرف العبد مختارًا. قال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم، إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن وتكلمه بلا ترجمان دخلت عليه، قيل: وكيف ذلك؟ قال: تسبغ وضوءك، وتدخل محرابك، فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، فتكلمه بغير ترجمان.
معاشر المسلمين، يا أمة محمد ، تضافرت الروايات أن نبينا محمدًا صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس ليلة أسري به قبل عروجه إلى السماء، وجاء في خبر صححه الحافظ ابن كثير أنه صلى بهم بعد أن هبط من السماء؛ هبطوا معه تكريمًا له وتعظيمًا عند رجوعه من الحضرة الإلهية الجليلة، وإمامته الأنبياء دليل على جلالة قدره وعلو مرتبته وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم، وهو دليل على دخول جميع الرسالات السماوية تحت رسالته، وانضواء الرسل كلهم بأقوامهم تحت لوائه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أي: بعد ذلك العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله ومن رسله، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 81، 82]، وهذا أبلغ بيان، ومن أقوى الأدلة على أن اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم والأقوام الأخرى إن لم يتبعوا دين محمد ولم يؤمنوا به ويدخلوا فيه استحقوا الفسق الموجب للخلود في النار، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].
أيها المؤمنون، لئن كان الإسراء والمعراج تم للنبي روحًا وجسدًا إلا أن معرفة تلك الليلة وتحديدها ـ أي: ليلة الإسراء والمعراج ـ لم يرد في حديث صحيح مقبول عنه أهل العلم بالحديث. واحتفال كثير من المسلمين في الأقطار الإسلامية بذكرى تلك الليلة مخالف للشرع من وجهين:
الوجه الأول: لأن المحتفلين يجزمون بتعيين تلك الليلة في السابع والعشرين من شهر رجب، وهذا لم يثبت بنقل صحيح شرعًا كما تقدم.
الوجه الثاني: لو ثبت تعيين وتحديد ليلة الإسراء والمعراج لم يجز لمسلم أن يخصها بشيء من الاحتفالات؛ لأن النبي لم يحتفل بها ولم يخصها بشيء، ولو كان ذلك دينًا وفعله النبي لنقله الصحابة إلى من بعدهم ووصل إلينا، فإنهم نقلوا عن نبيهم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم رضي الله عنهم السابقون لكل خير وفضيلة.
فاتقوا الله عباد الله، ودعوا وتجنبوا ما يقصيكم عن ربكم ويبعدكم عن سنة نبيكم وإن فعل ذلك آباءٌ ومشايخ وفضلاء هم عندنا محل احترام ومحبة وتقدير، لكن دين الله تعالى أحب إلينا من كل أحد، وما مات محمد إلا وقد كَمُل الدين وتم، فإياكم ومحدثات الأمور. احرصوا على ما ينفعكم، واعرجوا بالأرواح إلى ربكم بكثرة الصلاة والمحافظة عليها، فإنك ـ يا ابن آدم ـ ما ركعت لله ركعة أو سجدت سجدة إلا ازددت بها من الله قربًا ومحبة.
اللهم حبب إلينا الإيمان...
(1/5177)
الصراع في دارفور: دوافعه وأهدافه
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
17/8/1425
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السياسة الجائرة لدى الغرب الكافر. 2- مأساة دارفور. 3- معلومات عامة عن دارفور. 4- حقيقة ما يجري في دارفور. 5- لماذا استهدفت السودان هذه المرة؟ 6- الدروس والعبر المستفادة من قضية دارفور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الفيضانات الهائلة التي تجتاح بلدًا إسلاميًا مثل بنغلادش كل سنة وتخلف وراءها أحيانًا آلاف الغرقى وملايين المشردين من الفقراء والعجزة والأطفال ومليارات الخسائر المادية لم يلتفت لها ضمير العالم! التمييز العنصري والتصفية الدينية التي يمارسها الهندوس تجاه المسلمين المستضعفين في الهند عمومًا وكشمير خصوصًا قضية داخلية لا علاقة للغرب بها! التهجير والإبادة الجماعية الصامتة منذ عقود من السنين يتعرض لها شعب أراكان المسلم في بورما وشعب فطاني في تايلند من قبل الحكومات البوذية هناك لم تقلق الدول الكبرى! والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في الشيشان وجنوب الفلبين وأفغانستان وأوزبكستان وأرتيريا والعراق لم تحظ بدموع الغرب الذي يتباكى على إهدار حقوق الإنسان! فضائح سجن أبي غريب وسجون غوانتانامو والسجون في أفغانستان كل هذه لا علاقة للغرب بها! وقبل هذه وبعدها عدوان اليهود المتجدد يوميًا على الفلسطينيين وطردهم من بلادهم وإحلال غرباء مكانهم وهدم البيوت وجرف المزارع واقتلاع الأشجار والقتل والتدمير الذي يشاهده العالم يوميًا يقع في فلسطين أين الضمير العالمي منه؟! أو لأن الغرب يحترم سيادة الدول وقضاياها الخاصة فلا يتدخل في القضايا الداخلية لدولة اليهود!
أما دارفور فتتصاعد فيها الأحداث بصورة مذهلة، وتستيقظ لها مشاعر أمريكا وأوربا، تلك المشاعر المرهفة وأخلاقهم الإنسانية، وتنال اهتمامًا إعلاميًا لا يهدأ، ويتداعى الغرب إلى استغلالها، إن لم يكن هو الذي أوقدها ثم يصورها بغير صورتها، فيصفها أنها تطهير عرقي، وأنها حرب بين العرب والأفارقة، ويبرز أنها من صنع حكومة عربية وإسلامية، ثم يضع الغرب النصراني نفسه حكمًا للدفاع عن المظلومين والانتقام لهم من حكومتهم الظالمة؛ بالضغط عليها وتهديدها، واستدعاء المبررات لفرض حصار اقتصادي، وبدلاً من أن يجوع ستة ملايين هم سكان دارفور يجوع ثلاثون مليونًا هم سكان السودان، بل قد يتطور الأمر إلى غزو عسكري كما حصل في أفغانستان والعراق.
أيها المسلون، إننا لا نقر الظلم أيًا كان مصدره، ولا نرضى بالتمييز العرقي أو القبلي، كما لا يجوز السكوت على المأساة الإنسانية التي تقع في دارفور، وشردت المستضعفين، وأخرجتهم من ديارهم ليهيموا في صحراء مقفرة، يمسهم ضُر الفقر والمرض والحاجة، والبرد القارس في الشتاء، ولهيب الشمس المحرق في الصيف، ويجب مساءلة كل من أهمل وأسهم فيها وعقابهُ عقابًا رادعًا؛ لأنه من جانب ضار مسلمًا واعتدى عليه، ومن جانب آخر عرّض دولة كاملة بشعبها الذي يزيد عن ثلاثين مليونًا، عرضهم لاجتياح عسكري أو حصار اقتصادي يجهز على بقية البُنى التحتية لها.
عباد الله، دارفور إقليم يقع في غرب السودان، تبلغ مساحته أكثر من خمسمائة ألف كم2، ويسكنه ما يقارب الستة ملايين نسمة، خمس وسبعون بالمائة منهم يسكنون الأرياف، وأغلبهم من أصول أفريقية لا ينحدرون من أصول عربية، والبقية هم بدو رُحَّل وينحدرون من أصول عربية، وكلا الطائفتين مسلمون سنة، وبينهم مصاهرة وتداخل وقدر كبير من الانسجام والامتزاج، خلا بعض الصراعات المحدودة والطبيعية التي تنشب على المراعي ومصادر المياه عادةً.
فالصراع إذًا حول الموارد الطبيعية، وليس صراعًا عرقيًا، وإن بدا أحيانًا كذلك، أو يراد له ذلك تعميقًا للخلاف، والدولة هناك تتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية لإهمال تلك المنطقة.
أيها المؤمنون، ما حقيقة ما يجري؟ ولماذا استهدفت السودان هذه المرة؟ هل هي أزمة إنسانية فعلية فتعاطف الغرب معها من قبيل الإغاثة فقط، أم جزء من مخطط ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، والذي ستكون دولة اليهود أبرز دوله، أم حرب بالوكالة تجري على التراب السوادني بين أمريكا وفرنسا؟ وهل يمكن أن يكون تنافسًا على الثروات من نفط ويورانيوم وغيره، أم هي رغبة منظمات تنصيرية تريد تغيير عقيدة منطقة سلمت قيادها للإسلام منذ قرون طويلة؟
إن اهتمام الغرب بدارفور ليس وليد السنوات الأخيرة فقط، بل يرجع إلى أكثر من خمسين سنة مضت، فهو جزء من شرق أفريقيا الذي له ملفات ساخنة في السياسة الأمريكية؛ لأنه يمثل جسرًا واصلاً بين العديد من الثقافات، وهو بلد غني بالثروات، وأهله مسلمون كلهم، وهذا الإقليم بوابة مهمة يعبر منها من يريد الاتصال أو الانتقال من شرق إفريقيا إلى غربها، وله تاريخ إسلامي مجيد في التواصل بين القبائل من شرق أفريقيا ووسطها إلى غربها، فأسهم إسهامًا كبيرًا في نشر الدين الإسلامي.
فمنطقة دارفور إذًا منطقة إستراتيجية ثقافيًا وتجاريًا واقتصاديًا، وهذه العوامل كافية أن ترشحها لأن توضع تحت منظار قوى الهيمنة والتربص بالمسلمين.
وحين استطاعت أمريكا في السنوات الأخيرة من كف أيدي المنظمات الإغاثية الإسلامية وإغلاق مكاتبها وتجميد أرصدة كثير منها وإيقاف عملها واعتقال عدد من العاملين فيها أو تخويفهم فإنما كانت تهيئ المجال وتخلي الساحات الإسلامية عند وقوع كوارث فيها لأن تعيث المنظمات الكنسية وبعثات التنصير في الأرض فسادًا، وهذا ما تفعله الآن في دارفور، فأقبلت بخيلها ورجلها تحت دعوى الإغاثة لتوزيع قليل من الغذاء والدواء، وكثير من الأناجيل والمنشورات، ولتضيف إلى مصيبة التشريد والجوع مصيبةً أدهى وأمر، إنها مصيبة سلخهم من دينهم وإدخالهم في النصرانية ليموتوا على غير ملة محمد. ولا تجد من يتصدى أو يقف لها، كما كان الحال حين أبدت منظمات الإغاثة الإسلامية جهودًا ملموسةً ومشكورة في حروب أفغانستان والصومال والبوسنة وكوسوفا، فالجو شبه خالٍ للنصارى الآن في دارفور، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهو المستعان وعليه التكلان.
وهذا لا يعني انعدام حضور وتواجد هيئات الإغاثة الإسلامية أو جمعيات الهلال الأحمر من بعض الدول الإسلامية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فجهودهم تشكر ولا تنكر، ولكن مقارنة بغيرها من الهيئات والمنظمات النصرانية قليل، مع أن الإقليم الذي فيه الكارثة إسلامي بكامله.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشيدًا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كتب الإحسان على كل شيء، وحرّم الظلم على نفسه وعلى العباد، توعد الظالمين بأليم العقاب، ووعد المحسنين بجزيل الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: معشر المسلمين، ولنا مع ما يجري في دارفور وقفات، نستخلص منها دروسًا وعبرًا:
أولاً: إن الوقاية خير من العلاج، وكان الأولى والمتعين على الحكومة السودانية أن تبادر إلى منع قيام مثل تلك الأزمة، والسعي في نزع فتيلها قبل أن تقع، سيما وأن إرهاصاتها قد لاحت في الأفق منذ وقت طويل، وكانت قابلةً أن ينفذ من خلالها الأعداء، وتستغلها الأحزاب ذات التوجهات القومية، والجهات المأجورة التي لا يسرها ظهور الإسلام ولا علو المسلمين. وما يجري في دارفور قد يتكرر في إقليم آخر، بل وحتى في بلدان إسلامية غير السودان، والتاريخ في هذا الشأن شاهد، فاتخاذ التدابير الواقية لمنع إثارة العصبيات وما يلهب نار حمية الجاهلية وتغليب الثارات، منعه قبل أن يحدث، وإيجاد الحلول المناسبة أهون. وقديما قال زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرَجَّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً وتضر إذا ضرَّيتموها فتضرَم
فتعرُّكم عركَ الرحى بثفالها وتلقح كشافًا ثُم تَحمل فتُتئِم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم
كما أنها أقل تكلفة وأضمن نجاحًا من إطفاء النار بعد اشتعالها؛ لأنها إذا شبت قد يتعزز إطفاؤها؛ وذلك أن الساعين في إيقادها وإضرامها قد يكونون أكثر وأقوى ممن يعمل على إخمادها. وهذا الدرس والعبرة يصدق على حال الدول والمجتمعات والقبائل، كما يصدق أيضًا على حال الأسر والأفراد.
الثاني: إن العلم نور وهدى، وتسهيل وصوله إلى كافة الأقاليم يبدد الظلمة ويهدي للطريق السوي، وأما طريق الجهل فلا يوصل إلا إلى مهالك. وعلى أصحاب الشأن هناك نشر العلم والوعي، وإلا فإنَّه حتى الموالين للدولة سرعان ما تتغير مواقفهم وولاءاتهم إذا قادهم الجهل، ولاحت لهم مصلحة عند غيرها، أو عضّتهم الشدة معها.
الثالث: ترسيخ العقيدة الصحيحة بالإيمان بالرجوع إلى الله تعالى في الآخرة، وأن الناس كلهم عند ربهم موقوفون وعن أعمالهم مسؤولون وعلى تفريطهم نادمون، ولن ينفع في ذلك اليوم قبيلة ولا نسب، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101].
الرابع: تلمس حاجات المحرومين والمظلومين وإنصافهم وتعويضهم عما فقدوه.
الخامس: الأخذ على أيدي المفسدين في الأرض أيًا كانت هويتهم، وقطع الطريق على الانتهازيين بإقامة الحدود على المجرمين، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة: 13]. والعدو لا يرحم، ولن يكتفي بالتنازلات فقط، بل يظل يطلب ويستنزف ويهين ويضعف حتى يقع خصمه بين فكيه وتحت أنيابه، فاللجوء والركون إلى قوة العزيز الجبار سبحانه والاحتماء بحماه والتوكل عليه خير ما يرهب الأعداء ويُدفع به عن الأديان والأوطان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم اخذل الشرك واهزم المشركين، ودمر الكفرة ومزق المنافقين...
(1/5178)
المولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
2/3/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عادة إحياء ذكرى العظماء. 2- إسداء النعمة بالنبي. 3- أقسام الناس تجاه مولد النبي. 4- المحدثون للمولد النبوي. 5- بدعية الاحتفال بالموالد. 6- تأييد أعداء الإسلام للموالد. 7- مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي. 8- الاختلاف في تحديد تاريخ مولد النبي. 9- دواعي التحذير من هذه البدعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لكل أمة عظماء سطر التاريخ مآثرهم، ومجد أعمالهم، وخلّد جزءا من سيرهم وحياتهم؛ ليكونوا نبراسًا لمن بعدهم في علمهم وجهادهم وأخلاقهم. ولقد اعتادت كثير من الأمم والملل إحياء ذكرى عظمائهما، فيخصصون يومًا يوافق يوم مولدهم أو يوم وفاتهم لتذكير شعوبهم وأتباعهم بسير هؤلاء العظماء؛ أملا أن لا يموت ذكرهم ولا تنسى أسماؤهم.
عباد الله، وفي مثل هذا الشهر تمر ذكرى مولد النبي ، لقد كان مولده فتحًا ومبعثه فجرًا بدد الله به جميع الظلمات، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، لقد كان العرب يعيشون قبل مولده وبعثه جاهلية جهلاء في مدلهمة ظلماء، كانوا أسارى شبهات وأرباب شهوات، يعبدون الأصنام، ويستقسمون بالأزلام، جهل وكفر، عربدةٌ وسكر، ظلوا على هذه الحال إلى أن أذن الله سبحانه بخروج النبي.
نورًا من الرحمن أرسله هُدى للناس فازدهر الزمان وأينعا
دع عنك إيوانًا لكسرى عندما هتفوا بِمولده هوى وتصدعا
واذكر كيف أتى شعوبًا فُرقت أهواؤها كلّ يصحح ما ادَّعا
فهداهم للحق حتى أصبحوا فِي الله إخوانا تراهم رُكّعا
عباد الله، في مولد النبي انقسم الناس إلى طرفي نقيض، طائفة شرِقَت بخروجِه وإخراجه الناسَ من الظلمات إلى النور، وتمنّت بقاءَ البشرية واستمرارها في عبادة الأحجار والأوثان، أما الطائفة الأخرى وهي التي علا صوتها حينًا وظهر عملها فهي التي غلت واتخذت من ذلك اليوم عيدًا وفرحًا يتكرّر كل عام بتكرار تاريخ الميلاد للنبي. وهذه الطائفة الثانية الغالية في النبي يكفيها شرفًا أن أول من سنّ وابتدع هذا الاحتفال هم الرافضة ملوك الدولة الفاطمية التي انتسبت كذبًا وزورًا إلى فاطمة بنت الرسول ، ففي القرن الرابع الهجري ابتدع الخليفة الفاطمي المعز العبيدي فكرة الاحتفال بالمولد النبوي، وأحدث مع المولد النبوي أربعة موالد أخرى: مولدًا لعلي، وآخر لفاطمة، وثالثا للحسن والحسين، ورابعا لمن يحكم من العبيديين، ثم توسعوا في إحداث الموالد والمناسبات البدعية الأخرى.
عباد الله، هذه الدولة التي أحيت وابتدعت المولد النبوي دولة كافرة فاسقة بإجماع المحققين من أهل العلم، عطلت الإسلام، وجحدت السنن والآثار، في ولايتهم أرغِمَ المصريون على سبّ أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، ومنع الناس من صلاة التراويح ومن السعي لطلب الرزق نهارا، وانتشر الرعب والقتل حتى أكل الناس في زمانهم بعض البهائم والحيوانات.
هذه الدولة يرى بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تنحدر من أصل يهودي أو مجوسي، وبناء على ما سبق لم تعرف الأمة هذا المولد قبل هذه الدولة، فهل هي أهلٌ للاقتداء بها؟!
لم يبرح الناس حتَّى أحدثوا بدعًا في الدين بالرأي لم يبعث بها الرسلُ
حتى استخف بدين اللَّه أكثرهم وفِي الذي حُمِّلوا من حقّه شُغُلُ
عباد الله، إن النبي وهو صاحب الشأن لم يحتفل بمولده في حياته، بل ولم يأمر بذلك أحدا من الناس، وهو المبلغ للدين، ولم يمت حتى أكمل الله به الدين، قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
عباد الله، هل هناك أحد يحبّ رسول الله كحب أصحابه له، لا والذي رفع السماء بلا عمد، لقد ضربوا المثل الأعلى في حبهم، فها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح مسلم يقول: ما كان أحب إليّ من رسول ، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
هذا مثال واحد لحبّ الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله ، فلماذا لم يحتفلوا بمولده؟! ثم أليس في عدم احتفالهم اتهام لهم عند من يرى الاحتفال بأنهم لا يحبون النبي ؟!
فسر خلف أصحاب الرسول فإنَّهم نجوم هدى فِي ضوئها يهتدي الساري
وعج عن طريق الرفض فهو مؤسّس على الكفر تأسيسًا على جرف هار
عباد الله، إن أصحاب هذه الموالد البدعية والمحتفلين بهذا اليوم يتشبهون من حيث لا يشعرون بأعداء الله النصارى، حيث كان في البلاد التي جاور فيها المسلمون النصارى كما في الشام ومصر، يحتفل النصارى بعيد ميلاد المسيح في يوم مولده وميلاد أسرته، فسرت تلك البدعة إلى المسلمين، قال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى: "كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر" اهـ. ولقد حذر النبي من التشبه بأعداء الدين فقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وحسنه ابن حجر رحمه الله.
عباد الله، إن أعداء الله من الكفار والمنافقين وغيرهم يفرحون بإقامة مثل هذه البدع؛ لأنهم يعلمون أنه متى أحدثت في الدين بدعة ماتت مقابلها سنة من سنن المصطفى ، وأوضح نموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمده بتعليق الزينات، بل وحضر بنفسه الحفل من أوله إلى آخره. ويعلق الجبرتي على اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عمومًا بما رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والرقص وفعل المحرمات.
عباد الله، إن الصادق في حبّ النبي من تظهر عليه علامة ذلك، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31].
دعونا ـ يا عباد الله ـ ننظر في أفعال هؤلاء المدّعين أن احتفالهم بالمولد تعبير عن محبتهم للرسول ؛ لنرى هل يوافق الفعل الادعاء.
في يوم المولد يتمّ الاحتفال بنظام وتقليد معيّن، ربما تختلف تفاصيله بحسب البلدان، لكن الغالب أنه تقام فيه شعائر مخصوصة، وتلقى فيه أشعار تتضمن الشرك الصريح والكذب الواضح، وعند مقاطع معينة من الشعر الملقى يقوم الحضور على أرجلهم زاعمين أن النبي يدخل عليهم في هذه اللحظة، ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يطفئ الأنوار ويضع كأسا للنبي ليشرب منه حين قدومه إليهم، فهم بزعمهم يضيفونه في هذه الليلة؟! ويضعون مكانا خاصا ليجلس فيه؛ إما وسط الحلقة أو بجانب كبيرهم الذي يدعي بدوره أنه من نسله. وبعد ذلك يشرع في التذكير بقراءة سيرته وحياته، وهذه القراءة تكون مصحوبة بهز الرأس والجسم شمالا ويمينا، وأحيانا يتم الهز وهم وقوف، وربما اجتمع الرجال والنساء جميعا، هذا غير مشاركة المعازف وآلات الموسيقى في مثل هذه الاحتفالات، فكيف ـ يا عباد الله ـ يتم إحياء ذكرى مولد النبي بمثل هذه المنكرات والمخالفات؟!
لكن لا غرابة ما دام أولئك المحتفلون قد أجروا عقولهم لمشايخهم الذين يجيزون ويحللون لهم أفعالهم، بل يرون أنها من أقرب القربات، وهم يستندون في ذلك إلى شبهات يتعلقون بها ويجوّزون بها بدعتهم، لكنها عند التمحيص أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
كيف لا أدري لماذا ربما أنني يوما عرفت السببا
عالِم يدعو بدعوى جاهل وليوث الحرب ترجو الأرنبا
عباد الله، إن البعض إذا أبصر أعدادَ المحتفلين داخله الشك وقال: لو كان منكرا ما فعله الناس كلهم، فيقال: إن فعل الكثير من الناس لا يدل على أنه حق وصواب، فقد ذمّ الله سبحانه الكثرة في القرآن فقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116].
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "ولما كانت البدع والمخالفات تواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول: ولو كان هذا منكرا لما فعله الناس"، ثم نقل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم: "إن من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، ولا يجوز دعوى إجماع عمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟!" إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن تحديد مولد النبي لم يكن محلَّ عناية السلف ولا موضع اهتمامهم؛ لذلك اختلفوا في تحديد يوم مولد النبي بعد اتفاقهم على ولادته في عام الفيل، وسبب اختلافهم أن الأمة الإسلامية كانت أمة لا تكتب ولا تحسب، وإنما يحسبون بالنجوم والفلك، فجمهور العلماء على أن النبي ولد في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، أما تاريخ ذلك اليوم فقال البعض: ولد في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقيل: بل ولد في اليوم التاسع، وبعضهم قال وهو التاريخ الذي رجحه المحققون من أهل التاريخ والسير: إنه ولد في يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول.
عباد الله، أما وفاته فهي محل اتفاق بين أهل العلم، حيث توفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة النبوية.
وعلى هذا يقال للمحتفلين بالمولد النبوي: إن احتفالكم في يوم الثاني عشر من ربيع الأول إساءة أدب وجفوة للرسول ؛ لأنهم في الحقيقة يحتفلون بموته ، وصاحب العقل السليم يدرك أن الفرح في تلك الليلة بمولده ليس بأولى من الحزن على وفاته ، فإن الأمة ما أصيبت بأعظم من فقده.
عباد الله، إن هذه البدعة التي أحدثها الجاهلون يعرف الجميع في هذه البلاد ولله الحمد حكمها وكلام العلماء حولها، لكن التنبيه عليها لعدة أمور:
أولا: أنها تفعل في كثير من البلدان المجاورة لنا حتى أصبحت عادة مألوفة عند بعض من يعيش بين أظهرنا.
ثانيا: صورَها الصوتية والمرئية تصل إلينا عبر الإذاعات والفضائيات، بل ويصلنا ذكرها وصور من يشترك فيها عبر الجرائد والمجلات، فربما يعتدّ بها بعض الجهال عند سماع صوت القائمين عليها أو رؤية صورهم، فيستحسن أمرها ويحاول المشاركة فيها، وربما دعمها أحيانا.
ثالثا: بعض من يفد إلى هذه البلاد يقيم هذا الاحتفال ويدعو إليه، وربما يتشرب القناعة به بسبب تزيين القائمين عليها.
أخيرا، لنا في حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدوة حيث كان يسأل عن الشر مخافة أن يقع فيه:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة...
(1/5179)
مقصد حفظ النفس
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
26/2/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عجز الحضارة الغربية عن تحقيق الأمن والسلام. 2- فضل شريعة الله تعالى. 3- مقصد حفظ الدين. 4- مقصد حفظ النفس. 5- تعظيم الإسلام لأمر الدماء. 6- استنكار جريمة قتل الفرنسيين الأربعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتَّقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى ينقادُ للأمة ما التَوَى، وتنجو بإذن الله من التَّوى، ونعوذ بالله ونبرَأ إليه من كلِّ من قصَدَ الشرَّ بالأمّة وانكوَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيّها المسلِمون، التأريخُ في ظاهِرِه لا يزيدُ عن إخبارٍ، وفي بَاطِنه نظرٌ وتحقيق واعتِبار، وساعةُ الاستبصار في هذه القاعدةِ والتدقيق يؤُمّنا جليًّا كَونُ الأمَم المزهُوَّة تمجُد بدَساتيرها المتلُوَّة وقوانِينِها المنتَخَبة المجلوَّة ونُظُمِها التي انطوَت غاياتِها المرجُوَّة، ومع ذيَّاك التماجُد والازدِهاء هي عَاطِلةٌ عن إمدادِ العالم بالأمنِ والاستِقرار والسّلام وإحياءِ مواتِه بالتراحُم والمودَّة والوِئام، بل ما زادَته إلاّ اقتتالاً وإبادَةً للأرواح واغتيالاً.
بيدَ أنَّ شريعةَ الملك الديّان التي سطَعت في سماءِ العزة والكمال وجوزَاءِ الإحكام والجلال قد تنزَّلت بحمد الله بالدستورِ الخالد الأعمّ والمنهاج الشاملِ الأتمّ، وذلك بما جمَعَت في ثِنيَيها مِن قواعدِ الأحكام ومصالحِ الأنَام وأصولِ العقائد ودعائمِ الأخلاقِ والسّلوك وأُسُس السياسة الشرعية ومبادئ الاتفاقِ والاجتماع بما يَشوقُ النُّظّار ويشنِّف الأسماعَ وما يعمِّم البركات في شتى الأصقاع، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]؛ متوخِّيَةً في أسِّها وعمادِها وروحِها وسِنادِها شِرعةَ المقاصد السامِية، وفي الطليعةِ منها حفظُ الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والنسل، على ما قرَّره علماء الشريعة، ومنهم الشاطبيّ رحمه الله في موافقاته.
أمَّا حفظُ الدِّين فيتمثَّل في حفظِ العقائد والعبادات من البدع والشركيّات، والأحكام عن التحريفِ والضالات، والمعاملاتِ عن الإسراف والمغالاَة، مع تَثبِيتِها في القلوبِ لعِبادة علامِّ الغيوب، وصِيانةِ الديانة وحماية الملّة من تيّارات الإلحاد والزندقة وموجات الانحراف العقديِّ والفكريّ التي تنال ثوابتَها وتمسّ جوهرَها وتطال رموزَها الذين ينفُون عن دين الله تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين؛ إذ لا يستَقِيم للأمم من دونها حال، وأنَّى تفلِح إن أعوَزها الدين في العاجل والمآل؟!
معاشرَ المسلمين، ومحوَرُ تلك المقاصد وعنوانها وجَوهرُها بعد حفظِ الدين وإنسانُها حِفظُ النفسِ البشريّة التي كرَّمها الله وشرَّفها، وصانها بأبلغ الحدود والزوَاجر فعرَّفها، وجعَلها قالَبَ حِفظ الدين ووِعائه الثمين، ونوَّه بها في لَذيذ خطابِه وأقسَم بها في محكَم كتابه، فأعلى شأنها وزكّاها، فقال عزَّ مِن قائل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: 7]، وقال جلَّ اسمه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمِية رحمه الله: "أمرُ الدماء أخطرُ وأعظَم من أمرِ الأموال".
أجَل يا إخوةَ العقيدة، لقد غالى الإسلامُ بالنَّفسِ الإنسانيّة المُضانَة فأحلَّها مراقِيَ العلو والكرامَة، فكان تكريمه وتبجيلُه لها أفضلَ ما عرَفته النظُم من احتفاء وتأمين، وضنًّا بها أن تُزهَق دون حقٍّ مبين، كيف وقتلُ النفس تحدٍّ لخلقِ الله وحِكمته وتعدٍّ على قدرتِه ومنَّته؟! وما كان القتلةُ ولا يزالون عبرَ التأريخ إلا الوحوشُ الكاسِرة والنفوس الغُلف الخاسِرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الفسادُ إما في الدينِ وإمّا في الدنيا، فأعظم فسادِ الدنيا قتلُ النفوس بغير الحقّ؛ ولهذا كان أكبرَ الكبائر بعدَ أعظمِ فسادِ الدِّين الذي هو الكفر"، وقال رحمه الله: "فلا بدَّ إذا ظلم الناسَ ظالم وأخذ يسفِك دماءَ الناس ويُهلك الحرثَ والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرَر أن يُدفَع هذا القدر، وأن يعاقَب الظالم بما يكفُّ عدوانَ أمثاله".
إخوةَ الإيمان، ولئِن اشرأبَّتِ الإنسانِيّة المرزَّأةُ بالفَواجِعِ والحروب المُرِنّة بدفائنِ الأضغانِ والخطوب إلى دروبِ السِّلم وكريمِ الحياء ونقاء السرائرِ وإشاعة الهناء ومعالجَةِ ظواهر تساهُل الناسِ بالدِّماء واستمراءِ القتل وتناثُر الأشلاءِ، حتى أصبحَت أمّتُنا عَلَى أَنباءِ إطلاَقِ النّارِ تصحو، وعلى أخبارِ القَتل والترويعِ تغفو، فإنّها واجِدتُها بأجلَى ما يكونُ الوجود وأبدَعِ ما تكون الحقائقُ المرتجاة في ملَّةِ الإسلام ومشكاة خير الأنام عليه الصلاة والسلام القائلِ: ((أوَّلُ ما يقضى بين الناس يومَ القيامة في الدماء)) أخرجه الشيخَان. علَّق الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: "وفي الحديث عِظَم أمرِ الدّم؛ فإنَّ البَداءَةَ إنما تكونُ بالأهمّ، والذنب يعظُمُ بحَسَب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدامُ البنيَة الإنسانيّة غايةٌ في ذلك، وقد ورَد في التغليظِ في أمرِ القتل آياتٌ كثيرة وآثار شهيرة" انتهى كلامه رحمه الله.
وآيةٌ في هديِة عليه الصلاة والسلام لا تُدفَع؛ لما وافى مكّةَ منتصرًا ظافرًا ما بسَط من الأمن والعفوِ بين يدَي شِداد مكّةَ وعُتاتها إلاّ حَسمًا للدِّماء أن تُهرَاق وحِفظًا للأنفس البريئة من الإزهاق بأبي هو وأمي ، كيف وقد أعلَنَها مجلجِلَةً للعالم أجمع بقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام)) خرجه الشيخان.
أمّةَ الإسلام، ويبلُغُ كَلامُ المنّان ذِروةَ البرَاعةِ في أوجِ التِّبيان ورِيقِ الزَّجرِ والتّشنيع وزُبى التهديدِ والتفظيعِ لمن يوبق نفسًا معصومةً بغير حقٍّ في قوله سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]. وهذا الحكمُ الرّبانيُّ حافٍزُ الأرواح لما يسمو بها ويزكِّيها، ويصون الأنفس بالزواجر والحدود ويقيها. ولن يستقيمَ العالم المحروبُ وهذا الواقِع المنكوب إلاّ إذا التَأَمَت أحوالُه مَعَ أحكامِ الشريعة وانسَجَمت أطوالُه مع مقاصِدِها الجليلة الرفيعة، سيّما في حفظ النفوس والمُهَج إذ هي عقيدةٌ ومنهج والحقُّ فيها ظاهر أبلَج.
فيا أمّة الإسلام، ألم يئِنِ الأوانُ أن يُشيح المسلم الوشاحَ ويمنَعَ إشهارَ السلاح في صدور أشقّائِه ويكونَ كلّ أخ دِرعاً لإخوانه بعدما أُغرِقت الأمّة في مستنقَعات العنفِ والدمويّة؟! وهي رِسالةٌ بالحبِّ مُفعَمَة نرسِلُها بالعبق والدعاءِ مضَمَّخَة إلى كلِّ من رفع السلاح على أخيه، إلى الإخوةِ في فلسطين والعراقِ والصومَال وغيرِها؛ حَيث يحمَلُ السلاح بين أبناءِ الملَّة والأشقاء فوقَ كلِّ أرضٍ وتحت كلِّ سماء. وقد ورد في صحيح الأخبار عن النبي المختار عليه الصلاة والسلام: ((من حمَل علينَا السِّلاحَ فليسَ منّا)).
والنفسَ صُنها وعامِلها بإشفاقِ وحَاذِرَن سَفكَها يومًا بإزهَاقِ
وإن ترُم جَنَّةً زينَت بأشواق فصُن دماءً زكت دومًا بآفاقِ
أيّها المؤمنون باللهِ واليومِ الآخر، وكلَّمَا لاءَمَ النسيانُ الجِراح وعَنَّاك سماعُ ما عظُمَ أن يُستباح نكأَتِ الحوادِثُ الحمراء الأتراحَ، وشَرَخَتِ الحنايا بالغمِّ والسهومِ والأفئدةَ بالأسى والوجوم، وذلك فيما أسلَمَ مُعاهَدون ومسلِمون أرواحَهم لِذِمام هذهِ الدِّيار؛ ينعمون بأمنِها السابغ السيَّار، وإذ بفئةٍ آبقة وشِرذِمة وامِقَة قد استمرَأَت الغِلظةَ والبَغيَ والعدوان وحادّت شريعةَ الرحمن واستَوبَأت إِشرَاقةَ الوَفاء بالعهد وكلَّ أمانٍ سرى في عقدٍ، يُزهِقون دماءَ تلك النفوسِ الآمنة بين تلالِ الرمال وسُفوح الجبال، وعلى مقرُبَةٍ من بلَد الله الحرامِ ومسجدِ رسوله المصطفَى المختار سيِّد الأنامِ ، في وحشيّةٍ ونِكاية وأبشَعِ لؤمٍ وجناية، فَأيَّمُوا نساءً في أزواجهن، وأثكَلوا أمّهاتٍ في أبنائِهِنّ، وغادروهنّ ـ ويا وَيحَ الغُدَر ـ على حُرقةٍ تنمو مَرارَتها وفجيعةٍ تذكو حرارتها. فيا لله! يا لله! كيف تجرُؤُ نفوسٌ سليمة وفِطَر مستقيمة على الإِقدام على مثلِ هذه الأفعال الشنيعة؟! أمِن صخرٍ قُدَّت، أم مِن جبالٍ هُدَّت؟! فالله المستعانُ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فما اعتذارُك فِي يوم الحساب إذا جئتَ المليكَ الذي سوّاك إنسانًا؟!
وقال: أين الذي بالجُرم جاهرنا عمدًا وجهرًا وإسرارًا وإعلانًا؟!
ولما كان الناس ـ يا رعاكم الله ـ بينَ بَرٍّ تقيّ وفاجر شقيّ قد تأصَّل الإجرام في نفسِه وأصبح عضوًا مسمومًا في مجتَمَعة يستحقّ البترَ والاستئصال، ومن أجلِ كينونَةِ النفوسِ العليلة الباطِشَة الشِّرّيرة ودفع القتل المريع رتَّب المولى جلّ في علاه العقوبةَ القصوى على هذه الجريمة النكراء، يقول جل شأنه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ويقول في تهويلٍ هائِل ترعُد له فرائصُ السامِعِ والقائل: ((لَزَوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وبما نَقَضَ العهودَ والمواثيقَ للمستأمنين يقول : ((مَن قتَل معاهَدًا لم يرح رائحةَ الجنة يوم القيامةِ، وإنَّ ريحَها ليوجَدُ من مسيرةِ أربعين عامًا)) أخرجه البخاري.
هذا، وقد تسَامَى الإسلامُ في رِعاية شأنِ الوفاء بالعهود واحترَامِ أهلِها إلى أرفع مراتب التسامي، فلا توتَرُ أموالُهم، ولا تُرع أحوالهم بالإيجافِ، ولا يُهاجون برعبٍ أو إرجاف، وفي توجيهٍ نبويٍّ مُغْرَوْرِقٍ بالرحمةِ والإحسان دفّاقٍ بالتلطّف والحنان يقول : ((ألا من ظلَم معاهدًا أو تنقَّصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذَ منه شيئاً بغير طيبِ نفس فأنا حَجيجه يوم القيامَةِ)) أخرجه أبو داود. الله أكبر، يا لها من مُحاجَّةٍ للتَّكليف فوقَ الطاقة! فكيفَ بمن عمَد إلى الأرواحِ فقتَّلها والأنفسَ فهتكها والجوارح فمزَّقها وبتَكَها؟! لا جرَمَ أنّه أمرٌ نُكر كُبَّار، يجِلّ لُؤمُه عن الوصف، ويقصُر عن فَظَاعتِه الرّصفُ.
ألا فليعلَمِ العالم طُرًّا قاصيه ودانيه أنَّ الإسلام وأُمَم الإسلام وبلادَ الإسلام وعلماءَ الإسلام براءٌ من تلكَ الويلات والجرائم الكبار التي انتهكَت الأعرافَ والقِيَم، ناهيك عن المشاعر والشعائر، ولن تخدِشَ بإذن الله هذه الأعمالُ النَّشاز والأفعال الآحاديّة جمالِيّات هذا الدين، ولن تشوِّهَ إشراقاتِه بحول الله، ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله.
ألا فكونوا ـ عبادَ الله ـ دونَ أمنِ هذه الدّيار صفًّا ملتَفًّا، وساعداً لعزَّتها وشموخِها وكفًّا، ودفعًا لصولاتِ الباغين وكفًّا. أدام الله على بلادِ الحرمين الشريفين وعلَى سائر بلاد المسلمين مديدَ الأمن ووارِفَ الظلال ووطيدَ العدلِ وضافيَ الإفضَال، ولا زالَت من اللهِ محفوظةً مكلوءَة في رعايةٍ وافيَة ووقاية مانِعَة كافيَة، إنه نعم المولى ونِعمَ النصير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33].
بارك الله لي ولكم في آي الكتاب، ونفعني وإيّاكم بسنّة النبيّ المصطفى الأوّاب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وجريرة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو البرّ الرّحِيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الحمد لله؛ خصَّنا بشريعةٍ عمَّت مَزَايَاها، فأسعَدَت أمّتَنا في دينِها ودنياها، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تحطّ عن النفس زلاتها وخطاياهَا، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوثُ بأكمل الشرائع وأسماها، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه خيرُ من زكَّى النفوسَ وبالإيمانِ أحياها، وعَلَى آلِه وصحبِه أبرّ الأمَّة أفئدةً وأتقاها، ومَن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ تقاته، وبادروا الأجلَ بالصالحات قبل مُوافاتِه، وليسعَ كلٌّ لإعتَاق نفسِه من الآثام ونجاته، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281].
أمَّة الإسلام، ولما كانت شَريعتُنا البلجَاءُ بهذا المنتهَى من حفظ الدماء وإعلائِها وعِصمتها وإغلائِها وأصَّلَت ذلك خُلقًا للمؤمنين في حياتهم وسجيّةً في معاملتهم بما غدَا مثلاً مضروبًا في صحائِفِ التأريخ الزُّهر، فقد أسلمت لها قلوبُ البشريّة زمامَها، وتفيَّأَت عَبرَ العصور وكَرِّهَا أمنَها وسلامها، شهِد بذلك البُعَداء قبل الأخلاء.
وأمّا ما اجتُرِح واجتُرِم من قِبَل مُلتاثي الدِّينِ والشِّيَم وملَوَّثي الشهامةِ والقِيَم ممّا يُضارّ الرحمةَ والإنسانيّة ويشاقِق الهداياتِ المحمدية فضلاً عن إسخاطِ ربِّ البرية فما هو ـ أعاذَنا الله وإياكم ـ إلاّ ضلالٌ في المعتَقَد وتخبّطٌ في الفِكر وإفلاسٌ في المنهَجِ وانحرافٌ في العقولِ وانتكاس في الفطَر، باعِثُه اتِّباع الشّيطانِ والهوَى وانعِدام الفَهم وانطِماس البصِيرة وتغلغُل الوهم، وداعِيهُ الإفلاس الفكريّ والمنهجيّ والتخبُّط العقديّ والدينيّ وشَقُّ عصا الطاعة والخروجُ عن الجماعةِ، يقول : ((من خرج عن الطاعةِ وفارق الجماعة فمات ماتَ مِيتةً جاهلية)) أخرجه الشيخان.
وفيه إلماعٌ بأنَّ وَراءَ الأكِنَّة لا تَزالُ الشُّخوص مجتَنَّة، عَفَّى البارِي عَينَها وأحانَ حَينَها؛ مما يدعو إلى تعاوُن الأمة بكافّة قَنَواتها وشتَّى أطيافها على رعايةِ أمنها وحِفظ استقرارِها وتهيِئَة الحصانة العقديّة والفكريّة وتربيةِ الأجيال على الاعتدال والوسطيّة والحذَر ممن أسباب الإثارةِ وعوامل الاستفزاز أيًّا كان مصدرُها وموردها.
إخوةَ الإيمان، وشريعةُ الرحمن البديعة لا يمرُق عن حدودها مارق ولا يفارِق جماعتَها غالٍ مفارق إلاَّ تلَّ الحقُّ للحدِّ خدَّه، وأنصفَ العدلُ هزلَه وجِدَّه، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
ألا فاحذروا ـ أيّها الأحبّةُ ـ دعاةَ الفِتن والشرور ودواهِيَ القلاقل والثّبور، وصونوا الأنفسَ عن هواها، واخشَوا إِبَاقَها بالمعاصِي ورَداها.
ثم صلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الرسول المصطَفَى والنبيِّ المجتَبى والهادي المقتَفَى والحبيبِ المرتضى، كما أمركم بذلك ربّكم جلّ وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على حبيبِك ومصطفاك ونبيِّك ومجتباك محمّد بن عبد الله، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين...
(1/5180)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عماد بن عوض المالكي
الرياض
26/2/1428
جامع الشيخ عبد الله الجار الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار داء الحسد. 2- ذم الحسد. 3- دواعي الحسد. 4- التباهي بالحسد. 5- مضار الحسد. 6- علاج الحسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الوصية النبوية الجامعة النافعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 1].
عباد الله، إن مما انتشر في هذا الزمن بين أوساط كثير من الناس على اختلاف أصنافهم داء عضالاً ينخر في جسد الأمة ويهدّد مبادئ الرحمة والشفقة والمودة، ويلغي أبسط أمور الإنسانية، ويعتم الشفافية الصادقة، ويُغِير الصدور بصنوف من الأمنيات الحاقدة، فيا عباد الله، إن هذا الداءُ لا يفرق صاحبه بين قريب وبعيد، فلكلٍّ في نظره عقبات في طريقه نحو تفرّده بالأنانية وسعيه باحتكار كل ما فيه نفع له وحده، وإن سألتموني: ما هذا الداء؟ قلت لكم: الحسد الحسد؛ يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فإنه والله لخلق ذميم ونقص في العقل والدين، ويا للعجب! أكُلّ تلك المكاييل والأحقاد تكال لشخص مسلم؟! ألم يسمعوا وصف الله سبحانه في تواد المؤمنين بعضهم لبعض بأنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]؟! ألم يعوا قول الرسول : ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا)) ؟!
عباد الله، إن الحسد صفة للمنافقين وتشبّه باليهود الغادرين، فالحاسد يسعى بكل جهدٍ يؤدي إلى زوال النعمة عن غيره والعياذُ بالله، وهو خلاف الغبطة التي هي صفة للمؤمنين بأن يتمنى الشخص ما لدى غيره من خير مع عدم إرادة إلحاق الضرر به؛ كمن يتمنى أن يرزقه الله مالاً كفُلان ينفِقه في سبيل الله، أو تمنى أن يكون حافظًا للقرآن ليتلوَه آناء الليل وأطراف النهار.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن هناك دواعي للحسد، ذكر الماوردي رحمه الله دواعيَ ثلاثة وهي:
1- بغض الحاسد للمحسود، فيأسى عليه بفضيلةٍ تَظهر أو منقبةٍ تُشكر، فيثير حسدًا.
2- أن يظهرَ من المحسودِ فضلٌ يعجز عنه الحاسد، فيكره تقدمه فيه واختصاصه به، فيثير ذلك حسدًا لولاه لكف عنه.
3- أن يكون في الحاسد شُحٌ بالفضلِ وبخل بالنعمِ وليست إليه، فَيمنعُ منها لأنها مواهب قد منحها الله من شاء، فيسخَطُ على الله عز وجل في قضائِه، ويَحسُدُ على ما مَنَحَ من عطائه، وإن كانت نِعَمُ الله عز وجل عندَهُ أكثر ومنَحُهُ عليه أظهر، وهذا النوع من الحسد أعمّها وأخبثها؛ إذ ليس لصاحبه راحة ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشرٍ وقُدرةٍ كان جورًا وانتقامًا، وإن صادف عجزًا ومهانة كان جَهْدًا وسِقامًا.
وأضاف الغزالي إلى ذلك من الأسباب: الخوفُ من فوت المقاصد، وذلك يختصّ بالمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كلَ واحدٍ يَحسِدُ صاحبه في كل نعمةٍ تكون عونًا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسدُ الضَّرَّاتِ في التزاحمِ على مقاصد الزوجية وتحاسدُ الإخوة على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصّل به إلى مقاصد الكرامة والمال.
معاشر المسلمين، إن مما يندى له الجبين ويحزن له القلب أن تجدَ من يشجعُ على الحسد والاتصافِ بصفات الحاسدين بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر، وذلك بوضع الحاسد وتصرفاته في قالب الطرفة والفكاهة، بل وحتى المثالية! وهذا والله من نقص العقل والدين وقلب القِيَم والموازين التي يتساهل فيها كثيرٌ من الناس، ويأتي أثرها عليهم أو حتى في ذراريهم بعد حين، حيث إن الناظر في أحوال أولئك يجدُ العجب، فهذا يفخر بأنه يستطيع أن يحسدَ غيره، وآخر يرى أنه يستطيع أن يحقّق مآربه بالحسد، وذلك بابتلاءِ الناس في أنفسهم وابتزازِهم في أموالهم وأولادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. فتنبهوا ـ معاشر الآباء والمربين ـ لمن استرعاكم الله مسؤوليتهم من البنات والبنين بأن لا تقلب في أعينهم الحقائق والموازين، فالحسد خلقٌ ذميمٌ، مضرّ بالبدنِ ومفسد للدينِ، ولقد أمر الله بالاستعاذة من شره، فقال تعالى: وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، وناهيكم بحال ذلك شرًا، ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجّه نحو الأَكْفَاءِ والأقاربِ فالنزاهة منه كرم والسلامة منه مغنم.
أيها المسلمون، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن للحسد مضار كثيرة منتنة، منها إسخاط الله تعالى في معارضته واجتناء الأوزار في مخالفته، إذ ليس يرى الحاسد لقضاء الله عدلاً ولا لنعمه من الناس أهلاً. ومنها حسرات النفس وسقام الجسد، ثم لا يجد لحسرته انتهاء، ولا يؤمل لسقامه شفاء. ومنها انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة. ومنها مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبًا، وعداوتهم له حتى لا يرى فيهم وليًا، فيصير بالعداوة مأثورًا وبالمقت مزجورًا. ومنها أيضًا أن الحسد جالب للنقم ومزيل للنعم، ومنبع للشرور العظيمة ومفتاح للعواقب الوخيمة، يورث الحقد والضغينة، كما أنه معول هدم في المجتمع، ودليلٌ على سفول الخلق ودناءة النفس بالطبع.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما أكثرَ عبدٌ من ذكرِ الموتِ إلا قل فرحه وقل حسده)، وقال الحسن: "يا ابن آدم، لِمَ تَحْسُدُ أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامتِهِ عليه فَلِمَ تَحْسُدُ من أكرمهُ الله؟! وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟!" والعياذ بالله. وقال بعض السلف: "الحسدُ أولُ ذنبٍ عُصي الله به في السماء ـ يعني حسدَ إبليسَ لآدم عليه السلام ـ، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض" يعني حسدَ ابنِ آدم لأخيه حتى قتله. وقال عبدُ الله ابنُ المعتز رحمه الله:
اصبر على كيد الحسود فإن صبرَكَ قاتلُه
فالنار تأكُلُ بعضها إن لم تجد ما تأكُلُه
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بوصية رسول الله : ((لا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) رواه البخاري ومسلم
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الحسد يعالج بأمور هي له حسم إن صادفها عزم فمنها: اتباعُ الدين في اجتنابه، والرجوعُ إلى الله عز وجل في آدابه، فيقهرُ نفسه على مَذمُومِ خُلُقِها ويَنّقُلُها عن لئيم طبعها، وإن كان نقل الطباع عسرًا لكن بالمتابعة والتدريج يسهل منها ما استُصعب ويُحَبَّبُ منها ما أَتْعَب. ومنها التوظيفُ الصحيحُ للعقلِ الذي يستقبِحُ به من نتائجِ الحسدِ ما لا يرضِيه.
قال ابن القيم رحمه الله "ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
السبب الأول: التعوذُ بالله من شره والتحصن به واللجوء إليه.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظُهُ عند أمره ونهيه، فمن اتقى اللهَ تولى اللهُ حفظَهُ، ولم يكله إلى غيره.
السبب الثالث: الصبر على عدوّهِ، وأن لا يقاتلَه ولا يشكوه، ولا يُحَدِّث نفسَه بأذاهُ أصلاً، فما نُصِرَ على حاسِدِهِ وعدوه بمثل الصبر عليه.
السبب الرابع: التوكُل على الله، فمن توكَل على اللهِ فهو حسبه، والتوكُل من أقوى الأسبابِ التي يدفَعُ بها العبد ما لا يُطيق من أذى الخَلقِ وظلمهم وعدوانهم، فإن اللهَ كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه فيه.
السبب الخامس: فراغُ القلبِ من الاشتغالِ به والفكرِ فيه، وأن يقصدَ أن يمحُوهُ من باله كُلما خَطَرَ له، فلا يلتفُت إليه ولا يخافه، ولا يملأُ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب على اندفاع شره.
السبب السادس: وهو الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبَتِه ورضاه والإنابة إليه في محلِ خواطرِ نفسه وأمانيها تدب فيها دَبِيبَ تلك الخواطرِ شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرَها ويذيبَها بالكليةِ، فتبقى خواطرُه وهواجسُه وأمانِيُّهُ كلُها في محاب الرّب والتقربِ إليه.
السبب السابع: تجريدُ التوبَةِ إلى اللهِ من الذنوب التي سَلَّطَت عليه أعداءَه، فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
السبب الثامن: الصدقَةُ والإحسانُ ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاءِ ودفع العينِ وشرِ الحاسدِ، ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكُفِيَ به، فما حَرَسَ العبد نعمة الله عليه بمثل شُكرِها، ولا عرَّضَها للزوالِ بمثلِ العملِ فيها بمعاصي الله، وهو كُفران النعمةِ، وهو باب إلى كفرانِ المُنعِم.
السبب التاسع: وهو من أصعبِ الأسبابِ على النفسِ وأشقِها عليها، ولا يُوفَّقُ له إلا من عَظُم حظُهُ من الله، وهو إطفاءُ نارِ الحاسِدِ والباغِي والمؤذِي بالإحسانِ إليه، فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً، وما أظُنُكَ تُصدقُ بأنَّ هذا يكونُ فضلاً عن أن تتعاطاه، فاستمِع الآنَ إلى قوله عز وجل: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34-36].
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كلِّه، وهو تجريدُ التوحيدِ والتَّرَحُلُ بالكُفرِ في الأسباب إلى المسبِبِ العزيزِ الحكيمِ، والعِلمُ بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرِّياح، وهي بِيَدِ مُحرِّكِها وفاطِرِها، ولا تَضُرُ ولا تنفَعُ إلا بإذنه، فهو الذي يُحسنُ عبدهُ بها، وهو الذي يصرِفُها عنه وحدَه لا أحدَ سواه، قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107].
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى...
(1/5181)
وصايا في الاستثمار
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الفتن
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
4/3/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنافس الناس على الدنيا. 2- فتنة المال. 3- حب المال. 4- كثرة المال في آخر الزمان. 5- انتشار المكاسب المحرمة. 6- وصايا للمستثمرين. 7- عناية الشريعة الإسلامية بحفظ المال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصِيكم ـ أيّهَا الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانَه ومرَاقبتِه في السّرِّ والعَلَن والاستعدادِ لِيومِ المعاد، فإنَّ السّاعَةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وإنَّ اللهَ يبعَث مَن في القُبور.
عبادَ الله، إنّ تَنَافسَ الناس في نيلِ مطَامِعِ الدّنيا لهو الدَّيدَن المعهودُ في غابِرِ الأزمان وحاضِرها، وإنِّه ليزدَاد هذا التنافُسُ مَعَ الطّمَعِ كلَّما ازداد اللّهَثُ وراءَ المكنونِ مِن زينتِها ومفاتِنِها، حتى إِنَّ النفسَ المغامِرَةَ لتشرئِبّ أمامَ السّرابِ في القِيعةِ تحسَبه ماءً وليس بمَاءٍ، وما ذَلِك إلاَّ مِن شدَّة ولَعِ النّاس بالدّنيا وزُخرُفها.
وإنَّ على رأسِ هذهِ المفاتِنِ المالَ، المال الذي أودَعه الله بين عباده، يتنَاقَلونه فيما بينهم، يبيعُ بعضُهم لبعض، ويرابِح بعضهم لبَعض. يجِدُ الناس في هذا المَالِ طاقاتٍ متفَتّقةً بين الحين والآخر في إِذكاءِ المضارَبَات والمرابحاتِ، حتّى يصبِِحَ التنافسُ والتهافُتُ سِمةً مِن سماتِ مغامَرَاتِ الناسِ ومخاطَرَاتهم، وكأنهُم بذلك يفِرّون من فقرٍ محقَّق يُدَعّون إليه دَعًّا، حتى وقَعوا فيما حذَّر مِنهُ النبيُّ بقولِه: ((فواللهِ، لاَ الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدّنيا كمَا بُسِطَت على مَن كان قبلَكم، فتتنافَسوها كما تنافَسُوها، وتهلِكَكم كما أهلَكتهُم)) رواه البخاريّ ومسلم [1].
ثمّ إنَّ هذا التَّنَافسَ المحمومَ لم تَسلَم بَراجِمُه مِن أوخَازِ الظّلمِ والبُهتانِ والكَيدِ والحَسَد وأكلِ أموالِ الناس بالباطل؛ إذ مَا مِن تَنافُسٍ يخرجُ عن إِطارِ الاعتدالِ والتوسُّط إلاَّ وتكونُ العواقبُ فيه وخيمةً والآفاتُ المتكاثِرة عليه أليمة. ومِن هنا تَنشَأ الفِتنة بين النّاس، فَيبغِي بعضهم على بَعض، ويلعَن بعضُهم بعضًا، وهذِه النتيجةُ إنما هِي مِصداقٌ لقولِ النبيّ : ((إنّ لكلِّ أمّةٍ فِتنةً، وفتنة أمّتي المالُ)) رواه الترمذي في جامعه [2].
إنّ كُرهَ الفقر وحُبَّ الغنى أمران فِطريَّان، والشريعةُ الغرّاء لا تَقِف كالِحةً في وَجهِ الفِطرة التي فطَر الله الناسَ عَلَيها، ولكنّها في الوقتِ نفسِه تبرُزُ كمصحِّحةٍ للمَسار حاثَّةٍ على الاعتدالِ في كلِّ شيءٍ حتى في المالِ؛ لأنّ النبيَّ قد استَعَاذَ باللهِ مِن شرِّ الغِنى وشرّ الفَقر. رواه أبو داود والترمذي [3]. فالإسلام لم يحثَّ قطّ على الفقرِ؛ لأنّ الفقرَ كَادَ يكون كفرًا، ولم يحرِّضِ الناسَ على اللّهَث الأعمَى وراءَ المال؛ لأنّ الإنسانَ قَد يطغَى أن رآه استَغنى.
أيّها الناسُ، جاءَ في مسندِ أحمدَ أنّ النَّبيَّ ذَكَرَ أنّ السَّاعةَ لا تقوم حتى يفيضَ المالُ [4] ، وإنّ من المقرَّر المشاهَد في هذا الزّمن ـ عبادَ الله ـ كثرةَ المالِ وتنوّعَ موارِدِه وامتلاءَ الساحةِ بالأطروحات الاستثماريّة والمساهماتِ الرِّبحية؛ ما جَعَلَ الناسَ يتهافتون إليها تهافُتَ الفراشِ على النِّبراس، حتى إنّها لم تدَع بَيتًا إلاَّ وأصابَته بدَخَنها. وليس هذا هو العجبَ عبادَ الله، فإنّ النبيَّ قد أخبرنَا بهذا التنافسِ وخِشَي عَلَينا منه، وإنما العجَب حينما يكون هذا الانكِبابُ والانغماسُ في حمأة الطّفرَةِ الماليّة لدى المستثمِرين عَاريًا عن الأناةِ والوُضوح والفَرز بين ما أحلَّه الله وبين ما حرَّمَه، وأن تكونَ غايةُ الكثيرين هي التَّحصيلَ كيفما اتَّفق دونَ النَّظرِ إلى الضوابطِ الشرعيّة والقواعِد المرعيّة في أبوابِ المعامَلات بين الناسِ بيعًا وشِراءً ومرابحةً. وإنّ مثلَ هذهِ المعرّة لم تأتِ بَغتةً دون مقدّماتٍ، بل إنها رَجعُ صدًى لقِلَّة العِلم وضَعف الحِرص على استجلابِ المال من طُرُقه الواضِحَة البيّنة من حيث الحِلّ والحُرمةُ. وما نشاهِده اليومَ من عُروضٍ استثماريّة متنوِّعة يَعتَريها شبَهٌ وشكوكٌ بل يعترِيها ظنٌّ رَاجِح بأنها مُلتاثةٌ بِشيءٍ من الطّرقِ المحرَّمة في المعَامَلاتِ إنّما هو يُذَكِّرنا بقولِ النبيِّ : ((ليَأتيَنَّ على النَّاسِ زمانٌ لا يبالي المرءُ بمَا أخذَ من المالِ بحلالٍ أو بحَرَام)) رواه أحمد [5].
عبادَ الله، إنَّ الثورةَ الماليّةَ الهائلةَ في أوساطِ المستثمرين قد وَلَّدت شيئًا من الإِحَن والمشاحّةِ والدَّعاوى، إضافةً إلى الإعسارِ المفاجِئ والخَسائرِ المتراكِمَة التي تَحُلّ بِبَعض الفرَص الاستثمارية، فتشتعِل على إِثرِها الخصوماتُ والنّكبات جرّاءَ تلكم الحَمَالات التي لم تكن محضَ صُدفةٍ مع الاعتِرافِ بأنها غالبًا ما تكونُ مفاجئةً، وهذا كلُّه يجعلنا نؤكِّد على توضيحِ بعضِ الأمور وتجلِيَتها لمن أصِيبوا بالعمَى في هذا الميدانِ واستنشَقوا غُبارَه، وذلك من خِلال الوصَايَا التالية:
الوصيّة الأولى: أنّ أمورَ العِباد وأموالَهم مَبنيّة على المُشَاحّة والمؤاخذة، فالمستثمِرون في الجُملة عُميُ البصائر أمامَ صاحِب الاستثمار ما دام رابحًا موفَّقًا، لا يسألونَه عن صغيرةٍ ولا كَبيرة، ناهيكم عن المبالغةِ في مدحِهِ والثناءِ عليه والإعجابِ به، فإذا ما خَسِر وكبَا انقلَبوا على وُجوههِم شاتمين له ومدَّعِين عَلَيه، والواقعُ يؤكِّدُ مُوالاتَهم له في الغُنم ومعاداتَهم له في الغُرم.
الوصيّة الثانية: أنّ الأصلَ في أموالِ الناس وحقوقِهم الحرمةُ والحظرُ، فلا يجوز الاعتداءُ عليها أو الممَاطَلَة والتفريطُ فيها أو الوقوعُ في التأويلاتِ المبرِّرَة للتَّصرّفات الممنوعةِ فيها؛ لأنَّ النبيَّ يقول: ((كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حَرام؛ دمُه وماله وعِرضه)) رواه مُسلم [6] ، وعندَ مسلم أيضًا أنَّ النبيَّ قال: ((بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟!)) [7].
الوصية الثالِثة: أنّ القناعةَ والسَّماحةَ في ميدانِ التّجارة أمرانِ مَندوبٌ إليهما؛ إذ هما مَظِنّة البركة، كَما أنَّ الطمعَ والجشَعَ وعدمَ القناعةِ مظِنّةٌ للكبوةِ وقِلّةِ البركة؛ لأنّ للتجارةِ سَورةً كسَورةٍ الخَمرِ، تأخذ شاربَها حتى ينتشِي، فإذا انتشَى عاوَد حتى يَصيرَ مدمِنًا، لا يفيقُ من نَشوةِ المغامَرة والطَّمعِ حتى يَستَويَ عنده حالُ الخمار والإفاقة، ولاتَ ساعةَ مَندَم، ولقد قالَ النَّبيُّ : ((من يأخُذ مالاً بحقِّه يبارَك له فيه، ومَن يأخذ مالاً بِغَير حقِّه فمثله كَمَثَلِ الذي يأكُلُ ولا يَشبَع)) رواه مسلم [8]. فالسماحةُ والقناعةُ هما رأسُ البرَكةِ والرّحمة لقول النبيِّ : ((رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باعَ وإذا اشتَرَى وإذا اقتَضَى)) رواه البخاري [9].
الوصيّةُ الرابِعَة: وهي تَصحِيحٌ لبعضِ المفاهيم المغلوطَة لدى بَعضِ المرابحين؛ حيثُ يظنّون أنّ المعاملاتِ المحرمّة لا تكونُ محرَّمة إلاَّ إذا شابَها صُورةٌ مِن صُوَرِ الرِّبا، وأنّ أيَّ معاملةٍ خَاليةٍ من الرِّبا فهي حَلال، وهذا ظنٌّ خاطِئ، بل إنّ المعاملاتِ المحرّمة أعَمُّ في السبب من ذَلِكم؛ لأنها في الحقيقةِ ترجِع إلى ثلاثِ قواعد: أولاهنّ: قاعدةُ الربا بأنواعه وصوَرِه، والثانيةُ: قاعدةُ الغرَر بأقسامه وأنواعه، والثالثة: قاعِدَة التغريرِ والخِداع بألوانِه وأحواله.
وهذا ـ عبادَ الله ـ أمرٌ قلَّ من يتفطَّن له من التّجّار والمرابحين؛ لأنَّ المعامَلةَ قد تحرُم بسبَب نُقصانِها شرطًا من شروطِ صِحّة البيع المعلومَة وإن لم تكن على صورَةِ رِبا، فالبركةُ كلّ البركةِ في الكسبِ الحلال، والمحقُ كلّ المحقِ في الكسبِ الحرام.
أمّا الوصيةُ الخامسة ـ عبادَ الله ـ فنُوجِّهُها إلى مَن ائتَمَنَهم الناسُ على أموالهم في الاتِّجار والمرابحَةِ أن يتّقُوا الله فيها، وأن يسيروا في إتمامِها على الوَجهِ المباح والوضوحِ والخضوع لما أحلَّ الله فِيها، والبُعد والنأي عن أيِّ موضِع ريبةٍ أو شُبهة أو تفريطٍ وإهمالٍ أو استغلالِ ثِقَة الناس بهم في أن يتصرَّفوا فيها على غيرِ مَا وُضِعت له، فإنَّ من نَوَى أن يفِيَ بحقوقِ النّاس كان الله مَعَه، والعكس بالعكس، وليتذَكَّر أمثالُ هؤلاءِ قولَ النبيِّ : ((مَن أخذ أَموالَ الناسِ يريد أداءَها أدّى الله عنه، ومَن أخَذها يريدُ إتلافها أتلَفَه الله)) رواه البخاري [10].
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمينَ، واتَّقوا المالَ فإنّ فتنةَ هذهِ الأمة هي المال، ولتَستَمِعوا إلى قولِ الباري جلّ شأنُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نَفسِي والشَّيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3158)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2961) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[2] جامع الترمذي: كتاب الزهد (2336) عن كعب بن عياض رضي الله عنه، ورواه أيضا أحمد (4/160)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2516)، والطبراني في الكبير (19/179) والأوسط (3295)، والبيهقي في الشعب (7/280)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (3223)، والحاكم (7896)، وهو في السلسلة الصحيحة (592).
[3] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1543)، سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3495) عن عائشة رضي الله عنها، وهو عند البخاري في الدعوات (6368، 6375، 6376، 6377)، ومسلم في الذكر (589).
[4] مسند أحمد (6/25) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الجزية (3176).
[5] مسند أحمد (2/505) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند البخاري في البيوع (2059، 2083).
[6] صحيح مسلم: كتاب البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1554) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[8] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[9] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2076) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[10] صحيح البخاري: كتاب الاستقراض (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ وحدَه، والصَّلاة والسلام على من لا نَبيّ بعده.
وبعد: فإنّ الشريعةَ الإسلاميَّة قد جاءَت مُوافقةً لبقيّة الشرائِعِ السَّماويّة في حفظ الضرورات الخمس، وهي الدين والنفسُ والعقل والنّسل والمال. فالبَيعُ والشِّراء والمرابحةُ كلُّها تندَرِج تحت ضَرورةِ حِفظ المال، وانطلاقًا مِن حِفظ هذه الضّرورةِ فإنّ الشارعَ الحكيمَ لم يدَعِ الفردَ المسلِم حرًّا في التَّصرّف الماليِّ دونَ ضوابط، لئلاّ يخرجَ بالمال عن مَقصدِه الذي أُكرِم به بنُو آدم من كونِه نِعمَةً ومنّة إلى كونِه نِقمة على صاحبه ووَبالاً يُسألُ عنه يومَ القيامَةِ، فقد صحّ عندَ التِّرمذيّ وغيره أنّ النبيَّ قال: ((لا تزولُ قدما عبد يومَ القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((وعن مالِه: من أين اكتَسَبَه؟ وفيم أنفَقَه؟)) [1].
فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يُدركَ حقيقةَ المال وأنه سلاح ذو حدَّين، وليحذَر أشدَّ الحذَرِ أن ينقلبَ عليه فتنةً وبلاءً؛ لأنّ الله جلّ شأنه قال عن المالِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28].
والوَاجِبُ على ولاةِ الأمورِ والعلماءِ والمختصِّين في المعاملاتِ الماليّة أن يكونَ لهم جهودٌ ملموسَة في حفظ هذه الضرورةِ مِن خلال وضعِ الضوابطِ الشرعيّة والمصالحِ المرسَلَة؛ لتكونَ سِياجًا منيعًا يحولُ دونَ العَبَث بأموال النّاس والعَبِّ مِنها كمَا الهِيم، ولأجلِ أن تُقلِّلَ مِن ضحايا المرابِحِين المتهوِّرين والبُسَطاءِ المغامِرين، ولئلاّ تكونَ السُّوقُ الماليّة كَلأً مُباحًا لكلِّ ساذِجٍ يرعَى حولَ حِماهَا، وذلك حمايةً للحقوقِ والمصالِحِ ودَرءًا للمَفاسد والعبَثِ بأموال النّاسِ، يقول الله جلّ وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20].
هَذَا، وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على خَيرِ البريَّة وأزكَى البشريَّة محمّد بن عبدِ الله صاحبِ الحوضِ والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بذَلِك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولِك محمّد، صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] سنن الترمذي: صفة القيامة (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946).
(1/5182)
الشعوذة في الفضائيات
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من قنوات السحر والشعوذة. 2- ادعاء السحرة والمشعوذين علمَ الغيب. 3- حكم مشاهدة برامج قنوات السحر والشعوذة والمشاركة فيها. 4- الحث على الرجوع إلى الله تعالى والتوكل عليه. 5- حكم السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ظهرت هذه الأيام قنوات تقوم على سحب المشاهد للسحر والشعوذة، يأتون بالكهان والمنجمين ومفسري الأحلام الجهلة الذين لم يعلموا أو علموا وتجاهلوا أن الفتيا في الرؤى لا يتصدى لها إلا العلماء لا الجهلاء، يتم الاتصال بتلك القنوات عبر الإيميلات ورسائل ( sms ) للسؤال عن مرض مستعصي أو تأخر زواجٍ أو رغبة في معرفة المستقبل... وعدّد ما شئت، فيقوم ذلك المشعوذ الذي كفر بالله وآمن بالطاغوت بإعطاء المتّصل حلاّ يلفّه بعباءة الدين والقرآن؛ ليعمّي عليه الحق، وليتمكن من إيقاعه في أعظم ذنب عصي الله به، ألا وهو الشرك بالله تعالى، قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
أتدرون ـ يا عباد الله ـ ماذا يعني الاتصال بالسحرة والكهان وتصديقهم والجلوس لمشاهدتهم والاستماع إليهم؟ إن ذلك يعني أنك ـ أيها المؤمن ـ تقدم على أعمالك الصالحة التي أفنيتَ عمرك فيها فتجعلها هباء منبثّا وقاعا صفصفا، صلواتك وحجك وصيامك وصدقتك وكلّ عمل خير قدمته في سنين عمرك تهدمه باتصال واحد للكهان أو السحرة وتصديقهم، يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. إنه إعصار أيما إعصار، يبطل كل أعمالك الصالحة التي قضيت فيها عمرك المديد وأصبحت كالجبال العظيمة من الحسنات، فترسل عليها باتصالك وتصديقك لهم إعصار الكفر بالله تعالى، لتحرق بذلك كل أعمالك الصالحة السابقة، قال تعالى: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266].
هذا باختصار خطر أثر برامج الشعوذة التي تقدمها قنوات "كنوز" و"شهرزاد" و"جرس" وغيرها من قنوات الشعوذة. ورغم أن الكثير من المسلمين غير مؤمن بهذه الشعوذة ويرى حرمتها إلا أنه يشاهدها من باب الفضول والتسلية، وهذه أُولى خطوات الشيطان التي حذرنا الله منها فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [النور: 21].
يقول أحد المشعوذين لأحد المتَّصلات: "رزقُك عندي، حياتك عندي، علاقتك مع زوجك عندي، لا مُو هذا بس، كل شيء عنك عندي". فماذا بقي لله الخالق الرازق المحي المميت الذي يقول سبحانه: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]، وهؤلاء يدعون علم الغيب، ومن ادَّعى علم الغيب فقد كفر بما أنزل على محمد ، ومن صدق مدّعي علم الغيب فقد كفر بما أنزل على مجمد ؛ لأنه بتصديقه إياهم يكذّب كلام الله تعالى الذي ينفي علم الغيب عن كلّ أحد إلا له سبحانه وتعالى أو من ارتضى من رسول، قال جل وعلا: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]، وقال سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26، 27]، وكيف نصدّق بأن الساحر يستطيع عمل شيء للمريض أو المحتاج والله تعالى يقول: وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ [يونس: 77]، فأي فلاح يرجى من هؤلاء وقد بين الله خسارتهم وسوء مآلهم وعاقبتهم في الدنيا والآخرة؟!
عباد الله، إن مشاهدة هذه البرامج مشاركة لأهلها في الباطل، ومن شاهدها ورضي بمشاهدتها وصدّقها كان له من الإثم ما لهم ما لم يكن عازما على الإنكار على أهلها، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، قال القرطبي رحمه الله: "وفي قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ دلّ ذلك على وجوب اجتناب مجالس أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي بفعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ، فكلّ من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء.
وإني لأستعجب ـ والله ـ كيف ينخدع أناس ويتوهمون أن هناك من يعلم الغيب غير الله من هؤلاء الكهنة والعرافين والله تعالى يقول لنبيه: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]، وكيف يغفل هؤلاء عن قول النبي : ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما)) ؟! هذا فيمن سأل، أما من سأل وصدق فاسمعوا ماذا يقول النبي فيه، قال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) خرَّجه أهل السنن الأربعة والحاكم وصححه وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: قال : ((ومن تعلق شيئا وكل إليه)) ، ومن وكل إلى غير الله هلك، ومن وكل إلى غير الله كان من جند الشيطان، يتسلط عليه ويجلب له كل بلاء في نفسه وأهله وماله، هموم ومشاكل، وقلق وعسر، فكيف لمسلم أن يرضى حياة الشقاء؟! قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124]، والعيشة الضنك هي العناء في الدنيا والآخرة.
فعد ـ يا عبد الله ـ إلى الركن الشديد، عد إلى الله مدبر الأمر ومالك الملك وكاشف الضر، قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام: 17]، ويقول سبحانه: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 42].
عباد الله، كيف نصدق من يكتب مع طلاسمه الشيطانية شيئًا من القرآن ليضل الناس ويستميل عواطفهم إليه، تالله ما استهان بكتاب الله أحدٌ من الأعداء استهانة هؤلاء الزنادقة المدَّعين الإسلام به، والله ما نزل القرآن إلا لتلاوته والعمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق خبره والوقوف عند حدوده والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والإيمان به، آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، أما هؤلاء فقد عطلوا ذلك كله ونبذوه وراء ظهورهم، نبذوا كِتابَ الله وَراء ظُهورِهِم كَأَنَّهم لا يَعلَمونَ، لم يحفظوا من القرآن إلا رسمه كي يأكلوا به ويكتسبوا من ورائه ويستكثروا به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79]، قال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ، يعني ريحها. أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/338) وغيره.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنت خلف النبي يوما، فقال: ((يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال:"حديث حسن صحيح".
فأين المسلمون من هدي نبيهم عليه الصلاة والسلام الذي كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ يدعو ربه ويستغيثه ويسأله حاجته؟! ونحن نقول في كل صلاة وفي أعظم سورة سورة الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فأين نحن من تدبر هذه الآية العظيمة؟! قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [البقرة: 45]، نستعين بالله القادر المعطي الكريم على كل بلاء ومحنة، لا بالسحرة والمشعوذين، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله : ((ليس منا من تطير أو تُطُيِّر له، أو تكهن أو تُكُهِّن له، أو سحر أو سحِر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) رواه البزار بإسناد جيد.
إن السحر ـ يا عباد الله ـ من المحرمات الكفرية كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
فاعتصموا ـ عباد الله ـ بربكم القائل: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101]، واعلموا أن المؤمن مكلوء بحفظ الله ورعايته من شر شياطين الجن والإنس كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 100].
أيها المسلمون، إن أهل الإيمان والتقوى هم من حقّقوا قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201]، تذكروا ربهم، تذكروا لقاءه، تذكروا عقابه، تذكروا ناره، فارتدَعوا عن مناهيه، وانتهوا عن معاصيه، وذكروه بألسنتهم وبقلوبهم وجوارحهم، تائبين إليه منيبين إليه موقنين أنه سبحانه النافع الضار الحكيم المدبر، فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ يهديهم ربهم بإيمانهم، فيعتدل حالهم ويستقيم مزاجهم، وإذا اتّقوا ربهم جعل لهم نورًا يمشون به، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا [الطلاق: 2، 3]، فحصول البرء والشفاء بيد الله وإذنه، فلا يأس من رَوح الله، ولا استبعاد لفرج الله، قال : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) رواه مسلم، والله تعالى يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6]، والنبي يقول: ((لن يغلب عسر يسرين إن شاء الله)).
فاللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار يا عزيز يا غفار، اللهم اكفناهم بما شئت، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم...
(1/5183)
العدل بين الأولاد في العطية والوقف
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, الهبة والهدية والوقف
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
4/3/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الفقه في الدين. 2- الأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية. 3- العطية للأولاد تكون على قدر ميراثهم. 4- التخصيص الجائز. 5- النهي عن الوصية للوارث. 6- النهي عن الإضرار بالورثة. 7- النهي عن التفضيل بين الأولاد في الوقف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتَقوَى اللهِ جلّ وعلا.
أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما يشتَغِل به الإنسانُ في حياتِه هو الفقهُ في دينِه والتبصُّر في تعاليم إسلامه، يقول رسولُ الله : ((مَن يُردِ الله بِه خيرًا يفقِّهُّ في الدين)) متفق عليه.
إخوةَ الإسلام، مسألة يجهلها بعض المسلمين، فيقع فيها من غيرِ أن يدركَ حكمَها، أو أن يستبصر عاقبَتَها، إنها التفضيلُ بين الأولادِ في العطيَّة، وتفضيل بعضِهم على بعضٍ على وجهِ المحاباة والتَّميِيز.
أيّها المسلمون، إنَّ المشروعَ للعَبدِ أن يسوِّيَ بين أولادِه في رعايته وعطيَّتِه وسائر شؤونِه وفقَ وصية الله لعباده؛ إذ يقول جلّ وعلا: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11]. قال إبراهيمُ النخعي: "كانوا يستحبون ـ أي: السلف ـ التسويَةَ بين الأولادِ حتى في القُبَل". فلا يجوز للأبِ أن يفضِّلَ بعضَ أولاده على بعضٍ في العطيّة والهدية، ولا يجوز له أن يميِّز بعضَهم دون غيرِه من أولادِه في ذلك، رَوَى النعمانُ بن بشير رضي الله عنهما قال: تصدَّق عليَّ أبي بصدقةٍ من بعض مالِه فقالت أمِّي: لا أرضَى حتى تُشهِدَ رسولَ اللهِ ، فانطَلَق أبي إلى رسولِ الله ليُشهِدَه على صَدَقَتي، فقال رسولُ الله : ((أكُلَّهم نحلتَه كذلك)) قال: لاَ، قال رسول الله : ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادِكم)) ، فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة. رواه مسلم. وفي لفظٍ: ((فاردُده)) ، وفي لفظٍ: ((فأَرجِعه)) ، وفي لفظٍ: ((لا تشهِدني على جَور)) ، وفي لفظٍ: ((فلا تشهِدني إذًا)) وفي لفظٍ: ((فأشهِد على هذا غيري)) متفق عليه. وفي لفظٍ آخر: ((سوِّ بينَهم)) رواه أحمد والنسائي.
قال الفقهاء: وهذا دليل على التحريمِ؛ لأنّه سماه جَورًا، وأمَرَ برَدِّه، وامتَنَع من الشهادةِ عليه، والجَورُ حرام، والأمرُ يقتضي الوجوبَ.
واعلم ـ أيها المسلم ـ أنَّ الأمَّ في المنع من المفاضَلَةِ في العطيّة بين أولادها كالأبِ لعمومِ قولِه : ((اتَّقوا اللهَ واعدلوا بين أولادكم)).
أيّها المسلمون، والراجِحُ من القولين من أقوالِ أهلِ العلم في عطيَّةِ الأولاد القسمَةُ بينهم على قدرِ ميراثِهم؛ للذكرِ مِثلُ حظِّ الأنثَيَين. قال شُريح لرجل قسم ماله بين أولاده: "اردُدهم إلى سهامِ الله وفرائضه"، وقال عطاء: "ما كانوا يقسِمون إلاّ على كتاب الله جل وعلا".
إخوةَ الإيمان، وأما تخصيصُ بعضِ الأولاد لمعنى يَقتضيه تخصيصُه من حَاجَةٍ أو نَفَقَة للولد أو مَرضٍ أصابَه أو كَثرةِ عيالٍ عنده أو لاشتغالِه بعلمٍ ونحوه فإنه لا بأس حينئذٍ؛ لعدمِ قصد التخصيصِ والأَثَرة، ولا يلزمُ الأَب حينئذٍ أن يسوِّيَ في ذلك، بل يعطي كلاًّ على حسبِ حاجته، بدون أن يقصد التفضيلَ أو الأَثَرَةَ له على غيره، والأعمالُ بالنّيّاتِ كَمَا ثَبَت ذلكَ عَنِ النبيِّ.
عبادَ الله، ومَن وقَع في تفضيلِ بَعضِ أولادِهِ على بعضٍ في العطيَّة فالواجبُ المتحتِّم عليهِ العَدلُ بينهم؛ إمّا برجوعٍ في عطيَّتِه التي خُصَّ المعطَى بها، أو بإِعطاءِ بقيَّة الأولادِ بِالمثل على قاعِدَة: (للذكَر مثلُ حظِّ الأنثيين).
إخوةَ الإسلام، وتحرُمُ الوصيَّة لوارِثِه من ولدٍ وغيرِه؛ لظاهر قوله : ((إنَّ الله قد أَعطَى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارث)) ، وصحَّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما موقوفًا: (الإضرارُ في الوصيَّة من الكبائر)، ولكن إذا أجاز ذلك باقي الورثةِ جازت في قول جمهور أهل العلم، كما في زيادة عندَ الدارقطنيّ والبيهقي: ((إلا أن يجيزَ الورثةُ)). وإن أسقَطَ عن وارِثِه دينًا أو أوصَى بِقضاءِ دَينِ وارِثِه، فهو كالوصيَّةِ ما لم تَقُم قرينة قويّة ثابتة على صِدقِه في ذلك. ومن أعطَى عَطيَّة أو وهب هِبَةً وهو في مَرَضِ موته المخُوفِ لأحد أولاده فحكمُ عطيّته حكمُ الوصيّة، فلا تنفذ إلاّ بالثلث، ولا تصحّ للوارث إلى بإجازَةِ الورثة إن مات الموصي في مرضِه ذلك.
إخوةَ الإسلام، ومن القواعِدِ الكلّيَّة في الفقه الإسلامي: (الأمورُ بمقاصدها)، ومن أصول الإسلام: (الأعمال بالنيّات)، فمن قصد مضادَّةَ شيءٍ شرَعَه الله فعمله غير جائز في حكمِ الله. وإنَّ مما ينبغي الحذرُ منه الوقوعَ فيما يمنع وارِثَه من الميراث بأيِّ حيلة كانت، فذلك كبيرة من الكبائر كما نص على ذلك الحجّاويّ وغيره من أهل العلم، قال السفاريني رحمه الله: "لا ريبَ أنَّ مَن قصَدَ منعَ ميراث ورَثَتِه قد ارتكب ذنبًا عظيمًا وجُرمًا جَسيمًا، سيَّما في هذه الحَالةِ التي يَصدُق فيهَا الكاذِب ويَتوبُ فيها الفاجِر، فإقدامُه على ذلك فيهَا دَليلٌ ظاهر على قسوةِ قَلبه وفسادِ لُبِّه" انتهى.
فبعضُ الناس ـ أيها المسلمون ـ يريد مَنعَ أولاده من التصرُّف في مالِه بعد انتقاله إليهم من بعد موته، فيتَّجه إلى حيلة الوقف، وقصدُه منعُ الورثةِ مِنَ التصرف في الموروث ببيعٍ أو تصرّف ناقل، وهذا مذمومٌ شرعًا، قال الشيخ عبد الرحمن بن حَسَن رحمه الله فيمَن هذا قصدُه: "وهذا في الحقيقةِ يريد أمرين: الأول: تحريمَ ما أحلَّ الله لهم من بَيعِه وهديّتِه والتصرّف فيه، والثاني: حرمانَ زوجات الذكورِ وأزواجَ الإنَاثِ فيشابِهُ مشابهةً جيِّدَةً ما ذكره الله عن المشركين في سورة الأنعام" انتهى كلامه.
وليحذر المسلم من تفضيلِ بعضِ الأولاد على بعض في الوقف، فذلك مما حرَّمَه رسول الله بعموم قولِه: ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم)) ، ولكن لو أوقَفَ على المحتاجِ مِن ذرّيّته فلا بأس؛ لما ذكَرَه البخاري عن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما أنّه وقفَ نَصيبَه من دارِ عُمَر لذَوِي الحاجة من آل عبد الله.
قال ابن قدامة رحمه الله: "والمستحَبُّ أن يَقسِم الوقف على أولادِه على حَسبِ قِسمَة الله تعالى في الميراث بينهم للذكّرِ مثل حظ الأنثيين، وإن خالف فسوَّى بين الذكر والأنثى أو فضَّلها عليه أو فضَّل بعضَ البنين أو بعض البنات على بعض أو خصَّ بعضَهم بالوقف دون بعض فقال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثَرَة فأكرههُ، وإن كان على أنَّ بعضَهم له عيالٌ وبه حاجة يعني فلا بأس به، ووجهُ ذلك أن الزبيرَ خصَّ المردودةَ من بناتِه دونَ المستَغنِيَة منهنّ بصدقَتِه، وعلى قياس قول أحمد لو خصَّ المشتغلين بالعلمِ مِن أولاده بالوقفِ تحريضًا لهم على طَلَبِ العِلمِ أو ذَا الدّينِ دون الفُسَّاق أو المريضَ أو مَن له فضيلةٌ من أجلِ فَضيلَتِه فلا بأسَ، وقد دلَّ على صِحّة هذا أنَّ أبا بكرٍ الصدّيقَ نحلَ عائشةَ جذاذَ عشرين وسقًا دون سائر وَلَدِه. أخرجه مالك". انتهى كلامه رحمه الله.
أيّها المسلمون، هذه أحكامُ دينكم، وتلك شريعة ربِّكم، فالتزموا بها، وتمسكوا بمضامِينِها؛ تفلِحوا وتسعَدوا في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنا بما فيه من الآيات والهدَى، وأقول قولي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضل العالمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله جلّ وعلا، فهي وصيّتُه اللازِمَة للأوّلين والآخرين.
أيّها المسلمون، وبعضُ الناسِ يوقِف على أولادِ الظّهور دون أولاد البُطُون، أي: أنّه ينصُّ على حِرمَان أولادِ البنات، وهذا وإن أجَازَه بعضُ الفقهاء فالَّذي ينظُرُ إليه بتمعُّنٍ يجِد أنه وقفٌ أريد به حِرمان أولادِ البنات في عاقبةِ الأمر ممّا أباحَه الله جلّ وعلا لأمَّهاتهنَّ من ميراث؛ ولهذا فالمحقِّقون على التحذيرِ منه؛ استنادًا لنصوصِ الوحي ومقاصِد الشريعة، قال الشيخ عبد الرحمن بن حَسَن رحمه الله في أثناءِ جوابٍ له: "وما أشرتَ إليه من أنَّ بعضَ الناس يوقف عقارَه وشجَرَه على ذرّيّتِه الذكور ما تناسَلوا والأنثى حياتَها فهذا وقفُ الإثم والجَنَب؛ لما فِيهِ من الحيلة على حرمان أولاد البناتِ ممّا جعله الله لهم في العاقبة، وهذا الوقفُ على هذا الوجهِ بِدعةٌ ما أنزل الله بها من سلطان، وغايتُه تغييرُ فرائضِ الله بحيلةِ الوقف، وقد صنَّف فيه شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله وأبطَلَ شُبَه المعارضين" انتهى كلامه المتين. وفي فتاوى الإمامِ عبد الكريم بن زيادٍ الشافعيّ رحمه الله ما لفظه: "وأما الوقفُ على الذكور من الأولادِ دونَ الإناثِ فقد عَمَّ في جِهَةِ الجِبال، والقواعدُ ـ أي: القواعد الشرعيّة ـ مُشعِرَة بقَصدِ حِرمانهنّ، بل ربما يصرِّحون بِذَلك، فالواجبُ القيام في إبطال هذا الوقف" انتهى. وقد ذكر مثلَ هَذَا التقرير الألوسيّ في تفسيره ممّا تؤيِّده مقاصدُ الشريعة وغاياتها وأهدافُها وعدلُ أحكامِها ونُبل تعاليمها.
أيّها المسلمون، وأعظَمُ الفرائضِ الإكثارُ مِنَ الصلاةِ والتّسليم على النبيّ الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائرِ الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين...
(1/5184)
مولد الحبيب
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, قضايا دعوية
ضيف الله بن سفر الغامدي
جدة
جامع أسامة بن زيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزات في يوم مولده. 2- نشأة النبي. 3- بعثة النبي. 4- دعوة النبي. 5- حب الصحابة للنبي. 6- بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أوصيكم ونفسي ـ أيّها المسلمون ـ بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوه واعلموا أنكم ملاقوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
.
عباد الله، أذن الله عز وجل بتغيير وجه الأرض وتعديل خطّ التاريخ حينما أضاء بإذنه نور الهدى وسرَت إلى نواحي الكون البشرى بمولد الحبيب ، خرج إلى هذا الكون وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام، في يوم مولده سقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت. حُقّ للأرض أن تفرَحَ بمقدمه، وحقّ للزمان أن يفخر بمجيئه بعد أن غرق أهل الأرض في ظلمات الكفر والوثنية وظلمات الجهل والخرافة وظلمات الجبروت والتسلّط على الخلق، أشرق فجر جديد وتنفس صبح مجيد ليبعث الحرية من قبرها ويطلق العقول من أسرها وينقذ البشرية من جهلها. ولد سيد الخلق وأفضل الرسل وخاتم الأنبياء حبيب القلوب ، ولد الرحيم الرفيق بأمته، أطل على هذه الحياة صبيحة يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، وقيل: الثاني عشر من ربيع الأول.
أيها المسلمون، كان مولد النبي وبعثته مولدا لنور الإسلام وضياء الحق المبين الذي تبدَّدت به ظلمات الشرك والكفر، وزال به الرّان الذي طُبع على قلوب كثير من الناس.
عباد الله، تشتاق النفوس إلى الحديث عن الحبيب ، وبذكره ترقّ وتلين القلوب، وتطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به عند حوضه وفي الجنان.
نشأ حين نشأ يتيمًا، ولليتم مرارة وحرقة لا يعرفها إلا اليتيم، فكفله جدّه ثم كفله عمه، أرضعته حليمة السعدية في ديار بني سعد، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف، اشتهر بين قومه بالصادق الأمين، لم يتجه يومًا بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمرًا، ولم يتسابق كغيره إلى النساء، ولا عجب فقد أحاطته الرعاية الربانية والعناية الإلهية، وهيأ الله له الظروف مع صعوبتها، وحماه من الشدائد مع حدتها، وسخّر له القلوب مع كفرها وظلمتها.
ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة هيأه ربه لأمر النبوة، وحمّله أمانة الرسالة، وكلّفه بالبلاغ والتحذير، لا لطائفة معينة أو مكان محدد، بل لجميع من في الأرض؛ العرب والعجم، الإنس والجن، إنها لحمل عظيم، كيف لرجل واحد أن يبلّغ هذا البلاغ ويصبر في سبيله على المشاق؟!
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ، كأنه قيل: إنّ الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبءَ الكبير فما لك والنوم؟! وما لك والراحة؟! وما لك والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمتاع المريح؟! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيَّأ لك، قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاقّ، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعدّ.
إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء، وبين الشدّ والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول الله فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرّة أكثر من عشرين عامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلويّ الجليل، وتلقّى منه التكليف الرهيب، جزاه الله عنا وعن البشرية كلّها خير الجزاء.
ساومه قومه على ترك هذا الأمر وعرضوا عليه المال وأغروه بالجاه، فقال قولته المشهورة: ((والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)) ، ثم استعبر وبكى.
كم عانى عليه الصلاة والسلام ليبلغنا الرسالة، وكم صبر وهو يؤدّي الأمانة، فأخبرنا عن الرحمن وعلّمنا الإيمان ومهّد لنا طريق الجنان، فنحن نعظمه ونجله ونحبه، نحبه محبّة نقدمها على محبة المال والأهل والنفس والولد.
عباد الله، الصحابة البررة الأطهار يوم أعلنوا الحب للرسول قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك. إنه الحب الذي دعا صاحبه إلى أن يقول هذه الكلمات النيرات: (والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي). إنه الحب الذي ملك قلوب أولئك، المحبة ليست قصصا تروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تغنَّى، المحبة لا تكون دعوى باللسان، ولا هياما بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسول الله ، المحبة عمل بمنهاج الرسول ، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]. وإنك لتعجب من أناس فرقوا بين النورين وخالفوا بين الأمرين، فهم يتذكرون ولادته وسيرته ولا ينسونها، وفي المقابل تجدهم تاركين لجملة من شريعته ومقصِّرين في اتباع هديه.
فحري بنا ـ عباد الله ـ أن تكون ذكرانا لمولد نبيِّنا كلَّ يوم، وأن تكون هذه الذكرى ذكرى لسيرته وشريعته، وأن يدفعنا ذلك إلى الاقتداء بسنته والاهتداء بهديه في سائر شؤون حياتنا، وصدق الله إذ يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، واستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن رسولكم قد نهاكم عن الابتداع في الدين حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، وقال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة))، فمن أحب الرسول فليطعه فيما أمر وليجتنب ما نهى عنه وزجر وعليه أن لا يعبد الله إلا بما شرع، قال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وبدعة المولد التي أحدثها الناس في القرون المتأخّرة لم يأمر بها ، ولم تكن من هديه، ولا من هدي أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
عباد الله، والأولى بنا في وقت نتلقّى فيه مشاعر العداء له والسخرية منه من عبّاد الصليب أن نغيظَهم ونغيظ الشيطان بتجديد النية والعهد بيننا وبين الله سبحانه باتباع سنته ونهج هديه بما شرعه الله سبحانه وتعالى، فهو غني عن احتفالنا البدعيّ، فالله سبحانه قد رفع من قدره بما شرعه له من تعظيمه وتوقيره كما في قوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، فلا يذكر الله سبحانه في أذان ولا إقامة ولا خطبة إلا يذكر بعده الرسول ، وكفى بذلك تعظيما ومحبة وتجديدا لذكراه وحثًّا على اتِّباعه.
اللهم أحينا على سنته، واحشرنا في زمرته، وارزقنا شفاعته، وأورِدنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا.
هذا واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5185)
النبوة وذكرى المولد
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, البدع والمحدثات
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
9/3/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المجتمعات قبل بعثة النبي. 2- إشراق شمس الرسالة المحمدية. 3- التحذير من الغلو في النبي. 4- بدعة الاحتفال بالمولد النبوي. 5- حقيقة تعظيم النبي ومحبته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
إخوة الإسلام، عندما غابت شمس النبوات عن الكرةِ الأرضية اشتدّ الظلام وعظم الضلال وازداد الشر وانحرفت العقول وانطمست البصائر وبات الناس كما قال الباري تعالى: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74]؛ يعبدون أهواءهم، ويحتكمون لِشهواتهم، ويأكلون ضعيفهم، لا عدالة تقام، ولا عرض يصان، ولا تآلف يسود ويدوم. تصور أنك عائش في مجتمع يعظّم الأصنام وينتهك الحرمات ويتمدح بالمظالم وتغشاه الحروب والعداوات لأسباب تافهة، قد اجتاحته براثن الجاهلية، فألقته في مستنقع من الكبرياء والسفه والاعوجاج.
في هذا المجتمع تشحّ العقول الزكية، وعنه تختفي الفطر السليمة، فلا توحيد خالص، ولا استقامة صحيحة. وما إن يظهر الرجل المستقيم والعقل الزكي إلا وينال منه، ويُسخر به، ويتعجب له ومن منهاجه.
ومن هؤلاء الذين زكت عقولهم وأنكر سفاهة قومه زيد بن عمرو بن نُفيل، فكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة والدم، وطلب الدين الحق، ووُفِّق للحنيفيّة دين إبراهيم عليه السلام، وعصمه الله من عبادة الأوثان والأحجار وكان يقول:
أرَبًّا واحدا أم ألف ربٍّ أدينُ إذا تقسّمت الأمورُ
عَزلتُ اللات والعزى جَميعا كذلك يفعل الْجلْدُ الصبورُ
ولكنْ أعبد الرحمن ربِي ليغفر ذنبِي الربُّ الغفورُ
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي وهو يصوِّر سخافة الوثنيّة التي كانت تعيشها الجاهلية قبل الإسلام ويقول: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو أخيرَ ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جَثوةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فبالت عليه، ثم طفنا به).
وهكذا فإن كل مجتمع كافر يخلو من نور النبوة مصيره إلى الضياع والهلاك، فلا يُستغرب تدينه بالباطل وتعلقه بالسفه وركضه وراء الشهوة وتخييم النكاد والتطاحن بين أهله وأفراده.
فكان العالم قبل الإسلام شقاء في شقاء ودمارًا في دمار، يحتاج إلى مصلح يضيء له نور السعادة، ويفتح له منافذ النجاة، فكان من رحمة الله تعالى أن شعّت من غار حراء نسمة مباركة، تجللت بالهدى والنور، وتحلت بالخير والسماحة، وكانت فاصلاً بين دهر غصّ بالشرور والموبقات ودهر مُلئ بالأفراح والمسرات.
وُلدت الحياة ميلادًا جديدًا من غار حراء الذي أعلن بزوغ النبوة وإشراقة خير الخلق ، فتنسمت الحياة، وأشرقت التلال واستنار الكون.
بشرى من الغيب ألقت فِي فم الغار وحيًا وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحرًا وأعلنت فِي الربا ميلاد أنوار
فأقبل الفجرُ من خلف التلال وفي عينيه أسرار عُشاق وسُمار
كأن فيض السنا في كل رابية موج وفي كل سفح جدول جاري
تدافع الفجر في الدنيا يزف إلَى تاريخها فجر أجيال وأدهار
واستقبل الفتح طفلاً فِي تبسمه آياتُ بشرى وإيْماءات إنذار
وشبّ طفل الْهدى المنشود متّزرا بالحقّ متَّشحًا بالنور والنار
فِي كفه شعلة تَهدي وفِي فمهِ بشرى وفي عينه إصرارُ أقدارِ
وفِي ملامِحه وعد وفِي دمه بطولة تتحدى كلَّ جبارِ
أيها المسلمون، كانت بعثة رسولنا رحمة بعد ظلماء، وجمعًا بعد شتات، وحياة بعد ممات، وفرجًا بعد كرب ومأساة. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وكانت منةً على أهل الإيمان، زكت نفوسهم، ورفعت أقدارهم، وأصلحت حياتهم وشؤونهم، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
أيها الإخوة الكرام، في هذا الشهر شهر ربيع الأول وُلد رسولنا ، فكان مفتاح الخيرات والبركات للبشرية جمعاء، وأيقن أهل الإيمان برسالته وبفضله وعظمته، وجعله الله تعالى حجة على العالمين وقدوة للناس أجمعين، يهتدون بهديه ويستنون بسنته.
فبلغ من حب بعض الناس له أن غلوا فيه، ووصفوه بما لا يليق، وأنزلوه منزلة الكريم الوهاب، فسألوه ودعَوه من دون الله بعد مماته، وصنعوا له ما لا يرضاه هو في حياته، ومن ذلك ما يُسمى بالمولد النبوي الذي أحدث في العصور المتأخرة، ومَا عرفة السلف ولا فعَله الأئمة المقتدى بهم، وإنما لجأ إليه بعض من قل فقهه وعلمه، فعظموا رسول الله ، فأحدثوا شيئًا منكرًا ليس له أصل في الدين. واعتبروا ذلك عيدًا يفرحون فيه، ويبتهجون برسول الله ، فينشدون القصائد الغالية والمدائح النبوية، وربما صاحب ذلك مناكر أخرى من اختلاط بالنساء وإحضار معازف ودعاء رسول الله وسؤال ما لا يجوز ولا يصح، فينقلب العيد البهيج إلى منكر قبيح ومدرسة تعلّم الشرك والغلو وتهتك الأخلاق والآداب.
وقد قال رسول الله كما في الصحيحين: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود لا يُعتدّ به. وهذا المولد المحدث لم يصنعه السلف الصالح الكرام، وهم أصدق الناس حبًا لرسول الله وأشدهم تعظيمًا، وقد بذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله.
أيها الإخوة، لقد حَمى الله تعلى هذه البلاد المباركة من هذه البدعة المنكرة، فهيمنت عليها العقيدة السلفية، وحرستها الآثار النبوية، ولا يعرف أهلها شيئًا من ذلك. ولكن أحببنا التنبيه والتحذير لئلا يغتر أحد بسماع شيء من فتاوى الفضائيات المتساهلة أو البرامج التي لا تتردّد في نشر ذلك، فقد يغترّ بعض العوام بما يسمعه أو يراه؛ لأننا صرنا في عصر منفتح متصل بعضه ببعض، فوجب النصح والتنبيه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينًا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، يدّعي أصحاب المولد النبوي أنهم يعظمون رسول الله بذلك وينشرون فضله ويثنون سنته. ونقول لهم: إن تعظيم رسول الله ليس بليلة تُحيا في السنة، وليس بقصائد شركية ولا مدائح بدعية، ولم يكن تعظيمه بدق الطبول واختلاط الجنسين، ولم يكن تعظيمه بتقريب الموائد وإيقاد الأنوار وتلميع المنازل والاستراحات، فكل ذلك لون من البدع المنكرة التي لا تُرضى ولا تُطاق.
إن تعظيم النبي يكون باتباع سنته والسير على منهاجه والذبّ عن شريعته، وذلك حبه والتعلق به، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]. محبة النبي هي العمل بسنته ونشر دينه والتخلق بأخلاقه، وإن كثيرين ليشهدون هذه الأعياد وهم أبعد ما يكونون عن سنة النبي ، بل ربما كان بعضهم منابذا للسنة، وآخر لا يقتدي بها، وآخر يحضر للفرح والرقص والسرور، وآخر للأكل وملء البطون، ثم يدّعون بعد ذلك محبة رسول الله وتعظيمه! ومن هؤلاء من لا يقيم الدين، ولا يشهد الجماعات، ويأكل المحرمات، ويباشر الشهوات، في ليلة يحييها بالفرح، أو مكان يتردد عليه متى شاء، والله المستعان.
يا مسلمون، عظموا رسول الله باتباع دينه ونشر سنته والتعلق بآثاره وشمائله، وكونوا كالسلف الصالح، أحبوا رسول الله وما غلَوا فيه، نشروا دينه، وحرسوا سنته، واهتدوا بهديه، وأتوا محاسنه، واجتنبوا مكارهه، فكانوا خير الأصحاب لخير نبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم.
وكان الأئمة المقتدون بهم على هديهم؛ يعظمون النبي باتباعه والحرص على سنته وأقواله. يقول الإمام الشافعي رحمة الله: "إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط"، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة"، ويقول سفيان الثوري رحمه الله: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل". فهكذا ـ يا مسلمون ـ تكون المحبة والتعظيم ويكون العمل والاتباع.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك. اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات...
(1/5186)
الصلاة على النبي
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
سلمان بن يحيى المالكي
مدينة تدريب الأمن العام
جامع أبي بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة على النبي كنز عظيم. 2- معنى الصلاة على النبي. 3- فضل الصلاة على النبي. 4- صيغ الصلاة على النبي. 5- شرح موجز للصلاة الإبراهيمية. 6- ثمار الصلاة على النبي. 7- مواضع الصلاة على النبي. 8- التحذير من الصلوات البدعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوَى، فمَن اتّقى ربه نجا، ومن أعرض عنه تردّى.
أيّها المسلمون، كنز عظيم من كنوز الخيراتِ وباب واسعٌ من أبواب المبرّات، طالما غفل عنه المشمرون وتهاون به الجفاة البخيلون، بل ربما وصل الحال بكثير من المقتصدين ومن السابقين في الخيرات إلى التقصير فيه. هذا الكنز وهذا الباب ـ عباد الله ـ هو الصلاة على النبيّ، فكم فيها من فضائل، وكم عني بشأنها السابقون الأوائل، فللَّه درّها! كم صح فيها من أخبار، ولله درها! كم افترى فيها على النبيّ المختار، وما بِنا من حاجة إلى الافتراء، وحسبنا ما صحّ عن خير الورى. فقد صح عنه فيها من الأخبار ما هو حري بأن يحفزّ كلَّ ذي قلب حي إلى المسارعة في هذا الباب؛ ليحظى عند الله بحسن الثواب، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 195].
قال البخاري رحمه الله: قال أبو العالية: "صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، وقال ابن عباس: (يصلون يبرِّكون) أي: يباركون، قال ابن كثير في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56]: "المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عبادَه بمنزلة عبده ونبيه وحبيبه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمَر تعالى أهل العالم السفليّ بالصلاة عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين".
أيها المسلم المبارك، إذا أردت أن يصلّي الله عليك عشر صلوات فصلّ على النبي واحدة، فقد صح عنه أنه قال: ((من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرًا)) رواه مسلم.
وإذا أردت أن يصلّي الله عليك وملائكته سبعين صلاة فصلِّ على النبيّ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (من صلّى على رسول الله صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، فليُقِلّ من ذلك أو يُكثر) رواه أحمد.
وإذا أردت أن تصلّي عليك الملائكة فأدِم الصلاة على النبيّ، فقد صح عنه أنه قال: ((ما من عبد يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي عليّ، فليقلّ العبد من ذلك أو يكثر)).
وإذا أردت أن تُكتب لك عشرُ حسنات وتُمحى عنك عشرُ سيئات وتُرفع لك عشر درجات ويُصلّي الله عليك عشرًا فصلِّ على النبيّ، فقد صح عنه أنه قال: ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحُطّ عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات)) رواه أحمد والنسائي، وفي رواية: ((كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورُدّ عليه مثلها)).
وإذا أردتَ أن يُكفى همّك ويغفر لك ذنبك فصلِّ على النبيّ، فقد صح عن أبيّ رضي الله عنه أنه قال للنبي: إني أكثِر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) ، قال: قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير)) ، قال: قلت: الثلث؟ قال: ((ما شئت، فما زدت فهو خير)) ، قال: قلت: النصف؟ قال: ((ما شئت، فما زدت خير لك)) ، قال: قلت: الثلثين؟ قال: ((ما شئت، فما زدت خير لك)) ، قال: قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يكفى همّك ويغفر لك ذنبك)) رواه الترمذي والحاكم.
عباد الله، إن الصلاة على النبيّ سبب لنيل شفاعته يوم القيامة، صحّ عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((من صلى عليّ حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة)) ، وصحّ عنه أنه قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) رواه مسلم.
والصلاة على النبي سبب لعرض اسم المصلّي على النبيّ، فقد صح عن النبي أنه قال: ((أكثروا من الصلاة عليّ، فإن الله وكّل لي ملكا عند قبري، فإذا صلى عليّ رجل من أمتي قال الملك: يا محمد، إن فلان ابن فلان صلى عليك الساعة)) ، وصح عنه أنه قال: ((إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) رواه أحمد والنسائي.
كما أن الصلاة على النبي طهرة من لغو المجالس، فقد صح عنه قوله: ((ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النبي إلا قاموا عن أنتن من جيفة)) ، وقال: ((ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة ـ أي: نقص وتبعة وحسرة ـ ، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم))، وفي رواية: ((ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب)).
والدعاء محجوب لا يُقبل حتى يصلّي العبد على نبيه ، فقد صح عنه أنه قال: ((كل دعاء محجوب حتى يصلّى على النبي)).
وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن البخيل من ذكر عنده فلم يصلّ عليه، كما رواه النسائي والترمذي، وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه قوله: ((من نسي الصلاة عليّ فقد خطئ طريق الجنة)) رواه ابن ماجه.
وصلاة العبد على النبي تبلغه حيث كان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لاَ تَجعَلُوا قَبري عيدًا، وصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُم تَبلُغُنِي حَيثُ كُنتُم)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وإن أفضل الأيام صلاةً عليه هو يوم الجمعة، فعن أوس بن أوس قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ مِن أفضَلِ أيَّامِكُم الجُمُعَة، فَأكثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاة فيه، فَإنَّ صَلاَتَكُم مَعرُوضَةٌ عَلَي)) ، قال: قالوا: يا رسول الله، وكَيفَ تُعرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيكَ وَقد أرَمتَ؟! قال: يقولُ: بَلِيتَ ـ أي: صرت رميمًا ـ ، قال: ((إنَّ الله حَرَّمَ عَلَى الأرضِ أجسَادَ الأنبِيَاءِ)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
عباد الله، لقد وردت صيغ كثيرة ثابتة عن النبي في أداء هذه الصلاة عليه، فمن تلك الصيغ ما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
ومن الصيغ الثابتة أيضا قوله : ((اللهم صلِ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)).
ومنها: ((اللهم صلِ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد عبدك ورسولك وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)).
وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهم صلِ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وفي بعض الصيغ الثابتة عنه: ((اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
قال ابن القيم رحمة الله عليه: "لا خلاف بين أهل العلم أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، يقال: اللهم اغفر لي، أي: يا الله اغفر لي"، ثم قال: "وأصل الصلاة في اللغة يرجع إلى معنيين: أحدهما: الدعاء والتبريك، والثاني: العبادة، وهذا بالنسبة للعباد، أما من الله جل وعلا فقد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية رحمة الله عليه قال: صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة، فصلاة الله على نبيه هو ثناؤه عليه وعنايته به وإظهار شرفه وفضله وحرمته، وصلاة العباد عليه والملائكة هي دعاؤهم له"، ثم قال رحمه الله: "وللعلماء في المراد بآل النبيّ أقوال، فبعض أهل العلم قال: إنّ آل النبي هم ذريته وأزواجه خاصة، قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرجل وأهله أزواجه وذريته، وقال بعض أهل العلم: آل النبي هم أتباعه إلى يوم القيامة، وأقوم من روى عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ورجحه الإمام النوويّ في شرح مسلم".
عباد الله، لقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله جملة من الفوائد والثمار الحاصلة بالصلاة على النبيّ، فقال رحمه الله: "ويكفي في الصلاة على النبي امتثال أمر الله سبحانه وتعالى وموافقته سبحانه في الصلاة على النبي وإن اختلفت الصلاتان؛ لأن الله يصلي عليه حيث ذُكر كما قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56]، ومنها موافقة ملائكته الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصلاة على النبيّ، ومنها حصول عشر صلوات من الله على من صلى عليه مرة واحدة، ومنها أنه يرجى إجابة الدعاء إذا قدّم الصلاة على النبي قبل الدعاء، ومنها أن الصلاة على النبي سبب لشفاعته إذا قرنها بسؤال الوسيلة له أو أفردها، وأنها سبب لغفران الذنوب ولكفاية الله العبد ما أهمه، كما أنها سبب لقرب العبد من النبي يوم القيامة، وأنها تقوم مقام الصدقة لذِي العسرة، وأنها سبب لقضاء الحوائج، ومنها أنها زكاة للمصلي وتطهير له، وأنها تبشير للعبد بالجنة قبل موته ونجاة له من أهوال يوم القيامة، ومنها أنها سبب لطيب المجلس وأن لا يعود حسرة على أهليه يوم القيامة، كما أنها سبب لنفي الفقر وأنها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكر اسمه، ومنها أنها ترمي صاحبها على طريق الجنة، ومنها أنها تنجي من نتن المجلس الذي لا يُذكر فيه اسم الله واسم رسوله، وأنها سبب لتمام الكلام الذي ابتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله، كما أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط، وأنها يخرج بها العبد عن الجفاء، وأنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض؛ لأنّ المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل، فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك، ومنها أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه؛ لأن المصلي دعا ربه أن يبارك عليه وعلى آله ، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه، ومنها أنها سبب لنيل رحمة الله له؛ لأن الرحمة إما بمعنى الصلاة أو من لوازمها وموجباتها، فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله، ومنها أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه حتى لا يبقى في قلبه معارض لشيء من أوامره، ومنها أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط والجواز عليه لحديث عبد الرحمن بن سمرة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي وفيه: ((رأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته)) ، ومنها أن الصلاة عليه أداء لأقل القليل من حقه مع أن الذي يستحقه لا يحصى علمًا ولا قدرًا ولا إرادة، ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه، ومنها أن الصلاة عليه من العبد هي دعاء"، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه ووالاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
فيا عباد الله، قد ذكر ابن القيم في كتابه القيم جلاء الأفهام بعض المواضع التي يحسن بالمسلم ويستحب له فيها صلاته على النبي ، فمن المواضع التي يستحب الصلاة فيها على النبي الصلاة عليه في آخر التشهد وكذا في التشهد الأول، وعند آخر القنوت، وفي صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية، وفي الخطب والعيدين والاستسقاء، وعند إجابة المؤذن، وعند الإقامة والدعاء، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الاجتماع في المجلس وقبل التفرق منه، وعند ذكره وحال الوقوف عند قبره، وعند قيام الرجل من نوم الليل، ويوم الجمعة وليلتها، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند كتابة اسمه وإلقاء الدروس والتعليم والتذكير، وكل موطن يُجتمع فيه لذكر الله... إلى غير ذلك مما ذكره رحمه الله.
وبعد: عباد الله، فقد سمعتم فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والآثار المترتبة عليها، وسمعتم الصيغ الثابتة عن النبي وبعض المواضع التي يستحب للمسلم الصلاة فيها على نبيه ، فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، ففيما ورد عنه من الصيغ التي علّمناها لنصلّي بها عليه غنية عما ابتدعه المبتدعون وغنية عما جدّ في العصور المتأخرة مما أُدرج فيه شرك بالله جل وعلا.
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن آية المحبة الاتباع، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران: 31]، فآية محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم هي اتباعهما في كلّ ما يأتي وفي كلّ ما يذر، فصلاة ربي وسلامه عليه، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
(1/5187)
محبة النبي
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع, التربية والتزكية
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
2/3/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب محبة النبي. 2- أسباب محبة النبي. 3- دلائل محبة النبي. 4- ثمار محبة النبي. 5- نماذج راشدة في محبة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله تعالى أوجب علينا محبة نبيه ، وتوعد المخالف في ذلك بقوله: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]. وكلُّ هذه المذكورات في الآية جُبِل المرء على محبتها، وليس المراد تحجير هذا أو ذمَّ من قام به، وإنما المراد من الآية ذمُّ من قدم حبها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ فإنَّ حبها مركوز في نفوسنا.
ومن الأدلة القرآنية على وجوب تقديم حب النبي على كلِّ محبوب قول رب العالمين: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]. يقول ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين (1/276): "قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ، ولا يتم لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم، فضلاً عن أبنائهم وآبائهم".
ودلت السنة النبوية على أنه لا إيمان لمن لم يقدم حبَّ رسول الله على كلِّ محبوب، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. أتدري لِم مثَّل النبي بالوالد والولد؟ لأن الوالد لا يرى في الدنيا مثل ابنه، وهو يحب أن يرقى ابنه درجات قصر عنها، ولا يمكن أن يراوده هذا الشعور تجاه غيره، وقد سمعتم بأن أبوين آثرا ابنهما بطوق النجاة إثر غرق الباخرة المصريّة بعد حجِّ هذا العام، وأما حبّ الولد لوالده فلا يحتاج إلى تدليل، فلا يمكن أن يؤمن بالله ورسوله من قدم حبَّ ولده أو والده على حبه.
قال عبدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ ـ وَاللهِ ـ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((الآنَ يَا عُمَرُ)) رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (11/528): "قال الخطابي: حبُّ الإنسان نفسَه طبع، وحب غيره اختيار بتوسّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولاً كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي أحب إليه من نفسه؛ لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: ((الآن يا عمر)) أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب".
عباد الله، هذه المحبة لها أسباب تنمِّيها، ونحن مأمورون باتخاذها، فمن ذلك التأمل في أخلاقه التي امتدحها الله تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. ومنها أنَّ محبته تابعة لمحبة الله تعالى، فالله قد اتخذ نبينا خليلاً، والخُلَّة أعلى درجات المحبة، قال قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: ((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً)) رواه مسلم. ومنها قراءة سيرته؛ ولذا فإن من أقوى سبل دعوة الكافرين إيقافهم على سيرة النبي. ومنها قراءة خصائصه التي امتاز بها عن سائر الأنبياء.
أيها المؤمنون، الأدلة على صدق محبة النبي كثيرة، أجتزئ منها عشرةً:
الأول: نصرته في حياته ونصرة سنته بعد موته، أما نصرته حال حياته فهذا مما خصّ الله تعالى به أصحابه، وقد قاموا بما أوجبه الله تعالى عليهم من نصرة نبينا خير قيام، وهذا من أعظم ما يدل على صدق محبتهم للنبي ، وهل أدل على ذلك من فدائهم بأنفسهم للنبي ، وكثيرًا ما كان الرجل منهم إذا اشتد الوطيس يجعل من نفسه تِرسًا يحمي رسول الله.
الثاني: الحرص على صحبته، وهذا مما اختُص به الصحابة أيضًا، ولنا منها التمني، يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (2/16): "قال القاضي عياض رحمه الله: ومن محبته نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه".
الثالث: امتثال أمره، فلا يعقل أن تدّعي محبته ولا حظَّ لك من سنته وهديه وسمته، إن المحبة الحقيقية لا بد أن يتوّلد منها التأسي به ، المحبة الحقيقية يتبعها الاتباع لمنهجه وطريقه.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا مُحال في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحبَّ لِمن يُحب مطيع
الرابع: الحرص على تبليغ سنته والدعوة إليها؛ ولذا فإن الصادقين في حب نبيهم يفنون أعمارهم في الدعوة وتبصير الناس بها والتأليف دفاعًا عنها والرد على من يتجشم المهالك ويطعن فيها.
الخامس: عدم الرضا بالإساءة إليه، حدَّث ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي وَيَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: ((أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلا قَامَ)) ، فَقَامَ الأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)) رواه أبو داود والنسائي.
السادس: كثرة الصلاة عليه، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ))، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ فَقَالَ: ((مَا شِئْتَ)) ، قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) ، قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: ((إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)) رواه الترمذي.
السابع: مجانبة البدع؛ لأنها تضلّ عن طريق النبي وحوضه في الآخرة، ولا يمكن لمريد يعرف ذلك ويستمر عليها، كيف لمحب يعلم أن البدعة تفرّق بينه وبين رسول الله على حوضه فيقع فيها؟! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا)) ، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ)) ، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)) رواه البخاري ومسلم.
الثامن: محبة أصحابه وأهل بيته وإعمال وصيته فيهم، وليس من شكٍّ أنَّ الطعن فيهم والنيل منهم نيل وطعن في النبي ، فالمرء على دين خليله؛ ولذا فإنَّ العقل لا يمكن أن يتصوّر محبًا صادقًا للنبيّ قاليًا مبغضًا لأصحابه وآل بيته.
التاسع: التأدب معه.
العاشر: عدم الغلو فيه؛ لشدّة بغضه ذلك، فهل يعمل المحبُّ بما يُسخط حبيبَه؟! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : ((أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عدْلاً؟! بَلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ)) رواه أحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، ما ثمار محبتك لنبيك ؟
من ثمارها أنك تجد بها حلاوة الإيمان، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) رواه البخاري ومسلم.
من ثمارها ما جاء في هذا الحديث العظيم: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: لا شَيْءَ إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ : ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) ، فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ. رواه البخاري ومسلم.
لكن ـ عباد الله ـ المحب الصادق الذي يناله هذا الفضل من سلك طريقه واقتفى أثره واستنار بنهجه واهتدى بهديه، ألا ترى أن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وإنما لم يحظوا بمعيّتهم في الآخرة لمخالفتهم.
ولقد خلَّد التاريخ مواقف نيرة لأصحاب النبي في عظيم حبهم له، أُذكِّر ببعضها لأمرين: الأول: لنجعل منهم أسوة في ذلك، الثاني: لنعرف للصحابة قدرهم.
فهذا خُبيب بن عبد الله الأنصاري لما بعثه النبي ومعه اثنان من أصحابه عيونًا بمكة، واعترضتهم بنو لحيان من هذيل، كان من أمر خبيب أنه قال بعد أن أخرجوه لقتله: (اللهم إني لا أجد رسولاً إلى رسولك فبلغه مني السلام). ما هذا يا خبيب؟! أهذا كلّ همك؟! هلا دعوت للخلاص من كربك! في هذا الموقف يدعو الله أن يبلغ رسوله سلامه! لا عجب ولا غرابة، إنهم من اصطفاهم الله لنصرة رسوله كما قال ابن مسعود. فنزل جبريل يحمل سلامه إلى الرسول ، ثم صلبوه، فقال: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تُبق منهم أحدًا). فقالوا له وهو مصلوب، نادوه وناشدوه: أتحبُ أنَّ محمدًا مكانَك؟ فقال: (لا والله العظيم، ما أحبُّ أن يَفْدِيَني بشوكة يُشاكها في قدمه) رواه الطبراني في الكبير (5/260-261). فأي حب هذا الذي حوته قلوبهم لرسول الله ؟!
موقف آخر: عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك، فلولا أني أجيء فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، فأذكر أني إن دخلت الجنة صرت دونك في المنزلة، فشق ذلك عليَّ، وأحب أن أكون معك في الدرجة، فلم يردَّ رسول الله شيئًا، فأنزل الله عز وجل: وَمَن يُّطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ [النساء: 69] الآية. رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة وابن أبي شيبة في مصنفه.
موقف ثالث: امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأُحد، فلما نعوهم لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرًا يا أمَّ فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل. تريد: هيِّنةً.
ويعطي عليٌّ سيفه فاطمة بعد المعركة قائلاً:
أفاطم هاك السيف غير ذميم فلست برعديد ولا بمليم
لعمري لقد قاتلت في حبّ أحْمد وطاعة ربٍّ بالعباد رحيم
لقد كان رسول الله أحب إليهم من كل شيء، ولو أخذنا نذكر ما يدل لذلك من سيرتهم لطال المقام بنا.
أسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا بحب وتوقير وتعظيم نبيه...
(1/5188)
شبهات المحتفلين بمولد خير المرسلين
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
9/3/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعظيم المشروع والتعظيم غير المشروع. 2- دحض بعض الشبه التي تختصّ بالمولد. 3- دحض بعض الشبه التي يؤصّل بها لبعض البدع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد سبق الحديث في الجمعة الماضية عن وجوب محبة النبي ، وأنه لا إيمان لمن قدَّم محبة غيره على محبته، وأنَّ الله أوجب علينا تعظيمه وتوقيره بقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح: 8، 9].
وتعظيم النبي قسمان:
الأول: تعظيم مشروع لا مخالفة فيه؛ نحو ما كان يقوم به أصحابه رضي الله عنهم.
الثاني: تعظيم غير مشروع؛ كالغلو فيه. وإنَّ من ذلك أن يُحتفل بمولده.
وكنت في العام الماضي قد تناولت هذه القضية من أوجه عديدة، وأريد اليوم أن أطرقها من باب واحد، ألا وهو شبهات المحتفلين بهذا المولد؛ لتتبينَ خطأَ من يقيمه وعدم مشروعيته في ديننا الحنيف.
والذين يريدون التأصيل لهذه البدعة لهم نوعان من الشبهات، شبهات تختص بالمولد، وشبهات يؤصلون بها لكل بدعة، وإني أستعين بالله تعالى لدحر كلا النوعين قائلاً:
أما النوع الأول: فيستدلون بقوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]. قالوا: احتفالنا بمولده من باب الفرح بفضل الله المندوب إليه.
والجواب ينبري له إمام التفسير القرطبي المالكي حيث يقول في الجامع (8/316): "فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام... والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب... فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ أي: بالقرآن وبالإسلام فليفرحوا". فأين المولد هنا؟! وأين إقامة الاحتفالات؟! وإنما ذُكر الفرح، والاحتفالُ أمر زائد عليه.
ثم إنه لا يصح أن يستدل بآية على أمرٍ لم يجعلها السلف دليلاً عليه، فتركهم الاستدلال بها عليه إجماع على أنها لا تدل عليه. يقرر ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات (3/71) ويعلّله بقوله: "إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء". ثم قرَّر أن تركهم الاستدلال عليه إجماع على أن الآية لا تدل عليه.
الشبهة الثانية: استدلّوا بصوم النبي يوم عاشوراء بسبب أن الله نجَّى فيه موسى.
والجواب: ونحن نصومه لذلك، ونصوم يوم الاثنين كما كان النبيّ يصومه؛ شكرًا لله تعالى على مولد وبعثة نبينا ، فأين هذا من الاحتفال؟! وقد سئل النبي عن سبب صوم يوم الاثنين فقال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ)) أَوْ: ((أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)) رواه مسلم.
الشبهة الثالثة: قالوا: ثبت في سنن البيهقي أنَّ النبي عقَّ عن نفسِه، وهذا يدلّ لاحتفالنا بمولده.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: لو ثبت الحديث فلا يكون دليلاً على ذلك كما هو واضح.
الثاني: الحديث ليس بثابت، فالبيهقي الذي أخرجه أنكره؛ لأن في سنده عبد الله بنَ محرر، قال البيهقي في السنن (1/12): "عبد الله بن محرر متروك"، وقال (4/126): "قال البخاري: عبد الله بن محرر متروك"، وقال (9/299): "والحديث في عقيقة النبي عن نفسه منكر"، وقال (9/300): "قال عبد الرزاق: إنما تركوا عبد الله بن محرر لهذا الحديث". فماذا قال إمامنا الإمام مالك عن هذا الحديث؟ قال: "من الأباطيل"، وقال ابن حبان ـ وهو من المتساهلين في التوثيق ـ عن عبد الله بن محرر في كتاب المجروحين (2/29): "كان يكذب ولا يعلم، ويقلب الحديث ولا يفهم".
الشبهة الرابعة: استدلوا بهذه القصة: بعدما قال النبي : ((فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ)) ، قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ، كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ. رواه البخاري. قالوا: فإذا سُقي أبو لهب لفرحِه بالنبيّ أفلا نحتفل به؟!
هذه الشبهة يردُّ عليها ابن حجر رحمه الله من أربعة أوجه، قال رحمه الله في فتح الباري (9/145): "مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وأجيب أولاً بأن الخبر مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه بِه، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به". فهذه أربعة أوجه، ويمكن أن تضيف إليها وجهين آخرين:
1- أنَّ الفرح بالأولاد فرح طبعي مباح، لا ثواب فيه ولا عقاب.
2- لو سُقي وسلّمنا بهذه الرؤيا ـ ولا نسلم ـ فإن سبب ذلك العتق، لا الفرح بالأبناء كما هو منصوص عليه.
الشبهة الخامسة: قالوا: إنما ترك النبي الاحتفال تواضعًا.
والجواب:
أولاً: لازم هذا القول نسبة الخيانة إلى النبي الذي قال الله له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67].
ثانيًا: أخبر النبي بأنه سيّد الناس يوم القيامة، وأن البخيل من ذُكر عنده ولم يُصل عليه، وغير ذلك، فلم لم يكتمه تواضعًا؟!
ثالثًا: فهل تركه الخلفاء الراشدون من بعده تواضعًا؟!
الشبهة السادسة: يستدل بعضهم بأنه رأى النبي في المنام وأمره بإقامة المولد.
والجواب: رأى حمزة الزيات النبيّ في المنام، فعرض عليه ما سمعه من أبان، فما عرف منه إلا شيئًا يسيرًا، قال القاضي عياض معلقًا كما في شرح النووي على مسلم (1/115): "هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء". ولعلّي أُفرد جمعةً كاملة للحديث عن مصادر التلقي عند أهل البدع.
الشبهة السابعة: وأما استدلالهم بقول شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص397): "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع" فهذا لا حجة لهم فيه، فحديثه عمن وقع في ذلك ولم يكن بالنهي عالمًا، هذا أولاً، وثانيًا: أقوال العلماء لا يُستدل بها وإنما يستأنس بها ويستدل لها، وإنما الحجة في قول الله ورسوله.
الشبهة الثامنة: قال به فلان وفلان.
وأقول: ولم يقل به فلان وفلان، وليست الحجة إلا في قول الله تعالى وقول رسوله ، وليس فيما ذهب إليه عمرو أو قال به زيد وبكر.
الشبهة التاسعة: لعل بعضهم يكابر قائلاً: الاحتفال عادة وليس عبادة.
والجواب: محاولاتهم للتأصيل بكل هذه الشبهات دليل على أن القوم يتخذون هذا الاحتفال عبادة، وهم يرجون باحتفالهم هذا الأجر من الله، فلا تعدو أن تكون هذه الشبهة مكابرة واضحة.
وأما الشبهات التي يؤصلون بها للبدعة عمومًا فمنها: استدلالهم بحديث جرير بن عبد الله البجلي، قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى آخِرِ الآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18] ((تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ)) حَتَّى قَالَ: ((وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)) رواه مسلم.
قالوا: فهناك بدعة حسنة بنص الحديث. والجواب:
أولاً: سبب الورود قطعي الدخول في النص، وهو مما يفسّر به الحديث، فعُلم أنَّ المراد من الحديث من أقام سنةً واقتدى الناس به فيها فله أجرها وأجر من أقامها بسببه.
ثانيًا: كون الشيء حسنًا أو قبيحًا لا يُعلم إلا من جهة الشرع، فكيف يستدل به على البدع وقد جاءنا في الشرع ما يبين عظيم قبحها وأنها ضلالة؟!
الشبهة الثانية من الشبهات العامة: استدلالهم بأثر ابن مسعود : (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ) رواه الحاكم والطبراني في الأوسط.
والأثر من أدلة حجية الإجماع، فما أجمع المسلمون على كونه حسنًا أو سيئًا فهو كذلك؛ لأن الإجماع حجة، فالمراد من قوله: (المسلمون) الاستغراق، وبذا قال ابن حزم في الإحكام وابن قدامة في روضة الناظر وابن القيم في الفروسية.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيد الهداة المهتدين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: الشبهة الثالثة: الاحتفال بدعة حسنة.
والجواب: قول رسول الله : ((كل بدعة ضلالة)) رواه مسلم، فمن نصدّق: رسول الله أم غيره؟!
قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
الشبهة الرابعة: ما تركه النبي فلا حرج في فعله.
والجواب: أنَّ الترك فعل يجب علينا أن نتأسّى برسول فيه للأدلة التالية:
قول الله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 63]. فتركهم النهي صناعة.
قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]، فسمى تركهم فعلاً.
قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، فالاتخاذ فعل، والمهجور المتروك، فالمعنى: فعلوا تركه.
وقال الصحابة لما كان النبي يبني مسجده: (لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلَّل)؛ ولهذا قال في المراقي:
فكفّنا بالنهي مطلوب النبيّ والكف فعل في صحيح المذهب
الشبهة الخامسة: قول عمر في اجتماع الناس للتراويح: (نعمت البدعة هذه) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في شعب الإيمان.
وصلاة التراويح في جماعة ثبت من هدي النبي ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: ((قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)) قَالَ: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. رواه مسلم.
يبقى السؤال: لم قال عمر إنها بدعة؟
الجواب: قال المناوي في فيض القدير (4/199): "فعمله سنّة سنها للمسلمين اتباعًا لهدي رسول الله ، وإنما قال فيها: نعمت البدعة؛ إما تواضعًا وإما تجاوزًا في اللغة".
ولعلَّ الظاهر أنَّ المراد أنها بدعة باعتبار الزمان السابق الذي خلا منها، فإن المحدّث قد يكون محدثًا بإطلاق، وقد يكون باعتبار، كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ [الأنبياء: 2].
ولو سلمنا أنّ عمر أول من قام بها ـ ولا نسلم ـ فقد قال النبي : ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، فلا حجة لهم.
وليس هذا الاحتفال مصلحة مرسلة؛ لقيام المقتضي لفعله في زمن النبي ومع ذلك تركه، فهو بدعة، فحري بالمسلم أن يتجنب البدعة وأهلها؛ لئلا يطرد عن حوض رسول الله في الآخرة.
أسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه...
(1/5189)
فلا تظلموا فيهن أنفسكم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعود بن عابد الحربي
المدينة المنورة
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- فضل شهر الله المحرم. 3- الأشهر الحرم. 4- تريم الظلم ووعيد الظالمين. 5- دواوين الظلم الثلاثة. 6- التنبيه على معاص منتشرة بين الناس: حلق اللحية، الإسبال، الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، يقول ربنا جل في علاه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص: 68]. فسبحان من له الخلق والأمر تبارك ربّ العالمين، فالخلق خلقه، والأمر أمره، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
عباد الله، إنّ اللهَ خلق الزمان واختار منه ما يشاء، فاختار من الشهور بعضها وفضلها على بعض، واختار من الليالي والأيام ما يشاء، كل ذلك بحكمته ورحمته، عليم حكيم، رؤوف رحيم، لا رادّ لقضائه، ولا معقب لأمره، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18].
ومما اختار الله من الشهور شهر الله المحرم، فأضافه إلى نفسه سبحانه تشريفًا وتكريمًا، وهو هذا الشهر الذي نعيش الآن أيامه، خصه الله بمزيد تشريف وتكريم، وزاده بفضل إجلال وتعظيم.
ومما جاء في فضلة عن النبي ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)). ومن فضائل يوم عاشوراء أنه اليوم الذي تيبَ فيه على آدم ويونس عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
عباد الله، إنكم في شهر حرام وفي بلد حرام، عظم الله هذا الشهر وعظم هذا البلد، فمِن تعظيم الله سبحانه أننا نعظم ما عظّم وأن نحرّم ما حرّم.
عظم الله هذا الشهر فقال سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36]. فهذه الأشهر هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
عباد الله، ولما نوّه الله بعِظَم هذه الشهور ونبه على فضلها عقَّب ذلك بتحريم الظلم فيها، فالظلم ذنب عظيم وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد وكل بلاء وإلحاد، فهو منبع الرذائل والموبقات ومصدر الشرور والآفات، متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها، فبه تفسد الديار وتخرب الأمصار, وبه ينزل غضب الواحد الجبار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف: 59]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46], وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. وقد حرمه تعالى على نفسه فقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا)) رواه مسلم. فحرم الظلم على نفسه قبل أن يجعله محرمًا بين عباده. وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، وفي الصحيحين أن النبي قال: ((اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) ، وقال فيما يرويه مسلم وغيره: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره)).
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, إذا أخذ الظالم لم يفلته، بل يأخذه أخذ غزيز ممقتدر، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت النصوص في تحريمه وبيان سوءِ عاقبته والتحذير منه دواوين ثلاثة:
أولها: ديوان لا يغفره الله أبدًا، وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء: 48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني الدواوين: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيرَه من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحقّ للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: ((وعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)).
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإنّ نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض. ومن أعظم الظلم وأشنعه ظلم الأقربين والتعدي عليهم بأي نوع من أنواع الظلم كما قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحُرِّ من وقع الحسام المهند
فمن الناس من يظلم والديه وأقرب الناس إليه، ومن الناس من يظلم زوجه وأبناءه وبناته ومن له حق الولاية عليهم، ومن ظلم الزوجات أن لا يقوم بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة والاحترام والتقدير المطلوب بين الزوجين والوفاء لها وتقدير ضعفها وعاطفتها وحاجتها، ويظهر الظلم بصورة أوضح عند بعض الذين لديهم أكثر من زوجة، فيميل إلى واحدة على حساب الأخرى.
ومن ظلم الأولاد أنّ بعض الناس لا يحسن العدل بين أولاده، فيظلم بعضهم، ويَشْعُر أحد الأولاد ابنًا أو بنتًا بميل الأب إلى غيره وعدم العدل بينه وبين إخوانه، وتلك مشكلة يغفل عنها الكثير من الآباء؛ مما يسبب الحقد والبغضاء بينهم، وكم سمعنا من هذا الشيء الكثير حتى تبلغ العداوة بين الإخوان شيئًا لا يكاد يصدقه عقل، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يسحر أخاه أو يعتدي عليه بالضرب أو القتل، والرسول يقول: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)).
ومن ظلم العبد لغيره ظلم الخدم والعمال، فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم؛ بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم.
وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتفكهوا بأعراض الغافلين وسفكوا دماء المؤمنين.
فلِلَّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار)) رواه مسلم.
فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص من الظالم للمظلوم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيّها المؤمنون, أما ثالث دواوين الظلم فهو ظلم العبد نفسَه بالمعاصي والسيئات, فكل ذنب وخطيئة تقارفها ـ يا عبد الله ـ فإن ذلك ظلم منك لنفسك وبغي عليها, قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229].
والناس في ذلك مستقل ومستكثر، فمن الناس من لا يردعه رادع ولا يزجره وازع، يخوض في غمار المعاصي والذنوب، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه. فأصبح جمعُ المال والنتافسُ عليه مستنقعًا آسنًا، عبّ منه كثير من العالمين، وارتوى منه كثير من الغافلين، فالربا قد انتشر وفشا، واستهان الناس بأخذ الرُّشا، مع ما ورد فيهما مع الوعيد الشديد والنهي الأكيد. ضيّعت بسبب ذلك الأمانة وفشت الخيانة، وانتشر الكذب والتدليس، كل ذلك بسبب التنافس على حطام الدنيا الزائلة والاستكثار منها، مع أن نبينا المشفقَ على أمته قد حذرها من ذلك فقال: ((فوالله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) متفق عليه.
وإن من أعظم ما فشا بين الناس من المحرمات واستمرؤوها واعتادوا عليها وألفوها حتى أصبحوا لا ينكرون على أصحابها ولا يعاتبون أربابها حلقَ اللحى وإسبالَ الثياب وسماعَ الأغاني.
فأصبح حلق اللحية أمرًا مألوفًا لدى كثير من الناس، بل ربما أصبحت ترى من يتصدّر لتوجيه الناس وتعليمهم بل والفتيا والقضاء قد حلق لحيته كلّها أو كثيرا منها وتشبه بأعداء الله، والنبي يقول: ((خالفوا اليهود؛ أعفوا اللحى)).
وإسبال الثياب مع أنه من كبائر الذنوب أصبح أمرًا شائعًا ومنكرًا ذائعًا، ولا تكاد تجد من ينكره على من فعله مع أن فاروق هذه الأمة وهو يكابد غصصَ الموت وسكراته لما دخل عليه شابّ قد أسبل ثيابه ناداه وأنكر عليه.
أما الغناء وما أدراك ما الغناء فهذا المنكر الذي لا يكاد يسلم منه مكان ولا يخلو منه زمان، بل زاحم الناس حتى في أماكن العبادة وفي أشرف البقاع وأطهرها. فقد غزانا أعداء الإسلام بهذا السلاح الذي أفسد القلوب وأنبت فيها النفاق، فغرسوه في ألعاب الأطفال حتى يتربى عليه الطفل من الصغر، فقبل أن يلقن الأطفال القرآن والشهادتين يكون قد سمع من الغناء والموسيقى ما جعله يألف ذلك ويتربى عليه. وأصبحت تسمع هذا الصوت المنكر في كلّ مكان حيثما توجهت في الأماكن العامة والخاصة، في الأسواق والبيوت والسيارات والمتنزهات، بل حتى في المساجد والصلوات. فألفه الناس واعتادوه، فأصبح صاحب هذا المنكر يصول ويجول بين الناس وكأنه لم يفعل شيئًا، في حين أنه ينبغي أن ينكر عليه ويناصح ويعاتب، فالمنكرات تزول بإنكارها، وتبقى وتنتشر بالسكوت عليها.
بل وأصبحنا من ضعف الناس وتقاعسهم عن إنكار هذا المنكر نسمع من يأتي بمسائل مغلوطة وحجج واهية، ويقول: إن المستمع غير السامع، وتجده بهذه الحجة الواهية يبرر لنفسه سماع الغناء وعدم إنكاره على صاحبه، في حين أن ابن عمر رضي الله عنه لما سمع صوت زمارة راع وضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: نعم، فيمضي حتى قلت: لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا. رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني رحمه الله.
بل والأدهى من ذلك والأمر أن هذه الآلات القبيحة اقتحمت علينا أماكن العبادة في أطهر البقاع وأشرفها في الأماكن التي لا تكاد تجد فيها منكرًا، فأصبحت الموسيقى تنبعث في المساجد وفي أثناء الصلوات بصفات شنيعة وأحوال مزرية، فهناك منها موسيقى راقصة، بل وهناك مقاطع لبعض الأغنيات الماجنة، متى ما سمعت أجزم يقينا أنه لا يبقى في قلب مصلّ خشوع مهما بلغ من إقباله على صلاته.
فأي إساءة للأدب مع الله ومع عباده ما يصنعه هؤلاء المستهترون؟! أين غاب عنهم مراقبتهم لله والحياء منه؟! والله، إنه لمن المتناقضات التي أصبحنا نعيشها في هذا الزمان أن يكون رجل فيه من الخير والصلاح ما جعله يأتي للصلاة ويبكّر إليها ثم بعد ذلك يسمح لنفسه بهذا الفعل القبيح والعمل المشين. والأدهى من ذلك والأمر أن لا تتحرك غيره المصلين على صلاتهم فيقوموا بالإنكار عليه وكأن الأمر يسير، هل هانت علينا صلاتنا وإقبالنا على ربنا إلى درجة أن لا نتأثر إذا سمعنا مثل هذه الأصوات؟! لو كان الواحد منهم يشاهد مباراة في التلفاز أو منهَمِكا في حديث مع من يحبّ ثم جاءة إزعاج يسير من أحد أبنائه لبادر بزجره وتوبيخه، بل ربما طرده وضربه، فيكف بحالنا مع صلاتنا؟! يجب أن يكون الأمر أشدَّ وأعظم؛ ولذلك أصبحنا نسمع هذه الأصوات المنكرة في كل صلاة إلا ما رحم ربي.
ولتعلم ـ يا من قمت ـ بهذا العمل أنك جمعت بين إساءات كلها عظيمة:
أولها: أنك تسببت في إذهاب خشوع كل من في المسجد مهما بلغ عددهم، فكل واحد منهم له في عنقك ذنب عظيم، وليس ذنبا في أمر هين ويسير، بل في أعظم شيء يؤدّيه الإنسان وهو صلاته، وفي أعز شيء فيها وهو خشوعها الذي هو لبها.
الثانية: أنك جلبت هذا المنكر المفسد للقلوب المغضب لله علام الغيوب إلى بيته والمكان الذي يَتَقَرَّبُ فيه إليه عبادُه الصالحون، فأسأت بذلك الأدب، وهتكت حجاب الحياء الذي بينك وبينه، فهل استشعرت هذه الجناية؟! وهل قدرت الأمر قدره؟! والله، لو عظّمنا هذه الشعيرة حقَّ التعظيم وأقبلنا عليها حق الإقبال لجل علينا الخطب ولعظم عندنا الكرب، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فعلى أهل الغيرة أن يعقدوا الندوات وينظموا اللقاءات لبحث القضية وفرض الحلول العملية؛ حتى تتطهر المساجد من هذا المنكر، ويقبل الناس على عبادتهم بخشوع وإقبال وتعظيم وإجلال، فقد سئمنا هذا الداء العضال ومللنا رداءة الحال، فلا تكاد تخلو صلاة من نعيبه، ولا فريضة من تعذيبه، فأصبحت أيدينا على قلوبنا في كل صلاة ولسان حالنا يقول: اللهم سلم سلم.
فتخففوا ـ عباد الله ـ من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به, وترك ما نهاكم عنه, والتوبة مما فرط من الذنوب, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله...
(1/5190)
التحذير من بدعة المولد
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
11/3/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم الحقوق. 2- الفرق بين حق الله تعالى وحق الرسل عليهم السلام. 3- وجوب طاعة الرسل واتباعهم. 4- النهي عن الغلو في النبي. 5- إقامة النبي للتوحيد وحمايته له. 6- غلو أهل الكتاب في أنبيائهم. 7- التحذير من اتباع سنن أهل الكتاب. 8- بدعة احتفال بالمولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ ونَفسِي بِتَقوَى اللهِ جل وعلا، يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رّحمَتِهِ وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، أَعظَمُ الحُقُوقِ على العِبَادِ حَقُّ اللهِ تعالى بِإِفرَادِهِ بِالعِبَادَةِ دُونَ مَن سِوَاهُ، وَبَعدَ حَقِّ اللهِ تعالى يَأتي حَقُّ رَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ وَتَصدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ.
وَالأَدِلَّةُ على ذَلِكَ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمُتَظَاهِرَةٌ، قال سُبحَانَهُ: وَاعبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا ، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، وفي حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ: بَينَا أَنا رَدِيفُ النَّبيِّ لَيسَ بَيني وَبَينَهُ إِلاَّ آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ)) ، قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعدَيكَ، ثم سَارَ سَاعَةً ثم قال: ((يَا مُعَاذُ)) ، قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعدَيكَ، ثم سار سَاعَةً ثم قال: ((يَا مُعَاذُ)) ، قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعدَيكَ، قال: ((هل تَدرِي مَا حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ؟)) قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قال: ((حَقُّ اللهِ على عِبادِهِ أَن يَعبُدُوهُ وَلا يُشرِكُوا بِهِ شَيئًا)) ، ثم سار سَاعَةً ثم قال: ((يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ)) ، قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعدَيكَ، فقال: ((هَل تَدرِي مَا حَقُّ العِبَادِ على اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟)) قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قال: ((حَقُّ العِبَادِ على اللهِ أَن لاَّ يُعَذِّبَهُم)).
وَإِذَا كان اللهُ سُبحَانَهُ قَد أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نُفَرِّقَ بَينَ طَاعَتِهِ جل وعلا التي هِيَ تَأَلُّهٌ وعِبَادَةٌ، وَبين طَاعَةِ رَسُولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ التي لا تُجَاوِزُ أَن تَكُونَ امتِثَالَ أَمرٍ وَنَهيٍ وَتَصدِيقَ خَبرٍ وَاتِّبَاعَ سُنَّةٍ وَتَعزِيرًا له وَتَوقِيرًا وَإِنزَالَهُ مَنزِلَتَهُ اللاَّئِقَةَ بِهِ، دُونَ غُلُوٍّ فِيهِ وَلا إِطرَاءٍ لَهُ.
وَمَن تَأَمَّلَ كِتَابَ اللهِ جل وعلا وَجَدَ ذَلِكَ الفَرقَ فِيهِ وَاضِحًا جَلِيًّا بِحَمدِ اللهِ، لا يُنكِرُهُ وَلا يَعمَى عَنهُ إِلاَّ مَن أَغفَلَ اللهُ قَلبَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، قال سُبحَانَهُ: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ، فَانظُرْ كَيفَ جَعَلَ سُبحَانَهُ الطَّاعَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ، ثم جَعَلَ الخَشيَةَ وَالتَّقوَى لَهُ وَحدَهُ. وقال تعالى: إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً ، فَجَعَلَ الإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَجَعَلَ لِرَسُولِهِ التَّعزِيرَ وَالتَّوقِيرَ، وَأَفرَدَ نَفسَهُ بِالعِبَادَةِ وَهِيَ التَّسبِيحُ بُكرَةً وَأَصِيلاً. وقال تعالى: وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبْكُمُ اللهُ وَيَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا ، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لما يُحيِيكُم ، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا ، وقال تعالى: فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ)).
وَبِالجُملَةِ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَقَد بَيَّنَتِ النُّصُوصُ المُتَقَدِّمَةُ وَغَيرُها أَنَّ حَقَّ الرَّسُولِ الإِيمَانُ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ وَطَاعَتُهُ، وَتَحكِيمُهُ وَرَدُّ مَا يُتَنَازَعُ فِيهِ إِلَيهِ، وَالرِّضَا بِحُكمِهِ وَالتَّسلِيمُ لَهُ، وَتَعزِيرُهُ وَتَوقِيرُهُ وَنَصرُهُ، وَالصَّلاةُ عَلَيهِ وَالتَّسلِيمُ، وَمَحَبَّتُهُ وَتَقدِيمُهُ على النَّفسِ وَالأَهلِ وَالمَالِ.
ولا شَكَّ أَنَّ أَهَمَّ تِلكَ الحُقُوقِ وَأَعظَمَهَا وَالذي هُوَ في الحَقِيقَةِ نَاتِجُهَا وَثَمَرَتُهَا وَلُبُّها وَالدَّلِيلُ وَالبُرهَانُ على الصِّدقِ فِيهَا إنما هو طَاعَتُهُ وَامتِثالُ أَمرِهِ، وَذَلِكَ الحَقُّ هُوَ أَعظَمُ حُقُوقِ الرُّسُلِ التي جَعَلَهَا اللهُ لهم مِن لَدُنْ نُوحٍ إلى محمدٍ عليهم الصلاةُ والسلامُ، قال سُبحَانَهُ: وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذنِ اللهِ ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ تَقُولُ لأقَوَامِهَا، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنهُم يَقُولُ لِقَومِهِ: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، فَجَعَلُوا التَّقوَى للهِ وَحدَهُ، وَجَعَلُوا لهم أَن يُطَاعُوا.
وَِمن هُنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّهُ لا يجوزُ لأَحَدٍ أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وهُوَ مُحسِنٌ وَلا يَحِلُّ لِمُؤمِنٍ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَن يَأتيَ فَيَزعُمَ أَنَّ لِرَسُولِ اللهِ شَيئًا فَوقَ هَذَا، مُدَّعِيًا أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُجِلُّهُ وَيُوَقِّرُهُ، كَمَا يَفعَلُهُ بَعضُ مَن بُلُوا بِإِحيَاءِ البِدَعِ وَإِمَاتَةِ السُّنَنِ، مِنَ الذينَ يُقِيمُونَ في مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مَا يُسَمَّى بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ، حَيثُ يُنشِدُونَ الأَشعَارَ الشِّركِيَّةَ، وَيَتَغَنَّونَ بِالمَدَائِحِ الكُفرِيَّةِ، وَيَستَغِيثُونَ بِالرَّسُولِ، وَيَسأَلُونَهُ قَضَاءَ الحَاجَاتِ، أَو يَرجُونَهُ لِشِفَاءِ الأَمرَاضِ أَو تَفرِيجِ الكُرُبَاتِ، أَو أُولَئِكَ الذين يَستَقبِلُونَ قَبرَهُ وَيَطلُبُونَهُ الشَّفَاعَةَ لهم أَو يَتَوَسَّلُونَ بِهِ.
وَلَقَد كَانَت حَيَاتُهُ تَطبِيقًا عَمَلِيًّا لِلتَّوحِيدِ الخَالِصِ، وَتَعلِيمًا لِصَفَاءِ العَقِيدَةِ، وَدَعوَةً إِلى سَلامَةِ القَصدِ، وَنهيًا عَنِ الشِّركِ وَالكُفرِ، وتَحذِيرًا مِنَ الغُلُوِّ فِيهِ عليه الصلاةُ والسلامُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ أَوِ اليَمَنِ فَسَجَدَ لَهُ نهاهُ عَن ذَلِكَ وقال: ((لَو كُنتُ آمِرًا أَحَدًا أَن يَسجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرتُ المَرأَةَ أَن تَسجُدَ لِزَوجِهَا)) ، وَنهى عَنِ الانحِناءِ في التَّحِيَّةِ، وَنهى أَصحَابَهُ أَن يَقُومُوا خَلفَهُ في الصَّلاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَلَمَّا قال لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئتَ قال : ((أَجَعَلتَنى للهِ نِدًّا؟! بَل: مَا شَاءَ اللهُ وَحدَهُ)) ، وَقَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا تَتَّخِذُوا قَبرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيثُمَا كُنتُم؛ فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبلُغُني)) ، وَقَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((اللَّهُمَّ لا تَجعَلْ قَبرِي وَثَنًا يُعبَدُ، اِشتَدَّ غَضَبُ اللهِ على قَومٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ)) ، وَقَالَ : ((إِنَّ مَن كَانَ قَبلَكُم كَانُوا يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِني أَنهاكُم عَن ذَلِكَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا تُطرُوني كَمَا أَطرَتِ النَّصَارَى ابنَ مَريم، فَإِنما أَنَا عَبدٌ، فَقُولُوا: عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ الغُلُوَّ في الأَنبِيَاءِ وَالصَّالحِينَ وَرَفعَهُم فَوقَ مَنَازِلِهِمُ التي أَنزَلَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا أَمرٌ قَد وَقَعَ في أُمَّتَيِ الغَضَبِ وَالضَّلالَةِ: اليَهُودِ والنَّصَارَى، أُولَئِكَ الأَشقِيَاءُ الذين أَمَرَنَا اللهُ أَن نَدعُوَهُ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِنَا أَن يُجَنِّبَنَا طَرِيقَهُم، قال سُبحَانَهُ: قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ لاَ تَغلُوا في دِينِكُم غَيرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهوَاءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وقال تعالى: يَا أَهلَ الكِتَابِ لاَ تَغلُوا في دِينِكُم وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقِّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ ، وقال جل وعلا: وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابنُ اللهِ ذَلِكَ قَولُهُم بِأَفوَاهِهِم يُضَاهِئُونَ قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابنَ مَريَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبحَانَهُ عَمَّا يُشرِكُونَ.
وَلَمَّا أَمَرَنَا اللهُ سُبحَانَهُ أَن نَسأَلَهُ في كُلِّ صَلاةٍ أَن يَهدِيَنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ المُغَايِرِينَ لِلمَغضُوبِ عَلَيهِم وَلِلضَّالِّينَ كان ذَلِكَ ممَّا يُبَيِّنُ أَنَّ العَبدَ يُخَافُ عَلَيهِ أَن يَنحَرِفَ إِلى هَذِينِ الطَّرِيقَينِ، وَقَد وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخبرَ بِهِ النَّبيُّ حَيثُ قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم حَذوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، حتى لَو دَخَلُوا جُحرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُمُوهُ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَن؟!)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَا يَفعَلُهُ بَعضُ الرَّافِضَةِ المَخذُولِينَ أَوِ الصُّوفِيَّةِ المُخَرِّفِينَ مِن غُلُوٍّ في أَهلِ البَيتِ عَامَّةً أَو في رَسُولِ اللهِ خَاصَّةً إِنما هُوَ أَمرٌ مُحدَثٌ مُبتَدَعٌ مُختَرَعٌ، لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ وَلم يَرضَهُ رَسُولُهُ، وَلم يَفعَلْهُ مَن أُمِرنَا بِاتِّبَاعِهِم وَالأَخذِ بِسُنَّتِهِم مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ وَالصَّحَابَةِ المَرضِيِّينَ، وَلم يَصنَعْهُ أَحَدٌ مِن أَهلِ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ، وَإِنما هُوَ أَمرٌ جَاءَت بِهِ دَولَةُ العُبَيدِيِّينَ المُسَمَّاةُ زُورًا وَبُهتَانًا بِالدَّولَةِ الفَاطِمِيَّةِ، فَاحذَرُوا مِن ذَلِكَ وَكُونُوا مِنهُ عَلَى مَنَاعَةٍ، وَحَافِظُوا عَلَى عَقِيدَتِكُم، وَأَخلِصُوا للهِ تَوحِيدَكُم وَقَصدَكُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ أَصدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيرَ الهَديِ هَديُ محمدٍ ، وَشَرَّ الأُمُورِ المُحدَثَاتُ البَدَائِعُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَقُولُ النَّبيُّ : ((مَن أَحدَثَ في أَمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)) ، وفي رِوَايَةٍ: ((مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). وَإِنَّ مَا يُقِيمُهُ بَعضُ الجُهَّالِ في الثَّاني عَشَرَ مِن شَهرِ رَبيعٍ الأَوَّلِ مِن كُلِّ عَامٍ ممَّا يُسَمُّونَهُ عِيدَ المَولِدِ النَّبَوِيِّ لَهُوَ مِن جُملَةِ الأَعمَالِ المُحدَثَةِ المَردُودَةِ، وَالتي لَو كَانَت خَيرًا لَسَبَقَنَا إِلَيهَا سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَإِنَّهُم كَانُوا أَشَدَّ مِنَّا مَحَبَّةً لِلنَّبيِّ وَتَعظِيمًا لَهُ، وَهُم عَلَى الخَيرِ أَحرَصُ وَإِلى البِرِّ أَسبَقُ، وَلَكِنَّهُم عَلِمُوا أَنَّ مَحَبَّتَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ وَتَعظِيمَهُ في مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمرِهِ وَإِحيَاءِ سُنَّتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَنَشْرِ مَا بُعِثَ بِهِ وَالجِهَادِ عَلَى ذَلِكَ بِالقَلبِ وَاليَدِ وَاللِّسَانِ، فَعَمِلُوا بِذَلِكَ وَسَارُوا عَلَيهِ.
ثُمَّ إِنَّ عِيدَ المَولِدِ مَعَ كَونِهِ بِدعَةً مُحْدَثَةً مُنكَرَةً فَلا أَسَاسَ لَهُ صَحِيحًا مِنَ التَّارِيخِ، إِذْ لم يَثبُتْ أَنَّ وِلادَتَهُ كَانَت في تِلكَ اللَّيلَةِ، بَل لَقَدِ اضطَرَبَت أَقوَالُ المُؤَرِّخِينَ في ذَلِكَ عَلَى أَقوَالٍ سَبعَةٍ لَيسَ لِبَعضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رُجحَانِهِ عَلَى الآخَرِ، إِلاَّ أَنَّ بَعضَ المُعَاصِرِينَ حَقَّقَ أَنَّهُ كَانَ في اليَومِ التَّاسِعِ مِن شَهرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَمَهمَا يَكُنْ مِن أَمرٍ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ جَعلُ يَومِ وِلادَتِهِ مُنَاسَبَةً وَلا عِيدًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّنَا لم نَتَعَرَّضْ لِهَذِهِ البِدعَةِ بِالحَدِيثِ عنها لأَنَّهَا مَوجُودَةٌ في بِلادِنَا، فَإِنَّ بِلادَنَا وَللهِ الحَمدُ في أَكثَرِ أَجزَائِهَا لا تَعرِفُها وَلا تَعمَلُ بها، وَلَكِنَّنَا بُلِينَا في هَذَا الزَّمَانِ بِقَنَوَاتٍ ضَالَّةٍ مُضِلَّةٍ فَاتِنَةٍ مَفتُونَةٍ، تَنقُلُ مِثلَ هَذِهِ البِدعِ مِن بَعضِ أَجزَاءِ العَالمِ الإسلامِيِّ عَلَى أَنَّهَا مُنَاسَبَاتٌ إِسلامِيَّةٌ، وَقَد يُصَادِفُ هَذَا قَلبًا خَالِيًا مِنَ العِلمِ وَالبَصِيرَةِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ الحَقُّ وَمَا هُوَ بِالحَقِّ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَانتَبِهُوا لِذَلِكَ، وعَلَيكُم بِالسُّنَنِ وَاحذَرُوا البِدَعَ، وَاطلُبُوا العِلمَ الشَّرعِيَّ وَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ، فَإِنَّ مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: يَرفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ.
(1/5191)
خولة بنت ثعلبة
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, فقه
الطلاق, القصص, قضايا الأسرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/2/1428
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها مع زوجها. 2- الدروس والعبر المستفادة من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: وَاللَّهِ، فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلا وَالذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: ((يَا خُوَيْلَةُ، ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ)). قَالَتْ: فَوَاللَّهِ، مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ لِي: ((يَا خُوَيْلَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ)) ، ثُمَّ قرَأَ عَلَيَّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة:1-4]، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ((مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً)) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ، قَالَ: ((فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ)) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: ((فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ)) ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ)) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: ((قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا)) ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ.
أيها المسلمون، وردت هذه القصة في مطلع سورة المجادلة، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين من القرآن الكريم، وسور هذا الجزء تركز على البعد الداخلي والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين، فما دلالة هذا؟ دلالته أنه لا يصلح أن نغفل عن مشاكلنا الداخلية حتى لو كانت جزئية أو بسيطة بحجة أن المجتمع أو الأمة تواجه مشاكل ضخمة وكبيرة في فلسطين مثلاً أو العراق أو الصومال أو غيرها، وهذا لا يعني إغفال الشأن الخارجي، لكنه يعني أن الشأن الخارجي مهم والشأن الداخلي أيضًا مهم، والقرآن كان ينزل على النبي يعالج كلا الأمرين. وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله لذلك المجتمع الناشئ، وهو يوجهها ويربيها، فتتصل السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، فنشهد التوجيه الرباني ينزل في شأنٍ يوميٍ لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة لتقرر حكم الله في قضيتها. فما أحوجنا أحيانًا لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة في مواجهة التحديات الحضارية، تلك التحديات التي تشمل صورًا منوعة من التدافعات، وأهمها التدافع الفكري والثقافي.
أيها المسلمون، وبتدبّر آيات هذه القصة نجد أن لها بعدين:
الأول: وهو البعد الظاهر القريب؛ إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وقع في إحدى البيوتات الإسلامية بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول فشكت إليه وحاورته في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه ، حتى نزل الوحي بآيات الظهار في مطلع سورة المجادلة، لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية. هذا هو البعد الأول.
أما الثاني: وهو البعد التربوي العظيم، والذي يمكننا استجلاؤه من خلال النظرة المنهجية الكلية الفاحصة لآيات القصة وملابساتها، حيث يقدم الرد الهادئ لقضية مهمة طالما دار الجدال والتشكيك حولها، ألا وهي قضية مكانة المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي. وبتدبر آيات القصة من خلال تلك النظرة يمكننا أن نضع أيدينا على بعض الفوائد التي تجعل من خولة رضي الله عنها خير دليل وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني:
الفائدة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة:
لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها أن سبب المشكلة وبداية القضية أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت ـ وهو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما ـ في شيء مما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، أي: محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية، ثم بعد ذلك أراد زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول في شكواها ورفع القضية إليه. لقد تصرفت تصرفًا راقيًا حيال هذه المشكلة، وتحركت وجادلت، بل صممت على الحل العادل الذي يتوافق وظروف بيتها. ويؤكد ذلك الروايات الصحيحة عن القصة وكذلك اسم السورة. وكل هذا يؤكد أنها كانت على قدر من المسؤولية على استيعاب أي خلاف عائلي.
الفائدة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف:
وعندما نورد هذا المثال إنما نورده لنفتح بابًا في التربية، وهو إذا كان هؤلاء بشر يخطئون ويتشاحنون ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة لم تك لتغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني الفريد. وهو باب عظيم في التربية، وأن الله سبحانه يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون.
إن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة من سنن الله عز وجل الإلهية، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم. إذن لا يحقّ لنا أن نذهل أمام المشاكل والخلافات التي تقع، سواء في محيط الأفراد أو في محيط الأسرة الواحدة أو في محيط المؤسسات، ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل محرم، ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)).
ومن هذا الملمح التربوي المهم نضع أيدينا على سمة مهمة من سمات المنهج الذي أفرز هذا العصر الناصع، وهو أن المنهج الذي أخرج هذه الأمة الرائدة القائدة كان منهجًا واقعيًا، منهجًا يرقى بالبشر إلى أفق وضيء، ولا ينسى أنهم بشر يخطئون ويتعاتبون ويغفرون ويُعاقبون. وخولة رضي الله عنها تصرفت تصرفًا راقيًا حيال هذه المشكلة، فعندما نزل الوحي بالحل لقضيتها نجد أنها جادلت وحاورت وحصلت بحكمتها على أفضل الحلول، ثم كانت رفيقة بأسرتها، حتى بزوجها وهي في قمة غضبها منه ومن تصرفاته، وهي بذلك تفتح لنا بابًا عظيمًا في التربية، وهو أدب الاختلاف.
الفائدة الثالثة: الورع والخوف من الله تعالى:
لقد كان موقف خولة رضي الله عنها عظيمًا وفريدًا عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد، فقالت: (ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ).
تدبر أحداث تلك الواقعة والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الله تعالى، وتأمل كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود، وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله عز وجل، ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حلّ تلك المشكلة العائلية من أجل المحافظة على كيان الأسرة، وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع الذي ربيت عليه المرأة في ذلك المجتمع الرباني الفريد، فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين وهو حماية كيان الأسرة لا يسوِّغ أن يكون ذلك على حساب طاعته سبحانه.
الفائدة الرابعة: فقهها للمرجعية:
لقد حملت خولة رضي الله عنها شكواها إلى الحبيب ، فلم تذهب لغيره حتى وإن كانت عائشة رضوان الله عليها. وتأمل كيف أنها أتت وانفردت به ولم تشرك أحدًا في حل قضيتها. تقول عَائِشَةَ رضي الله عنها وهي حاضرة للمجلس، قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا. إنها مثل أيّ فرد داخل ذلك المجتمع تقر وتعلم أن لها قيادة ومرجعية يُرجع إليها، ولم يكن يجهل ذلك أي فرد سواء الرجل أو المرأة أو الطفل.
فإذا كنا على قناعة بواقعية البشر وأن من حقهم الخطأ فلا يحق أن ننسى الضابط الذي يحمي هذه الواقعية ويمنع انحرافاتها، ألا وهو ضابط المرجعية التي يرجع إليها عند حدوث الخلافات. وإذا كنا على قناعة في أن كل زوجين من حقهما الخطأ وأن حدوث أي مشاكل زوجية هو أمر طبيعي من سمات البشر فإننا نتعلم من خولة رضي الله عنها أهمية معرفة من له الحق في إصلاح هذا الخلاف، فيحافظ على السر ويحاول حل المشكلة.
الفائدة الخامسة: شجاعتها الأدبية وقدرتها على الحوار:
لقد ورد عن خولة رضي الله عنها أنها كانت تتمتع بقدرة فائقة على الحوار، حيث عرضت قضيتها بشجاعة وثقة ولباقة، وكيف أنها بهذه الصفة قد رفعت عن نفسها بل عن أمة كاملة الحرج والظلم إلى يوم القيامة. تدبّر كيف بدأت شكواها وهي تقول كما في بعض الروايات: يا رسول الله، أكلَ مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. فسألت النبي فقال لها: ((حُرِّمْتِ عليه)) ، فقالت: والله ما ذكر طلاقًا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: ((حرمْتِ عليه)) ، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن أنها قالت: يا رسول الله، قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهَرَ مني، فقال رسول الله : ((ما أُوحي إليَّ في هذا شيء)) ، فقالت: يا رسول الله، أوحِيَ إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: ((هو ما قلتُ لك)) ، فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله، فأنزل الله آيات سورة المجادلة.
ومما يدل أيضًا على قدرتها رضي الله عنها على الحوار ما حصل بينها وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن خلافته: فقد مرّ بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمر، قد كنت تدعى عُمَيْرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟! فقال: واللهِ، لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!
الفائدة السادسة: اعتزازها بكرامتها وإنسانيتها:
لقد ورد في أمر خولة رضي الله عنها أن أمها معاذة التي أنزل الله فيها قوله عز وجل: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ، وهي الأَمَة التي كان عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يُكرهها على البغاء والزنا والفجور، فأبت ذلك ونزلت فيها هذه الآية. قال السدي رحمه الله: "نزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه، فذكره أبو بكر للنبيّ ، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبيّ: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيه هذا".
ونستشعر من هذا الخبر ملمحًا تربويًا طيبًا، وهو أن خولة رضي الله عنها قد نشأت متأثرة تأثرًا بالغًا بأمها معاذة التي كانت مجرّد أمة مملوكة، ولكنها لم تك إمعة أو سهلة أمام سيدها الذي أكرهها على الفسق، فرفضت وكان لها موقف زكّاه الله عز وجل من فوق سبع سماوات وخلده، فكان سببًا في نزول آية سورة النور.
ولو تدبرنا محور الآيات التي نزلت في خولة وأمها رضوان الله عليهما لوجدناها تدور حول قوة الشخصية والاعتزاز بالرأي طالما كان على الحق، حتى كان موقفهما سببًا في نزول آيات بينات يتعبد بتلاوتها، وأحكام ثابتة نزلت لتوجه أمة إلى قيام الساعة، وهي السمة التي تبين مدى رفعة المنهج الذي كان سببًا في بث روح الكرامة والعزة والأنفة في روح حامليه حتى وإن كُنَّ نساءً أرقاء.
وكذلك أهمية التربية الأسرية، وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات، ويحملون الكثير من صفاتهم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، نواصل في استنباط هذه الفوائد والمعالم من قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها:
الفائدة السابعة: احترام خصوصية الزوج:
هناك ملمح تربوي عظيم نستشعره من الحديث الشريف الذي ورد عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، فعائشة رضي الله عنها وهي من هي لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها وبين أحد الضيوف خاصة عندما يكون امرأة، وهو الملمح الذي يبين مدى سعة أفق ذلك الجيل الرباني، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي كانت بين الزوجين.
الفائدة الثامنة: الثقة في القيادة الواعية:
عندما حملت خولة رضي الله عنها شكواها إلى الحبيب أخذ الأمر بجدية وحقق في الأمر، وتصرفه إنما يدل على أمور عظيمة تضع الضوابط المطلوب توافرها في كل قيادة راشدة، تلك الصفات هي التي جعلت كل فرد يرجع إليها في كل شيء، حتى ولو كانت مشكلة داخلية عائلية لا يدري بها أحد. تلك الثقة هي التي جعلت من الجميع حتى ولو كانت امرأة أن ترجع إليها بشكواها وتطلعها على أسرارها الداخلية.
كان على الرغم من مشاغله كحاكم مسؤول عن دولة عظيمة مترامية الأطراف، كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين الأفراد دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه. كان وهو من هو لم يدّع الدراية بكل شيء، بل قال رأيه وسمح لخولة رضي الله عنها أن تحاوره حتى نزل الوحي بالحل.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5192)
قواعد حال الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/3/1428
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مآسي المسلمين. 2- قواعد في التعامل مع الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يعيش المسلمون هذه الأيام في أماكن شتى أيامًا عصيبة ومصائب كبيرة، فما إن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق، وهذا ما يشهده الواقع اليوم من تطورات كبيرة في مراحل الصراع بين الأمة وأعدائها، في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها من بلاد الله تعالى. وفي كثير من هذه المراحل لا يملك الكثير من المسلمين ـ سواء ممن يعيشون في قلب الحدث كما يقال أو ممن هم بعيدون عنه بأجسادهم ولكن مع إخوانهم بقلوبهم ـ إلا الصبر والدعاء، إلى أن يمنَّ جل وتعالى بفرج من عنده.
أيها المسلمون، هذه بعض القواعد المهمة في هذا الباب، لعلّها تكون عونًا لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة:
القاعدة الأولى: أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حوادث وصراعات فهو بقضاء الله وقدره وبعلمه وإرادته ومشيئته، لا يخرج شيء من ذلك، كما قال سبحانه: إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ، وأنه سبحانه قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلن تموت نفسٌ قبل أجلها المحدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) رواه مسلم.
فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشرحت نفسه ولم يجزع أو يتسخّط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشغل بعبادة ربّه وتحصيل معاشه بنفسٍ مطمئنة، عكس من لم يؤمن بذلك، فتجد الهلع والخوف قد استولى على قلبه، فلا يجد للحياة طعمًا، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
القاعدة الثانية: أن الصراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية، وهذا الصراع قد يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو صراع دائم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسلام دينهم، كما قال سبحانه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُم إن استطاعوا. وقد يكون الصراع أيضًا بين أهل الحق أنفسهم، أو بين أهل الباطل أنفسهم، نتيجة الاختلاف في المواقف أو الأطماع. والشواهد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله سبحانه قد يولِّي بعض الظالمين بعضًا ويكون في ذلك الخير والفرج للمؤمنين، كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ نوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
القاعدة الثالثة: أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيوتهم وتهجيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم. وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة، فأنزل الله سبحانه قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُم ، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخالفة الرُّماة لأمر رسول الله ونزولهم من الجبل، فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي وغيَّرنا من حالنا وأقبلنا على طاعة ربنا، إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم.
القاعدة الرابعة: من أعظم ما يجب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهو الناصر والمعين، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ، والثقة بنصره وعدم الخوف من كثرة العدو وقوته، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم. ولنا في سيرة رسول الله خير برهان، فهو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته، ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين، إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون.
القاعدة الخامسة: إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله سبحانه الأعمالُ الصالحة، من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب ومادة قوته، كما أن الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محمد إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستعانة بالصلاة في سائر الأحوال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين. وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره، وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون.
القاعدة السادسة: أن النفس البشرية جُبلت على حبّ الحياة وكراهية الموت والقتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعترض على قضاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخيرُ والفرج وبداية النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخير لقصورنا البشري كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون. ولما عقد رسول الله صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجِع الرسول وأصحابه فلا يدخلوا مكة أصاب أصحابه رضي الله عنهم حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله ، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة رضي الله عنهم أصبح خيرًا بعد ذلك وصار سببًا لفتح مكة.
القاعدة السابعة: أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحليًا ووقتيًا، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونية قدرية، يجب أن نؤمن بها ونثق بوعد الله عز وجل، وأن يدعونا ذلك للتفاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريبًا ما تنقشع، فهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون. وكان إذا اشتكى إليه أصحابه رضي الله عنهم ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله، فكان يقول: ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين)) رواه الإمام أحمد. إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله تعالى: وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم.
القاعدة الثامنة: إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله تعالى وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئذ أقرب ما تكون إلى الخير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربي بربط ما يقع ويحدث بالسنن الإلهية الكونية. والنبي كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام وهي قرب مفارقته للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)) رواه الإمام أحمد.
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر، تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية. إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة والخوف من المستقبل إلى الثقة به، وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
القاعدة التاسعة: أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسلمين ينبغي أن لا يكون مانعًا للمؤمن من السعي في عمارة الكون وتحصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقًا بالدنيا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي وجّه بعمارة الأرض حتى آخر لحظة من عمر الدنيا إذ يقول : ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)) رواه الإمام أحمد.
إن الواجب على أهل الإيمان خصوصًا وقت الأحداث المبادرةُ والسعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحيانًا من عدوه.
القاعدة العاشرة: أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه؛ بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي وانتصر الروم فرح الصحابة رضي الله عنهم بذلك؛ لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
القاعدة الحادية عشرة: في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخباريًا عبر قناة إعلامية، والتي أصبحت أكبر مصدر لها لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ويكفي لبيان أثر ذلك مثال واحد حدث زمن النبي ، عندما أُشيع خبر مقتله في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة رضي الله عنهم عن القتال.
والإسلام جعل منهجًا واضحًا عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبّت والتبيّن منها، بل جعل من يحدّث بكل ما سمع كذّابًا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم. وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن حفاظًا على أمن المجتمع وسلامته.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة النبيّ المصطفى الأوّاب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الغفور الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفّارًا، وتوبوا إليه إنّه كان توّابًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد أخبر عليه الصلاة والسلام بما يكون في الأمّة بعده إلى قيام الساعة من تفرّق واختلاف ونزاع وشقاق، ينشأ عنه فتنٌ عظمى ومحنٌ كبرى، يوقد نارَها ويُذكي جذوتَها أعداءٌ متربّصون وكفرةٌ حاقدون أو جهلةٌ قاصرون منحرفون عن منهج الحق والعدل، فتتأجّج نار الفتن في الأمة، وتشتدّ ضراوتها، ويستشري ضررها، ويتفاقم خطرها، ويَجلّ خطبها، وتلتبس عندئذ كثير من الحقائق، وتختلط كثير من المفاهيم، وتختلّ الموازين، ويهلك بسببها خلق كثير، ويحتار جرّاءها ذوو العقول والبصائر. وهكذا شأن الفتن إذا عظمت في الأمة.
معاشر المسلمين، إن المدافعة بين الإسلام والكفر ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فَقَدَ استشعار المدافعة فقد الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقسامًا بين أشتات المطامع والأهواء، قال الله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين ، وقال تعالى: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء.
أيها المسلمون، يخطئ كثيرًا من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بدعًا في تاريخهم الطويل، كلا، فالأمر ليس كذلك، بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة وينحدر أخرى بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله : ((من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود وابن ماجه بسند جيد، والقارعة هي الداهية؛ لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت حتى اغتُصب الحجر الأسود بضعَ سنين، فما عاد إلى موضعه إلا بعد محن وشدائد.
أيها المسلمون، إن الناظر في واقع العالم اليوم إن كان ذا لب وبصيرة فإنه لن يتمالك من قوة الفهم إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس. فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفًا ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكنًا حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله، كما حدث ذلك عندما سقطت حاضرة الخلافة بغداد في يد التتار المجرمين.
فنقول: إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق من محاور متعددة أورثت لدى المسلمين جبنًا وخورًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، انطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثلت في إذكاء التخلف العلمي والتخلف الاقتصادي والصحفي، والتحدي الثقافي في مجال الدراسات الإسلامية والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية والإعلامية، وإثارة الحروب الأهلية والنعرات الطائفية، ومع ذلك بقيت أساليب العصور الوسطى حين يُطْلب من بعض الدول أن تقف موقف المتفرج حتى يفرغ لها لتعاقب.
معاشر المسلمين، إن أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيًا عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقًا هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتيه المهزولتين أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقَّه، ويسألُها إنصافَه، ويطلبُ إليها بمدْمَعه لا بمدفعه، ويناديها باسم المدنية وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة فما له عندهم إلا التلويح بالعصا الغليظة والقصف والسحق، كما هو حاصل اليوم في العراق وفي عدد من بلدان المسلمين.
كم في العراق وكم في القدس ذو شجنٍ شكا فردّدتِ الأصداء شكواه
بني العقيدةِ إنّ القرحَ مسَّكُمو ومسَّنا نَحن فِي الإسلام أشباه
شعبٌ يُقتل والدنيا تشاهدهم كأنّهم من بنِي الإنسان ما كانوا
فيهم من البؤس والتشريد ملحمَة خوفٌ وجوع وتقتيل وحرمان
صوتُ استغاثتهم يكوي الفؤادَ وما من منقذ أوَما للناس آذان؟!
كل ذلك ـ أيها المسلمون ـ مصداقٌ لقول المصطفى : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قيل: أوَمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: ((لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) رواه أبو داود وهو صحيح. هجمت على المسلمين الدنيا فتنافسوها، فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم ، ونسوا قول الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُون ، وقول الله عز وجل: إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِه.
ألا ما أحوجَ الأمّةَ أن تدرُس أسبابَ النّصر والهزيمة بمنظورٍ جديد ورأي سديد وموقف رشيد، وأن تدقِّق في المقاصد والغايات لاعتلاء شرفِنا السامق ومجدِنا الشامِخ بإذن الله، وحذارِ حذار من اليأس والقنوطِ والإحباط، وإلى مزيدٍ من التفاؤل والاستبشار، فالنصرُ للإسلام وأهله، والقوة لله جميعًا، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5193)
محبة الرسول
الإيمان
الإيمان بالرسل, خصال الإيمان
إحسان بن صالح المعتاز
مكة المكرمة
مسجد الربوعي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفهوم محبة رسول الله. 2- الأدلة على وجوب محبة الرسول. 3- صور من محبة السلف الصالح للرسول. 4- كيف نثبت محبتنا لرسول الله ؟ 5- بدعة المولد. 6- حقيقة الدولة العبيدية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديثنا في هذه الخطبة حول قضية إيمانية عقدية من أصول عقيدة المسلم التي يعيش عليها حتى يلقى ربه عز وجل سالمًا غانمًا بإذنه تعالى، هذه القضية هي محبة رسول الله الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، فتلقى رسالة ربه عز وجل، فبلغها وأداها أتم البلاغ صلوات الله وسلامه عليه حتى توفاه الله عز وجل، وقد اكتمل للأمة أمر دينها وشريعة ربها، ولم يترك عليه الصلاة والسلام صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّنها ووضحها وجلاّها لأمته، وتركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كله من تمام شفقته ورحمته بأمته وحبّه لهم، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير ما جزى نبيًا عن أمته، وجعل حبه واتباعه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا والناس أجمعين.
إخوة الإسلام، ما مفهوم محبة رسول الله ؟ إنّ ذلك المفهوم يعني أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله ميلاً يتجلّى فيه إيثاره على كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين؛ وذلك لما خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته.
وبالجملة فأصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحِب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه كحب الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كحب الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقًا، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي ، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خصال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والإبعاد من الجحيم.
وحبّ المسلم لرسول الله عمل قلبيّ من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعًا لقوة الإيمان أو ضعفه.
وأما الأدلة على وجوب محبته فأكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ. ففي هذه الآية توعد الله من كان أهله وماله أحبَّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، ومعلوم أن الله لا يتوعد أحدًا بمثل هذا الوعيد الشديد إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: "فكفى بهذا حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ؛ إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، ثم فسّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله".
ومن الآيات الدالة على وجوب محبته قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ. فهذه الآية إخبار عن مكانة الرسول بين المؤمنين، كما أنها أيضًا إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول ، فهو أولى بهم من أنفسهم، ولا يكون كذلك حتى يكون أحبّ إليهم من أنفسهم. ويبيِّن ابن القيم رحمه الله أن هذه الآية دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، ثم يوضح أن هذه الأولوية تتضمن أمرين: أن يكون الرسول أحب إليه من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه، ومنها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول ، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرّف قط إلا ما تصرف فيه الرسول ، الذي هو أولى به منها.
فتبين من هذا أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الرسول أولى به من نفسه في كل شيء، وأن يكون حكمه في أي شيء مقدمًا على رغبات النفس وتطلعاتها، بل إن الحياة لتعدّ هينة ورخيصة بجانب تحقيق ما فرضه الله ورسوله وإن كان على خلاف هوى النفس؛ لأن نفوسنا تدعونا إلى الهلاك والرسول يدعونا إلى النجاة، فكان أولى بنا من أنفسنا.
وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض، فلما غلبت الأهواء واتُّبِعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوسًا، والسبب هو جعل محبته مجرّد شعارات وكلمات معسولة وأشعارا واحتفالات لا تمتّ للواقع بصلة، ثم الغفلة عن اتباع هديِه وسنته وأوامره واجتناب نواهيه.
وأما الأدلة من السنة فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)). فهذا الحديث من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول ؛ لأن المؤمن لا يستحق اسم الإيمان الكامل ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. ومعنى ذلك ومن لوازمه أن تكون أوامر الرسول ونواهيه مقدمة على كل الأوامر والنواهي، فالحب القلبي يستلزم الاتباع والانقياد في الظاهر، فإذا كانت هناك محبة فعلية نتج عنها محبة كلام النبي وتقديمه على كل أحد، وجعل أوامره ونواهيه نصب عينه طيلة الوقت والعمر، فيعرفه في جميع أوقاته، ويعيش معه في كل حركاته وسكناته، ويرى أن سنته وهديه ألذ إليه من كل شيء.
ولقد فهم سلف الأمة هذه المحبة وعرفوها حق المعرفة، فالتزموها وجعلوها شعارًا لهم، حتى قادتهم إلى محبة الله ومرضاته، فأصبحوا أئمة يُهتدى بهم ومنارات يستدل بها.
هذا أبو عبد الله محمد بن المنكدر رحمه الله من أعلام التابعين قال عنه ابن الماجشون: "إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني"، وما ذاك إلا لما كان عليه من السمت الصالح والمنظر الخاشع الذي إذا رأيته ذكرت الله عز وجل. وكان محمد بن واسع إذا سُئل عن حديث بكى، حتى يرحمه الجالسون من شدة محبته وشوقه لرسول الله. وأما أيوب السختياني رحمه الله فقال عنه الإمام مالك بن أنس: "رأيته مرتين بمكة يحدث، فما أخذت حديثه حتى رأيت منه منظرًا عظيمًا، كان إذا ذكر حديث رسول الله بكى حتى نرحمه، فعند ذاك أخذت عنه الحديث"؛ لأن من كانت هذه حاله فإنه يستحيل عليه الكذب على رسول الله. وأما الإمام الجليل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب رحمه الله تعالى عالم المدينة فإنه يعطينا درسًا لا يُنسى في اتباع هدي النبي ولزوم سنته، قال تلميذه الواقدي: سألته عن حديث رسول الله : ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود)) ، فقلت له: أتأخذ بهذا؟ فضرب صدري وصاح كثيرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله وتقول: تأخذ به؟! نعم آخذ به، وذلك الفرض عليَّ وعلى كل من سمعه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك.
فرحمة الله على هذا الإمام الجليل، كيف لو عاش إلى زماننا ورأى ما نحن فيه من تضييع وتفريط في أوامر الرسول وكيف آل الحال بكثير من الناس إلى التجرؤ وارتكاب ما نهى عنه رسول الله ؟! بعكس ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم الذين سمعتم شيئًا من أخبارهم في محبة رسول الله ، بل وفي تنفيذ وتطبيق أوامره دقيقها وجليلها، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملت به، حتى مرَّ بي أن النبي احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا، فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت".
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى شدة التأسي والاقتداء بالنبي كيف بلغت، هذا وإن مسند الإمام أحمد بن حنبل تزيد أحاديثه عن عشرين ألف حديث سوى ما رواه في كتبه الأخرى، ومع ذلك فما من حديث كتبه إلا وقد عمل به.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا محبة رسول الله الكاملة الصادقة والاتباع الكامل لهديه وسنته.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومما سبق يتبين لنا أهمية موضوعنا وارتباطه القوي بإيمان المسلم وتوحيده، ألا وهو محبة رسول الله ، فإذا اتضح لنا هذا فيأتي السؤال: وكيف نثبت محبتنا لرسول الله ؟
والجواب هو أن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتسير وفق هدي الرسول الكريم وتحت أوامره وتوجيهاته، بمعنى أنك لا تقدِّم بين يديه، أي: لا تفعل شيئًا تظنه من محبته وهو لم يدلك عليه ولم يأمرك به، لأنك إن أحببته فعلاً وقبل ذلك عرفته حقَّ المعرفة وعرفت أنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح الناس وكان أشفق الناس على أمته وكان أعلم الناس، فليس هناك عالم أعلم بدين الله من رسول الله ، وكيف يكون ذلك وهو صاحب الرسالة ومبلِّغ الدين ومعلم الناس الخير؟! ولنضرب على ذلك مثلاً: فهذه السيارة التي نركبها ونقودها لو أتى مهندس سيارات وقال: إني أعلم كيفية تركيب هذه السيارة أفضل من الذي صنعها، لقلنا له: لا يمكن ذلك؛ لأن الذي صنعها أعلم بها، ومهما تعلمت فلا تزال عالة عليه وعلى علمه وصناعته، وكذلك الحال هنا، فرسول الله أعلم بدين الله من كل أحد، كما أنه عليه الصلاة والسلام كان أكمل الخلق في تبليغ دين الله، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة ولا شاذة ولا فاذة إلا بينها وجلاّها تمام الجلاء. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض، وما ذاك إلا باتّباعهم رسول الهدى على نهجه وطريقته، ولما غلبت الأهواء واتُّبِعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوسًا، ذلةٌ وهوان بعد عزة، وضياعٌ وتفرق بعد القوة والتمكين، والسبب هو تقديم الأهواء وشهواتِ النفس على ما يحبه الله ورسوله ، فدخلت كثير من العبادات المخترعة المبتدعة والتي لم تكن موجودة في زمن النبي وصحابته الأطهار، وأصبحت دينًا يُتَّبع، مع أن رسول الله لم يشرعها ولم يبينها ولم يحث أمته عليها، مع اقتناع الجميع وتسليمهم بأن رسول الله لم يتوفاه الله حتى بين لأمته كل شيء، حتى قال ذلك اليهودي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة!
وإذا كان كذلك فكيف فات على النبي ونسي أن يبين لأمته أهمية الاحتفال بمولده ويحثهم على ذلك؟! فإما أن نقول: إنه لم يكن يعلم أهمية ذلك، وبالتالي فهل نكون نحن أعلم بدين الله من رسول الله ؟! وإما أن نقول: إنه علم أهمية ذلك ولكنه لم يبلغه لأمته، وهذه مصيبة أكبر؛ إذ كيف يكتم النبي شيئًا من الدين الذي أمره الله بتبليغه للناس حيث يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ؟! فحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يفعل ذلك. وإما أن يقال: إنه علمه عليه الصلاة والسلام ولكنه لم يفعله وترك ذلك لأمته لكي تفعله وتهتدي إليه، وهذا يُرد عليه بمثل الرد السابق ويضاف عليه: بأننا أمرنا باتباع هدي رسول الله واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونعني بهم: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين ما عرفوا المولد ولم يفعلوه ولا شيئًا من ذلك، بل ولم يفعله التابعون ولا تابعوهم، بل ولم يفعله أهل القرون المفضلة، وهم الثلاثة قرون بعد النبي ، وإنما فعله وابتدعه أتباع الدولة الرافضية العبيدية التي كانت تدعى زورًا وبهتانًا بالفاطمية، فسبحان الله كيف يترك هذا الأمر رسول الله وصحابته الكرام المحبون له والقرون المفضلة الأولى حتى تأتي دولة رافضية تكفر أبا بكر وعمر وتشتم عائشة وتدعي محبة رسول الله وتعلمنا ما ينبغي تجاهه؟!
وممن انتشر في زمانه الاحتفال بالمولد الملك المظفر أبو سعيد كوكبري الذي كانت وفاته سنة ثلاثين وستمائة، وكان يمد في سفرته في احتفاله بالمولد خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان الصوفية فيعمل لهم سماعًا ـ أي: غناءً ورقصًا ـ يبدأ من الظهر وحتى الفجر من اليوم الثاني، ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار، أي: ينفق في يوم واحد عشرة أضعاف ما ينفقه على الحرمين الشريفين والمياه بدرب الحجاز في عام كامل.
وإن الواجب علينا أن نعبد الله وفق ما شرعه الله على لسان رسوله ، لا وفق ما نريد ونهوى؛ فإن العبادة مبناها على التوقيف، أي: ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله.
والعجيب أن هذه الاحتفالات بالأزمنة التي فيها حوادث إسلامية وطلب البركة بواسطتها لم تُعرف في أول الأمر إلا عن شرّ الفرق من الباطنية، وهم بنو عبيد القداح الذين تسموا بالفاطميين، يقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: "ولم أورد أحدًا من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور، منها أنهم غير فاطميين كما يزعمون، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها، وهذا جهل إذ أن جدهم مجوسي، ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والخيِّر منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسبّ الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة".
فهؤلاء هم الذين سنوا الاحتفال بالمولد، لا حبًا في رسول الله ، وإنما لهدم الدين بإدخال البدع فيه، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني: "كان المهدي عبيد الله باطنيًا خبيثًا، حريصًا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض"، وقال الذهبي: "كان القائم بن المهدي شرًا من أبيه، زنديقًا ملعونًا أظهر سب الأنبياء". فمن الذي يقتدي بهؤلاء ويظن أنهم سنوا سنة حسنة ويعتقد أن أهدافهم سليمة؟!
وإن المحب الصادق هو من يقتفي أثر الرسول في شكله وهيئته وكلامه وصلاته وعبادته والتخلق بما كان يتخلق به ، وأن يجتنب المحرمات الظاهرة والباطنة طيلة عمره وحياته، في كل لحظاته وسكناته قدر استطاعته، وليس من يحتفل بمولده وقتًا محدودًا ثم يعود بعدها مباشرة لمزاولة الذنوب والمعاصي وترك الأولاد ذكورًا وإناثًا بعيدين عن الهدي النبوي والتربية الدينية الجادة، بل والاستهزاء بمن يتمسك بالدين ويلتزم به، فهنا يظهر الفرق ويتضح الصادق من غيره.
(1/5194)
قاعدة في إنكار البدع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
إحسان بن صالح المعتاز
مكة المكرمة
مسجد الربوعي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة محبة الرسول. 2- حجج وأدلة إقامة الموالد ودحضها. 3- البديل الشرعي من إقامة الموالد. 4- واجبنا تجاه أهل البدع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تحدثنا فيما مضى عن محبّة النبي ، وأنها من أهم الواجبات والأعمال التي يتعبد فيها الإنسان المسلم لربه سبحانه وتعالى، وبيَّنا أن محبته تستلزم دوام ذكره واقتفاء أثره واتباع هديه والائتمار بأمره والانتهاء عما نهى عنه ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كما أن محبته يجب تقديمها على كل محبوب ومرغوب، فيجب تقديم حبه على حبّ النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن هذا الحب لا بد أن يترجم إلى واقع عملي محسوس، وإلا فما الذي يثبت صدق هذه المحبة؟! لأن كل من ادعى دعوى فإن الواجب عليه تقديم ما يدل على صدق دعواه وحجته، وكما قال رسول الله : ((لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء أقوام وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)). فهذه قاعدة جليلة عظيمة تعمل بها جميع المحاكم، بل والقوانين والأنظمة حتى الكافرة منها، أن كل من ادعى شيئًا فيلزمه تقديم ما يثبت دعواه وإلا بطلت، وكما قال الشاعر:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيّنات فأصحابها أدعياء
ويلزم من ذلك أن يحبّ الإنسان ما أحبه رسول الله ، وأن يبغض ما أبغضه، وأن لا يعبد الله إلا بالطريقة التي شرعها له رسول الله وبيَّنها له؛ لأن الجميع يؤمن ويقر ويصدِّق بأن رسول الله قد بين كل ما يلزم بيانه عن ربه عز وجل، ولذلك امتن الله على عباده المؤمنين بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، آية تقرؤونها لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيدًا، وقرأ الآية السابقة، فقال عمر رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم اليوم والساعة التي أنزلت فيه، نزلت ورسول الله على بعيره في يوم عرفة في حجة الوداع). فالدين كامل والشرع واضح أيها المسلمون، وكلنا متفقون على ذلك، إذن فكل ما كان دينًا على عهد رسول الله وأصحابه الكرام فهو الدين، وكل ما لم يكن دينًا حينذاك فليس بدين اليوم ولا غدًا.
وهذه قاعدة جامعة نافعة ينبغي لكل مسلم أن يعيها ويتدبرها ويعمل بها، وإذا أردنا تطبيق ما سبق على ما نجده في حياتنا المعاصرة فإننا سوف نجد الخلل الكبير الذي أصاب طائفة من المسلمين بابتداعهم واختراعهم بعض العبادات والقربات استحسانًا منهم، وظنا منهم أنها من البدع الحسنة التي لا بأس من فعلها والعمل بها.
ومن ذلك إقامة الموالد مثل مولد النبي واعتبار ذلك من البدع الحسنة، وكل ما ذكرناه فيما سبق إنما هو رد على ذلك، باعتبار أنك لا تستحسن شيئًا إلا إذا كان الذي أمامك بشرًا مثلك يصيب ويخطئ، ولكن إذا كان المرسِل هو الله سبحانه وتعالى جل وعلا الذي لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض وكان المُرسَل هو رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى وكان الواسطة جبريل عليه السلام الذي وصفه ربه سبحانه بأنه قوي وأمين فأي شيء ستستدركه على هذه السلسلة؟! وأي شيء سيجده عقلك البشري القاصر؟! وهل قد فات على ربك سبحانه وتعالى؟! تعالى الله عن كل نقص وتقصير.
ثم إن قولك: إنها بدعة حسنة يردّ عليه بقول نبيك وحبيبك في الحديث الصحيح الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه فقال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
فهذه الوصية من رسول الله التي أوصى بها أمته من بعده كأنها وصية مودع، وتعرفون أن المودع إذا أوصى فإنه لا يوصي إلا بأهم الأشياء وأعظمها على الإطلاق وأشدها خوفًا على أمته، وقد بينت هذه الوصية أن كل البدع ضلالة، وبالتالي فليست هناك بدعة حسنة.
وثبت في الصحيحين عن النبي قوله: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي قوله: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). ومعنى ((رد)) أي: مردود على صاحبه، فأي فائدة يجنيها المسلم من عمل يكون ردًا عليه، أوَليس من الأولى والأوجب الانشغال عما قد كلفنا به؟!
ومن الحجج التي يوردها المحتفلون بالمولد النبوي أن المولد ذكرى سنوية يتذاكر فيها المسلمون نبيهم فيزداد حبهم وتعظيمهم له، وهذه الحجة يجاب عنها بأن المسلم لا يحتاج إلى تذكر رسوله في يوم واحد في السنة؛ لأن المسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسوله. إن الذي تقام له ذكرى خشية النسيان هو من لا يُذكر، أما من يذكر ولا ينسى بل ولا يعيش المسلم لحظة من لحظاته ولا ساعة من ساعاته إلا وهو يعيش مع رسول الله في هديه وسنته وجهاده ودعوته وسائر شؤونه، فكيف تقام له ذكرى من هذا شأنه؟! أليس هذا من تحصيل ما هو حاصل؟!
وأما قضية سماع بعض الشمائل المحمدية الطاهرة والنسب الشريف فينبغي للمسلم أن يقرأها ويتعلمها ويتدارسها طيلة العام، ولا يكفي في ذلك مجرد تلاوة قصة المولد هكذا عابرًا.
وأما حجتهم في إعلان الفرح في يوم مولده فإما أن يكون الفرح بالرسول فليكن الفرح دائمًا كلما ذكر الرسول ولا يختص بوقت دون وقت، وإما أن يكون الفرح باليوم الذي ولد فيه، فهذا اليوم هو نفسه اليوم الذي مات فيه، ولا أحسب عاقلاً يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه، وموت الرسول أعظم مصيبة أصابت المسلمين، حتى إن كل من أصيب بمصيبة فإن عليه أن يتذكر مصيبته بموت النبي ، حتى يتم العزاء والسلوان في مصيبته، كما أخبر بذلك رسول الله فيما صح عنه.
وأما الاجتماع على الذكر فالاجتماع على الذكر بصوت واحد لم يكن معروفًا عند السلف، فهو في حد ذاته بدعة منكرة. وأما المدائح والقصائد بالأصوات المطربة الشجية فهذه بدعة أقبح ولا يفعلها إلا المضطربون في دينهم والعياذ بالله تعالى. وفي الغالب فإن الدافع لمثل ذلك هو محبة رسول الله وتعظيمه، ولكن لا تنال طاعة الله ومحبته إلا بما يحبه الله ويرضاه ويشرعه.
ومن الدوافع لدى البعض لإقامة مثل تلك الاحتفالات التقليد الأعمى والعصبية الممقوتة، فهو ينظر إلى آبائه وأجداده وقرابته، فلا يرى منهم إلا ذلك، ويرى أن من ينكر عليه في الغالب إنما هم أناس من غير جماعته وقبيلته ومنطقته، فيأتيه الشيطان ويقول له: أتترك ما عليه قرابتك وجماعتك وقد عاشوا على ذلك قرونًا لمثل قول هؤلاء؟! أوَكلُّ من سبق وسلف من آبائك وأجدادك على الباطل وهؤلاء الجهلة على الحق؟! وبالتالي يحثه الشيطان ويدفعه لمتابعة من سلف من أقاربه وجماعته، حتى لا يكون عدم فعله للمولد بمثابة تحقير الآباء والإخوان والقرابات والحطّ من قدرهم وشأنهم واتهامهم بأنهم لم يكونوا على صواب. وقضية اتباع الآباء والأجداد فيما هم عليه من الباطل واتباعهم على ذلك كانت من أكبر العقبات التي صدت كثيرًا من الناس عن الحق، حتى إنها صدت مشركي الأمم السابقة ومشركي قريش حتى قال قائلهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
والحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فمن قال بالحق واتبعه ودعا إليه استجبنا له ولو كان أبعد بعيد، ومن ترك الحق واجتنبه وتنكب الباطل تركناه ولو كان أقرب قريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
وقد يقول قائل بعد كل هذا الكلام الطويل: فما البديل؟ والجواب: إن البديل عن ذلك أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالجد والاجتهاد، وأن يلزم المسلم نفسه باتباع سنة نبيه كل وقت وحين، سواءً على نفسه أو أهله وأولاده، فإن كثيرًا من الناس حتى الصالحين منهم لا يعنى بشؤون أهله وأولاده وتعليمهم أمور دينهم وإرشادهم للحق والهدى ولا يولي ذلك أيّ اهتمام، وهذا كله من التفريط في هذا الواجب لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
كما أن من الوسائل المفيدة لتدارس سيرة الرسول اقتناء الكتب الموثوقة، والتي تحدثت عن سيرة النبي ، وقراءتها دائمًا مع الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان وغيرهم، وبالتالي يكون المسلم في ذكر دائم لرسول الله وشوق إليه.
ومما يعين على ذلك الاطلاع على كتب الحديث النبوي كصحيح البخاري ومسلم وبقية كتب السنن، ففيها تفصيل كبير عن كافة تفاصيل حياة النبي في جميع شؤونه وأحواله. ومن الكتب الجيدة في هذا مجال السيرة كتاب السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري، وكتاب الرحيق المختوم للمباركفوري وغيرهما كثير، وكلاهما في السيرة النبوية، والأفضل للمسلم أن يقتني هذين الكتابين، ثم يحثّ أفراد أسرته على قراءتهما، ولو عمل مسابقة ووضع فيها أسئلة متنوعة عن مواقف متعددة في حياة رسول الله بحيث يستطيع الإجابة من اطلع على الكتابين وقرأهما ورتب على ذلك جوائز قيمة لكان ذلك حسنًا؛ إذ بهذه الطريقة يشجع أهله وأولاده على قراءة سيرة النبي ، وفي نفس الوقت يشغل وقت فراغهم بالنافع من الأعمال، كما أن هناك تفصيلاً كاملاً عن السيرة النبوية بكل دقائقها وتفاصيلها موجودا على الأشرطة في حقائب مستقلة للعديد من العلماء والدعاة الموثوقين، وهي مجموعة مفيدة وتصلح لجميع الطبقات، ومن أولاهم النساء والفتيات في البيوت وغيرهم من الشباب والشيوخ وغيرهم.
وأما عن الذكر الذي يقال في مثل تلك المناسبات التي ما أنزل الله بها من سلطان فالبديل عنها هو دوام ذكر الله والاطلاع على هدي رسوله طيلة الوقت والاقتداء بهديه واتباع سنته، والمسلم مندوب إلى أن يحافظ على أذكار الصباح والمساء والأذكار الشرعية الواردة عن رسول الله ، وهي سهلة ومتوافرة وموجودة في كل مكان.
كذلك يحافظ المسلم على الصلوات الخمس في المساجد، خاصة البردان، لحديث: ((من صلى البردين دخل الجنة)) ، والبردان هما الصبح والعصر. وكذلك المحافظة على السنن الرواتب وعددها اثنتا عشرة ركعة، ثنتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وثنتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والمحافظة على صلاة الليل والذكر بعدها، كما كان رسول الله يفعل ذلك ويحث أمته عليه، وأن يحافظ على سماع إذاعة القرآن الكريم والقنوات الهادفة، ففيها الخير الكثير بإذن الله، واقتناء الأشرطة النافعة من تسجيلات القرآن الكريم والمحاضرات والدروس النافعة.
وفي الختام نود أن ننبه إلى قضيتين:
أولاهما: ما يفعله ويقوله بعض من يقيم أو يحتفل بتلك الموالد من أنه إذا نصحه أحد أو كلمه في شأنها وأنها بدعة لا يجوز فعلها فتجد بعضهم لا يتورع أن ينسب من ينكرها بوصفها بدعة محدثة أن ينسبه إلى الكفر والمروق من الدين، بقوله: فلان يبغض الرسول ، لأنه لا يحب المولد أو يكره الاحتفال بالمولد. وهو يعلم أن من يكره الرسول أو لا يحبه فإنه يكفر بإجماع المسلمين، وتكفير المسلم لا يحل أبدًا، ومع العلم أنه لا ينكر البدعة ولا ينهى عنها ويحذر منها إلا مؤمن وصالح أيضًا، فكيف يُكفَّر أو يُتهم بالكفر والعياذ بالله؟! وقد قال رسول الله : ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)). فهل من جزاء الإحسان والنصيحة الإساءة والجحود والنكران؟!
والأمر الثاني الذي ينبغي التنبيه عليه: هو أن من رأى أخاه المسلم مبتلى بمثل هذه الأفعال فإنه يجب عليه أن ينظر إليه نظرة شفقة، فينبغي عليه أن يبذل له كل الأسباب الممكنة لكي يخرجه مما هو فيه، وذلك بالنصيحة الصادقة المخلصة التي تصدر من قلب مشفق غيور، ويكون قصده من ذلك هو إنقاذ أخيه المسلم وليس التشفي والتعيير والإساءة، وليعلم أنه غالبًا ما دفع هؤلاء للاحتفال بالمولد إلا حبهم لرسول الله وتعظيمه، ولكنهم أخطؤوا الطريق، فينبغي تصحيح المسار وتعديله لهم، وذلك بسلوك أفضل الطرق الموصلة إلى هدايتهم وإخراجهم مما هم فيه من البدعة إلى السنة، وذلك باللين والتلطف وعدم الغلظة والشدة فهي تضر ولا تنفع.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل محبته أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، وأن يرزقنا محبته المحبة الشرعية التي يحبها الله عز وجل دون غلو ولا تفريط، وأن يجعل لنا من ثمرات محبته اتباعه والاقتداء به والاهتداء بهديه في كل شؤوننا وأحوالنا...
(1/5195)
إن الله يرضى لكم ثلاثا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
11/3/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بضدِّها تتميّز الأشياء. 2- ثلاث خصال جاهليّة. 3- أمر الرسول بتوحيد الله تعالى. 4- أمر الرسول بالاجتماع. 5- أمر الرسول بطاعة ولاة الأمر. 6- أساس الأخوة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا اللهَ عِبادَ الله، واذكُرُوا أنّه خَلقَكم لعِبَادَتِه وَحدَه دُونَ سِواه، فأخلِصُوا له الدّينَ، وأحسِنوا العمَلَ، فالسّعيد من أَخلَصَ دينَه لله وتابَعَ رَسولَ الله حَتى أتاهُ أمرُ اللهِ.
أيّها المسلِمون، إنّه إذَا كانتِ الأشياءُ تتميَّز بِضِدِّها وإذا كَانَ الضّدُّ يظهِر حُسنَه الضِّدُّ فإنَّ الأمورَ التي خالفَ فيها رسولُ الله أَهلَ الجاهليَّةِ مِن أعظمِ ما يُبيِّن ذَلِك ويجلِّي حَقائِقَه؛ ولِذا كَانَت مَعرِفتُها مُتأكِّدةً والعِلمُ بها ممَّا لاَ يُستغنَى عنه.
وإنَّ من أظهَرِ ذَلِكَ ثَلاثَ خِصالٍ قامَ عَلَيها دينُهم ومَضَى عَلَيها أَسلافُهم واستبانَ بها جَهلُهم وضَلالهُم وعِظَمُ خُسرانهم: أمّا الأولى فإِشراكُهم بالله ودُعاؤُهم غيرَه، وأمّا الثانيَةُ فتفَرُّقهم وعَدَمُ اجتِمَاعِهم، وأمّا الثالِثَةُ فمُخالفتُهم وَليَّ الأمر وعدَمُ الانقيَادِ لَه.
فقد كانُوا يتعبَّدون بالشّركِ فيَدعونَ غيرَ الله تعالى؛ مَلَكًا مقرَّبًا أو نبِيًّا مُرسَلاً أَو عَبدًا صَالحًا أَو صَنَمًا أو شجَرًا أو كَوكبًا أو غَيرَ ذلك، ويرَونَ في هذَا الإشراكِ تعظيمًا لهَذا المعبُودِ من دونِ الله، ويَطلُبُون شفاعتَه عِندَ الله تعالى، ظنًّا مِنهُم أنّ هذَا المعبودَ يحبّ مِنهُم ذَلِك كمَا حَكَى سبحانَهُ عَنهم قولَهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3].
ثمّ هُم بعدَ ذَلِكَ مُنتَهِجونَ نهجَ التَّفرُّق والاختِلاَفِ، رَاضُون بِه، مُستحسِنون له، حتى أَورَثَهم احتِرابًا وأَحقادًا، وأفقَدَهم أنفُسًا وأَموالاً وأَولادًا.
ويَرونَ معَ ذلك أنَّ مخالفةَ وَليِّ الأمرِ وعِصيَانَه وعَدَمَ الانقيادِ لَه فضيلةٌ تُحمَد وشَرَفٌ يُقصَدُ ومَنقَبةٌ تُطلَب، وأنَّ السَّمعَ والطاعةَ مهانةٌ يجِب الترفُّعُ عَنهَا وضَعَة تَلزَم الأنَفةُ مِنها ومَذَمَّةٌ تتأكَّد البراءةُ منها ويتعيَّن التجَافي عنها، بل كانَ بَعضُهم يجعل ذلك دينًا يُتَعبَّد به وقُربى يَزدلِف بها.
فخالَفَهم رسول الهدَى صلوات الله وسلامُه عَلَيه بما جاءَه مِن رَبِّه من البيِّناتِ والهدَى في كلِّ ذَلِك، فأمَرَهم بالإخلاصِ لله وحدَه في العِبادةِ، وأعلَمَهم أنَّ هذا هُو دينُ الله الذي لاَ يقبَل سبحانه مِن أحدٍ سِواه، وأخبرَهم أنَّ كلَّ من تَنَكَّب عَن هَذَا الصراطِ وحَادَ عن هذا السَّبيل ففعَل ما استَحسَنوه مِن عِبادةِ غيرِه بِصَرفِ أيِّ نوعٍ من أنوَاعِ العِبادةِ له فَقَد غَدا مشركًا لا قبولَ لعمله ولا غفرانَ لذَنبه، كما قال عزّ اسمه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]، وكما قال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]. وبَيَّنَ لَهم صَلَوات الله وسلامه عليه أيضًا أنَّ هذا الأَمرَ هو قِوام الدِّين كلِّه وأساسُه ولُبّه، ولأجلِه افترقَ الناسُ إلى مُسلمٍ وكَافِر.
كما أمَرَهم عليه الصّلاة والسلام بالاجتِماعِ والاعتِصام بحبلِ الله الَّذي هو دِينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمان القرآنِ عبد الله بن العباس رَضِي الله عنهما [1] ، أو الجَماعةُ في قول عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه [2] ، أو القُرآنُ في قَولِ غيرهما من السَّلف [3] ، وحَبلُ الله شامِلٌ لذَلِك كلِّه، فاللهُ تعالى أرَادَ أن يكونَ هذا الاعتصامُ بحبلِه سببًا لأن يَكونَ اجتماعُ الأمّةِ ولأن تكونَ وحدتُها متماسِكَةً راسخة؛ ولذا فإنَّه وضَع لهَا أساسَين لا صَلاَحَ لها إلاَّ بهما:
أمَّا الأوّل فهوَ أَن يَكونَ الاجتماعُ والاتِّحاد حولَ كِتابِ الله، وذلك يَضمَن الأساسَ المتينَ للوَحدةِ؛ إِذ ليسَ مِنَ الممكِن اجتماعُ القلوبِ على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ شَرعًا أَن تجتمِعَ على باطلٍ، بل يجِب أن يكونَ اجتِماعُهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطِل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوافَر لهذَا الاجتماعِ دُستورُه الذي تلتقِي عِندَه القلوب وتَنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلِمون، وبذَلِك تَتَوافر لهَذا الاجتماعِ كلُّ الضَّوابطِ التي تصَحِّح تصرُّفاتِ الفرد وتوَجِّه سُلوكَ المجموعِ وتُسعِد حَياةَ النَّاس؛ لأنّه قائم ـ أي: هذا الاجتماع ـ على أسَاسِ كتابٍ جمَع الله فيه خَيرَي الدّنيا والآخرةِ، ونهى بِهِ عَن كلِّ شرٍّ في الدّنيا يكون مآلُه الخسرانُ في الآخرة.
وأمّا الثاني فَهو أن يكونَ هذا الاعتصامُ والاجتماع مُستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتَمَع المسلم، لا يتَخَلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صَوتٌ، وذلك هو ما جاءَ جلِيًّا وَاضحًا في قولِه تَعَالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا الآية [آل عمران: 103]، فإنَّ الله تعالى في هذهِ الآيةِ ـ كما قال بعض أهلِ العلم ـ لم يقتَصِر على مجرَّدِ الأمر بالاعتصامِ بحبل الله، بل جاء فيها قولُه سبحانه: جَمِيعًا ليؤكِّدَ بِذَلك شمولَ هذا الاعتِصَامِ لكلِّ أبناء المجتَمَع المسلم، وهي الصّفةُ التي أرادَها الله لهذَا الاجتماع، فالأمّةُ كلُّها عَلَى هَذَا متّحِدَةُ الصّفِّ بأمر الله، مجتمعةٌ على هَدَفٍ واحدٍ هو عبادةُ الله وحدَه والسّعيُ إلى رضوانِه كَما قالَ سبحانَه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92].
وَأَوجَبَ عَلَيهم كَذَلِك السَّمعَ والطّاعَةَ لوَليِّ الأمرِ المسلِم والنّصيحةَ لَه، وحرَّم عليهم مخَالَفتَه وعدَمَ الانقيَادِ له إِلاَّ أن يأمُرَ بمعصيةٍ أو يَرَوا منه كُفرًا بواحًا ـ أي: بيِّنًا محقَّقًا ـ عِندَهم مِنَ الله فِيهِ بُرهان.
جاءَ بيانُ ذلك في الحديثِ الذي أخرجَه مسلِم في صحيحه ومالكٌ في الموطَّأ واللَّفظ له عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رَسول الله أنّه قَالَ: ((إنَّ الله يَرضَى لكم ثَلاثًا ويسخَطُ لكم ثلاثًا، يَرضَى لكم أن تعبُدُوه ولا تشركوا به شَيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جمِيعًا ولا تَفَرَّقوا، وأن تُناصِحوا مَن ولاّهُ الله أمرَكم، ويَسخَط لكم قِيلَ وقالَ وإِضاعةَ المال وكَثرَةَ السّؤال)) [4] ، وقَالَ عَليهِ الصلاة والسلام في الحَديثِ الَّذي أخرجَه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((مَن كَرِه مِن أميرِه شيئًا فليَصبِر، فإنّ مَن خَرَجَ من السّلطانِ شِبرًا مَاتَ مِيتةً جاهِليّة)) [5] ، وفي الصّحيحينِ أيضًا عن جُنادَةَ بن أبي أميّةَ أنّه قال: دَخَلنا على عُبادةَ بنِ الصامِت وهو مَريضٌ فقُلنا: حدِّثنا ـ أصلَحَك الله ـ بحديثٍ ينفعُ الله بِه سمِعتَه مِن النَّبيِّ ، فقال رضي الله عنه: دَعَانا النبيُّ فبايَعَنَا، فكانَ فيمَا أخَذَ عَلينا أن بَايَعَنا على السّمعِ والطّاعة في مَنشَطِنا ومَكرهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرةٍ عَلَينا، وأن لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه إلاَّ أن يَكونَ كُفرًا بَواحًا عِندَكم مِنَ الله فيه برهان [6].
ولا رَيبَ أنَّ في الأخذِ بهَذا الهديِ النَّبَوِيِّ الحكيم انتظامَ مَصالحِ الدِّين والدنيا بسدِّ أبوابِ الفِتنَةِ وتوجيهِ الطاقاتِ وصَرف الجهودِ في كلِّ ما تُجتَلَب بهِ المنافِع وتُستَدفَع به المضَارّ ويُصانُ به كيَانُ الأمّة وتُحمَى به الحَوزَة ويُكبَت بِه الأعداء ويَعمُّ به الأمنُ ويَكثُر به الخَير ويمتدّ الرّخاء، فأيُّ النّهجَين إذًا أحقُّ بالاتّباع يا عباد الله: نهجُ رسولِ الله وهديُه أم نهجُ الجاهِلِيَّةِ وضلالها وإِفكُها؟! وكيفَ تصِحُّ الحيدَةُ عن هذا الهديِ النَّبويِّ والطريقِ المحمديّ إلى طُرقِ أهلِ الفتنةِ والفُرقَةِ والاختِلاف وما أفضَت إِليهِ هذه الطرقُ مِن تكفيرٍ وتَفجِير واستباحةٍ للدِّماء المحَرَّمةِ وقتلٍ للأنفسِ المعصُومَةِ واختِطافٍ وترويعٍ وتخرِيبٍ للعمران وإضاعةٍ للأموال وتبديدٍ للطاقات إلى غيرِ ذلك من الأضرَارِ والأوزارِ؟! فحَذَارِ مِن سُلوكِ طَريقِ الفِتنة ـ يَا عِبادَ الله ـ حَذارِ، فليس وراءَ ذلكَ وَاللهِ إلاّ الدّمارُ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102، 103].
نَفَعَني الله وإِيَّاكم بهَديِ كِتابِه وبِسنَّةِ نَبَيِّه محمّد ، أَقولُ قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمِين من كلّ ذنب فاستَغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيمُ.
[1] انظر: زاد المسير (1/433).
[2] جامع البيان للطبري (4/30).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).
[4] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1715)، موطأ مالك: كتاب الجامع (1863).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7053)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1849).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7056)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكرمَ الأمّةَ بدين الإسلام، أحمده سبحانه الملك القدّوسُ السلام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد صلاةً وسلامًا دائمين ما تعاقبتِ الليالي والأيّام.
أمّا بَعدُ: فيا عِبادَ الله، قالَ بَعضُ العلماءِ: إنَّ الأخوّةَ في العقيدة لها وشيجةٌ وقُربى بين المتآخين دنيا وأخرَى؛ فإنَّ الأخَ في إحساسِه بمراقَبَةِ الله يَرعَى أَخَاه موجودًا وغائِبًا، وهو يحفَظه في نفسِهِ وفي مالِهِ وَفي عِرضِه؛ لأنه يعدّ ذلك واجبَه الذي تفرِضُه الأخوّةُ في الدين، ولأنه سوفَ يَنَال على ذلك جزاءً طيّبًا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]؛ ولِذَلِكَ قامَتِ الأخوّةُ الإسلاميّة على أساسٍ من القِيَم الأخلاقية التي أغنتِ الإسلامَ عن سَنِّ القوانين وفرض التشريعات في كثيرٍ من المواقف، فهذه النظرةُ الحكيمة إلى بناءِ الإخاء الإسلاميّ واضحةٌ في دينِنَا أشدَّ الوُضوح قويّةُ التأثير، فقادت مِن قبلُ جموعَ المؤمنين إلى النصرِ في الدنيا، وإلى رضوان الله في الأخرَى، وهي كفيلة الآن أيضًا أن تقودَ الأمّةَ في مُواجهةِ التّحديَّات من حولها إلى كلِّ نصر وعزَّةٍ وسُؤدد، وتضمَن مع ذلك الأمنَ النفسيّ وثوابَ الله.
فاتقوا الله عبادَ الله، واستمسكوا بحبل الله بينكم، واعملوا على القيامِ بحقوق الأخوَّة في الله امتثالاً لأمر اللهِ ومتابعةً لرَسولِ الله وحِرصًا على تحقيقِ كلِّ خَير يُرجَى ودَفعِ كلِّ شرٍّ يُخشَى.
واذكُروا على الدَّوامِ أنَّ الله تعَالى قَد أمَرَكم بالصّلاةِ والسّلامِ على خير الأنام، فقالَ سبحَانَه في أصدقِ الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهُمَّ صلِّ وسَلِّم علَى عَبدِك ورَسولِك محَمَّد، وَارضَ اللَّهمَّ عَن خلَفائهِ الأربعة...
(1/5196)
ادع إلى سبيل ربك
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, قضايا دعوية
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
11/3/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غاية الرسالة المحمدية. 2- أمر الله تعالى بالدعوة إلى دينه. 3- فضل الدعوة إلى الله وعظم أجرها. 4- يسر الدعوة إلى الله وتنوع سبلها. 5- ضوابط الدعوة. 6- إرشادات للدعاة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عِبادَ الله ـ حقَّ التَّقوى، فالتَّقوَى لاَ يَقبَل ربُّنا غَيرَها، ولا يَرحَم إلاَّ أهلَها.
أيّها المسلِمون، أرسَلَ الله رَسولَه بالهدَى ودينِ الحقِّ إلى النَّاسِ جميعًا، ورِسالتُه باقيَةٌ إلى يَومِ الدِّين، وغَايتُها هدايةُ الخَلق أجمعين؛ ليظفَروا بسعادةِ الدَّارَين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]. وقد بلَّغ رسالةَ ربِّه، وأمَر المسلمين بالسَّير على مِنهاجه. والدعوةُ إليه هي وَظيفةُ الرّسُل جميعًا، ومن أجلها بَعَثهم الله إلى أقوامِهِم، قال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. ومِن نعوتِ الله لصفوةِ خَلقِه كونُه داعيًا إلى الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
وأَعَادَ الله إِليه الخطابَ بأمرِه بالدَّعوة إليه والاستمرارِ عليها وعدمِ التخلِّي عنها، فقال جلَّ وعلا: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج: 67]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرعد: 36].
والسَّعيُ إلى هدايةِ الخَلقِ وَصيَّةُ المرسَلين لأتباعِهم، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ : ((إنّك تأتي قومًا أهلَ كتاب، فليكن أوّلَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وأني رسولُ الله)) متفق عليه.
وأمَرَ الله عمومَ المجتمعاتِ بالقيام بها فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104]. وكلُّ متَّبعٍ لرسول الله حقٌّ عليه أن يقتدِيَ به في الدَّعوةِ والعَمَل بما شَرَع لعبادِه، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].
والكَمَالُ أن يَكونُ الشخصُ كاملاً في نفسِه مكمِّلاً لغيره، قال ابن القيِّم رحمه الله: "مَن عَلِم وعَمِل وعَلَّم فذَاك يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السماوات" ومن عَلِم مسألةً من المسائِل قامَت عَليه الحجّةُ فيها ولو لم يَكن مِنَ العلماءِ، قال النبيُّ : ((والقرآنُ حجّةٌ لك أو عليك)) رواه مسلم.
وفي زمنِ الفِتَن وضَعفِ الإقبالِ عَلَى الله تتأكَّد الدعوةُ والنُّصح لعبادِه على كلِّ فردٍ مسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالنفوسُ إلى معرفة ما جاء بهِ النبيُّ أحوجُ منها إلى الطعامِ والشراب؛ فإنَّ هذا إذا فات حصَل الموت في الدنيا، وذاك إذا فاتَ حَصَل العذاب".
وإخراجُ الناس من العمَى إلى الهدى خيرُ الأعمال وأبرُّها عند الله؛ إذ قولُ الداعية أحسنُ الأقوال في ميزان الله، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
وكلُّ عملٍ يقوم به مَن اهتَدَى بدعوتِك لك فيه نصيبٌ وإن كنت تحتَ الثّرى، فأبو بكر الصدّيق أسلم على يَدَيه عثمان بنُ عفان، وعثمانُ جهَّز جَيشَ العسرةِ، وفي جيش العُسرةِ من ضوعِفَت له الدرجات، وهكذا سارَتِ الدَّعوةُ من صحابيٍّ إلى آخر، فحَصَل للجميع الأجرُ العظيم، وللأوّل النصيبُ الأوفى من ذلك، قال عليه الصلاة والسّلامُ: ((مَن دَعا إلى هُدى كان له من الأجرِ مِثلُ أجورِ مَن تَبِعَه، لا ينقص ذلك من أجورِهم شيئًا)) رواه مسلم.
واهتِداءُ رجلٍ واحدٍ بسَبَب دعوتك ونصيحتك خيرٌ لك من أنفَسِ الأموال، يقول عليه الصلاة والسلام: ((فوَالله، لأن يهدِيَ الله بكَ رَجلاً واحدًا خيرٌ لك مِن حُمُر النَّعَم)) متفق عليه.
وطريقُ الدَّعوة ميَّسرٌ لا قيودَ فيه؛ إذ البلاغة والفصاحةُ ليست شرطًا في نصحِ عِباد الله، فكليمُ الرحمن موسى عليه السلام ثَقُل لسانه عن البيانِ وسأل ربَّه بقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28]، ولم يكن ذلك مانِعًا له من إبلاغِ رِسالة ربِّه، فأصبحت أمّتُه أكثرَ الأمم بعد أمّةِ نبيِّنا. فبلِّغ ما تَعلَمُه مِن الشَّريعة، ولا يَكنِ الحياء مانعًا لك عن تبليغِ الخيرِ للغَير، فربُّك يقول: وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [المؤمنون: 62].
ومِن رأفةِ الله بعبادِه أنَّ سُبُل الدّعوةِ إليه سبحانَه متَنَوِّعَة يَقوم بها كلُّ مسلم، فناصِحُ الفرد على خَلوةٍ به دعوةٌ، ونُصحُ الأب لابنِه قُربَة، وصَلاحُ الأمّ قدوة، ودَعمُ سبُل الخير بالمال فضيلةٌ، وتسهيل طرُق الدعوةِ دعوةٌ، وبهذا يصبِح المجتمع كلُّه على اختلافِ فِئاتِه دعاةً إلى الله؛ بالمال والقَلَم واللسان.
والدّعوةُ الصادقة ما كانت على وفقِ ضوابطِ الشريعة، ودينك دينٌ عظيم منصورٌ بنصرِ الله له، فلا تداهِن غَيرَك حالَ الدعوةِ إليه، ولا تُلَوِّثها بارتكابِ مَعصيةٍ فيها ولو خُيِّل إليك أنَّ القلوبَ تَنجَذِب بها إليك، قال عزَّ وجلَّ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9].
وسُنّةُ الله قضَت أنَّ ذوي العصيان أكثرُ عددًا ممن يطيع الرحمن، قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49]، فلا تَضعُف عن نصحِ الخلق ولو كثُر الانحراف، ولا تيأَس ولو اعتَزَّ الباطل، يقول الفضيلُ رحمه الله: "لا تغتَرَّ بالباطل لِكثرةِ الهالكين، ولا تَستَوحِش منَ الحقِّ لقِلَّةِ السالكين".
ولا تَتَطلَّع إلى ثمرةِ دعوَتِك بكثرةِ المستَجيبين، فَفَتحُ القلوبِ مرَدُّه إلى علاَّم الغيوب، وعمَلُك مقصورٌ على البيانِ والتعليم والدعوة، وليست لكَ الهدايةُ وتحويل القلوبِ، قال جلَّ وعلا: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [المائدة: 99]. فبلِّغ وربُّك المسدِّد، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17].
كم سَعَى النبيُّ إلى إِسلامِ عمِّه أبي طالب، فلم يتحقَّق له ما أرادَ، وأنزَلَ الله عليه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56]. ومِنَ الأنبياء مَنِ اجتهدَ في دعوة قومِه سنينَ عددًا، فلم يستجيبوا له، قال عليه الصلاة والسلام: ((عُرضت عليَّ الأمم فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيّ ومعه الرجلُ والرَّجلان، والنبيّ وليس معَه أحدٌ)) متفق عليه.
فتزوَّد من العلم واسلُك سبيلَ الحكمة، فرُبَّ كلمةٍ قد تُسعِد بها أقوامًا على مرِّ الدُّهور، ولا تَتَوانَ عن الدّعوة على اختلاف الأزمانِ والأحوالِ، فنوحٌ عليه السّلام دَعا قومَه ليلاً ونهارًا سِرًّا وجِهارًا، ويوسُفُ عليه السلام وهو في سِجنِه نصَحَ غيرَه: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39].
ومَن استَضَاء بنور الهِداية فعليه أن يُضيء غيرَه من ضِيائها، والإحسانُ إلى الخَلقِ يَستمِيلُ القلوبَ، وبحُسنِ المنطِقِ والخُلُق ينجَذِب الخَلق. والنّبيُّ كان داعيةً في أخلاقِه ومعامَلاته، وقد كان غلامٌ يهودِيّ له يخدِمُه، فمرِض فَعَادَه عَلَيه الصّلاة والسَّلام، فقعد عِند رأسِه وقال له: ((أسلم)) ، فنظر الصبيُّ إلى أبِيه وهو عنده، فقال أبوه: أطِع أبا القاسم، فأسلَمَ الغلام، فخرج النبيُّ وهو يقول: ((الحمدُ لله الذي أنقَذَه من النار)) رواه البخاري. وقَد فُتِحَت بِلادٌ من أَصقَاعِ المعمُورَةِ بالكلِمَة والمعامَلَةِ الحسنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظِيم، ونفعني الله وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآيات والذِّكرِ الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستَغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين مِن كلِّ ذَنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ عَلَى إحسانه، والشكر له علَى توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيها المسلمون، الرّكونُ إلى الأسبابِ في النُّصح فحَسب لا يكفِي في الدّعوة ونصح الآخرين، ومِنَ النّصحِ للمدعو الإكثارُ من الدعاء له في ظَهرِ الغَيب، فكم من دعوةٍ صَادِقَةٍ كانت سبَبًا في إصلاحِ أقوامٍ وتغيُّرِ أحوال، فانتقل بسَبَبِها كافر إلى الإسلامِ، وتحوَّل بها عاصٍ إلى الطاعةِ وقوّة الإيمان، فأكثِر مِنَ الدعاء للعاصي بالهدايةِ والثبات، وأنت مُثابٌ على دعوتك ولكَ مِثلُ ما طلبتَه لأخيك من الخير والهدى، يقول المزَنيّ رحمه الله: "ما فاقَ أبو بكر أصحابَ رسولِ الله بصوم ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ كان في قلبه: الحبّ للهِ والنصيحَة لخلقه".
ولازِمِ الصبرَ على ما تلاقيه من الأذى، فالعاقبةُ للتقوى. والطّاعةُ نورٌ يقذِفُه الله في الصّدورِ، فيؤثِّر في استجابةِ القُلوب، وكَثرةُ التعَبّد لله والخضوعُ له نِعمَ العونُ على تحقيق المبتَغَى، فالقلب إذا صفَا أثَّرَ، وإذا تكدَّر أضرَّ. واستعِن في دعوتِك بالضَّراعة إلى الله أن يبارِكَ فيك وفي دَعوتك، وأن يسدِّدَ خُطاك، وأن يُصلِحَ نيتَك.
ثمّ اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزِيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيِّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبِه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنّا معهم بجودِك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدّين...
(1/5197)
حقوق الجار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عابد بن عبد الله الثبيتي
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الجار وبيان أنواعه. 2- أهمية الجار في الإسلام. 3- حقوق الجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، ما منا إلا ويعيش بين الناس ويخالطهم، ولا غنى لأحد منا عن الناس من حوله؛ ولهذا فإن اقتراب الناس بهذه الصورة مظنّة لهضم الحقوق بينهم أو ظلم بعضهم لبعض، فتختلط الأموال، ويطغى أهل النفوذ والقوة على من لا نفوذ له ولا سلطان؛ لذلك جاءت الشريعة من لدن حكيم حميد، فأوجبت حقوقا شرعية يطالب بها أهل الإسلام، ويؤاخذون على منعها أو التقصير فيها، ومن تلك الحقوق حق الجوار.
والجار هو كل من جاورك سواء كان جواره لك في مسكن أو دكان أو عمل أو غيرها، واعلموا أن الجيران ثلاثة:
1- جار مسلم قريب، فهذا له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
2- وجار مسلم ليس بقريب، فهذا له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
3- وجار كافر، أبقَت له الشريعة حقَّ الجوار.
وللجوار أهمية عظيمه في الدين يا عباد الله، وذلك لأنه أولا: وصية الله عز وجل ورسولِه، فقد أمر الله بالإحسان إلى الجار في نسق عشرة أوامر في كتابه، فقال تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ البخاري: "ذِي الْقُرْبَى: الْقَرِيبُ، وَالْجُنُب: الْغَرِيب، والْجَارُ الْجُنُبُ يَعْنِيك الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ". وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)) متفق عليه.
ثانيا: أن إساءة الجوار من عادات الجاهلية التي بعث الله نبيه لتغييرها، ويتضح هذا من جواب جعفر بن أبي طالب للنجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد، فقال له جعفر: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام ـ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام ـ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا. رواه أحمد.
ثالثا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للتفاضل بين الناس، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
رابعا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ)) رواه أحمد وحسنه الألباني.
خامسا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للثناء والمدح في الدنيا، وعكسه موجب للذم والعقوبه. ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال يهجو حيا من العرب غدروا بأصحاب النبيّ فقتلوهم على ماء يقال له الرجيع:
إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع فسل عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الْجار بينهم فالكلب والقرد والإنسان مثلان
لو ينطق التيس يوما قام يَخطُبهم وكان ذا شرف فيهم وذا شان
سادسا: ومما يدل على أهمية حق الجار أن الله عظَّم الخطيئة في حق الجار، فعن الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: ((مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟)) قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُه،ُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: ((لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)) ، قَالَ: فَقَالَ: ((مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟)) قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: ((لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ)) أخرجه أحمد وصححه الألباني.
سابعا: أن الجار الصالح من أسباب سعادة العبد، وعكسه من أسباب شقائه، فعن سلمان قال رسول الله : ((أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق)) خرجه الألباني في الصحيحة.
عباد الله، إن الله جعل للجار حقوقا شرعية على جيرانه، فإذا قام بها المسلمون بينهم سادت روح الألفة والمحبة والتسامح، واكتملت في المجتمع المسلم صفاته المثالية التي تعلو المجتمع بصبغة إسلامية رائعة تميزه عن باقي المجتمعات. فمن حقوق الجار:
أولا: كف الأذى عنه، وهذا الحق واجب على المسلمين، فلا يجوز لهم بحال إيذاء أحد من الناس ما دام مسالما، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ)) رواه البخاري، وعَنْه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي النَّارِ)) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)) أخرجه أحمد وصححه الألباني.
ومن صور إيذاء الجار ـ عباد الله ـ حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس، أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته ومحارمه، أو إزعاجه بالصراخ والأصوات المنكرة، أو إيذائه في أبنائه.
وأما من ابتلي بجار يؤذيه فعليه بالصبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَاصْبِر)) ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ)) ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. رواه أبو داود وقال الألباني: "حسن صحيح".
لهذا ـ معاشر المسلمين ـ فإننا مأمورون بتحرّي حقوق جيراننا والقيام بها؛ لننال الفضل في الدنيا، وننجو من المؤاخذة في الآخرة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن من حقوق الجار أيضا الحقّ الثاني: الإهداء إليه وبذل المعروف، فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)) رواه البخاري، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)) رواه مسلم. فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: ((إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ)) رواه مسلم. وذُبح لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)) رواه الترمذي. وسألت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ فقالت: إِنَّ لِي جَارَتيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: ((إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)) رواه البخاري.
أيها المؤمنون، إن الهدية ليست فقط للجار الفقير المحتاج، بل الهدية أشمل من هذا، فقد أهدي للنبي مع أنه لو أراد المزيد من الرزق لدعا الله فأعطاه ما شاء من متاع الدنيا، بل كان يهدي للناس ويقبل الهدية، حتى إنه ليستغني بها هو وأزواجه أياما طويلة، بل أشهرا عديدة، فقد كانت عَائِشَة رضي الله عنها تَقُول لابن أختها: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ نَارٌ، قَالَ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟! قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَار، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ. متفق عليه
فهذه هي السنة في العطية للجار، وعدم منع المعروف عنه، وإلا صار خصما له يوم القيامة عند الملك العدل سبحانه، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قول رسول الله : ((كم من جار متعلّق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه)) وحسنه الألباني.
الحق الثالث: محبّة الخير له كما يحبها العبد لنفسه وعدم حسده، فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ ـ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ ـ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) أخرجه مسلم.
الحق الرابع: مساعدته ماديا فيما يحتاج إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)) ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ للناس لما رأى من تقصيرهم في حقوق جيرانهم: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. رواه مسلم.
ولقد ضرب أصحاب رسول الله أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي لهم وثناءه عليهم، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: ((إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)) متفق عليه.
الحق الخامس: الحفاظ على عوراته وعدم خيانته في أهله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)) رواه مسلم، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: سألت رَسُولُ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَر؟ُ قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) ، قُلْت:ُ ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ)) ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ رواه البخاري.
الحق السادس: مواساته وعدم إضجاره وإحزانه، خاصة إذا كان كبير السن، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/554): سمعت محمد بن حامد البزاز يقول: دخلنا على أبي حامد الأعمشي وهو عليل، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أنا بخير لولا هذا الجار، يعني أبا حامد الجلودي، دخل عليّ أمس وقد اشتدّت بي العلّة فقال: يا أبا حامد، علمت أن زنجويه مات، فقلتُ: رحمه الله، فقال: دخلت اليوم على المؤمل بن الحسن وهو في النزع، ثم قال أيضا: يا أبا حامد، كم عمرك؟ قلت: أنا في السادس والثمانين، فقال: إذًا أنت أكبر من أبيك يومَ مات، فقلت: أنا بحمد الله في عافية فعلت البارحة كذا، واليوم فعلت كذا وكذا، فخجل وقام.
كن في البلاد إذا ما الْجار جار بِها كالراح في الكاس لا تبقى على ميل
واجف الخليل وبادر بالرحيل وقل هذا الدواء الذي يشفي من العلل
عباد الله، هذه بعض حقوق الجوار التي شرع الله للمسلمين فعلها، فلنبدأ من هذا اليوم بالإحسان إلى جيراننا والقيام بحقوقهم، ولنطرح الحقد والحسدَ جانبا، ولنُنَقِّ أنفسنا وضمائرنا من كلّ ما يكدّر صفو العلاقة مع جيراننا، ومن كان منا بينه وبين أحد من جيرانه نزاع أو خصومة فليُدخل بينها من جيرانه من يكون سببا في إصلاح ما فسد.
اللهم وفقنا لخيرِ الأعمال والأقوال لا يوفِّق لخيرها وأحسنها إلا أنت، وجنّبنا شرَّها لا يجنّب شرها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين...
(1/5198)
من أحكام الأسعار
الأسرة والمجتمع, فقه
البيوع, قضايا المجتمع
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
18/3/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رعاية الشريعة لمصالح الفرد والمجتمع. 2- مشروعية البيع والشراء. 3- امتناع الشارع من التسعير. 4- حالات يجوز فيها التسعير. 5- مفاسد المغالاة في الأسعار. 6- الترغيب في إرخاص الأسعار. 7- تحريم الكذب في البيع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فيا أيّها المسلِمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتَسَب وطاعته أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، جاءَتِ الشريعة الإسلاميّةُ برعاية مصلحةِ الفرد والمجتَمَع وتحقيقِ العدلِ بَين الناسِ ومَنعِ الظلمِ والجَورِ والشّطَط ورَفعِ الضَّررِ والعنت والحرَج. وممّا أقرَّته الشريعة في بابِ المعاملاتِ تَركُ الناس يَبِيعون أموالَهم على ما يختَارون من القيمةِ وما يرغَبون من الثّمن، وتمكين التجارِ مِن تحديدِ الأسعار في الأشرِيَة والبياعات والسِّلَع والخدمَاتِ وتَقويم أنواع التّصرّفات، وعدم تقييدهم أو تعطيلهم أو الحدِّ من تعاملهم ما دامت عقودُهم عن تراضٍ منهم واتِّفاق، ما لم تشتمل على مخالفةٍ لقواعد الشريعة وأحكامها، قال جلّ في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، وعن جابر قال: قال رسول الله : ((دَعوا النّاسَ يَرزُق الله بعضَهم من بعض)) أخرجه مسلم.
وأبَاحتِ الشريعةُ للمَالِكِ الصحيح الملكِ أن يبيعَ سِلعَتَه بأكثَرَ مِن ثمنها حالاًّ أو مؤجَّلاً، ولم تحدِّد حدًّا ينتهي إليه في الرِّبح، فعن شبيبِ بن غرقدةَ قال: سمعتُ الحيَّ يتحدَّثون عن عروةَ أنَّ النبيَّ أعطاه دينارًا ليشتريَ به شاة، فجاءَه بدينار وشاة، فدعا له رسولُ الله بالبركة في بيعِه، وكان لو اشترَى الترابَ لربح فيه. أخرجه البخاري.
كما أجازتِ الشريعة للمالِكِ الصحيحِ الملك العارِفِ بقيمةِ السِّلَع بيعَ مالِه الكثير بالتافِهِ اليسيرِ إذا لم يَكن بقصدِ الإضرارِ بأصحابِ السِّلَع والمتَاع، فعن أبي هريرةَ وزيدِ بنِ خالد رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زَنت فاجلدوها)) ، في الثلاثة أو الرابعة: ((فبيعوها ولو بضَفير)) أخرجه البخاري، وعن عمَرَ قال: حملتُ على فرس عتيقٍ في سبيل الله، فأضاعه صاحبُه، فظننتُ أنه بائعه برُخصٍ، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: ((لا تَبتَعه وإن أعطَاكَه بدِرهَم؛ فإنَّ العائدَ في صدقتِه كالكلب يعودُ في قيئِه)) متفق عليه.
وامتنَع الشارِعُ عن التسعيرِ ـ وهو تحديدُ ثمنٍ للسِّلَع لا يزادُ عليه ولا ينقص ـ حتى في حالِ غَلاء الأسعارِ وارتفاعها؛ إذا كان ذلك الغلاء بسبَبِ تقلُّبات العرض والطلب، ولم يكن بسبب الجشَعِ والطمع، فعن أنس قال: غلا السعرُ على عهدِ رسولِ الله ، فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: ((إنَّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجُو أن ألقَى رَبّي وليس أحدٌ يطلُبني بمظلمَةٍ في دمٍ ولا مالٍ)) أخرجه أبو داودَ والترمذيّ وابن ماجه، وعن أبي هريرة أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله سعِّر، فقال: ((بل أدعو))، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله سَعِّر، قال: ((بل الله يخفِض ويرفَع، وإني لأرجو أن ألقَى الله ولَيسَ لأحدٍ عندي مظلمَة)) أخرجه أحمد وأبو داود. فامتناعُه عنِ التسعيرِ مَعَ غلاء الأسعارِ وسؤالِ الناس ذلك وتعليله بكونه مظلمةً يدلّ على نهيِ الإمام أو نائبِه على السوقِ عَن جبر الناس على بيعِ سِلَعِهم بسعرٍ معيّن بلا زيادة ولا نقصان، وأنَّ التسعير حرام، ولأنَّ المال لصاحب المتاع فلم يجُز منعُه من بيعِه بما تراضَى عليه المتبايِعَان.
أيها المسلمون، لكنَّ الشريعةَ الكاملة الحكيمةَ العادِلةَ يبعُد أن تطلِقَ تلكَ الحرّيَّةَ لأربابِ السِّلَع والمتاع بلا قيودٍ ولا ضوابِط، فإذَا أسَاءَ التّجّارُ استخدامَ هذه الحرّيّةِ وتعَسَّفوا وتعَدَّوا وتَواطَؤوا واشتَطّوا وترَكُوا السِّعرَ المتقارِبَ المتعَارَفَ إلى السِّعرِ المتفاحِشِ الفادِح وعَمدُوا إلى رَفعِ أسعارِ السِّلَع بجمِيعِ أصنافِها والخدمات على اختلافِ أنواعِها بِلا أسبابٍ تستدعِيه ولا عوامِل تقتضيهِ سِوى الجشعِ والطمَع والأثرةِ وحُبِّ الذاتِ والرغبة في التكاثر واستَغَلُّوا رَغبةَ الناس في الشِّراءِ وحاجَتَهم الاستِهلاكيّة اليَوميّة وغَير اليومية وأَوهمُوا المشترِينَ بأمور مفتَعَلة وأسبابٍ مختَلَقَة لا حقيقةَ لها في الواقع حتّى أضحَتِ الأسعار في تصاعدٍ مستمرّ وحركة مطَّرِدَة وأصبَحَ سعرُ الشّيء مِثلَيه أو أكثر إلى أضعافٍ مضاعفة وتضرَّر أكثرُ الناس بالغلاء وأُرهِقَ الفقراءُ وأُثقِل كاهِل المحتاجِين والضّعفَاء فإنَّ الصحيحَ من أقوال العلماء جوازُ منعِ التجار من إعناتِ الناس والإجحاف بهم ووجوبُ حملهم على السَّنَن الأقوم والطريقِ الأمثل بالتسعيرِ الذي لا وَكسَ فيه ولا شَطَط، وقد جاءت السنة الصحيحة بتقويمِ الأشياء بين الشركاءِ بقيمة عدلٍ وثمنِ مِثل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَن أعتق شِركًا له في عبدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمنَ العبد قُوِّم العبد عليه قيمةَ عدلٍ، فأعطى شركاءَه حِصَصَهم، وعَتَق عليه العبد، وإلاّ فقد عتَق منه ما عَتق)) متفق عليه.
وبالتسعير يتحقَّق رِبحٌ ونماء لأربابِ السِّلع وعدلٌ بين البائعين والمشترين، ويستقرُّ التوازن الاقتصاديّ العامّ، ويُحمَى الضعفاء من جشعِ الطامعين، وتُحارَب المضارَبَة التي تؤدِّي إلى استغلالِ المستهلكين، ويحافَظ على القُدرةِ الشرائيّة للفقراء والمحتاجين، وذلك جريًا على قاعِدَة: "درء المفاسِدِ أولى مِن جلبِ المصالح"، و"الضرر الأشدّ يُزال بالضَّررِ الأخفّ"، وقاعدة: "يُتَحمَّل الضّررُ الخاصّ لدَفعِ ضَررٍ عامّ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "السعر مِنه ما هو ظلمٌ لا يجوز، ومنه ما هو عَدل جائز، فإذا تضمَّن ظلمَ الناسِ وإكراهَهم بِغير حقٍّ على البيعِ بثمن لا يرضَونه أو منعهم مما أباحَه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمَّن العدلَ بين الناس مثلَ إكراههم على ما يجِب عليهم من المعاوَضَة بثمن المثل ومَنعِهم مما يحرُم عليهم من أخذ زيادَةِ على عِوَض المثل فهو جائز، بل واجب". وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: "وجماعُ الأمر أن مصلحَةَ الناس إذا لم تَتِمّ إلا بالتسعيرِ سعَّر عليهم تسعيرَ عدلٍ لا وَكس ولا شطَط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل". وقال في عارضة الأحوذي: "وما قاله النبيُّ حقٌّ، وما فعله حكمٌ، ولكن على قومٍ صحَّ ثباتهم، واستسلَموا إلى ربهم، وأمّا قوم قصَدوا أكلَ الناسِ والتّضيِيقَ عليهم فبابُ الله أوسَع وحُكمُه أمضى".
أيّها المسلِمون، إِذا نظَرنَا بِعقلٍ وبَصيرةٍ وتجرُّد وَجَدنا للمُغالاةِ في الأسعار آثارًا سيِّئةً على الفرد والمجتمع، فقد يعجز الفقير عَن شِراءِ ما لا غِنى له عنه، وقد يتحمَّل آخرون ديونًا يعجَزون عن أدائها، وتكثر الضغوطُ الاجتماعيّة والاقتصادية والنفسيّة، ويلجأ البعضُ إلى طرق غير مشروعة للحصول على المالِ وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يُبالي ضعيفُ الإيمان أمِن حَلال أخَذ المال أم من حرام، وتَنشَأ الأنانيّة والشحُّ والبخل، وتتعمَّق الفجوة بين الناس، وتهِن الروابِطُ، وتنقَطِع الصِّلات؛ ولذا جاءَ الوعيدُ الشديد لمن دخَل في شيءٍ من أسعارِ المسلمين ظلمًا وعُدوانًا ليغلِيَه عليهم، فعن معقل بن يسار قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((مَن دخل في شيءٍ مِن أسعار المسلمين ليُغلِيَه عليهم فإنَّ حقًّا على الله أن يقعِدَه بعظمٍ من النار يومَ القيامة)) أخرجه أحمد.
أيّها المسلمون، ينبغي للمسلم أن يكونَ ذا شفَقَة وعَطف وإحسانٍ، لا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يهتبل حاجةَ إخوانه ليرهقَهم بما يشقّ عليهم، بل يراعي حقوقَ الأخوَّة الإسلاميّة، وقد حثَّنَا الشارِعُ الحكيم على المسَامحَة في المعاملة، فعَن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله قال: ((رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى)) أخرجه البخاريّ.
إنَّ إِرخَاصَ الأسعار على المسلِمين ووضعَ الإجحاف بهم وتركَ استغلالهم لا يفعَلُه إلا ذوو القلوبِ الرحيمة، التي امتَلأت عَدلاً وصِدقًا وتقوًى وإحسانًا، وأولئك هُمُ الموعودون بالبركةِ في أرزاقهم والسعةِ في أموالهم والصِّحةِ في أبدانهِم والسعادة في نفوسهم.
أيها المسلمون، وإذا أخَذ وَليُّ الأمرِ بالتَّسعير لمصلحَةِ المسلمين وأمَرَ أهلَ السوق أن لا يبيعوا إلاَّ بسعر محدَّد بلا زيادةٍ ولا نقصان لم تجز مخالفتُه، ومن خالف استحقَّ التعزيرَ في أصحِّ قولي العلماء، وذَلِكَ عقوبةً لَه لمجاهرَةِ ولي الأمر بالمخالفةِ.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتراحموا فيما بينكم يتحقَّق لكم الخير والنماء، ويُبارَك لكم في الأخذِ والعطاء والبيعِ والشراء.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، اتَّقوا الله وراقِبوه وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلِمون، ومِن صوَرِ الخداع والغشِّ والخِيانة والكذِب التي يَلجَأ إليها ضِعافُ الإيمان بقَصدِ الحصول على سعرٍ زائدٍ تغريرُ المشترِي في ثمنِ السِّلعَة الأصليّ أو مَا وصلت إليه في السَّوْم، فمن عَرض سلعةً للبيع وقال: هي عليَّ بكذا وهو كاذب في قولِه بأن زادَ في ثمنها الذي اشتراها به ليوقِعَ فيها أحَدًا من المسلمين فقد أتَى إثمًا يمحَق بركةَ بَيعِه، ومن أقامَ سِلعتَه في السوق أوَّلَ النّهار فَلمّا كان آخره جاءَه رجلٌ يساوِمه فحَلَف لقد منعها أوَّلَ النهار من كذا ولولا المساءُ لما باعَها به فقَد ارتكب محرمًا يحلّ عليه به سخَطُ ربِّه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله ولا ينظُر إِليهم ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ على فضلِ ماء بطريق يمنَع منه ابنَ السبيل، ورجل بايَع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريدُ وفى له، وإلاّ لم يَفِ له، ورجل ساوَم رجلاً بسلعةٍ بعدَ العصرِ فحَلَف بالله لقد أُعطِي بها كذَا وكذا فأخَذَها)) متفق عليه، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أنَّ رجلاً أقام سلعةً في السوق فحلف فيها: لقد أعطِيَ بها ما لم يعطَ ليوقِعَ فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77] أخرجه البخاري.
فاتقوا الله أيّها المسلِمون، وطهِّروا بيوعَكم من الكذب والغشِّ والخداع والنّجش والتغرير والمبالغة الفاحشة في الأسعارِ يبارَك لَكم فيه.
وصلوا وسلموا على خيرِ البرية وأزكى البشريّة، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين الأئمّة المهديِّين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بمنِّك وفضلك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشرِكين، ودمِّر أعداء الدين...
(1/5199)
ترياق الأمم
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
18/3/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العرب قبل الإسلام. 2- ضياع البشرية قبل الرسالة المحمدية. 3- إكرام الله تعالى الأمةَ العربية بالبعثة المحمدية. 4- إعداد النبي لأصحابه لحمل الرسالة. 5- قيام النبي والصحابة والرعيل الأول بهذا الدين. 6- العالم في جحيم الحضارة الغربية المادية. 7- ضرورة اجتماع المسلمين واتحادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلَّكم تفلِحُون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]. فخُذوا أُهبَتَكم قبل الممَاتِ، وتزوَّدوا مِنَ الباقياتِ الصَّالحات قبلَ الفَواتِ.
عبادَ الله، العربُ أمّةٌ من الأمَم وشَعب من الشعوب، والتي خَلَقَها الله تعالى وفاوَتَ بينها لحكمةٍ باهِرة قضاها الله، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13].
شُعُوبُ الأرض هَيئاتٌ وألوان وألسُنٌ ولُغات وثَقافَة وحَضارات، تلتقي تارةً فتَتلاقَح، وتَصطَرِع تاراتٍ فتتناطَح، ولقد كان العربُ قبلَ الإسلام أمّةً تائهةً في عقيدتها مفكَّكةً في أواصرِها متناحِرَةً متقاتِلَة، لا يجمعهم سلطانٌ ولا دولة، ولم تكن لهم رِسالة بين الأمَمِ، تدوم الحربُ أربعين عامًا لأجل ناقةِ البَسوس، ويُقتَل الأُلوف منَ الناسِ في حربٍ ضَروس لأجل فرَسٍ تسمَّى داحِسًا، وكانت الحياةُ شبكةً محبوكةً من تِراتٍ وثارَات، فشَت حبائلُها في القبائل، وحملت المعيشةُ القاسِيَة والطمَع والجشَع والأحقادُ والاستهانة بالدِّماء حمَلتِ الناسَ على الفتك والسَّلب، وأصبحت أرضُ الجزيرةِ كِفَّة حَابِل، لا يدرِي الإنسانُ متى يُغتال وأين يُنهَب.
يَئدون البناتِ ويقترِفون المحرَّمات، يشرَبون الخمرَ ويأكلون الرِّبا، ولم تكن الأممُ الأخرى أسعَدَ حظًّا ولا أحسَن حالاً بالرغمِ من تفوُّقها في حرثِ الدنيا وعِمارتها وانتظامِ مُلكها وسُلطانها، إلا أنَّ الظلمَ والفسادَ غَاشٍ عليها، فمَا بَين الشرقِ والغرب شَقِيَت أممٌ في حضاراتِها، وظلَمَ الإنسانُ فيها أخاه الإنسان واستعبَدَه وسلَبَ حرّيتَه وجعله عبدًا للأسياد، تارةً باسم الدين، وتارة باسم الآلهةِ، وتارة بقوّة الحديد والنار، مع حروب جائرةٍ بين جيوشٍ هائلة منظّمة، تطحَن الأرواحَ وتبيد الآلافَ وتهلك الحرثَ والنّسل؛ لأنَّ الإنسانَ تَاهَ عن شِرعةِ السماءِ، ففي اللَّحظةِ التي سبَقَت بعثةَ محمّدٍ كانَتِ الأممُ قد تدلَّت إلى قاعٍ لا تستقيمُ معه حياةٌ.
وبالجملةِ فلم تكن على ظهرِ الأرض أمّةٌ صالحة المزاج، ولا مجتمع قائِمٌ على أساسِ الأخلاق والفضيلة، ولا دولة مؤسَّسة على العدلِ والرحمة، ولا دينٌ صحيح مَأثور عن الأنبياءِ، إلا بقايا من نورٍ خافت ضعيفٍ منزويًا في ديرٍ أو كنيسةٍ، لا يخترق الظلامَ ولا ينير السبيل. عالمٌ مفكَّك، وقبائل متناحرَة، وشعوبٌ مستعبَدَة، ومواهبُ ضائِعَة، وبِلاد تتسكَّع في الجهل والضلالات، تائهةً في بحارٍ من الظلم والظلُمات.
أيّها المسلِمون، وحين أذِنَ الله تعالى بِبُزُوغ نورِ الفجر وانبِلاجِ الصبَاح وأن يملأَ الأرضَ عدلا ونورًا ابتَعَثَ من خيرةِ خَلقِه من يقوم بهذه المهمّة وينقِذ البشريّةَ ويهدي الإنسانيّة، وكما قال سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ [القصص: 5، 6]. فقد أكرَمَ الله تعالى هذه الأمّةَ العربيّة ورفع شأنها وأعلى شأوَها، بل كانت المِنّة على سائر البشريّة بِبِعثة سيّد البرية محمّد بن عبد الله رسولِ الله وخاتمِ أنبيائه ، وأنزل عليه القرآنَ، وجعل رسالته الإسلامَ، وجعلها رسالة أتباعِه، وشرَّف العربَ بحملِ هذه الرسالة، ولم يكن للعرب رسالةٌ قبلها.
ولقد عَلِم الله تعالى أنَّ الأمَمَ المتحضِّرة في ذلكَ الزمانِ كفارس والرّومان لا تستطيع بسبَبِ حياتها المصطَنَعة المترَفَة أن تعرِّض نفسَها للخَطَر، ولا أن تتحمَّلَ المتاعبَ والمصاعِب في سبيلِ الدَّعوة والجهادِ وخِدمة الإنسانيّة البائسَة، ولن تُضحِّيَ بحظوظِها وشَهَواتها ولذَّاتها وزَخَارفها لأجلِ هذا الدين، فضلاً عن التضحيةِ بالنَّفس والأهل والأوطان والأرواحِ والمهَج، فاختار الله تعالى لرسالةِ الإسلام وصُحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أمّةً تضطلِع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوَى على التَّضحية والإيثَارِ، تِلكَ هيَ الأمّة العربيّة القويّة السليمة التي لم تَبتَلعها المدنية ولم ينخَرها البذَخُ والترف، أولئك أصحابُ محمّد ، أبرُّ الناس قلوبًا وأعمقهم علمًا وأقلُّهم تكلُّفًا.
لقد ربَّى النبيّ نفوسَهم بالإيمان، وغذّى أرواحهم بالقرآن، وأخضَعَهم للهِ ربِّ العالمين بالصلاةِ والطّهارة والإسلامِ والاستسلام، وكانت مجالس النبيِّ تزيدهم رُسوخًا في الدين وعُزوفًا عن الشهواتِ وتفانيًا في مرضاتِ ربِّ الأرض والسموات، حِرصًا على العلم وفقهًا في الدين ومحاسبة للنفس وطاعةً للرسول في المنشَط والمكرَه، ينفرون في سبيل الله خِفافًا وثقالاً، ويبذلون له مُهجًا وأموالاً، فهانت عليهم الدنيا، وجاهَدَهم الرسول جهادَه الأوّل، فلمّا زكَت نفوسهم لم يحتَاجُوا إلى جهادٍ جديد لكلِّ أمرٍ ونهي، ودخلوا في السِّلم كافَة بقلوبهم وعقولهم وجوارحِهم وأرواحِهم، فلا يُشاقّون الرسولَ من بعدما تبيَّنَ لهم الهدى، ولا يجِدون في أنفسِهم حرجًا مما قضَى، ولا يكونُ لهم الخِيَرَةُ إذا أمر أو نهى.
أحبّوا النبيَّ وصارَحوه وفدَوه كما فدَوا دينَه بأرواحهم ومُهَجهم، حتى إذا ضَعُف حظُّ الشيطان في نفوسهم، بل تضاءَل حظُّ نفوسهم في نفوسِهم، وأصبحوا في الدنيا رجالَ الآخرة؛ لا تُجزِعُهم مصيبةٌ ولا تُبطِرُهم نعمةٌ ولا تلهيهِم تجارة ولا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وأصبحوا للناس القِسطاسَ المستقيم؛ قوَّامين لله شهداءَ بالقسط ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، عند ذلك وطَّأ الله لهم أكنافَ الأرضِ، وأصبحوا دعاةً للدين شهودًا على الناس حملةً أُمناءَ لمشاعل النّور والهدَى التي تضيء ظلامَ الأرض. لقد أدرك رسول الله هذا العالَمَ وهو ضائع هالِك، وأخذ بيده وهو تائه متهالكٌ، فأحياه بإذن الله، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وعلَّمه الكتاب والحكمةَ وزكّاه، فأصبَحَ سَفيرَ الإسلام ورَسولَ الأمن والسّلام ورائد العِلم والحكمة، كان غَوثًا للأمم وغَيثًا للعالم. ولولا محمّدٌ لما كان للعالَم العربيِّ ذِكرٌ ولا وَزن ولا تَاريخ أو حضارة.
لقد كان العَالَم كلُّه بحاجة ماسّة إلى رسالةِ هذه الأمّة، وكانت هي الأمةَ الوحيدة المهيَّأة لحمل هذه الرسالة، ولديها الاستعدادُ لتركِ شَهَواتها والتضحيةِ بمُهَجها لنشرِ هذا النورِ، في وقتٍ كانت الحَضاراتُ الأخرَى ترزحُ تحت نيرِ الظّلمِ والاستِبداد والتِيهِ والفساد.
ولقَد قامَت هذه الأمّة برسالتها خيرَ قِيام؛ فنشرُوا الهدى والضياءَ والنورَ والسَّناء، وأصبحوا في الأرض قادة وعلى الأمم سادَةً، وأظهروا الحقَّ والعدل، ونشَروا رِداءَ الأمن، وفَرَشوا بِساط السعادة، وعمَّ هذا الخير شعوبَ الأرض، وشملت هذه الرسالة بأكنافِها وأعطافها سائرَ الإنسان على اختلافِ الألسُن والأديان. وكان الخير هو السَّائد حين كانت القيادةُ بهذه الأمة المحمّديّة التي ابتعَثَها الله للناس كمَا ابتعَثَ نبيَّها ، لقد كانت البعثة للنبيِّ ولأمَّته كما قال تعالى لنبيِّه محمّدٍ : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46]، وقال لَه أيضًا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108]، فقد قال لهذه الأمة المبتَعَثَة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. لقد عمَّ الخير أرجاءَ الأرض، لا بالصنائع والمختَرَعات، ولا بالتسلُّط والسياسات، وإنمَا بهديِ الإسلام ومبادئِ الإسلام، وهذه هي رسالة النبيِّ ورِسالةُ أتباعِه؛ تبليغُ الدين ونشرُه والدعوة إليه وامتِثال القدوةِ في تطبيقِهِ.
أيّها المسلِمون، ولقد فهِم الصحبُ الأخيار هذه المكانةَ، واستوعبوا هذا القَدر، فقال الخليفة الراشِدُ عمر بن الخطاب : (نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، مَهمَا ابتَغَينا العِزَّة بغيره أذلَّنا الله). ولما وقف العملاقُ رِبعِيِّ بن عامر أمامَ قائِد الفرس الذي كانَ في كامِل أُبَّهَتِه وزينتِه وقَفَ رِبعيّ بثيابِه المرقَّعَة وقفةَ عزٍّ وشموخ وقال بكبرياءِ المسلم: (إنَّ الله ابتَعَثَنا لنخرج من شاء من عبادةِ العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيقِ الدّنيا إلى سَعة الآخرةِ). نعم، لقد قال: (إنَّ الله ابتَعَثَنا)، ولم يقل: إنَّا خَرجنا أو نهَضنَا، إنها ذات الرسالة التي قال الله عنها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
فلمَّا قاموا بمُهِمَّتهم أزهرتِ الحياة واطمَأنَّ العالم وازدهرت الحضارة، ولقد شهِد الأعداء قبل الأصدقاءِ أن الإسلام وأنَّ المسلِمين الأوائلَ لهم الفضلُ الكبيرُ على كلِّ خير عاشَته بقيّةُ الأمم حتى التي لم تدخلِ الإسلام، وأنَّ أسعدَ القرونِ يومَ كانت القيادةُ بيدِ الإسلام.
عبادَ الله، حتى إذا استرخَت قبضةُ الأمة على دينِها دبَّ إليها الضعف، وجرت عليها سنّة الله التي لا تحابي أحدًا، فتنحَّت عن القيادة واعتزلت عن الرِّيادة، وصارَ العالمُ اليومَ تقودُه المادَّة وتحكُمه المادّة، في تجرّدٍ من التعاليم الروحيّة والفضائل الخلُقِيّة والمبادئِ الإنسانيّة في كثيرٍ من مناحيه، فأصبَحت لا تؤمِن في الحياةِ الشخصيّة إلا باللّذّة والمنفَعَة المادّية ولو عَلَى حسابِ الأمَمِ والشعوب، ولا تؤمِنُ في الحياةِ السياسيّة إلاّ بالقوَّة والغلَبَة ولو على حسابِ المبادئ والقِيَم. لقد شغلَتِ الحياةَ بالآلاتِ واستهانَت بالغاياتِ، ومع إمعانها في المادّيّات وقوَّتها الهائِلةِ مع فُقدان الوازِع الدينيّ والحاجز الخلقيّ أصبحت فيلاً هائجًا يدوسُ الضعيف ويهلك الحرثَ والنّسل. وبنظرةٍ خاطِفَة سريعةٍ إلى تاريخِ القرون الأخيرةِ والذي تسنَّمت فيه المادّة القيادةَ بعيدًا عن الإسلام يهولُك الدمار والفوضى التي عاثَت في العالم، فعدد قتلى الحربِ العالميّة الأولى تجاوَزَ سبعةَ ملايين وعشرين مليون مصاب، وقتلى الحرب العالمية الثانيّة ومصابيهم تجاوز خمسين مليونًا، وحروبٌ أخرى كلّفت مئات الآلاف من القتلى وخرابَ الديار. وانظُر حالَ البِلاد المضطَرِبَة اليوم والتي زُرِعَت فيها الديمقراطيةُ بقوانينِ اليُوم، بينما لم يتجاوزِ القتلى منذ بِعثَةِ النبيِّ إلى وفاتِه ألفَ شخصٍ، رُبعهم من المسلمين، وكانت كلُّها خيرًا.
لقد عجزت الحضارةُ المادية اليوم عن إسعادِ البشرية، وبالرغم من التطوُّر المادّيّ والتقني الهائل إلا أن الأرضَ اليومَ تعيش أبأس أيامها وأحلَكَ ظروفها وأخطرَ مراحلها. فأين أصحابُ الحضارة وصُنَّاع القرار؟! وما موقف الأقوياء؟! وأين المتنفِّذون؟!
إنَّ تلك الحضارةَ وتلك القوى لم تكن كفيلةً ولا أهلاً لصلاح العالم ولا إسعاده، إن لم تكن هي السبب في خرابِه وشقائه، مراجِلُ تغلي، ومواجِع تدمي، حروبٌ تُهيَّأ وتُعَدّ، ونيران تُذكَى وتوقَد، وأبوابُ شرٍّ تفتَح ولا تسدّ، ولقد سلَفَت قرونٌ ثم تلَتها قرون قامَت فيها أمَمٌ بحضارَة وقوّة ونفوذٍ وفُتوَّة لم تزِدِ العالمَ إلاّ بؤسًا، ولم تحظَ الأرض بالأمن والرخاءِ والعدل والهناءِ إلاّ في ظلِّ الإسلام الوارف.
وها هو العالم اليومَ يعود خمسةَ عشرَ قرنًا إلى الوراء، ولن يشفيَ هذا الداءَ إلا ذلك الدواء، إنه الدواء الذي لا يستطيع تقديمَه إلا نور الوحي الإلهي. إنَّ العالَم لم يضطرِب إلاّ حين تخلَّى المسلمون عن القيادةِ، وإنَّ حقًّا على المسلمين اليومَ أن يقوموا بواجِبِهم تجاهَ أمّتِهم والعالَم، وأن ينقذوا الناسَ من شقاءِ الدنيا ومن نارِ الآخرة بالإسلام وبالإسلام وحده، وأن يكونوا في موضِع الريادةِ ليكونوا أهلاً للقيادة، فإن لديهم ترياقَ الأمَم ومفتاح باب السعادة، وأن يحمِلوا رسالةَ نبيِّهم، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله واهبِ النِّعَم دافِعِ النّقَم، أحمده تعالى على ما أسدَى وتكرَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إننا نعيش في هذا الزّمان تَكتُّلاتٍ اقتصاديّة وتحالُفات سياسيّة، وقد تنبَّهَت تجمّعاتٌ أمميّة إلى ضرورةِ الوحدة والائتلاف، فتجمَّعوا رغمَ خِلافَاتِهم وتحالفوا وتصالحوا رغم حروبٍ طاحنة دارَت رحاها بينهم، لكنَّ المصالحَ اليومَ تحتِّم الوحدةَ والاجتماع.
ونحن ـ يا أمّةَ الإسلام ـ أحقُّ بالتجمُّع والائتلاف ونبذِ الفرقة والاختلاف، فإنَّ هذه الأمة المسلمةَ تملك إرثًا تاريخيًا وحضاريًا في الاتحادِ والاجتماع وتركِ النزاع، وتملك من مقوِّماتِ الوحدةِ أكثرَ من غَيرها، ولقد جرَّبت طُرقًا تائهة وأنفاقًا مَسدودة وسُبُلاً مظلِمَة، ولم تنجح في ذهابها، ولم ترشُد في إيابها.
إنَّ الصراعَ بين الأمَمِ اليومَ ليس صراعَ مغالبةٍ فحسب، بل هو صراعُ بقاء أو فناءٍ، أن تكون أو لا تكون، في زمن عولمة الفكرِ والثقافة قبل عولمة الاقتصاد والسياسة، في زمن هيمَنَة القوى وفرض الرأيِ بالقوّة. إنَّ على أمة الإسلام اليومَ أن تسعى بكلِّ صدقٍ وإخلاص إلى التمسُّك بأسباب بقائها كأمّة لا كأفراد، وأن تعود إلى سبب ريادتها وإلى ذاتِ رسالتها، وأن تجتمع على ذلك.
وإنَّ ما شهِدَته أرضُ الحرمَين الشريفين قبل أيّامٍ مِنِ اجتماعٍ للقادَة والدّعواتِ الصادقة التي نادَى بها خادِمُ الحرمَين الشريفين لهي خطوة رائِدة في الطريق الصحيح، وبداية في الاتِّجاه السليم، ومُكاشفة صريحة يجب على كلِّ مخلصٍ أن يعضُدَها، ولْتكن نواةً تؤسَّس عليها الإرادات والقرارات. لقد آن للمصلحةِ العامّة أن تغلَّب على المصلحة الخاصّة، وللإيثار أن يغلَّب على الأثَرَة. وإنَّ في الشعوبِ المسلِمة خيرًا كثيرًا، وهي سريعةُ الاستجابة قابلةٌ للتوجيه، فطرةُ التديُّن في نفوسِهم حيّة، والإرادَة في عزائمهم فتِيَّة، فليبارِكِ الله الجهودَ المخلِصة.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خيرِ خلقِه وأشرفِ رسله.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
(1/5200)
الأحكام الشرعية في الخروج للبرية
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
السياحة والسفر, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إثبات صفة الضحك لله تعالى. 2- آثار رحمة الله في نزول الغيث المبارك. 3- أحكام وآداب للخروج للصحراء والبرية. 4- نصائح وتوجيهات ينبغي أن يجعلها المرء نصب عينيه إن أراد غدوا أو رواحا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أيُّها النَّاسُ ـ بِتَقْوَى اللهِ وَبِشُكرِهِ وَذِكْرِهِ، فَبِالتَّقْوَى تُنَالُ الدَّرَجَاتُ وَتَزْكُو الأَعْمالُ، وَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ، وَبِشُكْرِهِ تُقَيَّدُ النِّعَمُ عَنِ التَّحَوُّلِ وَالانْتِقَالِ، فَاذْكُرُوهُ واشْكُرُوهُ كَمَا هُوَ أَهلٌ لِذَلِكَ.
عِبادَ اللهِ، مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُدِيمُ لِعِبَادِهِ حَالَةً وَاحِدَةً، بَلْ يَبْلُوهمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَبِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً، وَإِنَّ لَهمْ فِي ذَلِكَ لأَعْظَمَ فَائِدَةٍ، فَإِذَا شَبِعُوا شَكَرُوهُ، وَإِذَا جَاعَوا ذَكَرُوهُ، فهُم لَه حَامِدُونَ وَلِفَضْلِهِ قَاصِدُونَ، قُلُوبُهم إِليهِ مُتَّجِهَةٌ، وَوُجُوهُهُمْ لَهُ سَاجِدَةٌ، يَتُوبُونَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ صَادِرَةٍ منهم، وَيَسْأَلُونَهُ مِنْ كُلِّ خَيرٍ ونَعْمَةٍ لَهم.
رَوَى الإِمَامُ أحَمدُ مِنْ حَدِيثِ أَبي رزين عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وُقُرْبِ غِيَرِهِ)) ، فَقَالَ أبُو رزينٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَيَضْحَكُ الرَبُّ عَزَّ وَجَلَّ العَظِيمُ؟! لَنْ نَعْدِمَ مِن رَبٍّ يَضْحَكُ خَيرًا، قَالَ: ((نَعمْ، لَنْ نَعْدِمَ مِن رَبٍّ يَضْحَكُ خَيرًا)). وَمَعْنى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ سْبَحَانَهُ يَضْحَكُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ المَطَرِ عَنهُمْ وَقُنُوطِهمْ وَيَأسِهمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقَدِ اقتَرَبَ وَقتُ فَرجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ بِإنْزَالِ الغَيثِ عَلَيهمْ وَتَغْييرِ حَالهمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرونَ، فَعِندَ تَنَاهِي الكُروبِ يَكُونُ الفَرَجُ.
وَإِنَّ مِمَّا يَسْتَوجِبُ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ لِصَاحِبِ المِنَنِ المُتَوالِية اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نُزُولَ الغَيثِ المُبَاركِ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28]. وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ البَالِغَةِ أَنْ يُنَزِّلَ الغَيثَ بِقَدرِ الحَاجَةِ، حَتَّى إِذَا أَخذَتِ الأرْضُ حَاجَتَها مِنهُ وَكَانَ تَتَابُعهُ عَليهَا يَضَرُّهَا أَقلَعَ وَأتْبَعَهُ بالصَّحْوِ، فَهُمَا ـ أَعْنِي الصَّحْوَ وَالغَيمَ ـ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى العَالَمِ لِمَا فِيه صَلاَحُهُ، وَلَو دَامَ أَحَدُهمَا كَانَ فِيه فَسادُهُ، وانْظُروُا كَلاَم ذَلكَ الرَّجُلِ الَّذِي دَخَلَ ورَسُولُ الله يَخْطبُ يَومَ الجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَرْضُ وَهَلَكَتِ المَاشِيَةُ فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ فَنَزَلَ المَطَرُ، حَتَّى مَا رَأَوا الشَّمْسَ أَسْبُوعًا كَامِلاً، فَدَخَلَ ذَلِكَ الرُّجُل مِنَ الجُمُعَةِ القَابِلَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأرْضُ وَهَلَكَتِ المَاشِيَةُ فَادْعُ اللهَ يُمْسِكُهُ عَنَّا، فَقَالَ : ((اللَّهمَّ حَوَالَينَا وَلاَ عَلَينَا...)) الحَدِيثُ.
أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ المَطَرَ إِذَا جَاءَ أَكْسَبَ الأرْضَ نضْرَةً وَجَمَالاً، يُؤثِرُ النَّاسُ فِي تِلْكَ الأوْقَاتِ الخُرُوجَ إِلى البَرَارِي وَالتَّنَزُّهَ فِي الصَّحَارِي، وَتِلْكَ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَتَيسِيرِهِ لِعِبَادِه، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ فَإِنَّ الخُرُوجَ إِلى البَرِّيَّةِ وَالنُّزْهَةَ فِيهَا لَهُ أَحْكَامٌ شَرعِيَّةٌ وَآدَابٌ مَرْعيَّةٌ، يَنْبَغِي للنَّاسِ أَنْ يُراعُوهَا، ذَلِكُمْ أَنَّ دِينَ الإِسلاَمِ دِينٌ كَامِلٌ لاَ نَقْصَ فِيهِ، لَم يَتْرُكْ شَارِدَةً وَلاَ وَارِدَةً إِلاَّ ذَكَرَ فِيهَا عِلْمًا وَخَبرًا، وَمِنْ تَلكمْ خُرُوجُ المَرْءِ مِنْ بَيتِهِ للنُّزْهَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، زيَادَةً عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ الَّتِي لاَ تَقْبَلُ المُنَازَعَةَ أَنْ يُقِرَّ المْؤمِنُ بِكَمَالِ هَذَا الدِّينِ واتسَاعِهِ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَحَقِير، كَمَا وَسِعَ كُلّ كَبِيرٍ وَجَلِيلٍ.
فَتَعَالَوا مَعَنَا كَي نَخْرُجَ مِنْ صَخَبِ المُدنِ وَضِيقِ البُيُوتِ، لِنَخْرُجَ فِي رِحْلَةٍ خَلَوِيَّةٍ نَزْدَادُ فِيهَا عِلْمًا وَعَمْلاً وَتَزيدُنَا مِنَ اللهِ قُربًا، مُفَصَّلَة فِيهَا الأحْكَامُ، مُضَمَّنَة آيةً وَحَدِيثًا وَأَثرًا عَنْ سَلَفٍ.
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ مَا أَكَثرَ مَا يتْرُكُ النَّاسُ بْيُوتَهمْ العَامِرَةَ بهم وَمَنَازِلهم الكَانَّةُ لَهم عَنِ البَرْدِ والحَرِّ، لِيَذْهَبُوا إِلَى مُروجٍ وَأزْهَارٍ كَيمَا يَسْتَنْشقُوا هَواءً عَلِيلاً، وَيُمَتِّعُوا أَبْصَارَهمْ بِخضْرَةٍ وَنضْرةٍ وَجَمَالٍ، وَمَهْمَا يَكنِ السَّبَبُ فَإِنَّ النَّتيجةَ وَاحِدةٌ، وَهِيَ مُغَادَرَةُ البُنيَانِ ليَعيشَ المَرءُ بَينَ الجِبالِ والأشَجارِ. ألاَ فَلْتَعْلَمُوا جَميِعًا أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجبُ عَلَى الإنسَانِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي خَلقِ اللهِ وَمَا يَرَاهُ أمَامَهُ مِنْ صُنْعِ اللهِ العَظِيمِ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
تَأمَّلْ فِي رُبُوعِ الأرْضِ وَانْظُرْ إِلَى آثَارِ مَا صَنعَ الْملِيكُ
عيونٌ مِنْ لُجَينٍ شَاخِصَاتٍ بِأحَدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُصُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٍ بِأَنَّ اللهَ لَيسَ لَهُ شَرِيكُ
نَعْمَ أيُّها النَّاسُ، البَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى البَعِيرِ، وَالأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى المَسِيرِ، سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ وَنَجُومٌ تَزْهَرُ وَجِبَالٌ تَزْخَرُ أَفَلا يدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجُودِ المَلِكِ الخَلاَّقِ؟!
عِبادَ اللهِ، الطَّهَارَةُ هِيَ مِمَّا يَتَسَاهَلُ فِيهِ النَّاسُ حالَ ابْتِعَادِهمْ عنِ البُنْيَانِ، وَلاَ يَجُوز للِمَرْءِ أنْ يَعْدِلَ إِلى التَّيمُّمِ مَعَ وُجَودِ المَاءِ.
وَإِنَّ لِلخَلاَءِ آدَابًا وَأَحكَامًا تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ فِي الصَّحْرَاءِ وَالبَرِّيَّةِ، فإِذَا أَرَادَ المرءُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَإنَّ عَلَيهِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ أَنْظَارِ النَّاسِ، فَقَدْ كَانَ إِذَا أَرَادَ البرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لاَ يَراهُ أَحدٌ. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه بسندٍ صحيحٍ. وَعَنْد أبِي يَعْلَى: وُرُبَّمَا كَانَ يَبْعُدُ نَحْوَ المِيلَينِ.
وَعَلَيه أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَكَانٍ رِخْوٍ لاَ تَتَطَايرُ النَّجَاسَةُ عَلَيهِ، وَعَلَيهِ أَنْ يَتَجَنَّب الموَاضِعَ الَّتِي نُهِيَ عَنْ قَضَاءِ الحَاجَةِ فِيهَا، يَقولُ : ((اتَّقُوا المَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: البرَازُ فِي المَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وابنُ مَاجَه بسندٍ صَحَيحٍ.
وَإنَّ حاجَةَ المَرءِ إِلَى مَعْرِفَةِ طَريقَةِ الاسْتِجْمَارِ ماسَّةٌ، يَقولُ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ حِينَ قَالَ لَهُ المشرِكُونَ: لَقدْ رَأينَا صَاحِبَكُم يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيءٍ حَتَى الخَرَاءَةَ! فَقَالَ: نَعم، لَقَدْ نَهَانَا أنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أو بَولٍ، أَو أَن نَسْتَنْجِيَ بِاليَمِينِ، أو أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعِ دَابةٍ أَوْ عَظْمٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ويقولُ عمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضِي اللهُ عنهُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ في حَاجَةٍ فَأَجَنَبْتُ فلَمْ أَجد ماءً، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ كما تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيتُ رسولَ اللهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فقالَ: ((إنَّمَا يَكْفِيكَ أنْ تصْنَعَ بِيدَيكَ هَكَذَا)) وَضَربَ بِكَفَّيهِ الأرْضَ ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيهِ وَوَجْهَه. رَوَاهُ مُسِلمٌ.
فَهَذِهِ صِفَةُ التَّيمُّمِ لِمَنْ لَمْ يَجدِ المَاءَ، غَيرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ للمَرْءِ أَنْ يَلْجَأَ إِليهِ وَالمَاءُ عِندَهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنهُ يَسْتَطِيعُ الحُصُولَ عَلَيهِ.
أمَّا الصَّلاةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ تَبدَأُ مِنْ مُرَاعَاةِ المرءِ لِوقْتِ الدُّخُولِ وَالخُرُوجِ، مِنْ خِلاَل العَلاَمَاتِ الَّتِي أَوضَحَها اللهُ؛ وَهيَ طُلُوعُ الشَّمسِ وَارْتِفَاعُهَا ثُمَّ دُنُوُّها ثُمَّ مَغِيبُهَا ثُمَّ مَغِيبُ الشَّفَقِ، فَالفَجْرُ إِذَا ظَهَرَ النُّورُ، وَالظُّهرُ إِذَا مَالتِ الشَّمسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَالعَصْرُ إِذَا صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ، وَالمغْرِبُ إِذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالعِشَاءُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ.
الأَذَانُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَلَقدْ أوْصَى الرَّسُولُ بِهِ فِي الصَّحْرَاءِ، رَوَى البُخَارِيُّ أَن أَبَا سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ لِرَجُلٍ: إنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والبَادِيَةَ، ((فإذا كُنْتَ في غَنَمِكَ وَبَادِيتِكَ فأَذَّنْتَ للصَّلاةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ بالنَّداءِ؛ فإنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِك المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنْسٌ ولا شَيءٌ إلا شَهِدَ يوْمَ القِيامَةِ)) قالَ أبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُه مِنْ رَسُولِ اللهِ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأسِ شَظِيَّةِ الجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ وَيُصَلِّي، فَيِقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا لِعَبْدِي هَذَا؛ يُؤذِّنَ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ)). فَاللهَ اللهَ أنْ تَفُوتَكمْ هَذِهِ المَنْقَبَةُ الَّتِي خُصَّ بِهَا قَاصِدُ الصَّحَرَاءِ وَالبَرِّيَّةِ.
وَإِنَّ مِمَّا لاَ يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنْهُ تَسَاهُلَ النَّاسِ حَالَ خُرُوجِهم إِلى الصَّحْرَاءِ فِي مَسْأَلَةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ وَجَمْعِهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ تَرخَّصَ بِأَحْكَامِ السَّفَرِ فَلاَ بدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْطَبِقًا عَلَيهِ أَحكَامُهُ، فَلا بدَّ مِنْ مَسِيرَةِ يَومٍ وَلَيلَةٍ، وَلاَ بدَّ مِنَ النِّيَّةِ حَالَ القَصْرِ وَالجمْعِ.
أَلاَ وَإنَّ الفُرَصَةَ سَانِحَةٌ للمَرءِ إِذَا خَرَجَ للصَّحَراءِ أَنْ يُطَبِّقَ بَعْضَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ فِي صَلاَتِهِ، وَالَّتِي كَانَ يَمْنَعُه مِنْ أَدَائِهَا كَونُهُ فِي المُدُنِ وَالعمْرَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ الصَّلاَةُ فِي النِّعَالِ، فَقد كَانَ يُصلِّي فِي نِعَالِهِ، وَلَولا مَا فِي المَسَاجِدِ مِنْ فُرُشٍ لَطبِّقَتْ هَذِهِ السُّنَةُ، فَلاَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُطَبِّقَها المَرْءُ فِي الصَّحراءِ وَالبَرِّيَّةِ.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِمَّا لاَ يَجُوزُ للِنَّاسِ التَّهَاونُ فِيه مَسأَلةَ سَتْرِ العَورَاتِ، وتأَمَّلُوا قَولَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَهِيَ تَصِفُ مَسِيرَهم فِي السَّفَرِ إِلىَ الحَجِّ: كَانْت إِحْدَانَا تَضَعْ جِلبَابَهَا عَلَى وَجْهِهَا إذَا حَاذَانا الرُّكبَانُ، فَإذَا جَاوزونَا كَشَفْنَاهُ. رَوَاهُ أبو دَاودَ وَالأثَرمُ. وَمَا تَساهُلُ النَّاسِ بأَمْرِ النِّسَاءِ في الصَّحْراءَ وَالأَسْفَارِ إلاَّ صُورَةٌ مِنْ صُورِ بُعْدِهمْ عَنْ هَديِ النُّبُوَّةِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ مَنْ خَرَجَ إلى الصَّحَراءِ وَالبَرِّيَّةِ فَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَمَّا نَهَى عَنهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَتَفَرَّقوا إذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً، يَقُولُ أبُو ثَعْلَبةَ الخُشَنِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ النَّاسُ إذَا نَزَلُوا مَنزِلاً تفَرَّقُوا في هذه الشِّعَابِ وَالأوْدِيَةِ، فقالَ رسُولُ اللهِ : ((إنَّ تَفرَّقَكُم في هَذهِ الشِّعَابِ وَالأوْدِيةِ إنَّما ذَلِكُم مِنَ الشَّيطانِ)) ، فلمْ يَنْزِلُوا بعدَ ذلكَ مَنزِلاً إلا انْضَمَّ بعْضُهُم إلى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَو بُسِطَ عَليهمْ ثَوبٌ لَعَمَّهمْ. رَوَاهُ أبُو داوُدَ والنَّسَائيُّ بِسَندٍ صَحِيحٍ.
وَمِمَّا نُهيَ عنْهُ قَتْلُ حيواناتِ البرِّ منْ غيرِ سبَبٍ موجِبٍ للقتْلِ، رَوَى الإمامُ أحمدُ وأبُو داودَ وَالدَّارِمِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنُّه قَالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ عَنْ قَتْلِ أرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ. وَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ بِرجُلِ وَقَدْ أحَرَقَ قَرَيةَ نَمْلٍ غَضِبَ عليه وَزَجَرَهُ.
وَمِمَّا عُنِيَ بِهِ الإسْلاَمُ وَنَهَى عَن قَطْعِهِ أَو إفْسَادِهِ الشَّجَرُ وَالنَّباتُ، فَهَذَا أبوبَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يأمُرُ الصَّحَابَةَ الغُزَاةَ حَالَ غَزْوِهم أَنْ لاَ يَقْطَعُوا شَجَرًا وَهمْ فِي حَالةِ حَربٍ، فَمَا الحَالَ الآنُ وَصُورُ إفْسَادِ زِينَةِ الأرْضِ بَادِيَةٌ عَلَيهَا؟!
أقولُ هذا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرةِ والبَاطِنَةِ وَأَجَلُّهَا نِعْمَةُ الإسْلاَمِ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبدُه وَرسولُهُ المَبْعُوثُ إِلى جَمِيعِ الأَنَامِ، صلى الله وسلَّم عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ.
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
وَاعلَمُوا أَنَّ هُنَاكَ نِعَمَتينِ لَولاَ تَيسِير اللهِ لَهمَا لأجْلِكم مَا قَوِيَ شَخْصٌ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيتِهِ لاَ لَيلاً وَلاَ نَهَارًا:
أما الأُولَى فَنِعمَةُ الإسْلاَمِ الَّذِي لَولاَهُ لَبَقِيَ النَّاسُ فِي خَوفٍ وَذُعرٍ، يَقُولَ الرَّسُولَ لِعَدِيِّ بِنِ حَاتَمٍ فيما رواهُ البُخَاريُّ: ((لِئنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَينَّ الظعِينَةَ تَسِير مِنَ الحِيرَةِ حَتى تَطُوفَ بالكَعْبَة لا تَخافُ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى)) ، فَقَالَ عَدِيٌّ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَينَ دُعَّارُ طَيء الذَّينَ قد سَعَّرُوا البِلاَدَ؟! وَالدُّعَّارُ هُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ. وَقَالَ : ((لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الدِّينَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلا اللهَ والذِّئْبَ على غَنَمِه)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
أما النِّعْمَةُ الأخْرَى ـ عِبادَ اللهِ ـ فَهِيَ وُجُودُ سُلْطاَنٍ قَائِمٍ بِأَمْرِ اللهِ يُوقِفُ البَغْيَ وَيَنْهَى عَنِ الفَسَادِ.
فَهَلْ قَدَّرَ النَّاسُ لِهَاتَينِ النِّعْمَتَينِ قَدْرَهُمُا؟!
أَيُّهَا النَّاسُ، ثَمَّةَ أُمُورٌ هِيَ كَالنَّصَائِحِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَها المرءُ نصْبَ عَينَيهِ إِنْ أرَادَ غُدُوًّا أَو رَوَاحًا:
مِنهَا: الاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ بِتَأْمِيرِ أَمِيرٍ يَسْمَعُ لَهُ أَصْحَابُهُ، فَتَزُولَ بِسَبَبِهِ النِّزَاعاتُ وَتَتَوَحَّدُ الكَلِمَةُ وَيَلْتَئِمُ الصَّفُّ، وَقَلَّ أنْ يَخْرُجَ النَّاسُ فِي رِحْلَةٍ أَو سَفَرٍ ثُمَّ لَمْ يؤَمِّرُوا عَلَيهِم أَمِيرًا إلاَّ رَجَعَوا ـ وَلاَ شَكَّ ـ وَقَدْ امْتَلأَتْ صُدُورُ بَعْضِهم عَلَى بَعْضٍ غِلاً، كَانَ يُطْفِئَها الأَمِيرُ لَو كَانَ مَوجُودًا. رَوىَ أبُو سَعِيدِ الخُدْرِي أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ في سَفَرٍ فلْيُؤَمِّروا أحدَهَمُ)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ بِسَندٍ جَيِّدٍ.
وَمِنْهَا: أنَّ الإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِهِ، فَمَا أظُنُّ أنَّ وَعْثَاءَ السَّفَرِ سَتَجعَل المَرءَ يُكْثر مِنَ الأكْلِ أَو الشُربِ؛ وَإِلاَّ فَمَا الدَّاعي لِتلْكَ الأَقْوَاتِ الَّتِي يَصحَبُهَا النَّاسُ مَعهم فِي أسْفَارِهم وَغُدُوِّهِمْ وَرَوَاحِهمْ.
وَمِنْهَا: أنَ يَتأمَّلَ النَّاسُ هَذِهِ الآيَةَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. فَليَعْلَمُوا أَنَّ الوَاجِبَ عَلَيهمْ أَنْ يَجْعَلُوا ذِكرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهم, فَلاَ يَغْفَلُوا عَنْ أَوْرَادٍ أَوْ أَذْكَارٍ وَلاَ عِبَادَاتٍ وَاجِبَةٍ.
وَبَعدُ: أيُّها الإخوَة، اعْلَمُوا أَنَّ أَنْفَسَ وَصِيَّةٍ أُوصِيكُم بِهَا أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ هُنَاكَ أمْرًا هُوَ أَنُفَس مَوجُودٍ، إِذَا ذَهَبَ ضَاعَ، وَإِذَا ضَاعَ نَدِمَ عَلَيه الإنسانُ، أَلاَ وَهُوَ الوَقْتُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي أوْقَاتِكمْ، وَإيَّاكمْ وَتَضييعَهَا فِي أَفْعَالٍ إنْ سَلِمتْ مِنَ المَعَاصيِ فَلَنْ تَسلَمَ مِنْ ضَيَاعِ وَقتٍ فِي غَيرِ فَائدِةٍ.
وَخَيرُ مَا أَسُوقُهُ هُنَا كَلاَمٌ لابنِ الجَوزِيِّ رَحمَهُ اللهُ قَالَ: "وَقَدْ رَأيتُ عُمومَ الخَلاَئقِ يَدْفَعُونَ الزَّمَانَ دَفْعًا عَجِيبًا! إِنْ طَالَ اللَّيلُ فَبِشَيءٍ لاَ يَنْفعُ، وَإِنْ طَالَ النَّهَارُ فَبالنَّومِ، وَهم فِي أطْرَافِ النَّهَارِ عَلَى دِجلَةَ أَو يَدُورُونَ فِي الأسْوَاقِ، وَلَقدْ شَاهَدتُ خَلْقًا كَثِيرًا لاَ يَعْرفُونَ مَعنى الحَيَاةِ، فَمِنهَمْ مَنْ أغْنَاهُ اللهُ عِنْ التَّكَسُّبِ بِكَثرْةِ مَالِهِ، وَمِنهَمُ مَنْ يَخْلُو بِلعبِ الشّطرَنْجِ وَمَا شَابَهَهَا، وَمِنْهم مَنْ يَقَطَع الزَّمَانَ باِلحَدِيث عِنْ السَّلاَطِينِ وَالغَلاَءِ وَالرُّخصِ، فَعَلِمتُ أَنَّ اللهَ لَم يُطْلع عَلى شَرَفِ العُمرِ وَمَعْرفةِ قَدْرِ أَوْقَاتِ العَافِيَةِ إلاَّ مَنْ وَفَّقَه اللهُ وَأَلهمَهُ اغْتِنَامَ ذَلِكَ". وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35].
عِبادَ اللهِ، وَمِمَّا يُوصَى بِهِ فِي هَذَا الوَقت مَا قَالَه الإمَامُ الزَّرْكَشِيُّ فِي آخِرِ رِسَالَة أََلفَهَا عَنْ أَحْكَامِ السَّفَر، فقَالَ: "مَنْ سَافَرَ فِي البَردِ الشَّدِيدِ فَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الجُوعُ وَالخَدَرُ وَالاسْترْخَاءُ وَنَحوهَا، فَينْبغَي أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْ الطَّعَامِ وَينَالَ مِنَ الشَّرابِ نَيلاً صَالِحًا، وَيمْسِكَ عَنِ الحَرَكَةِ بَسببِه بِقَدْرِ مَا يُسَخِّنُ هَذَا الطَّعَامَ".
أيُّهَا النَّاسُ، بَقِيَ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ مَا قَدْ سَمِعتُمُوهُ لَيسَ مِمَّا يُقَال فَيُنسَى، بَل سَيَأتِي زَمَانٌ يحتاجُ لهُ كُلُّ مسُلمُ. رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((يوشِكُ أنْ يكُونُ خيرَ مالِ الرجلِ غَنمٌ يتتبَّعُ بها شعَفَ الجِبَالِ ومَوَاقِعَ القَطْرِ؛ يفرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ)).
اللَّهمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...
(1/5201)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القصص القرآني. 2- قصة أصحاب قرية أيلة من قرى بني إسرائيل. 3- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقْوَى، اتَّقُوهُ وَرَاقِبُوهُ حَتَّى تَسِيرُوا عَلَى نُورٍ مِنهُ وَهِدَايَةٍ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ كِتابُ اللهِ المَنْبِعُ الملَيءُ بِالهُدَى وَالحَقِّ، بِهِ يِجِدُ المُسِلمُ نُورًا يُضِيءُ لَهُ طِريقَهُ، وَبِهِ يَجِدُ العَاصِي مَا يَحضُّهُ عَلى التَّوَبةِ وَالرُّجُوعِ وَيُخَوِّفُهُ مِنَ التَّمادِي، وَيَجدُ فِيهِ الكَافِرُ مِنَ الوَعيدِ مَا فِيهِ ذِكْرَى وَتَنْبيه، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22].
إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لآيَاتٍ جَدِيرَة بِأَنْ يُوقَفَ عِنْدَهَا طَوِيلاً، وَيُعَادَ النَّظرُ فِيهَا ويُكَرَّرَ التَّأمُّل، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
إِنَّ آيَاتِ القَصَصِ فِي القُرْآنِ جَديرَةٌ بِأنْ يُلْقَى عِندَهَا عَصَا التِّرْحَالِ، وَأَنْ تُعَادَ وَتُكَرَّرَ وَتُؤْخَذَ مِنهَا الدُّرُوسُ وَالعِبرُ، وَيَنْبَغِي أَن لاَّ تَمْضِي دُونَ عِبَرَةٍ وَعِظَةٍ، وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ أَكْثرَ مَنْ وَرَدَ الحَديثُ عَنهُمْ فِي القُرْآنِ هُم بَنو إسْرَائيلَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِي قَصَصٍ تُفْزِعُ مَنْ فِي قَلبِهِ إيمَانٌ وَمَنْ يَخَافُ اللهَ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةٌ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ، أقَضَّتُ مَضَاجِعَ وَحَرَكَتْ قُلوبًا وََأسَالتْ عُيُونًا، يَقُولُ الله سبُحَانَهُ: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 163-166].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ حَاصِلَ مَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ هُوَ أَنَّ اليَهُودَ زَعَمُوا لِرَسُولِ أَنَّ بَنِي إسْرَائيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهمْ عِصْيَانٌ وَلاَ مُعَانَدَةٌ وَلاَ مُخَالَفَةٌ لَمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنهُ، فَأَمرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْألهم عَنْ هَذه القَرْيةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى البَحْرِ وَهِيَ قَريةُ أَيْلَةَ، وَكَانَ أَهلُ هَذِهِ القَرْيَةِ مِنَ اليَهُودِ، وَكَانُوا أَهلَ صَيدٍ، فَكَانَ اللهُ قَدْ أَمرَهمْ أَنْ يَتَجَنَّبُوا الصَّيْدَ يَومَ السَّبْتِ، وَسُمِحَ لَهمْ أَنْ يَصِيدُوا بَقِيَّةَ الأَيَّامِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللهُ الحِيتَانَ أَنْ تَغيبَ عَنْ شَاطِئِ البَحْرِ طُولَ الأُسُبوعِ وَلاَ تَخْرُجَ إلاَّ يَومَ السَّبْتِ، ذَلِكَ اليَومُ الَّذِي مُنِعَ الصَّيدُ فِيهِ، فَمَلُّوا مِنْ هَذَا الوَضْعِ فَارْتَكَبُوا المَعْصِيةَ مِنْ أَجلِ الحُصُولِ عَلَى الصَّيدِ، فَحَفَرُوا حُفَرًا عِندَ جَانِبِ البَحْرِ، فَإِذَا سَقَطَتْ فِيهَا الحِيتَانَ يَوم السَّبْتِ أغلقُوا عليهَا بأحجارٍ، فإذا جاءَ يومُ الأحدِ استخرَجُوها وباعوهَا وقالوا: لم نَصِدْ يومَ السبتِ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ بَينَهمْ وَمُشِيَ بِهِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الفَسَقَةُ بِصَيدِهِ، فَنَهَضَتْ مِنهُم فِرْقَةٌ وَنَهَتْ عَنْ ذَلِكَ وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ تَعْصِ وَلَكِنَّهَا لَم تَنْهَ عَنْ هَذِهِ المَعْصِيِةِ، بَلْ إِنَّهم قالُوا للنَّاهِينَ عَنهَا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا. وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنًَّ المُنْكِرِينَ عَلَيهمْ اعْتَزَلُوا أصَحابَ المَعَاصِي حَتَّى إِنَّهمْ قَالُوا: لاَ نُسَاكِنُكُمَ أَبَدًا، فَبَنَوا جِدَارًا بَينَهمْ يَفْصِلُهمْ عَنْهُمْ.
فأصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَومٍ فِي مَجَالِسِهمْ وَلَم يَخْرُجْ مِنْ أَصْحَابِ المَعَاصِي أَحدٌ، فَقَالُوا: إنَّ للِنَّاسِ لَشَأنًا، فَعَلَوا مِنْ عَلَى الجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا أَصْحَابُ المَعْصِيَةِ وَالسَّاكِتينَ عَنهَا قَدْ قَلَبَهُم اللهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، فَفَتَحُوا البَابَ وَدَخَلُوا عَلَيهمْ، فَعَرفَتِ القِرَدَةُ أَقَارِبَهمْ مِنَ الإِنْسِ وَلَمْ تَعْرِفِ الإنْسُ أَقَارِبَهم مِنَ القِرَدَةِ، فَجَعَلَ القِرْدُ يَأتِي قَرِيبَهُ مِنَ الإِنْسِ فَيَشُم ثِيَابَهُ وَيَتَحَسَّسُهُ وَيَبْكِي، فَيَقُولُ لَهُ الإِنْسِيُّ: أَلمَ نَنْهَكُم؟! فَيَقُولُ القِرْدُ بِرَأسِهِ: نَعمْ. هَكَذَا ذَكَرَ أَهلُ التَّفْسِيرِ هَذِهِ القِصَّةَ وَأسْنَدُوهَا إِلى بَعضِ التَّابِعيِنَ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ النَّاظِرَ فِي قَصص بَنِي إسْرَائِيلَ لَيَرَى عَجَبًا، لَقدْ كَانَ لليَهودِ فِي أوَّلِ أمرِهم شَأنٌ عَظِيمٌ، أثَنَى اللهُ عَلَيهمْ وَمَدَحَهُمْ: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 30-32]، وَلَكِنّ النِّعَمَ لاَ تَدُومَ، وَالشَّرَفَ لاَ يَبْقى مَتَى خَالَفَ النَّاسُ أَمرَ اللهِ سُبْحَانَهُ، والنَّقْصُ أوَّلَ مَا جَاءَ إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ بَسَببِ تَرْكِ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ، فَفِي مُسْنَدِ الإمَامِ أَحمدَ والسُّنَنِ ـ وَهَذَا لَفظُ أبِي دَاودَ ـ عَنْ عَبدِ الله بِنِ مَسْعودٍ رَضَيَّ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ : ((إنَّ أَولَ ما دخلَ النقصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرجلَ فَيَقُولُ لَهُ: اتقِّ اللهَ ودَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلقَاهُ مِنَ الغَدِ فَلاَ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَه، فَلَّما فَعَلُوا ذَلِكَ ضَربَ اللهُ قلُوبَ بَعضِهمْ بِبَعْضٍ)) ، ثُمَّ قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ مَحمدُ بن عَبدِ الوَهَّابِ رَحمهُ اللهُ: "كُلُّ مَا ذُمَّ بِهِ اليَّهُودُ والنَّصَارَى فِي القُرْآنِ فَإِنَّهُ لَنَا".
وَلأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهمُا: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوبِيخًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 63]. وَيَقُولَ الضَّحَّاكَ: "مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَقْوى عِندِي مِنهَا: أَنَّا لاَ نَنْهَى" رَوَاهُمَا ابن جَرِيرٍ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الأَمرَ بالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَر مِنْ أوْجَبِ الأَعْمَالِ وَأهَمِّ أُمورِ الدِّينِ، ولا قوامَ لدينِ الإسلامِ إلا بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكَرِ، وفي القيامِ بهذا الأمرِ منَ الفَضائِلِ الكَثيرةِ وَتَحْصيلِ المنَافِعِ العَامَّةِ والخَاصَّةِ وَدَرْءِ المَفَاسدِ مَا يَدعُو كلَّ عَاقِلٍ إلى الاهْتِمَامِ بِهِ، فَبِهِ تَعْلُو كَلِمَةُ اللهِ وَيَظْهَرُ دِينهُ، وَبِتَرْكِ ذَلِكَ يَضْعفُ الإسْلاَمُ وَأهْلُهُ.
يَقُولُ ابنُ عَقِيلٍ رَحمهُ اللهُ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ القَرْنِ الخَامِس: "مِنْ أَعظمِ مَنَافِعِ الإسْلاَمِ وَآكَدِ قَواعِدِ الأدْيَانِ الأَمرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ وَالتَّنَاصُحُ، فَهَذَا أَشَقُّ مَا يَحمِلُهُ المُكَلَّفُ؛ لأنَّهُ مَقَامُ الرُّسُلِ حَيثُ يَثْقُلُ صَاحِبُهُ عَلَى الطّبِاعِ وَتَنُفُر مِنهُ نُفُوسُ أهْلِ اللَّذَاتِ، وَيَمْقَتُهُ أهَلُ الخَلاَعَةِ، وَهُوَ إِحياءٌ للسُّنَنِ وَإِمَاتَةٌ للبِدَعِ"، إِلى أَنْ قَالَ: "لَوْ سَكَتَ المُحِقُّونَ ونَطَقَ المُبْطِلُونَ لَتَعوَّدَ النَّشْءُ عَلَى مَا شَاهَدُوا وَأَنْكَرُوا مَا لَم يُشَاهِدُوا، فَإِذَا أحْيَا المُتَدَيِّن سُنَّةً أَنْكَرَهَا عَلَيهِ النَّاسُ وَظَنُّوهَا بِدْعَةً".
لاَ بُدَّ مِنَ الأَمرِ بِالمَعْرَوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ إِذَا أرَدْنَا نَجَاةً وَسَلاَمَةً مِنَ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116، 117]. رَوَى ابنُ جَرِيرٍ بِسَندِهِ عِنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: دَخلتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا وَالمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: ما يبكِيكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: هَؤلاَءِ الوَرَقَاتِ، وَإِذَا هُوَ فِي سُورَةِ الأعْرَافِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ تَعْرِفُ القَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ؟ فَقُلْتُ: تِلْكَ أَيْلَةُ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لاَ أسْمَعُ الفِرْقَةَ الثَّالِثَةَ ذُكِرَتْ مَعَهُمْ، نَخَافُ أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ؛ نَرَى فَلاَ نُنْكِرُ، فَقُلْتُ: أَمَا تَسْمَعُ اللهَ يَقُولُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ [الأعراف: 166]، فسُرِّيَ عَنْهُ وَكَسَانِي حُلَّةً.
العَاقِلُ ـ عِبادَ اللهِ ـ مَنِ اعْتَبَرَ بِمَنْ مَضَى مِمَّنْ زَالَ أمْرُهُم وَانْتَهَى خَبَرُهْم، لما خَالَفُوا أمْرَ اللهِ وَارْتَكَبُوا مَعَاصِي اللهِ، وَالسَّعِيد مَنْ وُعِظُ بِغَيرِهِ. رَوَى الإمام أحمدُ فِي الزُّهْدِ وَأبُو نَعَيمِ فِي الحِلْيَةِ مِنْ طَريقِهِ عَنْ جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُص وَفُرِّقَ بَينَ أَهْلِهَا فَبَكَى بَعْضُهم إلى بَعْضٍ رَأَيتُ أبَا الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فقلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاء، مَا يُبْكِيكَ في يَوم أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الإسْلاَمَ وَأهْلَهُ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيرُ، مَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللهِ إذَا هُمْ تَرَكُوا أمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهم المُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فصَارُوا إِلَى مَا تَرونَ.
إِنَّهُ لَيسَ أُمَّةٌ مِنَ الأمَمِ بِمَنْجَاةٍ مِنَ العُقُوبَةِ العَاجِلَةِ، وَذَلِكَ حِينَمَا تَنْقَلِبُ عِندَهَا المَوَازِينُ، فَتُحْيَا البِدَعُ وتُمَاتُ السُّنَنُ، وَيُنْهَى النَّاسُ عَنِ الكَلاَمِ، ألاَ وَإنَّ تَتَبُّعَ رُخَصِ العُلَمَاءِ لاَ يُزِيلُ التَّحْرِيمَ، بَلْ قَدْ يَجْمَعُ عَلَى الفاعِلِ مَعْصِيَتَينِ.
اللَّهمَّ فَقِّهْنَا فِي الدِّين، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
أقُولُ هَذَا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، أفْضَلَ مَا يَنْبَغِي لِجَلاَلِ وَجْهِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لاَ شَريكَ له، أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وسَلَّم تَسْلِيمًا كَثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ تَقْوَى تَقُودُكُم إلى فِعْلِ الأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي.
عِبادَ اللهِ، الأَمرُ باِلمَعْرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ : ((مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإن لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وذلكَ أَضْعَفُ الإيمانِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هَذَا الحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِهِ النَّاسُ فِي تَرْكِهمُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِعَدمِ قُدْرَتِهم، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذَا الحَديثَ لَمْ يَدَعْ لأيِّ شَخْصٍ مَقَالاً؛ فَإِنَّ مَنْ لَم يُنْكِرِ المُنْكرَ فَإِنَّ قَلْبَهُ خَال مِنَ الإِيمَانِ، يَقُولُ عَبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ مَعْروفًا وَلَمْ يُنْكِرْ مُنْكَرًا) رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ. فَمَنْ لَم يُنْكِرِ المُنْكَرَ بِقَلْبِهِ بَأَنْ يُبْغِضَهُ وَيَكْرَهَهُ وَيَمْقُتَ فَاعِلَهُ فَلَيسَ بِمُؤمِنٍ؛ لِقَولِ الرَّسُولِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: ((وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلك مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنَ إيماَنٍ)). لِهَذَا كَانَ لِزَامًا عَلَى كُلِّ إنْسَانٍِ أنْ يُنْكِرَ المُنْكَرَ بِقَلْبِهِ، لاَ يَرْضَاهُ وَلاَ يُحِبُّهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ذَهَابِ الإيمَانِ المَذْكُورِ فِي هَذَا الحَدِيثِ.
عِبادَ اللهِ، إنَّ الأمرَ بالمعرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَيسَ قَاصِرًا عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، بَلْ كُلّ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ وَتَحْتَ مَسْؤولِيَّتِهِ، ((كُلكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) ، وَلَو أَنَّ النَّاسَ أصْلَحُوا مَنْ تَحْتَ أيدِيهم أَوْ سَعَوا فِي إِصْلاَحِهِم لأَصْلَحَ اللهُ مَنْ فَوقَهُمْ، رَوَى النَّسائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاودَ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: ((إنَّ الناسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ ـ يَعْنِي: صَاحِبَ المَعْصِيَةِ ـ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابٍ منهُ)).
أَيُّهَا النَّاسُ، يَنْبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يَلْتَمِسَ رِضَا اللهِ تَعَالَى عَلى كُلِّ شَيءٍ وَإنْ سَخِطَ عَلَيهِ النَّاسُ كُلّهُمْ، كَتَبَ مُعَاويَةُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنِ اكْتُبِي لِي كِتَابًا تُوصِينَنِي فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ، قَالَ: فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا إِلى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: سَلاَمٌ عَلَيكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ)) وَالسَّلاَمُ عَلَيكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيرُهُ بِسَندٍ صَحيحٍ.
إِنَّ المَلاَمَةَ لَتَزْدَادُ حِينَ يَتْرُكُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلِيهِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهِ فِي وَصْفِ حَالِ النَّاسِ مَعَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ: "وَمَنْ لَهُ خِبرَة بِمَا بَعثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبِمَا كَانَ عَلَيهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَأَى قِلَّةَ دِيَانَةِ النَّاسِ فِي جَانِبِ الأمْرِ والنَّهْيِ، وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللهِ تُنْتَهَكُ وَحُدُودَهُ تُضَاعُ وَدِينَهُ يُتْرَكُ وَسُنَّة رَسُولِهِ يُرغَبُ عَنْهَا وَهُوَ بَارِدُ القَلْبِ وَسَاكِتُ الِّلسَانِ؟! شَيطَانٌ أَخْرَسُ كَمَا أَنَّ المُتَكَلِّمَ بِالبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إِلاَّ مِنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ إذََا سَلِمَتْ لَهمْ مَآكِلُهُمْ وَرِيَاسَاتُهُمْ فَلاَ مُبَالاَةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟! وَخَيرُهُمُ المُتَلَمِّظُ المُتَحَزِّنُ، وَلَو أَنَّهُ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضاضَةٌ عَلَيهِ فِي جَاهِهِ أَو مَالِهِ لَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الإِنْكَارِ الثَّلاَثَةَ بَحَسْبِ وسْعِهِ، وَهَؤلاءِ مَعَ سُقُوطِهمْ مِنْ عَينِ اللهِ وَمَقْتِ اللهِ لَهمْ قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمِ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوتُ القُلُوبِ؛ فَإِنَّ القَلْبَ كلَّمَا كَانَتْ حَياتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلهِ وَرَسُولِهِ أقَوَى وَانْتِصَارُهُ للدِّينِ أَكْمَلَ".
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَالْتَزِمُوا أَوَامِرَ اللهِ تَفُوُزوا وَتُفْلِحُوا.
وَصَلَّوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى...
(1/5202)
الجنة دار الأفراح
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح والحزن من طبيعةِ بني آدم. 2- صفة الجنة ونعيمها. 3- أسباب توصل إلى الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعْدُ: فَإِنَّ الوَصِيَّةَ الحَقَّةَ ـ عِبادَ الله ـ هِيَ الوَصِيَّةُ بِتَقَوَى اللهِ، الَّتِي مَنْ أَخَذَ بِهَا غَنِمَ فِي الدُّنْيَا وَرَبِحَ فِي الآخِرَةِ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
عِبادَ اللهِ، الإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا يَعِيشُ بَينَ مُتَنَاقِضَاتٍ قَدْ لاَ تُوجَدُ مُجتَمِعَةً أَبدًا، بَل إِذَا جَاءَ أَحُدُهمَا زَالَ الآخَرُ، فِي أَمرٍ عَجِيبٍ يَدلُّ عَلَى إِحْكَامِ صُنعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21].
أيُّهَا النَّاسُ، شَيئانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي أَمرٍ وَاحدٍ قَطُّ: الحُزْنُ والفَرَحُ، الحزنُ وَالفَرَحُ اللذَانِ جَبَلَ اللهُ عَلَيهمَا بَنِي آدَمَ، الفَرحُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنهُ فِي جَوارِح الإنسانِ بالابتسامة، بَلْ رُبَّمَا بَلَغَتِ الفَرْحَةُ بِبَعْضِهم إلى الضَّحِكِ، وَتَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَمَا فِي البُخاريِّ ومُسْلمٍ: مَا رَأيتُ رَسُولَ اللهِ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهواتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. بَل رُبَّمَا غَلَبَ الفَرَحُ بِبَعْضِهم حتَّى أبكاهُ فَيَبْكِي مِنْ شِدَةِ الفَرَحِ.
الفَرَحُ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ لَذَةٌ تَقَعُ فِي القَلْبِ بإِدرَاكِ المَحْبُوبِ وَنَيْلِ المُشْتَهَى، فَيَتَولَّدُ مِنْ إدْرَاكِهِ حَالةٌ تُسَمَّى الفَرَحُ والسُّرُورُ، كما أن الحزْنَ والغَمَّ مِنْ فَقْدِ المحبُوبِ، فَإِذَا فَقَدَهُ تَولَّد من فَقْده حَالةٌ تُسَمَّى الحُزن والغَمُّ.
الفَرَحُ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ صِفةُ كَمَالٍ فِي البَشَرِ، وَهوَ قَبْلَ ذَلِكَ صِفةٌ لله سُبحانَهُ وَتَعَالى، وَهيَ فِي غاية الكَمَالِ وَأعَلاهُ عَلى مَا يَليقُ به سُبحانه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
الفَرَحُ مِنْ طَبيعَةِ البَشَرِ، وحَقٌّ للنَّاسِ أَنْ يَفْرحُوا إِذَا تحَصَّلُوا عَلَى مَا يُسْعِدُهُم وَيُفْرِحُهُمْ. أَلا وَإِنَّ مِمَّا يَحْسُنُ ذِكره أنَّ النَّاسَ يَكثر فِيمَا بَيْنَهُمْ هَذِهِ الأَيَامَ مُنَاسَبَات الأَفْرَاحِ، بَلْ رُبَّمَا شُغِل المرْءُ أَيامًا مَتوالِيةً لحُضُورِ مِثلِ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ.
ألاَ فَلتَعْلَمُوا ـ أَيُّها النَّاسُ ـ أنَّ أَفْرَاحَ النَّاسِ في هَذِهِ الدُّنْيَا زَوَالُهَا سَرِيعٌ، فَكَم مِنْ فَرَحٍ يَتْبَعُهُ تَرَحٌ، وإلا انقَطَعَ الفَرَح بالموت الَّذي لَم يَتْرُكْ لِذِي فَرَحٍ فَرَحًا.
عَبادَ الله، إنَّ الفَرَحَ الحَقِيقيَّ هُوَ الفَرَحُ الدَّائِمُ، الفَرَحُ الَّذِي لاَ يَزُولَ، الفَرَحُ الَّذي يَسْعَد بِهِ أَهْلهُ وَهُمْ فِي زِيَادَةٍ مِنهُ إِلى أَنْ يَشَاءَ اللهُ. وَمَا أَحْوَجَنَا ـ عِبادَ الله ـ أنْ نَتَذَكَّرَ بِأفْرَاحِنَا هَذِهِ فِي الدُّنْيَا بِلاَد الأَفْرَاحِ الَّتِي تَنْتَظرُ الَمؤمِنَ يَومَ القِيَامَةِ. أَتَدْرُونَ مَا بِلاَدُ الأفَرَاحِ الَّتِي لاَ حُزْنَ فِيهَا وَلاَ كَدَرَ؟! إِنَّهَا جَنَّةُ المَأْوَى. يَقُولُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضي اللهُ عَنْهُمَا: (لَيسَ فِي الجَنَّةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلاَّ الأَسَماءَ). نَعَم، هُمْ فِي فَرَحٍ وَلَكِنْ لَيسَ كَفَرَحِنَا، هُمْ فِي سَعَادةٍ لَيسَت كَسَعَادَتِنَا.
أَيُّهَا النَّاسُ، ((إِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا)) أي: لاَ مَثِيلَ لَهَا وَلاَ عِوَض، هِيَ ـ وَرَبِّ الكَعْبَةِ ـ نورٌ يَتَلألأُ وَرَيحَانةٌ تَهْتَزُّ وَقَصرٌ مَشِيدٌ وَنَهرٌ مُطَّرِدٌ وثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ وزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ وَمَقَامٌ في أَبَدٍ في دَارٍ سَلِيمَةٍ وَفَاكِهَةٌ وَخُضْرةٌ وَنِعْمَةٌ فِي مَحِلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهيَّةٍ، هكَذَا وَصَفَهَا رسولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ لأصْحَابِهِ: ((أَلاَ هَل مِنْ مُشَمِّرٍ إلى الجَنَّةِ؟!)) ، فَقَالُوا: نَحن المُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((قُولُوا: إن شاء اللهَ)) ، فَقَال القومِ: إِن شَاءَ اللهَ. رَوَاهُ ابنْ مَاجَه وَالبَيْهَقِيُّ وَابنُ حِبَّانَ.
الجَنَّةُ ـ عِبادَ اللهِ ـ لَهَا أبوَابٌ كَمَا أنَ لِبيوتِكُم أبوابًا، وَلَكنَّ الجَنَّةَ تَخَتلِفُ، فِي صَحِيح مُسْلِمٍ أنَّ رَسولُ اللهِ قَالَ: ((ما مِنْكمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فيُسْبِغُ الوُضُوءَ ثمَّ يقولُ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ إلا فُتِحَتْ لهُ أبوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ يدْخُلُ منْ أيِّها شاءَ)). أبَوابٌ لَيستْ كَأبَوابِ أَهُلِ الدُّنْيَا, فِي الصَّحِيحينِِ أَنَّ الرَّسُولَ قال: ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، إنَّ مَا بَينَ المِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالأَحسَاء)) ، وَفي رِوَايةٍ: ((وَلَيَأتينَّ عَلَيه يومٌ وَهُو كَظِيطٌ مِنَ الزِّحَامِ)).
لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي جَمَالِ رَوَائحِهم فَإِنَّ الجَنَّةَ يَجِدُ النَّاسُ رِيحَهَا مِنْ مَسِيرَةِ مائةِ عَامٍ، كَمَا صحَّ بِذَلِكَ الحَديثُ. لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي البُنْيَانِ وَجَمَالِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَرَونَقِهِ فَإِنَّ لأَهلِ الجَنَّةِ مَنَازِلَ وَدَرَجَاتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ فِي الحَديثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَاريُّ: ((إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درَجَةٍ أعدَّها اللهُ للْمُجاهِدِينَ في سبيلِهِ، بَينَ كُلِّ دَرَجتَينِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ والأرضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِردَوسَ الأَعْلَى؛ فَإِنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوقَهُ عَرشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَتَفَجَّرُ أَنْهارُ الجَنَّةِ)) ، وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ أَهلَ الجَنةَ ليَتراءَوْنَ الغُرَفَ مِنْ فَوقِهم كَمَا تَتَرَاءونَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَينَهُمْ)) ، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيرُهُمْ، قَالَ: ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقَوا المُرَسَلِينَ)).
أَمَّا أَدْنَى أَهلِ الجَنَّةِ فِيهَا فَرَوى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيُّ قال: ((سألَ موسَى ربَّهُ: مَا أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنزِلَةً؟ قالَ: رجلٌ يجيءُ بعدَما دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فيقال له: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فيقولُ: رَبِّ، كيفَ وقدْ نزَلَ النَّاسُ مَنازِلِهمْ وأخَذُوا أخذَاتِهمْ؟! فيقالَ له: أَلا تَرْضَى أنْ يكونَ لكَ مِثْلُ مُلكِ مَلِكٍ مِنْ مُلوكِ الدُّنيا؟ فيقولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فيقولُ اللهُ: هذا لك ومِثْلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ، فيقولُ في الخامِسَةِ: ربِّ رضيتُ، فيقولُ اللهُ: هذا لكَ وَعَشْرَةُ أمثَالِه ولكَ ما اشْتَهَتْ نفسُكَ ولَذَّتْ عَينُكَ، فيقُولُ: رَبِّ رَضِيتُ، قال مُوسَى: رَبِّ، فما أَعْلاهُم مَنزِلةً؟ قال: أولئكَ الذينَ أرَدْتُ غَرْسَ كَرامَتِهمْ بيدِي وخَتَمْتُ عليها، فَلَمْ ترَ عَينٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، ولم يخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ)).
وَرَوَى مُسْلمٌ أَيضًا وَالبُخَارِيُّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: ((إني لأعْلمُ آخِرَ أهْلِ النَّار خُرُوجًا منها ـ أوْ: آخرَ أهل الجنةِ دُخُولاً فِيهَا ـ: رجلٌ يخرُجُ منَ النَّارِ حَبْوًا، فيقولُ اللهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجنَّةَ، فيأْتِيهَا فيُخَيَّلُ إليهِ أنَّهَا مَلأَى، فيرْجعُ فيقولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُهَا مَلأَى، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ له: اذْهبْ فادْخُلِ الجنَّةَ، فيَأْتيها فيُخَيَّلُ إليه أنها مَلأَى، فيقولُ: وجدْتُها مَلأَى، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اذْهَبْ فادْخُلِ الجنَّةَ، فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنيا وعَشَرَةَ أمْثالِها، فَيقُولُ: أتَسْخرُ بِي وْأنْتَ المَلِكُ؟!)) قَالَ الرَّاوِي: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ ضَحِكَ حتَّى بدَتْ نوَاجِذُهُ، فكانَ يقولُ: ((ذلكَ أَدْنَى أهلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً)).
عِبادَ اللهِ، لئنْ كَانَ الإنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لاَ يَقْوَى أَنْ يَأكُلَ فَوقَ طَاقَتِهِ أَو يَتَنَعَّمَ فَوقَ جَهدِه فَإنَّ أَهلَ الجَنَّةِ أعْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُم يَسْتَوعِبُونَ مَا أُعِدَّ لَهمْ مِنَ النَّعِيمِ، لِكمَالِ حَيَاتِهمْ وَضَخَامَةِ أَجْسَامِهمْ وَتَوافُرِ قِوَاهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يُمْنُونَ، رَوَى الإمَامُ أَحمدُ والنَّسَائيُّ والحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهَودِ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا أبَا القَاسِمِ، ألسْتَ تَزُعُمُ أَنَّ أَهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ؟! وَيَقُولُ اليَهُودِيُّ لأصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لي بِهَذَا خَصَمْتُهَ، فَقَالَ : ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائةِ رَجُلٍ فِي المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالجِمَاع)) ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الحَاجَةُ، فَقَالَ : ((حَاجَتُهُمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهمْ مِثْلُ المِسْكِ، فَإِذَا البَطْنُ قَد ضَمُرَ)).
وَرَوَى مُسْلِمٌ مَرفُوعًا: ((يأْكلُ أهلُ الجنةِ فِيها ويَشْربونَ، ولا يتَغوَّطُونَ ولا يَمتَخِطونَ ولا يَبُولونَ، ولكنْ طعَامُهمْ ذاكَ جشاءٌ كرَشْحِ المسكْ، يُلهمُونَ التَّسْبيحَ والتَّكبيرَ كما يُلْهَمُونَ النَّفَسَ)) ، وفِي روايةٍ في الصَّحِيحَينِ: ((لا يَبُولُونَ ولا يتَغَوَّطُونَ ولا يَتْفُلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهمْ الذَّهبُّ، وَرَشحُهمُ المِسكُ، وَمَجَامِرُهم الألوَّة ـ وَهُو عُودُ الطِّيبِ ـ، أَزوَاجُهم الحُورُ العِينُ، آنيتُهم الذَّهبُ، لِكلِّ واحدٍ منهم زَوْجتانِ، يُرَى مُخُّ ساقَيها من رواءِ اللحمِ منَ الحُسْنِ، لا اخْتلافَ بينَهم ولا تبَاغُضَ، قلوُبهم قَلبُ رجلٍ واحدٍ)).
النَّاسُ فِي أفَرَاحِهمْ فِي الدُّنْيَا يَلتَقُونَ بِأحبَابِهم وأَصْحَابِهم، وإنَّ أهلَ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ يَلْتَقُونَ بِأَحْبَابِهم وَإِخْوَانِهم، يَقُولُ الرَّسُولُ : ((إنَّ في الجنَّةِ لَسُوقًا يأْتُونَها كُلَّ جمُعةٍ، فِيهَا كُثْبَانْ المِسْكِ تَهُبُّ رِِيحُ الشَّمَالِ فتَحْثُو في وُجوهِهم وثِيابهم فيزْدادُونَ حُسنًا وَجَمَالاً، فيَرْجِعُونَ إلى أهْلِهم وقَدِ ازْدَادُوا حُسنًا وجمالاً، فيقولُ لهم أَهْلُوهُم: واللهِ، لقدِ ازْدَدْتُم بعدَنَا حُسنًا وجمالاً! فيقولُونَ: وأنْتُم ـ واللهِ ـ لَقَدِ ازْدَدْتُم بعْدَناَ حُسْنًا وَجَمَالاً)) رَوَاهُ مُسْلمٌ.
لأَهْلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ طَرَبٌ وَغِنَاءٌ وَلَذَةٌ، رَوَى ابنَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِي قَالَ: ((إنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الجَنَّةِ لَيُغَنِينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ مَا سَمِعَهَا أحدٌ قَطُّ، وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِينَ به: نَحْنُ الخيرات الحِسَانُ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ، يَنْظُرُونَ بِقُرَّةِ أَعْيَانٍ. وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِينَ به: نَحْنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتنه، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا يخَفْنَه، نَحْنُ المُقِيمَاتُ فَلات يَظعَنَّهُ)) رواه الطَبْرَانيُ في الصغير والأوسط بسند رجالهُ رجالُ الصَّحيحِ.
لئنْ كَانَ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا يَفِرُّونَ مِنْ حَرِّ الشَّمسِ وَلهيبِهَا فَإِنَّ الجَنَّةَ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13]. لئنْ كَانَ النَّاسُ يَتَسَابقُونَ إِلى الفَيءِ واَلظِّلِّ فِي الدُّنْيَا، ((فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا)) متفقٌ عليهِ.
عِبادَ اللهِ، هَذَا نَعيمُ الجَنَّةِ وَهَذَا وَصْفُهُ، وَلَكِنَّ الفَرْحَةَ الَّتِي فَوقَ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ يَقُولُ : ((إِذَا صَارَ أَهلُ الجَنَّةِ إِلى الجَنَّةِ وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ أُتيَ بالموتِ حتَّى يُجْعلَ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ ثمَّ يُذبحُ، ثُمَّ يُنادِي منادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوتٌ، وَيَا أَهلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوتٌ، فَيَزدَادَ أَهلُ الجَنَّةِ فَرحًا إِلَى فَرَحِهمْ، وَيَزدَادُ أَهلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهمْ)).
اللَّهمْ إنَّا نَسأَلُكَ الفِردَوسَ الأَعْلَى وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ الَّذِي لاَ نَبأَسُ بَعْدَهُ أبدًا.
أقُولُ قَولي هَذَا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِِ وَاسِعِ الفضلِ كَرِيمِ العَطَايَا، يَقْبَلُ القَلِيلَ وَيُجَازِي بالكَثِيرِ، يَغفرُ الذَّنْبَ وَيُقيلُ العَثرةَ، رَحمةً مِنه وَتَفَضُّلاً، وأشهدُ أنْ لاَ إله إلا اللهُ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ له، وَأشهد أنَّ مُحمدًا عَبدُه وَرَسُولُه، بَشَّرَ وَأَنْذَرَ وَتَوَعَّدَ وَحَذَّرَ، صلى اللهُ عليه وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِه، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثيرًا.
أمَّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، فَإِنَّ نِهَايَةَ التَّقْوَى دُخُولُ الجَنَّةِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ أَهلَ الجَنَّةِ إِذَا نَالُوا مَا نَالُوا يُنَادِيهمُ اللهُ بِصَوتٍ يَعْرِفُونَهُ، فَيقُولُ: ((يَا أهْلَ الجَنَّةِ، إِنَّ لَكم مَوعِدًا أُريدُ أَنْ أُنْجِزكُموُهُ فَيقُولُونَ: يَا رَبِّ، ألم تُدْخِلنَا الجَنَّةَ وَتُجِرنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَطَّلعُ اللهُ إِليهم، فَمَا رَأوا شَيئًا هُوَ أَحبُّ إِلَيهم مِنَ النَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ وَسَمَاعِ صوتِهِ)) رَوَاهُ مُسلِم بِمَعنَاهُ.
أيُّها النَّاسُ، هَذِهِ الجَنَّةُ الَّتِي يَقُولُ عَنَها: ((لَغَدوةٌ فِي سَبيلِ اللهِ أَو رَوحَةٌ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَاب قَوسِ أَحدِكمْ أَوْ مَوضِعُ قَيدِه ـ يَعْنِي سَوطهِ ـ مِنَ الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَو اطَّلَعَتَ امرَأةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهلِ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لَمَلأتْ مَا بَينَهُمَا رِيحًا وَلأَضَاءتْ مَا بَينَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأسِهَا خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) رَواهُ البُخَاريُّ.
ومَعَ هذا كلِّهِ فإنَّ كثيرًا منَ النَّاسِ يأبَونَ منْ دخُولِ الجنَّةِ ولا يرغَبُونَ فيها، وهم في ذلكَ في تمامِ عقُولِهم وكمالِ أجسَامِهم، قالَ رسولُ اللهِ يومًا لأصْحابِهِ: ((كُلُّكُم يَدخُلُ الجنَّةَ إلا منْ أَبَى)) قالُوا: ومَنْ يَأْبَى يَا رسُولَ اللهِ؟! قال: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصانِي فَقَدْ أَبَى)) رَواهُ البُخَارِيُّ.
نَعم أيُّها النَّاسُ، مَا مِنَّا أَحدٌ إِلاَّ وَهُوَ يُريدُ الجَنَّةَ، وَلَكِنَّ الأعَمالَ تُصَدِّقُ هَذهِ الإرَادَةَ أَو تُكَذِّبُها، كَيفَ نُريدُ الجَنَّةَ وَلَم نَعْمَلْ مَا يُوصلُنَا إِلَيها؟!
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلِمَ تَسَلكْ مَسَالِكَهَا إنَّ السَّفِينةَ لاَ تَجري عَلَى اليَبَسِ
كَأنِّي بِكمْ ـ أيُّها النَّاسُ ـ وَأَنفُسكمْ تَقُولُ: إنَّ رَحَمَةَ اللهِ وَاسِعةٌ، وَلَكِنَّ اللهَ يَقُولُ: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28]، وَيَقُولُ : ((أيُّها الناسُ، أطعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ، وصَلُّوا بِاللَّيلِ والناسُ نيامٌ؛ تدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
اللَّهم رَحْمَتَكَ نَرجُو فَلاَ تَكِلنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرفَةَ عَينٍ، اللَّهمَّ إِنَّ رَحْمَتَكَ أَرْجَى عِنْدَنَا مِنْ أَعْمَالِنَا، وَعَفْوكَ أَوسَعُ مِنْ ذُنُوبِنَا، فَلاَ تَجْعَلنَا أشْقِياءَ وَلاَ مَطْرُودِينَ.
اللَّهم صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ ، وَارضَ عَنْ أَصْحَابِه أَجْمَعِينَ...
(1/5203)
الرؤى والأحلام: مبشرات ومحذرات
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل ما في الكون يدل على الله. 2- النَّوم آيةٌ مِن آيَاتِ الله سُبحانَه. 3- الرُّؤى والأحلامُ من الأُمور الجِبِلّيّةِ الفِطريَّة. 4- رُؤيَا الأنبياء حقٌّ. 5- أَصَدق النّاسِ رُؤيا. 6- أقسام الرؤى. 7- ما يَفعَلُ من فُزع في نَومه ورأى ما يَكره. 8- تعلق بعض الناس بالرؤى والاهتمام لها. 9- المَناماتَ لاَ تَعْدو أَن تَكونَ مُبَشِّراتٍ أَو مُحَذِّراتٍ ولاَ يُعقَدُ عَلَيهَا حُكمٌ شَرعيٌّ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَيَا أيُّها النَّاسُ، إِنَّ تَقْوَى الله سُبحَانَهُ هِيَ المُدَّخَرُ لِكلِّ نَائِبَةٍ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقْوَى.
عِبادَ اللهِ، مَا خَلَقَ اللهُ شَيئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ إلاَّ لِحكْمَةٍ، وَمَا صَرَفَهُ فِي الكَونِ إلاَّ لِعبْرَةٍ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 22، 23]، وَيَقُولُ سُبحانَهُ: وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12]. مَخْلُوقَاتٌ عَظِيمَةٌ سَائِرةٌ بِتَقْديرِ اللهِ يُدَبِّرُهَا اللهُ كَيفَ يَشَاءُ، جَعَلَهَا اللهُ مُنْذِرَةً لِعِبَادِهِ وَمُخَوِّفَةً لِيْزدَجرَ النَّاسُ وَلِيَتَّعِظُوا وَليَعُوذوا إِلى رُشْدِهِم.
أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا يَدُلُّ عَلَى صَانِعِه سُبْحَانَهُ وَيُذَكِّرُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ، فَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَرَاحِةٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَإحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَلُطْفِهِ، وَمَا فِيهَا من نِقْمةٍ وَشِدَّةٍ وَعَذَابٍ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ بَأسِهِ وَبَطْشِهِ وَقَهْرِهِ وَاْنْتِقَامِهِ، واخْتِلاَفُ أَحْوالِ الدُّنْيَا مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَلَيلٍ وَنَهَارٍ وَغيرِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، وَلَيسَ فِي الآخِرَةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلاَّ الأسْمَاءُ، أَمَّا الصِّفَاتُ فَإِنَّها تَخْتَلِفُ.
فَالنَّارُ ـ عِبادَ اللهِ ـ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ النَّاسُ مِنْهَا الحَرَارَةَ، فَبِهَا يَطْبخُونَ وَبِهَا يَسْتَدْفِئونَ، أَمَّا نَارُ يَومِ القِيَامةِ فَإِنَّهَا مُهْلِكَةٌ بِشِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَمُهلِكَةٌ وَمُوجِعَةٌ بِشدَّةِ بُرودَتِهَا، فَيَا للهِ كيفَ تَجْتَمِعُ حَرَارَةٌ وَبُرودَةٌ! يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج: 19 ـ 21]. يَقُولَ ابنُ عَبَّاسٍ: (الغَسَّاقُ هُوَ الزَّمْهَرِيرُ البَارِدُ الَّذِي يُحْرِقُ مِنْ بَرْدِه). رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَينِ: نَفَسٌ في الشِّتَاء وَنَفَسٌ فِي الصَّيفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْ سَمُومِ جَهَنَّمَ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ)).
عِبادَ اللهِ، النَّومُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ سُبحَانَهُ، يُغَادِرُ النَّائِمُ فِيهَا عَالمَ الدُّنْيَا، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم: 23]. وفِي النَّومِ رَاحَةٌ للبَدَنِ وَسُكُونٌ للأعْضَاءِ، وَلَكنْ فِي النَّومِ مِنَ الآيَاتِ المُحَذِّرَاتِ وَالمُبشِّرَاتِ الشَّيءُ الكَثِيرُ.
الرُّؤَى وَالأحْلاَمُ مِنَ الأُمُورِ الجِبِلِّيَّةِ الفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا النَّاسُ عَلَى الدَّوَامِ، يَقُولُ أَبو عَبدِ اللهِ المَازِنِيُّ: "مَذْهَبُ أَهلِ السُّنَّةِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤيَا أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ فِي قَلبِ النَّائِمِ اعْتِقَادات كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ اليَقْظَانِ، وَهو سُبْحَانَهُ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ يَمْنَعُهُ نَومٌ وَلاَ يَقَظَةٌ، فَإِذَا خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الاعْتِقَادَاتِ فَكَأنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أَمورٍ أُخَر تَلْحَقُهَا فِيمَا بَعْدُ". وَيقُولُ القُرْطُبِيُّ: "الرُّؤيَا الصَّادِقَةُ قَد تَكُونَ مُنْذِرَةً مِنَ قِبَلِ اللهِ تَعَالىَ لاَ تَسرُّ رَائيهَا، وَإِنَّمَا يُريهَا الله تَعَالىَ المُؤِمِنَ رِفْقًا بِهِ وَرَحْمَةً لِيَسَتَعِدَّ لِنُزُولِ البَلاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَ تَأْوِيلَهَا بِنَفْسِهِ وَإلاَّ سَألَ عَنْهَا مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةً لِذَلِكَ". وَلَقدْ رَأَى الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَهُو بِمِصْرَ رُؤيا لأَحَمْدَ بِن حَنْبلَ تَدُلُّ عَلَى مِحْنَتِهِ، فَكَتَبَ إِليهِ بِذَلِكَ لِيَسْتَعِدَّ لِذَلِكَ.
عِبادَ اللهِ، أَمرُ الرُّؤيَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي اعْتَنَتْ بِهَا الأمَمُ عَبرَ العُصُورِ، وَرُؤيَا الأنبيَاءِ حَقٌّ، فَإِبراهِيمُ رَأَى أَنَّهُ يَذْبَحُ وَلَدهُ فَامْتَثَلَ أَمرَ رَبِّهِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104، 105]. وَيوسُفُ الصِّدِّيقُ يَقُولُ لِوَالدِهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4].
وَإِنَّ أَصَدقَ النَّاسِ رُؤيا ـ أيُّها الإخْوَة ـ أَصْدَقُهمْ حَدِيثًا، كَمَا جاء في الخَبرِ عَنْ سَيِّدِ البَّشَرِ ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].يَقُولُ عُرَوَةُ بنُ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: (البُشْرَى هِيَ الرُّؤيَا الصَّالحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ المُسْلِمُ أَو تُرَى لَهُ). وَعَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلاَّ المُبشِّراتُ)) ، قالوا: وما المبشِّراتُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: ((الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ.
عِبادَ اللهِ، قَلَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ تَعْرِضُ لَهُ الرُّؤَى فِي مَنَامِهِ، وَلَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ يَرَى أَحَدُهُم الرُّؤيَا فَيَذْهَبُ إِلى رَسُولِ اللهِ لِيُفَسِّرَهَا لَهُ، يَقُولُ عَبدُ اللهِ بنُ عَمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ إذَا رَأَى رُؤيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ، فَتَمَنَّيتُ أَنْ أَرَى رُؤيَا لأَقُصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ ، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا عَزْبًا أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَأيتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَينِ أَخَذَانِي فَذَهَبا بِي إِلى النَّارِ، فَإِذا هِيَ مَطويَّة كَطيِّ البِئرِ، وَإِذَا لَها قرْنَانِ كَقَرْنَي البِئرِ، وَإِذَا فِيهَا أناسٌ قَدْ عَرَفْتُهمْ فَجَعْلَتُ أقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُها على حفصةَ، فَقَصَّتْها حفصةُ على النبيِّ فقالَ : ((نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللهِ، لَو كَانَ يُصلِّي مِنَ اللَّيلِ)) ، قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبد اللهِ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيلِ إلاَّ قَلِيلاً. رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلمٌ.
فَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا رَأى أَحدُهُمْ رُؤْيَا، أَمَّا النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي اخْتَلَطَتْ عَليهمْ الرُّؤَى وَالأحَلامُ، فلَمَّا بَعُدَ النَّاسُ عَنْ هَدْي الشَّرْعِ الحَنيفِ اجْتَالَتهُم الشَّيَاطِينُ بِغَيرِ زِمَامٍ، فَصَارَ بَعُضُهمْ يُصْرَعُ فِي نَومِهِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ؛ لِشِدَّةِ مَا يَرَى مِنْ أَهْوَالٍ مُخِيفَةٍ وَقَوارِعَ شَدِيدَةٍ، حَتَّى ظَنَّ بَعضُهمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَرَى فِي المَنَامِ فَهُوَ حَقٌّ لاَ مَحَالَةَ، وَانْظُرُوا إِلى تَهَافُتِ النَّاسِ عَلَى المُعَبِّرِينَ للرُّؤى وَالأحْلاَمِ، يَسْتَفْتُونَهمْ فِي مَصِيرِ تَلاَعُبَاتِ الشَّيَاطِينِ، يَقُولُ جَابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ: جَاءَ رَجُلٌ أَعْرَابيُّ إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأيتُ فِي المَنَامِ كَأنَّ رَأسِي ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ فَاشَتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِه، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ : ((لاَ تُحِدِّثِ النَّاسَ بِتَلاَعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الرُّؤيَا ـ عِبادَ اللهِ ـ حَالةٌ شَرِيفةٌ وَمَنزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، اهْتَمَّ بِهَا الدِّينُ وَمَا تَرَكَ فِيهَا شَيئًا إلاَّ وَأوضَحَهُ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ : ((إذا اقْتَرَبَ الزَّمانُ لمْ تَكد رُؤْيا المؤْمِنِ تَكْذِبُ، وأصدَقُكُم رُؤْيا أصْدَقُكمْ حدِيثًا، ورُؤْيا المُسْلِمِ جُزْءٌ منْ سِتَّةٍ وأَرْبعينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤيَا ثَلاَثَةٌ: فَرُؤيَا صالحَةٌ بُشرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤَيا تَحزِينٌ مِنَ الشَّيطَانِ، وَرُؤيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ المَرءُ نَفْسَهُ، فَإِذَا رَأى أَحدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلَيقُمْ فَليُصَلِّ، وَلاَ يُحدِّثْ بَهَا النَّاسَ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ واللَّفْظُ لَهُ.
والرُّؤيَا الصَّالحَةُ هِيَ الَّتِي تُضَافُ إِلىَ اللهِ، وَهِيَ الَّتِي خَلُصَتْ مِنَ الأَضْغَاثِ وَالأَوْهَامِ، وَالحلُمُ مُضَافٌ إِلى الشَّيطَانِ؛ لأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءُ مُتَعارِضَةٌ وَأُمورٌ مُتَنَاقِضةٌ، وَمَا أَكثرَ مَا يَتَلاعَبُ الشَّيطَانُ باِلنَّائِمِينَ، يَجْلِسْ أَحدُهمْ عَلى الطَّعَامِ حَتَّى إِذَا امْتلأ مِنهُ حَتَّى لاَ يَكَادُ يَتَنَفَّسُ نَامَ بَعدَ ذَلِكَ، فَآنَ للشَّيطَانِ أَنْ يَعِجَّ وَيَلِجَّ فِي نَومِهِ؛ وَلهذَا قِيلَ: "إِنَّ أَصْدَقَ الرُّؤَى مَا كَانَ سَحَرًا؛ لأنّهُ وَقتُ نُزُولِ الرَّبِّ وَسُكُونِ الشَّيَاطِينِ وَقِلَّةِ غَلَبهِ النَّومِ".
عِبادَ اللهِ، إِذَا ذُكِرَتِ الرُّؤىَ فَإِنَّ البَالَ يَذَهبُ إلى نَبيِّ اللهِ يُوسفَ عليه السلامُ، وَلَقْدِ اشْتمَلَتْ سُورةُ يُوسُفَ عَلَى أَحْكَامٍ للرُّؤَى وَآدَابِهَا، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5].
يَقُولُ القُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ أَصُلٌ فِي أَنَّ الرُّؤيَا لاَ تُقَصُّ عَلَى غَيرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ، وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأوِيلَ فِيهَا، وَلمَّا عَلمَ يَعْقُوبُ مِنَ الرُّؤيَا أَنَّ يُوسُفَ سَيَظْهَرُ عَلى إِخْوَتِهِ خَافَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى حَسَدِه وَبُغْضِهِ فَيُعْمِلُوا الحِيلَةَ فِي هَلاَكِهِ، وَلَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ: ((لا تُقَصّ الرُّؤيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ)) رَوَاهُ أَحمدُ والتِّرْمذيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَقَد قِيلَ: إِنَّ يُوسفَ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ عُمُرُهُ لَمَّا رَأَى الرُّؤيَا اثنَتي عَشرة سَنةً، فَأَخذَ العُلَمَاءُ مِنهُ أنَّ الرُّؤيَا لاَ تَتَعَلَّقُ بِصِغَرٍ وَلاَ كِبَرٍ، فَمَتَى أَدْرَكَ مَا يُشَاهِدُهُ فِي اليَقَظَةِ فَسَيُدْرِكُ مَا يَرَاهُ فِي نَومِهِ، وَمِنْ هُنَا نَعْلَمُ كَثْرَةَ مَا يُفَزّعُ الأَطْفَالُ فِي مَنَامِهمْ لِكَثْرَةِ مَا يَخْلِطُ عَلَيهمُ الشَّيطَانُ مِنْ أُمورٍ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلكمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ الحَيِّ القَيُّومِ لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَومٌ، أحَمدُهُ سُبْحانَهُ وَأسألُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عبدُه وَرَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسلَّم.
أَمَّا بَعدْ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّهَا النَّاسُ، وَلاَزِمُوا الأَذْكَارَ والأوْرَادَ؛ فَإِنَّهَا حِصْنٌ حَصِينٌ وَدِرْعٌ مَتِينٌ وَاقٍ مِنَ الشَّيطَانِ.
عِبادَ اللهِ، لَقدْ أَرْشَدَ الرُّسُولَ أَمَّتَهُ إِلى مَا يَفْعَلُونَ عندَ فَزَعِهمْ فِي نَومِهمْ وَرَؤيَتهِمْ مَا يَكْرَهُونَ، يَقُولُ أبُو سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنْ كُنتُ لأَرَى الرُّؤيَا تُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمعت أبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنا كُنْتُ أَرَى الرُّؤيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقولُ: ((الرُّؤيا الصَّالحَةُ مِنَ اللهِ، والرُّؤيَا السُّوءُ مِنَ الشَّيطَانِ، فإذا رَأَى أحدُكُم مَا يُحِبُّ فَلا يُحدِّثْ بِهَا إلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإذَا رَأى مَا يَكْرَهُ فَلَيَتْفِلْ عنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا وَلْيَتَعوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ وَشَرِّهَا، وَلا يُحدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ)) ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤَيَا هِيَ أثْقَلُ عَلَيَّ مِنَ الجَبَلِ، فَلمَّا سَمعْتُ هَذَا الحَدِيثَ فَما كُنتْ أُبَالِيهَا. رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولَ الله : ((إذَا رَأى أحدُكُمْ الرُّؤيَا يَكْرَهُهَا فلْيَبْصُقْ عنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، ولْيَسْتَعِذْ باللهِ منَ الشَّيطانِ ثَلاثًا، ولْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِه الذِي كانَ عَلَيهِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَحَاصِلُ مَا وَرَدَ أنَّ للرُّؤيَا الصَّالحَةِ ثَلاَثَة آدَابٍٍ: أَنْ يَحمَدَ اللهَ عَليهَا، وَأَنْ يَسْتَبشِرَ بِهَا، وَأنْ يَتَحدَّثَ بِهَا لِمَنْ يُحِبُّ دُونَ مَنْ يَكْرَهُ. أمَّا الرُّؤيَا المَكْرُوهَةُ فَإنَّهُ يَتَعوَّذُ باللهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنَ شَرِّ الشَّيطَانِ، وَأنْ يَتْفُلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَأَنْ لاَ يُحَدِّثَ بِهَا أَحَدًا، وَأنْ يتحوَّلَ عَنْ جَنْبِه الذي كانَ علَيهِ.
وَيَجمَعُ هذِهِ الأمُورَ ـ عِبادَ اللهِ ـ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبي هرَيرَةَ الَّذِيِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: ((إِذََا رَأَى أَحدُكُمْ شَيئًا يَكْرَهُهُ فَلاَ يَقُصَّهُ عَلَى أَحدٍ وَلَيَقُمْ فَلْيُصَلِّ)) ؛ لأنَّه إذَا قَامَ إلَى الصَّلاَةِ تَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ، وَإذَا تَمَضْمَضَ تَفَلَ وَبَصَقَ، وَإذَا صَلَّى تَعَوَّذَ وَدَعَا وَتَضَرَّعَ إِلىَ اللهِ تَعَالىَ فِي حَالٍ هُوَ أقرَبُ الأَحْوَالِ إلى الإجَابَةِ.
عِبادَ اللهِ، رَوَى ابنُ أبِي شَيبَةَ وَعَبدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بن مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: "إذَا رَأَى أَحدُكُمْ فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ إذَا اسْتَيقَظَ: أَعُوذُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلاَئِكة اللهِ ورُسُلهِ مِنْ شَرِّ رُؤيَايَ هَذِهِ أَنْ يُصِيبَنِي فِيهَا مَا أَكرَهُ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ". وَأوضَحُ مِنْهُ مَا وَرَدَ أَنَّ خَالدَ بِنَ الوَلِيدِ كَانَ يُفَزَّعُ فِي نَومِهِ وَيُرَوَّعُ، فَحَكَى إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَ: ((إذَا اضْطَجَعْتَ فَقُلْ: بِسمِ اللهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ شَرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضرُونِ)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
أيُّهَا النِّاسُ، كَمْ فِي النَّاسِ مِنَ الدَّجَالِينَ وَالأَفَّاكِينَ وَأضْرَابِهم مِمَّنْ يَخْتَرِعُونَ الرُّؤَى وَالأَحْلامَ الكَاذِبَةَ، وَيَبثُّونَهَا بِينَ النَّاسِ لِتَحْصيلِ أَغْرَاضٍ وَمَطَامِعَ دُنْيَويَّةٍ، مُثِيرينَ للرُّعْبِ وَالقَلَقِ بَينَ النَّاسِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يُعَلِّقُونَ رُؤاهُم بِعبَاداتٍ شَرْعِيَّةٍ أو قُرُبَاتٍ بَدَنِيَّةٍ، عَنْ وَاثِلَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ مَرْفَوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِي الرَّجُلُ إِلى غِيرِ أبيهِ، أو يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَم تَرَ، أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ، وَفِي رِوَايةٍ له عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: ((مَنْ تَحَلَّمَ بِحلمٍ لَم يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَينَ شَعْرَتَينِ، وَلَن يَفْعَلَ)).
عِبادَ اللهِ، لَقدْ شُغِلَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ بِتَأوِيلِ الأحْلاَمِ وَتَعْبِيرِ المنَامَاتِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُم لَيْسَ لَه فِيهَا وِرْدٌ وَلاَ صَدرٌ، وَإنَّمَا يَتَأَكَّلُونَ بِهَا فِي كُتُبٍ تُبَاعُ أو رِوَايَاتٍ تُحْكَى، يُخَوِّفُونَ بِها النَّاسَ لتَحْقِيقِ غَايَاتٍ وَمَصَالِحَ؛ كَالرُّؤى الَّتِي يروِّجُ لَهَا أربَابُ التَّصوُّفِ وَيَعقِدُونَ عَلَيهَا الفضائلَ وَالخَيراتِ أَو العَذَابَ وَالنَّكَبَاتِ.
إنَّ السَّعْيَ لِتَعْبِيرِ الرُّؤَى وَالأحَلامِ لَيسَ مَطْلبًا شَرْعِيًّا، بَلْ إنَّ انْشِغَالَ النَّاسِ أو إشغالهم به يَجُرُّ عَلَيهم مَفَاسِدَ عَظِيمَةً، مِنهَا أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ حَبيسَ نَومِهِ يَنْتَظِرُ لَعلَّهُ يَرَى فَيَسَأَلُ فَيُفَسَّرُ لَهُ، وَمِنْهَا أَنَّها تُلْجِئُ بَعْضَ ضِعَافِ العُقُولِ أنْ يَأْتُوا بِأَحْلاَمٍ مُفْتَعَلَةٍ مُجَارَاةً لِغَيرِهِم مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ سَمِعْتُم وَعِيدَ الرَّسُولِ على مَنْ كَذَبَ في مَنامِهِ. يَقُولُ الطَّبَرِيُّ: "وَإِنَّمَا كَانَ الكَذِبُ فِي المَنَامِ أَشَدَّ مِنَ الكَذِبِ فِي اليَقَظَةِ لأنَّ الكَذِبَ فِي اليَقَظَةِ كَذِبٌ عَلَى المَخْلُوقِينَ، أَمَّا الكَذِبُ فِي المَنَامِ فَهُو كَذِبٌ عَلَى اللهِ أنَّه أرَاهَ شَيئًا لَمْ يَرَهُ".
أَيُّهَا الإخْوَةُ، المَنَامَات لاَ تَعْدُو أَنْ تَكُونَ مُبَشِّرَاتٍ أَو مُحَذِّرَاتٍ، لاَ يُعقَدُ عَلَيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيسَتْ طِرِيقًا لِعِلاَجِ مَسْحُورٍ أَو مُعَانٍ، اللهُ سُبحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَلَو اجْتَمَعَ مَنْ عَلى ظَهْرِهَا عَلَى نَفْعِ عَبْدٍ أو ضُرِّهِ لم يَنفعُوه إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبه الله له، ولو اجْتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوه لَم يَضُّروه إلاَّ بشيءٍ قَد كَتبهُ الله عَليه، رُفِعَتِ الأقلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ.
يَقُولُ هشامُ بنُ حَسَّانٍ: كَانَ ابنُ سِيرِينَ يُسْألُ عَنْ مِائة رُؤيَا، فَلا يُجيب فِيها بِشيءٍ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: اتَّقِ اللهَ وَأحْسِنْ فِي اليَقَظَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُضرُّكَ مَا رَأيتَ فِي النَّومِ. وَكَانَ يُجيبُ فِي خِلاَلِ ذَلكَ وَيقولُ: إِنَّمَا أُجِيبُهُ بِالظَّنِّ، والظنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ.
اللَّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لاَ يَنْطِقُ عُنِ الهَوَى، وَارضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وَعَنْ أصْحابِ نَبِيِّكَ أَجمَعينَ...
(1/5204)
الزنا وخطره
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شناعة جريمة الزنا. 2- آثار جريمة الزنا. 3- التدابير الوقائية لمنع جَريمة الزِّنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فأُوصيكمْ ونَفْسِي بتقْوَى اللهِ تَعالى، التَّقْوى التّي تُصَاحِبُ المؤمنَ في كُلِّ وَقتٍ وكُلِّ حينٍ، ولَنْ يَنجُوَ مِنْ أهوالِ يَومِ القِيامَةِ إلاَّ المُتَّقُونَ.
عبادَ الله، النَّاسُ مَهمَا بَلَغُوا مِنْ قُوةٍ فإنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُجابَهَةِ الله عَزَّ وجَلَّ، فمَا مِنْ قَاهِر أو قَادِر إلا واللهُ فَوقَهُ، ومَعَ ذلكَ فإنَّ اللهَ يُنذِرُ عِبَادَهُ بمَا يُرْسِلُ بَينهَم مِنَ الآياتِ، وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. ولَنْ يَعُودَ للمسلمينَ جَميعًا مَجْدُهمْ الغَابِرُ ولا كَلِمَتُهمْ العَاليةُ إلاَّ بتحقيقِ قَولِ الله سُبْحانَهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
متَّى ما حَقَّقَ الناسُ المطلوبَ حَقَّقَ الله لهمْ ما يَطلُبونَ، وإن المسلمين مُطالبُونَ دائمًا بفَتحِ سِجلِّ أعمالهمْ لينْظُورا ما اقْتَرَفُوه مِنَ الذنوبِ، فإنَّهُ مَا من ذنبٍ إلا وتَتْبَعهُ عُقُوبةٌ، ومَا منْ عُقوبةٍ إلاَّ ولَهاَ ذَنْبٌ كانَ سَببًا لوُقُوعِهَا، رَوَى ابنُ مَاجه وأبو نُعيم والحاكمُ وصَحَّحَهُ ووافَقُهُ الذهبيُّ بأسانيدَ مُختلفةٍ عن عبد الله بن عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّهُ قالَ: أقبَلَ علَيْنَا رسولُ الله فقال: ((يا معشَرَ المهاجرينَ، خمسٌ إذَا ابتُليتُمْ بهنَّ وأعُوذُ بالله أن تُدرِكُوهنَّ: لمَ تظْهَر الفاحِشةُ في قُومٍ قَطُّ حتَّى يُعْلِنُوا بهَا إلاَّ فشَا فيهمُ الطَّاعُونَ والأوجَاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسْلافِهمْ الذينَ مَضَوا، ولم يَنْقُصُوا المكْيالَ والميزانَ إلاَّ أُخِذُوا بالسِّنينَ وشِدَّةِ المؤنَةِ وجَورِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَمْنَعُوا زَكاةَ أموَالِهِمْ إلاَّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّماءِ ولَولاَ البَهائِمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسُولهِ إلاَّ سَلَّط الله عليهم عَدوًّا مِن غَيرِهمْ فأخَذُوا بعضَ ما في أيْدِيهمْ، ومَا لم تحكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعَلَ اللهُ بأسَهُمْ بَينهُمْ)).
أيُّها النَّاسُ، إنَّ الإسلامَ دَعا أفرادَهُ كي يَسيروا صَفًّا واحدًا تجاهَ المُخالِفِ، حتَّى يُعيدُوهُ إلى رُشْدهِ، وإلاَّ فإنَّ الرَّسُولَ قالَ: ((لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنْهَونَّ عنِ المنكَرِ ولتأخُذُوا على يَدِ السَّفيهِ ولتأطُرُنَّهُ على الحقِّ أطْرًا ولتقْصُرُنَّهُ على الحقِّ قَصْرًا أو ليَعُمَنَّكُمُ الله بعِقَابٍ مِنْ عِندهِ)).
عبادَ الله، إنَّ المجتمَعَ الإسلاميَّ النظيفَ هوَ الذي ترتَفِعُ فيه أعلامُ الفَضيلةِ، وتَتضافرُ جُهودُ أفرادِهِ على قَمعِ الرَّذِيلةِ في كُلِّ دُرُوبِهَا، وإنَّ مِنْ حَسناتِ هذَ الدِّينِ سَعيهُ لِصَلاحِ الأفْرَادِ والمجْتَمَعَاتِ ومُحارَبَةِ الفَواحشِ وإقامَةِ مجتمَعٍ إسلاميٍّ نظيفٍ بعيدٍ عَنِ الجرائمِ الأخلاقيةِ المفْسِدَةِ، والمحَافَظَةِ عَلى الأعْراضِ والأنسَابِ، وصِيَانَةِ الفُرُوجِ والدِّمَاءِ، بَلْ إنَّ الله تعالى رَبَطَ صلاحَ المؤمنينَ وفَلاحَهمْ بحفظِ فُرُوجِهمْ وصِيانةِ أعْرَاضِهمْ.
إنَّ هُناكَ جَريمةً هِيَ مِنْ أقبحِ الجَرَائمِ، ذَكَرهَا رَسولُ الله في الحديثِ السَّابِقِ، هِيَ مِنْ أمقَتِ الذُّنوبِ عندَ الله وأكثَرِهَا بَشَاعَةً، ما عُصِيَ الله سُبحانَهُ بعدَ الإشْرَاكِ بهِ بأعظَمَ ولا أقبَحَ مِنهَا، وهِيَ خَطَرٌ على المجْتَمَعاتِ البَشَريةِ، ما انْتَشَرتْ في أمَّةٍ إلاَّ أَهلَكَتهَا ودَمَرتْهَا، ولا فَشَتْ في مُجتمعٍ إلاَّ قَوَّضَتْ أركَانَهُ وهَدَمتْ بُنْيانَهُ، مِنْ أفحَشِ الفَوَاحِشِ وأكْبَرِ الفَضَائحِ، تقتُلُ الرُّجولَةَ وتُذيبُ الحريَّةَ وتهتِكُ الأعْرَاضَ وتُبَدِّدُ الأمْوالَ وتُؤَدِّي إلى اخْتلاطِ الأنْسَابِ وتُفْسِدُ الأخْلاقَ وتُفْضِي بالأمَّةِ إلى الفَنَاءِ وتَدعُوهَا للشِّقاقِ والعَنَاءِ، إنَّها جَريمَةُ الزِّنَا.
عبادَ الله، الزِّنَا انْتكاسٌ في الفِطَرْ وفسَادٌ في القُلوبِ وسَبَبٌ لإيجَابِ الذُّلِّ والعَارِ والشَّنَارِ، وصَاحِبُهُ مُتوَعَّدٌ بالعُقُوبَةِ في الدَّنيا قبلَ الآخِرَةِ، والوَاقِعُونَ في الزِّنَا جَرَاثيمُ مُفْسِدَةٌ وأعْضَاء مَسْمُومَة في المجْتَمعِ، تُؤَدِّي بهِ إلى دَرَكِ المهالِكِ، وتَقُودُهُ إلى الهوَّةِ السَّحيقةِ التي لا فَلاحَ بَعدَهَا ولا نُهُوضَ، وكَما قِيلَ: "ودَّتِ الزَّانيةُ لو زَنَى النِّساء". هُمْ في الحقيقةِ أصْحَابُ نُفُوسٍ ضَعِيفةٍ وإرادَاتٍ سَافِلَةٍ وَقُلوبٍ غَافِلَةٍ، قَدْ أسَرَتْهَا الأهْوَاءُ والشُّبُهاتُ، واسْتَحْكَمَتْ عليها الشَّهواتُ والدَّنَايا دُونَ رادِعٍ مِنْ دِينٍ أو خُلُقٍ أو مُرُوءةٍ.
الزِّنَا ـ أيُّها النَّاسُ ـ سَببُ البَلايا وطَريقُ التَّعاسَةِ والعَنَاء، يَقْضي عَلى الأمَمِ ويُهلِكُ الدِّيارَ ويُبدِّدُ المَمَالِكَ ويَقضِي علَى الأخْلاقِ، يَقولُ الله تَعالى واصِفًا حَالَ الزِّنَا وضَرَرهُ وفَسَادَهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32]. وقَدْ قَرَنهُ الله بالشِّركِ والقَتْلِ، فقالَ في وَصْفِ عِبادِهِ المتَّقينَ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69].
وفي الصحيحينِ عَنْ عبد اللهِ بنِ مَسْعُودٍ قالَ: قُلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عندَ الله؟ قال: ((أنْ تجْعلَ لله نِدًّا وهوَ خَلَقكَ)) ، قالَ: قلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قال: ((أنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مخَافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)) ، قالَ: قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: ((أنْ تُزَاني بِحَليلَةِ جَارِكَ)) ، فأنْزَلَ الله تَصْديقَ ذَلِكَ في كتابهِ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الآيات. وفي الصَّحيحينِ أيضًا عَنْ أبي هُريرةَ قال: قالَ رَسُولُ اللهِ : ((ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يومَ القِيَامَةِ ولا يَنْظُرُ إليْهِمْ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهمْ عَذَابٌ أليمٌ: شَيخٌ زَانٍ، ومَلِكٌ كَذَّابٌ، وعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) ، وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفوعًا: ((مَا ظَهَر الغُلُولُ في قومٍ إلاَّ أُلْقِيَ في قُلُوبِهمُ الرُّعْبَ، ولا فَشَا الزِّنَا في قوْمٍ إلاَّ كَثُرَ فيهمُ الموتُ)) رَوَاه مالِكٌ في الموطَّأ وصَحَّحهُ ابنُ عبد البرِّ.
فكأنَّ الرسولَ يتحدَّثُ عن واقِعِ النَّاسِ اليومَ مِنْ ظُهورِ أمْرَاضٍ لم يَجِدُوا لها عِلاجًا، يَقُولُ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله عنهُ: (مَا ظَهَرَ الرِّبَا والزِّنَا في قَرْيةٍ إلاَّ أذِنَ الله بإهْلاكِهَا). وقالَ الإمامُ أحمد: "لا أعْلَمُ بَعدَ قَتْلِ النَّفْسِ شيئًا أعْظَم مِنَ الزِّنَا".
وعن مَيمُونَةَ زَوجِ النبيِّ قالتْ: سَمعتُ رسُولَ الله يَقُولُ: ((لا تَزَالُ أمَّتي بِخَيرٍ مَا لمْ يَفْش فيهمْ وَلَدُ الزِّنَا، فإذَا فَشَا فيهِمْ وَلَدُ الزِّنا فيُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمْ الله بِعِقَاب)) رواهُ أحمدُ.
الزِّنَا ـ أيُّهَا الناسُ ـ يَجْمَعُ خِلالَ الشَّرِّ كُلّهَا، مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وذَهَابِ الوَرَعِ وفَسَادِ المروءَةِ وقِلَّةِ الغيْرَةِ، فلاَ نَجِدُ زَانِيًا مَعَهُ وَرَع ولا وَفَاء بِعَهدٍ ولا صِدق في حَديثٍ ولا مُحَافَظَة عَلَى صَدِيقٍ ولا غَيرَة تَامَّة عَلى أهْلِهِ، ولَو بَلَغَ الرَّجُلَ أن امرأتَهُ مَاتَتْ أوْ قُتِلَتْ لَكَانَ أسهَلَ عَلَيهِ مِنْ أنْ يَبْلُغَهُ أنَّهَا زَنَتْ عِياذًا باللهِ.
رَوَى الخَرَائطيُّ عَن عِكْرمَةَ قَالَ: سَمعتُ كَعْبًا يَقولُ لابْنِ عَبَّاسٍ: "ثَلاثٌ إذَا رأيْتَهُنَّ: السُّيُوفَ قَدْ عُرِّيتْ والدِّمَاءَ أهْريقَتْ فاعْلَمْ أنَّ حُكمَ الله قَدْ ضُيِّعَ فَانْتقمَ الله لبعْضهمْ مِنْ بَعْضٍ، وإذَا رأيْتَ القَطْرَ قَدْ حُبِسَ فاعْلَمَ أنَّ الزَّكَاةَ قَدْ مُنِعَتْ، مَنَعَ النَّاسُ مَا عِنْدَهُمْ فمَنَعَ اللهُ ما عِنْدَهُ، وإذَا رأيتَ الوَبَاءَ قَدْ فَشَا فاعْلَم أنَّ الزِّنَا قَدْ فَشَا".
يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحمهُ الله: "مِنْ مُوجباتِ الزِّنَا غَضَبُ الرَّبِّ بإفْسَادِ حُرَمِهِ وعِيَالِهِ، ولَوْ تَعَرَّضَ رَجُلٌ إلى مَلِكٍ مِنَ المُلُوكِ بذلِكَ لقَابَلَهُ أسْوأَ مُقَابلَةٍ، ومِنْهَا سَوَادُ الوجْهِ وظُلْمَتُهُ ومَا يَعْلُوهُ مِنَ الكَآبَةِ والمقْتِ الذي يَبدُو عليهِ للنَّاظِرينَ، ومِنْهَا ظُلْمَةُ القَلْبِ وطَمسُ نُورِهِ، ومِنهَا الفَقْرُ اللازِمُ، ومِنْهَا أنَّهُ يُذْهِبَ حُرْمَةَ فَاعِلهِ ويُسْقِطُهُ مِنْ عَينِ رَبِّهِ ومِنْ أعين عِبَادِه، ومِنْهَا أنَّهُ يَسْلُبُهُ أحْسَنَ الأسْمَاءِ وهُوَ اسْمُ العِفَّةِ والبرّ والعَدَالَةِ، ويُعْطِيهِ أضْدَادَهَا كاسْمِ الفَاجِرِ والفَاسِقِ والزَّاني والخَائِنِ، ومِنْهَا أنَّهُ يُفارقُه الطَّيبُ الذي وَصَفَ الله بهِ أهلَ العَفَافِ، ويَسْتَبدِلُ بهِ الخبيثَ الذي وَصَفَ الله بهِ الزُّنَاةَ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ".
إنَّ الزِّنَا ـ أيُّها النَّاسُ ـ جَريمَةٌ تَئِنُّ مِنهَا الفَضيلةُ ويَبكِي مِنها العَفَافُ، ومَا عُصِيَ الله تَعَالى بَعدَ الشِّرْكِ بهِ بِذَنبٍ أعْظَمَ مِنْ نُطْفَةٍ يَضَعُها الرَّجُلُ في فَرْجٍ لا يَحلُّ لهُ.
ومِنْ قَبْحِ الزِّنَا وشِدَّة ضَررِهِ جَعَلَهُ مَنْ أُوتيَ جَوامِعَ الكَلِمِ مُنَافيًا للإيمَانِ، فَإذَا ارْتَكَبَ العَبْدُ الزِّنَا خَرَجَ مِنهُ الإيمانُ لا يَعُودُ إليهِ حَتَّى يُقْلِع عَنْهَا ويَتُوبَ إلى الله مِنهَا، فَعَنْ أبي هُرَيرَةَ رضِيَ الله عَنهُ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: ((لا يَزْنِي الزَّاني حِينَ يَزنِي وهُوَ مُؤمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمرَ حينَ يَشْربُ وهُوَ مُؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهُو مُؤمِنٌ، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرفَعُ النَّاسُ إليهِ فيهَا أبْصَارَهمْ حِينَ يَنْتَهبُهَا وهُوَ مُؤمِنٌ)) مُتَّفقٌ عَليهِ، وقالَ : ((إذَا زَنَى العَبدُ خَرَجَ مِنْهُ الإيمَانُ فكَانَ فَوقَ رأسِهِ كالظُّلَّةِ، فإذَا خَرَجَ مِنْ ذلِكَ العَمَلِ عَادَ إليهِ الإيمانُ)) رَواهُ أبُو داود والتِّرمذيُّ والحَاكِمُ.
عِبَادَ الله، إنَّ النَّاظِرَ في تَعَاليمِ هَذَا الدِّينِ يَرَى أنَّهُ ما سَعَى إلى شَيءٍ سَعْيَهُ إلى حِفظِ الفُرُوجِ وسَدِّ كُلِّ طَريقٍ يُوصِلُ إلى الزِّنَا، ويظهر ذلك من خلال:
1- أمر الشَّبَابِ بالمسَارَعَةِ إلى الزَّواجِ، قال : ((يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَن اسْتَطَاعَ مِنكُمُ الباءَةَ فَليَتَزَوَّجْ؛ فإنَّهُ أغَضُّ للبَصَرِ وأحْصَنُ للفَرْجِ، ومَنْ لم يَسْتَطِعْ فعَلَيْهِ بالصَّومِ فإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).
2- أمر النَّاسُ ذُكُورًا وإنَاثًا بِغَضِّ أبصَارِهِمْ عَنِ الحَرَامِ، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: 30، 31]. النَّظَرُ سَهْمٌ مِن سِهَامِ إبْليسَ، ومَنْ أطْلَقَ نَظَرهُ إلى ما حَرَّمَ الله فقَدْ أوردَ نَفْسَهُ مَوارِدَ الهلاكِ والسُّوءِ، يقولُ : ((يا عَليُّ، لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرةَ؛ فإنَّ لَكَ الأُولَى ولَيْسَتْ لَكَ الآخِرَة)) رَواهُ أبُو دَاودَ والتِّرمِذيُّ والإمَامُ أحمدُ.
3- مَنع الإسلام خُلُّوَ الرَّجُلِ بالمرْأةِ التي لَيْسَتْ لَهُ مَحرمًا؛ لأنَّهُ سَبَبٌ لإغْرَاءِ الشَّيْطانِ بَينَهُما، يَقُولُ : ((لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأةٍ إلاَّ ومَعَهَا ذُو مَحرَمٍ، ولا تُسَافِرُ المرأَة إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)) مُتفقٌ عَليهِ.
4- مَنع الإسْلام المرأةَ مِنَ التَّبرُّجِ وإظْهَارِ الزِّينَةِ لغَيرِ زَوجِهَا ومَحْرَمِهَا؛ صِيَانةً لهَا ولِغَيْرِهَا مِنَ الرِّجَالِ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 59].
5- مَنع الإسْلام المرْأةَ أنْ تُسَافِرَ بِدُونِ مَحْرَمٍ؛ لأنَّ في ذَلِكَ ضَيَاعًا لهَا وغيَابًا عَنِ الرَّقيبِ مِنْ أوليائِهَا والغَيُورينَ عَلَيهَا، يَقُولُ : ((لا يحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بالله واليَومِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ مَسيرَةَ يَومٍ ولَيلَةٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحرَمٍ عَلَيهَا)) رواه مسلم والبخاري.
6- تحريم الإسْلام سَمَاعَ الغِنَاءِ لأنَّهُ بَريدُ الزِّنَا، ومَا دَاوَمَ عَبْدٌ عَلَى سَمَاعِهِ إلاَّ طَمَسَ الله عَلَى قَلبهِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ: "فَلَعَمرُ الله كَمْ مِنْ حُرَّةٍ صَارَتْ بالغِنَاءِ مِنَ البَغَايَا، وكَمْ مِنْ حُرٍّ أصْبَحَ عَبدًا للصِّبيانِ والصَبَايَا، كَمْ جَرَّعَ مِنْ غُصَّةٍ، وَكَمْ أزَالَ مِنْ نِعمَةٍ وجَلَبَ مِنْ نِقْمَةٍ".
7- نهي الإسْلام عَنِ الجُلُوسِ في الطُّرُقَاتِ كَيلا تَقَعَ العَينُ عَلَى حَرَامٍ فَتَفْتِنَ أو تُفْتَنَ، رَوَى البُخاريُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ أنَّهُ قَالَ: ((إيَّاكُمْ والجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَا لَنَا بُدُّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتحدَّثُ فيهَا، قالَ: ((فإذَا أبَيتُمْ إلاَّ المجْلِسَ فأعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ)) ، قَالُوا: ومَا حَقُّهُ؟ قَالَ: ((غَضُّ البَصَرِ وكَفُّ الأذَى ورَدُّ السَّلامِ والأمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ)).
وَمِنْ أرْوَعِ مَا جَاءَ بهِ الإسْلامُ مَانِعًا مِنْ جَريمةِ الزِّنَا مَا جَاءَ عَنْ جَابِرٍ رضِيَ الله عنهُ قَالَ: سَمعتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((إذَا أحدُكُمْ أعْجَبَتْهُ المرْأةُ فَوَقَعتْ فِي قَلْبهِ فَلْيَعمدْ إلى امْرَأتِهِ فَلْيُواقِعْهَا؛ فإنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا في نَفْسِهِ)).
أقُولُ قَولي هَذا، وأستَغْفِرُ الله فَاستَغْفِرُوهُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، يُبَدِّلُ السَّيِّئاتِ بَعدَ التَّوبَةِ حَسَناتٍ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وأصْحَابِهِ، وسَلَّمَ تَسْليمًا كَثيرًا.
أمَّا بَعْد: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله، واعْلَمُوا أنَّ الزِّنَا بَشِعٌ في جُرْمِهِ، بَشِعٌ فِي ذِكْرِهِ، تَسْتَنْكِرُهُ حَتَّى الحَيَوانات، أرأيْتُمْ القِرْدَ ذَلِكَ الحيَوان الذي يَسْتَقبحُهُ النَّاسُ هوَ خَيرٌ مِنْ أُنَاسٍ كَثيرينَ، رَوَى البُخاريُّ في صَحِيحهِ عَنْ عمرو بنِ مَيمُونِ الأوديِّ قالَ: رأيتُ في الجَاهِليَّةِ قِرْدَة اجْتَمَعَ عَلَيهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
كَمْ في النَّاسِ اليومَ مَنْ هَذِهِ القِرَدَةُ خَيرٌ مِنهُ، وإلاَّ فَمَا بال النَّاسِ اليومَ يَذْهَبونَ زُرَافَاتٍ وَوحْدانًا إلى بِلادِ الكُفْرِ والإبَاحِيَّةِ؟! وكَمْ مِنْ بِلادٍ إسْلامِيَّةٍ يَقصِدُهَا النَّاسُ أقَلّ ما فِيهَا أنَّهَا تُذِيبُ الغَيرَةَ مِنْهمْ؟! مَاذَا يُقالُ عَمّا نُشاهِدُهُ مِنْ خُروجِ المرأةِ مُتَبرِّجَةً أمَامَ النَّاسِ في الأسْواقِ والمُنتَدياتِ؟! ومَاذا عَسَانا أن نَقُولُ عَنْ سَمَاحِ بعضِ النَّاسِ لمَحَارِمِهمْ بالخَلْوَةِ مَعَ الرِّجَالِ في سَيَّارةٍ أو عَمَلٍ؟! ومَهْمَا قُلتَ فَلَنْ تَبلُغَ مَرَادَكَ ممنْ أدْخَلُوا ذَلِكَ العَفَنَ الفَضَائيَّ إلى بُيُوتِهْمْ، وَيكْفي أن غَيرَتَهُمْ مَاتَتْ أو هِيَ عَلَى وَشَكٍ.
إنَّ الغَيرَةَ إذَا ذَهَبتْ مِنْ قُلوبِ النَّاسِ فَقَدْ آنَ لجِدَارِ العِرْضِ أنْ يَهْوِي ولِعُودِ الحَيَاءِ أنْ يَميلَ، رَوَى البُخاريُّ ومُسْلِمٌ عنِ المُغيرةَ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ سعدُ بن عُبَادَة: لَو رأيتُ رَجُلاً مَعَ امرأتِي لَضَربْتُهُ بالسَّيْفِ غَيرَ مُصْفِحٍ، فَبَلغَ ذلكَ رَسُولَ الله فَقَال: ((أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيرَةِ سَعْدٍ؟! واللهِ لأنَا أغْيَرُ مِنهُ، واللهُ أغيرُ مِنِّي، ومِنْ أجلِ غَيرَةِ الله حَرَّم الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا أحد أحبّ إليهِ العُذْرُ مِنَ الله، ومِنْ أجلِ ذلِكَ بَعَثَ المبَشِّرينَ والمُنْذِرينَ، ولا أحَد أحبّ إليهِ المدْحَة مِنَ الله، ومِنْ أجلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الجنة)).
أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ جَريمَةَ الزِّنَا تَقُودُ إلى جَرَائِمَ كَثيرةٍ، فالزِّنَا يُجَرِّئُ الزَّاني عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِم وعُقُوقِ الوَالدَينِ وكَسْبِ الحَرَامِ وظُلْمِ الخَلْقِ وإضَاعَةِ أهْلِهِ وعِيَالِه، ورُبَّما قَادَهُ قَسْرًا إلى سَفْكِ الدَّمِ الحَرَامِ، ورُبَّمَا اسْتَعانَ عَلَيْهِ بالسِّحْرِ وبالشِّرْك وهُوَ يَدْري أو لا يَدْري، فَهِيَ مَعْصِيَة لا تَتِمُّ إلا بأنْواعٍ مِنَ المعَاصي قَبْلَهَا ومَعَها، ويَتَوَلَّدُ عَنهَا أنْوَاعٌ أخْرَى مِنَ المَعَاصِي بَعْدَها، فَهِيَ محفُوفَةٌ بجندٍ مِنَ المَعاصِي قَبْلَهَا وجُنْد بعدَها، وهِيَ أجْلَبُ شَيءٍ لشَرِّ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وأمنَعُ شيءٍ لخَيْري الدُّنْيا والآخِرَة، وإذَا عَلِقَتْ بالعَبْدِ فَوَقَعَ في حَبَائِلهَا عَزَّ على النَّاصِحينَ اسْتنْقَاذُهُ وأعيى الأطبَّاءَ دَوَاؤهُ.
أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ المسؤولِيَّةَ عَظيمةٌ والخَطَرَ أعظَمُ، فَاتَّقوا الله وأصْلِحُوا بيُوتَكُمْ، وتَنَاصَحُوا وأكْثِروا مِنَ الأمْرِ بالمعرُوفِ والنَّهيَ عَنِ المنْكَرِ، عَسَى أنْ نَسُدَّ خَلَلاً أو نُصْلِحَ فَتْقًا.
عِبادَ الله، إنَّ الله ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا...
(1/5205)
العجلة أم الندامات
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم العجلة في القرآن. 2- نماذج من العجلة المذمومة في تصرفات الأمم السابقة. 3- نماذج من العجلة المذمومة في تصرفاتنا وعباداتنا. 4- الآثار المترتبة على العجلة المذمومة. 5- نماذج من العجلة المذمومة في حياتنا اليومية. 6- من أقوال الحكماء في الحث على التأني وعدم الاستعجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقوَى، واسْتَمسِكُوا مِنَ الإسَلامِ بالعروةِ الوُثْقَى، واحْذَرُوا طَريقَ المَعَاصِي، فإنَّ أقْدَامَكُم عَلى النَّارِ لاَ تَقوَى.
عِبادَ اللهِ، إنَّ البَوَاعِثَ التَّي تسُوقُ المرءَ إِلى عَملٍ مَا وَتَدفَعُهُ إلى خَوضِ غِمارِ الحياةِ بظرُوفِهَا الوَاقعة كَثِيرةٌ مُتَبَاينَةٌ، يَبِينُ لِتَبَايُنِهَا مَواقفُ أَهلِ الاحْتِكَاكِ بِهَا، فَتكُونُ نُفُوسُهم إحدَى نَفْسَينِ: إمَّا نَفْسٌ عَجِلَةٌ تثِيرُ الفَوضى فِي المُنَظَّمِ المُحْكَمِ، وَإِمَّا نَفسٌ مُتَأَنِّيةٌ يُشْرقُ نُبْلُهَا مِنْ دَاخِلِهَا فَتُحْسِنُ التَّصَرُّفَ وَسْطَ الأَعَاصِيرِ.
وَمِما تَقَرَّرَ لَدَى العُقَلاَءِ أَنَّ تَكْرَارَ المواقفِ على المرءِ وَتَرَادُفَ الضَّوَائِقِ وَتَعَقُّدَ المسَائلِ أَمَامَهُ لَيسَ لَهَا إلاَّ التَّأَنِّي وَحْدَه بَعَدَ اللهِ سُبْحَانَهُ؛ إذْ هُو عَاصمٌ بأمرِ اللهِ مِنَ التَّخَبُّطِ وَوَاقٍ مِنْ القنوطِ في الوَقتِ نَفسِهِ.
غَيرَ أنَّ داءً قدِيمًا قد عانَتْ منه المجْتَمَعاتُ في القَدِيمِ كَمَا عَانَتْ مِنهُ حَدِيثًا، وَهو ثَغْرَةٌ ضَخمةٌ في الإنسَانِ، وإذا ظهرَ فيهِ كانتْ ثُلْمَةً فِي دِينهِ وَإيمانهِ وَحُسْنِ تدبيرِهِ.
إِنَّ العَجَلةَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ هِيَ فِعْلُ الشَّيءِ قَبلَ وَقْتِه اللاَّئقِ به، وَهِي مِنْ مقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ البَغيضَةِ الموافِقَةِ للشَّيطَانِ، ولهذَا صارتِ العَجَلةُ مَذْمومَةً في عَامَّةِ القرآنِ، وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [الإسراء: 11]، وَيَقُولَ جَلَّ شَأنَهُ: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37]، وَيَقُولُ سُبحَانَهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114]، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16].
لَقْد جَاءَ لفظُ العجلةِ في القُرآنِ مَتَصَرِّفًا فِي سَبعَةٍ وَثَلاَثِينَ موضِعًا، كلّها على سَبيلِ الذَّمِّ إلاَّ مَوضِعًا وَاحدًا، هو قَولُ اللهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203]. وَلاَ غَروَ أن يَكُونَ كَذَلك؛ فَإنَّ الإنسانَ منْ طَبعِهِ العَجَلةُ وَعَدمُ التَّأنِّي كَمَا فِي قَولِهِ: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ.
وإنَّنا ـ عبادَ اللهِ ـ لَنَجدُ العَجَلةَ المذمُومَةَ بَادِيَةً فِي كَثيرٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الأممِ السَّابقَةِ حَتَّى حَلَّ بِهَا العَذَابُ، فأَصْحَابُ الأحْقَافِ لمَّا رَأوا السَّحَابَ والغَيمَ قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، وَتَبَاطَؤوا عُقوبَةَ اللهِ، فَقَالَ اللهُ لهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]. وَلَما عَجلَ مَوسَى إلى رَبِّه رَغمَ أنَّهُ كَانَ يُريدُ أمرًا مَحمُودًا، إلاَّ أنَّ عَجَلتهُ جَرَّتْ عَلَى قَومِهِ عِبادَةَ العِجْلِ الَّتي هِي الإشراكُ باللهِ. وَفي قِصَةِ الخَضِرِ لَمَّا تَعَّجَلَ مُوسَى الإِنْكَارَ عَليه قال : ((رَحمةُ اللهِ عَلَينَا وَعَلَى مُوسَى، لَو لَبِثَ مَعَ صَاحِبهِ لأَبصَرَ العَجَبَ)) رواهُ أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ. وَلَمَّا أَنذَرَ نُوحٌ ابنهُ مِنَ الغَرَقِ قَالَ: سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ، فَتَعَلَّقَ بِالأسبَابِ العَاجِلَةِ وَنَسِيَ مَا يَكونُ فَي الآجِلَةِ مِنَ العَذَابِ.
وَإنَّ في سِيرَةِ المصْطَفَى قِصَصًا وَدُرُوسًا في العَجَلَةِ، فَفِي غَزوةِ أُحُدٍ لَمَّا تَعَجَّلَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اقتِطَافَ ثَمَرةِ الغزوِ وجَمْع الغَنَائِمِ عَادَتِ الكَرَّةُ عَلَيهم وَعَادَ الْمنتَصِر خَاسِرًا. والثَّلاثَة الذينَ تَخَلّفُوا عَنْ غَزوَةِ تَبُوك تَعَجَّلوا الرَّاحةَ وَطيبَ الثَّمرِ الَّذِي وَجَدُوه في المَدِينَةِ عَلَى الاستِجَابة لِنداء اللهِ وَرَسُولِه ومَا ينتظرهم يوم القيامة.
أَيَّها النَّاسُ، مَعَ كُلِّ ذَلِكَ فَإنَّنَا نَجدُ العَجَلَةَ بَاديَةً في كَثيرٍ مِنْ أعْمَالِنَا وَتَصرُّفَاتِنَا، بدْءًا مِنْ أَبوابِ العِبَادَاتِ إلى أبوابِ الأخلاقِ والآدابِ؛ فَهَذَا المتَوضِّئ يَسْتَعجلُ في وُضُوئِه وَلا يُسْبِغُهُ، وَلَرُبَّمَا بَدا من عَقِبهِ شيءٌ لم يصلْ إليه الماءُ، فيقَعُ في وَعيدِ النَّبِيِّ بقوله: ((وَيلٌ لِلأعْقابِ مِنَ النَّارِ)) متفقٌ عليه.
كمَا أنَّكم ـ عِبادَ اللهِ ـ قد تَرونَ هذا المرءَ العَجِلَ في صَلاَتِهِ؛ فَلاَ يَطْمَئنُّ فِي رُكُوعٍ وَلاَ سُجُودٍ، يُسْرِعُ في الحَرَكَاتِ وَلا يَتَلبَّثُ، وَكَأَنَّهُ في أثلة بِأرضٍ هشةٍ، ويغيب عنه قول أبي هريرة : نهاني رسول الله عَن ثلاثٍ، وَذَكَرَ منها: وَعَن نَقرَةٍ كنقرَةِ الدِّيكِ أي: في صَلاتِهِ. رَوَاه أحمدُ وأبو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكُمْ ذَلِكَ الرَّجلَ الَّذِي دَخَلَ في عَبَادَتِهِ أَيًّا كَانتْ، فَزَيَّنَهَا وَعَدَّلَهَا وَأَطَالَ أَركَانَهَا؛ لأَنَّهُ تَحتَ نَظَرِ النَّاسِ وَالنَّاسُ سَيَمدَحُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَى حُسْنِ عِبادَتِه، فَتَرَاه يَتَصَنَّعُ أَمَامَهُمَ، وَإنْ تَكَلَّمَ لَم يَنسَ الإطْرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ في جَانبِ العبَادَةِ، وَنَسِيَ هَذَا المرءُ أنَّ مُرَاءَاتَهُ بأَعْمَالِه في الدُّنْيَا هِيَ اسْتِعْجَالٌ مِنْهُ لِثَوابِ الدُّنْيَا المُتمَثِّلِ فِي مَدحِ النَّاسِ وَثَنَائِهم عَلَى ثَوابِ اللهِ الَّذِي احتَفَظَ بِهِ للمُخلِصِينَ مِنْ عِبَادِهِ، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61].
وَإِنْ تعجَبُوا فَعَجَبٌ ذَلِكُم الَمأْمُوم الَّذِي دَخَلَ مَعَ الإِمَامِ فِي صَلاَتِه، وصارَ لَهُ بِالمرْصَادِ؛ يَسْتَعْجِلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ؛ يُسَابِقُ الإِمَامَ، أَنسِيَ أَو غَابَ عَن بَالِهِ أَنَّهُ لَنْ يُسَلِّمَ قَبلَ سَلاَمِ إمَامِهِ، وَأنَّ الرَّسُولَ قَال: ((أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعْ رَأَسَهُ قَبلَ الإِمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صورَةَ حَمارٍ؟!)) أخْرَجَه البُخَارِيُّ.
وَلَرُبَّمَا طَغتِ العَجَلَةُ عَلَى المرءِ حَتَّى فِي اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ الَّتِي يُنَاجِي فِيهَا رَبَّه وَيَدْعُوهُ مُتَضَرِعًا إِليه، فَيفْقِدُ بسَبَبِ ذَلِكَ الاسْتِجَابَةَ الَّتِي دَعَا اللهَ مِنْ أَجلِهَا، جَزَاءَ مَا اسْتَعجَلَ، غَيرَ آبِهٍ بِقَولِ النَّبِيِّ : ((يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَم يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)) رواهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.
فالوَاجِبَ عَلَى العَاقِلِ لُزُومُ الرِّفْقِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَتَرْك العَجَلةِ وَالخِفّةِ فِيهَا، إذ اللهُ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَمَنْ مُنِعَ الرِّفقَ مُنِعَ الخيرَ، كَمَا أنَّ مَنْ أُعطِيَ الرِّفقَ أُعطِيَ الخَيرَ، وَلاَ يكاد المَرْءُ يَتَمَكّنُ مِنْ بُغْيَتِهِ فِي سُلُوكِ قَصْدِهِ فِي شَيءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ عَلَى حَسْبِ الَّذِي يجبُ إلاَّ بِمُقَارَنَةِ الرِّفْقِ وَمُفَارَقَةِ العَجَلَةِ.
وَإنَّ العَجَلةَ ـ عِبادَ اللهِ ـ قَد تَهُدُّ حُصُونًا مُعقَلةً وَبيوتًا آمِنةً، فَزَوجَةٌ مسكِينَةٌ انكَسرَ مِنهَا إِناءٌ أو غَلَبَ مِلحٌ عَلى طَعامٍ أَو نَسِيتْ أَمرًا تَكونُ بَعدَهُ ضَحِيَّةً لِعَجَلَةِ الزَّوجِ في إطْلاقِ لَفْظِ الطَّلاقِ لأيِّ سَببٍ وَأَدنَى حُجَّةٍ، فَتَتَفَرَّقُ الأُسرَةُ بَعْدَ تَجَمُّعٍ، وَيَظهَرُ الحُزْنُ بَعدَ الفَرَحِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلكَ يَبحَثُ يَمْنَةً وَيَسرَةً عَن طَرِيقٍ يُعيدُ فِيهِ زَوجَتَهُ الَّتِي كَانَتْ ضَحِيَّةَ عَجَلَتِهِ، وَنَسِي قَولَ الرسولِ : ((ثَلاثٌ جِدِّهنَّ جِدٌّ وَهَزلهنَّ جِدٌّ: النِّكاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ)) رواهُ الخَمْسَةُ إلا النَّسائِيِّ بسندٍ حسنٍ.
البَيعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِن أمُورِ الدُّنْيا إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى العَجِلَ فِيهِ سَرِيعَ الرَّأْيِ كَثيرَ الخَسَارَةِ، تَنْقَلِبُ عَليهِ الدُّنْيَا جَرَّاءَ عَجَلةٍ مَقِيتَةٍ دُونَ تَخطِيطٍ وَتَرْتِيبٍ. المُعَلِّمُ يَسْتَعْجِلُ الحُكْمَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَبلَ أَنْ يَخْتبِرَهُمْ، فَيقعُ فِي الظُّلْمِ وَيَبتعِدُ عَن المُوازَنةِ الَحقَّةِ. وَهَذا الطالبُ يَتَسَابَقُ مَع أقْرانِهِ، فَيَستَعْجِلُ الإِجَابَةَ أَوقَاتَ الامْتِحَانِ كَي يَخْرُجَ أَولاً، حَتَّى إذَا ظَهَرتْ النَّتِيجَةُ عَرَفَ هُوَ بِنَفْسِه مَغَبَّةَ العَجَلةِ.
وَإِنَّ العَجَلةَ لَتَبدُو وَاضِحةً فِي كَثيرٍ مِنْ أُمورِ النَّاسِ المُعْتَادَةِ، فَصَاحِبُ الطَّعَامِ إذَا اسْتعْجَلَ فِي صُنْعِهِ خَرَجَ طَعَامُهُ غيرَ مُتَّزِنٍ؛ بَينَ ملاحَةٍ مفرطةٍ أو عدمٍ مفرطٍ. وَقِفُوا طَوِيلاً عِندَ قَائدِ السَّيَارَةِ الَّذِي يَتَمَنَّى أَنْ تَسِيرَ بِه في الهَوَاءِ كَي يُسَابِقَ فِي تَرويعِ هَذَا وَشَتْمِ هَذَا وَمُضَايَقَةِ هَذَا، فَتَنْتَهِي بِهِ العَجَلةُ إِمَّا إِلى مَوتٍ مُحقّقٍ، أَو يَصِلُ إِلى مُبتَغَاهُ كَمَا وَصَلَ النَّاسُ لَكِنْ عَليهِ مِنَ الآثَامِ مَا يَبُوء بِحَمْلِهِ يَومَ القِيَامَةِ.
وَإِنَّ العَجَلَةَ لَيَكُونُ ضَرَرُهَا كَبيرًا وَعَامًّا عَلَى النَّاسِ إِذَا كَانَ المُتَّصِفُ بِهَا ذَا مَسؤولِيَّةٍ وَأَمَانَةٍ، فالحَاكِمُ الَّذِي يَسْتَعْجِلُ الأمورَ دُونَ رَوِِيَّةٍ وَدِرَايةٍ تكُونُ قَرَارَاتُه سَرِيعةَ النَّقْضِ بَطِيئةَ النَّفْعِ، وَلِهَذا كَانَ الحُكَّامُ يُقَرِّبُونَ مِنُهمَ أَهلَ الخِبرَةِ وَالمَشورَةِ الَّذينَ يُصلِحونَ وَلاَ يُفْسِدونَ.
وَمِنْ صُورِ العَجَلةِ الحكمُ عَلى النَّاسِ قَبْلَ البَحْثِ وَالتَّحَرِّي، وَسُوء الظّنِّ قَبْلَ التَّثَبُّتِ وَاليقينِ، الَّتِي تَبدُو واضحةً فِي كثيرٍ منَ الأحيانِ فِي كِتَاباتِ النَّاسِ وَمَقَالاَتِهم، والغَضبُ وَالاستِجَابَةُ لِثَورَةِ النَّفْسِ المؤديةُ إلى الوقُوعِ فِي المحذُورِ، فيتحمَّقُ المَرْءُ عَلىَ عَجَلٍ، وَيكُونُ لِسانُهُ وَفِعْلُهُ قَبلَ قَلْبهِ وَعَقْلِهِ، فَلاَ يَزِمُّ نَفْسَهُ وَلاَ يَتَرَيَّثُ، بَلْ يَهْذِي بِكَلاَمٍ وَيُوكِسُ وَيُشْطِطُ بأَفعالٍ يَحَتاجُ بَعْدَها إِلى اعْتِذَارٍ طَويلٍ وَتَلْفِيقٍ لاَفتٍ، في صُورَةٍ تَبدُو وَاضحةً في مُسْتَجِدَّاتِ الحَيَاة، حِينَ يَنْبَرِي لَهَا قَلَمٌ فَيُرْعِدُ وَيُزْبِدُ، أَو يَعْلُو خَطِيبٌ مِنْبَرَهُ فَلاَ يَدَعُ قَولاً إلاَّ قَالَهُ، ثُمَّ إذَا تَثَبَّتَتِ الأُمُورُ عَلِمُوا أَنَّهمْ وَقَعَوا ضَحِيَّةَ العَجَلَةِ في الحُكْمِ عَلَى مُستَجِدَّاتِ الدُّنْيَا وَأَحْدَاثِ العَصْرِ، وَلَقدْ صَدَقَ حين قال: ((لاَ تَتَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا)) رَوَاهُ أَحمدُ وَابنُ مَاجَه بسندٍ صحيحٍ.
العَاقِلُ ـ عِبادَ اللهِ ـ يَلزَمُ الرِّفْقَ فِي الأَوْقَاتِ وَالاعْتِدَالَ فِي الحَالاَتِ؛ لأنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى المقْدَارِ في المبْتَغَى عَيبٌ، كَمَا أنَّ النُّقْصَانَ فِيمَا يَجبُ عَجزٌ، وَمَنْ لَم يُصْلِحْهُ الرِّفْقُ لم يُصلِحْهُ العُنْفُ، وَالرَّافِقُ لاَ يَكَادُ يُسْبَقُ، كَمَا أنَّ العَجِلَ لاَ يَكَادُ يُلْحَقُ، وَكَمَا أنَّ مَنْ سَكَتَ لاَ يَكادُ يَنْدَمُ، كَذِلِكَ مَنْ نَطقَ لاَ يَكادُ يَسْلَم. وَالعَجِلُ يَقولَُ قَبلَ أَنْ يَعلَمَ، وَيُجِيبُ قَبلَ أن يَفهمَ، وَيَحمدُ قَبلَ أَنَّ يجرِّبَ، وَيَذُمُّ بَعدَمَا يَحمدُ، وَيَعزِمُ قَبلَ أَن يُفكِّرَ، وَيَمضِي قَبلَ أَنْ يَعزِمَ. وَالعَجِلُ تَصْحَبُهُ النَّدَامَةُ وَتَعْتَزِلُهُ السَّلاَمَةُ، وَكَانَتْ العَربُ تُكَنِّي العَجَلَةَ: أُمَّ النَّدَامَاتِ، وَيَقُولُ المَثَلُ: "فِي العَجَلةِ النَّدَامَةُ وَفِي التَّأنِّي السَّلاَمةُ".
قَالَ المهَلَّبُ بنُ أَبِي صُفْرَةَ: "أَنَاةٌ فِي عَواقِبِهَا دَرَكٌ خَيرٌ مِنْ عَجَلَةٍ فِي عَوَاقِبِهَا فَوتٌ". وَكَتَبَ عَمرُو بنُ العَاصِ إِلى مُعاَوِيَةَ يُعَاتِبُهُ فِي التَّأنِّي: (أَمَّا بعدُ: فَإِنَّ التَّفَهُّمَ فِي الخَيرِ زِيَادٌ وَرَشَدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ الرِّفْقُ يَضُرُّهُ الخَرَقُ، وَمَنْ لاَ تَنْفَعُهُ التَّجَاربُ لاَ يُدرِكُ المَعَالِي، وَلا يَبْلُغُ الرَّجُلُ مَبْلغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلمُهُ جَهلَهُ وَبَصَرُهُ شَهْوَتَهُ، وَلاَ يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةِ الحِلْمِ). العَجَلةُ مُؤْذِنَةٌ بِالفَشَلِ الذَّرِيعِ وَكَثرةِ الفُتُوقِ وَالقُنُوطِ مِنَ التَّكَامُلِ.
فَاتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ المؤمِنينَ، وَعَلَيكُمْ بالتُّؤدَةِ وَالتَّأَنِّي تُفْلِحُوا، وَإيَّاكُم وَالعَجَلَةَ، فَلَيسَت مِنْ هَدْيِ الرَّسولِ وَلاَ هِيَ مِنْ شَأْنِهِ، فإنَّ النَّظَرَ إِلى الثَّمَرَةِ قَدْ يَطُولُ، فَهَذَا رسولُ اللهِ وَعَدَ سُرَاقَةَ بنَ مَالكٍ بِسِوَارَيْ كِسْرَى وَلمْ يَلْبسهَا إلاَّ في عهدِ الفَارُوقِ رضي الله عنه؛ لأنَّ المؤمَّلَ غَيبٌ، وَلَيسَ لَنَا إلاَّ السَّاعَةُ الَّتِي نَحْنُ بِهَا، وَإنَّ غَدًا لنَاظرِهِ قَريبٌ.
أَقْولُ هَذَا القَولَ...
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، وَاعْلَمُوا أنَّ دِينَ الإسْلاَمِ دِينٌ وَسَطٌ لاَ يَرْضَى بالإفرَاطِ وَلاَ بِالتَّفْرِيطِ، وَلاَ المغَالاَةِ وَلاَ المجَافَاةِ، وَالنَّظْرَةُ الشَّرعيَّةُ لِلعَجَلَةِ هِي نَظرةٌ عَادِلَةٌ كَرِهَهَا الإسلامُ في مَواضعَ وَنَدَبَ إليهَا في مَوَاضعَ أخْرَى، فَكَمَا أَنَّ التَّأنِي مَنْدُوبٌ إِليهِ فِي ظُرُوفٍ تَليقُ به، فَإنَّ ظُروفًا أُخْرَى تَتَطَلَّبُ العَجَلةَ.
وَلاَ يَعْنِي تَنِفيرُ الإِسْلاَمِ مِنَ العَجَلةِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَن يُعَلِّمَ أَتْباعَهُ البُطءَ فِي الحَرَكَةِ أَو الضَّعْفَ في الإِنْتَاجِ أَو التَّمَاوُتَ فِي العَملِ، كَيفَ وَرسُولُ اللهِ قَد قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأعْمَالِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيقُولُ : ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شَيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبيتُ لَيلتَينِ إلاَّ وَوصِيَّتُهُ مَكْتَوبَةٌ عِنَدهُ)) رَواهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؟!
وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ ـ عِبادَ اللهِ ـ هُنَاكَ أُمُورٌ وَمَواقفُ تَتَطَلَّبُ مِنَ التَّصَرُّفِ الحَازِمِ والعَملِ السَّريعِ مَا لاَ يُنَاسِبهُ التَّأْجِيلُ وَالتَّسويفُ، مِثلُ العَجَلَةِ في اغْتِنَامِ الأوقاتِ وَتركِ التَّسْويفِ فيها، وَكَذَا تَعجِيلُ الفِطْرِ للصَّائِمِ، وَتَعَجُّلُ المُسَافِر إِلى أهْلِهِ إذَا قَضَى نَهْمَتهُ، وَكَذَا صَدُّ الشَّرِّ الظّاهِرِ وَإغَاثَةُ المَلْهُوفِ، وَالنُّصْحُ لِله وَلرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأئِمةِ المُسْلِمينَ وَعَامَّتِهِم، وَعَدَمُ تَأخيرِ البَيَّانِ عَنْ وَقتِ الحَاجَةِ؛ كَبيَانِ حَقٍّ وَإِبطَالِ بَاطِلٍ وَأمرٍ بالمعرُوفِ وَنَهيٍ عَنْ المُنكَرِ، وَكَذَا الوَاجِبَاتُ الموقُوتَةُ بَوقْتٍ مَحدُودٍ، يَقُولُ : ((التُؤدَةُ فِي كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ والبَيهَقي والحَاكِمُ وَصَححَهُ.
وَيَتَأكّدُ أَمرُ العَجَلَةِ بِشِدَّةٍ في وُجُوبِ الأخْذِ بِالحَقِّ إِذَا ظَهَرَ، وَعَدمِ التَّوَانِي فِي قبُولِهِ، وَالبُعْدِ عَن التَّعْليِلاَتِ وَالتَّبْرِيرَاتِ الَّتِي يُرى أَنَّها مُسَوِّغٌ لِتَركِهِ أَو تَأجِيلِهِ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]. فَالَمعَاذِيرُ الَّتِي يُقَدِّمُهَا المَرءُ فِي تَأخِيرِ الحَقِّ أَو رَدِّهِ مَهمَا بِلَغَتْ مَا هِيَ إلاَّ أَوهَامٌ وَخُيوطٌ أَوْهَى مِنْ نَسِيجِ العَنْكَبُوتِ.
الَّلهمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَلاَ تَجْعَلُهُ مُلْتبِسًا عَلَينَا فَنَضِلَّ...
(1/5206)
العمل باليد
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المال. 2- الإسلام يحث على جمع المال بالطرق المشروعة. 3- أفضل المال. 4- نعم المال الصالح للرجل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَإِنَّ أَصدَقَ الحدِيثِ كَلامُ اللهِ تَعَالى، وخيرَ الهديِ هَديُ مُحمدٍ ، وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وَكُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وَكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ التَّقوى هِيَ المصَاحِبَةُ للمُؤمِنِ فِي كلِّ حِينٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَاتقُوا اللهَ جَميعًا ـ أَيُّها النَّاسُ ـ في سِركم وَعلانِيتِكُمْ.
عبادَ اللهِ، الإنسانُ في هذه الحياةِ مَجْبُولٌ على أمورٍ كثيرةٍ، قد لا يَستطِيعُ الفِكَاكَ مِنْ بَعْضِهَا مَهْمَا حاوَلَ، وَمِنْ تلكَ الأمُورِ المالُ، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20]، وفي الحديثِ الصحيحِ: ((لاَ يَزَال قَلْبُ الكَبير شابًّا في اثْنَتَين: في حُبِّ الدُّنيا وَطولِ الأَمَلِ)) متفق عليه.
المالُ فِي حَقيقَتِه لاَ يُطْلَبُ لذَاته، وَإنَّما يُطْلَبُ لأَنَّهُ وَسيلةٌ لِغيرهِ، مِمَّا يحَققُ ويَأتي بسببه مِنْ منفعةٍ أَو مَصْلَحةٍ، والوَسِيلَةُ يَنالُها المدْحُ وَيَنالُهَا الذَّمُّ بِمِقْدَارِ مَا يُتَوَصَّلُ إِليهَا بِهِ وَمَا تُوصِلُ هِيَ إِليهِ، فَالمالُ كَالسِّلاَحِ، إن كَان في يَدِ مجرمٍ قَتَلَ بِهِ الأَبرِيَاءَ وَالضُّعَفَاءَ ، وَإنْ كَانَ فِي يَدِ مُجاهِدٍ مُنَاضِلٍ دَافَعَ بِه عَن دِينِهِ وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، وَانْظروا إِلى قولِ اللهِ سُبحَانَهُ عن المَال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5-10].
عبادَ اللهِ، المالُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ خَيرٌ وَنِعْمَةٌ مِنَ اللهِ وَقِيامٌ بمَصَالحِ العِبَاد، ولَكنْ تَصَرُّفُ الإنسَانِ فِي هَذَا المَالِ قَدْ يُخرِجُهُ مِنْ هَذِهِ الخَيرِيَّةِ إِلى ضِدِّهَا، وَالمَالُ مِنْ أَعْظَمِ الفِتَنِ الَّتي يُبْتَلَى بِهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15].
وَلقدْ حَثَّ الإسْلامُ ـ أَيُّها النَّاسُ ـ المَرْءَ عَلى جَمْع مَا يَقُوتُ بِهِ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ مِنَ المالِ الحَلاَلِ، قَالَ لِسَعدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ: ((إِنَّكَ أنْ تذَرْ وَرَثَتكَ أَغنياءَ خَيرٌ لَكَ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاس)) متفق عليه، وَيقُولَ : ((كَفَى بِالمرءِ إِثمًا أن يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)) رَوَاه أحمدُ وَرَوَاهُ مُسْلمٌ بِلَفظٍ آخرَ.
عِبَادَ اللهِ، جَاء الإسْلامُ حَاثًّا عَلَى طَلبِ هَذَا المَالِ بِالطّرِيقِ المَشْرُوعِ، فَحَثَّ عَلى الجِدِّ وَالعَمَلِ، وَحَذَّرَ مِنَ البَطَالَةِ وَالكَسَلِ، وَفَتَحَ السُّبُلَ في وَجْهِ مُبْتَغِي الرِّزقِ الحَلاَلِ وَالمَالِ الطّيِّبِ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف: 32]، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]، ويقولُ اللهُ سبحانَهُ: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]. فَرَتَّبَ الفَلاحَ سُبْحَانَهُ عَلَى طلَبِ الرِّزْقِ الحَلاَلِ وَأَدَاءِ وَاجِبِ الطَّاعَاتِ وَذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلاَ.
إنَّ العَمَلَ وَالجِدَّ وَالمِهنةَ كَانَتْ مِنْ أَخلاقِ أنبياءِ اللهِ وَرسُلِهِ، ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللهِ قال: ((مَا أَكَلَ أحَدٌ طعامًا خيرًا منْ أنْ يأْكُلَ منْ عَملِ يدهِ، وإِنَّ نبي اللهِ داوُدَ كان يأْكُلُ منْ عملِ يدهِ)) ، وَرَوَى مُسلِمٌ أَنَّ النّبِيَّ قَالَ: ((كانَ زَكَرِيَّا عليه السَّلامُ نجَّارًا)) ، وَرُوِيَ أنَّ إِدْرِيسَ عَلَيهِ السَّلامُ كَانَ خَيَّاطًا يَتَصَدَّقُ بِفضْلِ كَسبِه، وَلَقَد كَانَ نَبِيُّنَا مُحمدٌ يبيع وَيَشْتَري، وَقَالَ لأصحَابه: ((لأَنْ يَأْخُذَ أَحدُكُمْ أحبُلَهُ ثُمَّ يَأتِي الجَبَلَ ثُمَّ يَأتي بِحُزْمَةٍ مِنْ حَطبٍ فَيبِيعَهَا فيَستَغْنِي بِثمنِها خيرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَسألَ النَّاسَ أَعْطَوهُ أوَ مَنَعُوهُ)) رَواهَ البخاريُّ.
وَصَحَابَتُهُ وَرَضِيَ اللهُ عنْهُم امْتَهَنُوا المِهَنَ وَبَاعُوا وَاشْتَرَوا وَطَلَبُوا الرِّزقَ الحَلالَ، يَقَولُ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ : (تَعَلَّمُوا المِهْنَة؛ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَحْتَاجَ أَحدُكُم إِلى مِهْنتهِ)، وكانَ أبو الدَّرداءِ ليوقِد النَّارَ تَحتَ قدْرِهِ حَتَّى تَدمَعَ عَينَاهُ، وَتَقُولُ عَائشةَ: كَانَ أَبَو بَكرِ أتْجَرَ قُرَيش حَتَّى دَخَل في الإمَارَةِ. وأوصَى قَيس بنُ عَاصم أبناءَهُ عِندَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: "عَليكُمْ بِالمالِ وَاصْطِنَاعِهِ فَإنَّهُ مَنْبَهَةُ الكَرِيمِ ويُسْتَغْنَى بِهِ عَن اللَّئيمِ، وَإيَّاكُمْ وَالمسألةَ فَإِنَّها آخر كَسْبِ الرَّجْلِ"، وَيقولُ سَعيدُ بنُ المُسَيّبِ: "لاَ خَيرَ فِي مَنْ لاَ يَطْلُبُ المالَ يَقْضِي بِهِ دَينهُ وَيَصُونُ بِهِ عِرْضَهُ وَيَقضِي بِهِ ذِمَامَه، وَإِنْ مَاتَ تَرَكَهُ مِيراثًا لَمَنْ بَعْدهُ"، وقَالَ الضَّحَّاكُ بنُ مُزَاحِمٍ: "شَرَفُ المؤمِنِ صَلاَةٌ في جَوفِ اللَّيلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغُنَاؤهُ عَنِ النَّاس"، ورواه الطَّبرانِي بسندٍ حَسنٍ مَرفوعًا.
عبادَ اللهِ، اتقُوا اللهَ تَعَالَى، وَإيَّاكُم والخْمُولَ وَالتَّكَاسُلَ وَالاتِّكَالَ عَلَى غَيرِكُم فِي خُصُوصِيَّاتِ حَيَاتِكُم، وَاعْلَمُوا أنَّ العَمَلَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَهُو خَيرٌ مِنَ البَطَالَةِ، وَخَيرٌ مِنَ انْتِظَارِ النَّوَالِ مِنْ أصْحَابِ المَالِ، وَأعْظَمُ مِنهُ سُؤَالُ أصَحَابِ الغِنَى، فَإِنْ أَعطَاهُ فَلَقدْ بَقِيَت المِنَّةُ علَى ظَهْرِهِ يَحمِلُهَا، وَإنْ مَنَعَهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ سَوءَتَانِ: ذُلُّ الخَيبَةِ وَذلُّ السُّؤَالِ. يَقَولُ عمرُ بنُ الخَطَّابِ : (مَكْسَبَةٌ فِي دَناءةٍ خَيرٌ مِنْ سَؤالِ النَّاسِ)، وَرُويَ عَنْ لُقمانَ أنَّهُ قَالَ لابنِهِ: "يَا بُنَيَّ، اسْتَغنِ بِالكسْبِ الحَلالِ، فَإنَّهُ مَا افْتقرَ أحدٌ إلاَّ أصابَتهُ إحدى ثلاث خِصَال: رقَةٌ في دينِهِ أو ضَعْفٌ في عقلِهِ أَو وَهَاءٌ في مَرُوءته، وَأَعْظَم مِنْ هذا اسْتِخْفَافُ النَّاسِ بِه".
عِبادَ اللهِ، تَعوَّذَ رسولُ اللهِ مِنْ أمُورٍ كثيرةٍ ليبيِّنَ للنَّاسِ مضرَّتَهَا، وَيَسْتَعِينُوا باللهِ عَلَى البُعْدِ عَنْهَا، رَوَى الإمامُ أحمدُ أنَّ رسولَ اللهِ قال: (( تَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الفَقْرِ وَالقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ)) ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاودَ أنَّه قالَ: ((اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ الجُوعِ فَإنَّهُ بِئسَ الضَّجِيعِ)) ، وَرَوَيَا أيضًا أنَّه قالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ والجُبْنِ والبُخْلِ وَغَلَبَةِ الدَّينِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ)).
عِبَادَ اللهِ، إنَّه لا يليقُ بالرَّجُلِ العَاقِلِ أنْ يَرضَى لِنفسِهِ أن يكُونَ حِملاً على المجتَمَعِ، ثَقِيلاً لا فَائِدَةَ منهُ، فَارِغًا عَنْ شُغْلٍ، يقولُ عمرُ : (إِنِّي لأرَى الرَّجْلَ فيُعْجِبُنِي شكْلَه، فَإذا سَألتْ عنه فَقيلَ: لا عملَ لَهُ سقطَ مِنْ عَيْنِي). وَكَانَ يأتِي إلى قَومٍ قَابِعِين في المسجِدِ بعدَ صَلاةِ الجُمُعَةِ يقولُونَ: نحنُ المتوكِّلُونَ على الله، فيعلوهم بدَرَّتِه وينَهرُهُم ويقولُ: (لا يقعدُ أحدُكُمْ عنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقنِي، وقَدْ عَلِمَ أنَّ السَّمَاءَ لا تُمطرُ ذَهبًا وَلا فِضَةً). وَيقولُ محمدُ بنُ ثَورٍ: كَانَ سُفيانُ الثَّورِيُّ يَمُرُّ بنا وَنَحنُ جُلُوسٌ بِالمسْجِد الحَرَامِ فَيقولُ: مَا يُجْلِسُكُم؟ قُلنا: مَا نَصنَعُ؟! قال: اطْلُبُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَلاَ تكُونُوا عِيالاً عَلَى المسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً صَالحًا وَرزْقًا واسِعًا.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ يُعطِي ويَمْنَعُ، وَيَخْفِضُ وَيرْفَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، بيدِهِ الخَيرُ وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ بيدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ وَرسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلهِ وَأصحَابِهِ وسلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أنَّ أفْضَلَ المالِ مَا كَانَ مِنْ طَريقٍ حَلالٍ. سُئِلَ رَسُولُ اللهِ : أي الكسبِ أفضلُ؟ قال: ((عَملُ الرَّجلِ بِيدِهِ وَكُلُّ بَيعٍ مَبْرورٍ)) رواه الطَّبرانِيُّ وأحمدُ بسندٍ صحيحٍ.
أَيُّها النَّاس، إِنَّ المالَ مَتَى مَا اجتَمَعَ مَعَ الدِّينِ كَانَ الدِّينَ قَويًّا وظَاهِرًا، مَا أجملَ الدِّينَ والدُّنيَا إذَا اجتَمعَا. إِذَا كَانَ المالُ في أيدِي عبادِ اللهِ صَرفوهُ في طَاعةِ اللهِ وَفي مَرْضَاتِه، وَأمَّا إنْ كانَ المالُ عِندَ قَومٍ ضَعُفَ عِنْدَهُمُ الدِّين فَهُم عِبءٌ عَلَى المسلِمينَ، يَسِيرُونَ خَلفَ المالِ حيثُما سَارَ، لاَ يُحلُّونَ حَلاَلاً وَلا يُحرِّمَونَ حَرَامًا، يَقُولَ : ((نِعمَ المَالُ الصَّالِحُ للرَّجُلِ الصَّالِحِ)) رَواه الإمام أحمدُ بسندٍ صحيحٍ.
إنَّ المالَ يذهب وَيعَودَ، وَمَا هُوَ إِلا وَسيلَةٌ للإنفَاقِ في سَبيلِ البِرِّ والخَيرِ، وَقبلَ ذَلِكَ فِي نُصَرة الإسلامِ وَالمسْلِمينَ، يَقَول : ((أَفضلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهرِ غِنَى)) رَوَاهُ الشَيخانِ، وَرَوَى الطّبراني بسندٍ صحيحٍ أنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلى النَّبيِّ فَرَأى الصَحابةُ مِن جَلَدِهِ ونَشَاطِه في العملِ، فقالُوا: يا رسولَ الله، لو كَانَ هَذا في سبيلِ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((إنْ كَانَ خَرجَ يَسْعَى عَلَى وَلدِه صِغَارًا فَهو فِي سَبيلِ اللهِ، وَإنْ كَانَ خَرَجَ يَسعَى عَلى أبوينِ شَيْخَينِ كَبِيرينِ فَهو في سَبِيلِ اللهِ، وإنْ كَانَ خَرَجَ يسعَى عَلى نَفسِه يُعِفُّهَا فَهُو فِي سَبيلِ اللهِ، وَإنْ كَان خرجَ رياءً وَمفاخَرَةً فهو في سبيلِ الشيطانِ)) ، وَرَوَى الترمذيُّ وَابنُ مَاجَه بِسندٍ حسنٍ عَنِ النَّبيِّ أنَّهُ قالَ: ((التَّاجِرُ الصَدُوقُ الأمينُ مع النَّبيينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ)).
عبادَ اللهِ، بالمالِ الحَلالِ وَالكَسْبِ الطَّيِّبِ اسْتَطَاعَ المهَاجِرونَ إِلى المدِينَةِ أنْ يُزَاحِمَوا اقْتصَادَ أَهلِ الكِتابِ، أَتَرونَهمْ لَو كانُوا فُقَرَاءَ فَهلْ يَتِمُّ لهم مَا أَرَادُوا؟! ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 6].
وَلَمَّا تُوفِيَ الزُّبَير بن العَوَّامِ وَكَانَ عَليه ديونٌ للنَّاسِ أُحصِيت تَرِكَتُهُ فَزَادَتْ عَلى سِتِّينَ مليونًا، أَكثرها من الأرَاضي والدُّورِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجرِ مُعقبًا عَلَى هَذا الأثر: "فيه بَرَكَةُ العَقَارِ وَالأَرضِ لما فِيهِ مِنَ النَّفْعِ العَاجِلِ وَالآجِلِ بِغير كَثيرِ تَعَبٍ وَلاَ دُخُولٍ في مَكرُوهٍ، كاللَّغْوِ الوَاقِعِ فِي البيعِ وَالشِّرَاءِ".
أيُّها النَّاسُ، إِنَّ مِن أخْطَرِ مَا يَواجِهُ الدَّولَة حِينَ تَقُوم عَلى شَعبٍ اتَّصَفَ بِالدَّعَةِ والكَسَلِ، وإنَّ البُلْدَانَ لا تقومُ إِلاَّ بِأفْرَادِهَا وَأبْنَائِها، فكَيْفَ تَنْهَضُ بِلادٌ وَقدْ أُصِيبَ أَهْلُهَا بِالعَجْزِ وَالبَطَالةِ أو الاتِّكَالِ عَلَى غيرِهمْ؟!
عِبادَ اللهِ، إِنَّ البَطَالَةَ شَرٌّ خَطيرٌّ وَدَاءٌ فَتَّاكٌ، أَسْرع مَا يُفْسِدُ طُمَأْنِينَة الحَياةِ، وَأَعْجَل مَا يُنَغِّصُ العَيْش، البَطَالةُ بَاب إِلَى التَّسَوُّلِ وَطريقٌ إِلى السَّرِقَةِ وَمدخَلٌ إِلى الغِشِّ وَالخِدَاعِ وَالمَكْرِ.
الإسلاَمُ دِينُ عِزَّةٍ وَكَرامةٍ وَرِفْعَةٍ وَسُمُوٍّ، يحثُّ عَلى العَمَلِ الصَّالِحِ والنَّافِعِ، وَيَأمُرُ بالقُوَّةِ والاسْتعدَادِ للكُربَاتِ والنَّوَازِلِ، فانَظُرُوا حَالَ أنفُسِكم وَتدبَّرُوا أُمُورَكُم.
ثُمَّ صَلُّوا وسلِّموا على الرَّحمةِ المهدَاةِ...
(1/5207)
تعظيم الولاة وتقدير العلماء
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, العلم الشرعي, فرق منتسبة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة الإسلام. 2- ضرورة البحث عن العلاج لمشكلة العمليات التخريبية. 3- كيد أعداء الإسلام. 4- أهمية التحصّن بالعلم الشرعي. 5- وجوب تعظيم العلماء واحترامهم. 6- التحذير من أدعياء العلم. 7- السمع والطاعة لولاة الأمر وتحريم الخروج عليهم. 8- مفاسد الخروج على الحكام. 9- قتال الخوارج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا الله ـ عِبادَ الله ـ حَقَّ التَّقْوى، فتَقْوَى الله نِعْمَ الأمَلُ، والإعْرَاضُ عَنْهَا بِئسَ العَمَلُ.
أيُّهَا المُسْلِمُونَ، لَقَدْ خَلَقَ الله عِبَادَهُ عَلى الفِطْرَةِ السَّليمَةِ السَّويَّةِ، وبَعَثَ الرُّسُلَ لتَقْريرِهَا وتَكْميلِهَا، والنَّاشِئَةُ في بُكُورِ حَيَاتِهَا دِيوَانٌ مَفْتُوحٌ وسِجِلٌّ نَاصِعٌ، تَتَلَقَّى مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ حَقٍّ أوْ بَاطِلٍ، أرْضٌ تُنْبِتُ أيَّ غِرَاسٍ مِنْ صَحيحِ العَقَائِدِ وفَاسِدِهَا، ومِنْ مَكَارِمِ الأخْلاقِ ومسَاوِئهَا، ((كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ)) رَوَاه البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ.
وإنَّ مَا مَرَّت به هَذِهِ البلادُ مِنْ فِتَنٍ وتَفْجيراتٍ وَقَتْلٍ وسَفْكٍ للدِّمَاءِ يُوجِبُ عَلَى المَرْءِ أنْ يَبْحَثَ عَنِ العِلاجِ؛ لأنَّ الشَّجْبَ يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ أحَدٍ، حَتَّى العَجَائِز والبُلَهَاء يَسْتَطيعُونَ شَجْبَ الخَطَأِ والتَّبَرُّؤَ مِنهُ، لكِنَّ العَاقِلَ هَوَ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ المَرَضِ ليَبْحَثَ بعدَهُ عَنِ العِلاجِ.
ألا وإنَّ العِلاجَ وَاضِحٌ للعَيَانِ يَشْتَرِكُ فيهِ كُلُّ أفْرَادِ المُجْتَمَعِ، وإنَّ عُقُولَ الشَّبابِ كَانَتْ ولا تَزَال هَدَفًا لأعْدَاءِ المُسْلِمينَ الذِينَ تَنَوَّعَتْ وسَائلُهُمْ ليُوقِعُوا الشَّبَابَ في شَرَكِهِمْ، وليَزُجُّوا بهمْ في وَحلِ الفِتَنِ تَارَةً، ويُلْقُوا عَلَيهِمْ الشُّبُهَاتِ تَارَةً أخْرَى، لِيَردُّوهُمْ ويُورِدُوهُم مُستَنْقَعَ الهَوَى والشَّهَواتِ، ويغْرِقُوهُمْ في المُلْهِياتِ والمُحَرَّماتِ، لِذَا كانَ الحِمْلُ ثقِيلاً عَلَى الوالِدَين وأرْبَابِ التَّربيَةِ كَي يَقُودُوا الشَّبَابَ لجَادَّةِ الصَّوابِ، فالحِمْل ثَقيلٌ وضَررُ التَّفْريطِ أثْقَلُ، ولا أنْفَعَ بإذْنِ الله للشَّبَابِ مِنَ التَّحَصُّنِ بعِلْمِ الشَّرِيعَةِ؛ يَزيدُ الإيمانَ، ويُنيِرُ البَصيرَةَ، ويُهَذِّب النَّفْسَ، ويَرْفَعُ عَنْ دَنِيءِ الأفْعَالِ، طَالِبُ العِلْمِ مَنْظُومٌ فِي سِلْكِ العُظَمَاء، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. سُلُوكُ طَريقِ العِلْمِ تَوفِيقٌ للوُصُولِ للجِنَانِ، والخَلْقُ عَنْ طَلَبَةِ العِلْمِ رَاضُونَ، ولِصَنِيعِهِمْ مُسْتَغْفِرُونَ، والمَلائِكَةُ لمُجَالَسةِ أهْلِ العِلْمِ وطَلَبَتِهِ رَاغِبُونَ.
أيُّها الإخْوَة، إنَّ الوَاجِبَ عَلَى الأبِ أنْ يُغَذِّي أبْنَاءَهُ بالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الذِي يَكُونُ حَاجِزًا لهمْ أمَامَ كَثيرٍ مِنَ الفتَنِ والمُغْرِيَاتِ، فيَزْجُرَهُ عَنْ الإقْدَامِ عَلَى كَثيرٍ مِنَ المُحرَّمَات، ولَسْنَا نَعنِي هُنَا أنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ، فَهَذَا أمرٌ لا يَقْدِرُهُ كُلُّ أحدٍ، لَكِنْ نشِّئُوا في قُلُوبِهِمْ وهُمْ صِغَار تَعظِيمَ الحُرُمَاتِ والمُحَافَظَةَ عَلَى الضَّرُورات الخَمْسِ التي أمَرَ الإسْلامُ بالمُحَافَظَةِ عَلَيهَا والدِّفَاعِ عَنْهَا: النَّفْسُ والعَقْلُ والمَالُ والعِرْضُ والدِّينُ.
إنَّ الشَّابَّ مَتَى مَا نَشَأَ فِي ذِهْنِهِ هَذَا الأمْرُ فإنَّهُ لَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بغَيرِ حَقٍّ، ولَنْ يُقْدِمَ عَلَى شُرْبِ مُسْكِرٍ، ولَنْ يُقْدِمَ عَلَى السَّبِّ والشَّتْمِ، ولا أكْلِ المالِ بِغَيرِ حِلِّه.
ألاَ وإنَّ مِنْ تَعْظِيمِ الشَّريعَةِ والدِّينِ تَعْظيمُ العُلَمَاءِ، فهُمْ خَلَفُ أنْبيَاءِ الله فِي دَعْوَتِهِمْ، قَالَ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وإنَّ العُلَمَاءَ ورَثَةُ الأنْبِيَاءِ)) رَوَاهُ أحمدُ وأصْحَابُ السُّنَنِ. حَقٌّ عَلَى النَّاسِ تَبْجِيلُهُمْ وتَوقِيرُهُمْ، وعَلَى هَذَا سَارَ أسْلاَفُ هَذَا الدِّينِ، يَقُولُ الرَّبيعُ بنُ سُلَيْمَانَ: "ما اجْتَرأتُ أنْ أشْرَبَ الماءَ والشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إليَّ هَيبَةً لَهُ". فسُؤَالُهَمْ عِلْمٌ، ومُجَالَسَتهمْ سَعَادَةٌ، ومُخَالَطَتُهُمْ تَقْويمٌ للسُّلُوكِ، ومُلازَمَتُهُمْ حِفْظٌ للشَّبَابِ بإذْنِ الله مِنَ الزَّلَلِ، يَقُولُ مَيمُونَ بنُ مِهْرَانَ: "وَجَدْتُ صَلاحَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ العُلَمَاء".
ثَمَرَةُ مُجَالَسَةِ العُلَمَاءِ لَيسَتْ في التَّزَوُّدِ مِنَ العُلُومِ والمَعَارِفِ فَحَسْب، بلِ الاقْتِدَاءُ بِهِمْ في الهَدي والسَّمْتِ وعُلُوّ الهِمَّةِ ونَفْعِ الآخَرينَ عِلْمٌ آخَر يَحْتَاجُ إليْهِ كُلّ أحَدٍ، وبُعْدُ نَاشِئَةِ المسْلِمينَ عَنْهُمْ يُؤَدِّي إلى تَخَبُّطٍ في طَلَب العِلْمِ وإعْجَابٍ بالرَّأي وقِلَّةٍ في التَعَبُّدِ.
وإنَّنا حينَ نَتَكَلَّمُ عَنِ العُلَمَاءِ فَنَعْنِي بِهِمْ أهلَ الحَلِّ والعَقْدِ الذِينَ شَهِدَتْ لَهُمُ الأمَّةُ بالقَبُولِ، والذِينَ وُكِلَ إليْهُمُ الفَتْوَى فِي هَذِه البِلادِ، وإنَّهُ بِقَدْرِ بُعْدِ الشَّبَابِ عَنِ العُلَمَاءِ النَّاصِحينَ بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مُخَالَفاتٍ في السُّلُوكِ والتَّصَوُّرِ، ولمَّا ضَعُفَ في قُلُوبِ النَّاشِئَةِ والشَّبَابِ خَاصَّةً تَوقيرُ العُلَمَاءِ حَتَّى وصَفُوهُمْ بِعُلَمَاءِ السُّلْطَانِ تَارَةً أو بِعُلَمَاءِ السِّياسَةِ تَارَةً أُخْرَى، فكُلُّ هَذِهِ الأمُورِ تُوجِدُ عِندَ الشَّبابِ جَفْوَةً مِنْ عُلَمَاءِ الأمَّةِ، وبُعْدًا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ الصَّريحِ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ ظَهَر مِنْ أفَعَالِهمْ مَا رأيتُمْ مِنْ تَخْريبٍ وتَدْميرٍ.
أيُّهَا الآبَاءُ والمُرَبُّونَ، إنَّ الواجِبَ عَلَيْكُمْ أنْ تَغْرِسُوا فِي قُلُوبِ النَّاشِئَةِ والشَّبابِ حُبَّ العُلَماءِ وتَوقِيرَهُمْ والرُّجُوعَ إليْهِمْ والأخْذَ عَنْهُمْ، فَلَقَدْ رَأيتُمْ نَتِيجَةَ أخْذِ أولَئِكَ الشَّبابِ عَنْ أنْصَافِ العُلَمَاءِ وتَرْكِهِمْ الأخْذَ عَنِ الكِبَار.
عِبَادَ الله، وإنَّ مِنَ الأمُورِ التي يَنْبَغِي عَلَى الأبِ والمُرَبِّي تَنْشِئَة النَّاشِئَةِ والشَّبابِ عَلَيْهَا السَّمْعَ والطَّاعَة لِوُلاةِ الأمْرِ، ذَلِكَ الأصْل الأصِيل الذِي لا يَستَقِيمُ أمْرُ النَّاسِ إلاَّ بِهِ، وتَجِدُونَ أهمِيَّةَ ذَلِكَ مِنْ خِلالِ تِلْكَ النُّصُوصِ العَظِيمَةِ التي جَاءَتْ في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ تُوجِبُ طَاعَةَ الحَاكِمِ وتُحَرِّمُ الخُرُوجَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تأكِيدُ كَثيرٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ في كُتَبِهمْ ـ خُصُوصًا كُتُب العَقِيدَةِ ـ عَلَى هَذَا المَبْدأ، ومَعَ ذَلِكَ خَرَج مَنْ زَيَّن للشَّبابِ والنَّاشِئَةِ إبَاحَةَ الخُرُوجِ عَلَى الحَاكِم ونَزْعَ الطَّاعَةِ مِنْهُ، ومَعَ فَدَاحَةِ هَذَا الأمْرِ وعَظِيمِ الضَّرَر الوَاقِعِ بِسَبَبِ الإخْلالِ بهِ فقَدْ قَلَّ مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنهُ مِنَ العُلَمَاءِ والخُطَبَاءِ والوَاعِظينَ.
ألاَ وإنَّ مِنْ صُوَرِ التَّهْوينِ مِنْ طَاعَةِ وُلاةِ الأمْرِ مَا قَدْ يَزْرَعُهُ الأبُ والمرَبِّي فِي نُفُوسِ النَّاشِئَةِ والشَّبَابِ مِنْ خِلالِ أفْعَالٍ يَفْعَلُهَا دُونَ اكْتِرَاثٍ لِنَتَائِجِهَا؛ فَقِيادَةُ السَّيَّارةِ بسُرْعَةٍ مُتَجَاوِزَةٍ وتَجَاوُزُ الإشَارَاتِ الضَّوئيَّةِ يَغْرسُ فِي نُفُوسِ الأبْنَاءِ الاسْتهتَارَ بأوَامِرِ وُلاةِ الأمرِ.
إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ جَعَل للحَاكِمِ والأميرِ والوَالي سُلْطَةً بمُوجِبِ عَمَلِهِ دُونَ نَظَرٍ إلى ذَاتِهِ، فالوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ احْتِرامُهَا، كَيفَ وَقَدْ جَاءتِ الشَّريعَةُ بالأمْرِ بهَا؟! فَقَدْ رَوَى التِّرمِذيُّ وحَسَّنَهُ عَنْ زِيَادِ بنِ كَسيبٍ العَدويِّ قَالَ: كُنتُ مَعَ أبي بَكْرَةَ تَحتَ مِنْبَرِ ابنِ عَامِرٍ وهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ فقَالَ أبُو بِلالٍ: انْظُرُوا إلى أمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ، فَقَالَ أبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((مَنْ أهَانَ سُلْطَانَ الله فِي الأرْضِ أهَانَهُ الله)).
فالوَاجِبُ على الأبِ والمُرَبِّي أن يَسْتَشْعِرَ كَونَهُ قُدوَةً لأبنَائِهِ وطُلاَّبِهِ، فَليُعدِّلهم بِسُلُوكِهِ وعَمَلِهِ قبلَ أنْ يُعَدِّلهم بِقَولِهْ.
وَبَعْدُ: فَهَذِهِ بَعضٌ مِنْ صَوَرِ العِلاجِ لمَا وَصَلَ إليهِ واقِعُ الشَّبَاب، فَاتَّقُوا الله أيُّهَا النَّاسُ، ورَاقِبُوهُ فِي أقْوَالِكُمْ وأفْعَالِكُمْ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
أقُولُ هَذَا القَولَ وأسْتَغْفِرُ الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، لهُ الحَمْدُ في الأُولَى والآخِرَةِ وهُوَ الوَليُّ الحَميدُ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحْدَهُ لا شَرِيْكَ لهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا الله أيُّهَا النَّاسُ؛ تَفُوزُوا في الدُّنْيَا بالسَّعَادَةِ وفِي الآخِرَةِ بالجَنَّة وزِيَادَةٍ.
عِبَادَ الله، إنَّ النَّاظِرَ فِي تَعَاليمِ هَذَا الدِّينِ يَرَى أنَّهُ جَاءَ بِكُلِّ مَا يُسْعِدُ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ، وأنَّهُ مَتَى مَا سَارَ النَّاسُ عَلَى المَنْهَجِ القِويمِ فَلَنْ يَسْتَطِيعَ الأعْدَاءُ أنْ يَنَالُوا مِنْهُمْ، ومَنْ تأمَّلَ التَّارِيخَ وَجَدَ أنَّ أعْدَاءَ الإسْلامِ لا يَتَقوّونَ عَلَى المُسْلِمينَ إلاَّ إذَا وَجَدُوا بَيْنَهُمْ خِلافًا ونِزَاعًا، يَقُولُ المُعَلِّميُّ رَحِمَهُ الله فِي كِتَابهِ التَّنْكِيل: "وإنَّ حُبَّ الخُرُوجِ عَلَى وَليِّ الأمْرِ هُوَ شَقٌّ لِعَصَا المُسلِمينَ وتَفْريقٌ لِكَلِمَتِهِمْ وتَشْتِيتٌ لجَمَاعَتِهمْ وتمزِيْقٌ لِوَحْدَتِهمْ وشَغْلٌ لهُمْ بِقَتْلِ بَعْضِهمْ بَعَضًا، فَتهنُ قُوَّتُهمْ، وتَقْوَى شَوكَةُ عَدُوِّهِمْ، وتَتَعطَّلُ ثُغُورُهُمْ، فَيَسْتَولي عَلَيْهَا الكُفَّارُ، ويَقْتُلونَ مَنْ فِيهَا مِنَ المُسْلِمينَ، ويُذِلُّونَهُمْ، وقَدْ يَسْتَحِكِمُ التَّنَازُعُ بَينَ المُسْلِمينَ، فَتَكُونَ نَتيجَتُهُ الفَشَل المُخْزي لهمْ جَميعًا، وقَدْ جَرَّب المُسْلِمُونَ الخُرُوجَ فَلَمْ يَرَوا مِنْهُ إلاَّ الشَّرَّ" اهـ.
واعْلَمُوا ـ أيُّهَا الإخْوَةُ ـ أنَّ مِثلَ أولَئِكَ الذِينَ خَرَجُوا عَلَى الأمَّةِ لا حِوارَ مَعَهُمْ ولا نِقَاشَ، بَلِ القَتْلُ والسَّيْفُ، يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9].
قَالَ القَاضِي: "أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الخَوَارِجَ وأشْبَاهَهُمْ مِنْ أهْلِ البِدَعِ والبَغْيِ مَتَى خَرَجُوا عَلَى الإمَامِ وخَالَفُوا رَأْيَ الجَمَاعَةِ وشَقُّوا العَصَا وَجَبَ قِتَالَهُمْ بَعْدَ إنْذَارِهِمْ والاعْتِذَارِ إليْهِمْ" اهـ، أي: بَعْدَ تَحذِيرِهِمْ وتَهدِيدِهِمْ. فَلاَ تَسْمَعُوا ـ عبادَ الله ـ فيمَنْ يُشَكِّكُ فِيمَا رَآهُ وَليُّ الأمْرِ أوْ يُخَطِّئ مَسْلَكُهُ فِي قِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ.
فَاتَّقُوا الله عِبادَ الله، ثُمَّ صَلُّوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وإمَامِ الوَرَى مُحمَّدٍ، فَقَدْ أمَرَكُمُ الله بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5208)
ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح مفصل لحديث: ((نَضَّر الله امْرءًا سَمِعَ مَقَالَتي فَوَعَاهَا ثُمَّ أدَّاها إلى مَنْ لم يَسْمِعْهَا)). 2- فضل العلم. 3- ثمرات الإخلاص. 4- أهمية النصيحة. 5- الأدِلَّةُ المُحَذرَةُ مِنَ الخُرُوجِ عَن جَماعَةِ المُسْلِمينَ. 6- أهَمِيَّة لُزُومِ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَقَدْ أوصَاكُمُ الله تَعَالَى بِتَقْواهُ إنْ كُنتُم تُرِيدُونَ الفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، فاتَّقُوا الله جَميعًا ـ أيُّها النَّاسُ ـ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
عباد الله، إنَّ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الَّتي أُوتيهَا نَبيُّنَا مُحمدٌ والَّتي جَاءَتْ بألْفَاظٍ قَليلَةٍ غَيرَ أنَّهَا تَحملُ مَعَاني كَبيرَة مَا رَوَاهُ الإمَامُ أحمدُ فِي مِسْنَدِه بِسَنَدٍ صَحيحٍ عَنْ جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قامَ فِينَا رَسُولُ الله بالخَيفِ مِنْ مِنَى فَقَال: ((نَضَّر الله امْرءًا سَمِعَ مَقَالَتي، فَوَعَاهَا ثُمَّ أدَّاها إلى مَنْ لم يَسْمِعْهَا، فُرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ، ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنهُ، ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ المُؤمِنِ: إخْلاصُ العَمَلِ لله، والنَّصِيحَةُ لِوَليِّ الأمْرِ ـ وفِي رِوَايةٍ: طَاعَةُ ولِيِّ الأمْر ـ ولُزُومُ الجَماعَةِ، فَإنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَاءِهِ)) ، وفِي لَفْظٍ: ((فإنْ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بهِمْ مِنْ وَرائِهِم)).
يَقُولُ شَيخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ الله: "وهَذِهِ الثَّلاثُ المَذْكُورَةُ فِي الحَدِيثِ تَجمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وقَوَاعدَهُ، وتَجمَعُ الحُقُوقَ الَّتي لله والتِي لِعِبَادِه، وتَنْتَظِمُ مَصَالِح الدُّنْيَا والآخِرَةِ".
وابْتَدَأ الشَّيْخُ مُحمدُ بنُ عَبدِالوَهَّاب رَحِمهُ الله كِتَابَهُ الذِي جَمَعهُ فِي المَسَائِلِ الَّتي خَالَفَ فِيهَا رَسُولُ الله أهلَ الجَاهِلِيَّةِ، ابْتَدَأهُ بِهَذِه الثَّلاثَةِ الأمُورِ المَذْكُورَةِ في الحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: "ولَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دينِ النَّاسِ ودُنْياهُمْ إلاَّ مِنَ الإخْلالِ بِهذِهِ الوَصِيَّةِ".
وقَدْ جَمَعَ هَذَا الحَدِيثَ مَرَاتِبَ الِفقْهِ والعِلْمِ مَعَ مَرَاتِبِ الدِّينِ، وقَدْ أوضَحَهَا ابنُ القَيِّم، يَقُولُ رَحِمَهُ الله: "وَلَو لَمْ يَكُنْ فِي فَضْلِ العِلْمِ إلاَّ هَذَا الحَديث وَحْدَهُ لَكَفَى بهِ شَرَفًَا، فإنَّ النَّبيَّ دَعَا لِمَنْ سَمِعَ كَلاَمَهُ ووَعَاهُ وحَفِظَهُ وبَلَّغَهُ، وهَذِهِ هِيَ مَرَاتِبِ العِلْمِ".
فأبْلَغ شَيءٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ أنَّ النَّبيَّ دَعَا لِمَنْ سَمِعَ هَذِهِ النَّصَائِحَ الثَّلاث وفَهِمَهَا ثُمَّ أدَّاهَا إلى غَيرِهِ بأنْ يَجعَلَهُ الله نَضِرًا، فَمَراتِبُ العِلمِ هِيَ سَمَاعُهُ وعَقْلُهُ، فإنَّهُ إذَا سَمِعَهُ عَقَلَهُ قَلبُهُ واسْتَقَرَّ فيهِ كمَا يَسْتَقِرُّ الشيءُ فِي الوِعَاءِ، ثُمَّ تَعَاهَدَهُ بَعدَ ذَلِكَ حَتَّى لا يَنْسَاهُ فَيَذْهَبَ، ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ يُبَلِّغُهُ ويَبُثُّهُ في الأمَّةِ لتَحْصُلَ الثَّمَرةُ المقْصُودَةُ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ المَرَاتِبِ الأرْبَع دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ جَمَالَ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ، فَإنَّ النَّضْرَةَ هِيَ البَهْجَةُ والحُسْنُ الذي يُكْسَاهُ الوَجْهُ مِنْ آثَارِ الإيمَانِ، وابْتِهَاجُ البَاطِنِ بهِ وفَرَح القَلْبِ وسُرُورهِ والْتِذَاذهِ بهِ، كَمَا جمَعَ الله بَينَ النّضْرَةَ والسُّرُورِ في قولِهِ سُبْحَانَهُ: فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11]. ولِذَلِكَ تَجِدُونَ أكثَرَ النَّاسِ انْشِراحًا وتَلَذُّذًا بالحَيَاةِ هُمْ أكثرُ النَّاسِ تَمَسُّكًا بِهَدْيِ النَّبيِّ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا الحَدِيثَ ـ عِبادَ الله ـ قَدْ جَمَعَ أُصُول الدِّينِ الذِي بِهِ تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ فِي جَميعِ أُمُورِهِمْ، ولِذَلِكَ فَإنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهَ الأمُورَ خَلا قَلْبهُ عَنِ الغِلِّ فَلَمْ يَحمِلْهُ، فَإنَّهَا تَنْفِي الغِلَّ والغِشَّ وفَسَادَ القَلْبِ وسَخَائِمَهُ، يَقُولُ ابنُ عَبدِ البَرِّ شَارِحًا قَولَهُ : ((ثَلاَثٌ لا يُغَلُّ عَلَيهِنَّ)) : "مَعْنَاهُ: لا يَكُونُ القَلْبُ عَلَيهِنَّ ومَعَهُنَّ غَليلاً أبَدًا، فَلا يَقْوَى فِيهِ مَرَضٌ ولا نِفَاقٌ إذَا حَقَّقَ هَذِهِ الثَّلاثَةَ"، وقَالَ ابنُ الأثِيرِ: "والمَعْنَى أنَّ هَذِهِ الخِلالَ الثَّلاثَ تُسْتَصْلَحُ بِهَا القُلُوبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهَّر قَلْبَهُ مِنَ الخِيَانَةِ والدَّغَلِ والشَّرِّ".
ثُمَّ فِي قَولِهِ : ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ)) تَنْبيهٌ دَقِيقٌ لِكُلِّ دَاعٍ إلى الخَيرِ ومُبَلِّغٍ لَهُ قَدْ يَنْقُلُ كَلامًا يَفْهَمُهُ المُبَلِّغُ أكْثرَ مِنْ فَهْمِ النَّاقِلِ، فيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ تِلكَ الدَّعْوَةِ الخيرُ الكَثِيرُ، فَلا عَلَيهِ بعدَ ذَلِكَ تَكْرَارَ الدَّعْوَةِ للنَّاسِ، ولا يَلْتَفِتُ إلَى المَوَانِعِ والصَّوَادِّ.
عِبادَ الله، الإخْلاصُ لله تَعَالَى فِي جَميعِ العِبَادَةِ هُوَ سَبِيلُ الخَلاَصِ، والإسْلامُ مَركَبُ السَّلامَةِ، والإيمَانُ خَاتَمُ الأمَانِ، فَمَنْ أخْلَصَ لله فِي عِبَادَتِهِ فَإنَّ إخْلاصَهُ يَمْنَعُ غِلَّ قَلْبِهِ ويخْرِجُهُ ويُزِيلُهُ جُمْلَةً؛ لأنَّ القَلْبَ مُنْشَغِلٌ بالله سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ لأحَدٍ غَيرِه شَيئًا، يَقُولُ الله عَنْ يُوسُفَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. فَلمَّا أخْلَصَ لِرَبِّهِ صَرَفَ عَنْهُ دَوَاعِي السُّوءِ والفَحْشَاءِ، ولمَّا عَلِمَ إبْليسُ أنَّهُ لا طَرِيقَ لَهُ عَلَى المُخْلِصينَ لله فِي عِبَادَاتِهمْ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]، ويَقولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ [الحجر: 42].
فمَنْ دَخَلَ فِي صَلاةٍ مَثلاً وجَعَلَ قَصْدَهُ الله سُبْحَانَهُ وانْشَغَلَ بِصَلاتِهِ فلا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطانُ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ، واسْتَمْتَعَ المُصَلِّي بِهذِهِ الصَّلاَةِ سَاجِدًا ورَاكِعًا، كَيْفَ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الصَّلاةُ رَابِطَةً بَيْنَ العَبدِ وبَينَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؟! لِذَلِكَ قَالَ لبِلالٍ: ((أَرِحْنَا بالصَّلاةِ يا بِلالُ)). فالمُؤْمِنُ يَجِدُ في الصَّلاةِ لَذَّةً تُكْسِبُهُ بَعدَ ذَلِكَ نَضْرَةً وجَمَالاً، وقَدْ أوضَحَ ذَلِكَ قَولُ النَّبيِّ فِي الحديثِ الآخَرِ: ((يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإذَا قَامَ فَذَكَرَ الله انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذَا تَوضَّأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإذَا قَامَ فَصَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ الثَّلاثُ، وأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فَهَذِهِ ثَمَرَة العِبَادَةِ الخَالِصَةِ لله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، تُورِثُ نَشَاطًا في الدُّنْيَا وفَلاحًا في الآخِرَةِ.
أمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي إذَا فَعَلَهَا المُؤمِنُ زَالَ غِلّ قَلْبِهِ وَغِشُّهُ فَهِيَ النَّصِيحَةُ، النَّصِيحَةُ لا تُجَامِعُ الغِلّ أَبدًا، هِيَ ضِدُّهُ، فَمَنْ نَصَحَ الأمَّةَ والأئِمَّةَ فَقَدْ بَرِئ مِنْ الغِلِّ، وتَزْدَادُ أهميةُ النَّصِيحَةِ بأهميَّةِ المُنْتَفِعِ مِنْهَا، ولِذَا نَصَّ في بَعْضِ رِوَاياتِ الحَديثِ عَلَى إمَامِ المُسْلِمينَ؛ لأنَّ صَلاحَهُ صَلاحٌ لِكُلِّ مَنْ تحتَ يَدِهِ.
كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ إذَا سَمِعَ مِثلَ هَذِهِ الأحَاديثِ وهِيَ النُّصْحُ لِوَليِّ الأمْرِ انْطَلَقَ فَهْمُهُ إلَى الإمَامِ الأعْظَمِ أو خَلِيفةِ المسلِمينَ، ثُمَّ قَعَسَتْ نَفْسُهُ عَنِ النَّصِيحَةِ؛ بأنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ الوُصُولَ إليهِ، ثُمَّ إنَّهُ يَخْشَى بَطْشَ الحَاكِمِ وأذِيَّتَهُ إذَا مَا قِيلَ لَهُ: إنَّك عَلَى خَطأ، وهَذَا فَهمٌ غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّ النَّبيّ لمَّا سُئِلَ عَنِ النَّصِيحَةِ: لِمَنْ تَكُونُ؟ قَالَ: ((للهِ ولِكِتَابهِ ولِرَسُولِهِ ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ وعَامَّتِهِمْ)) ، وقَالَ أيْضًا: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) ، وقَالَ: ((مَنْ اسْتُرعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهمْ بِنَصِيحَةٍ لم يَجِدْ رِيحَ الجَنَّةِ، ورِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسيرَةِ خَمسِمائَةِ عَامٍ)). فَكلّ مَنْ تَولَّى أمرًا مِنْ أمورِ المُسْلِمينَ حَتَّى وإنْ كَانَ صَغِيرًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ دُونَهُ مُنَاصَحَتُهُ والأخْذُ عَلَى يَدَيهِ؛ بِعَدَمِ السُّكُوتِ عَلَى خَطَئهِ، فالمُدِيرُ فِي عَمَلٍ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنْ مَوظَّفِيهِ مُنَاصَحَتُهُ والأخْذُ عَلَى يَدَيهِ، وإلاَّ أثِمُوا بِتَقْصيرهِم؛ لأنَّهُمْ لم يُؤَدُّوا مَا أمَرَهُمُ الله بِهِ، ثُمَّ تَجِدُ مِصْدَاقَ قَولِ النَّبيِّ ، فَتَجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى ذَلِكَ المَسؤُولِ عَنْهُمْ مِنَ الغِلِّ والحِقْدِ شَيئًا كَبيرًا، يَزُولُ عَنْهُمْ ويَذْهَبُ لَو أنَّهُمْ أبْدَوا إليْهِ نُصْحًا وأرْشَدُوهُ.
يَقُولُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: كَانَ الأكَابِرُ مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ الله يَنْهَونَنَا عَنْ سَبِّ الأمَرَاءِ. وقَالَ أبُو الدَّرْدَاءُ رَضِيَ الله عَنْهُ: (إنَّ أوَّلَ نِفَاقِ المَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إمَامِهِ). وقَالَ أبُو إسْحَاقُ: "مَا سَبَّ قَوْمٌ أميرَهُمْ إلاَّ حُرِمُوا خَيرَهُ". وقَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ الله عَنْهُ: (إذَا كَانَ وَالِي القَومِ خَيْرًا مِنْهُمْ لَم يَزَالُوا فِي عَلْيَاءَ، وإذَا كَانَ وَاليهِمْ شَرًّا مِنْهُمْ ـ أو قَالَ: شَرّهُمْ ـ لَم يَزْدَادُوا إلاَّ سَفَالاً).
وَثَمَّةَ أمْرَانِ ـ أيُّهَا الإخْوَةُ ـ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا فِي هَذَا البَابِ:
أمَّا أوَّلُهُمَا: فَهُوَ أنَّ الحَاكِمَ والملِكَ إنَّمَا بُويعَ اسْتِجَابَةً لأمرِ الله تَعَالى بالبَيْعَةِ، ثُمَّ لِتَسْتَقِيمَ أمُورُ النَّاسِ بذَلِكَ، فَتَسْتَقِيم عِبَادَاتُهُمْ، لم نُبَايعِ المَلِكَ لِيُعْطِينَا المَالَ، فإنْ كَانَ أحَدٌ قَصَدَ إلى ذَلِكَ فَقَدْ جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ خَطَرًا كَبيرًا، فَقَدْ أخْرَجَ عَبدُ الرَّزَّاقِ وأحْمَدُ ومُسْلِم وغَيْرهُم عَنْ أبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله : ((ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ الله يَومَ القِيَامَةِ ولا يَنْظُرُ إليْهِمْ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ مَنَعَ ابنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، ورَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ كَاذِبًا فَصَدَّقَهُ فاشْتَرَاهَا بِقَوْلِهِ، ورَجُلٌ بَايعَ إمَامًا فَإنْ أعْطَاهُ وَفَّى لَهُ وإنْ لَم يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ)).
فاتَّقِ الله يَا عبدَ اللهِ، ولا يَكُنْ شُغْلُكَ الشَّاغِلَ لَكَ أكلَ فُلانٌ مِنْ أمْوَالِ الدَّولَةِ كَذَا وأكلَ فُلانٌ كَذَا، سَألَ رَجُلٌ عُمَر بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْهُ: أن لا أخَافَ في الله لَومَةَ لائِمٍ خَيرٌ لِي أمْ أقبِلُ عَلَى أمْرِي؟ فَقَالَ: أمَّا مَنْ وَلِي مِنْ أمرِ المُسْلِمينَ شَيئًا فَلا يَخَفْ في الله لَومَةَ لائِمٍ، ومَنْ كَانَ خِلْوًا فَلْيُقْبِلْ عَلَى نَفْسِهِ وليَنْصَحْ لأميرهِ.
أمَّا الثَّاني: فَهُوَ أنَّ ذِمَّة الإنْسَانِ تَبرأ بإنْكَارِ المُنْكَرِ والخَطأ، فَإنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ النُّصْحَ كَأنْ يَكُونَ أكِيلَهُمْ وشَرِيبَهُمْ أو ذَا كَلِمَةٍ مَسْمُوعةٍ نَصَح وبَرَأتْ ذِمَّتُهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الأمْرِ شَيءٌ فَيُنْكِرُ بِقَلبِهِ ويَدْعُو لَهُ بالصَّلاحِ، فَهَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ، سُئِلَ مَالكُ بنُ أنسٍ: أيَأتِي الرَّجُلُ إلَى السُّلْطانِ فَيَعِظُهُ ويَنْصَحُ لَهُ ويَنْدُبُهُ إلى الخَيرِ؟ فَقالَ: إذَا رَجَا أنْ يَسْمَعَ مِنْهُ، وإلاَّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
أقُولُ هَذَا القَولَ، وأسْتَغْفر الله لِي ولكم فاسْتَغْفِرُوهُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله عَلَى إحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلى تَوْفِيقهِ وامْتِنَانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشْهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، صَلَّى الله عليهِ وعَلَى آلهِ وأصْحَابِه ومَنْ سَارَ عَلى نَهْجِهِ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فإنَّ الثَّالِثَ ممَّا يَجْلِبُ لِنَفْسِ المؤمِنِ النَّضْرَة والبَهْجَةَ ويُزيلُ عَنهُ الغِلَّ والغِشَّ فهُوَ مَا وَرَدَ فِي قَولهِ : ((ولُزُومُ الجَمَاعَةِ؛ فإنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِ)).
قَالَ ابنُ القَيِّمِ: "فإنَّ المُلازِمَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمينَ يُحِبُّ لَهمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، ويَكْرَهُ لهُمْ مَا يَكْرَهُ لَهَا، ويَسُوؤهُ مَا يَسُوؤهُمْ، ويَسُرُّهُ ما يَسُرُّهُمْ، وهَذَا بِخِلافِ مَنِ انْحَازَ عَنْهُمْ واشْتَغَلَ بالطَّعْنِ عَلَيهِمْ والعَيبِ والذَّمِّ"، وقال: "فَهؤلاءِ أشَدُّ النَّاسِ غِلاً وغِشًّا بِشَهَادَةِ الرَّسُول والأمَّةِ عَلَيْهِمْ وشَهَادَتِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ، فإنَّهُمْ لا يَكُونُونَ قَطُّ إلاَّ أعْوانًا وظَهْرًا عَلَى أهْلِ الإسْلامِ، فَأيُّ عَدُوٍّ قَامَ للمُسْلِمينَ كَانُوا أعْوَانَ ذَلِكَ العَدُوِّ وبِطَانَتَهُ، وهَذَا أمْرٌ قَدْ شَاهَدَتْهُ الأمَّةُ مِنْهُمْ، ومَنْ لمْ يُشَاهِدهُ فَقَدْ سَمِعَ مِنهُ ما يُصِمُّ الآذَانَ ويشْجِي القُلُوبَ".
مَنْ نَظَرَ ـ أيُّهَا الإخْوَةُ ـ إلى تَعَاليمِ الدِّينِ وَجَدَ أنَّهُ جَاءَ في جَميعِ شَعَائِرِهِ بالأمْرِ بالجَمَاعَةِ والنَّهْي عَنِ الاخْتِلافِ، فَهَذِهِ الصَّلاةُ مَثلاً أُمِرَ النَّاسُ أنْ يُصَلُّوا خَلْفَ إمَامٍ وَاحِدٍ، فَتَصَوَّرُوا لَوْ أنَّ في المَسْجِدِ الوَاحِدِ إمَامَينِ، كُلُّ إمَامٍ لَهُ طَريقَةٌ، أيُّ خِلافٍ ونِزَاعٍ سَيحْصُلُ؟! ونَصَّ أهلُ العِلْمَ عَلَى أنَّ صَلاة الجُمُعَةِ لا تَجُوزُ إقَامَتُهَا في البَلَدِ الوَاحِدِ الصَّغيرِ إلاَّ في مَكَانٍ واحِدٍ إلاَّ بإذْنِ الإمَامِ الأعْظَمِ. والمرْأةُ لا بُدَّ لَهَا مِنْ وَلِيٍّ يَقُومُ بِأُمُورِهَا، فمَا الحالُ لَوْ كانَتْ وِلايَةُ المرْأةِ أو اليَتيمِ أوِ السَّفِيهِ القَاصِرِ إلى شَخْصَينِ أوْ ثَلاثَةٍ؟! أيُّ خِلافٍ ونِزَاعٍ سَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ؟! لِذَلِكَ كَانَ أهلُ العِلْمِ أشَدّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى لُزُومِ الجَمَاعَةِ وعَدَمِ الاخْتِلافِ عَنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ، سُئلَ أحمَدُ: أتُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لا يَتَوَضَّأ مِنْ لَحمِ الجَزُورِ؟ فَقَالَ: ألاَ أُصَلِّي خَلْفَ الشَّافِعيِّ، ولِذَلِكَ جَاءَ حَديثٌ عَنِ النَّبيِّ عِندَ التِّرمِذِيِّ: ((صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وفَاجِرٍ)) ؛ وذَلِكَ لِتَسْتَقِيمَ صَلاةُ النَّاسِ.
لأجْلِ ذَا جَاءَتِ الأدِلَّةُ المُحَذِرَةُ مِنَ الخُرُوجِ عَنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ وَاضِحَةً وجَلِيَّةً، رَوَى مُسلِمٌ وأحمدُ والنَّسَائيُّ مِنْ حَديثِ أبي ذَرٍّ وأبي هُرَيرَةَ وابنِ عَبَّاسٍ ـ كُلُّهُمْ بِمَعْنَى واحِدٍ ـ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: ((مَنْ خَرَج مِنَ الطَّاعَةِ وفَارَقَ الجَمَاعَةَ فَماتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ)) ، وقَالَ : ((وأنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أمَرَني الله بِهنَّ: الجَمَاعَةُ والسَّمْعُ والطَّاعَةُ والهِجْرَةُ والجِهَادُ فِي سَبيلِ الله، فَمَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ رَأسِهِ، إلاَّ أنْ يَرْجِعَ، ومَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِليَّةِ فإنَّهُ مِنْ حُثَاءِ جَهَنَّمَ)) ، قَالَ رَجُلٌ: وإنْ صَامَ وصَلَّى؟ قالَ: ((وإنْ صَامَ وصَلَّى)) رَوَاهُ أحمدُ والنَّسَائيُّ والتِّرمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ والحَاكِمُ.
بَلْ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أنَّ النَّبيُّ أمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أرَادَ تَفْريقَ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ، فَعَنْ عَرْفَجَةَ بنِ شُرَيحٍ الأشْجَعيِّ قَالَ: رَأيْتُ النَّبيَّ عَلَى المِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فقَالَ: ((إنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَّاتٌ وهَنَّاتٌ، فَمَنْ رَأيتُمُوه فَارَقَ الجَماعَةَ أو يُريدُ يُفَرِّقُ أمْرَ أُمَّةِ مُحمَّدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلوهُ، فإنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الجَمَاعَةِ، وإنَّ الشَّيْطانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ يَرْكُضُ)) رَواهُ البَيْهقيُّ وغَيرُه.
يَقُولُ ابنُ عبدِالبَرِّ: "الآثَارُ المرْفُوعَةُ في هَذَا البَابِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أنَّ مُفَارَقَةَ الجَمَاعَةِ وشَقَّ عَصَا المُسْلمينَ والخِلافَ عَلَى السُّلْطَانِ المجْتَمَعَ عَليْهِ يُريقُ الدَّمَ ويُبِيحُهُ، ويُوجِبُ قِتَالَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ". ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى شُبْهَةٍ يُرَدِّدُهَا كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ وهُوَ أنَّ مَنْ خَرَج عَلَى الجَمَاعَةِ فَلا يَزَالُ مُسْلِمًا والرَّسُول قالَ: ((أُمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إلهَ إلاَّ الله، فَإذَا قَالُوها فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُم إلاَّ بِحَقِّها، وحِسَابُهُمْ عَلَى الله)) ، قالوا: فَلا يَجُوزُ لَنَا قِتَالُ هَؤلاءِ الذِينَ خَرَجُوا عَلَينا الآنَ لأنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، يَقُولُ ابنُ عَبدِ البَرِّ رَدًّا عَلَى هَذَا القَولِ: "أجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ مَانِعي الزَّكَاةِ، ومَعْلُومٌ مَشْهُورٌ عَنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا خَرَجْنَا عَنْ دِينَنا وإنَّمَا شَحَحْنَا عَلَى أمْوَالِنَا، فَكَمَا جَازَ قِتَالُ مَانِعِي الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ عَصَا المُسْلِمينَ وخَالَفَ إمَامَ جَمَاعَتِهِمْ وفَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ؛ لأنَّ الفَرْضَ الوَاجِبَ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ أهلِ دِينِ الله المُسْلِمينَ عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ مِنَ الكَافِرينَ، حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً وجَمَاعَتُهُمْ غَير مُتَفَرِّقَةٍ"، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ الله: "ومِنَ الحُقُوقُ المُرِيقَةِ للدِّمَاءِ المُبِيحَةٍ للقِتَالِ الفَسَادُ في الأرْضِ وقَتْلُ النَّفْسِ وانْتِهَابُ الأهْلِ والمَالِ والبَغْيِ علَى السُّلْطانِ والامْتِنَاعِ مِنْ حُكْمِهِ".
عِبادَ الله، لَكُمْ أنْ تَتَصَوَّرُوا حَجْمَ الفَسَادِ الذِي وَقَعَ بِسَبَبِ مَا أوْقَعَتْهُ هَذِه الفِئَةِ مِنْ إفْسَادٍ فِي هَذِه البلادِ وسَفْكٍ للدِّمَاءِ، ألَيْسَ مِنْ فَسَادِهِمْ أنَّهُمْ فَتَحُوا المَجَالَ أمَامَ كُلِّ مَنْ يُريدُ إفْسَادَ هَذَا الدِّينِ؟! ألَيْسَ مِنْ إفْسَادِهِم أنَّهُمْ فَرَّقُوا كَلِمَةَ المُجْتَمَعِ الوَاحِدِ، بَلْ أحْيَانًا حَتَّى البيتَ الوَاحِدَ؟! ألَيْسَ مِنْ إفْسَادِهِمْ أنَّهُمْ جَعَلُوا النَّاسَ يَتَكَلَّمُ بَعضُهمْ فِي بَعْضٍ، فانْتَشَرَ الغِلّ والتَّحاقُد بَينَ فِئاتٍ مِنَ المُجْتَمَعِ؟! بَلْ حَتَّى في أمُورِكُمُ العَامَّة تَغَيَّرَتْ كَثيرٌ مِنْها إلى صُورَةٍ أسْوَأَ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ، بِسَبَبِ مَا أوجَدَهُ فِعْلُ هَذِهِ الفِئةِ مِنْ تَفْرِيقٍ وتَشْتِيتٍ.
كُلُّ ذَلِكَ كَي تَعْلَمُوا ـ عِبادَ الله ـ أهَمِيَّةَ لُزُومِ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ وضَرَر الخُرُوجِ عَلَيْهَا وتَفْرِيقِهَا أو نَشْرِ الفِتْنَةِ فِيهَا، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53].
ثُمَّ خَتَمَ النَّبيُّ هَذَه الوَصِيَّةَ الجَامِعَةَ بِعِبَارَةٍ بَدِيعَةٍ نَافِعَةٍ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ: "قَولُهُ : ((فإنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ)) ، هَذَا مِنْ أحْسَنِ الكَلامِ وأوْجَزِهِ وأفْخَمِهِ مَعنى، شَبَّه دَعْوَةَ المُسْلِمينَ بالسُّورِ والسِّياجِ المُحيطِ بِهِمْ المَانِعِ مِنْ دُخُولِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ الدَّعْوَةُ الَّتي هِيَ دَعْوَةُ الإسْلامِ لمَّا كَانَتْ سُورًا وسِيَاجًا عَلَيْهِمْ أخْبَرَ أنَّ مَنْ لَزِمَ جَماعَةَ المُسلمينَ أحَاطَتْ بهِ تِلكَ الدَّعْوَةُ كَمَا أحَاطَتْ بهِمْ، فالدَّعْوَةُ تَلُمُّ شَمْلَ المُسْلِمينَ وتَلُمُّ شَعَثَهَا وتُحيطُ بِهَا، فَمَنْ دَخَلَ فِي جَمَاعَتِهَا أحَاطَتْ بهِ وشَمِلَتْهُ".
فاتَّقُوا الله عِبادَ الله، وعَلَيْكُمْ بالجَمَاعَةِ، فَإنَّ يَدَ الله مَعَ الجَمَاعَةِ، ومَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّارِ.
وَصَلُّوا وسَلِّمُوا عَلى نَبيِّ الهُدَى والرَّحْمَةِ...
(1/5209)
صور من البيوع المنهي عنها
الأسرة والمجتمع, فقه
البيوع, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرائع الإسلام نوعان. 2- انتشار المعاملات المحرمة بين الناس. 3- صور ونماذج من المعاملات المحرمة التي دخلت إلى أسواقنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
وَبعَدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ حَقَّ تُقَاتِهِ، اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغوا إليه الوَسِيلَةَ، واعْتَصِمَوا بِحَبلِه وَاسْعَوا إِلى مَرْضَاتِهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب: 70].
أَيُّها النَّاسُ، شَرَائعُ الإسْلاَمِ بَعدَ تَوحِيدِ اللهِ وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ لَهُ نَوعَانِ: عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلاَتٌ، فَالعِبادَاتُ هِيَ كُلُّ مَا يَكُونُ بَينَ العَبدِ وَرَبِّه مِنْ صَلاَةٍ وَصَومٍ وَزَكَاةٍ وَنَذْرٍ وَطَاعَةٍ للأوَامِرِ وَاجْتِنَابٍ للنّوَاهِي، وَالمعَامَلاتُ هِيَ مَا يَكُونَ بَينَ العَبْدِ وَبَينَ غَيرِهِ مِمَّا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلاتٍ، وَأَهَمُّهَا مَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ فِي مَجَالِ الأَموَالِ بِالبَيعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِجَارَةِ وَنَحوِهَا، وَالمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِأَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُ وَمَعَامَلاَتهُ صَحِيحَةً عَلَى المَنْهَجِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَبَيَّنَهُ رَسُولُهُ الكَرِيمُ ، وَلَمَّا كَانَ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَهْتَمّ بِأَمرِ العِبَادَاتِ وَيَسأَلُ عَنْهَا وَيَحرِصُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا وَسُنَنِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، وَهَذَا هُوَ المطْلُوبُ منَ المُسْلِمِ أَنْ يَعبدَ اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأنْ يَتَقرَّبَ إليه بِمَا شَرَعَهُ وَعَلَى وَفْقِ مَا أُمِرَ بِهِ، لَكِنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ لاَ يَهتمُّ بِجَانِبِ المُعَامَلاَتِ مَع النَّاسِ بيعًا وَشرِاءً وَإجَارةً، مَع أَنَّ البَلِيَّةَ بِهَا عَظِيمَةٌ وَالسَّلاَمَةَ مِنَ الخَطَأِ فِيهَا أَصعبُ، وَهَذَا سَببُهُ جَهلُ النَّاسِ بِأَحْكَامِهَا وَظَنُّهم أَنَّ المُحَاسَبَةَ عَلَيهَا يَسِيرَةٌ.
أَيُّها الإخْوةُ، إِنَّ التَّعَامُلَ مَعَ النَّاسِ بَيعًا وَشِرَاءً وَنحَو ذلك أمرٌ خَطِيرٌ وَعَظيمٌ، وَلَقدْ جَاءَ الوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِيها أَو خَدَعَ أَو أخذَ مَالَ أخِيه المُسْلِمِ بغَيرِ حَقٍّ، عَن أَبِي أُمَامةَ رَضِي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينهِ فَقَدْ أَوجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَليهِ الجَنَّةَ)) ، فَقَالَ لَهُ رَجلٌ: وَإنْ كَانَ شَيئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَإنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَاللهُ تَعَالَى حِينَ يَجْمَعُ العِبادَ يومَ القِيامةِ يَقْتَصُّ بحُكمِهِ وَعَدْلِهِ لِبَعْضِهم مِنْ بَعضٍ، فَلاَ يَدَعُ لِصَاحِبِ حَقٍّ حَقًّا، وَلاَ لمَظْلومٍ مَظْلَمَةً، حَتَّى يَقْضِي سُبحَانَهُ بَينَ الخَلاَئِقِ، وَيُؤتَى كُلُّ إنْسَانٍ كِتابًا لاَ يُغَادِرُ صَغِيرةً وَلاَ كَبيرة ً إلاَّ أحْصَاهَا.
وَمِنْ عِظَمِ البَليَّةِ وَخَطَرِ المُصِيبَةِ أَنَّ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ لاَ يُلقُونَ لِجَانِبِ المُعَامَلةِ مَعَ الآخَرِينَ بَالاً، فَرُبَّمَا تَرى الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ وَالصَّوِمِ وَالزُّهْدِ وَالعبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَاعَ أَو اشْتَرَى غشَّ وَخَدَعَ وَأَكَلَ أَمَوالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، بَلْ لرُبَّمَا احْتَالَ بِأنْوَاعِ الحِيَلِ عَلَى ذَلِكَ.
لَمَّا كَاَنَ الأَمرُ كَذِلِكَ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ رَأينَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى بَعضِ المُعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ الَّتِي تَكْثرُ بَينَ النَّاسِ، حَتَّى يَنْجُوَ المُسْلِمُ الحَرِيصُ مِنَ الُوقُوعِ في مَظَالمِ العِبَادِ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ جَمِيعًا شَرعَ اللهِ، فَتَقُومَ عَليهمُ الحُجَّةُ، فَيعْلَمهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَلَقْد كَانَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَنْزِلُ إِلى السُّوقِ وَيَسألُ البَاعَةَ عن أَحكَامِ البَيعِ، فَإِذا رَآهُ جَاهِلاً بِهَا عَلاَهُ بِالدِّرَةِ فَضَربَهُ بِهَا، بَل رَوَىَ التِّرمِذيُّ بِسَندٍ حَسَنٍ عَنُه أَنَّه قَالَ: (لاَ يَبعْ فِي سُوقِنَا إلاَّ مَنْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ).
وَمَع ذَلِكَ فَقدِ انْتَشَرَتِ المُعَامَلاَتُ المُحَرَّمَةُ بَينَ التُّجَّارِ، وَفَشَتْ فِي الأسْوَاقِ، وَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا مَا بَينَ عَالمٍ بِحُرْمَتِهَا مُتَهَاوِنٍ بِهَا، وَبينَ جَاهِلٍ حُرْمَتَهَا، وَهِيَ أكثرُ مِنْ أَن تُحْصَى وَأَعظَمُ مِنْ أن تُحيطَ بِهَا خُطبةُ جُمعَةٍ، وَلَكِنَّ المُسلمَ الحَرِيصَ عَلَى صِيَانَةِ مَالِهِ مِنَ الحَرَامِ يَتَّعِظُ بِالقَلِيلِ وَيَسْأَلُ عَنِ المُشْتَبِهِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، سُئلَ الشَّيخُ عَبدُ اللهِ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ أَبَا بُطَينٍ مُفْتِي نَجدٍ فِي القَرْنِ الثَّالث عَشَرَ ـ كَمَا في الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ ـ عَن صورِ البَيعِ المَنهيِّ عَنهُ، فذكرَ صورًا كَثيرَةً وَقَالَ: "هَذهِ خَمسُونَ صُورَةً جاءَ النَّهْيُ عَنْها فِي الصَّحِيحَينِ أو أَحَدِهِمَا". وَلَو جَلَسْنا نَتَتبَّعُ هَذِهِ الصُّورَ لَطَالَ بِنَا المَقَامُ، وَالخُطْبةُ إِذَا طَالتْ مَلَّهَا النَّاسُ وَأنسَى آخِرُها أوَّلَهَا.
أَوَّلُ هَذِه المُحَرَّمَاتِ الَّتي عَمَّتِ الأَسوَاقَ وَالْمعَامَلاَتِ: تَطْفِيفُ المَوَازِينِ وَالتَّلاَعُبِ بِالمَكَايِيلِ، وَهو أَمرٌ مُحرَّمٌ يَجِب البعْدُ عَنهُ وَالحَذرُ مِنهُ؛ لأنَّهُ مِنْ صِفَاتِ اليَّهودِ والنَّصَارَى، بَلْ إِنَّ جَزَاءَ المطَفِّفِينَ فِي المِكيَال وَالمِيزَانِ عَظِيمٌ عِندَ اللهِ؛ فَقد أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ دَمَّرَهَا وَعَذَّبَهَا لأنَّهم كَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ فِي المِيزَانِ، وَمَا يَنْتَظرُهمَ فِي الآخِرَةِ أَعظَم، أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود: 85].
بَائعُ الذَّهبَ وَالمجَوهَرَاتِ يَبِيعُ بِأَكثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِزِيَادةٍ فَاحِشَةٍ، وَيَبِيعُ المَخْلُوطَ بِسِعرِ الخَامِ، فَإِذَا اشتَرَاهُ اشْتَرَاهُ خَالِصًا. وَالجَزَّارُ يَبِيعُ اللَّحمَ مَخْلُوطًا مَعَ العَظْمِ وَالشَّحْمِ وَيزِيد فِيهِمَا، وَغيرُهمْ كَثِيرٌ كَأَرْبَابِ الفَوَاكِهِ وَالخُضَارِ، وَمَنْ يَكُونُ المِيزانُ قِياسًا لِلبيَعِ عِنْدَهمْ.
وَمِنَ المعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ فِي البَيعِ وَالشِّرَاءِ: الغِشُّ وَالخَدِيعَةُ فِيهِ وَالمَكْر وَالكَذِبُ. عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ عَلَى صبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أََصَابِعُهُ بَللاً فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)) قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسولَ اللهِ، قَالَ: ((أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ كَي يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)) رَواهُ مُسْلمٌ.
قَالَ شَيخُ الإسْلاَمِ ابنُ تَيميَّةَ رَحمهُ اللهُ: "الغِشُّ يَدْخَلُ فِي البُيُوعِ بِكتْمَانِ العُيوبِ وَتَدْلِيسِ السِّلَعِ، مِثلَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ المَبيعِ خَيرًا مِنْ بَاطِنهِ كَالَّذِي مَرَّ عَلَيهِ النَّبِيُّ وأَنكَرَ عَلَيهِ، وَيَدخُلُ فِي الصِّنَاعَاتِ مِثلَ الَّذِينَ يَصنَعونَ المطعُومَاتِ مِنَ الخُبزِ والطَّبخِ وَالشِّوَاءِ وَغير ذَلِكَ، أَوْ يَصْنَعُونَ المَلبُوسَاتِ كَالنَّسَّاجينَ وَالخَيَّاطِينَ وَنحْوِهم، أَو يَصنَعونَ غَيرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّنَاعَاتِ، فَيَجبُ نَهيهم عَنِ الغِشِّ وَالخِيَانَةِ وَالكِتْمَانِ".
وَيَكثُر مِثلُ هَذَا النَّوعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثَرةً وَاضِحَةً، فَمَا أَكثرَ مَنْ يَدَلِّسُ فِي البيَعِ فَيُظْهرُ الطَّيِّبَ وَيُخْفِي الفاسدَ عَنِ النَّاسِ. وَانْظُرُوا أسْوَاقَ الخُضَارِ وَأسَواقَ التُّمُورِ وَأسوَاقَ السَّيَّاراتِ، وَعندَ مَكَاتِبِ العَقَارِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيء الكثير مِمَّا اللهُ حَسِيبُهم عَليه يَومَ القِيَامةِ.
عِبادَ اللهِ، وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ البَلْوَى فِي هَذِهِ الأيَّامِ كثرةُ الحَلِفِ في البيعِ والشِّراءِ، مِمَّا يجرُ البَائِعَ إلى الحَلِفِ كَاذبًا, وَالحديثُ عَنِ الحَلِفِ وَمَا يجرُّهُ عَلى صَاحِبِه منَ الوزرِ في الدُّنيا والآخرَةِ طَويلٌ، ويَكفِي في ذلك حَدِيثَانِ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إليهم وَلاَ يُزَكِّيهم وَلَهمْ عذابٌ ألِيمٌ)) ، وَذَكرَ منهم: ((المنْفِقُ سِلْعَتَه بِالحَلِفِ الكَاذِبِ)) رَوَاهُ مُسلمٌ، وَرَوى مُسلمٌ وَالبُخَاريُّ: ((الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعةِ مَمْحَقةٌ لِلبَرَكَةِ)).
وَمِنَ البيُوعِ المُحَرَّمةِ بَيعُ الإنسانِ مَا لَيسَ عِنْدهُ؛ بأنْ يَأتيَ مشترٍ إلى آخر وَيطلبَ منه سلعةً مُعَيَّنَةً وَهَذِهِ السِّلعَةُ غَيرُ مَوجُودَةٍ لَدَيهِ، فَيَتَّفِقَانِ عَلى العَقْدِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَذْهَبُ البَائعُ وَيشتَرِي هذهِ السِّلْعَةَ وَيُسَلِّمُهَا إلى المُشْتري. جَاءَ حَكِيمُ بنُ حِزَامِ رَضي الله عنه إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيَأتِيني فَيُريدُ منِّي البَيعَ وَلَيسَ عندي مَا يطْلُبُ، أَفَأبِيعُ مِنُه ثُمَّ أَبتَاعُهُ مِنَ السُّوقِ؟ قالَ: ((لاَ تَبعْ مَا لَيسَ عِنْدَكَ)) رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِسَندٍ صَحيحٍ.
يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ: "إِنَّمَا يَفعَلُهُ لِقَصدِ التِّجَارَةِ وَالرِّبحِ، فَيَبيعُهُ بِسعرٍ وَيَشْتَرِيه بِأَرخَصَ، وَقَد يَقدرُ عَليهِ وَقَدْ لاَ يَقْدرُ عَليهِ، وَقَدْ لاَ تَحصُلُ لَهُ تِلكَ السِّلْعةُ إلاَّ بِثمنٍ أعَلى مِمَّا بَاعَهُ فَينْدَمُ البَائعُ، وَقدْ تَحصُلُ بِثمَنٍ أقَلَّ مِن المتفَقِ عَليهِ فَيندمُ المُشْتَرِي". وَهَذهِ المُعَامَلَةُ تَبدُو وَاضِحَةً فِي تعَامُلاَتِ البنُوكِ الَّتِي يُسَوِّقُونَ لَهَا.
وَمِمَّا نَهَى عَنهُ مِنَ المُعَامَلاَتِ أَنْ يَبيعَ الإنسَانُ البِضَاعَةَ قَبلَ أَنْ يَنْقلَهَا، يَقُولُ ابنُ عُمرَ: ابْتَعتُ زَيتًا فِي السُّوقِ، فلَمَّا استَوجَبْتُهُ تَبِعَنِي رَجلٌ فَأعْطَانِي بِهِ رِبحًا حَسنًا، فَأَردْتُ أنْ أضَرِبَ عَلَى يَدِهِ، فَأخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذرَاعِي، فَالتَفتُّ فَإذَا بِه زَيدُ بنُ ثَابت، فَقَالَ: لاَ تَبعْهُ حَيثُ ابْتَعتَهُ حَتَّى تُحرزَهُ إلى رَحْلكَ، فإِنَّ رَسُول الله نَهَى أنْ تُبَاع السِّلَعُ حَتَّى يَحوزَهَا التُّجَّارُ إلى رِحَالهم. رَوَاهُ أبو دَاودَ وَالحَاكِمْ وَابن حِبَّانَ بسندٍ حسنٍ.
وَصُورةُ ذلك: أن يشتري المرءُ البِضَاعَةَ ثُمَّ يَبدَأ في بَيعِهَا مَرَّةً أُخرَى قَبلَ أن يَنْقُلَهَا عَنِ المَكَانِ الَّذي اشترَاها فِيه، وأكثر مَا تَقَع فِيه هَذِه الصورة في سوقِ الخُضارِ وَسُوقِ الماشيةِ وَعَندَ أصحاب السَّيَّارَاتِ.
لاَ يَحلُّ البَيعُ عَلَى البَيعِ وَلا الشِّراءُ عَلَى الشِّراء وَلاَ السَّومُ عَلَى السَّومِ، يَقُول : ((لاَ يَبعْ بَعضُكم علَى بَيعِ بعضِ)) متفق عليه. وَصَورَهُ ثَلاثٌ:
الأولى: أَن يَشْتَرِيَ الرَّجَلُ السِّلعَة وَيَتِمُّ البَيعُ وَيَبقَى تَسليمُ النَّقدِ، فَيأتي بَائعٌ آخَرُ مَعَهُ نَفس السِّلعَةِ فَيَبيعُهَا عَلَيهِ بأقل من شِرائهِ السابقِ، فَيَتْركَ البَائعَ الأَوَّلَ وَيذْهَبَ إِلى الثَّاني، فَهَذَا مُحرَّمٌ لأَنَّهُ بَيعٌ عَلَى بَيعٍ.
والثَّانِيُة: أنْ يَتَسَاوَمَ مُتَبَايِعَان حَتَّى إِذَا تَقَاربَ اتِّفَاقُهُمَا يَأتي مُشْترٍ آخر يَزيدُ في الثَّمنِ، فيُبطِلُ شِرَاءَ المُشْتَري الأوَّل، فَهَذا حَرَامٌ لأنَّهُ شِراءٌ عَلَى شِرَاءٍ.
وَالثَّالثَة: أنْ يَتَزايدَ اثنَانِ عَلَى سِلْعةٍ وَيَتَّفقَانِ عَلَى البَيعِ، فَيأتي ثَالثٌ فَيقُولُ للبائع: أنَا أشْتَري منْكَ بأعَلى، فَهَذَا حَرَامٌ.
وَأكْثَرُ مَا تَقُعُ فِيه هَذِه الصُّورُ في أمَاكن الحَرَاج، وَيَقْرُبُ منه النَّجَشُ وَهو أنْ يَزيدَ في سعرِ السِّلْعِةِ حَال السَّوم عَلَيها وَهَو لاَ يريدُ شِراءَهَا، وَإنَّمَا يُريدُ نَفَع البَائعِ فَقط، وَغالبًا مَا يَكونُ بِمُواطَأَةٍ مَعهُ، وَلَقد نَهَى النَّبيُّ عَنِ النَّجشِ، وَقَالَ ابنُ أبِي أَوفَى: (النَّاجشُ آكلُ رَبًا خَائِنٍ).
عِبادَ اللهِ، لَقدْ اسْتَحْدَثَ النَّاسُ مُعَامَلاتٍ مَالِيَّةٍ يَكثرُ وُقُوع الحَرَامِ فِيهَا، وَمِنْ تِلكَ بطَاقَةُ البُنُوكِ الَّتِي يَحصُلُ بِهَا المَرْءُ عَلَى المَالِ مِنْ حِسَابِه فِي أيِّ مَكَانٍ، غَير أَنَّ ثَمَّةَ مُعَامَلاتِ مُحرَّمَةٍ يَقَعُ فِيهَا صَاحِبُهَا وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَإيَّاكُمْ وَالخَوضَ فِي الدُّنْيَا وَنِسْيَانَ الآخِرَةِ، فَإِنَّ الحِسَابَ يَومَ القِيَامَةِ شَدِيدٌ.
أَقولُ هَذَا القَولَ، وأستَغْفُر اللهَ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَاحَ لَنَا مِنَ المَكَاسب أَحَلَّهَا وَأقومَها بِمَصَالح العِبَادِ وَأَولاَهَا، وَحَرَّمَ عَلَينَا كُلَّ كَسبٍ مَبني عَلَى ظُلْمِ النُّفُوسِ وَهَواهَا، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَه لاَ شَريكَ لَه بَيَّنَ لِلخَلْقِ طَرِيقَ الهِدَاية، وأشهد أنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ أَزكَى الخَليقَةِ مُعَامَلَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّهَا النَّاسُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الأَمَوالَ الَّتي بَينَ أيديكُم جَعَلَهَا اللهُ فِتْنةً لكُم، فِتنةً فِي تَحْصِيلِهَا وَفِتْنَةً فِي تَمْوِيلِهَا؛ فَأمَّا الفِتْنَةُ فِي تَحْصِيلِهَا فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِتحصِيلِهَا طُرَقًا مُعَيَّنَةً مَبْنيَّةً عَلَى العَدْلِ بَينَ النَّاسِ وَاسْتِقَامَةِ مُعَامَلَتِهم، بِحَيثُ تَكُونُ مِنْ وَجْه طَيِّبٍ لاَ ظُلْمَ فِيهِ وَلاَ عُدْوَانَ، وَلَكنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَم يَتَّقِ اللهَ وَلَم يُجْمِلْ فِي الطَّلَبِ، فَصَارَ يَكْتَسِبُ المَالَ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ أُتِيحَ لَهُ مِنْ حَلاَلٍ أَو حَرَامٍ، مِنْ عَدْلٍ أَو ظُلْمٍ، لاَ يُبَالِي بَمَا اكْتَسبَ، فَالحَلاَلُ عِندَهُ مَا حَلَّ بِيَدهِ، وَالحَرَامُ هُوَ مَا لم يَصِلْ إِليهِ، وَأصْبَحَ المالُ أَكْبَرَ هَمِّه وَشُغْلَ قَلْبِه وَنُصْبَ عَينِهِ، إِنْ قَامَ فَهُوَ يُفَكِّرُ فِيهِ، وَإن قَعدَ فَهُوَ يُفَكِّرُ فِيهِ، وَإنْ نَامَ كَانتْ أَحْلاَمُهُ فِيه، فَالمَالُ مِلء قَلْبهِ وَنُصْب عَينِهِ وَسَمْع أُذِنِهِ وَشُغْل فِكْرِهِ يَقَظَةً وَمَنامًا، حَتَّى عِبَادَاتُهُ لَم تَسْلَم؛ فَهُو فِي صَلاَتِه يَقيسُ الأرَاضِي وَيختارُ مِنَ السَّيَّاراتِ وَيُمايزُ بَينَهَا، كَأنَّمَا خُلِقَ لِلمَالِ وَحدَهُ، فَهُو النَّهِمَ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ والمفْتُونُ الَّذي لاَ يقْلِع، وَمَعَ ذَلكَ الهَمِّ وَالفِتْنةِ فَلَنْ يَأتِيَهُ مِنَ الرِّزْقِ إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَلنْ تَموتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا.
عِبادَ اللهِ، لاَ يَحمِلَنَّكُم حُبُّ المَالِ عَلَى المغَامَرَةِ في كَسْبِهِ وَجَمْعِهِ مِنْ غَيرِ طُرقِهِ، وإنَّ مِمَّا يَجْمعُ لِلنَّاسِ جَميِعًا مَعرفَةَ المُعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ أّنَّ نَقُولَ: إِنَّ أَيَّ مُعَامَلَةٍ مَالِيَّةٍ خَلَتْ مِنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ فَلا مَانِعَ مِنهَا، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مُعَامَلةً مَالِيةً مُحرَّمَةً إلاَّ وَقَد اشْتَمَلَتَ عَلَى أحدِ هَذِهِ الثَّلاَثةِ، فَاعْلَمُوا هَذِه الثَّلاَثَةَ وَقيسوهَا عَلَى غَيرِهَا وَقِيسَوا غَيرَهَا عَلَيهَا: الغَرَرُ وَالرِّبَا وَالظُّلْمُ.
فَأمَّا الغَرَرُ فَيقُولُ عَنهُ الإمَامُ النَّوَوِيُّ: "النَّهْي عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أصُولِ البُيُوعِ، وَيَدْخُلُُ فِيهِ مَسائِلُ كَثِيرَةٌ غَيرُ مُنْحَصِرَةٍ؛ كَبَيعِ الآبِقِ وَبَيعِ المَعْدُومِ وَالمَجْهولِ وَمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسلِيمِهِ وَمَا لاَ يَتِمُّ مُلْكُ البَائِعِ عَلَيهِ، وَكَبَيعِ السَّمَكِ فِي المَاءِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرعِ وَالحَملِ فِي البَطنِ، وَنَظَائرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وكُلُّ هَذَا بَيعٌ بَاطِلٌ لاَ يَجوُز؛ لأنَّهُ غَرَرٌ مِنْ غِيرِ حَاجَة". وَالمَقْصُودُ بِالغَرَرِ هُوَ الجَهَالَةُ، فَأَيُّ بَيعٍ اشْتَمَلَ عَلَى جَهَالةٍ لأحد المُتَبَايعينِ فَهِيَ مُحرَّمَةٌ إلاَّ مَا عُفِيَ عَنْهَا.
وَالرِّبَا ـ أَيُّها النَّاسُ ـ بَابٌ وَاسِعٌ مِنْ أبوابِ المُعَامَلاتِ، وَصُورُه كَثِيرةٌ، وَوَقوعُ النِّاسِ فِيه كَثِيرٌ وَكَبِيرٌ.
وَغَالِبُ المُعَامَلاَتِ المحَرَّمَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الظُّلْمِ لأَحدِ المُتَبَايعَينِ، إِمَّا البائِعِ وَإِمَّا المُشتَرِي.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ فِي الحَلاَلِ مَنْدَوحة عَنِ الحَرَامِ، وَقَدْ قَالَ : ((الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ)) متفق عليه، وَقَالَ: ((دَعْ مَا يَريبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ)) رَوَاهُ أَحمْدُ والتِّرْمذِيُّ والنَّسَائيُّ. فَتَفَقَّهُوا فِي أمُورِ الدِّينِ، وَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهَا تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا.
اللَّهمَّ صَلِّ على محمد وعلى آل محمد...
(1/5210)
بعثة النبي
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الشمائل, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إكمال النعمة ببعثة سيد الأمة. 2- مسيرة الدعوة النبوية. 3- نماذج من سيرته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد بعث الله تعالى رسوله على حين فترة من الرسل، فشرح به الصدور، وأنار به القلوب، وهدى به من الضلالة، وجمع به من الشتات، ووحّد به من الفرقة، فكانت بعثته عليه الصلاة والسلام حياة ورحمة وهداية للخلق أجمعين ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وكان منارة الحق والنور والضياء، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأبان لهم سبل النجاة وسبل الهلاك ومن يردها من المؤمنين والكافرين، قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة: 15]، وقال تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب: 46].
وكانت دعوته كدعوات من سبقه من الأنبياء والمرسلين؛ متفقة في أصل الدعوة وأساسها، اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وأيده ربه سبحانه وتعالى بالآيات البينات والبراهين الواضحات، لكي يدحض شبه المجرمين، ويبطل حيل الكافرين والمبطلين، بل كانت جميع أحواله عليه الصلاة والسلام من أعلام نبوته وصدقه وجلالته وكماله.
فسيرته وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته، وشريعته من آياته، وأمته من آياته، ودينهم من آياته، وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حيث ولد وبعث إلى أن مات واختار الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام.
فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم عليه السلام الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفًا بالصدق والبر ومكارم الأخلاق والعدل، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهود له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يُعاب به في أقواله ولا أفعاله ولا في أخلاقه.
وقد كان خَلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميًا من قوم أميين، لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدَّعِ نبوةً إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعاندوه، وسعوا في هلاكه وهلاك أتباعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم؛ لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم عليه السلام، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم سيدنا محمد يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرًا محتسبًا على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم وعرفوه.
فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر، والذي أخبرهم به اليهود ويهددونهم به، وكانوا سمعوا من أخباره أيضًا ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار ثم حسن إسلام بعضهم.
ثم أُذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائمًا بأمر الله تعالى على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر لأحد.
بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم وأمن وخوف وقدرة وعجز وتمكن وضعف وقلة وكثرة وظهور على العدو تارة وظهور العدو تارة، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها.
حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطعية الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا بعد إيمانهم بدعوة رسول الله أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: "ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء". وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، تعرف العقلاء الفرق ما بين الأمرين.
وهو مع ظهور أمرة وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلّف درهمًا ولا دينارًا ولا شاة ولا بعيرًا، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئًا من ذلك.
وهو في كل وقت وحين يُظهر عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به وجاءت شريعته أكمل شريعة.
لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، وجمع محاسن ما عليه الأمم [1].
وكانت أمته أكمل الأمم في كلّ فضيلة؛ علمًا وعملاً ودينًا ونبلاً وخلقًا وشجاعة وكرمًا وجهادًا، وكل مكرمة حازوها فإنما كانت بسببه ، ومنه تعلموها وأخذوها.
فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيًا عن أمته ورسولاً عن أتباعه، اللهم اجزه خير الجزاء، وبلغه الوسيلة في دار البقاء، واجمعنا به وسائر المسلمين في جنات النعيم، قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
[1] غالب هذا الكلام مأخوذ من تعليقة نفيسة لشيخ الإسلام ابن تيمية، يلخص بها مسيرة الدعوة النبوية، ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية وعزاها للجواب الصحيح, فاستحسنتها خطبة جمعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الحق والهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، إن سيرة نبيكم سيرة عطرة مباركة، وحياته حياة حية عامرة، في سيرته آيات للسائلين ومعالم للمهتدين وأنوار للسالكين، في سيرته النور مضيء والحق شامخ والهدى واضح والتوحيد عالٍ وصامد، لن تجدوا سيرةً ضربت أطنابها أقاصي الأرض وشعشَع نورُها أباعدَ الكون وبقي ذكرها وصداها منتهى الآباد سوى سيرته عليه الصلاة والسلام. سيرته مثال للعلماء والمصلحين، وطريق رشيد للدعاة والمنقذين، وعظة وسلوى للمبتلين.
إنكم تلحظون في سيرته الجد والعمل، والصبر والنضال، والهمة والجهاد، سيرته بطولة وشجاعة، وبسالة ومضَاء، وشهامة وعطاء.
لقد حار الشرق والغرب أمام شخصيته الكريمة عليه الصلاة والسلام، إذ بدا لهم عظيمًا شريفًا وبطلاً همامًا وقائدًا مقدامًا، جمع محاسن الخلال والآداب والأخلاق، فلله درة ما أعظمه وأحسنه وأكرمه! وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
ما قرؤوا سيرته إلا خضعوا هيبة ومحبة وإجلالاً له، فكم مر على الأرض من عظماء وذابت شخوصهم ومآثرهم، وادعى العزة شرفاء وفضلاء فانقضت حياتهم بوفاتهم، والله المستعان.
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبرُ
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرِّرُ
جعلت لنا درب الْحياة منائرا ودمّرت ظلمًا كان بالأمس يفخر
شرفنا لعمر الله إذ كنت مجدنا وحق لنا فِي الدهر ننهى ونأمر
أيها الإخوة الفضلاء، أختار لكم من سيرة سيدنا محمد ومن حياته موقفين:
الأول: يفيض تواضعًا وتذللاً وسهولة وسماحة، مع أنزل طبقات المجتمع، من يحتقرهم الناس، بل ربما أهانوهم وسخروا منهم، وهم طبقة الفقراء والمساكين والأرقاء، يتواضع لهم عليه الصلاة والسلام، ويتنزل إلى مستواهم لسماع حديثهم وقضاء حوائجهم.
ثبت في الصحيحين أن الأَمَة من نساء المدينة كانت تأخذ بيدِ رسول الله حتى يقضي حاجتها. ولكم أن تتأملوا ما حاجة هذه المرأة، وكيف طلبها وكلامها، وأين ستذهب به، إنها غاية التواضع وكمال خفض الجناح للمسلمين. أين الكبراء والعظماء ليعجبوا من هذه الأخلاق الجبارة التي غرسها النبي ، دالة على سمو الشريعة الإسلامية وعدلها ووفائها وسماحتها؟!
أما الموقف الثاني: فيلتهب صبرا وثباتًا وتضحية، وتجردا لله تعالى من كل هوى وشهوة، مع ترسل وأناة وشفقة مع الكافرين الصادين.
ثبت في المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا لِيل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربى إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين))، فقال النبي : ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)). ولا أظن هذا الموقف يحتاج إلى تعليق وإيضاح، بل هو كاف في المراد، وشاف في المقصد والمرام.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم انصر دينك وعبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5211)
ظلم العمال
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة من صور ظلم العمال والأجراء والخدم. 2 – تحريم ظلم العمال. 3- أصول وقواعد مهمّة في استقدام العمال واستخدامهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها الناس، استأجر كفيل أجيرًا على شغل ما، بذل العامل دمه ووقته، واستفرغ وسعه ونشاطه، واحتمل شدائد العمل إذا اشتدت الشمس وسال العرق والتهب الوجه، ولم يزل كادحًا لإنجاح الصنعة وإتمام الشغل، فتم النجاح والإتقان، وحصل للأجير النصب والإعياء والضعف والارتخاء. ذهب الأجير لاستلام أجره وحقه، فما كان من صاحب العمل إلا أن راغ وتنكر وضاق وتنمّر، وأظهر استياءه منه، وادعى الرداءة والضعف في الصنعة بلا دليل، وطرد الأجير بعدما أكل قوته والتهم جهده وتعبه، وأبدى كلّ استعداد للذهاب لمحكمة الحقوق ونحوها. ما علم الجاهل المسكين أنه لا يخاصم أجيرًا خاملاً ولا قاضيًا غائبًا، ولا يخاصم مؤسسة نائية، إنه يخاصم رب العالمين وقاصم الظالمين وديان الخلق أجمعين.
هذه صورة من صور ظلم العمال والأجراء والخدم، فلقد انكشفت الحقيقة ولم يعد الأمر سرًا.
تفشت صور الظلم واستطالت، وصدعت أنباؤها وتعاظمت، وبانت أحوالها وأحزنت. لقد نُزعت الرحمة من قلوب كثير من الكفلاء، وهانت عرى إسلامهم، وتمزقت خيوط إنسانيتهم، فعاملوا العمال الأجراء شر معاملة، واستعملوهم أشد استعمال، وجازوهم أبشع جزاء.
هل سمعتم بأظلم ممن لم يعط العمال رواتب سنة أو سنتين؟! وهل أتاكم خبر بخس الأجور؟! وهل رأيتم سوء حياتهم ومعاشهم؟!
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)).
لقد خفيت الأخلاق في زمن أجهم فيه الظلم واللؤم والدناءة، أكلت رواتب العمال، والتهمت حقوقهم، وديست كرامتهم، أما رواتبهم فهي إن لم تؤكل تأخرت، وإن لم تتأخر نُقِصت. وأما حقوقهم فلم يُحفظ لهم حق الإسلام ولا حقّ الأخوة ولا حق الولاية. وأما كرامتهم فليس لهم وزن ولا مقدار عند كثير من الناس، يُعاملون معاملة الحقراء، بكل معاني القهر والذل والاستخفاف، بل قل: معاملة البهائم عند بعض الظَّلَمة وإن كان للبهائم رحمة.
معاشر المسلمين، إن شيوع الظلم في الناس علامة شر وفساد وأذانُ محق وعذاب، فكيف إذا مورس الظلم بصورة بشعة مع طبقة المستضعفين كالعمال؟! وهم إن كانوا مسلمين يرجى بهم النصر والرحمة والفرج، قال : ((ابغوني ضعفاءكم، هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟! بدعائهم واستغفارهم)).
إن الأمة لتهون عند الله وتحرم كثيرًا من الخير بسبب ظلمها الضعيف وتسلطها على المسكين، روى ابن ماجه بسند حسن عن جابر رضي الله عنه، والحديث عند أبي يعلى في المسند والبيهقي في السنن، قال: قال جابر رضي الله عنه: لما رجَعَت إلى رسول الله مهاجرةُ البحر قال: ((ألا تحدثوني بأعاجيبَ ما رأيتم بأرض الحبشة؟)) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلّتها، فلما ارتَفعت التفَتَت إليه فقال: سوف تعلم ـ يا غُدَر ـ إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخِرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا، قال: يقول رسول الله : ((صدقت صدقت، كيف يقدِّس الله أمةً لا يؤخذُ لضعيفِهم من شديدِهم)).
أيها الإخوة الكرام، لماذا يعامل بعضنا العمال بتسلط واحتقار؟! يأكل جهدهم، ويشق عليهم، ويسيء إليهم بأحطّ العبارات والألفاظ، لا يراقب الله فيهم، ولا يمنحهم شهامة، ولا يؤدّي لهم نوعَ شفقة ورعاية. من المؤسف أن طبقة العمال في هذا الزمان من أشدّ الطبقات تورطًا في الظلم والعسف والمهانة، لا يحصل هذا في بلد كافِر بل في بلد مسلم، يعرف أهله العدل والرحمة والإحسان كما يعرفون أهليهم وأبناءهم.
أين أنتم من صنيع أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مع غلامه إذ حاطه برحمة متناهية وإحسان سام؟! ثبت في الصحيح عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذَة وعليه حُلة، وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي : ((يا أبا ذر، أعيرته بأمة؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
أيها الإخوة، لا يُنكَر وجود طائفة في العمال ضعيفة الدين والأمانة، لكن الأصل أن يعطى المكفول أو العامل حقّه بموجب العقد والشرط، ولا تبخس الأجور ولا تؤخّر، وقد صحّ عنه أنه قال: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عَرقُه)).
وأما ما يصنعه بعض الكفلاء من تغريم العامل أو الأجير سنويًا أو شهريًا حتى بلغ ببعضهم أن يستقدم العمال لأجل هذا الغرض فهؤلاء ما يأكلون في بطونهم إلا النار وباطل ما كانوا يعملون. كيف يجيز هؤلاء الظلمة لأنفسهم أكل تعب غيرهم وحصاد ثمار مشاقهم، حيازة أموال ليس لهم فيها أي جهد أو عمل؟ ! إن هذا لشيء عجاب!
معاشر الكفلاء وغيرهم، تصوّروا عاملاً مظلومًا أُكل ماله ونهكت نفسه، رفع يديه إلى السماء منتقمًا من سيده وكفيله، يطلب العون والنصر، وقد قال تعالى: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]، وفي الصحيحين قال لمعاذ: ((واتق دعوة المظلم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ، وفي الحديث الآخر: ((إن الله يرفعها فوق الغمام ويقول: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)). هل تحب أن تكون في هذا الصف يومًا من الأيام؟!
هما طريقان ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختارُ
اللهم انفعنا بالكتاب والسنة، وجنبنا الظلم والغفلة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هنا أصول وقواعد مهمة في استقدام العمال واستخدامهم منها:
أولاً: الحذر من استخدام الكفار وذوى العقائد الفاسدة، ممن يجلبون شرورا خطيرة على هذه البلاد الطاهرة، والذين لا يؤمَنون على المعايش والمصالح، وقد روى مالك في الموطأ بسند صحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)).
ثانيًا: إعطاؤهم حقوقهم وعدم ظلمهم وبخس شيء منها، حسب الشروط المتفق عليها في العمل، وليحذر المسلم ظلم هؤلاء فإنه من الخطورة بمكان، وفي الصحيح قال : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)).
ثالثًا: أمرهم بالصلاة وزجرهم عليها، فإنها عمود الإسلام والفارق بين المسلم والكافر، وقد لوحظ تقصير كثير من الكفلاء في ذلك وإهمالهم لها لدرجة أن العمال يعملون في أوقات الصلاة دون رقيب أو حسيب.
رابعًا: حسن التعامل مع المسلمين منهم ورحمتهم والشفقة بهم، وفي ذلك من الفوائد ما لا يحصى، وقد صح عنه أنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
خامسًا: دعوتهم وتعميق معاني الإسلام في نفوسهم بإحضار الكتب والأشرطة الملائمة للغتهم. ومن المؤسف أن يقال هنا: إنه يأتي عمال مسلمون بجهالات وخرافات من بلدانهم، ولا يقدم لهم كفلاؤهم شيئًا من النصح والتذكير، وذلك عن طريق مكاتب الجاليات وغيرها. ومنهم من يمكث بضع عشرة سنة في المملكة، ولا يتعلم من أمور الدين شيئًا، بل ربما رجع كما أتى، وإذا ابتلي بكفيل جائر، حمل أفكارًا سيئة عن هذه البلاد وأهلها، فضلاً عن تنكره للإسلام وتصوّره مفاهيم باطلة عنه.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم جنبنا الزلل والفتن والمحن، واجعل هذا البلد سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين...
(1/5212)
عبيد الأموال
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة المال. 2- نعم المال الصالح للرجل الصالح. 3- صور من صور الجود والكرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
معاشر المسلمين، استطاع المال بحلاوته وفتنته أن يأسر أقوامًا كثيرين، فوضعهم تحته عبيدًا لصنوفه وأرقاء تحت سلطانه وأذلاء لجبروته وطغيانه، من أجله يحبون ويبغضون، ويجهدون ويتعبون، ويوالون ويعادون، للذائذ الأموال أقاموا العلاقات ووضعوا الصلات وأسسوا العداوات والنزاعات.
ولزينة المال خفيت آداب وضُيعت ذمم وانتُهكت حقوق، فتكت حبائل المال بعقول كثيرين؛ عقّوا آباءهم وقطعوا أرحامهم وعادوا إخوانهم، ألهتهم الأموال عن الفرائض والواجبات، وشغلتهم عن الطاعات والقربات، وأنستهم الباقيات الصالحات.
لعنايته بالمال ضيع الأهل والأولاد، وتنكر للصفوة والأحباب، ونأى عن أخلاق الرجال، شرَّق به المال وغرب ونأى به وأبعده وأفحمه وأتعبه، فغدا له حارسًا بلا شعار، ومحكومًا بلا نظام، ومحبوسًا بلا قيود. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ)).
بقّيتَ مالكَ ميراثًا لوارثِه فليتَ شعريَ ما بقّى لك المالُ
القوم بعدك في حال تسُرُّهمُ فكيف بَعدهم حَالت بك الْحالُ
ملّوا البكاءَ فما يَبكيك من أحدٍ واستحكم القيل في الميراث والقالُ
مالت بِهم عنك دنيا أقبلت لَهم وأدبرت عنك والأيام أحوالُ
سكنت زهرة المال في قلبه ورسخت، وأزاحت كل محبوب قبلها وهدمت إذ:
محا حبها حبَّ الألى كن قبلها وحلَّت مكانًا لم يكن حل من قبلُ
عباد الله، إن المال فتنة عظيمة، اغترّ به كثير من الناس فلم يعرفوا حقه، ولم يحسنوا التعامل معه، فثمة أناس أكلوا حق الله فيه، وآخرون أفرطوا في حبه، فحرمهم مكارم ومحاسن، وآخرون تعلقوا به فقدموه على الواجب والمفروض، فضلّوا بجمعه ضلالاً مبينًا، وخسروا خسرانًا عظيمًا.
روى أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)).
رُبَّ غنيٍ حاز أشكالَ الأموال فجمعها وعدها عدًا، ورأى بها عزًا ومجدًا، لكنه في الصلاة مع المضيعين معدود، ولحَقّ المال مانع جحود، وفي الشهامة لئيم مفقود، وفي الإخوة بخيل محدود.
ليست المصيبة محبة المال، لكن المصيبة أن تطغى المحبة فتُضيع الفرائض وتهمل الحقوق وتفسد النفوس وتهان الأخلاق، روى الترمذي بسند صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
أيها الإخوة، إن المال زينة في الدنيا فأتموا زينته بطاعة الله، وراقبوا الله في حبه وجمعه، واقضوا به الحقوق، وأدوا به المغارم، واكتسبوا الأخلاق، ولا تنسوا حق الله فيه، فإن الله واهبه ومعطيه، وهو الرزاق ذو القوة المتين سبحانه وتعالى، وتذكروا ما يصيبكم في جمعه من متاعب وفتن وأسقام، وجره إلى همومه وبلايا وخصومات. فاعرفوا ما يزينكم فيه ويعلي أجركم ويرفع درجاتكم، وهو طريق خصيب إلى الجنة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبيَّ وهو يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك ـ يا ابن آدم ـ من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟!)).
ليست الأموال غاية السعادة ولا منتهى اللذاذة إذا ضيعت منها حقوق الله، وجمعت من أي طريق، وأعطيت أغلى قرابين الولاء والعبودية، إنها عندئذ نكسات عظيمات وحسرات أليمات، ثبت في المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابنَ آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) ، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجدّ ـ أي: أصحاب الحظ والغنى ـ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار)) ، وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس)) ، والعرَض هو المال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إن مكاسب الأموال وملاذها لا تَزين بغير خُلُق رفيع وكرم نبيل وصدق عظيم، كيف يجمع المال ويشرف مَنْ بالبخل يعيَّر وباللوم يُعرف ويوصف ومن إذا دُعي للبذل والمروءة كان أبخل وأحقر؟!
فاتقوا الله يا أصحاب الأموال، وتحرّروا من عبودية المال، وجودوا بما يطهّر نفوسكم ويزيد أجوركم ويسمو بأخلاقكم.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كَفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) رواه مسلم، وفي صحيح البخاري أنه قال للأعراب: ((أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه الحصاة نَعَمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذابًا ولا جبانًا)).
أيها الإخوة الكرام، اجتمع جماعة بفناء الكعبة فتذاكروا الأجواد، وامتدحوا وتلاحقوا ثلاثة منهم، فقال أحدهم: أجود الناس عبد الله بن جعفر، وقال أحدهم: أجود الناس قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآخر: أجود الناس عَرابة الأوسي، وكثر نزاعهم، فقال رجل: يمضي كل واحد لصاحبه حتى ينظر ما يعطيه ونحكم على العيان، فقام صاحب عبد الله فصادفه قد وضع رجله في الركاب يريد سفرًا، فقال له: يا ابن عم رسول الله ، ابن سبيل ومنقطع، فثنى رجله وقال: خذ الناقة بما عليها، ولا تُخدع عن السيف فإنه من سيوف ابن أبي طالب قُوّم عليّ بألف دينار، فجاء بالناقة بما عليها، ومضى الآخر إلى قيس بن سعد فوجده نائمًا، فقال غلامه: ما حاجتك؟ قال: ابن سبيل منقطع به، قال: حاجتك أيسر من أن أوقظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار، والله ما في داره اليوم غيرها، خذه وامضِ إلى مواطن الإبل بغلامه كذا إلى من فيها، فخذ راحلة وعبدًا وامضِ لشأنك، فلما انتبه قيس وأعلمه غلامه بما صنع أعتقه، وقال: هلا أيقظتني فكنت أزيده، ومضى صاحب عرابة إليه، فلقيه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو متوكئ على عبدين وقد كُفَّ بصره، فقال: ابن السبيل ومنقطع به، فتخلى عن الغلامين، وصفق بيده وقال: أواه! ما تركت الحقوق لعرابة مالاً، خذ العبدين، فقال الرجل: ما كنت بالذي أقصّ جناحيك، قال: إن لم تأخذهما فهما حرّان، فإن شئت خذ، وإن شئت فأعتق، ورفع يديه عنهما وتركهما، وأقبل يلمس الحائط بيده فأخذ الرجل الغلامين ومضى، فأجمع الناس على أن عرابة أجود الثلاثة؛ لأنه أعطى جهدًا من مقلّ، وغيره أعطى من سَعة وفضل.
رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى العلياء منقطعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمينِ
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5213)
كشف موقف الأمة من القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بُعد الأمة عن القرآن من أسباب ذلها وهوانها. 2- لا حل لأزماتنا إلا بالرجوع للقرآن علمًا وعملاً واسترشادًا. 3- القرآن وواقعه في حياة الأمة. 4- أسباب النصر والتمكين. 5- قصة موسى مع فرعون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، إننا في هذا الزمان المضطرب نعيش فترة صعبة رهيبة، وتعيش أمتنا أشد الأحوال وأمرّها وأنكاها، إنها لتعرض عن ربها وتجعل كتابه وراءها وتغترّ بدنياها وترضى بذلها وصغارها.
لم تكن أمتنا لتهون لولا انفصالها عن دينها وإهمالها لكتاب ربها، لقد هانت صلتها بالقرآن، ولم يكن القرآن في حياتها كتاب العز والمجد، بل كتاب الترتيل والرد، وليس قرآنها منهاج حياتها، بل منهاج ثوابها وحسناتها.
جعلت الأمة القرآن كتابَ روحانية، تعيشه تلاوة وذكرًا، وحلاوة وشفاء، تقرؤه في المحافل، وتردده في المدارس، وتستنزل به الراحة والسكون؛ ولهذا قد تشاهد آلاف الحفاظ والقراء، وليس لهم من القرآن إلا اسمه وأجره وسعادته، ولم يعيشوا مواعظه وبيناته ورسائله.
إنه لتقصير ـ يا مسلمون ـ أن تكون صلة الأمة بالقرآن مجرد التلاوة فحسب، ولا يتعدى ذلك إلى فهمه وتدبره والاتعاظ بما فيه.
لم تحمل الأمة القرآن لأنها صيرته كتاب قراءة ولم تصيّره كتاب عمل وتدبير، قال الحسن البصري رحمه الله ونِعمَ ما قال: "نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً". أنزل القرآن ليكون هداية الأمة إلى ربها وشريعتها في الحياة وأمنها من الأهواء، وليكون طريق خلاصها وعنوان مجدها وسيادتها، وليكون مادة نصرها وتمكينها، وليكون سلاحها الذي تقهر به الأعداء وتكسر الأهواء وتبرئ الأسقام والأدواء.
فهل اتعظت الأمة المسلمة بالقرآن وكان منهاجها وحظها وخطتها؟! لقد انقلبت الأمة المسلمة من العز المتين إلى الذل المهين بسبب ضعفها وبعدها عن القرآن، إن القرآن ليقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، ويقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]، فهل نصر المسلمون المليار ربَّهم تمام النصر؟! هل عبدوه حق عبادته؟! وهل اتقوه وراقبوه؟! كلا، إن الواقع ليشهد بخلاف ما أراد الله تعالى، فها هي أمتنا تلعب بها الأهواء، وتحكمها الشعارات، وتقودها العصبيات، وتلتجئ في الملمات إلى الغرب الكافر؛ لكي يكتب لها السلام، ويسلمها من إسرائيل، ويضمن لها العيش الرغيد.
تسعون ألفًا لعمورية اتّقدوا وللمنجم قالوا: إننا الشهبُ
قيل: انتظار قطاف الكَرم ما انتظروا نضج العناقيد لكن قبلها التهبوا
واليوم تسعون مليونًا وما بلغوا نضجًا وقد عُصر الزيتون والعنبُ
إن الله تعالى ليعدنا بالنصر والأمة تخاف البرد والحر، ويعدنا بالتمكين وهي تلجأ للغرب اللعين، ويعدها بالاستخلاف وهي تركض للزينة والقطاف. ألم يقل ربنا تعالى للذين آمنوا به وعبدوه حق عبادته: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]؟! هل عبد الله من كان قائده الهوى؟! وهل عبد الله من توكل على المجرمين؟! وهل عبد الله من لم يتعظ بالقرآن؟!
روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوَى لي الأرض ـ أي: قربَّها وصغّرها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)).
إن المتأمل للقرآن حق التأمل ليدرك أنوار النصر وتباشير الفتح، فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة: 20]. ثم تجد هؤلاء الأذلين الحقراء قد رفعهم ضعاف النفوس وأرباب القلوب المريضة والنفوس المتآكلة التي حملت القرآن بضعف وأخذته على هوان وقرأته قراءةً، وما قرأته عملاً وتدبرًا وانتهاجًا واستعصامًا. ألم يقل القرآن: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]، وقال: يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12]؟! فما يفلح من أخذ القرآن بكسل وهوان، أو حمل دينه بتراخٍ واستضعاف، أو سار به سيرَ الضعاف المساكين، لا حولَ لهم ولا طولَ؟!
لا بد أن يؤخذ هذا الدين بعزيمة صادقة وصبر متين ونفس متوهجة، قال تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ [آل عمران: 146، 147]، وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120].
أيها الناس، إنه لا حل لأزماتنا إلا بالرجوع للقرآن علمًا وعملاً واسترشادًا، فإن فيه بيانًا مفصلاً عن واقع الأمة، وأخبارًا صحيحة لما يجري فيها، وفيه تبيان لأسباب الهزيمة والنكسة، وفيه مقوّمات النصر وعوامل العز والمجد، وفيه نماذج وقصص وشواهد للمؤمنين والمكذبين، لمن أخذه بقوة وصدق فانتصر، ولمن أعرض عنه فخاب وانهزم، كل ذلك ترونه في القرآن مفصلاً إذا قرأتموه متدبرين متعظين.
وهناك مثال ذكره القرآن وكيف أن الله تبارك وتعالى نصر الفئة المؤمنة إذا اعتصمت به وتوكلت عليه ولو كان العدو ضخمًا مخيفًا جبارًا: قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. في غزوة الأحزاب طوَّق الكفار المدينة، وحوصر المسلمون مع القلة والضعف، وكان الهول كما قال الله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 10، 11]. لكن أهل الإيمان المتوكلين على الله وثقوا بوعد الله ونصره، ولم ترهبهم الكثرة، ولا ماجَ بهم الحصار، صدقوا الله تعالى وقاموا وثبتوا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًا عَزِيزًا [الأحزاب: 25].
هذه قصة يحكيها القرآن، فهي جلية لمن تدبرها في أن الله ينصر الفئة المؤمنة الصادقة على الفئة الكافرة مهما كانت عدتها وضخامتها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
إننا بحاجة ـ يا مسلمون ـ إلى أن نراجع أنفسنا تجاه القرآن، ونقرأه قراءة عميقة، نتدبر آياته، ونعي مواعظه، ونتأمل أحكامه، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
إن تدبر القرآن وسيلة لفهم واقع المسلمين وكشف ما فيه من غوامض ومبْهَمات، وهو المدد المعنوي الذي يجمع الأمة ويوحد صفها ويقوي إيمانها ويهوِّن عليها بطش الباطل، يقول القرآن في خبر قوم صالح عليه السلام: وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ [النمل: 48]. اجتمع هؤلاء التسعة وكانوا كبراء القوم ورؤساءهم، واتفقوا على سحق الدعوة بقتل صالح غيلةً في الليل، ثم التبرؤ مما حصل، وأنهم لم يطلعوا على شيء، فاجتمعوا ورصدوا ومكروا، وكان مكرًا عظيمًا، فسلط الله عليهم ملائكة في الطريق دمغتهم بالحجارة، قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل: 50، 51].
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والشكر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، وتجدون في القرآن ـ لمن قرأه متدبرًا ـ كيف أهلك الله الأمم المكذبة، ودمَّر أمجادها وما صنعته أيديهم، وأخلف الطوائف المؤمنة النصر والعزَّ والتمكين، وفي ذلك مواعظ للمتعظين.
منها أن العزة والقوة لله وحده، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، وأن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن العاقبة والنهاية لعباد الله المتقين، وأن النصر من عند الله، وأن النصر يكون لمن ينصر الله؛ بإقامة دينه وتوحيده والتوكل عليه، وأن النصر مع الصبر واحتمال الشدائد، وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120]، أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
عباد الله، هنا معركة أخرى ذكرها القرآن وقعت بين الحق والباطل وبين النور والظلمة، هي معركة فرعون وموسى، خرج فرعون ـ لعنه الله ـ يطلب موسى عليه السلام وبني إسرائيل في جيش عظيم، وكان موسى قد خرج بقومه ليلاً بعد أن لاذوا بالفرار، وحانت ساعة العذاب على الظالمين، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ [الشعراء: 60]، أي: وصلوا عند شروق الشمس، وكان موسى عليه السلام وقومه قد انتهى بهم السير إلى سيف البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم، فاشتد الكرب وعظمت المصيبة، فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61].
أصبح الناس في خوف شديد ونكبة عظيمة، حتى إن بعض أصحاب موسى قال: ها هنا أمرك ربك أن تسير؟! فيقول: نعم، فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، فأطلق موسى عليه السلام كلمة التوحيد المعبرة عن توحيده الصحيح وتوكله التام وثقته بوعد الله ونصره، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]، لن يصلوا إلينا بجمعهم، ولن يمسّنا منهم أذى، وسيفتح الله علينا ويخذلهم بقدرته. فلما دنا العدو وحانت الساعة قال الله: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ [الشعراء: 63]، فضرب موسى البحر بعصاه ففلقه، فكانت آيةً باهرة، وصار كل فِرق كالجبل العظيم، وأصبح البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط طريق، وفيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يبسًا كوجه الأرض كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي البَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى [طه: 77]، وسلك موسى وأصحابه عن آخرهم، ثم سلك فرعون وجنوده فأطبق الله عليهم البحر، وأهلكهم وهلك فرعون لعنه الله، قال تعالى: وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 65- 68].
أيها المسلمون، اقرؤوا القرآن حقَّ قراءته، واتعظوا بما فيه من قصص وأحاديث، وتدبروا آياته ودلائله، وعيشوا القرآن كأنه لكم، فمن القبيح أن يقرأ المسلمون القرآن اليوم ويظنون أنه لغيرهم أو يخاطب سواهم! يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57، 58].
اقرؤوا القرآن، وحرِّكوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وانزجروا بزواجره، وعلموا أبناءكم أن يحفظوه علمًا وعملاً واتعاظًا.
اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5214)
دلائل التوحيد
التوحيد
الربوبية, الشرك ووسائله
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
25/3/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دلائل ربوبية الله تعالى. 2- ربوبية الله تعالى. 3- أعظم الذنوب الشرك بالله تعالى. 4- قدر الله تعالى حق قدره. 5- فضل بلاد الحرمين. 6- وجوب طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه. 7- كيد أعداء الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فإنَّ تقواه أفضل زاد وأحسن عاقبةٍ في معاد، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49].
أيّها المسلمون، خلَق الله الخلقَ العجيبَ والكونَ المَهيب دلالةً وحجّة على ذاته وصفاتِه وعظمته وكبريائه وكمالِ قُدرته وجَلِيلِ آياتِه، لا يوصَف بشيءٍ من مخلوقاته، بل صفاته قائمةٌ بذاته، كلُّ شيء تحتَ قَهرِه وتسخِيره، وكلُّ شيء تحت تدبيرِه وتقديرِه، ولِيَ كلَّ شيءٍ بعزِّ جلاله وعظمةِ سُلطانه، المتصرِّفُ في خلقه بما يشاء، المتفرِّد بالدوام والبقاء، المالِكُ للثواب والجزاءِ، الواحِد الأحَد، الفَردُ الصمد، لا مغالبَ له ولا ممانع، ولا معقِّب لحكمه ولا منازِع، ولا مناهِض لأمره ولا مدافع.
قهَرَ كلَّ شيء بقدرته، ودان كلُّ شيء لعظمته، الخالق البارئ المصوِّر، المدبِّر المسخِّر المقدِّر، ليس له من خلقِه نظيرٌ يُساميه، ولا قَريبٌ يدانيه، وهو الذي مدَّ الأرض، ومهَّدها في الطولِ والعَرض، وثبَّتَها بالجبالِ الراسيَة، وشقَّ فيها الأنهار الجارِيَة، وجعلها فراشًا ومعاشًا، يتردَّد الناس في أقاليمها وأرجائها، ويمشون في مناكِبِها وفي أقطارها، وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ [الرعد: 4]، هذه سَبخة مالحة، وهذه طيِّبة صَالحة، وهذه مُرمِلة، وهذه مُحجِرةٌ، وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [لقمان: 10]. أنبَت الأرضَ والثَّرى، وفَلقَ الحبَّ والنوى، وكان الثمَرُ حطَبًا، ثم صار بقدرَتِه عِنبًا ورطبًا.
خلَق السماء بلا وتَد، ورفَعَها بلا عَمَد، وجعلها عاليةَ البناء، بعيدةَ الفناء، مستوِيَة الأرجاء، مكَلَّلةً بالكواكبِ في الليلةِ الظلماء، مزيَّنَة بالنجوم الزاهرة والأفلاكِ الدائرة، فلا فُروجَ ولا شقوق، ولا فُطور ولا فُتوق، الشمسُ والقمرُ يتعاقبان، واللّيلُ والنّهار يتقارضان.
خَلَق النارَ المحرِقَة والبِحارَ المغرِقَة، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج: 65]، تسرَح في البحر العَجاج المتلاطِمِ الأمواج إلى الأقاليمِ النَّائِيَة والآفاق القاصِيَة، تحمِل المنافع، وتُقِلّ البضائع. وجعل النجومَ بحسنها وضوئها هدايةً لسالكي القِفار وراكِبي البحار ومَواقيتَ للزروع والثمار.
خَلَقكم من نفسٍ واحدةٍ، وصوَّركم فأحسَنَ صُوَركم، وجعل لكم سمعًا تدركون به الأصوات، وبصرًا تحسُّون به المرئيَّات، وجعَل لكم اللِّباسَ والرِّياش، ورَزَقكم من صنوفِ المعاش، ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 102، 103].
ولا أعظَم ذنبًا ولا أكبر جُرمًا ممَّن جعل لله ندًّا وضِدّا، فعن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقَك)) متفق عليه.
فويل للَّذين يعبدون الحجارةَ الموات والأضرحَةَ والأموات، يذبحون لها القرابين، ويجتَمِعون حولَها طائِفين وساجدين، معتقدين أنها تنفَع من دعاها وتدفع من لاذَ بحِماها، يتَّخذون أهلَها شفعاءَ ووُسَطاء، ويُنزِلونَهم منزلةَ الخالق في إجابةِ الدعاء وسماعِ النِّداء، ويروِّجون كذِبًا وزورًا حَديثًا موضوعًا: (إِذَا أَعيَتكُمُ الأمورُ فعليكم بأصحابِ القبور)، وهو كذِبٌ على الله، وكذب على نبيِّنا وسيِّدنا رسولِ الله.
فيا سبحان الله! يا سبحان الله! كيفَ أوجبُوا لها الشركةَ في العبادَة وهي لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، ولا تجلب خيرًا ولا تدفَع شرًّا، ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14].
أيّها المسلِمون، من اعتَبَر بمخلوقاتِ الله الدّالّةِ على ذاته وصفاته وشَرعِه وقدَرِه وآياته لا يتعلَّق قلبه بأمواتٍ، ولا يرجو نفعًا أو يخشَى ضرًّا من رُفات، بل يعلِّق قلبَه بمولاه الذي لا يكشِف ضرَّ المضرورين سواه، الخالِق الذي خلق الكواكبَ النيِّرات والرياح المسخَّرات والسحُبَ الحاملات والبحار الزاخرات والأجنَّة في بطون الأمهاتِ وخلق جميع المخلوقات.
ومَن فَهِم مَا في هذه المخلوقاتِ مِن الحِكَم الدالّة على عظَمَةِ الخالق وقدرَتِه ورحمته وحِكمته لم يلجَأ عند مرضِه وشدَّتِه إلى ساحر أو كاهنٍ أو مشعوِذ أو دجّال يفسد عليه دينه وعقيدتَه، ولم يتعلَّق قلبُه بِحِلَقٍ يَلبَسها أو خيوطٍ يَربطها أو تمائِم يعلِّقها أو شاةٍ للجنِّ يذبحها، بل يتوجَّه إلى الله بالطّلَب والدعاءِ والمسألة والنِّداء والتضرُّع والرجاء؛ لأن الله هو النافع الضارّ، فعن أبي تميمةَ عن رجلٍ من قومه قال: شهدتُ رسولَ اللهِ وأتاه رَجلٌ فقال: أنتَ رسول الله؟ فقال: ((نعَم)) ، قال: فإلامَ تدعو؟ قال: ((أدعُو إلى الله وحدَه، مَن إذا كانَ بِكَ ضُرٌّ فدَعوتَه كشَفَه عَنكَ، وَمَن إِذَا أصابَك عَامُ سنةٍ فدَعوتَه أَنبَتَ لك، ومَن إذا كُنتَ في أَرضٍ قَفرٍ فَأضلَلْتَ فدَعَوتَه رَدَّ عَلَيكَ)) ، قال: فأسلَمَ الرَّجلُ. أخرَجَه أحمَد وأبو دَاودَ [1].
أيّها المسلِمون، ومن تمكَّن وقارُ الله وعظمته وجلالُه من قلبه لم يجتَرئ على معاصيه، ولم يتوثَّب على مناهِيه، وكيف يقدِّره حقَّ قدره ويعَظّمه حقَّ تعظيمِه ويوقِّره حقَّ توقيره من هان عليه أمرُه فعصاه، وحقُّه فضيَّعه وتناساه، وقدَّم على طاعةِ ربِّه هواه، وآثر الدنيا على طلَب رِضاه، يستحي من الناسِ ولا يستحي من الله، ويخاف مِن نَظَر المخلوقِين ويستخِفّ بنظر الله، ويخشى الناسَ ولا يخشَى مِنَ الله، ويطيع المخلوقين في مَعصِيَة الله الذي لا يستحِقّ كمالَ التعظيم والإجلال والتألُّه والخضوع والذلِّ سِواه؟! وأيُّ فلاحٍ وأيُّ رجاءٍ يَرجوه مَن أغضَب ربَّه الّذي لا بدَل له منه، ولا عِوَض لَه عَنه، ولا حَول له ولا قوّة إلاّ به؟! ولو كان قويًّا غنيًّا
ما يَصنَع العبدُ بعزِّ الغِنَى والعزُّ كلُّ العِزِّ للمتقي
من عرف الله فلم تُغنِه مَعرفةُ الله فذاك الشَّقِي
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 124-127].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من البيِّنات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (5/377)، سنن أبي داود: كتاب اللباس (4084)، وهذا لفظ أحمد وإسنادُه، أما أبو داود فأخرجه من طريق أبي تميمة عن أبي جري جابر بن سليم قال: رأيت رجلا.. وذكر القصة نحو رواية أحمد، وهو في صحيح الجامع (244) وصحيح سنن أبي داود (3442).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمّدًا عبدُه ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلَى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمون، إنَّ هذه البلادَ المباركةَ هي مهبِط الوحي وموئِل العقيدة ومَأرِز الإيمان وحَرَم الإسلام ووَطَن الخير والسلام، بلادُ الحرمين الشريفَين وراعِيَةُ المسجِدين العظيمَين وخادِمَة المدينَتَين المقدَّسَتَين، سَكَنُها مَع الإيمان شرفٌ بالِغ، واستيطانُها معَ التَّقوى عزٌّ شَامِخ، حِفظُ أمنها واجبٌ معظَم، وصيانةُ حَوزَتِها فرض محتَّم، والسمع والطاعة لإمامها فريضةٌ على كل مستوطِن ومقيم، فلا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلا بإمامةٍ، ولا إمامةَ إلا بسمع وطاعة، ومن خلَع يدًا من طاعة لقِيَ اللهَ يومَ القيامة لا حجَّةَ له، ومن ماتَ ولَيس في عنقِه بيعةٌ مات ميتة جاهليّةً، ومن خرج على إمامِ المسلمين ونابَذ أمره وقاتَل جندَه ونقَض عهده وشهَر سيفَ الفتنة ضدَّه فهو مبتدَع على غير السنّة وطريقةِ السلف، لا تجوز مداهنته ولا معاونتُه ولا التستُّر عليه.
أيّها المسلِمون، في زمنٍ نرَى فيه العَدوَّ المتربِّص بالأمّة يقتحِم حصونَها ويخترِق صفوفَها ويجتاح بلادَها، يتسلَّل إلى أهلها فيذكِي العَصباتِ العِرقيّة والنعرَات الجاهليّة والنزاعات الطائفيّة، ويتسلل إلى أرضها فيفجِّر العنف، وينشر الخوفَ، ويسلُب الأمنَ، ويقبَع في العقر والدار، ويتسلَّل إلى مكان قوَّتها، فيغتصب ثرواتها، ويسلب خيراتِها، ويستولِي على مقدَّراتها، ويتسلَّل إلى عمقِها، فينشر مذهبَه الإباحيّ وفكرَه العلمانيّ ونهجَه الإفساديّ والتخريبي، في هذا الوقت العصيبِ يجب أن نكون مع ولاة أمرِنا صفًّا واحدًا ضِدَّ كلِّ خارجٍ عن الطاعةِ ومفارقٍ للجماعة.
ونحن والحمد لله تسوسُنا أيدٍ أمينةٌ تنصُرُ الدينَ وتحمي الوطَنَ وتصون الشَّرفَ وتحفَظ العِرض، ولا ندَّعي الكمال، بل النقص موجود، ومَن رأى قصورًا أو أثرَة أو منكرًا فلا يجوز له أن يسلكَ مسالكَ التخريب والهدمِ والفوضى، بل عليه أن يبذلَ النصح لولاة الأمرِ سرًّا لا علانية، ومن أنكر ونصَح فقد برِئ وسلِم وأدّى ما عليه.
وندعُو لولاةِ أمرِنا بالحفظِ والتوفيق والهدايةِ والصلاح، قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "لو أنَّ لي دعوةً مستجابة لجعَلتُها للإمامِ؛ لأنَّ به صلاحَ الرعيّة، فإذا صلح أمنِت العباد والبلاد".
يا من ترجو النجاةَ، احذر المسالكَ النادَّةَ والآراء الشّاذَّة والأغالِيط المدمِّرَة والحجَجَ الواهية والفتاوى المجهولة والعواطِفَ العاصِفة والقنواتِ والمواقعَ العنكبوتيّة المغرِضة، والزَم غرزَ العلماءِ في هذه البلاد، ولا تكن ممن أُرشِد فالتَوى ودُلَّ فتولَّى وبُصِّر فاستحبَّ العمى على الهدى ونُهِي فما انتَهَى، فلن يُترَك أمنُ هذه البلاد لعَبَث غِرٍّ جاهل أو حاقِد، ولا لعدوٍّ متربِّص أو حاسد، وستظلّ بلاد الحرمين الشريفَين بحول الله وقوَّتِه ثمّ بعَزَمات رجالها وصِدق ولاتها ونُصح علمائها آمنةً مطمنّة ساكنة مستقرَّة، وإن رغِمَت أنوف من أناس فقل: يا ربِّ لا تُرغِم سِواه.
اللّهمّ آمنّا في أوطاننا، واحفظ اللّهمّ ولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليّ أمرنا، اللّهمّ وهيّئ له البِطانة الصالحة الناصحة الصادِقة التي تدلُّه على الخير وتعينُه عليه، واصرِف عنه بطانةَ السوء يا ربَّ العالمين، اللّهمّ أدِم على بلادِ الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءها وعِزَّها واستقرارها، ووفّق قادتها لما فيه عزّ الإسلام والمسلمين وخدمة الحجاج والزوار والمعتمرين...
(1/5215)
التنويه بآية الكسوف
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, الصلاة, الفتن
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
18/5/1418
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله جل وعلا يرسل هذه الآيات تخويفا للعباد. 2- وجوب الاهتمام بأمر الآخرة. 3- قلة خوف الناس من آية الكسوف. 4- حقيقة الكسوف. 5- علم البشر بحصول الكسوف قبل وقوعه لا ينافي السبب الشرعي منه وهو تخويف العباد.6- الواجب عند رؤية الكسوف. 7- صفة صلاة الكسوف. 8- ما يُشرع للإمام فعله. 9- ما كان يفعله إذا رأى الكسوف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيها الناس، إن النفوس مجبولة على الخوف من المرهوب، ومجبولة على توقي المخاطر والأهوال، وإنه لمن الحمق بمكان أن يسعى الإنسان لإبادة نفسه بلا سبب أو يقوم بإحراق مزرعته أو إتلاف ماله بلا مسوِّغ محمود لذلك. تأمل ـ أخي رعاك الله ـ لو قيل لك وقد كنت في مبنى أو مجمع معين: وقع حريق مهول، ماذا يكون موقفك؟ وما أنت صانع؟ ستبقي أم تنجو بنفسك؟ وتخيل ـ رعاك الله ـ لو كنت سائرًا إلى مدينة ما ثم قيل لك: إن الطريق موحش ولا يحمد أبدا، ماذا ستصنع؟ هل ستكمل السفر أم تؤجّل الرحلة؟ وتخيّل ـ وفقك الله ـ لو أن رئيسك في العمل كان غليظًا شديدا نظاميًا صِرفا لا يقبل معاذير من جاء معتذرا وبدر منك ما يوجب العقاب على مذهبه، أي حالٍ تصير إليه؟! تقطيب في الوجه، وتنحية عن مهامٍ جليلة، وخصمٌ من مالك وراتبك، ومعاملة سيئة أبدا.
واعلم وتيقن ـ أخي ـ غاية الإيقان أن الله عز وجل يرسل الآيات تخويفًا للعباد، ويبعث النذر تحذيرًا للناس، ويخسف القمر إرهاصات غضب وابتلاء. فإن كنت سالفًا تهيئ نفسك للنجاة من الحريق وتُطفئ النار بالماء وتسلك الطريق النظامي الآمن وتُرضي رئيسك في العمل وتكسب وده ومحبته فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 13].
أيها المسلم الواعي، يُلحظ عليك أنك تبني دنياك بناءً شامخًا، فتشيد عمارتك، وتحسن منصبك، وتجمّل سيارتك، وتغذّي جسدك وأجساد أبنائك. وحسنٌ ذلك إذا سلكنا فيه الاعتدال ولم نتجاوز فيه الحدود. لكن قل لي بربك: هل بنيت دينك وإيمانك كما بنيت دنياك ومصالحك؟! هل أطفأت ظلمة المعصية بنور الطاعة والهداية؟! هل سعيت في إصلاح الطريق إلى الله عز وجل أم تركت فيه الأشواك والعراقيل التي تسيئك يوم الحساب؟! مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارا [نوح: 13، 14].
أيها المسلمون، لقد وقع الخسوف بأمر الواحد القهار، فكان آيةً جليلة ونذارةً مخيفة من الله تعالى للعباد، وقد نشرت الصحف وقوعه، فقلّ المعتبرون، وقلّ التائبون، وقلّ المصلون، وكأن شيئا لم يكن! ولنا على هذه الآية عدة تنبيهات:
أولاً: ما حقيقة الكسوف؟ إن الكسوف آية من آيات الله عز وجل، يحدث بأمر الله ومشيئته، وهو عبارةٌ عن تغيرٍ واحتجابٍ لضوء أحد النَّيِّرين: الشمس أو القمر، يقال: كسفت الشمس إذا اسودت وذهب شعاعها.
ثبت في الصحيحين عن غير واحد من الصحابة أن النبي قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتموها فصلوا أو ادعوا حتى يُكشف ما بكم)).
إن الصحف قد نشرت أمر هذا الكسوف وحدوثه عن بعض أهل الفلك، ولا يعارض ذلك الحكمة الشرعية من هذا الكسوف، فإنهم وإن ذكروا أسبابًا طبيعية لحدوثه لا يجوز لهم تغييب السبب الشرعي لهذا الخسوف وهو تخويف العباد، والله عز وجل هو الذي علمهم وأطلعهم على ذلك، ولا يضاد ذلك حكمته ومشيئته سبحانه وتعالى، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر: 16]، وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها". وقال سماحة المفتي العام: "ما قاله ابن دقيق العيد تحقيق جيد، وقد ذكر كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ما يوافق ذلك، وأن الله سبحانه قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك، ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يُخطِئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الآخر".
معاشر المسلمين، إن هذا الحدث ـ أعني الخسوف ـ آية من آيات الله تعالى، يخوف به العباد، ليس بالأمر السهل الذي يتلقاه الناس بالدعة والراحة، إنه حدثٌ فظيع وخطْبٌ عظيم، ينذر الله تعالى به المخالفين، ويخوف العاصين الذين ضربوا في المعاصي والآثام، وأعرضوا عن طاعة الله وذكره.
إن استقبال الكسوف لا يكون بضرب الطبول ولا بعزف القيان، ولا نشره على أنه ظاهرةٌ كونية فحسب، ولا يستقبل بسعة البال وطول الرُّقاد، إنما يستقبل بالتوبة إلى الله عز وجل والإقلاع عما قد يوجب غضبه وعقابه، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، ما أقبح أن يخاطبنا الله ويدعونا إلى عبادته وذكره واستغفاره ونظن أن ذلك ليس لنا بل لغيرنا! هل آية الكسوف للكفار يا أيها الذين آمنوا؟! هل الله عز وجل يدعو سوانا أو يدعو أمة أخرى؟! عجبًا لفئامٍ يظنون أن النداءات والأوامر الشرعية ليست لهم!
إن واجبنا ـ أيها المسلمون ـ تجاه الكسوف أن نقوم ونفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء رجالاً ونساء، والنساء يخرجن بالشروط المعتبرة في حقهن. قال البخاري في صحيحه: "بابك صلاة النساء مع الرجال في الكسوف"، ثم روى بسنده إلى أسماء رضي الله عنها قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيامٌ يصلون، وإذا هي قائمة تصلي. وإنما تشرع الصلاة للكسوف إذا رُئِي ذلك الضوء منكسفًا، وليس بتوقيت الصحف، أو ما يذكره أهل الفلك؛ لأنهم قد يصيبون ويخطئون.
وصفتها أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، فيصبح فيها أربع ركوعات وأربع سجودات. وليس للكسوف أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها بلفظ: (الصلاةَ جماعةً). وإنما نبهت على هذه الأمور لوقوع الخطأ في ذلك من بعض المساجد، مما يدلنا دلاله واضحة على عظم الجهل المنتشر والغفلة المستطيرة، والله المستعان.
والمشروع للإمام أن يخطب خطبة للكسوف بعد الصلاة، يبين فيها أهمية الحدث ويحض المسلمين على الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والعتاقة. وقد استحب هذه الخطبة أكثر أهل الحديث، وهو المعتمد لثبوت الأدلة بذلك، وأن النبي خطب للكسوف خطبة عظيمةً بليغة، بيّن فيها ما ينبغي بيانه.
إخوة الإيمان، اتقوا لله تعالى حق التقوى، واعلموا أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27].
عباد الله، ما أكثر الإعراض والتقصير في هذه الأزمان من كثير من المسلمين، فكم بنا من نكبات وويلات، وتصيبنا رزايا وابتلاءات، ولا زلنا في غفلة معرضين، وبآيات الله غير معتبرين، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76]. ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدّها على عهد رسول الله من الموبقات).
استمعوا كيف كان استقبال النبي للكسوف: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري قال: خسفتِ الشمس، فقام النبي فزِعًا يجرُّ رداءَه يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ ما رأيته قط يفعله... الحديث. سبحان الله! فأين أولئك الذين لم يكترثوا لأمر الخسوف ولم يحركوا لهذا الحدث ساكنًا ولم يقيموا له وزنًا بل عدُّوه آيةً متوقعة حدثًا كونيًا لا يُستغرب وقوعه، فقضَوا وَطَرَهم على نغمة ووتر، وأكلوا كما يأكل الأنعام، وباتوا بشرِّ منام؟!
عباد الله، إن هذه الآية العظيمة إنذار لنا وتخويف؛ لكي نتوب إلى الله تعالى ونرجع ونقلع عما نحن فيه من معصية وتقصير. إن هذه الآية رادع لنا عما نحن فيه من إعراض وتفريط. إن هذه الآية باعث قوي للمحاسبة والتصحيح وإقامة فرائضه واجتناب حدوده ونواهيه.
أيها المسلمون، إن حكمة الله جل وعلا أن يبتلي الأمم والشعوب بشتى الوسائل والسبل لكي يتوبوا ويتعظوا وينزجروا، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126]. وكم هو مؤسف أن يحصل الكسوف وأمارات العذاب والبلاء ونحن في غفلة معرضون وفي ملذاتنا غارقون، وإنها لمصيبة عظمى أن تُرفع رايات الباطل ويدُعى إلى منتديات الفساد فتجيبها جموع غفيرة! في حين يدعو داعي الخير والهدى والجنة ولا يجيبه إلا القليل، وأقبح من ذلك أن تأتي النذارة والتخويف من الله تعالى ولا يبالي كثير من الناس بها! حتى المتخلفون عن الصلوات في المساجد والعياذ بالله ما أهمهم أمر الكسوف، ولا أخافهم ولا أرعبهم من المعاصي، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. إنما طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم كسبُهم من المعاصي والآثام وبقاؤهم على الخطايا والأوزار، فتخلف عن الصلاة، وأكل للمحرمات، وإعراض عن الآيات، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
(1/5216)
خبيب بن عدي رضي الله عنه
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
16/1/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التلاعب بمفهوم البطولة وانقلاب تصورات الناس فيها. 2- البطولة الحقيقية هي في الإيمان بالله والنضال عن الشريعة والثبات على المبادئ. 3- حادثة الرجيع ومقتل الصحابة فيها. 4- قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه ومقتله. 5- دعوة للآباء لتعريف الأبناء بسير العظماء. 6- فوائد من قصة خبيب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، هل قرأتم قصص المغامرات وسمعتم بحكايات التضحِيات وروايات الحب والفداء؟! اليوم سنقُصُّ قصةً هي أجل معنى وأمتع حَدَثا وأصح سندا. إنّ أغلب ما يتداوله الناس اليوم من القصص والأخبار لا تعدو أن تكون ملَّفقةً من عقل ذاك القاص أو إنشاء ذلك الروائي أو فكر ذاك المؤرخ، فيشوبها الكذب والتكلُّف والتهويل والتضليل ليشتروا بها ثمنا قليلا. أما قصتنا هذه ففيها بطولة نادرة عجيبة وتضحية صادقة عظيمة وفدائية قاهرة كبيرة، إنها صورة تحمل الصدق المتين والثبات المنقطع والهمّة الحية والإيمان الراسخ، إنه مشهد ولاء، لكن ليس لعذراء، ولا لأجل متعةِ غناء، ولا إرضاء حزب أو قبيلة، إنها بطولة أسالت الدماء ومزّقت الأبدان، فلا وراءها في الدنيا عيش ولا لذة ولا طيب استقرار وبقاء. إنها ليست هجران عشيقة، ولا نشوانَ يشدو أغنيةً خليعة، ولا رقمًا خطَفَ هدفَ آخرِ دقيقة.
أيها المسلمون أحفاد الأبطال، إن مصطلح البطولة تُلوعب به في هذا الزمان، فحمَله سوى أهله، وانتسب له غير آله وربعهِ، فأنتم ترون رموز الجبن والهوان أبطالا صناديد، وأرباب الخنا والفجور أعلامًا مشاهير، وصناع السفاهة والطيش أفذاذًا ميامين.
أيها العقلاء، كيف ترضون أن يُسمى الجبان بطلا، أو يُنعت السفيه إماما، أو يُجعل الدنيء قائدا هُماما؟! أين عقول أقوام جعلت المهانة شجاعة والدناءة مكانة والسفاهة رُقيًا وحضارة؟!
إذن ما البطولة الحقة يا معاشر المسلمين؟ إن البطولة الحقيقية إيمانك الصادق بالله تعالى ونضالك عن الشريعة وثباتك على المبادئ الصادقة وصدعك بالحق وصبرك على المكاره الشديدة، وإنَّ من أعظم صور البطولة بذل نفسك لله رب العالمين وبيعك الحياة الدنيا للآخرة العقبى.
كيف يكون بطلاً من يهاب لَسْعة الزُّنبور أو يخاف ظلمة الليل أو لا يطيق العيش في الشدة والحر أو يبكي على فوات الطعام والشراب واللذة اليسيرة الفانية؟! إن خُبيبًا كان بطلاً مقداما ومجاهدًا صنديدا، أراق دمه لله، ومزّق لحمه لدين الله، لم يهب الموت، ولم يخشَ بطش أهله، اشتاق المشركون لقتله فاشتاق للشهادة، واغتبطوا ببشاعة ذلك فاغتبط بالثبات والرجولة، أرادوا أن يسلبوه الإيمان فسلبهم الأذهان بصِدقه وشجاعته وتفانيه لله رب العالمين، قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ [المائدة: 54].
نصبوه للقتل والإعدام فنصب لهم سهام الدعوات الصادقات في عرصات البطولة والتضحيات: (اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بَددا، ولا تغادر منهم أحدا).
في السنة الرابعة من الهجرة وفي شهر صفر قدم على رسول الله قوم من عَضْل وقارّة، وذكروا أن فيهم إسلاما، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويُقرئهم القرآن، هم ستة نفر في قول ابن اسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة، وأمّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي في قول ابن اسحاق، وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة ـ استصرخوا عليهم حيًا من هذيل يقال لهم: بنو لِحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، واقتفوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم، وكانوا قد لجؤوا إلى فَدْفَد ـ أي: مكان مرتفع من الأرض ـ فتبعوهم، وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا، فأما عاصم فأبى النزول وقال: أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك ، وقاتلهم في أصحابه، وقتل منهم سبعة بالنبل ثم قتلوه، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم، وربطوهم بأوتار قسيّهم، فقال الرجل الثالث: هذا أوّل الغدر، والله لا أصحبكم، إنّ لي بهؤلاء لأسوة ـ يريد القتلى ـ فجرّوه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خُبيبًا، وكان خبيب هو من قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله، قالت الجارية التي تحرسه: والله ما رأيت أسيرا خيرًا من خُبيب، فوالله لقد وجدته يوما يأكل قِطفًا من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزقٌ رزقه الله خبيبًا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحِل قال لهم خبيب: دعوني أُصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين فقال: والله، لولا أن تقولوا أن ما بي جزَعٌ لزدتُ. وفي الصحيح: كان خبيب أول من سنّ الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدًا، قال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت مع أبي سفيان، فلقد رأيتُني وإن أبا سفيان ليضطجع على الأرض خوفًا من دعوة خبيب، وقال حويطب بن عبد العزى: لقد رأيتُني أدخلت إصبعي في أذني، وعدوت هاربًا خوفًا أن أسمع دعاءه.
فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة، ثم وجّهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا، ثم قالوا له: ارجع عن الإسلام نُخلِ سبيلك، قال: لا والله، ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا، قالوا: أفتحب أن محمدًا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يُشاك محمد بشوكة وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب، فقال: لا أرجع أبدًا، قالوا: أما ـ واللات والعزى ـ لئن لم تفعل لنقتلنك، فقال: إن قتلي في الله لقليل، ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام، وقد روي أن النبي كان جالسًا مع أصحابه فأخذته غُمية كما كانت تأخذه ثم قال: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، وقال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. ثم قاموا بقتله، فقام إليه أبو سِروعة أخو عقبة بن الحارث وقتله، ورُوي أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم ببدر كفارا، فأعطوا كل غلام رمح وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا، فاضطرب على الخشبة، فانقلب فصار وجهه إلى الكعبة فقال: الحمد لله جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه، ثم قتلوه.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير أن خُبيبًا حين رأى ما صنعوا به قال:
لقد جمَّع الأحزاب حولِي وألّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ
وكلهم مبدي العداوة جاهدًا عليَّ لأني في وثاق بمضيعِ
وقد خيرونِي الكفر والموتَ دونه وقد هملَت عيناي من غير مَجزَعِ
إلى الله أشكو غُربتِي ثم كربتِي وما أرصد الأحزاب لِي عند مصرعي
فذا العرش صبّرني على ما يُراد بِي فقد بضّعوا لَحمي وقد ياسَ مطمعي
ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلما على أيّ جنبٍ كان فِي الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإنْ يشأ يبارك على أوصال شِلوٍ مُمزَّعِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون، إن في مثل هذه لذكرى للمتدبرين، ما أجمل أن تتلى هذه القصص وأمثالها على شبابنا وأبنائنا ليُدركوا عظمة أمتهم ومجدها وتراثها، وليتعلموا عميق تضحيات ذلك الرعيل لأجل دينهم ورضا ربهم.
أيها الآباء، اعرُضوا وأبينوا سير هؤلاء العظماء وثبّتوها في قلوب الأبناء، لتزكو عقولهم، وتعلو هِممهم، وتسمو طموحاتهم وأهدافهم. كم هو عظيم وبديع أن يكون ابنك صغيرًا لكنه يحمل همة أبي بكر وحماس عمر وشجاعة خبيب رضي الله عنهم، وكم هو قبيح ومؤسف أن يكون ابنك كبيرا وقد صغُر عقله وانتهى فكره لكرة أو ملهاة أو تفاهة، والله المستعان.
أيها الناس، إن أهم الدروس والعظات التي نستفيدها ونتعلمها من قصة خبيب ما يأتي:
أولا: أن بطولات جند العقيدة أعظم البطولات وأصدق التضحيات، لن تجدوا في مآثر أمةٍ ومفاخرها مثل الذي رأيتم في أبطال الإسلام، ولكم أن تسمعوا عُمير بن وهب في غزوة بدر ـ وكان إذ ذاك مشركا ـ عندما ذهب ينظر لعدد جيش المسلمين وعتادهم فلم يجد شيئًا فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت ـ يا معشر قريش ـ البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليس معهم منعَة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم فلا خير في العيش بعد ذلك، فَرُوا رأيكم.
ثانيا: هوان الحياة ورخصها في عيون هؤلاء الشجعان، وأن العاقل لا تلهيه زهرة الدنيا عن طلب الآخرة والسعي إليها، قال الله جلّ وعلا: مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود: 15].
ثالثا: البطولة الصحيحة والبسالة المذهلة التي تبدو من صحابة رسول الله ، بطولات حقيقية صادقة وقد يعتبرها الجبناء في هذه الأعصار أساطيرَ لا أصل لها، قال تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
رابعا: الثبات على الحق والتضحية في سبيله مهما عظمت الكروب واشتدت الخطوب.
خامسا: الشهادة وفضيلتها، وأنه لا يضاهيها متاع ولا لذة ولا زينة من حطام الدنيا الفاني، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169].
سادسا: إن من أجل صور البطولة والبسالة بذل الروح للحي القيوم، واقتحام الأهوال لإعزاز الدين، وإذلال الكفار المجرمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم انصر دينك وعبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5217)
حقوق الجار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
25/2/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة أذى الجار. 2- من حقوق الجار. 3- نماذج للسلف الصالح في حسن الجوار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها المسلمون، شيد رجل من المسلمين دارًا حسناء، جمَّلها وأحسنها وأبهاها، ثم تعكرت حياته فباعها بأرخص الأثمان وأبخس الأسعار، نسي جِدَّتها وعافَ حُسنها وكرِه سكناها وتمنى كل خلاص منها! ما السبب؟! هل افتقر فألجأته الحاجة، أم اغتنى فأطمعته النفس الراغبة؟ كلا، بل أبغض الدار لفعائل جاره وأذاه؛ إذ ضاق وسعها وتكدر حلوها وتنغص صفاؤها وتغيرت أشكالها. زهد الجار الصالح في الدار والمال؛ لأنه لم يهدأ له بال، ولم يقرَّ له قرار، فباع داره فلامه الناس والعذال:
يلوموننِي أن بعتُ بالرخص منزلِي وما علموا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لَهم: كفوا الْملامَ فإنها بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
تعالت اللعنات على جار سوء في عهد النبي آذى جاره وكدَّر حياته وعكَّر أحواله، أخرج أبو داود في سننه والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فشكا إليه جارًا له، فقال النبي ثلاث مرات: ((اصبر)) ، ثم قال له في الرابعة أو الثالثة: ((اطرح متاعك في الطريق)) ففعل، قال: فجعل يمرون به ويقولون: ما لك؟! فيقول: آذاه جاره، فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال: رُدّ متاعك، لا والله لا أوذيك أبدًا.
أيها المسلمون، إن حقوق الجار انسحَقت في هذه الأزمان عند كثير من الناس، فعمّ أذى الجيران، وفشت الخصومات، وقامت المكائد والشتائم والسخائم بشتى الألوان والأشكال.
جار سوء كشف على محارم جاره، آذاه بفعاله وكلامه، أرسل أبناءه لمكيدة الجار وضره، لا يعرف الوداد والإحسان ولا حق الجار والإخوان، قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه)) أخرجاه. وبوائقه: شروره وأذاه.
قضى النبي بنار تلظى لمن ارتدى العار والشنار وآذى الغريب والجار، أخرج الإمام أحمد وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((هي في النار)).
أيها الناس، إننا نشاهد زمنًا كثرت خطوبه واشتدت نكباته، غابت الأخلاق، وانعدمت المروءة، وقلّ الوفاء والشهامة والمعروف، يود المسلم بذل نفائس الأشياء ليظفر بجار مسلم صالح، يُدرك معروفه، ويرى خيره، ويأمن على محارمه، ويعينه على طاعة الله.
إن من رغد العيش وطيب الحياة وتمام السعادة حصول الجار الصالح المبارك في هذه الأيام، أخرج ابن حبان والخطيب بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي قال: ((أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء)).
معاشر المسلمين، إن الجوار يقتضي حقًا ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة بالمجاورة، وليس حق الجوار كفُّ الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في وضع الخشب على جداره، ولا في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عورته، ولا يتسمّع عليه كلامه، ويغضّ طرفه عن حرَمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب.
أنت خِلّي وأنت حُرمة جاري وحقيق عليَّ حفظُ الْجوارِ
إن للجار إن تغيَّب عينًا حافظًا للمغيب والأسرارِ
ما أبالِي إن كان للباب ستر مسبلٌ أم بقي بغيْر ستِارِ
قال : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) أخرجاه، وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) ، وفي صحيح مسلم قال : ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ، وفي لفظ ابن حبان: ((فإنه أوسع للأهل والجيران)).
إنه لأدب رفيع أن تُحسن إلى جارك وتتصدق عليه، فتطعمه مما تطعم، وتفرحه إذا فرحت، وتهدي إليه إذا أهديت لأبنائك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، كان رسولكم مثالاً فريدًا في الإحسان إلى الجار وحفظ حقوقه ورعاية مصالحه والسؤال عنه، بل كان يعود جيرانه من اليهود والمشركين، ويجيب دعوتهم ويحسن عشرتهم، ويتصدق عليهم ويهدي إليهم، ويهشّ لهم إذا لاقاهم ويخصهم بالخير. آذاه جيرانه في مكة فخرج إلى الطائف، فسلطوا عليه سفهاءهم يرمونه بالحجارة، فيجد من الأذى والشدة ما لا يجده في غيره، ويأتيه جبريل يستأمره بإطباق الأخشبين عليهم، فيمتنع من ذلك عليه الصلاة والسلام.
ولقد حقق السلف الصالح الكرام حق الجوار أتم تحقيق وأحسنه، إذ كانوا أكثر مراعاة لحقوق المسلمين وحرماتهم ومصالحهم، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في تاريخه قصة وقعت لأبي حنيفة رحمه الله مع جار له، قال: كان لأبي حنيفة بالكوفة إسكافي ـ أي: صانع ـ يعمل نهاره حتى إذا جنّ الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى دبَّ الشراب فيه غنَّى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأيَّ فتىّ أضاعوا ليوم كريهةٍ وسِدِاد ثغرِ
فلا يزال يشرب ويردِّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يصلي بالليل ويسمع جَلَبته، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسَسَ منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ وركب بغلته واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له وأقبلوا به راكبًا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار أخذه العسَس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أُخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظتَ ورَعيتَ جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
وذُكر أن محمد بن الجهم عرض داره للبيع بخمسين ألف درهم، فلما حضر الشارون لشرائه قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار، فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له: والجوار يباع؟! قال: وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتدأك، وإن أسأت إليه أحسن إليك؟! فبلغ سعيد بن العاص فوجه بمائة ألف درهم وقال له: أمسك دارك عليك، فقد قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
(1/5218)
تمسكوا بدينكم
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
عبد الحق البغدادي الأزهري
بومباي
مسجد ذي المنارات
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفتاح النجاح والفشل. 2- اهتمام الشريعة الإسلامية بالحياتين. 3- التمسك بالوحيين هو طريق العزة والنصر والتمكين. 4- حالنا اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اعلموا أن السبقَ في مضمار الحياة الدنيوية لا يُنال إلا بالمثابرة على العمل والسعي الحثيث وتقوية الأمل والاتحاد والاتفاق والمحبة والوفاق والتكافل والتضامن والتناصر والتعاون، كما لا يأتي التقصير والفشل إلا من الضجر والكسل وترك الأسباب والتمسك بشعرات الاتكال وفتور العزائم في الأعمال والتباغض والتخاذل والتحاسد والتفرق والاختلاف وعدم التعاضد.
ألا وإن الديانة الإسلامية والشريعة المحمدية أمرت بالاشتغال للمعاش والمعاد، وحثَّت على ترقية النفوس وتقوية الأجساد، وبيّنت مطالب الحياتين الدنيوية والأخروية، ووضعت قوانين للعمل لها واضحة جلية، وقد رتبت حصول الدنيا على إقامة الدّين والتمسك بحبله المتين، كما جعلت أكثر أسباب الفوز بالسعادة الأخرويّة موقوفًا على إصلاح الحالة الدنيوية، فلا ينال المسلمون في الدنيا فلاحًا وعزة ونجاحًا إلا بالدين، ولا يحصدون في الآخرة خيرًا ورضوانًا إلا بإصلاح مزرعتها ورب العالمين.
فقد دلت الآثار وأفادت الأخبار أن المسلمين لما كانوا متمسكين بالدين عاملين بالقرآن العظيم وسُنة خاتم المرسلين انقادت لهم الدنيا بأسرها، وأطاعتهم أمم المعمورة من عربها وعجمها؛ فدوّخوا الممالك، ووطؤوا بسنابك خيولهم معظم عواصم المعمورة، وما استقروا في مكان إلا مصَّروا الأمصار، وشيدوا للعلوم خير دار، وأقاموا للمجد والسيادة دعائم، وأحْيَوْا للسياسة معالم، ورفعوا للدين المنار؛ فأضاؤوا للإسلام طريق الانتشار، فانتشر شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، ينصب أعمدة المدنية الإسلامية على أساس المحبّة القومية والمساواة بين أفراد الأمم بلا استثناء، ويُفهمهم أن الأمة كجسم واحد، لا تستقيم أمورها إلا بانتظام سائر الأعضاء، على تلك الحال قضت تلك العصابة المؤمنة حياتها النشيطة، وها هي آثارها نصب أعيننا منتشرة في أطراف البسيطة تخبرنا بأنها فازت من قداح العزّ والعظمة والجاه في الدنيا بالمعلَّى والرقيب، وستنال في العُقبى من الرضاء والخير أوفر نصيب.
أما نحن الخلف الطالح لذلك السلف الصالح فقد هدمنا كلَّ ما شادوه، وأتلفنا جميع ما أوجدوه، وضيعنا سائر ما تركوه، وطمَسنا معالم ما أوضحوه، وشوّهنا وجه ما زيَّنوه، وتسربَلنا بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، وفقدنا أخلاقَ الشهامة والشمم والشجاعة، فلم نفُز من الدنيا بغير الخسران والعِوَز والهوان، ولَجزاءُ الآخرة أشد وأخزى، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227]، وما كان تغيُّر حال المسلمين من ذلك العز والرفعة إلى هذا الذل والضعة إلا بعد أن أعرضوا عن الدين ولم يأتمروا بأوامر ربهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، أفليس من الفضيحة والعار أن تصيروا ـ معاشر المسلمين ـ إلى هذا الصَّغار والإسلام أمامكم والقرآن مرشدكم وكذلك كان بين الأمم شأنكم؟! ألم يأنِ لكم أن تتركوا الأباطيل والأوهام، وتتجنبوا الخرافات التي ألحقت بكم الأضرار الجِسام، وتقيموا الدين الصحيح غير مشوب ببدعة؛ لتنالوا رضوان الله والغِنَى والرفعة؟!
فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى التمسك بالدين يَعُدْ لكم عز آبائكم الأولين، وارجعوا إلى العمل بالقرآن العظيم يرجع لكم بين الأمم مقامكم القديم، وحافظوا على إقامة السُّنّة يحفظْكم الله من كل محنة، وأنيبوا إلى الله فإنه يقبل مَن أناب، وتضرّعوا إليه قائلين: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ [آل عمران: 8]، عن النبي أنه قال: ((مَن تعلَّم كتابَ الله ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه يوم القيامة سوء الحساب)) ، وعنه أنه قال: ((مَنِ اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)) ، وعنه أنه قال: ((لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك)).
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى [طه: 123].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5219)
سوء حال المسلمين في هذا الزمان
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عباس بن محمد طه
سنغافورة
2/5/1327
مسجد سلطان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر الضعف والهوان. 2- سبب انحطاط المسلمين. 3- سر تقدم الغرب الكافر. 4- ضرورة الاعتصام بحبل الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ ما حلّ بنا من ضعف وهوان وفساد في الأعمال وخسران من سوء تربيةٍ في الصغر تولّد منه في الكبر فساد وطغيان، وتهاونٌ بالصلاة وتجاهر بالعصيان، وموت شعور عند سماع أوامر ونواهي القرآن، وكثرت الخرافات والأوهام، أدخلها الجاهلون وصبغوها بصبغة دين الإسلام، ومعظم أهل زماننا هذا هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان، والمصيبة في الأعمال والأديان أعظم منها في الأموال والأبدان، ونحن نعلم كلَّ ذلك علمَ اليقين، وأهملنا شعائر الدين، فوقعنا في شدائد متراكمة، ونظرت إلينا الأجانب نظر تحقيرٍ وملامة.
وإنَّ التباعد عن الاهتداء بهدي الشرع الكريم وعدم التمسك بعروة الدين القويم قد أدّى بنا ذلك إلى الإهمال والانحطاط وشرّ المآل، وديننا يأمر بالتعاون والاتفاق ونحن نسعى إلى التنافر والافتراق، حتى ذهبت أعمالنا أدراج الرياح، وضاعت أوقاتنا بين الجدّ والمزاح، ولا نقدر على القيام بمهام الأعمال، ولا على مثابرة الأشغال، فآلت أمورنا إلى أسوأ الحال، وخابت الآمال، وإننا لو اتحدت كلماتنا وصرنا حزبًا متعاونًا ساعيًا في مصالح أمورنا في ديننا ودنيانا لكان أكبر الأعمال هينًا، ونجح نجاحًا مبينًا، وإذا نظرنا إلى حال الأمة الغربية ذات السعادة والرفاهية وجدنا أنها تدرّجت على أصول الإسلام، وبذلت الجهدَ في التعاون والاتحاد والالتئام؛ كان أكبر المشروعات عندها من أسهل الممكنات، وإن كان عندنا يعدّ الناس نجاحه من المستحيلات، وهم يعقدون الشركات وينشئون الجمعيات؛ ليعود ذلك على أبناء ملّتهم بالنفع والفضائل، ونحن ننشئ الجمعيات للتلوّث بأدران الخمول والرذائل، ويعود ذلك علينا بضعف الديانة وتضييع الصيانة. كانت المواعظ عندهم داعية إلى التقدم السريع، وعندنا قد صارت سلَّمًا إلى تأخّرنا الشنيع.
فيا ذوي الأبصار، أين التبصر والاعتبار؟! وما هذه الغفلة والاغترار؟! فليت شعري! ما اعتذاركم بعد الإنذار؟! أما علمتم أن الله لم يخلق الدنيا عبثًا، بل جعلها دار سعي واختبار، يعقبها بدار جزاء وقرار، وجعل لنا العقول لنميز بها النفع والأضرار، وأمرنا بفعل الخيرات ونهانا عن الأوزار، ومن أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وليس لنا عليه بعد ذلك حجة ولا أعذار؟!
عباد الله، تعاونوا واتفقوا، واعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5220)
آداب الكسب والمعاش
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار الاكتساب. 2- أصناف الناس تجاه الدنيا والآخرة. 3- فضل الكسب والحث عليه. 4- آداب التاجر المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن رب الأرباب ومسبب الأسباب جعل الآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا دار التمحل والاضطراب والتشمّر والاكتساب، وليس التشمّر في الدنيا مقصورًا على المعاد دون المعاش، بل المعاش ذريعة إلى المعاد ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة ومدرجة إليها، والناس ثلاثة:
1- رجل شغله معاشه عن معاده، فهو من الهالكين.
2- ورجل شغله معاده عن معاشه، فهو من الفائزين.
3- والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغلَه معاشه لمعادِه، فهو من المقتصدين.
ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد، ولم ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة.
وقد ورد في فضل الكسب والحث عليه آيات وأخبار، قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة: 198]، وقال تعالى: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10]، وقال : ((التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء)) ، وقال : ((من كان يسعى على نفسه ليكفّها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان)) ، وقال عمر رضي الله عنه: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة).
ويجب على التاجر أن ينصح في المعاملة، ويحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يحل له أن يثني على السلعة بما ليس فيها، ولا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا، ولا يكتم في وزنها ومقدارها شيئًا، ومن خالف ذلك كان ظالمًا غاشًّا، والغش حرام، قال : ((من غشنا فليس منا)) ، وقال تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1-3]، وقال تعالى: وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [الإسراء: 35]. وعلى التاجر الرفق في التعامل والإحسان فيه، قال : ((رحم الله امرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء)) ، وقال : ((من أَنْظَرَ معسرًا أو ترك له أظلّه الله تحت ظلّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) ، وقال تعالى: إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5221)
الحذر من التطير والتشاؤم
التوحيد
الشرك ووسائله
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء بقضاء وقدر. 2- دخول شهر صفر. 3- إبطال الإسلام للتطير والتشاؤم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فاتقوا الله، واعلموا أن جميع ما يتقلب فيه الإنسانُ طول عمره إنما هو بمحض قضاء الله وقدره.
ألا وإنه قد دخل عليكم شهر مباركة أوقاته ميمونة ساعاته، لا ينسب إليه شر ولا ضير، بل هو صفر الخير، وقد كانت الجاهلية يتشاءمون به وهو مبارك، ويتطيرون منه وليس لله جل جلاله في مشيئته وتقديره بمشارك، وإنما هو إلى شركهم وشرّهم وسخافة عقولهم ومحض كفرهم، وكيف ينسب فعل إلى شهر أو زمان والله خالق الزمان والمكان؟!
وقد بطل التطير والتشاؤم ولم يبق له أثر بما رواه البخاري في صحيحه عن رسول الله سيد البشر أنه قال: ((لا عدوى، ولا طيرة، ولا صفر)) ، وعن رسول الله أنه قال: ((إذا ظننتم فلا تحقِّقوا، وإذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا)) ، وعن النبي أنه قال: ((إن سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب)) ، فسُئل عنهم فقال: ((هم الذين لا يَكْتَوُونَ، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)) [1] ، وقال : ((الطيرة شرك)).
فمن اعتقد ما يتشاءم به سببًا مؤثِّرًا في حصول المكروه فقد أشرك، ولعقيدة التوحيد والموحدين ترَكَ؛ إذ لا فاعل إلا الله، ولا مؤثِّر في الكائنات سواه، وإنما الزمان ليالٍ وأيام، تختلف بتقدير العزيز العلام، فلا شؤم لصفر، ولا جمود لجمادَى، ولا بلاء ولا نحس ليوم أربعاء، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن: 11]، وقال جل جلاله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ [التوبة: 51].
[1] قال الخطيب: الخطبة من أولها إلى هنا من ديوان جدِّ جدتي لأبي، الإمام الكبير والولي الشهير السيد محمد الدسوقي نسبًا الدمشقي، إمام جامع حسان وخطيبه، المتوفى 1241هـ بمنزلة هدية قبيل المدينة المنورة ذهابًا إلى الحجاز، وقد بسطت ترجمته في تاريخي: "تعطير المشام في مآثر دمشق الشام".
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5222)
النهي عن الحلف بالله والطلاق
فقه
الأيمان والنذور, الطلاق
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الحنث في الأيمان. 2- النهي من الحلف بغير الله تعالى. 3- كفارة اليمين. 4- من أحكام الطلاق. 5- التذكير بنعمة الله بالأزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، عليكم بالتقوى؛ فإنها ترضي الملِكَ الخلاق، واحذروا من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم؛ فإن أيمان الحنث تمحق بركة الأرزاق، واحذروا من الحلف بالطلاق؛ فإنه يمين الفسَّاق، فمن حلف بغير الله فقد عظّمه، ومن عظّم غير الله صار من أهل النفاق، وخالف الكتاب والسنة، ومن خالفهما فليس له في الآخرة من خلاق، فعن رسول الله أنه قال: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) ، وقال : ((لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلِفوا إلا وأنتم صادقون)) ، وقال : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) ، وقال : ((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)).
واعلموا أن من حنث في يمينه فعليه أداء الكفارة، وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز فصوم ثلاثة أيام. ولا يجب التتابع في الصيام، ويكفي في الكسوة ثوب أو سراويل أو قميص، يوزع من كل عشرة على المساكين الذين ورد فيهم التنصيص.
ومن طلَّق زوجته ثلاث تطليقات شرعيات غير بدعيات فلا تحلّ له إلا بنكاح جديد، ومن أمسكها بعد الثلاث فقد خالف أمر الله المجيد، وتعرض للوعيد الشديد.
ومن لعب بالطلاق أو طلق امرأته من غير ما بأس فقد نقض الميثاق، فقد روي أن النبي أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال: ((أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم)) ، وقال : ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) ، وقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229]، وقال تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء: 34] أي: بالفراق.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في النساء وحقوق الزوجية، وقوموا من مكارم الأخلاق مع الأهل بالسنة النبوية، فقد قال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) ، واشكروا نعمة الله في الأزواج أيها المؤمنون، فقد قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5223)
شمائل رسول الله وأخلاقه المأثورة
سيرة وتاريخ
الشمائل
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية صلاح الباطن. 2- إكمال النبي لمكارم الأخلاق. 3- أخلاق النبي. 4- من صفات النبي الخِلقية. 5- ختم الرسالات بالنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة أخلاق، ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية.
وقد أُدِّبَ صلوات الله عليه بالقرآن، وأُدِّب الخلُقُ به، ولذلك قال : ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق، ولما أكمل تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، فكان أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعفَّ الناس، لم تمسّ يده قطّ امرأة لا يملك رِقّها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوتَ عامه، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسْأَل شيئًا إلا أعطاه، وكان يخصِف نعله، ويرقّع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، ويجيب دعوةَ العبد الحرّ، يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، يأكل ما حضر، ولا يردّ ما وجد، يركب ما أمكنه، ويردف خلفه، يحبّ الطيّب، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم، يصل رحمه، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، ولا يقول إلا حقًّا، يضحك من غير قهقهة، يخرج إلى بساتين أصحابه، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ما لعن خادمًا ولا امرأة، ولا ضربَ بيده أحدًا إلا في سبيل الله، يبدأ من لقيَه بالسلام والمصافحة، يكرم من يدخل عليه، حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه، وكان أفصح الناس منطقًا وأحلاهم كلامًا، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يتكلم في غير حاجة، إذا سكت تكلم جلساؤه، وكان أحسن الناس نغمة، يعظ بالجد والنصيحة، وكان إذا لبس ثوبًا جديدًا أعطى خَلِق ثيابه مسكينًا، وكان أرغب الناس في العفو مع القدرة، أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضاء، يمرّ على الصبيان فيسلّم عليهم.
وكان أزهر اللّون، ليس بالطويل ولا بالقصير، بين كتفيه خاتم النبوة، وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه.
وبالجملة فأخلاقه الكاملة لا تحصى، وشمائله الحسنى لا تستقصى، وكل من أصغى إليها علم علو منصبه وعظم مكانته.
وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما استفاضت به الأخبار، وكان أعظمها معجزة القرآن الكريم والذكر الحكيم، أعجز البلغاء عن مماثلته في عبارته، وأفحم الحكماء عن محاكاته في عظته وهدايته وتشريعه للناس أحكامًا تنطبق على مصالحهم ما دامت الدنيا، وانتظام السعادة بالمحافظة عليها في الأولى والأخرى.
ولما لم يدع قاعدة من أصول الفضائل إلا جلاها ولا أُمّا من أمهات الصالحات إلا أحياها ختمت النبوات بنبوة محمّد ، وانتهت الرسالات برسالته، قال الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5224)
فضل الأخوة والصحبة والألفة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأخوة الإيمانية. 2- حقوق الأخ المسلم على أخيه المسلم. 3- الحث على ترك الضغائن والأحقاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن التحاب في الله تعالى والأخوة في دينه من أفضل القربات وألطفِ ما يُستفاد من الطاعات في مجاري العادات، وقد ورد في فضل الأخوة آيات كريمات وأخبار عاليات، قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وقال : ((المؤمن أَلِفٌ مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف)) ، وعنه : ((من أراد الله به خيرًا رزقه خليلاً صالحًا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه)) ، وعنه : ((ما زار رجل رجلاً في الله شوقًا إليه ورغبة في لقائه إلا ناداه مَلَك من خلفه: طبت وطاب ممشاك، وطابت لك الجنة)).
واعلم أن لأخيك عليك في أخوته وصحبته حقوقًا يجب الوفاء بها، فمنها حق في المال، بأن تقوم بحاجته من فضل مالك، أو تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه رتبة الصديقين، وحقّ في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات مع البشاشة وإظهار الفرح، وحقّ على اللسان في السكوت عن عيوبه، وفي ترك مماراته، وفي النطق بالمحابّ تودّدًا إليه وتفقدًا لأحواله، وحقّ في العفو عن الزلات والهفوات، وحقّ في الدعاء له في حياته ومماته كما يدعو لنفسه، وحقّ في الوفاء والإخلاص، وذلك بالثبات على الحبّ وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، وحق في التخفيف وترك التكلف والتكليف، فلا يكلّف أخاه ما شقّ عليه، بل يروّح سره من مهماته وحاجاته.
وجملة حقوق المسلم أن تسلّم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وقال : ((لا تتحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله)).
فاتركوا الضغائن من قلوبكم والأحقاد، وتصافحوا على المحبة وسلامة الصدر والإيثار وصدق الوداد، وليعتذر كل منكم لأخيه عما فرط منه؛ ليفوز برضاء الله عنه، وفي الحديث عنه : ((رأس العقل بعد الدين التودّد إلى الناس واصطناع المعروف إلى كل بَرّ وفاجر)) ، وقال صلوات الله عليه لمعاذ: ((أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5225)
وجوب تعظيم النبي وعلائم محبته
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
محمد جمال الدين القاسمي
دمشق
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إتمام المنة ببعثة النبي. 2- التحذير من مخالفة أمر النبي. 3- تعظيم النبي وتوقيره. 4- المحبّ الصادق للنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الله تعالى أكمل المنة على المؤمنين، وأتم نعمته عليهم بإرسال خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، فهداهم من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة، وفتح به أعينا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا منةً وطَوْلاً، وأرشد به السبيل، وأقام به معالم البرهان والدليل نعمة وفضلاً، ورفع به للتوحيد أعلامًا، ومحا به من الشرك ظلامًا، ثم جعل محبته مشروطة بمحبته، وطاعته منوطة بطاعته، وذكره مقرونًا بذكره، وبيعته مقرونة ببيعته، فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه [النساء: 80]، وقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه [الفتح: 10].
ثم بين جل جلاله أن مخالفة أمر نبيه ضلال وخسران، وأوعد عليه بالعذاب والخسران [1] ، فقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وقال سبحانه: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].
فحذر سبحانه وأوعد، وأقسم وأكد؛ ليعلموا أن من شُعب الإيمان وكمال الإسلام والإيقان اتباع سنته والتسليم لقضيته وتوقيره وتعظيمه وإجلاله وتكريمه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45]، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9]، قال ابن عباس وغيره: (أي: تبالغوا في تعظيمه).
ألا وإن من تعظيمه وتوقيره المطلوب إيثار حبه على كل محبوب، فقد قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). ومن توقيره وحبه ذكر شمائله التي تهز أعطاف المحبين، ونشر فضائله التي تزيد في إيمان المؤمنين، وإيراد سيرته وما كان عليه من الأخلاق تسليكًا للمتَّبِعين.
ثم هل تدرون مَنْ المحب للنبيّ والصادق في محبته وإجلال قدره المعظم؟ المحب للنبي هو القائم بامتثال أوامره ونشر هديه الأكمل والاعتصام بسنته والحض عليها وإحيائها بالطلب والعمل، المحب للنبي هو المتخلق بأخلاقه الجليلة والمتحقق بآدابه الجميلة، المحب للنبي هو من تظهر علامات الحب على أحواله من الاقتداء به واتباع أقواله وأفعاله.
فليتخلق بأخلاقه الطاهرة من كان صادق الحب مخلص اليقين سليم القلب، ولكن ما أكثر المدعين، وما أقل المخلصين.
عجبًا لابن آدم! يفهم ما يضره مما ينفعه، ويسمع ولكن قلما يعمل بما يسمعه، ويحضره العزم في مجلس الذكر إلا أنه يقوم ويدعه، فإلى كم تهزّه العبر وهو كالطفل كلما حُرِّك نام، ويقتحم المعاصي الكُبر ويقول: إن الله ذو مغفرة، وينسى أنه ذو انتقام، فوا خجلَ المقصرين من التوبيخ في محفل القيامة، ويا سوء منقلب الظالمين عند حلول الندامة، ويا حسرات الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا هوان المتكبرين إذا حرموا دار الكرامة. فرحم الله امرأ رجع إلى ربه سريعًا قبل أن يقع لجنبه صريعًا، وألقى إلى الموعظة قلبًا وسمعًا سميعًا قبل أن لا يسمع في مقام السؤال إلا توبيخًا وتقريعًا.
اللهم تداركنا برحمتك إنك أرحم الراحمين، وجُد علينا بمغفرتك إنك خير الغافرين.
[1] قال صاحب مجلة المنار: لعله أراد أن يقول: (والافتتان) فسبق القلم، أو قاله فحُرف في الطبع.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5226)
اختر لنفسك خاتمتها
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الموت والحشر
محمد بن علي الغروي
الشقيق
جامع أبي بكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت حق. 2- اختلاف الناس عند الموت. 3- قصص لحسن خاتمة بعض التائبين. 4- قصص لسوء خاتمة بعض أهل المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، اتقوا الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، ويقول سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 57].
فالموت ـ عباد الله ـ مصير كل حي، الموت نهاية كل إنسان، لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف ووضيع، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]. يفر ويهرب منه الجميع وهو يطلبهم، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة: 8].
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متَى حُطّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيب
عبد الله، يقول الشاعر:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ الليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من عروس زينوها لزوجها وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبْر
وكم من فتًى يمسي ويصبح لاهيا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من ساكن عند الصباح بقبْره وعند المسا قد كان من ساكنِي القبْر
فداوم على تقوى الإله فإنها أمان من الأهوال في موقف الحشر
ويقول الآخر:
الموت فِي كل يوم ينشر الكفنا ونحن فِي غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلَى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابه الْحسنا
أين الأحبة والجيران؟ ما فعلوا؟ أين الذين كانوا لنا سكنا؟!
سقاهم الْموت كأسا غيْر صافية فصيرتْهم لأطباق الثرى رهنا
الموت لا خلاف فيه ولا ينكره أحد منا، وليست هذه قضيتنا، ولا الموت موضوعنا، فقد سبق لنا مع الموت خطب ووقفات، لكن قضيتنا: ما مواقف الناس عندما يحلّ بهم الموت؟ هل يستوون؟ لا، لا والله، لا يستوون.
عباد الله، الأمر الأدهى من الموت هو ما هي الحال الذي يموت عليها العبد من حسن خاتمة أو سوئها، ومن محبة لقاء الله أو كراهيته، ومن حسن الظن بالله أو عدمه. إن بين الناس في مشاهد الاحتضار وقبل الموت بساعات أو دقائق مشاهد شتى وأمورا مختلفة، نحن اليوم مع قصة النهاية، نعم النهاية التي لطالما غفلنا عنها أو تغافلنا مع استيقاننا بها أشد اليقين، إنها اللحظات الأخيرة التي يكون فيها الزفير في أشدّه والروح في طريقها للخروج، والمهم هنا وقبل الوداع وفي الدقائق الأخيرة من العمر بماذا سيتلفظ الإنسان؟ وعلى ماذا سيموت؟
أيها الإخوة، للناس قبل الموت مواقف، فمنهم من حسُن عمله فيختم له بخير، فيموت مصليا راكعا أو ساجدا أو قارئا للقرآن تاليا متدبّرا أو معتمرا أو حاجا ملبيا، ونستعرض وإياكم في هذه الدقائق بعضا من الصور الحسنة لمن هداهم الله للصلاح، وثبتهم على دينه إلى الممات، فحسنت لهم الخاتمة، وكسبوا خير الآخرة.
عباد الله، الشيطان يغتنم غفلة القلب وظلامه وضعفه ليستولي عليه، وممن استحوذ عليهم الشيطان فترة من الزمن ثم أيقظ الله قلوبهم ونور بصائرهم فحسنت خاتمتهم ما ذكره أحد الفضلاء الأخيار أن شيخًا من المدينة كان يحدّث عن شيخ نبيل يذهب إلى الدعوة إلى الله خارج البلاد، وفي إحدى سفراته رأى شابين يريدان السفر إلى بلاد الانحلال، وغيَّرا هيئتهما، فلبسا لباس الإفرنج، وينتظران الطائرة على أحرّ من الجمر، وكانا في ريعان الشباب، لا يتجاوزان الخامسة والعشرين. يقول الداعية: فسألت نفسي وقلت: إلى أين يذهبون؟ وفي أي وحل يتلطخون؟ وعلمت أنهما ذاهبان إلى بلد لا يذكر فيه اسم الله، بلد اشتهر بالخنا والزنا والفجور والخمور، يقول: فتاقت نفسي إلى نصيحتهم لعل الله أن ينقذهما على يدي، وتردّدت في أول الأمر، وأصابني نوع من الحياء والخجل، وأراد الشيطان أن يثنِيَني عن دعوتهما وإرشادهما وإنقاذهما وهدايتهما للدلالة والإرشاد، ولكني تذكرت أن الله تعالى أخذ علينا الميثاق بالنصح والبيان. يقول الداعية: فعزمت على دعوتهما ونصحهما، فاقتربت منهما ثم سلمت عليهما وقلت: إلى أين السفر؟ قالا: إلى البلد الفلاني، فقلت لهما: وما الغرض من السفر؟ قالا: للنزهة والترويح عن النفس واستجابة لداعي الهوى. يقول: فتأثرت لذلك أعظم التأثر وقلت لهما: ما موقفكما لو سقطت بكما الطائرة أو احترقت ومات من فيها وأنتما منهم؟! ما الذي تقابلان الله تعالى به؟! هل استعددتما للموت وأخذتما له عدته وأهبته؟! هل علمتما أنكما ستعودان إلى الله تعالى وأنه سيسألكما عن عمريكما وشبابكما: ماذا أفنيتماه فيه وأبليتماه فيه؟! يقول: وأهلت عليهما وابلا من الوعظ والإرشاد، ففكرا قليلا ثم قالا: يا شيخ، قد علمنا خطر الذهاب إلى بلاد الانحلال والفجور، ولكن ما السبيل والخلاص من ذلك؟ قلت لهما: ابقيا في بلاد المسلمين ومع المسلمين، واستفيدا من توجيهات الإسلام، واسألا العلماء، واصحبا أهل الخير والصلاح، فقالا: كيف نعود وقد ذكرنا لأهلنا سفرنا وعودتنا صعبة؟! فقلت لهما: عودا مع هذا الشاب الذي خرج لتوديعي، فإنه سيدلّكما على الطريق المستقيم، فسمعا نصيحتي، وعادا مع ذاك الشاب الموفّق، فدلهما بالعودة إلى البيت الحرام والصلاة في المسجد الحرام والمتاجرة الرابحة مع الرب تعالى، فوافقا على ذلك، وسهرا معه تلك الليلة على مائدة ذكر وجلسة علم. وبعد صلاة الفجر يمّما وجهيهما شطر المسجد الحرام، مضيا في ذكر وتسبيح ودعاء، قالا: هذه الراحة التي نعيشها هذه اللحظات كنا في بعد عنها، ولما وصلا إلى الميقات أحرما منه، وأخذا يلبيان: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، وقد كانوا قبل ذلك يلبون للهوى والشهوة، فسبحان مقلب القلوب والأبصار! توجها للحرم المكي الشريف ولساناهما لا يفتران أو يتوقفان من التلبية، وفي منعطف من المنعطفات انقلبت بهما السيارة، فماتا جميعا ولساناهما بذكر الله يلهجان، وودعا الدنيا بلباس الإحرام، ويسر الله لهما طريق الهداية، وصرفهما عن طريق الغواية، ورزقهما حسن الخاتمة. ولم يكن بين موتهما وبين عزمهما على السفر لبلاد الفجور إلا يوم أو قريب منه، وهذا الفضل نالاه بتوفيق الله ثم بمصاحبة الأخيار، فما أحلاها من توبة، وما أحسنها من خاتمة.
ولعل مثل هذه القصة قصة رجل سكن في حي من الأحياء، وكان جاره من الصالحين، وقد لاحظ هذا الجار عدم صلاة جاره الجديد في المسجد، فساءه الأمر، وذهب إليه، وحياه ودعاه إلى وليمة، ثم زاره أخرى ودعاه للصلاة في المسجد، فالتمس أعذارا واهية لا تبرئه أمام الله، وكرر عليه النصيحة عدة مرات حتى قال المتخلف عن الصلاة: سأذهب معك لصلاة المغرب، ولا تدعوني بعدها، فوافق، وبعد انتهاء الصلاة قام أحد الواعظين يعظ، وأطال موعظته إلى العشاء، وتكلم عن صلاة الجماعة وأهميتها، وحان وقت صلاة العشاء، فصليا مع المسلمين ثم خرجا من المسجد، فقال المتخلف عن الصلاة لجاره: جزاك الله عني خيرا، وإني نادم أشدّ الندم على ما مضى من الحياة، ولكن ـ يا جاري ـ أريد منك تلبية طلبي، قال: وما هو؟ قال: أن توقظني لصلاة الفجر حتى أصلّي مع الجماعة في المسجد، ثم ودعه ومضى إلى منزله ودخل داره، فلما رأته زوجته استغربت سرعة مجيئه؛ لأنه كان من أهل السهر الطويل على المعصية، ففرحت بدخوله، وفاجأها بقوله: أيقظيني لصلاة الفجر، فبكت من شدة الفرح وقالت: الحمد لله مقلب القلوب والأبصار، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وذهب هذا التائب إلى فراشه ونام النومَة الصغرى ثم النومة الكبرى، وأذن لصلاة الفجر، فخرج جاره إلى المسجد ومر عليه ليوقظه، وطرق الباب ففتحت زوجته وقالت: قد أيقظته فما استيقظ، ولم تستغرب المرأة ذلك بناء على سابق عهده؛ إذ كان لا يستيقظ لصلاة الفجر، وحاول جاره إيقاظه بكل وسيلة ولكن دون جدوى، فتلمس حواسه وحرّكه فوجده قد مات، ولعله أن يكون من التائبين إلى الله، ولعل توبته نصوح، ونسأل الله أن يجزيه بالإحسان إحسانا وبالإساءة عفوا وغفرانا، صلى المغرب والعشاء ونوى الفجر مع الجماعة، ما أحلاها من توبة وما أحسنها من خاتمة.
عباد الله، وممن حسنت لهم الخاتمة شاب معاكس وقد حدثت هذه القصة في أسواق العويس بالرياض، يقول أحد الصالحين: كنت أمشي في سيارتي بجانب السوق، فإذا شاب يعاكس فتاة، يقول: فترددت هل أنصحه أم لا؟ ثم عزمت على أن أنصحه، فلما نزلت من السيارة هربت الفتاة، والشاب خاف؛ توقعوا أني من الهيئة، فسلمت على الشاب وقلت: أنا لست من الهيئة ولا من الشرطة، وإنما أخٌ أحببت لك الخير، فأحببت أن أنصحك، ثم جلسنا وبدأت أذكره بالله حتى ذرفت عيناه، ثم تفرقنا وأخذت تلفونه وأخذ تلفوني، وبعد أسبوعين كنت أفتّش في جيبي فوجدت رقم الشاب فقلت: أتّصل به وكان وقت الصباح، فاتصلت به قلت: السلام عليكم فلان هل عرفتني؟ قال: وكيف لا أعرف الصوت الذي سمعت به كلمات الهداية وأبصرت النور وطريق الحق؟! فضربنا موعدا للقاء بعد العصر, وقدّر الله أن يأتيني ضيوف, فتأخرت على صاحبي حوالي الساعة، ثم ترددت هل أذهب له أو لا، فقلت: أفي بوعدي ولو متأخرا, وعندما طرقت الباب فتح لي والده فقلت: السلام عليكم، قال: وعليكم السلام، قلت: فلان موجود؟ فأخذ ينظر إليّ، قلت: فلان موجود؟ وهو ينظر إلي باستغراب، قال: يا ولدي، هذا تراب قبره قد دفناه قبل قليل، قلت: يا والد، قد كلمني الصباح! قال: صلى الظهر ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن وعاد إلى البيت ونام القيلولة، فلما أردنا إيقاظه للغداء فإذا روحه قد فاضت إلى الله، يقول الأب: ولقد كان ابني من الذين يجاهرون بالمعصية، لكنه قبل أسبوعين تغيرت حاله وأصبح هو الذي يوقظنا لصلاة الفجر بعد أن كان يرفض القيام للصلاة ويجاهرنا بالمعصية في عقر دارنا، ثم منّ الله عليه بالهداية، ثم قال الرجل: متى عرفت ولدي يا بني؟ قلت: منذ أسبوعين، فقال: أنت الذي نصحته؟! قلت: نعم، قال: دعني أقبّل رأسا أنقذ ابني من النار، فما أحلاها من توبة وما أحسنها من خاتمة.
ومثله توبة محمد، يقول أحد الشباب: نحن مجموعة من الشباب ندرس في إحدى الجامعات، وكان من بيننا صديقٌ عزيزٌ يقال له: محمد، كان محمد يحيي لنا السهرات ويجيد العزف على النّاي حتى تطرب عظامنا، والمتفق عليه عندنا أن سهرة بدون محمد سهرةٌ ميتة لا أنس فيها، مضت الأيام على هذا الحال، وفي يوم من الأيام جاء محمد إلى الجامعة وقد تغيّرت ملامحه، ظهر عليه آثار السكينة والخشوع، فجئت إليه أحدّثه فقلت: يا محمد، ماذا بك، كأن الوجه غير الوجه؟! فرد عليه محمد بلهجة عزيزة وقال: طلّقت الضياع والخراب، وإني تائبٌ إلى الله، فقال له الشاب: على العموم عندنا الليلة سهرة لا تفوّت، وسيكون عندنا ضيفٌ تحبه، إنه المطرب الفلاني، فردّ محمد عليه: أرجو أن تعذرني فقد قررت أن أقاطع هذه الجلسات الضائعة، فجنّ جنون هذا الشاب، وبدأ يرعد ويزبد، فقال له محمد: اسمع يا فلان، كم بقي من عمرك؟ ها أنت تعيش في قوة بدنية وعقلية، وتعيش حيوية الشباب، فإلى متى تبقى مذنبًا غارقًا في المعاصي؟! لِمَ لا تغتنم هذا العمر في أعمال الخير والطّاعات؟! وواصل محمد الوعظ، وتناثرت باقة من النصائح الجميلة من قلبٍ صادق من محمد التائب: يا فلان، إلى متى تسوّف؟! لا صلاة لربك، ولا عبادة، أما تدري أنك قد تموت اليوم أو غدًا؟! كم من مغترٍّ بشبابه وملك الموت عند بابه! كم من مغترّ عن أمره منتظرًا فراغ شهره وقد آن انصرام عمره! كم من غارقٍ في لهوه وأنسه وما شعر أنه قد دنا غروب شمسه! يقول هذا الشاب: وتفرّقنا على ذلك، وكان من الغد دخول شهر رمضان، وفي ثاني أيام رمضان ذهبت إلى الجامعة لحضور محاضرات السبت، فوجدت الشباب قد تغيّرت وجوههم، قلت: ما بالكم؟! قال أحدهم: محمدٌ بالأمس خرج من صلاة الجمعة فصدمته سيارة مسرعة، لا إله إلا الله! توفاه الله وهو صائم مصلّي، الله أكبر! ما أجملها من خاتمة. قال الشاب: صلينا على محمّد في عصر ذلك اليوم، وأهلنا عليه التراب، وكان منظرًا مؤثرًا.
عباد الله، هؤلاء الشباب، نعم أغواهم شيطانهم في يوم من الأيام، ولكن كان أن تابوا فأصلح الله لهم التوبة وأحسن له الخاتمة. فهلموا ـ عباد الله ـ إلى توبة ختامها مسك وإحسان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، استعرضنا وإياكم في الخطبة الماضية بعض القصص لمن حسنت لهم الخاتمة، ونحن في هذه الدقائق المعدودة نطلّ بكم على الطرف النقيض، فكما أن من الناس من يتوب ويصلح حاله فختم الله له بخير، إلا أن هناك من الناس من لا يرجع عن غيه ولا يتوب من فعله حتى تأتيه مصيبة الموت ويدركه ما لا مفرّ منه الأجل المحتوم والقدر المكتوب وهو بلا زاد ولا إحسان.
هذا عرض سريع لبعض القصص مع بعض من عاش في المعصية وشرب من كأس الموت وسوء الخاتمة:
ذكر هشام عن أبي حفص قال: دخلتُ على رجلٍ بالمصّيصة ـ مدينة على شاطئ جيحان ـ وهو في الموت، فقلت: قل: لا إله إلا الله، فقال: هيهات حيل بيني وبينها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ ـ اسمان لحجرين من أحجار الشطرنج؛ لأنه في حياته كان مفتونًا به ـ غلبتك ثم مات. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تِنتِنا تنتنا حتى مات. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ارتكبتها، ثم مات ولم يقلها. وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عنّي وما أعرف أني صليت لله صلاة، ثم قُضي ولم يقلها.
ومثلهم شابٌ في سكرات الموت يقولون له: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله؛ علّه يختم لك بها، فيقول: أنا بريءٌ منها، أعطوني دخانًا. وشابٌ آخر كان صادًّا ونادًّا عن الله سبحانه وتعالى، وحلت به سكرات الموت التي لا بد أن تحلّ بي وبك، جاء جُلاّسه فقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكلّ كلمة ولا يقولها، ثمّ يقول في الأخير: أعطوني مصحفًا، ففرحوا واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله فيختم له بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده وقال: أشهدكم إني قد كفَرت بربّ هذا المصحف.
ووقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب كانوا يستقلون سيارة واحدة، تُوفي اثنان وبقي الثالث في الرمق الأخير، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عن نفسه ويقول: أنا في سَقَر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك.
أيها المسلمون، ما عرِضَت هذه القصص لنقل الغرائب والعجائب من قصص أولئك، لكنها نقلت للعبرة والعظة، فاختاروا لأنفسكم طريقا بيّنا وصراطا مستقيما تحيون عليه في دنياكم؛ حتى تلاقوا ربكم وهو راض عنكم، وينالكم من الختام مسكه.
نسأل الله حسن الختام والجنة يوم المعاد، اللهم آمين.
عباد الله، هذا وصلو وسلموا على خير البرية...
(1/5227)
الجريمة الخبيثة وفيروس الحب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الأبناء, الكبائر والمعاصي
محمد بن علي الغروي
الشقيق
جامع أبي بكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب الحديث عن هذا الموضوع. 2- أهمية التوحيد. 3- إهلاك الله تعالى للأقوام الذين عصوا رسلهم. 4- هلاك قوم لوط. 5- خطورة عمل قوم لوط. 6- مفاسد جريمة اللواط. 7- حكم اللوطي. 8- انتشار هذه الجريمة في العصر الحاضر. 9- تحريم إتيان المرأة في دبرها. 10- أضرار جريمة اللواط على الدين والخلُق والصحة. 11- فيروس الحب. 12- وسائل للتخلص من هذا الداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، فكرت في موضوع لمقامي هذا، فوجدت موضوعا خطيرا ومرضا جسيما استحييت من طرحه، ولكن عندما رأيت المرض قد استشرى والخطر قد عظم وتاه كثير من الآباء عن الأبناء وكثُر من أحبَّ الفاحشة وظهورَها والمعصية والمجاهرةَ بها وقلَّ الوازع الديني والخوف من الله وقلّ الزواج المبكّر وكثرت الشهوة المحرمة استعنتُ بالله، وقد شدَّ من أزري تحذيرُ الله في كتابه ومحمد في سنته، فقلت:
عباد الله، احمدوا الله ربكم واشكروه على نعمه، فأنتم تتقلبون في خير مدرار ونعم غزار، لا يحصيها محصٍ ولا يعدها عادّ ما تعاقب الليل والنهار، واتقوه سبحانه فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، عز جاهه وتباركت أسماؤه.
أيها المسلمون، إن رأس المال الذي لا غنى عنه لعبد في كل وقت تحقيق العبودية وتمحيص التوحيد لله سبحانه، فعلى ذلك فطر الله الناس، وبذلك أمرهم، ولأجل ذلك بعث المرسلين في كل أمة وجدت على وجه البسيطة، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل: 36]، ولذا كان كل نبي يبعثه الله إلى قوم يبادر إلى أمرهم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قائلاً لهم: ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [المؤمنون: 23]. وبعد بيان ذلك وإقامة البراهين عليه يعرج كل نبي على أبرز المعاصي والمخالفات التي يقع فيها قومه، فيحذرهم منها، ويبين لهم عاقبتها وخطورة أمرها، فمن تاب وأناب تاب عليه ربه وأنجاه، وَنَجَّيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت: 18]، ومن كفر واستكبر وطغى وتجبر وعصى المرسلين واستمر في غيّه وعدوانه حاق به العذاب الأليم بصنوفٍ وأشكال يقدرها الله القوي العزيز، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
وقد حكى الله تعالى لأمة محمد في القرآن الكريم قصص أولئك الأقوام الذين عصوا ربهم واستكبروا لتحذر ذلك المصير وتأخذ العظة والعبرة، ومن أولئك الأقوام العصاة الذين نزل بهم بأس الله الشديد قوم كفروا بربهم، وزادوا على الكفر ارتكاب فاحشة لم يسبقوا إليها، خالفوا فيها الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فوقعوا في تلك الفاحشة العظيمة والفعلة القبيحة التي تأنف منها المخلوقات، حتى البهائم والعجماوات لم تصنع كصنيعهم، ولم يزل نبيهم عليه الصلاة والسلام يحذرهم وينذرهم ويذكرهم بربهم ويبين لهم شناعة ما اقترفوه وولغوا فيه، فمرة يقول لهم: أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [الأعراف: 80، 81]، ومرة يقول: أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 54، 55]، ولكنهم لم ينتهوا، بل طغوا واستكبروا وتحدوا، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56]، فلما نكصوا على أعقابهم وأصروا على كفرهم ومعصيتهم جاء القدر المقدور والأمر الذي لا يُردّ من رب العالمين، فعذِّبوا وأهلكوا بعذاب لم يسبق مثله لأمة من الأمم جزاءً لهم على كفرهم وفعلهم هذه الفاحشة التي لم يسبقوا إليها، فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ ، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً من طين معدة لذلك قوية شديدة، يتبع بعضها بعضًا في نزولها عليهم".
عباد الله، وإن مما قدره الله تعالى أن أناسًا من هذه الأمة يقعون في تلك الفعلة العظيمة والفاحشة الشنيعة، ولما كان فعل قوم لوط أعظم الفواحش وأضرها على الدين والمروءة والأخلاق فهو داء عضال متناه في القبح والشناعة، وهو شذوذ عن الفطرة وانحراف عن الجادة، يمجّه الذوق السليم، وتأباه الفطرة السوية، وترفضه وتمقته الشرائع السماوية، لما له من عظيم الأضرار وما يترتب عليه من جسيم الأخطار، فآثاره السيئة يقصر دونها العدّ، وأضراره المدمرة لا تقف عند حد، فشأنه خطير، وشره مستطير، يفتك بالأفراد، وينهك المجتمعات، ويمحق البركات والخيرات، ويتسبب في وقوع العقوبات وحلول النكبات، لما كان الأمر كذلك فإنه ليس من بدع القول أن يتكلم فيه خطيب أو يتحدث في خطره داعية، فنصوص القرآن والسنة جاءت فيه محذرة ومن عقوبته منذرة، كما تكلم في ذلك السلف الصالح وألف فيه العلماء مؤلفات وكتبًا، ويكفي من ذلك كله أن القرآن الكريم أشار إلى ذلك الفعل وذكر عقوبة من وقع فيه في آيات عدة تتلى إلى يوم القيامة، ومن هنا ـ أيها المسلمون ـ لا غرو ولا عجب في طرح مثل هذا الموضوع بيانًا وتحذيرًا، والله تعالى أعلم وأحكم بما يصلح لعباده.
عباد الله، فلعن الله من عَمِلَ عمل قوم لوط وركب المردَ والغلمان وسبّب الفساد ودعا إليه وأنفق ماله فيه، تلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء التي هي مَفسدةٌ للدين والدنيا وهدم للأخلاق ومحق للرجولة وفساد للمجتمع وقتل للمعنويات وذهاب للخير والبركات وجلب للشرور والمصائب، إنها معول هدم وخراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار، والعقول والفطر السليمة تنكره وترفضه، والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته، ذلك لأن اللواط ضرر عظيم وظلم فاحش، فهو ظلم للفاعل بما جرّ إلى نفسه من الخزي والعار، وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها، فكان بين الرجال بمنزلة النساء، لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت، وهو ظلم للمجتمع كله بما يفضي إليه من حلول المصائب والنكبات، ومتى فشت الفاحشة في مجتمع من المجتمعات ولم يعاقبهم الله بدمار الديار فإنه سيحل بهم ما هو أعظم من ذلك، سيحل بهم انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول، حتى يسكتوا على الباطل، ويزين لهم سوء عملهم فيروه حسنًا، وكذلك تفشو فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم.
ولما كانت جريمة فاحشة اللواط من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات، فعقوبتها القتل والإعدام، قال رسول الله : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ، واتفق جمهور الصحابة أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لم يختلف أصحاب رسول الله في قتله سواء كان فاعلاً أو مفعولاً به، ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم: يرمى بالحجارة، وقال آخرون: بل يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت، وقال بعضهم: يحرق بالنار"، فالفاعل والمفعول به إذا كان راضيًا كلاهما فعقوبتهما الإعدام بكل حال، سواء كانا محصنين أم غير محصنين لعظم جريمتهما وضرر بقائهما في المجتمع؛ لأن بقاءهما قتلٌ معنوي لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة، ولا شك أن إعدامهما خير من إعدام الخلُق والفضيلة.
وأي معصية يعافها الذوق وتنفر منها الطباع السليمة مثل اللوطية التي لا تفعلها الحمير، ولا ترضى بها الكلاب ولا الخنازير؟! فكيف يرضى بها بشر سوي منحه الله عقلاً يفكِّر به؟! فداء اللوطية داء عضال، والمصاب بها عضو مسموم في جسم الأمة، يجب قطعه قبل أن يسري منه الداء إلى غيره، وهي نتيجة الترف والتمادي في الشهوات، قال الفضيل بن عياض: "لو أن لوطيا اغتسل بكل قطرة من السماء لقي الله غير طاهر"
و مما قيل في ذم هذه الجريمة:
كلوا واشربوا وأكثروا فإنْ نَّ لكم زفا إلى ناره الكبْرى
فإخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم وقالوا: إلينا عجلوا البشرى
وها نحن أسلاف لكم فِي انتظاركم سيجمعنا الجبار فِي ناره الكبْرى
ولا تحسبوا أن الذين نكحتموا يغيبون عنكم بل ترونهم جهرا
ويلعن كل منكم لِخليله ويشقى به المحزون فِي الكرة الأخرى
يعذب كل منهم بشريكه كما اشتركا فِي لذة توجب الوزرا
عباد الله، وما كنا لنصدق زفاف الرجال على الرجال وعقد القران عليهم إلا في هذا الزمن الذي كثر شر أهله، ويشك كثير من أهل الفطر السليمة وجود هذا في مجتمعات اليوم التي تدّعي التحضر والمدنية، ولولا الدعوة الصريحة لذلك في مؤتمرات الانحطاط العالمية مؤتمرات السكان وحقوق الإنسان التي تنعقد على مرأى ومسمع الجميع والدعوة بالسماح للجنس الثالث بممارسة تلك الفاحشة وزواج الرجال من بعضهم ويعتبرون ذلك من حقوقهم كما يزعمون ويخدعون وبئس ما يقولون، لولا تلك الدعوات والمؤتمرات لما تمّ تصديقه، وقال عز وجل: فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج: 46].
والمسلم يصدّق بوقوع ذلك لأنه هو الواقع والمطالب به، ويصدق خبر رسول الله حين أخبر بأن من علامات الساعة اكتفاء الرجال بالرجال باللواط والنساء بالنساء بالسحاق وزفاف الغلمان من الرجال على الرجال من جنسهم كما تزف المرأة في ليلة زفافها وزواجها، وهذا واقع الآن في بعض البلاد الكافرة، ولم يعد الأمر خافيًا على أحد، بل أصبح علنًا والمطالبات به على مرأى ومسمع من العالم بأسره من خلال وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة والمؤتمرات المعلومة، وقد ذكر وقوع زلزال في دولة غربية منحطة عندما احتفلوا بعقد قران رجل على رجل في ليلة من تلك الليالي، فأذاقهم الله العذاب العاجل قبل الآجل، ونسمع عن أشياء يندى لها الجبين ويتنزه عنها المقام من الذين خرجوا عن الفطرة حتى صاروا أخس من العجماوات والحيوانات التي تطلب إناثها بدافع الشهوة، ولكنها تطلب النسل الذي به يحفظ كل نوع منها، فصار أولئك القوم أحط منها، نسأل الله العافية مما ابتلاهم.
عباد الله، ومما يجدر التنبيه له أن من اللواط والجرم الكبير الذي استهان به بعض الناس إتيان المرأة في دبرها، فبعض الشاذين من ضعاف الإيمان لا يتورع عن إتيان امرأته في دبرها، وهذا من الكبائر، وقد لعن النبي من فعل هذا، فعن أبي هريرة مرفوعا: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) ، بل إن النبي قال: ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد)) ، نسأل الله العفو والعافية.
اللهم إنا نعوذ بك من المعاصي ومن شر المعاصي وأن نكون من أهل المعاصي.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لهذه الجريمة أضرار عظيمة في الدين والخلُق والصحة، نذكر لكم بعضا منها:
أما ضرره على الدين فهو كبيرة من كبائر الذنوب، متوعد صاحبها باللعن، قال : ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولكن نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا، فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر... ـ إلى أن قال رحمه الله: ـ فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعُد ممن هو طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد بعدا من الله".
وأما أضراره الخلقية فكثيرة جدا، فجريمة اللواط لوثة خلقية وانحراف عن الفطرة السوية، وهو سبب لقلة الحياء وسوء الخلق وبذاءة اللسان وقسوة القلب وانعدام الرحمة وقتل المروءة وذهاب الرجولة والشهامة والشجاعة والنخوة والعزة والكرامة وحب الجريمة والجرأة عليها، وهو موجب للذلة والحقارة وسقوط الجاه والمنزلة، كما أنه سبب لذهاب الغيرة من القلب وحلول الدياثة، نعوذ بالله من سوء العمل.
أما أضراره النفسية فالخوف الشديد والوحشة والاضطراب والحزن والعذاب والقلق، كما تجعل صاحبها عرضة للإصابة بالأمراض العصبية الشاذة والعلل النفسية الشائنة وغيرها.
أما أضراره الصحية فحدث ولا حرج، فها هو الطب الحديث يكتشف لنا بين الفينة والأخرى كارثة من كوارث الشذوذ الجنسي، وما إن يجد الأطباء علاجا نافعا لمرض من الأمراض إلا ويستجد مرض جديد يشغلهم عن سابقه، وهذا مصداق لقول الرسول : ((لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)).
فمن أضراره الصحية:
1- الرغبة عن المرأة والعزوف عنها، وقد يبلغ به إلى حد العجز عن مباشرتها.
2- التيفوييد والدوسنتاريا، فهو يسبب العدوى بالحمى التيفودية والدوسنتارية، وغيرها من الأمراض الخبيثة التي تنتقل عن طريق التلوث بالمواد البرازية.
3- الزهري: أما عن أسبابه فإنه لا يوجد لهذا المرض الخطير سبب غير العلاقة الجنسية المحرمة والوطء في نكاح محرّم غير صحيح، فلا يمكن أن ينتج عن وطء حلال. أما أعراضه فمنها ما يظهر على شكل تقرحات على الأعضاء التناسلية، ومنها ما يكون داخليا، فيظهر على كبد المريض ومعدته وأمعائه وبلعومه، ويسبب الشلل وتصلّب الشرايين والذبحة الصدرية.
4- ومن أضراره الإيدز، وهو معروف مشهور.
5- والهربس الذي أوضح تقرير وزارة الصحة الأمريكية أنه لا علاج له إلى الآن، وأنه يفوق في خطورته السرطان.
عباد الله، وقبل أن يفيق العالم من هول الصدمة التي أحدثها الإيدز ظهر لنا مرض جديد أشد افتراسا وأعظم وطأة من الإيدز، بل إن الإيدز كما يؤكد الدكتور "كينث مور" مكتشف هذا المرض يعد لعبة أطفال مقارنة بهذا المرض الذي سماه الدكتور "مور": فيروس الحب أو مرض الحب. أما أعراض هذا المرض فإنه بعد ستة أشهر من استلام الجسم لهذا الفيروس العجيب يمتلئ جسم المريض بأكمله بالبثور والقروح والتقيحات، ويستمر نزيف المريض إلى أن يموت.
عباد الله، هذا شيء قليل من أضرار هذه الجريمة البشعة، فهل يليق بعاقل أن يسلم قياده لنزوة خاطئة أو لذة عابرة ثم يدفع بعدها الثمن غاليا؟!
وأخيرا، هذه بعض السبل المعينة للتخلص من هذا الوبال لمن زلت قدمه وكان أن ابتلاه الله.
فيا من ابتلي، الله الله بالتوبة النصوح، فباب التوبة مفتوح، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، عليك بالإخلاص لله والصبر ومجاهدة النفس ومخالفة الهوى، ولو لم يأت الإنسان من مجاهدة نفسه ومخالفة هواه إلا أن ينعتق من رقّ الهوى وسلطان الشهوة، وما أجمل ما قيل:
رُبّ مستور سبته شهوة فتعرّى ستره فانهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكا
وعلى من ابتلي بهذا الداء استشعار اطلاع الله جل وعلا.
وإذا خلوت بريبة فِي ظلمة والنفس داعية إلَى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لَها: إن الذي خلق الظلام يراني
وليمتلئ قلبه بمحبة الله، وليحافظ على الصلاة المكتوبة ويكثر من قراءة القرآن والذكر، وليبادر إلى الزواج، وليغض بصره، وليتذكر الحور العين.
أعاننا الله وكلّ مبتلى وعاصي على مفارقة المعاصي.
عباد الله، هذا وصلوا وسلموا على خير خلق الله...
(1/5228)
سعة رحمة الله تعالى
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الأسماء والصفات, التوبة
محمد بن إبراهيم النعيم
الهفوف
جامع الصيهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها. 2- من رحمة الله تعالى بعباده في الدنيا. 3- من رحمة الله تعالى بعباده يوم القيامة. 4- مفهوم خاطئ لرحمة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
في يوم من الأيام وأثناء مرور النبي في أحد طرق المدينة الضيّقة وحولَه حَشد من أصحابه رضي الله عنهم تصادف وجود صبيّ صغير يلعب في ذلك الطريق، فلمّا رأت أمّ الصبيّ القومَ قادمين خشِيت على ولدها أن يوطَأ من شدّة الزحام، فأقبلت إليه تسعَى وتهرول وهي تقول: ابني ابني، فلمّا أخذته وقد رأى الصحابة ذلك المشهَد العاطفي قالوا: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال لهم النبي : ((لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار)) رواه أحمد.
وروى زيد بن أسلم قال: كان النبي في بعض أسفاره فأخذ رجلٌ فرخَ طائر, فجاء الطيرُ فألقى نفسه في حجر الرجلِ مع فرخه, فأخذه الرجل، فقال النبي : ((عجبا لهذا الطائر! جاء فألقى نفسه في أيديكم رحمة لولده، فوالله، لله أرحم بعبده المؤمن من هذا الطائر بفرخه)) رواه البيهقي في شعب الإيمان والبزار.
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قُدِم على رسول الله بِسبي, فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله : ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهى تقدِر على أن لا تطرَحَه، فقال رسول الله : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) رواه مسلم.
أيها الإخوة في الله، هل تعرفون شيئا عن رحمة الله عز وجل؟ هل تذوَّقتم رحمة الله عز وجل؟ هل استغلَلتم رحمة الله عز وجل؟ هل عرفتم ماذا يريد منا أرحم الراحمين؟
لقد أمرنا الله تعالى بطاعته والدخول في رحمته ومخالفة الهوى والشيطان، ووضع لنا جائزة تلك الطاعة والاستجابة: نعيم دائم وقرة عين لا تنقطع في جنات تجري من تحتها الأنهار، وأخبرنا جل وعلا أن رحمته تسبق غضبه، وأن له مائة، رحمة أنزل واحدة بين سائر مخلوقاته في الأرض, وأخَّر الباقي لعباده يوم الحساب، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)) رواه مسلم.
فمن رحمته جل وعلا أنه سهَّل علينا التكاليف الشرعية، فأسهلُ الأعمالِ تدخلك في رحمته، ألم يغفرِ اللهُ لزانية لأنها سقت كلبًا كاد يموت من العطش؟! ألم يدخلِ اللهُ الجنة رجلا أزال غصن شوك من طريق الناس؟! أعطانا الكفارات ليَغفر لنا، وأرشدنا إلى أسهل الأدعية والتسبيحات التي إذا تلفظنا بها ثقلت موازيننا وغُفرت ذنوبنا ولو كانت مثل زبد البحر.
فمن رحمته عز وجل أنه أمرنا بسؤاله ليعطينا، بل أعطانا أعظم العطايا بلا سؤال، ووهب لنا نعمة السمع والبصر والنطق، ومع هذا فقد استخدم كثير من الناس هذه النعم في معصية الله تعالى ولم يشكروها، ومع كل هذا لم يؤيسنا ربنا من رحمته، بل قال: متى جئتني يا عبدي قبلتك، إن أتيتني ليلا قبلتك، وإن أتيتني نهارا قبلتك، وإن تقربت إلي شبرا تقربت منك ذراعا، وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، وإذا هممت بحسنة فلم تعملها كتبتها حسنة كاملة, وإذا هممت بسيئة فلم تعملها كتبتها حسنة كاملة, فمن أعظم من الله جودا وكرما؟!
فها هو يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فمنْ أرحم من الله عز وجل؟!
إن الله يتودد إلينا بالنعم، ونحن لا نستحي منه، فنجاهره بالمعاصي، ألم تسمعوا قول الله عز وجل في الحديث القدسي وهو يقول: ((عبادي يبارزوني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويُشكَر سواي، خيري إلى العباد نازل, وشرهم إليّ صاعد، أتحبّب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغّضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، مَنْ أقبلَ إليَّ تلقَّيته مِن بعيد، ومَنْ أعرض عني ناديته منْ قريب، ومَنْ ترك لأجلي أعطيته فوقَ المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرّف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنّطهم من رحمتي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم؛ فأنا أحبّ التوابين وأحبّ المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليَّ، فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، مَنْ آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئةُ عندي بواحدة، فإن ندِم عليها واستغفرني غفرتها له، أشكرُ اليسيرَ من العمل، وأغفرُ كثيرَ الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها)).
هذا شأن الرب جل جلاله مع عباده، فما شأننا مع أرحم الراحمين؟! ألم تروا ـ يا عباد الله ـ إلى من قتل مائة نفس كيف قبله الله وتاب عليه، لأنه هرول إلى الله، يريد أن يتوب، فأسرع اللهُ إليه بالتوبة والقبول؟! فمن تقرب إلى الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، ومن أتى إلى الله يمشي أتاه الله هرولة.
فمن رحمة الله تعالى أنه نادى أهل الإيمان وأخبرهم أن لو أسلم الكفار الذين قاتلوكم ونكلوا بكم فخلُّوا سبيلهم واعتبروهم إخوانكم، بعد كل الجرائم التي ارتكبوها لو عادوا إلى الله لقبل منهم، أحقا يفعل الرب ذلك؟! نعم, لأن رحمته وسعت كل شيء، ولأنه يحب التوابين, قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]، وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]، فكيف بالمسلم لو عاد إلى الله وتاب إليه واستغفره من ذنوبه؟!
هذه بعض صور رحمته التي لا تحصى في الدنيا, أما رحمته في الآخرة فحدث ولا حرج، فمن رحمته جل وعلا يوم القيامة بعباده ما رواه أبو ذر قال: قال رسول الله : ((إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ, وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا, رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا, فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ, فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: نَعَمْ, لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِر، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ, فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً, فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاهَا هَا هُنَا)) , فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رواه مسلم.
ومن رحمته جل وعلا بعباده يوم القيامة أيضا ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ, فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ, حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا, وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ, فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ, وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) رواه البخاري.
أسأل الله تعالى أن يدخلنا في رحمته ويجنبنا معصيته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، فهو أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمنا، وعليك توكلنا، وبك آمنا، وإليك أنبا, وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا, فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا, وما أسررنا وما أعلنا, أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاعلموا أن أعداء المسلم في هذه الحياة الذين يصدونه عن رحمة الله كثر، فهم يريدون المسلم أن يميل عن الدين ميلا عظيما باتباع الشهوات والوقوع في المحرمات، قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26-28].
فمن ابتعد عن الله فالله لا يزال يدعوه إليه ويقبله، يُحكى أن شابا من بني إسرائيل عبد الله عشرين سنة، فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا, أعجلتَ في التوبة والعبادة وتركت لذات الدنيا، فلو رجعت فإن التوبة بين يديك، قال: فرجع إلى ما كان عليه من لذات الدنيا، قال: فكان يوما في منزله قاعدا في خلوة، فذكر أيامه مع الله عز وجل فحزن عليها، فقال: تُرى إن رجعت يقبلني الله؟ فنودي أن يا هذا عبدتنا فشكرناك، وعصيتنا فأمهلناك، ولئن رجعت إلينا قبلناك.
أيها الإخوة في الله، لقد أمر الله عز وجل نبيه محمدا أن يخبر العالم أجمع بأن الله غفور رحيم, فقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49]، بل نادى ربنا جل وعلا كلَّ المجرمين الذين تمادوا في الذنوب والمعاصي وأسرفوا على أنفسهم، ناداهم نداءً خاصا بأن لا يقنطوا من رحمته، فقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]. هذه رحمة الله، وهذا هو عفو الله، فلنتب إليه، ولنخجل من مخالفة أمره.
إن كثيرا من الناس ما فهموا معنى رحمة الله، فلذلك تمادوا في المعاصي بحجة أن الله سيغفر الذنوب، وما علموا بأن الله جل وعلا قد اشترط لنيل رحمته قائلا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ [الأعراف: 156]. فيجب علينا الطاعة والاستجابة لأمره والإتيان بالأسباب التي ننالُ بها رحمة الله عز وجل، فلا تضع موانع تصدك عن الدخول في رحمته، فلا أحد أرحم منه جل وعلا، فمن يرزقنا غير الله؟! ومن يعطينا غير الله؟! والكل لا محالة راجع إليه، فبأي وجه سنواجهه وقد أسبغ علينا نعمه؟! فلنتب إلى الله, ولنتذلل بين يديه لعله يقبلنا، فلنتب إلى الله قبل أن يأتينا الموت فنندم ولات ساعة مندم، وليكن حالنا حال ذلك المتضرع الذي قال:
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي هو غافر هو راحم هو كافي
قابلتُهن ثلاثةً بثلاثةٍ وستغلبنَّ أوصافُه أوصافي
اللهم إن لم نكن أهلا لدخول رحمتك فإن رحمتك أهلٌ أن تبلغنا، اللهم إن رحمتك وسعت كل شيء ونحن شيء فلتسعنا رحمتك يا أرحمَ الراحمين، اللهم ما عصيناك تجرُّؤا على مخالفتك ولا استهانة بحقك ولا إنكارا لإطلاعك، ولكن غلبتنا أنفسنا، نستغفرك ونتوب إليك، فما قدرناك حق قدرك، وما عبدناك حق عبادتك، جل جلالك وعظم سلطانك وكثرت علينا آلاؤك، فاللهم أرجعنا إليك مخبتين فنحن عبيدك المقصرون، اللهم إنا نسألك بعزك وذلنا وقوتك وضعفنا وفقرنا وغناك عنا إلا رحمتنا هذه الساعة...
(1/5229)
القراءة النافعة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, العلم الشرعي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمرات القراءة النافعة. 2- مكانة القراءة عند العظماء. 3- الاهتمام بالنشء وتعوديهم قراءة النافع المفيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، إذا كان فئام يأنسون بلذائذ الطعام والشراب، وفئات يطربون بالسمر واللغو، وآخرون يتنزهون حبًا وشوقا وابتهاجًا، فإنه ثمة طبقة رفيعة وصنف متميز سام، جعل لذاذته وأشواقه في القراءة، وصرف وقته لنيل المعارف وتحصيل الدرر والفوائد.
غير خاف على أمثالكم أن القراءة النافعة هي زكاة العقل ورشاده وغذاؤه ونماؤه وزينته وجماله ونبله وسموه، والقراءة النافعة صلاح الإنسان وسلامته ونوره وأنسه وهدايته.
أجمع العقلاء قاطبة على شرف الإنسان بالقراءة ونبله بجمع المعرفة والثقافة، وأن اتساع عقله من اتساع ثقافته وجمالها؛ إذ النبيل يعطي القراءة حظًا وافرًا من حياته، ويمنحها صبرًا من جدّه وكفاحه، حتى تصير له كالغذاء والشفاء اللَّذين لو استغنى الجائع والمريض عنهما لوقع الضرر والفساد.
ماتطعمتُ لذة العيش حتى صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء عندي أعز من العلم فما أبتغي سواه أنيسا
إنما الذل فِي مخالطة الناس فدعهم وعش عزيزًا رئيسا
وكانت القراءة في حس أسلافنا الأقدمين منابع النور والهدى ومصابيح الغي والدجى وموارد الروح والحجى، وهي غذاؤهم الذي ليس فيه ملالة، وسعادتهم التي لا ترى السآمة، وزينتهم التي تكسوها الجلالة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "سمعت أنْ قلَّ رجل يأخذ كتابًا ينظر فيه إلا استفاد منه شيئًا". وكان الإمام محمد بن موسى الحازمي رحمه الله يدخل بيته في كل ليلة ويطالع ويكتب إلى طلوع الفجر، فقيل للخادم: لا تدفع إليه الليلة بُزرا ـ وهو دهن يوضع في السراج يستنار به ـ لعله يستريح الليلة، فلما جن الليل اعتذر إليه الخادم لأجل انقطاع البزر، فدخل بيته وصف قدميه يصلي ويتلو إلى أن طلع الفجر. وكان الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله يمشي وفي يده جزء يطالعه.
نعم المؤانس والرفيق كتابُ تخلو به إن ملَّك الأصحابُ
لا مفشيًا سرًّا ولا متكبرًا وينال منه حكمة وصوابُ
أيها الإخوة الكرام، في هذا العصر المتزاحم بالثقافات والمعارف والبحوث أضحت القراءة حسَّ كثيرين وحاجتهم ورغبتهم، لكن ماذا يقرأ الإنسان؟! هل أدركتم أن كثيرين اشتطّت أفكارهم عندما فسدت قراءاتهم؟ فذاك منهمك في المجلات الرياضية، يجمعها جمعًا ويفلّها فلا، وآخر في المجلات الفنية، خَدين أهل الدعارة والدياثة وفارقي العفة والحياء، وآخر في مسار الضائع المتذبذب لا يدري ما يقرأ، مرة في الرياضة، ومرة في الفن، ومرة في السفاهة، ومرة إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
كيف يعقل من يلتهم خمس صحف يومية ولا يقرأ كتاب رب البرية؟! وكيف يرشُد حاوي الأدبيات السخيفة ومُعرض عن الأحاديث النبوية المنيرة؟! عجبت ـ وايم الله ـ من ألمعيّ مغرَم بالقصص الفنية وقد غفل عن السيرة العطرة النبوية! ومن نابهٍ هاوٍ للمغامرات وناس ما لأهل الإسلام من فدائيات وبطولات!
أيها المسلمون، كيف يعرض المسلمون عن القراءة ودينهم دين العلم والقراءة، وأسلافهم صناع المعرفة والثقافة وأرباب الشغف بالمفيد والمطالعة؟! سيكون من المؤسف أن تحتاج أمتنا الإسلامية من يذكرها بمنافع القراءة وفي كتابها ومنهاجها أول كلمة نزلت: اقْرَأْ.
وإن صراعات العالم اليوم وإن تنوعت إلى عسكرية واقتصادية وحضارية، فإن منها الصراع الفكري الذي لا يدرك ويمارس ولا يمكن الإفادة منه إلا عن طريق القراءة والجد والمثابرة.
ولقد أدركت أمم اليوم أن نهوضها بالتعليم والمعرفة سبب رئيس في تقدمها الحضاري، كما أن شعوب التخلف ما تخلفت إلا بفقدانها البنية المعرفية الصحيحة، فصدق حينئذ أن التطور والرقي والازدهار مرهون بشيء من القراءة والتثقيف والاستبصار.
معاشر المسلمين، إن مما يحار منه العرب أنهم يرون الغربيين الكفرة أجلد في القراءة وأحب للمعرفة وأرغب في حفاظهم على الوقت، فتراهم يقرؤون ويحملون الكتاب في السيارة والطائرة والطريق وصالات الانتظار وأماكن العمل، مع أنهم لا يقرؤون أطايب ما عندنا ومحاسن معارفنا، بل لا تعدّ ثقافاتهم إلا كتب ضلال مدمرة أو قصص خيالية مشغلة وفوائد شحيحة.
أيها الإخوة، إن القراءة النافعة سبيل للعلم المثري وامتلاك العقل الناضج والفكر الصائب، وهي زاد المحاور والكاتب والمحلل، ومن خلالها يدفع المسلم عن نفسه غوائل الجهل والجمود، ويتعرف على واقعه، ويدرك محاسنه ومساوئه، ويشارك في الحل والمعالجة والإصلاح.
واعلموا أننا إذ ندعو للقراءة فإنما ندعو لشيء من الوعي والفهم والتفكير، وطريق تحقيق ذلك القراءة النافعة، فلم يعد يشك عاقل أن الوعي اليوم مطلب حضاري لمسايرة الحياة والتعرف على خزائنها ومكنوناتها.
ولكم أن تعلموا أن العباقرة الحذاق يعطون القراءة جلّ أوقاتهم متجلّدين كعطاء أهل الدنيا بدنياهم ومشاغلهم، فلا تنذهلوا إذا قلنا إن عالمًا من المسلمين قرأ (المدونة) في الفقه المالكي ألف مرة، والمحدث أبو بكر الأبهري يقول: قرأ (الموطأ) خمسًا وأربعين مرة، والحافظ الحسن السمرقندي قرأ (صحيح مسلم) نيفا وثلاثين مرة، وفي ترجمة المحاربي الأندلسي أنه كرر (صحيح البخاري) سبعمائة مرة رحمه الله، والحافظ برهان الدين الحلبي ذكر أنه قرأ (صحيح البخاري) أكثر من ستين مرة، وقرأ (صحيح مسلم) نحو العشرين. والإمام الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ذكر في (صيد الخاطر) أنه ربما طالع في أول الطلب أكثر من عشرين ألف مجلد، رحم الله الجميع.
أولئك قوم شيد الله فخرهم فما فوقه فخر ولو عظم الفخر
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المسلمين، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "لكل شيء صناعة، وصناعة العقل حسن الاختيار".
إن حياتكم اليومية تعج بالجديد من الثقافات والعلوم، فتلكم الموسوعات والكتب والأبحاث والرسائل والدوريات والمجلات والصحف والكتيبات والمطويات، ولا يخلو بيت مسلم في هذه الأيام من شيء من ذلك، لكن المهم أن تختار النافع المفيد، تجمع شيئًا إذا حصلته استفدت وانتفعت به، وزادك معرفة معتبرة تعتز بها، واحذر من الغثاء فما أكثره هذه الأيام.
والد البيت الواعي هو نقطة البداية لتعليم القراءة واختيار النافع منها، فيوجه الأبناء إلى بعض صنوف القراءة المفيدة والنافعة، وفي ذلك من الفوائد التي لا تحصى، منها صيانة عقولهم وأنفسهم، ومنها قرارهم في المنزل وحفاظهم من الشوارع والمقاهي، ومنها تنمية مواهبهم ومداركهم، ومنها إعدادهم لمنازل العز والشرف.
واحذر ـ أيها الأب المسؤول ـ أن تدخل على أبنائك المجلات الخليعة والصحف الرديئة والروايات السقيمة، فتكون سببًا في إفسادهم ودمار عقولهم. وفي المكتبات الإسلامية هذه الأيام ما يفي برغبات الأبناء من كتب متنوعة ونافعة، تناسب عقول الصغار، وتحفظ لهم أوقاتهم، وتفرح آباءهم.
واعلموا أن تكوين مكتبة صغيرة في المنزل طريق إلى نشر القراءة فيه، وادّخار شيء من المال المصروف في الكماليات والشهوات والسفاهات كاف في إنشاء مكتبة صغيرة، تنير البيت وتحفظ له سمتَه ووقاره.
والبدايات شاقة، لكن كما تعلمتم من زهرة الدنيا كثيرًا، فتعلموا حسن القراءة والصبر عليها، وقد بلغنا أن بعض الغربيين يقرأ في اليوم أربع وعشرة ساعة، وظهر في المسلمين ـ بحمد الله ـ من يقرأ من الصباح إلى المساء، ومن يقرأ ست عشرة ساعة في اليوم، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وهنا أرشد إخواني إلى مطالعة رسالتين قيمتين، الأولى: الطرق الجامعة للقراءة النافعة، للدكتور محمد بن حسن عقيل، والثانية: القراءة المثمرة للدكتور عبد الكريم بكار.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا...
(1/5230)
صور من الجهل
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
13/5/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الجهل اليوم. 2- آثار الجهل. 3- من صور الجهالات اليوم. 4- فضل العلم والتعلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيها الناس، لقد تعاظمت صور الجهالات في حياة المسلمين اليوم إلى درجة كبيرة، بحيث نُعِت الجاهل بالعلم، وأصبح جراب الحمق جرابَ فهم ووعي، وأُصغي لذوي الدجل والتلفيق، يتكلم الجاهل في أمور لا يحسنها، ويحلّل قضايا جليلة كأنة عالم بها، ويفتي في الشريعة لكأنه شيخها وقطبها. صار الجهل في هذا الزمان علمًا، والعي فهما ونظرًا، والحماقة ثقافة وفخامة!
لم يكُفَّ الجاهل عن بث الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذاك الأحمق يفيض رديء التحاليل والآراء والمقترحات، وفدْمٌ متعلّق بإرث الآباء والأجداد يفتي به ويصادم به الأحكام الشرعية في قضايا كثيرة.
أيها الإخوة الكرام، إن حياتنا اليومية تعج بصور من الجهالات والمخالفات التي ربما ظن كثير من الناس أنها عين الصواب والسداد، فثمة مرموق له بضع سنين لا يغتسل من الجنابة، ومثقف لا زال يعتقد شفاءه وصلاحه عند ساحر خبيث، وخريج جامعة لا يحسن قراءة القرآن، وطبقة كبيرة من الناس يقرؤون جارفات الأوقات ولا زالوا جهلة بأمور الوضوء والصلاة، يمهر منهم أمور الحياة ودقائقها، ويدرك أكثرهم سفاسفها وترهاتها، أما أمور الدين فكما قيل:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهودُ
يا مسلمون، إن الجهل ظلمة وحيرة واضطراب، يودي بالإنسان إلى درك الخيبة والشقاء والدمار. عجيبٌ ما يصنعه بعض الآباء من صرف نبوغ الأبناء إلى نواقض العقول وصوارفها عن العلو والنضج والنماء! لماذا نقوم على أبنائنا بالطعام والشراب واللهو واللعب ونقصر في هدايتهم بأنوار الشريعة وهدايات الوحي؟!
إن العجب لا ينقضي من فئام سمنوا أبناءهم، وروّحوا أجسادهم، فلهت ولعبت، لكنهم جهال خرقاء بأمور دينهم وشريعتهم، فلا بأس بهم من عضلات مفتولة، ويا ويحهم من عقول مرذولة مطروحة!
يتقاعس كثيرون عن اللقاء بالعلماء وسؤالهم أو الاتصال بهم، ويرضون أن تؤدى العبادة بأي طريقة، المهم أن تنقضي العبادة وتستريح النفس.
أين العقلاء الذين عركتهم الحياة، وتلقوا دروسا من نكبات الجهل ورزاياه، حصدوا من جهلهم بالدين صنوف التعب والنصب والأوجاع، ولم يكترثوا لذلك، لكن إذا فشل في تجارته أو نزلت به ضائقة اغتم واهتم وأعمل كل قواه وقدراته لمواجهتها وحل إشكالها. إن المسلم العاقل همه وشغله طاعته لربه وتفكيره في صحتها وسلامتها، هذا هو طالب النجاة وراجي الخير والجنة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
إن أكياس الناس هم من تنفضهم الأزمات وتحركهم نكبات الحياة وكروبها، إن تخبط الجاهل وعثاره في موقف واحد كافٍ في دعوته إلى العلم وطلب الفقه في الدين.
ذكر أهل السير والتراجم قصةً عجيبة وقعت للإمام الفذ العز ابن عبد السلام رحمه الله في أول حياته، نبهته من غفلته وكشفت له عن رداءة الجهل وعدم الفقه في الدين، بل دفعته إلى علاء مجيد تقصده الآمال وتطلبه الأماني والرغبات، حتى لُقِّب بسلطان العلماء.
ذكروا أن الشيخ العز ابن عبد السلام كان فقيرًا في أول أمره، وكان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعًا في بركة الكلاسة وكان ماؤه باردا جدا، فحصل له ألم شديد من شدة البرد، وعاد فنام فاحتلم ثانيًا، فعاد إلى البركة فاغتسل، فأغمي عليه من شدة البرد، قال المترجمون: ربما وقعت له ثلاث مرات، قال: ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: يا ابن عبد السلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى.
أيها الإخوة، ومن صور الجهالات ترويج الكتب الضالة والنشرات الفاسدة التي يختلقها أصحاب الأهواء وذوو المقاصد الذميمة؛ لكي يضلوا الناس ويفسدوا عليهم دينهم، فالواجب التثبت والتبين عند نشر هذه النشرات والتأكد من مصادرها وصحتها؛ بسؤال أهل العلم والخبرة والاختصاص، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7].
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين، إنَّ طلب العلم وابتغاء الفقه في الدين منبع كل خير وفضل، هو السلامة لتصحيح العبادة، يقيكم كثيرًا من الأخطاء والمخالفات. جاء في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
إنك ـ أيها المسلم ـ إذا أردت السفر إلى جهة ما سألت عن سبيلها وموقعها حتى تسلم من الأخطاء وتحافظ على الأوقات، ولماذا إذا أديت العبادة لا تسأل عن فقهها وأحكامها؟! تمر عليك السنون الطوال لا تبالي بحال عباداتك ومعاملتك لربك، أما تخشى الوفاة على الجهالة العمياء والركون إلى الدنيا والأقدار؟! تذكَّر أن تعلمك الآية أو الحديث أو المسألة الشرعية طريق حميد إلى الجنة، قال كما في صحيح مسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقًا إلى الجنة)).
اعلم ـ أخي رعاك الله ـ أن طلب العلم من أطيب لذائذ الحياة وأبهى محاسنها، روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه وعالما ومتعلما)).
لماذا تستكثر حضور درس أو محاضرة لتتعلم أمر دينك أو تستثقل سماع شريط إسلامي ينفعك ويهديك؟! أظنك لو أدركت عظمة الثواب المخبوء وراء ذلك لسارعت سراع الهيمان المتلهف، أخرج الطبراني في معجمه الكبير بإسناد لا بأس به عن أبي إمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته)).
أيها الإخوة الكرام، لقد جعلت الشريعة الإسلامية للعلم قيمة مطلقة، واعتبرته أغلى سلعة في الوجود وأثمن وأنفس من كل متاع موجود، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. ولم يأمر الله تعالى نبيه بالازدياد من شيء في هذه الحياة الدنيا سوى العلم، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114].
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علم تكون به إمامًا مطاعًا إن نهيت وإن أمرتا
ويجلو ما بعينك من غشاها ويهديك الطريق إذا ضللتا
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9].
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على خير البرية...
(1/5231)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
26/6/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض صفاته. 2- عمر بن الخطاب في الجاهلية. 3- أثر إسلام عمر على الإسلام والمسلمين. 4- بعض فضائل عمر. 5- مناقب عمر. 6- أخبار عمر في عدله وزهده وخوفه من الله وقبوله للحق. 7- موافقة القرآن لرأي عمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أتيت اليوم لأخبركم خبرًا، وأُسمِعكم عجبًا، وأقصّ عليكم قصصًا، وأُهديكم عِبرًا. جئت لأحدثكم عن عظيم، قلَّ تجدون مثله أو تطلبون نظيره، بل لن تجدوا ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلا. إنه إمام في كل فن وعظيم في كل باب، استحضروا في عقولكم كل معاني الشرف والعظمة وجميع مواهب النفس وكل صفات البطولة والسيادة، إن قلتم: العلم فمن يدرك شَأْوه؟! أو: الفكر فمن يضاهي سَعته؟! أو قلتم: البيان فمن يضارع حُسنه وجماله؟! أو قلتم: الشجاعة فمن يطيق مواجهته وغِلابه؟! أو قلتم: القيادة فنموذج خارقٌ في صحة القيادة وحسن التدبير.
هذا الإمام العظيم إن قال أسمع، وإن حكَم عدَل، وإن قاتل أشجع، وإن ضرب أوجع، وهو مع ذلك كله أتقى ما يكون لله، وأخشع ما تَصِف للرحمن، وأورع ما تحب لرب العالمين، والله ما رأيت عبقريًا يفري فريّه، ووالله ما سلك فجًا إلا سلك الشيطان فجًا آخر، سبحان الله! ما سمعتُ كاليوم عجبًا، من هذا الرجل؟ أهو عفريتٌ من الجن، أم عملاقٌ خارق، أم أسطورة خيالية؟! كلا، بل هو عبد مخلوق من بني آدم مركّب من كل صفات البشرية.
كان أول ما كان قبل إسلامه بدويًا جلفًا، قاسي الأخلاق، من بني عدي، له شهرةٌ ومكانة؛ ولكنها محدودة، تخشى بطون قريش فتكه وبطشه، والويل الويل لمن دخل معه في شِقَاقٍ أو نزاع. من صلابته وشدته أيِس المسلمون من خيره، حتى قال بعضهم: (والله، لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب)، فأتت اللحظة المنيرة المباركة، فقذف الله في قلبه النور، وشعت الهداية في نفسه. أسلم فكان آيةً في الإسلام، عزّ المسلمون بإسلامه، واشتفى الضعفاء بشجاعته، وانخسأت الوثنية بإرعابه وبسالته، كان إسلامه مملوءًا حكمةً ورشدًا، وإيمانه مملوءٌ صدقًا ويقينًا. قال عبد الله بن مسعود : (ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر). كبّر المسلمون تكبيرة واحدة سُمعت في طرق مكة، نعم إنه عمر بن الخطاب ، وما أدراك ما عمر؟! شخصيةٌ كبيرة، وسيرة مُثيرة، أذهلت قارِئها وسامعها، شجاعةٌ مفرطة، وتضحيةٌ صادقة، وإيمان متين، وعقل وقّاد، حامل لكل خير ومعروف، وضارب في كل باب للخير بسهم، ومدرك كلّ نبل وفضيلة. بلغت فضائله عنان السماء ومنقطع الهواء، قصُر الناس في عدّها وإحصائها، وذُهلوا من شكلها وألوانها، والله لقد أتعب الناس بِعدِّ مناقبه وسردها.
ضاق الزمان ووجه الأرض عن بطلٍ ملء الزمان وملءَ السهل والجبلِ
من تغلب الغالبين الناس قاطبة ومن عديّ أعادي الجبن والبخَلِ
ليت المدائحَ تستوفِي مناقبَه فما كليبٌ وأهل الأعصر الأولِ
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)) ، قال: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)). وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((بينما أنا نائم إذ رأيت قدحًا أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب)) ، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)). وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنه كان فيما مضى من الأمم ناس محدَّثون ـ أي: ملهمون ـ ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)).
ما الذي أبثه من سيرته؟! وما أنشر من أخباره؟! لقد كان رأسًا في العدل والعبادة والقيادة، صاحبَ علم وفضل وحكمةٍ وعبادةٍ وشجاعة، فهو بحق سباق غايات وحاوي مواهب، يتصور وجوده في كل ميادين الخير وفي خفايا الأماكن، يعرفه أهلها وضعفتها ولا تدري أنه أمير المؤمنين.
كان عمر بن الخطاب يتعاهد الأرامل فيسقي لهنّ الماء بالليل، فرآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مُقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟! قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثراتِ عمرَ تتبَع.
وكان يعاتب نفسه كثيرًا ويقتص منها إذا شعر بظلمه للآخرين، ذكر الأحنف أن عمر غضب على رجل فضربه بالدِّرة، فتذمّر الرجل، وندم عمر، فاستدعى الرجل ليأخذ حقه من عمر، فأبى الرجل وقال: أدعها لله، وانصرف عمر حتى دخل منزله وصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك الله، وكنت ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟! قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة ظننا أنه من خير أهل الأرض.
وكان عمر يمر بالآية وهو يقرأ، فتَخْنِقه العبرة فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته، حتى يُعاد فيحسبونه مريضًا. قال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر خطّان أسودان من البكاء.
وأما طعامه وشرابه فقد كان شيئًا عجيبًا، فلقد نفرت النفوس من رداءة طعامه وغِلظته، ولما قيل له في ذلك قال: والذي نفسي بيده، لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، لكني أستبقي طيباتي، لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف: 20]. وقال مرة: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنّا ندعه ليومٍ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج: 2].
وكان الخليفة العادل والإمام الكامل، يقضي بالحق على نفسه وأهله وعشيرته، ويسوّي بين الناس، ولا يحابِي ولا يجامِل. ثبت في الصحيحين أنه أعطى المهاجرين الأوائل أربعة آلاف درهم، وأعطى ابنه عبد الله ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: إنه كان من المهاجرين الأوائل، فقال: إنما هاجر به أبوه.
وكان عمر يقبل النقد والحوار، ويلين ويرجع إلى الحق، تلكم قصص كثيرة وأخبار شهيرة. خرج مرة من المسجد ومعه الجارود العبدي، فبينما هما خارجان إذا بامرأة على ظهر الطريق، فسلّم عليها عمر، فردت السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أُكلمك كلماتٍ قليلة، فقال لها قولي، قالت: يا عمر، عهدي بك وأنت تسمّى عُميرا تصارع الفتيان في سوق عكاظ، فلم تذهب الأيام حتى سُميت عمرًا، ثم لم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتقِ الله ـ يا عمر ـ في رعيتك، واعلم أن من خاف الموت خشي الفوت، فقال له صاحبه: من هذه المرأة التي اجترأت عليك يا أمير المؤمنين؟! فما كان من عمر إلا أن جذبه وقال له: دعها فإنك لا تعرفها، فقال: من تكون هذه؟ فقال عمر: هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. أراد بذلك قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، كان عمر لا تأخذه في الله لومة لائم، شديدًا على الأعداء والظلمة، ذا صرامة متناهية وجلالة عظيمة، روى الإمام أحمد والترمذي بسند حسن أن النبي قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّها في أمر الله عمر)).
لما أسلم كره الاختفاء فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟! والذي بعثك بالحق لنخرُجنَّ. ولما هاجر أعلن الهجرة بكل عزةٍ وتحدٍ. وفي غزوة بدر أشار عمر بقطع رؤوسهم قال: ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان فأضربه، وتمكن حمزة من أخٍ له فيضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، حتى يُعلم أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار، ونزل القرآن مصدقًا لرأي عمر.
وفي صلح الحديبية مع المشركين رأى غبنًا في الصلح فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: ((بلى)) ، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: ((بلى)) ، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟! قال: ((ياا بن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني أبدًا)).
وقبيل فتح مكة قال لأبي سفيان: أنا أشفع لكم إلى رسول الله، والله لو أجد إلا الذر لجاهدتكم به. وكان ذا بأس وسطوةٍ على عمّاله إذا رأى منهم ما يُستغرب، فقد بلغه مرةً أن سعدًا اتخذ بابًا دون الناس، فأرسل رسوله مباشرةً أن أحرق الباب، وكتب إلى سعد كتابًا يوبخه ويؤنبه.
أيها الإخوة الكرام، إن مثل هذه السيرة البهية ليست بغريبة عليكم، أليست خبرًا من ركام السخافات التي يُصرف إليها الأبناء ويُنشّأ عليها الصغار. عجبت ـ والله ـ من مثقفٍ يدّعي الفكر والعلم قرّب لأبنائه صنوف السخافات والقصص التافهة وأهمل سيرة أبي بكر وعمر! وعجبًا من معلمٍ في مدرسة يقصُّ على طلابه أخبار الفن والسفاهة ويُعرض عن عمر وأخباره! اقرؤوا سيرة عمر وأمثاله، تجدونها في كتب السير والتراجم ومناقب عمر لابن الجوزي، وللشيخ العلامة علي الطنطاوي "أخبار عمر".
اللهم وفقنا للطيبات، وجنبنا الربا والمحرمات، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنها سيئها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5232)
حقيقة الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الموت والحشر
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
19/9/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- حقيقة الموت. 3- مشروعية زيارة القبور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين، في هذه الحياة الدنيا يغدو الإنسان سائرا كادحا فيها، وهو يقابل فيها أحزانًا ومسرات وأحوالا ومتغيرات، إنها ملأى بكل ما يريده الإنسان من جمال ورخاء وزينة وأفراح، يعمَدُ رجل إلى منصبه المرموق، راكبًا سيارته الفاخرة، مرتديًا ملابسًا نفيسة، عليه الأبهة والزينة والعظمة، له خَدم وحشم وأحباب وأصحاب، وفي غمرة التلذذ بتلك المواهب والأفراح يأتيه الأجل المقدر المحتوم، فيقطع اللذة ويمزق الزينة ويهدم العظمة، ويفيء الغني الرفيع والعزيز الشريف جيفةً قذرة، يحمل سريعًا إلى المقبرة، نهاية مصيرية حتمية الوقوع، لا يفر منها صغير أو كبير، شريف أو وضيع.
كل ابن أنثى وإنْ طالت سلامته يومًا على آلة حدباء محمولُ
ما الذي حدث؟! وما الأمر؟! لقد سقطت الكرامة، وانتهت الوظيفة، وضاعت المؤسسة، وطارت الأموال، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]. إنه الموت، هادم اللذائذ، وقاطع الأواصر والمطامع، بوقوعه خسرت كل ما تملك في الدنيا إلا ما جعلته في طاعة الله تعالى.
الموت أمر مخيف، يرهبه جميع الناس، لماذا؟ لأنه يعني الخروج من الدنيا والصيرورة إلى الحساب والجزاء، إنه يعني محق الأمنيات ونهاية الرغبات، فلا يبقى إلا العمل الصالح والذكر الحسن، ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتبع الميتَ ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)). سبحان الله! أين من أسس وشاد وعمر وأقام وسحق وقتل؟! لقد أفناهم الموت جميعًا.
أين نمرود وكنعان ومن ملك الأرض وولى وعزلْ؟!
أين من سادوا وشادوا وبنوا هلك الكلّ ولم تُغنِ القُلَلْ؟!
أين أرباب الحجى أهل النهى؟! أين أهل العلم والقوم الأول؟!
سيعيد الله كلا منهم وسيجزي فاعلا ما قد فعَلْ
الموت كأس كلنا شاربوه، احتُشي فظاعة وبشاعة، مقدماته تنسيك عمرًا قضيته ولذائذ طعمتها وأفراحًا عشتها، فلا خير ولا سرور يبقى إلا عمل صالح وميزان راجح، قال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 102، 103].
أيها الإخوة، مات العظماء والشرفاء والأغنياء والفقراء والكبار والصغار، فالناس سواء في تطعم الموت، لا فرق بين شريف أو وضيع ولا صغير ولا كبير، مات قوم على خنا وفجور، وآخرون على مكوس ومظالم، وآخرون على معازف وغناء، ما رأيكم: هل هي ميتة شريفة يغبطون عليها؟! كلا والله، إنها ميتة خسيسة ونهاية مؤلمة كريهة، إذن ما الميتة الحسنة الشريفة التي يهواها الصالحون ويطلبها المتقون؟
إن الميتة الشريفة أن تقبض على الخير والطاعة، شتان بين من مات مجاهدًا في سبيل الله ومن مات مجاهدًا في سبيل الشهوة والرذيلة، مات خيار على الذكر والصلاة، ومات شرارٌ على الغفلة والشقاء، كما لو مات على ترك الصلاة أو أكل الربا أو منع الزكاة أو تعاطي السحر، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. قال كما صحيح مسلم: ((فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر)).
يا أيها الفضلاء، إن الموت يعني القرار في الجنان أو النيران، إما أن تودع قبرًا محفوفًا بالنور والبهجة والسرور، أو تُلقى في قبر ممتلئ ظلمة وهولا ومخاطر، لا أنيس ولا جليس إلا عواقب الجرائم والمآثم، وأنت كسير صريع لا حول ولا قوة لك إلا ما قدمت من صالح الأعمال ومحاسن الخلال. أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند حسن عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) يعنى الموت.
تذكر عقلاءُ المسلمين الموت فأدركوا كربته وشدته، وأهمله آخرون اشمئزازًا منه فجاءهم بغتة وهم لا يشعرون، كان في ذكراه للعاقلين حزنًا وعملاً، وفى ذكراه للغافلين غصة وهمًا. يروى أن ابن السماك قال لهارون الرشيد يومًا: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، والوقوف بين الجنة والنار حين يؤخذ بالكظم وتزل القدم ويقع الندم، فلا توبة تقبل، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل الرشيد يبكى حتى علا صوته، فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك، لقد شققتَ على أمير المؤمنين الليلة، فقام يخرج من عنده وهو يبكي، وقال له الفضيل بن عياض رحمه الله ضمن كلام كثير: يا صبيح الوجه، إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ [البقرة: 166]، قال: حدثنا ليث عن مجاهد: الوصَلات التي كانت بينهم في الدنيا، فبكى حتى جعل يشهق، وقال الفضيل: استدعاني الرشيد يومًا وقد زُخرف منازله وأكثر الطعام والشراب والملذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية فقال له: صِفْ لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال:
عِشْ ما بدا لك سالما في ظلِّ شاهقة القصور
تسعى عليك بِما اشتهيت لدى الرواح إلَى البكور
فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حَشْرجة الصدور
فهناكَ تعلم موقنًا ما كنتَ إلا فِي غرور
قال: فبكى الرشيد بكاء كثيرًا شديدًا، فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس، هل لكم فيما يرقِّق القلوب ويذرف الدموع ويزهد في الدنيا ويذكر بالأخرى؟ زيارة القبور، السنة المهجورة والطاعة المبرورة، سنة حميدة جليلة، فعلها النبي والسلف الكرام. إن القبر أول منزل لك بعد الممات، ومسكنك قبر الحشر إلى العرصات، منزل فسيح إن كنت لله عابدًا، ودار ضيقة إن كنت للشيطان صاحبًا، بيت منير إذا أنرت قلبك بالقرآن، ومظلم إذا نغصته بالعصيان. إن المقابر عظة وعبرة لذوي الألباب.
تأمل ـ يا أخي ـ أنك تزور أناسًا صرعى تحت التراب، قد بليت أجسادهم، وانقطعت أخبارهم، تحوطهم الدود والهوام.
أيها الإخوة الكرام، زوروا القبور فإنها توطئة للموت، وصارفة عن الحياة الدنيا وتقليل لشأنها وتنغيص لملذاتها، وداعية إلى العمل والجد، فالميت أمامك، انقطع عمله، وفنيت حياته، فلا عمل ولا سبق، بل حساب وجزاء.
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)). لقد زار النبي المقابر ذاكرا وخاشعًا ومتعظًا، وعلم أصحابه ذلك، أخرج مسلم في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها)). وأخرج أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يخرج من آخر الليل إلى البقيع ويقول: ((السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدًا مؤجلَّون، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)). وفيه أيضًا عن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل لنا ولكم العافية)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نعمتك، وجميع سخطك...
(1/5233)
معالم تربوية من حديث الأعرابي
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, التربية والتزكية, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
12/10/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات ومعالم تربوية مع حديث الأعرابي. 2- فضل الرفق واللين واليسر في التعليم والدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة الفضلاء، هنا حديث نبوي جليل حوى رفيع الأخلاق ومكارمها وعظيم الرحمة وساميها وحسن التربية وسليمها.
حديث مَنْ تأمله رشد، ومَنْ وعاه هُدي، ومن عمل به أفلح ونجح، هو هدي حكيم ونهج سليم وفقه عليم، وهو منهاج حياة ودعوة حكيمة وقاعدة مثلى في حسن التربية والتوجيه، فاض درّه وجمانه من معلم الخير وقطب التربية وهادي الأمة وقائدها عليه الصلاة والسلام.
أخرج الشيخان رحمهما الله تعالى في صحيحيهما عن أنس وأبى هريرة رضي الله عنهما قالا: بينما نحن جلوس في المسجد إذ دخل أعرابي، فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فقال رسول الله : ((لا تزرموه، دعوه)) ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)) ، وفي لفظ قال: ((دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء ـ أو: ذَنوبًا من ماء ـ، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)).
معاشر المسلمين، لقد رسم هذا الحديث الشريف أصولاً في التربية والتعليم، قلَّ من فقهها وعمل بها، فلقد شيد مبدأ التيسر واللين في الدعوة والتربية والإصلاح، ولقد أقام منهج الترفق الذي به يجنى الخير كله، ولقد أصل حسن الإنكار بما لا يبقى في نفس المخالف أدنى غضب أو انزعاج، بل عكس ذلك، قال الأعرابي المسكين: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا.
ولقد جلى الحديث الحكمة النبيلة التي أفلح النابهون في إصابتها، وحار المتعالمون في موضعها ومحلها.
إلى متى ونحن نشكو فئامًا انحرفوا في أخلاقهم واشتطوا في أفعالهم وأقوالهم؟! فذاك أب لا يعرفه أبناؤه إلا بعصاه وغلظته وسبابه وشدته، وذاك معلم أبغضه تلاميذه؛ فلا يُذكر السوط والشدة إلا ويذكر اسمه وترى طلعته، أصبح السوط شعاره والعنف دثاره والفظاظة عنوانه وحواره ولا كرامة، غرس في نفوس التلاميذ بغضه وكراهته، ونحلهم عيوبه ومساوئه.
إن هذا الحديث الشريف يسحق دعاوى متعالم شديد اللهجة والمعاملة، ويكسر راية جلف معسر، ويُقبِّح نهج معلم شاتم ضارب، فليست التربية والدعوة سبابًا وشتائم، وليس التعليم أسواطًا وملاحم، وليست الهداية تعسيرًا وشدائد.
اعلموا ـ معاشر الآباء والمعلمين ـ أنه بالرحمة تدوم المحبة، وباليسر تأتلف الأرواح وتقوى العلاقات، وبالسماحة تثمر الدعوة والتربية ويصح التأسيس والبناء، وبالبشاشة يكسب المربي حب أبنائه وتلاميذه، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159].
كم أرهبت العصا وأفزعت من أقوام في غير محلها، وكم صرفت عمياء الشدة من محبين للعلم والفائدة، وكم أفسد العنف من أنفس طيبة دانية.
إنا لنعلم أن كثيرين منكم يعرفون هذا الحديث كما يعرفون أبناءهم، لكنهم يجهلونه علمًا وتطبيقًا وسنة واقتداء.
أليس خيرًا كبيرًا أن يقلبَ الآباء والمعلمون العصا حزمًا حكيمًا، والشدة يقظة حسنة، والفظاظة سماحة ولطافة؟! لو لم يكن لهم في ذلك إلا حسن السمعة وزكاة المنهج وخضوع المخاطب لكفتهم، كيف وفي ذلك التوفيق والتأثير والقبول غالبًا؟! ولكن هل من مدكر؟!
لقد كان قرار وزارة المعارف في منع الضرب في غاية الحكمة والبصيرة، فلقد بتروا حبال الظلم والحيف، وجزوا جذور التهور والانتقام، فليس بخاف على المستمعين ذاك المعلم الذي أدمى التلميذ الصغير بعصاه الغليظة أو آلته الفتاكة، وآخر جعل من عصاه مصدر رعب وتخويف شديد للتلاميذ، فقتل طموحهم وجمح إرادتهم وطمس شجاعتهم، وقد كان في راحة قلب لو امتثل الأدب والتواضع ومكارم الأخلاق، فالتربية أدب ورفق وأخلاق، قبل أن تكون عنفًا وتعاظمًا وأسواطًا، وفي الصحيحين عن جرير رضي الله عنه قال : ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) ، ولما بعث معاذا وأبا موسى معلمين إلى اليمن قال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)).
وليعلم إخواني المعلمون والآباء أننا نبني الناس ونربيهم بأخلاقنا قبل أسواطنا، فليتأمل ذلك، والحديث خير شاهد، والضرب له أحوال خاصة.
وفقنا الله وإياكم للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، وفي ختام الحديث الشريف جملة سمت وعظمت لفظًا ومضمونًا، هي من محاسن الكلام وطيّب العبارات الصادقات: ((فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)).
أنتم يا حملة الدعوة، ويا أرباب العلم والهداية، ويا متبعي محمد ، أصل بعثكم للناس إنما هو باليسر والرحمة، إنما هو بالرفق والمعروف.
لقد نبُلت ونفعت الدعوة والتربية التي انتهجت اليسر وارتسمت اللين، فكانت عليمة ميسرة رقيقة، وليس معنى اليسر في التربية هو التساهل والضعف كما قد يتوهمه بعض الناس؛ وإنما المراد أخذ الناس بالسهولة والسماحة مع مراعاة ما يجب ويلزم، دون تشدد أو تعنت أو مشقة، قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83].
ومن يقرأ السيرة النبوية الشريفة ويتأملها يدرك منها اليسر والرفق في الدعوة والتعليم، فلقد كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، يرحم ضعيفهم ويرفق بجاهلهم ويشفق على ضالهم، استشعر قول ربه تعالى له مع تمام التطبيق والامتثال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) ، وفيه أيضًا عن عائشة قالت: قال : ((إن الله أرسلني مبلغًا، ولم يرسلني متعنتًا)) ، وفي الصحيحين قال : ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين...
(1/5234)
التاريخ الإسلامي
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, محاسن الشريعة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
10/11/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميّز التاريخ الإسلامي. 2- فضل أمة الإسلام. 3- من فوائد قراءة التاريخ الإسلامي. 4- العرب بين الجاهلية والإسلام. 5- رجال غيروا وجه التاريخ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [الأنفال: 29].
أيها الناس، تأمل متأملٌ تاريخ أمتنا العريق، فإذا هو تاريخ لم تحصِّله أمة، ولم تنله نحلة، ولم يحققه شعب من الشعوب، احتُشي بالبذل والتضحيات، وسما بالبطولات الصحيحات، وارتوى بالمعالي والمكرمات، تاريخنا المجد والسيادة والبطولة، وتاريخنا النبل والشرف والرجولة.
ما ظنكم بتاريخ رفع أهلَه من مهاوي الضلال إلى نور الإسلام، وطهرهم من براثن الأوثان إلى عز الإيمان؟! إن أصحابكم السابقين عندما حققوا العبودية لله تعالى واعتصموا بحبله شيّد الله لهم تاريخًا مجيدًا، عجبت له الأمم وحارت منه الشعوب.
أحسن المسلمون الأوائل أعمالهم مع الله تعالى، فأورثهم سماء العز والمجد؛ لذا فإن تاريخًا أسس حضارته رسول الله لهو التاريخ المشرق المنير بحق، وإن تاريخًا يحوي مآثر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لهو التاريخ الذي تتطلع إليه الأمم والشعوب.
فهل يحق لنا بعد ذلك تجاهل التاريخ وما فيه من جليل الأخبار وجميل الآثار؟! وهل يحق لنا إغفال تاريخ كُتب أكثره بمداد الأشلاء والأوصال والتضحيات؟! لا ارتياب أن ناسي التاريخ معدوم الهوية والنسب والشرف.
أنا من بدَّل بالكتب الصِّحابا لَم أجد وافيًا إلا الكتابا
مثل القوم نسوا تاريْخهم كلقيطٍ عِيَّ في الناس انتسابا
إن أمتكم ـ أيها المسلمون ـ أمة الخير والنور والهداية، في تاريخها الأمجاد والأبطال والآمال، سلوا عنها ديار الشام ورياضها والعراق وسوادها والأندلس وأريافها، سلوا مصر ووديانها والجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها: هل روى رياض المجد إلا دماؤها؟! وهل زانت جنات البطولة إلا أجساد شهدائها؟! ما عرفت الدنيا أنبل منها ولا أكرم، ولا أرق ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم.
إن تذكر ذلك التاريخ المجيد يمحو شيئًا من معرّة الذل والهوان الذي تتذوّقه الأمة في هذه الأعصار، وإن العقلاء لينفطروا كمدًا على أمجاد مضت أصبحت تطوى فلا ذكرى ولا معتبر، كأن الأمة بواقعها المرير ليس لها مساس من قريب ولا بعيد بذلك التاريخ! ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه
أنى اتجهتَ إلى الإسلام في بلد تَجده كالطيْر مقصوصًا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يَملكنا شعب ملكناه
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغدادًا تحداه
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمدّ القوى من وحي ذكراه
بالله سل خلف بَحر الروم عن عربٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
وإن تراءت لكم الْحمراء عن كثَبٍ فسائل الصرح: أين العز والْجاه؟!
وانزل دمشقَ وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه
هذى معالم خرص كل واحدة منهن قامت خطيبًا فاغرًا فاه!
إني لأشعر إذ أغشى معالِمهم كأني راهب يغشى مصلاه
والله يعلم ما قلَّبت سيرتهم يومًا وأخطأ دمع العين مجراه
وفي حديثنا عن التاريخ الإسلامي تبرز قضيتان مهمتان:
أولاهما: حاجتنا إلى هذا التاريخ للرجوع إليه وقراءته وتعلمه والتماس الدروس والعبر منه، فلا يشك إنسان أن قراءة التاريخ محفّزة للهمم وملهبة للنفوس مربية للجيل.
القضية الثانية: أن قراءتنا للتاريخ لا تعني الاعتماد عليه كلية، حيث الأمجاد انقضت والمفاخر ولت، كلا، لأن أمتنا لا يزال لها مجد سام متى ما رجعت إلى ربها واعتصمت بذكره، فإن شرف الأمة ليس في إنشاء المدن وعمارتها وزخرفتها، وإنما شرفها في رجوعها وتوبتها إلى ربها عز وجل الذي شرفها بالرسالة، فأثمرت تاريخًا مكللاً بالذهب والياقوت، فإن الأمة العربية ليس لها فضل ولا تاريخ يذكر بغير الإسلام، وتأملوا أحوالهم في الجاهلية كيف كانوا يغوصون في ظلمات التيه والضياع والهلاك، حتى جاء نور الإسلام، ويأتي التاريخ، ويزرع المجد نبينا محمد حيث أحدث لها نقلة عظيمة لم يُرَ مثلها في الوجود، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
ففي الجاهلية كانت تراق دماء لعرق ونسب ومال وتراب، فيصبح مصيرها إلى الضنك والبوار، وفي الإسلام أريقت دماؤهم في سبيل الله، فكان مأواها إلى نعيم الجنات، ولنعم دار المتقين. وفي الجاهلية كانوا همجًا رَعاعًا يقتل بعضهم بعضا، وفى الإسلام دولة عدل وميزان، حفِظَ الحرمات، وأقامَ العدل، وطمس المظالم والنعرات.
فاعلموا ـ يا مسلمون ـ أن تاريخ الأمة الزاهر إنما هو بارتباطها بربها الذي هداها ورعاها وكرمها على سائر الأمم.
وها هنا خبر رجل عرف الشركَ والجاهلية وعبادة الأوثان، ويعلق المجد والفخر بالإسلام، ويشير إلى فضل أهل الإسلام، وهو ضرار بن الخطاب القرشي رضي الله عنه، كان من فرسان قريش وشجعانهم، وقاتل المسلمين أشدَّ القتال يوم أحد، وقد اختلف الأوس والخزرج فيمن كان أشجع يوم أحد، فمر بهم ضرار فقالوا: هذا شهِدَها هو عالم بها، فسألوه عن ذلك فقال: لا أدري ما أَوسُكم من خزرَجِكم؟ ولكني زوجتُ مِنكم في يومٍ واحد أحدَ عشر رجلاً من الحور العين. وقال ضرار يومًا لأبي بكر الصديق: نحن خيرٌ لقريش منكم، أدخلناها الجنة، وأنتم أدخلتموها النار؛ يريد أنه قتل المسلمين لما كان مشركًا فدخلوا الجنة، وقتل المسلمون الكفار فأدخلوهم النار.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها الناس، تشرق وتتلألأ في سماء مجد الإسلام أسماء رجال غيَّروا وجه التاريخ، كان الرجل منهم أمة لوحده وقوة ضاربة وجيشًا كاسحًا، أبقوا مفاخر، ما نرى منهم في سائر الأبواب والمجالات، حتى إنهم لم يتركوا بابًا في الخير إلا طرقوه، وأتعبوا من جاء بعدهم.
أخرج الحاكم في المستدرك عن جابر رضي الله عند بسند صحيح أن النبي قال: ((لصوتُ أبي طلحة في الجيش خير من فئة)). وفي يوم بدر قال : ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) ، فقام سيد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه بعد كلام المهاجرين فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) ، فقال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ بنا ـ يا رسول الله ـ لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، وإنا لصُبُرٌ في الحرب صُدْقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَر به عينك، فسر على بركة الله، وفى لفظ قال: امضِ يا رسول الله، فصل حبل من شئت، واقطعْ حبلَ من شئت، وعادِ من شئت، وسالمْ من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبَعٌ لأمرك، فوالله لئن سِرتَ حتى تبلغ البِرك من غِمدان لنسيرنَّ معك.
معاشر المسلمين، اقرؤوا التاريخ، وعلموه أبناءكم ونساءكم بصدق. ويا معلمي التاريخ، قوموا بواجبكم تجاه تاريخ أمتكم، واغرسوه بحرارة في قلوب الناشئة، واعرضوا منه الصور المشرقة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف: 111].
(1/5235)
عيد الأضحى 1419هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الموت والحشر, مواعظ عامة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
10/12/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- من أخبار السلف الصالح. 3- مشروعية الأضحية وبعض أحكامها. 4- بعض آداب الذبح. 5- بعض آداب يوم العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إنكم لتحبون السعادة، وترجون الحياة الطيبة، وتطلبون السكينة والطمأنينة، ويومكم هذا يوم عيد بهيج، حقه الفرح والسرور والبهجة والحبور، حيّوا فيه إخوانكم، وصِلوا أرحامكم، وعودوا مرضاكم، وأطعموا فقراءكم.
أخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله : ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
إن السعادة والطمأنينة مطلب عظيم، ويسعى لنيله الجميع في هذه الحياة الدنيا؛ إذ نحن في عصر تلاطم بالأسقام وازدحمت فيه الأوجاع، فهو بحق ووضوح عصر القلق والأحزان، اشتكى فيه كثير من الناس، وتذوقوا مرراته وأنكاده، وعاشوا مشاكله وهمومه، ومع هذا فلقد أُنشئت لذلك المستشفيات النفسية وفُتحت عيادات الطب النفسي؛ وذلك لعلاج القلق والاضطراب الذي يعانيه الناس، ليس أهل الفقر والمسغبة فحسب، بل حتى أصحاب المال والنفوذ واليسار، فمع جمعهم لألوان السعادة حُرموا لذاتها وحلاوتها وحقيقتها؛ إذ لم يفارقهم الهمّ والقلق، ولم تتصل بهم الراحة والسلامة. ظن كثيرون أن السعادة هي في زهرة الدنيا، فسعى أقوام للشرف والجاه، وآخرون للدرهم والدينار، مضيعين لدينهم، وغير مبالين بعاقبتها ومصيرها، فتجرعوا أحزانها في مسيراتها، واستطعموا أتراحها في أفراحها.
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين، إن هذه الحياة الدنيا بأشكالها ليست مفتاح السعادة إذا انفصلت عن طاعة الله، وإن السعادة الحقيقية في طاعة الله وذكره وعبادته، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 96]؛ فإنها إن طابت أوجعت، وإن أفرحت أحزنت، وإن أضحكت أبكت، خذلت أحبابها وطلابها، وأضنت عبادها ونساكها، ودارت على أهلها بالدوائر، وجَرَّت على فعل العظائم والكبائر، وجعلت في الأوائل عبرا للأواخر.
أخرج الشيخان رحمهما الله عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله بعث أبا عبيدة رضي الله عنه إلى البحرين؛ يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ، فقال: ((أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليك، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) ، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حُلوةٌ خَضِرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الناس، طلب بعض العظماء الدنيا، واغتر بزينتها وبهارجها، ولم يَعِ وصف الله لها وتحذير العقلاء منها، فسعى إليها سعي الحبيب لحبيبه وابتغاء الخليل رضا خليله وخدينه، فمكنه الله وآتاه، وعمره وأعطاه، ومنحه لذائذ ومواهب، اشتط فيها وانحرف، وتعاظم ظلما وانصرف، أقام في الفخر والسؤدد ومقعد السيد المطاع والقيم المهاب، إذ سار الناس بذكره وفخاره، وتمدحوا بمجده وعلائه. وفجأة ينقلب حاله، ويتبدل سروره أحزانا، ويزول الشرف، ولا يبقى فضل ولا ذكر، مُحيت المفاخر، وانفرط عقدها بين الأعالي والأسافل، فيا لله انخفض العالي وانصرم، وباءت الذرية بالخزي والهوان، فمن منازل العظمة ممدّحين إلى مهاوي السجن خائبين، وأمسى التاج والفخار قرين الصَغَار، وصار للعظمة والاعتبار، فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 15].
وفي تلك الحال العجيبة والحياة المنحوسة الجديدة تجيش في النفوس مشاعر الحزن والأسف، كاشفة حقائق الدنيا الفانية والسعادة الزائلة والتقلبات المفاجئة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ.
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتك فِي الأطمار جائعةً يغزلن لناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنّها لَم تطأ مسكًا وكافورا
من بات بعدك فِي ملك يُسَر به فإنما بات بالأحلام معرورا
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، اعرفوا حقيقة الدنيا، وتأمّلوا عاقبتها، واعتبروا بصنائعها فيمن كان قبلكم، فلستم أول من خرج بها وتذوقها وعمرها. أكثروا من الأعمال الصالحة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وتيقظوا فإن وراءكم يوما عظيمًا عسيرًا، ويجمع الله فيه الأولين والآخرين، تبين فيه الحقائق، وتنكشف فيه المظالم، ويقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق السعير.
أيها الإخوة، إننا لو فهمنا هذه الحياة وعرفنا قدرها وأدركنا غفلتنا لأعددنا لذلك اليوم، واستشعرنا أهواله، ولما لعبت الدنيا بعقولنا. لقد فقه الصلحاء قبلنا معنى هذه الحياة، وأدركوا وهنها وحقارتها، وعملوا لما بعدها، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان: 10].
روى الترمذي وغيره عن أبي جحيقة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، قد شبت! قال: ((شيبتني هود وأخواتها)) ، وفي لفظ قال: ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)). وروى أبو داود والنسائي بسند حسن عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: رأيت رسول يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاء. ومر رسول الله على أناس وهم حول قبر يدفنون رجلا، فبدر من بين أيديهم ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا)) رواه أحمد وابن ماجه عن البراء وهو حديث حسن. وروى الطبراني في الأوسط عن جابر قال: قال رسول الله : ((مررت ليلة أسري بالملأ الأعلى، وجبريل كالحِلْس البالي من خشية الله)). وروى أحمد وغيره بسند حسن عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال لجبريل: ((ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟! قال: ما ضحك ميكائيل منذ خُلقت النار)).
وهذا عمر رضي الله عنه قد حفَرت الدموع خطين أسودين في وجهه، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فيمرض حتى يعوده الصحابة شهرا. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (إن ها هنا رجلا ود لو أنها قامت أن لا يُبعث) يعنى القيامة. وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (لأن أدمعَ دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار). وكان شداد بن أوس يتقلب في فراشه ويقول: اللهم إن النار قد أذهبت مني النوم، فيقوم يصلي حتى يصبح.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يقول علي رضي الله عنه عن الصحابة وقد علته كآبة: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أر اليوم شيئا يشبههم؛ لقد كانوا يُصبحون شعثًا غُبرا، بين أعينهم أمثال رُكب المِعزَى، قد باتوا سُجدًا وقياما، يتلون كتاب الله، يُراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يَميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تُبل ثيابهم، والله فكأني بالقوم باتوا غافلين. فما رئي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم.
وقالت ابنة الربيع بن خثيم: كنت أقول لأبي: يا أبتاه، ألا تنام؟! فيقول: يا بُنيه، كيف ينام من يخاف البَيات؟! وهذا سيد البكائين الحسن البصري رحمه الله كان إذا تكلم كأنه يُعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدها، وكان إذا بكى فكأن النار لم تُخلق إلا له، وإذا قدم من دفن حميم له وجلس فكأنما هو أسير يستعد لضرب عنقه. وقال رحمه الله: "إن المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا، ويتقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة؛ الكف من التمر والرشفة من الماء"، وقال: "والله، لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل وإلا نضب وإلا ذاب وإلا تعب". أتي رحمه الله بكوز من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى وقال: ذكرت أمنية أهل النار وقولهم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ [الأعراف: 50]، وذكرت ما أجيبوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ [الأعراف: 50].
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، كيف أصبحت؟ قال: بخير، قال: كيف حالك؟ فتبسم الحسن وقال: تسألني عن حالي؟! ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر، فانكسرت سفينتهم، فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أيّ حال يكون؟ قال الرجل: على حال شديدة، قال الحسن: حالي أشد من حالهم.
وكان طاووس رحمه الله يثب من فراشه، ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيّر ذكر جهنم نوم الخائفين". وقال يوسف بن أسباط: كان سفيان الثوري إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم. وعن عطاء الحفاف قال: ما لقيت الثوري إلا باكيا، فقلت: ما شأنك؟! قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًا.
ولما حضرت مِسعر بن كِدام الوفاة دخل عليه سفيان فوجده جزعا، فقال له: لم تجزع؟! فوالله، لوددت أني مت الساعة، فقال مسعر: أقعدوني، فأعاد عليه سفيان الكلام، فقال: إنك إذا لواثق بعملك يا سفيان، لكني ـ والله ـ لكأني على شاهق جبل لا أرى أين أهبط، فبكى سفيان وقال: أنت أخوف لله عز وجل مني.
أيها المسلمون، توبوا إلى الله عز وجل، وتذكروا غفلاتكم، وانظروا لما وراءكم من حساب وعذاب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أوجد الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، والصلاة والسلام على نبينا محمد مصطفاه من رسله ومجتباه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى شرع لكم في هذا اليوم العظيم التقرب إليه بإراقة الدماء وذبح الأضاحي توحيدًا له وتعظيمًا لحقه وشأنه.
والأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]، وأخرج أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقام النبي بالمدينة عشر سنين يضحي. قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن رسول الله يدع الأضحية"، وقال الحافظ في الفتح: "ولا خلاف في كونها من شرائع الدين". وأخرج أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من وجد سَعةً فلم يضح فلا يقربن مصلانا)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن في الأضحية إحياءَ سنة إمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفيها التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، فإن الله عز وجل لن يبلغ مرضاته لحوم هذه الأضاحي ولا دماؤها، وإنما يناله تقوى العبد منه ومحبته له وإيثاره بالتقرب إليه بأحب شيء إلى العبد.
وفي الأضحية التوسعة على الأهل وعلى الفقراء يوم العيد، والإهداء لذوي القربى والجيران، ثم إن إراقة الدماء باسم الله تعالى مشروع في جميع الملل، كما أنه من أجل الطاعات وأعظم القربات، كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج: 34]. قال ابن كثير رحمه الله: "لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل".
واعلموا ـ يا مسلمون ـ أن هذه البهائم خلقها الله عز وجل وسخرها لنا ومنحنا كرائمها، فينبغي علينا رحمتها بالإحسان فيها، جاء في الحديث: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته)). وهذا أمر مهم ينبغي التنبه إليه، وهو الرفق بالأضحية والإحسان إليها.
قال ابن رجب رحمه الله: "والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأحدها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه، وقد حكى ابن حزم رحمه الله الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة".
ولقد أسرف كثير من الناس في التعامل مع الأضاحي، فتجد بعضهم يجذب الدابة بقهر وقوة والحبل مشدود في عنقها، وربما حدّ السكين أمامها، بل بعضهم لا يحد الشفرة بل يذبحها بشفرة غير محددة، وذلك بمرأى من أخواتها. فهذا وأشباهه آداب حميدة تدل على سمو الشريعة وسماحتها ورحمتها حتى بالبهائم والدواب، وقد قال : ((من لا يرحم لا يُرحَم)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أخرج الإمام أحمد بسند قوي أن رسول الله أمر بحدّ الشفار وأن توارى عن البهائم، وقال: ((إذا ذبح أحدكم فليُجهِز)). وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مر رسول الله برجل وهو يجر شاة بأذنها، فقال رسول الله: ((دع أذنها وخذ بسالفتها)) ، والسالفة مقدَّم العنق. وخرج الخلال والطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عباس قال: مر رسول الله برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يُحُدُّ شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: ((أفلا قبل هذا؟! تريد أن تميتها موتات)) ، وعند عبد الرازق: ((هلا حددت شفرتك قبل أن تُضجِعها؟!)). وقال الإمام أحمد رحمه الله: "تقاد إلى الذبح قودا رفيقا، وتوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح، أمر رسول الله بذلك أن توارى الشفار".
وروى عبد الرازق في المصنف عن ابن سيرين أن عمر رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك! قُدها إلى الموت قودًا جميلاً. وروى نحوه عن ابن عمر. وفي المسند بسند صحيح عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا قال للنبي : يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي : ((والشاة إن رحمتها رحمك الله)).
ويُستحب في الأضحية ـ يا مسلمون ـ أن يأكل المسلم منها الثلث ويهدى الثلث ويتصدق بالثلث، قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36]. فالتمسوا الفقراء والمساكين، وأطعموهم مما أطعمكم الله، ولا تبخلوا بمال الله الذي آتاكم، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين، إن هذا اليوم المبارك عيد المسلمين، يستحب فيه آداب جليلة وخصال حميدة منها:
أولا: الاغتسال قبل الخروج للصلاة، فقد روى مالك في الموطأ بسند صحيح عن ابن عمر ـ وكان متحريا للسنة ـ أنه كان يغتسل قبل أن يغدو إلى المصلى. وقد حكى النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد.
ثانيا: المستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد الصلاة، ويأكل من أضحيته.
ثالثا: التكبير في يوم العيد وصفته: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
فالسنة في الأضحى لأهل الأمصار التكبير من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى آخر صلاة العصر آخر أيام التشريق، كما نص على ذلك ابن تيمية رحمه الله.
والتكبير في هذه الأزمنة يكاد يكون من السنن المهجورة التي ينبغي علينا أحياؤها ونشرها وتعليمها الكبار والصغار والنساء؛ لأنه تعظيم لله تعالى وحمد وشكر على نعمة وفضله. فعلى المسلم أن يحرص على التكبير في يوم العيد وأيام التشريق، ويحذر من التواني والغفلة، وكذا النساء يكبرن في بيوتهن.
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: "وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد". وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
رابعا: أنه لا نافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها، كما رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي خرج يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. لكن إذا عاد المسلم إلى بيته فيشرع له صلاة ركعتين؛ لما رواه ابن ماجه في سننه بسند حسن ـ كما قال الحافظ في بلوغ المرام ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا رجع إلى بيته صلى ركعتين. قال الشيخ العلامة حافظ الحكمي رحمه الله:
وفي المصلى قبلها لم يُشرعِ نفل ولا من بعد فعلها فعِ
وفي الحديث جاء حين يرجعُ لبيته فركعتان تُشرعُ
خامسًا: يستحب مخالفة الطريق يوم العيد إظهارًا للشعيرة وإغاظة للمنافقين. ويستحب كذلك التهنئة بالعيد بأي عبارات التهاني المباحة، والأحسن ما روي عن الصحابة أنهم يقولون: تقبل الله منا ومنك.
ولا ريب أن التهنئة بالعيد من مكارم الأخلاق ومحاسن الحياة الاجتماعية بين المسلمين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5236)
قيمة الشباب
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
الأبناء, القصص
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
14/1/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشباب عماد الأمة. 2- قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وما فيها من عبرة وتذكير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
ليسمح لي الشيوخ الفضلاء أن أقف مع شباب الإسلام وقفة، وأهديهم هذه العظة، وأخصهم بمزيد الخطاب هذا الأسبوع.
لم يكن شباب الإسلام العقلاء في يوم من الأيام ذاك المتواجد في الملاعب، ولا في الملاهي بصنوف المتع واللذائذ، ولم يكن شباب الإسلام شباب المنام والطعام وإضاعة الوقت والغرام، ليس شبابنا حاوي الأغاني والمخازي وجامع التوافه، ليس شبابنا من تخطفه الأغنية الماجنة وتلعب به المجلة الخليعة وتستهويه الكراتين الفارغة.
إنك لتبكي على عقل حازم رزين تستعمره مستنقعات اللهو والتيه والرذيلة، وتلهو به أعلام السفه والتلف والغواية. سافر الأباة المتقدمون للطلب والجد والشهادة، وسافر المتأخرون للسكر والجنس والبلادة.
أيها المسلمون، الشباب هم عماد الأمة وعزها وحضارتها، وهم بناتها ومشاعلها وذخائرها، بهم تتسامى أمجاد الأمم وتعلو راياتها وتتواجد مفاخرها.
إن مرحلة الشباب أخصب مراحل العمر وأجدرها بحسن الإفادة وعظم الإجادة؛ لذا كان له محاسبة وتحقيق مخصوص من الله جل وعلا، روى الترمذي وغيره بسند حسن عن ابن مسعود أن النبي قال: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين أكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وماذا عَمِل فيما علِم؟)). وقالت حفصة بنت سيرين رحمها الله تعالى: "يا معشر الشباب، اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب".
أيها الإخوة الكرام، من الأخطاء تصوّر الشباب فترة جسد وفناء غريزة، إن الشباب توثّب روح واستنارة فكر وطفرة أمل وصلابة عزيمة، ونجاح الأمم يرجع إلى مقدار علو همم شبابها وإلى مقدار آمالهم وأعمالهم.
ولله در فتيه من شباب الإسلام في ميادين البطولة، صلوا حرها، وحملوا عبأها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة وإقدامهم الرائع، يخطون مصارع الأعداء، ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء.
بنينا حقبة فِي الأرض ملكا يدعمه شباب طامِحونا
شباب ذللوا سبل الْمعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتا كريمًا طاب في الدنيا غصونا
إذا شَهِدوا الوغى كانوا كماةً يدكون المعاقل والْحصونا
شباب لم تحطمه الليالِي ولم يسلم إلَى الخصم العرينا
وإن جنَّ الْمساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
إخوتي الشباب، اغتنموا شبابكم، واعرفوا طاعة ربكم، واحفظوا مجدَ أمتكم، كيف تسير عقولكم وراء سفاسف الأمور؟! وكيف يُهدى النبوغ لبراثن الخنا والفجور؟! وكيف تغدو الطموحات ذيول الشهوات الرخيصات؟! إنكم المجد لو حركتم عزائمه، وأنتم البذل لو سرحتم قواه، وأنتم التضحيات لو رشدت الطاقات، أنتم الظفر والقمم لو حيَت الهمم.
هذا مصعب بن عمير ، نبراس الدعوة وإمام الفاتحين، الشابّ المدلّل والفتى المنعم، الذي صاغه الإسلام على يديه، تقدّم حين نادت المغارم، وذهب على لقاء ربه قبل مجيء الغنائم، اختاره الله شهيدًا بين يدي رسول الله ، بعد أن أسلم على يديه أسيد بن حضير الذي نزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وسعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن. إنه مصعب غرة فتيان قريش وأوفاهم بهاء وجمالا وشبابا، أعطر أهل مكة، حديث حِسان مكّة ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، وبعد الإسلام صار أعجوبة من أعاجيب الإيمان والفداء.
قصة حياته شرف لبني الإنسان جميعا، لاقى من أمة وقد كان فتاها المدلّل، هاجر إلى الحبشة، مصعب الذي كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرةً وأبهاها عطرا، يرتدى بعد ذلك المرقع البالي، خرج من النعمة الوافرة إلى شظف العيش والفاقة، وأصبح الفتى المتأنّق المعطر لا يُرَى إلا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يومًا ويجوع أياما، ولكن روحه المتأنقة بسموّ العقيدة والمتألقة بنور الله جعلت منه إنسانا يملأ العين إجلالا والأنفس روعة.
هل تدرون ـ يا شباب ـ أن مصعب هذا كان سفير الدولة إلى المدينة؛ فتحها بالقرآن وهيأها ليوم الهجرة العظيم؟! إنها مسؤولية خطيرة، حملها مصعب فأداها خير أداء، ونجح فيها أتم نجاح. فأين شبابنا الخريجون الذين ضعفوا واستكانوا عن إبلاغ الدعوة ونشرها؟! فرار دائم عن إمامة المساجد، وتخلّفٌ شهير عن الخطب والمواعظ، والله المستعان.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، في مثل هدوء البحر وقوته وتهلل ضوء الفجر ووداعته انساب نور الإيمان على يد مصعب إلى سادات الأنصار. لله دره من شاب يقود ويسير جبال الإيمان، ويكون في ميزان حسناته الأنصار من الأوس والخزرج.
ويشهد مصعب غزوة بدر لينال شرف البدرية، وفي يوم أحد كان حامل اللواء، قال ابن سعد: "حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال به المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قمئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]، وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنى على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندقّ الرمح ووقع مصعب وسقط اللّواء، ووقع مصعب قتيلاً شهيدًا".
قال أبو وائل: عدنا خبابا فقال: هاجرنا مع النبي نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ترك بردة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من إذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهدبُها، أي: يجتنيها.
وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أنه أتِيَ بطعام وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفّن في بردة إن غُطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه بدا رأسه. وأُراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
معشر الشباب، اعملوا وجدوا، فإن الجد والعمل والنجاح في الشباب...
(1/5237)
العلماء وفقد ابن باز
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
28/1/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلماء. 2- عزاء الأمة في فقيدها الشيخ ابن باز. 3-حقوق العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين،
طوى الجزيرة حتى جاءنِي خبرٌ فزعت فيه بآمالي إلَى الكذبِ
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
في المتفق عليه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي قال: ((مُستريح ومُستراح منه، العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
إن بلاء الأمة أن تذهب خضراؤها وتنقشع زينتها وتختفي نضارتها وتغيب نجومها وتصبح تائهة هائمة، قد قلّ خيارها وكثر شرارها. إن الأمة تزدان بصلحائها ونبلائها الذين يهدونها ويبصّرونها ويعيدون لها ذكرها وعزها وشرفها، إنهم لها الشموس الساطعة والمنارات اللامعة، فليست الرزية والبلية قلّة الطعام والشراب، وليست الرزيّة كثرة الأسقام والأوجاع، إن الرزية ذهاب البررة الأخيار الذين استضاءت بأنوارهم الأمة، وزخرت بهم الملّة، وازدانت بهم السنة.
قولوا: تغيرت الأنهار وتعسّرت الأسفار وتاهت الأوطار، ولا تقولوا: تولى الصلحاء الأخيار.
إن الحياة مع توالي نكباتها وتقاذف شدائدها وتداعي رزاياها لن تجدوا في نكباتها أشد من فرقة الأحباب، إن الحبيب إذا فارق حبيبه انهارت نفسه وتعكر صفو حياته، فما بالكم بعالم فذ حبيب أحبته الأمة كلها وحفلت به أرجاؤها وانشرحت به أركانها وأذعن الجميع لفضله وعلمه؟!
وكل مصيباتِ الزمان وجدتها سوى فُرقةِ الأحباب هينة الخطْبِ
قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختارة عن أبي أمامة أن النبي قال: ((إن الله وملائكة حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير)).
قال الإمام أحمد رحمه الله: "الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس".
وقال ابن القيم رحمه الله: "العلماء بالله وأمره هم حياة الوجود وروحه، ولا يُستغنى عنهم طرفة عين، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفس في الهواء، بل أعظم، وبالجملة فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها".
أيها المسلمون، لقد رُزئت الأمة في علَمها وعالمها وسيدها وقائدها وتاجها وفخرها، كُنيف مُلئ علمًا، وتاج شعَّ درًا، وجبل عظم صلابة، وقلب احتشى صدقًا ومحبة، أوت إليه أفئدة المؤمنين يطلبون علمه ويرومون فضله، ويأملون شفاعته وينشدون مشورته وبصيرته.
كم اجتمع عنده الطالبون، وكم سأله الشاكون، وكم حطمه الغادون والرائحون. أكثر من ثلاثين سنة لا يعرف طعامَ الغداء مع أهله، جعل كرمَه وخلقه مأوى الفقراء والمساكين والسائلين. بالأمس ثُلم الإسلام ثُلمة وفُجعت الأمة في شيخها وعلامتها وحجتها، شيخنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز بن باز، إمام أهل السنة في هذا العصر، المحدث الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم.
اللهم اغفر لأبي عبد الله، وارفع درجته في المهديين، واخلُفه في عقبه في الغابرين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واغفر لنا وله أجمعين.
روى عنك أهل العلم كل فضيلةٍ فقلنا حديث الحب ضربٌ من الوهمِ
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سَمعنا به في العلم والأدب الجمِّ
فلم نر بازا قطّ من قبل شيخنا يَصيد فلا يؤذي المصيدَ ولا يُدمي
أيها الإخوة الكرام، إن العلماء الصلحاء هم حِسُّ الأمة وروحُها وغذاؤها، وهم نجومها وأنوارها. إنَّ سلامة الأمة وأمنها وأمانتها مرهونة بوجود العلماء الصالحين المخلصين. ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا وأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
إن الأمة إنما تفخر وتعز بعلمائها وفضلائها؛ لأنهم منبع السلامة ومعدن الكرامة، وهم ورثة الأنبياء وحملة الهداية للبشرية جمعاء، وقد ذكرنا سابقًا في حقوق أهل العلم إظهارهم ومحبتهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم وصرف الناس إلى ذلك دون غلو أو تقديس. قال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله: قلت لأبي، أيّ رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، قال: "يا بُني، كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلفَ أو منهما من عوض؟!".
أخرج أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)).
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في العقيدة: "وعلماء السلف من السابقين ومَنْ بعدهم من التابعين من أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
إنه يجب على الأمة تجاه علمائها في حياتهم حُبهم وموالاتهم ونصرتهم والالتفاف حولهم والذب عن أعراضهم، وبعد وفاتهم الترحم عليهم ونشر فضائلهم ومناقبهم والاقتداء بهم؛ لذا فإنني أدعو إخواني من الدعاة وطلبة العلم والمعلمين إلى إبراز هذا الجانب في حياة الأمة كبارها وصغارها، حتى تعظم الصلة بينها وبين علمائها، وحتى نعطي العلماء شيئا من فضائلهم وحقوقهم.
وإننا قد رأينا بعيدًا وقريبًا احتفاء الهلكَى المنحرفين بفقدان رموز الفن والدناءة والخسارة والدعارة، فكيف يصح أن يُبجلَّ القبيح ويُهملَ الصادق النافع النصوح؟! فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد: 17].
أيها الإخوة، لقد حمل الشيخ رحمه الله بين جنبيه نفسًا كبيرة في العلم والخلق والسماحة والمحبة، تجمل بالزهد وسلامة الصدر، وحاز الورع والنزاهة، وامتلك علوَّ الهمة والصبر، وسارع إلى كل بر وفضل. ما جالسه أحد إلا أحبه وأدرك علميته واستمتع بطيب حديثه وكريم خلقه.
خليلي عودا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهمٍ رآه رأى فيه المشقة والعسرا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، قال الأمام الآجرّي رحمه الله: "فما ظنكم ـ رحمكم الله ـ بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه، فسلكوا فبينما هم كذلك إذ طُفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟! هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض ولا كيف اجتناب المحارم ولا كيف يُعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيّر الناس ودرسَ العلم وظهر الجهل".
وهكذا كان الشيخ ابن باز رحمه الله، بوفاته انتكأت جراح، ورحلت علوم، وغابت أخلاق وشيم وآداب. اللهم ارحمه رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناتك، واجبر مصاب الأمة فيه وعوضها خيرًا، واجعل في البقية الباقية النفع والخير والصلاح.
أيها الإخوة، سوف نصلي صلاة الغائب على الشيخ، فأخلصوا له الدعاء، واجتهدوا فيه، وسلوا له التثبيت.
ثم صلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين...
(1/5238)
أخلاق الأنبياء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية, مكارم الأخلاق
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
6/2/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نماذج رائعة من أخلاق السلف الصالح. 2- منزلة الأخلاق الفاضلة في الإسلام. 3- أهمية التربية والتزكية للنفس البشرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، قال بعض الناس: إن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام امتلكوا غاية الكمال في الخلق والنبل والزكاة، فهل لا زالت أخلاقهم تُرى في أتباعهم وتلاميذهم؟
فقلنا: نعم، لا تزال أخلاق الأنبياء في أناس كالأنبياء في أخلاقهم وآدابهم وشمائلهم، اطمأنت قلوبهم بذكر الله، وزكت نفوسهم بهداه، وامتلأت بحبه وتقواه.
وهاكم شيئا من أخلاقهم مما ذكِر في سيرهم وتراجمهم:
صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه، في حادثة الإفك حلف أن لا ينفق على مِسطح بن أثاثة وكان ابن خالته؛ لأنه تكلم في عائشة رضي الله عنها، فنزل قوله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله: أَلاَ تُحِبونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22]، فقال أبو بكر: بلى، نحب أن يغفر الله لنا، وأعاد النفقة على مسطح مضاعفة.
سبَّ رجل ابن عباس رضي الله عنهما، فلما فرغ قال: يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحيا.
وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه سبّه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مما يبعد عن الله، وحمله على الندم والتوبة، ورجوعه إلى المدح بعد الذم، اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير.
وقال الفُضيل بن عياض رحمه الله: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد، ثم قام ليطوف، فسرقت دنانير كانت معه، فجعل يبكي، فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟! فقال: لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكائي رحمة له.
واشترى الربيع بن خُثيم رحمه الله فرسًا بثلاثين ألفا، فغزا عليها، ثم ربط فرسه مرة وقام يصلي، فجاءه غلامه فقال: يا ربيع، أين فرسك؟ قال: سرِقت يا يسار، قال: وأنت تنظر إليها؟! قال: نعم يا يسار، إني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجاة ربي شيء، اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنيًا فاهده، وإن كان فقيرًا فأغنه.
إنا وإن كنا أسنة قومنا وكان لنا فيهم مقام مقدَّم
لنصفح عن أشياء منهم تُريبنا ونصدف عن ذي الْجهل منهم ونحلم
ونمنح منهم معشرا يحسدوننا هنِيّ عطاء ليس منه تندّمُ
ونكلؤهم بالغيب منا حفيظة وأكبادنا وجدًا عليهم تضرَّمُ
سأحْمل عن قومي جَميع كلومهم وأدفع عنهم كل عزم وأغرم
قيل: إن أبا إسحاق الشيرازي رحمه الله نزع عمامته، وكانت بعشرين دينارًا، وتوضأ في دجلة، فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلاً منها، فطلع الشيخ فلبسها وما شعر، حتى سألوه وهو يدرس، فقال: لعل الذي أخذها محتاج.
وقيل للأحنف بن قيس: من أين تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم، قيل: وما بلغ حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء، فسقط من يدها، فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية، فقال لها: لا رَوْعَ عليك، أنت حرّةٌ لوجه الله.
أحاديث لو صيغَت لألْهت بحسنها عن الوشي أو شُمَّت لأغنت عن المسكِ
وقيل: إن أويسا القَرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فكان يقول لهم: يا إخوتاه، إن كان ولا بد فارموني بالصِّغار حتى لا تدموا ساقي، فتمنعوني عن الصلاة.
ويروى أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله خرج إلى بعض البراري، فاستقبله رجل جنديّ، فقال: أنت عبد؟ قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجنديّ: إنما أردتُ العمران، فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرَب رأسه بالسوط فشجَّه وردَّ إلى البلد، فاستقبله أصحابه فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم الجنديّ ما قال له، فقالوا: هذا إبراهيم بن أدهم، فنزل الجندي عن فرسه وقبّل يديه ورجليه، وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلتَ له أنا عبد؟! فقال: إنه لم يسألني: عبدُ مَن أنت؟ بل قال: أنت عبد؟ فقلت: نعم؛ لأني عبد الله، فلما ضرَب رأسي سألتُ الله له الجنة، فقيل: كيف وقد ظُلِمتَ؟! فقال: علمتُ أنني أؤجر على ما نالني منه، فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير، ونصيبه مني الشر.
وإمام العصر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يكاد يجمِع مجالسوه ومعاصروه وزائروه على تحليه بخلق التواضع الجمّ الذي يجعله رحب النفس واسع الصدر خافض الجناح لجميع من يأتيه ويجالسه من محبّين وفقراء ومساكين وغرباء.
وقد قال المروزيّ رحمه الله مقولةً في الإمام أحمد أراها أليَق ما تكون بالشيخ رحمه الله، قال: "لم أر الفقير في مجلس أعزّ منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصرِ للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدّر، يقعد حيث انتهَى به المجلس".
روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه بسند حسن أن النبي قال: ((إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا)) ، وعند أحمد عن أبي الدرداء قال الرسول : ((ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء، اعلموا ـ هدانا الله وإياكم ـ أن الخلق الحسن صفة سيّد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شرط الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين.
والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمهلكات الدامغة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين. والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس، إلا أنه يفوّت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوّت إلا حياة الجسد؟! ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج لأمراض الأبدان وليس في مرضها إلا موت الحياة الفانية فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب أولى. وهذا النوع من الطبِّ واجب تعلّمه على كل ذي لب، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام، لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تألق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها ومعالجتها، وهو المراد بقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس: 9]، وإهماله بقول: وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 10].
وتزكية النفوس بالتحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن سيئاتها مطلب عظيم وربع الرسالة المحمدية؛ ولذا أقسم الله عز وجل أحد عشر قسما متتاليًا ـ لم تأت إلا في موضع واحد من القرآن ـ على أن الفلاح منوط بتزكية النفوس، قال تعالى: والشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 1-10].
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5239)
السحر
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع, نواقض الإسلام
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
13/2/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامات الساحر والمشعوذ. 2- حكم إتيان السحرة والمشعوذين. 3- الطرق الشرعية الصحيحة للوقاية من السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيها الناس، في ذلك الحي الهادي المتواضع يسكن الرجل المتظاهر بالطيب والصلاح، وهناك أسس بدهائه (بيمارستانًا) لعلاج الناس بما يسمى في عرفهم بالطب العربي أو الشعبي، قصده أصحاب البلاء، وأمّه الصرعى وذوو العاهات، وازدحم عليه طلاب الولد والذرية. إن أمره لعجيب، يعطي أدوية عجزت مراكز الطب المتقدمة عن مضاهاتها، له وصفات متميزة: اذبح تيسًا أو ديكًا، أهرق الدم على ظهر المريض، ضعه في قربة أو بين طريقين. يضرب على ظهر العقيم رجاء فك العقم وإزالته، ويأتي بعجائب وغرائب!
تخصصاته: شفاء المرضى والمبتلين، ورد الحاجات والضوال، ولديه قسم متطور لحالات العقم وأسباب تأخر الذرية، وهذا في مجالات أخرى من الطب عائده المادي مذهل! يجني وهو متكئ على أريكته أضعاف ما يكسبه أهل المواقع الحساسة والدعايات النفاثة في الأسواق.
مشتهر بحسن السمعة والصلاح وإرادة الخير والنفع للآخرين. استطاع هذا المجرم المحتال أن يلتهم أموال وعقول السذج والضعاف والمساكين الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً. إنه في طبه لا يستند إلى الرقى والتعويذات الشرعية حتى يقال: إنه شيخ علم وفضل وصلاح، وهو في طبه لا يعتمد على وصفات أهل الخبرة بالأدوية المعروفة المباحة، لكنه يستند إلى مرائي شيطانية وشعوذات كفرية؛ لأن المركز الذي تخرج منه لا يمكن له تخرجه منه حتى يصيب نوعًا من الكفر والعياذ بالله.
ولقد سُبِرت أحوال السحرة والمشعوذين والدجالين فوجد أنهم لا يتقنون صناعتهم تلك حتى يقارفوا مكفرًا يكون موصلاً لأهدافهم وغاياتهم، فذاك ساحر يسجد لصنم، وساحرة تضع القرآن في فرجها، وآخر لا يرى فرضية الصلاة، وآخر يذبح للجن ويتقرب إليهم، وكلما كان كفره شديدًا غليظًا كان سحره أشد وأبلغ، والله المستعان.
معاشر المسلمين، لقد تفشت سموم السحرة في أماكن كثيرة، وغزت بقاعا شتى، وأصبح الإنسان مبتلى في نفسه أو في روحه أو في أبنائه. مسلم صالح لم يذق حلاوة الحياة الزوجية بسبب كرب زوجته المسحورة، أو امرأة مسكينة هلكت عبثًا وسفهًا من وطأة العُقَد المنفوثة من الساحر الخبيث، وذاك شاب يافع أورده قِرنه الحقود موارد الضياع والهلاك حتى فقد لذائذ الحياة ومحاسنها.
أيها الإخوة، إن عجبنا لا ينقضي من مسلم مؤمن بالله يدعي العلم والثقافة ثم يُرى مرتادًا لمنازل السحرة والدجالين؛ راجيًا الذرية أو شفاء ولده المنكوب، هل غاب عليه وهو مسلم واعٍ قول النبي : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر مما أنزل على محمد)) ؟! وهل كان يعلم أن مجرد سؤاله معصية ما أشدها من معصية؟!
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي ترفعه: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة)) ، وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منّا رجالاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتوهم)).
فيا أيها المسلمون المتعلمون، كيف يصح إسلامكم وذهابكم للسحرة الدجالين، وهم حرب لله ورسوله، وهم مصنع الفساد والشر في الأرض؟! كيف تصح صلاتكم وقد كدرتموها بالتوجه لغير الله في الشفاء وقضاء الحوائج؟! كيف يصدق خيركم وقد عكرتموه بالركون للسحر والأشرار؟! قال الله تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69].
إن الساحر دجال خبيث، إن كان لعب بعقولكم وأظهر من فنون البراعة والإتقان ما استمالكم فقد قضى الله عليه بالهلاك والفشل والتباب، قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ [يونس: 81].
قال الإمام النووي رحمه الله: "عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كافر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه حرام".
أيها الإخوة الفضلاء، إن السحرة والمشعوذين لا يتم لهم نشر باطلهم ولا التلبيس على الناس والتأثير فيهم إلا بمعاونة الجن والشياطين، وهي لا تقدم لهم ذلك حتى يكفروا بالله تعالى، قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
وقد أخبر النبي أن الشياطين تسترق السمع مما قدّره الله وأخبر به ملائكته، وتضعها على لسان الساحر أو الكاهن، فيزيد عليها مائة كذبة.
قال أبو محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله: "السحر هو عُقَد ورقى وكلام، ويتكلم به أو يكنيه أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يُبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين الاثنين".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات، وآخر أمرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان".
روى ابن حبان في صحيحه بسند حسن عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)). وأخرج البزار بسند حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس منّا من تَطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكهِّن له، أو سَحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إنَّ سريان السحر إلى أهل الخير والإيمان المتوكّلين على الله المعتصمين بذكره معدوم وممتنع بإذن الله تعالى، وإنما يسري السحر غالبًا في النفوس الضعيفة الخاوية من ذكر الله، المتلبسة بمعصية الله، المستحوذة عليها الشياطين، وقد ذكر أهل العلم طرقًا شرعيّة صحيحة للوقاية من السحر تغني المؤمنين عن الذهاب للسحرة والعرافين.
ومن ذلك الاستعاذة بالله تعالى، وقد أرشدنا القرآن إلى الاستعاذة في غير موضع، قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200].
ومنها تقوى الله والاستقامة على دينه، فمن اتقى وحَفِظ فرائضه تولاه الله وحفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وفي وصية لابن عباس الشهيرة: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)).
ومنها التوكل على الله والاعتماد عليه سبحانه وتعالى، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] أي: كافيه، وإن الله مع المتوكلين؛ يحفظهم وينصرهم ويرعاهم.
ومنها تجديد التوبة وكثرة الاستغفار، فإن الذنوب سبب للبلاء والنكبة والحسرات، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
ومن الوسائل الشرعية الصدقة والإحسان، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء والسحر والحسد، وقد صح عنه أنه قال: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).
ومن الوسائل المهمة الأكيدة قراءة القرآن الكريم، والمواظبة على الأذكار والتعويذات الشرعية بصدق وتدبر وإتقان دون ملل أو يأس، فإنها هي الدواء النافع والمانع بتوفيق الله وتأييده. وقد صنف أهل العلم قديمًا وحديثًا كتبًا في الأذكار وفي عمل اليوم والليلة مما تقرّ به أعين المؤمنين وتنشرح له صدور المتقين، ومن أحسنها وأحضرها في هذا العصر رسالة صغيرة بعنوان: "حصن المسلم"، للشيخ سعيد بن وهف القحطاني وفقه الله تعالى، ولم يذكر فيه إلا الصحيح الثابت، وهو خليق بأن يحفظ ويعتنى به.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5240)
وفاة الألباني
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذهاب العلماء والصالحين. 2- فضائل الألباني. 3- ثناء العلماء عليه. 4- نشأته وجهاده في طلب الحديث. 5- أعماله وإجازاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، ما برحت أمتنا الإسلامية أن بُليت بالأمس حتى بليت اليوم، ففي الأمس القريب فقدت علمها وشيخها ورهطًا من الصلحاء والفضلاء. واليوم فارقت بالأدمع الحارة والعبرات الآسفة شيخ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، ناصر السنة وقامع البدعة، الشيخ العلامة والمتقن الفهامة، ذو التحقيقات الباهرة والمصنفات الظاهرة، الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى. من أحيا الحديث يوم غاب فرسانه، وأضاء نوره حين أفلت شمسه، فهو كأحمد في النصرة والذب، وكالبخاري في حسن التصنيف، وكالذهبي في البحث والتدقيق، وكابن حجر في الفهم والاستيعاب.
ردوا سلام الله يا إخواني قولوا: رعاك الله يا ألباني
يا حافظا سنن النبيّ بعصرنا كالترمذي أو أحمد الشيباني
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41]. قال جماعة من المفسرين: نقصانها بذهاب صالحيها وخيارها.
وروى البخاري في صحيحه عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه أن النبي قال: ((يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة التمر والشعير، لا يباليهم الله باله)). نعم، إن بلاء الأمة وشقاءها أن تذهب خضراؤها، وتنقشع زينتها، وتغيب نجومها، وتصبح تائهةً هائمة، قد قلَّ خيارها، وكثر شرارها، وتبقى حثالة لا يباليهم الله باله.
لقد كان الشيخ الألباني رحمه الله حامل راية الحديث والذابّ عن السنة تصنيفًا وتحقيقا وتثبيتًا وتدريسًا ونشرًا وتبليغا، وإننا لنفقد نسمة مباركة ضربت أطنابها مشارق الأرض ومغاربها، وملأت خيراتها أرجاء المعمورة، وأضاءت بركاتها أقاصي الدنيا.
أيها الإخوة الكرام، في ذلك الزمن البئيس والعيش الكئيب تُضيء (نسمة ألبانية) يرفرف عليها تاج النور والهدى، تشعّ منها خصال الجد والدأب والعلاء والصبر والنبل والسمو، فتطمح لأمجاد السالفين، وتتوق لمراقي الفالحين، وتضجّ من خساسةٍ في الهمم فاشية ودنوٍّ في العزائم ظاهر، فحين يفرح أهل الدنيا بلذائذهم وشهواتهم ومجامعهم تغشاها السعادة الفارهة والرحمة الطيبة وهي تقبل على الحديث وتنشغل بمتونه ورواياته.
كان الشيخ الألباني رحمه الله عالمًا بالشريعة، محدثًا نافذًا فاق الأصحاب والأقران، استضاءت بعلمه الأمة، وعزّت بجهاده الملة، وازدانت به السنة. أمضى ستين عامًا ونيفا في الحديث النبوي الشريف، يفيد الطالبين، ويهدي المسترشدين، ويقمع المبتدعين. اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، ونور له في قبره وافسح له فيه.
أيها الإخوة، من الذي لا يعرف الألباني محدث العصر الذي أذهل الناس بتصانيفه وجذبهم إلى تآليفه وسحرهم بحواشيه وتعليقاته؟! إنه بحق أمير المؤمنين في الحديث، قلّ تجدون مثله أو تسمعون بنظيره. قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما رأيت تحت أديم السماء عالمًا بالحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني"، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قل رجل يكون مثله في هذا الزمان"، وقال أيضًا: "إنه ذو علم جم في الحديث رواية ودراية، وإن الله قد نفع فيما كتبه كثيرًا من الناس"، "فالرجل طويل الباع، واسع الاطلاع، قوي الإقناع" انتهى كلامه.
ابتدأ الشيخ الألباني رحمه الله طلب الحديث في نحو العشرين من عمره، متأثرًا بأبحاث مجلة المنار التي كان يُصدرها الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وكان لتلك الأبحاث أكثر الأثر في دفعه إلى دراسة الحديث الشريف. وقد حصل للشيخ في حياته أزمات وابتلاءات تخلّص منها بعزيمته الخارقة وإرادته الصادقة، ولعل من أولها (مشكلة الفقر) التي عاشها مع والده وهو يعول أسرة كبيرة، ثم تجرّعها لوحده كغيره من أهل العلم، بعد أن صرفه والده الراحل إلى مهنة (إصلاح الساعات وبيعها). ولعل المرء يعجب أن مصلحَ الساعات هذا غدًا إمام الحديث ومقدّمه وحجته، فلم تحل هذه المهنة دون الطلب والجدّ والبحث والمطالعة، فساعة للجسد وساعة للروح.
فكان يتردد على المكتبات لا سيما (المكتبة الظاهرية)، ويمكث فيها نحو ثماني ساعات يوميًا، يعيش مع أهل الحديث زائرًا ومكلمًا وأنيسًا ومناجيًا، حتى أظهره الله تعالى في هذه الفترة العصيبة التي كادت تنطفئ فيها شمس الحديث، فأعاد للحديث وزنه وقدره وبهاءه وضياءه. وهنا مقولة حسناء للإمام الشافعي رحمه الله يقول: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعزّ النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلِّ النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح"، وقال أيضًا رحمة الله: "لا يصلح طلب العلم إلا لمفلس".
قال الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني في ترجمة الألباني: "الشيخ لم تسنح له الفرصة ليكتب قصة حياته بنفسه، لانشغاله بطلب العلم والتنقل في فنونه، وإلا لأصبحت قصته مؤثرة مبكية، وقد قال لي يومًا: لو كان عندي فسحة من الوقت لكتبت ما لم تسمع به من القصص".
ومن شدة العنت والفقر الذي عاشه الشيخ أنه كان لا يملك ورقة يشتريها ليسودها بما منَّ الله تعالى عليه من علم فيها، فكان يطوف في الشوارع والأزقة يبحث عن الأوراق الساقطة ليكتب على ظهرها، وذلك لأن وجه الورقة يكون عادة مكتوبًا فيه إما دعوة لافتتاح معرض أو حفلة زواج أو دعاية لمصنوعة من المصنوعات، وقد أطلعني الشيخ على بعض الكتب المخطوطة والتي كتبت بهذه الأوراق، وأغلبها قد تقطعت أطرافها وتساقطت، وقال لي ذات مرة: كنت أشتري الأوراق (سقط المتاع) بالوزن لرُخصه.
وله اليد الطولى في دحر المبتدعة وكشف ألاعيبهم، فلقد نصر بعلمه أهل الإسلام والسنة، وحارب أهل الهوى والفرقة، وغار على الدين والحرمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين عامّة وأهل الحديث خاصة خير الجزاء، وبلغة منازل الصديقين والشهداء.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، يكفي الشيخ الألباني من الفخر والشرف انضمامه لمدرسة أهل الحديث الذين هم أنصار الملة وأقطاب الدعوة، والذين يصلحون إذا فسد الناس.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في شرف أهل الحديث: "قد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم طاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحير إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء" انتهى الكلام.
لم يتقلد الشيخ الألباني رحمه الله شيئا من الولايات والمناصب، بل كان أعلى منها قدرًا وأرقى منها فضلاً وأرفع منها صيتًا. كان صيته بالسنة التي حملها والدعوة التي بذلها والرسالة التي نشرها. وقد درّس الشيخ رحمه الله في الجامعة الإسلامية ثلاث سنين، فانتفع الناس به، واستفاد منه الشيوخ والطلاب، إذ كان الطلبة يزدحمون على سيارته يسألونه ويسلمون عليه، وكان معهم متواضعًا طيب الأقوال والأفعال.
وفي الهند عرضت عليه (مشيخة الحديث) في الجامعة السلفية فاعتذر عن ذلك. وقد وقع عليه اختيار الملك خالد رحمه الله ليكون عضوا في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية من عام خمس وتسعين إلى ثمان وتسعين من الهجرة.
وقد خصصت له إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق غرفة ليتفرغ للبحث والتحقيق، وهذه لم تحصل لأحد من قبله. وفي العام الماضي نال جائزة الملك فيصل لجهوده العلمية الثرية، ولما علم بذلك قال: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".
أيها المسلمون، رحل الشيخ الألباني ولم يخلف إلا ذكراه الحسنة وفضائله العطرة، فدونكم كتبه وتحقيقاته ورسائله، اقرؤوها وانتفعوا بها.
وسوف نصلي على الشيخ رحمه الله صلاة الغائب اقتداء بالنبي إذ صلى على أنصار الدعوة وحماة الإسلام نحو النجاشي، فادعوا الله له بالمغفرة والرحمة، وسلوا له الكرامة والتثبيت.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال : ((من صلى عليَ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبِه أجمعين...
(1/5241)
خلق التواضع
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
7/6/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص في فضل التواضع. 2- أقوال السلف في فضل التواضع. 3- صور من تواضع النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام، يعتقد كثير من الناس أن جمالهم في الحياة وعظمتهم تكمن في مناصب يتقلدونها أو مظاهر يتجملون بها أو ملابس يرتدونها، فقصروا الجمال على منصب دائر، وحدّوا العظمة بمظهر زائف، وابتغوا الحُسن في ملبس فاتن. اعتنوا بالأشكال والمظاهر، وأهملوا الحقائق والمخابر. ربَّ منصب ليس وراءه إلا لعنات من الناس وخصومات شديدات، فقدَ به صاحبه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وربَّ مظهر جذاب جَرّ على حامله علياء النفس وكبر القلب، فاكتسى منه صاحبه احتقار الناس وعنادًا وغمطًا للحق والصواب، والله لا يحب المستكبرين.
فاعلموا ـ يا إخوة ـ أن تاج الجمال ودرة الإحسان أخلاق يحملها العبد ومحاسن ينيرها ومكارم يتزين بها، خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
ليس الجمالُ بمئزرٍ فاعلم وإن رُدّيتَ بُردا
إنَّ الجمالَ معادنُ ومَحاسنٌ أورثنَ مَجْدا
روى أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
أيها المسلمون، إننا لنغفل عن كثير من مكارم الأخلاق، وإن من أجلها وأكملها وأطيبها خلق التواضع الذي به خشوع القلب لله ومحبة الناس ورحمة الضعفاء والمساكين، قال تعالى آمرًا رسوله بخلق التواضع: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، والمعنى: ألِنْ جانبَك لمن آمن بك وتواضع لهم. وروى الترمذي والبيهقي بسند حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال: ((اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)) ، وهذا منه عليه الصلاة والسلام تنويهٌ بشرف هذا المقام وفضله. قال ابن الأثير: "أراد به التواضع والإخبات وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين".
وامتدح الله تعالى عباده عباد الرحمن، وجعل أولى صفاتهم وخلالهم التواضع، فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]، قال ابن القيم رحمه الله: "أي: بسكينة ووقار، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبرين".
معاشر المسلمين، إن التواضع زينة المؤمنين وسمتُ المهتدين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادًا، يحبون إخوانهم ويلينون في أيديهم، ولا يظهرون تجبرا ولاعنتا ولا فسادا، أولئك هم الفائزون.
روى مسلم في صحيحه عن عياض رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)). إن الشرف كل الشرف أن يتواضع العبد، فبتواضعه تتهذب النفس وينكسر القلب ويعظم الأجر ويتعلم الخلق وتتمّ له الرفعة في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)). قال النووي رحمه الله: "فيه وجهان: أحدهما: يرفعه الله في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويُجل مكانه، والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا".
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع)، وقال معاذ رضي الله عنه: (لن يبلغ العبد ذُرَى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف)، وقال أبو حاتم رحمه الله: "التواضع يرفع المرء قدرًا ويعظم له خطرًا ويزيده نبلا".
وقال الحسن رحمه الله: خرج عمر بن الخطاب في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: أي غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأنا أركب خلفك؛ تريد تحملني على المكان الوطيء وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه.
وقال مالك بن دينار رحمه الله: لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلاً والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي، فبلغ ابن المبارك قوله فقال: بهذا صار مالكُ مالكا.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلَى طبقات الْجو وهو وضيعُ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، هذه عيون من صور تواضعه ، يتهالك دونها العظماء، ويحار فيها الكبراء والنبلاء.
روى أحمد وأبو يعلى بسند حسن أن الله تبارك وتعالى خيَّر نبينا عليه الصلاة والسلام بين أن يكون ملكًا نبيًا أو عبدًا رسولاً، فقال: ((بل عبدًا رسولاً)) ، وكان بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول: ((آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)) رواه البغوي وهو صحيح.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله كان يمرّ على الصبيان فيسلم عليهم. وفي الصحيحين أيضًا أن الأمةَ من نساء المدينة كانت تأتيه فتنطلق به حيث شاءت.
وروى أبو يعلي والطبراني عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم. حديث صحيح. وعند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: ((يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟)) والنغير: كان يلعب به وهو طائر صغير.
وعند أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتخلف في المسير، فيزُجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.
وفي الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله في مهنة أهله ـ أي: خدمتهم ـ، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة.
أيها الإخوة، هذه بعض أخلاق نبيكم عليه الصلاة والسلام، احفظوها وتأملوها واقتدوا بها، فهي منبع الشرف وتاج العز والمجد.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم انصر عبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5242)
قصة نوح عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
13/7/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجمل قصة نوح عليه السلام. 2- الدروس والعبر المستفادة من قصة نوح عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، هذه قصة من محاسن القصص وأجلها، قصة التوحيد والدعوة إليه، قصة الصبر والابتلاء، قصة الصدق واليقين. إنها من جلائل القصص القرآني المجيد، فيها عظة للمتعظ، وبصيرة للمتبصر، وسلوة للشاكي المضجر، فيها الدعوة بسائر أشكالها، والصبر بكل صنوفه، والتضحية بكل ألوانها.
إنها قصة نوح عليه السلام، ذاك النبي المجاهد والصابر والداعية المناضل الذي أشرقت على صدره شمس التوحيد واليقين، فخرج داعيةً إلى الله عز وجل، يهدّ حصون المشركين، لا يخاف إنكار حاقد ولا بطش عدو راصد. نوح عليه السلام بدّد صبرُه بلاء المشقات، وهدَّت تضحيته ستر البلاءات، وقهر يقينه ألوان الرزايا والتحديات، لم يكن داعية اسمًا، بل كان صدقًا وعملاً، إذ عرف الدعوة روحًا ومعنى، وتذوقها حلوة ومرًا، وأحبها حزنًا وسهلاً.
قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ [الأعراف: 59 – 61]
مكث الداعية الكبير في قومه أحقابًا يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون: 23]، دعا وألح في الدعوة، ووعظ فأبلغ الموعظة، وبشر فأحسن البشارة، وأنذر وشدد في النذارة. دعا نوح عليه السلام دعوة البصراء، وصبر صبر الجبال، فلقد أوذي لما دعا، وضُرب لما وعظ، وسُخِر منه لما كرّر، فما زاده ذلك إلا صبرًا وثباتًا وقوة وجهادًا.
قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح: 5-9].
صورة من الصبر والكفاح الدائب الذي لم ير نظيره ولم يسمع مثله، لقد استخدم شتى الوسائل ونوَّع الأساليب واحتمل المعاندة والاستكبار، قال تعالى: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [هود: 27، 28]. وفي رده هذا عليه السلام تلطّف وترفق بقومه في دعوتهم إلى الحق.
معاشر المسلمين، لقد كان مبعث نوح عليه السلام رحمةً للناس، فهو أول رسول إلى أهل الأرض، أرسله الله بعد حصول التبديل والتحريف، إذ انقلب الناس من عبادة الله وحده إلى عبادة الأصنام والأولياء والطواغيت، وعظمت الضلالة والكفر، واندثر الهدى والعلم، فكان نوح عليه السلام إشعاعة التوحيد في ظلمات الكفر والغي، وكان منبعَ الهداية في زمان السوء والظنون. أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)، وفيه قال عند تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23]، قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم عبدت).
وكان نوح عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ كل ما يعبد من دونه، بلسان فصيح ناصح عليم بالله تعالى، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62].
أصبح نوح وأمسى داعية محترقًا يخشى هلاك قومه، فكان يسر ويجهر، ويغشى منازلهم ويذكرهم ويرغبهم، ويحذرهم غضب الله وعقابه، واحتمل في دعوته العظيمة كلَّ صور العناد والاستهزاء، فكان يدعو ويكرِّر، ويؤذي ويصبر، ويُجهل عليه ويحلم، ويسخر منه ويترفَّق، وهو في كل ذلك متجلّد صابر، لم يكسل ولم يتوانَ وينقطع، بل كانت نفسه الملتهبة تزداد صبرًا بعد صبر، ومضاءً بعد مضاء، وصمودًا بعد صمود، فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ.
أيها الإخوة الكرام، تطاول الزمان، واتسعت المجادلة، وتعاظم الكفر والعناد، فلم يؤمن بنوح عليه السلام في تلك المدة الطويلة إلا قليل، كما أخبر سبحانه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود: 40]. بل كانوا يتواصون جيلاً بعد جيل بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل أوصاه أن لا يؤمن بنوح عليه السلام ما عاش أبدًا، فكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال: وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27]، فمن ذا الداعية الذي يحتمل مثل هذا العناد والإعراض ويصبر؟! على مثل تلك الخلال والخصال قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران: 13].
قال تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود: 32]، عندئذ أدرك نوح عنادهم واستفحال الشر منهم وما هم عليه من الضلالة والجحود، فالتجأ إلى الله وهددهم وأنذرهم، قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [هود: 33]. وأخبره سبحانه وتعالى بضلالتهم، وعزّاه فيما أصابه منهم، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود: 36].
ثم أمره تعالى بصناعة السفينة، وكان الأذى قد اشتد والسخرية تطورت والمكر تمادى وعظم، فدعا الله تعالى عليهم وسأله النجاة والسلامة، قال تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [القمر: 10]، كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ [الصافات: 75، 76].
ولما فرغ نوح عليه السلام من صناعة السفينة أمره الله بركوبها وبحمل المؤمنين، وأن يحمل من كل زوجين اثنين، فكان الموعد لما جاء أمر الله، وتفجرت السماء والأرض بالماء الذي لم يُعهد من قبل، إذ أمطرت كأفواه القرب، ونبعت الأرض من جميع فجاجها وسائر أرجائها، فكان آيةً عظيمةً كما قال الله عز وجل: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 11، 12]. فكان الطوفان الذي أغرق من في الأرض جميعًا ولم ينج إلا المؤمنون، وكانت السفينة تجري بهم في موج كالجبال، آية باهرةً من الله، محفوظة بحراسة الله ورعايته. قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ [الحاقة: 11] أي: السفينة، لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 12]، وقال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15]. فأنجى الله عباده المؤمنين، وأهلك الكافرين، وأغرق الآخرين، والحمد لله رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام، هذا ملخص قصة نوح عليه السلام، وهي مذكورة في سور عديدة، بل أنزل الله سورة كاملة تصف حاله ودعوته وتكذيب قومه له.
وهذه القصة كانت من جملة القصص القرآني البديع الذي استضاء به النبي وتعزى به، فكان له هداية وتثبيتًا وتذكيرًا وتعبيرًا وتنويرًا وتنبيهًا، قال تعالى: وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الناس، إن رسولنا كان خير من يقرأ القرآن، يقرؤه ويتدبره، ويتذوقه ويتأمله، ويعيه ويتفهمه، فهو خير مهتدٍ بمثل هذه القصص التي استفاض بها القرآن، وهو يلاقي من قومه العنت، ويرى التكذيب، ويعايش الأذى والإعراض.
لقد حوت قصة نوح عليه السلام من الفوائد عجبًا، ومن العبر دررًا، ومن العظات حسنًا وجمالاً، لن تغيب عبرها عن داعية صادق، ولا عظاتُها عن مربٍ نابه، ولا أسرارها عن ناصح صابر، فمن أشهر فوائدها ودروسها وعبرها:
أولاً: العمر الطويل الذي مكثه والصبر الجميل من نوح عليه السلام، لقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ناصحًا ومذكرًا، إنها مدة خارقة للغاية لم تحصل لأحد قبله ولا بعده، ولم يتخللها ركود ولا جمود، ولا تراخ ولا توانٍ، بل ازداد شجاعة وتقدمًا وصلابة. فأين الذين يريدون دعوة وصلاحًا في يوم أو شهر أو سنة وعلى دوام تقصير وتفريط؟! وأين الذين يشكون فساد أبنائهم، وذلك المربي الضاجر من تلاميذه، والزوجة البغيضة لخلق زوجها؟! أما لكم أسوة في هذه القصة؟! أما تقرؤون القرآن؟! والذي نفسي بيده، لو لم يكن من هذه القصة إلا هذا الدرس العظيم لكفى معلمًا وواعظًا.
ثانيًا: الإيمان الصادق واليقين البالغ الذي حمله نوح عليه السلام تجاه أراجيف قومه وإغراءاتهم، قال تعالى: يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ [يونس: 71].
ثالثًا: سلاح الطريق وهو الصبر العتيد الذي تحصن به هذا الداعية الفذ أمام إعراض المكذبين وكيد الظالمين وعداوة المنحرفين، كان صبره شامخًا تحطمت عليه جميع الحيل والمكايد والأذيات، قال تعالى: وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120].
ومن لم يستشعر ويعش الصبر في دعوته فلينزوِ في بيته، وليعتنِ ببطنه ومظهره، فقد نكص من أول الطريق، وكان أضحوكة للقريب والبعيد.
وتنويهًا بصبر نوح عليه السلام أرشد الله تعالى نبينا محمّدا إلى ذلك فقال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ [الأحقاف: 35]. ونوح عليه السلام أول أولي العزم، وأطولهم دعوة وجهادًا، وأول رسول إلى أهل الأرض.
رابعًا: استشعار أهمية الدعوة وفضلها، وما فيها من الأجر العظيم والنعيم المقيم، فإن نوحًا عليه السلام لم يكن ليرهق نفسه لو لم يكن في الدعوة الأجور الوافرة والذخائر الباقية، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. وبمثل هذا الشعور والتصور يهون على الداعية متاعب الطريق، ويطغى على متع الحياة ولذائذها.
بغضُ الحياة وخوفُ الله أخرجنِي وبيع نفسي بِما ليست له ثَمنًا
إني وزنتُ الذي يبقى ليعدلَه ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
بل مثلُ هذا الشعور يقوِّي جانب البذل والعطاء عند الداعية في كل وقت وحين، فليست الدعوة في محاضرة أو درس أو خطبة فحسب، بل هي لحظاته وأنفاسه في كل زمان ومكان.
خامسًا: سمت القصة بالهمة العالية لدى نوح عليه السلام والتضحية البالغة والإصرار التام، وفيها تمسكه ورسوخه على مبادئه، وهوان نفسه عنده، وتأهله بالعلم والهدى واليقين، وحسن جداله لقومه، ودوام الشفقة والرفق بهم، واحتمال أذاهم واستهزائهم، مع صبر لا يضاهيه صبر في زمن طويل وعمر مديد.
فيا من نكص وتولى، لك في هذه القصة تبصرة مثلى. ويا من ملّ وفتر، لك في نوح أحسن واعظ وناهض. ويا من أسف وتوجّع، فلقد ناح نوح وتألم.
ورحتَ من سفرٍ مضنٍ إلَى سفرٍ أضنى لأنَّ طريقَ الراحة التعبُ
لكنْ أنا راحل في غير ما سفرٍ رحلي دمي وطريق الْجمر والحطبُ
إذا امتطيت ركابًا للنوى فأنا فِي داخلي أمتطي ناري وأغتربُ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5243)
رسالة إلى خريج
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا المجتمع, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
27/7/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخريجون هم ذخيرة الوطن. 2- مهام الخريج. 3- مأساة خريج. 4- المؤمّل من خريج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق من الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الإخوة الكرام، هذه رسالة من صادق الرسائل، حاوية معالم الخير والفضائل، تهفو إلى الإخوة الخريجين الأماثل، رسالة ملؤها الحب والإخاء والصدق والوفاء، أردت بها نشر خير منعوه، وسقيَ زرع حرقوه، ليست بيانَ تشهير وتجريح، بل نصح واجب صريح، ولم تكن سهامَ بغي وتثريب، ولكنها أعلام عدل وتصويب. قال : ((الدين النصيحة)) ، وفي الصحيحين: قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم، وقال علي رضي الله عنه: (إن المؤمنين قوم نصحَة بعضُهم لبعض، وإن المنافقين قوم غَشَشة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم).
الخريجون هم مشاعل الهداية وذخيرة الوطن، وعدة المستقبل ومعلمو الخير، خريجو الجامعات والكليات والمعاهد، هم عز الأمة وفخرها وتاجها وحضارتها. إن الأمة فخرت بخريجيها، وإن الوطن إذا اعتز بشبابه الخريجين فعلى الخريجين أن يحفظوا أمتهم ولا يتنكروا لها، ولا يكسلوا عن حمل الرسالة المنوطة بهم.
تحية عاطرة أيها الخريجون النبلاء، شكر الله سعيكم، وسدد خطاكم، وبارك فيكم، وإنكم قد تعلمتم في الجامعة علومًا وفنونًا وآدابًا وتربية تعود عليكم وعلى أمتكم بالخير والصلاح، فما دوركم تجاه دينكم وأمتكم ومجتمعكم؟ قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].
إن التأهل العلمي يعني مفارقة أحوال الهمج والدهماء، ويعني للخرِّيج نضوج الفكر وثراء الثقافة ومتانة العلم، فهل نعي هذه القضية يومًا من الأيام؟ إنه ليقبح بالخريج أن يكون ضيَّع العلوم الجامعية المفيدة ويشكو نسيانها وذهابها.
إن من مهام الخريج نفعَ أمته بالعلم الذي حفظه ودرسه، ومن مهامه بثّ الوعي ونشر الفكر السليم وحمل الفضائل وتبليغها، ومن مهامه إيصال كل نافع ومفيد. أخرج الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله)) ، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا)) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنع لأخرق)) ، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)).
إن الخريج الواعي هو من يطلب معالي الأمور وساميها ويعزف عن سفاسفها وترهاتها، إن الخريج يمثل مرجعية شرعية في حيه، يحتاجه الناس في كثير من القضايا والأمور.
إن العلم الذي حصلته في الجامعة قائدُك إلى الخيرات والطاعات، وأنيسك في المجالس والخلوات، إنه تاج رأسك وعنوان هدايتك وبصيرتك.
تأكد أنك محسوب على الأمة والوطن في العلم والعمل والفكر، والناس يضعون عليك أحلى العبارات وأجملها، ويحمدون فيك علو الهمة والصبر الطويل والتفوق الدائم.
ولقد قضّيت ـ أيها الخريج ـ في الجامعة وقتًا ليس يسيرًا، فاجعل عاقبته حميدة، فقد قرأت وحفظت وظفرت بمعارف كثيرة، وكم هو مؤسف أن تنتهي ثقافة الخريج إلى صحيفة رياضية أو مسلسل هابط أو فكرة متهافتة.
ما أعظم سرور أهلك وفرحتهم بتخرجك ونجاحك، فتوِّج هذه الفرحة لما هو أنجح بحقّ تجاه ما عملت وتعلمت. إنني أهنئك وأحييك من على هذا المنبر على نجاحك وهمتك وإصرارك الثابت.
يا مسلمون، ماذا أقول في وصف أناس زكتهم أمتهم وصانتهم واستأمنتهم على علومها وإمكاناتها ومقدراتها؟! إننا مع اعترافنا بفضل هذا الخريج وسمو منزلته نراه أحيانًا يأنف أن ينادَى باسمه أو: يا طالب علم، مجردًا من أوصاف الإكرام والتقدير، إنّ هذا الخريج لا يرضى بكل حال أن ينسب إلى الجهل أو الخطأ مع إصراره عليه، إنه لا يحب أن يتلقى العلم والفائدة ممن هو دونه.
إنك كثيرًا ـ أخي الخريج ـ ما تعترض على النقد السليم المنضبط بالحدود والقيود، وتعتبر نفسك فوق مستوى النقد وأيًا كانت أهدافه ومنافعه. إن الخريج ينبغي أن لا يأخذه الغرور وتمجيد الذات والترفع على الناس، بل عليه أن يشمخ ويعتز بضد ذلك من التواضع واللين وخفض الجناح للمسلمين. قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)).
إن الوعي فيك ـ أيها الخريج ـ ليس في حد التعاظم بهذه الشهادة أو التماس رفيع الألقاب أو قصد الشهرة والظهور، إن الوعي فيك عملك بالعلم والقيام بالأمانة التي حُملتها من نشر الحق وتبليغه والذود عنه. إن تمام الوفاء للأمة ليس بالانتساب إليها فحسب أو التصنع أو التكلف أو التطبيل أو التصفيق، إن الوفاء والإخلاص لها أن يقودها إلى رحاب الهداية وصدق الرعاية، أن تخرجها من الظلمات إلى النور، أن تهديها إلى الصراط المستقيم.
إن إخلاصك لمجتمعك أن تنقذه من الهلاك والسقوط، أن تطهره من الرذائل والمخالفات، أن تسعى إلى نهضته ورقيه بالحق والهدى والنور. قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود: 116].
مأساة: خريج جامعة أبق من المسجد وخلع الإمامة ورفض الدعوة وسود الصحيفة ولم يقض حق التعليم والعلم. خريج شريعة جعل من شهادته سلَّمًا لخطر دنيويّ وذريعة للذة زهيدة وطريقًا لحياة فانية، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأعراف: 169]. خريج جامعة قرأ القرآن فقبره في الجَنان، ودرس الآثار ولم يسلك طريق الأخيار، استمع المحاضرة فكانت عنده كلمة عابرة. خريج نبيه عجز وجَبُن وخاف وضَعُف، سأله الحي الإمامَةَ فاعتذر بقِصَر القامة وأنها أمانة، ودعي لمأدبة وكرامة فلبى باشتياق وسلامة. شدا مغن خبيث بل قل: مغنية مومِسة أمام خمسين ألف نسمة، واستحيا معلم الدين من إلقاء كلمة!
خريج مرموق له سنوات طوال لم نظفر منه بذكرَى ولا موعظة، طعن وتينَه بخنجر الكسل وأحرق علمه بوقود السفه والطيش، وفي الحديث: ((بلغوا عني ولو آية)).
أقيمت الصلاة في مسجد ما، فدُعي المستقيم فتنحى، وتقدم الجاهل على حرَج وشكوى، فكسر القرآن تكسيرا، وصدع: إن الله كان غفورًا رحيما. خرج المنصِّرون إلى الأرياف وتقاعس الخريجون بالآلاف!
أفلح الطبيب في مهنته كالخبير، وقام الضابط بنشر الأمن كالنِّحرير، والمسؤول جاهدًا يقوم بعملية التنمية والتطوير، والخريج عجِز ضرير لا في العير ولا في النفير!
تجلَّد الفاجر وتماسك، ونكص الصالح وتهالك، وقال عمر رضي الله عنه: (اللهم إني أعوذ بك من جلَد الفاجر وعجز الثقة).
قيل لجامعي: تكلم، فقال: لا أحسن الكلام، قيل: اخطُب، فقال: لا أملك الصوت الرنان، فقلنا: ألست من حملة الذكر والقرآن ولك منطق واضح وبيان؟!
لفظ أبو جهل حين الهلاك والإعدام كلمات الكبرياء والغطرسة، وهاب الخريج المسلم مقالة الحق والفضيلة وقت الرخاء والعافية.
تخلف خطيب الجمعة لعذر وسقم، فتدافع الخطابَةَ ثلاثة خرّيجون، فقال الأول: إني ضعيف ومقصر، وقال الثاني: فلان أقدر وأخطب، وقال الثالث: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم أخذها غَيرة على شعائر الله.
خريج مثقف الدّشُّ فوق رأسه قد رفرف، وابنه على الرصيف سادر يهرف، خرب بيته بيده وقتل ابنه بسيفه، هل أتلو عليكم خبر الذي رُزق الآيات فرام المتعة واللذات؟! وهبه الله منحة وعلمًا فما أحدث له همةً وهَمًا.
كالعيس فِي البيداء يقتلها الظما والماءُ فوقَ ظهورها محمولُ
إنه لهتك للعلم وإطفاء للمعرفة وخلل في الفكر جري الخريجين وراء لوثات الثقافة وقراطيس التلهية وحارقات الأوقات.
يا معاشر الإخوان، إن هذه المنطقة شاكية باكية، ترثي شبابها وأبناءها، إذ اكتظت بخريجين من ذوي الصلاح والاستقامة، ونوابغ ذوي علم ومعرفة، وتخلوا عن بنائها، وقصروا في عمارتها، روى أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
أضحى المسجد باكيًا يبغي إمامًا، والمنبر يتوق خريجًا همامًا، والسنة ترجو ناشرًا مِقدامًا، والدعوة تشتاق أنصارًا وأعلامًا، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
سبحان الله! لماذا الانسلاخ من الحق والتحرر من المسؤولية والفرار من المبدأ؟!
قوم خريجون درسوا وتعلموا وقرؤوا وحفظوا، ثم تخرجوا ولم يصنعوا شيئًا، إنهم ليسوا بسطاء في العلم والفهم، يملكون قدرات وطاقات ولكنها تبدّدت بجانب الضعف والكسل، وغرتهم الدنيا وطول الأمل، عجبًا إن رمت دورهم فإذا هي قفار موحشة أو زرت مجالسهم كانت مفاوز معطلة، واها لمن زارها أو قصد من خيرها ونفعها.
فاستعجمت دارُ نعمٍ ما تكلمنا والدار لو كلمتنا ذات أخبارِ
فما وجدت بها شيئًا ألوذ به إلا الثمامَ وإلا موقد النارِ
أجساد عظيمة هوت أمام هوى الروح، وعقول واعية همت أمام عزم المعرفة، وجهود جبارة كلّت أمام تحديات العصر، ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
اللهم أيقظ غفلتنا وعلمنا ما ينفعنا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إننا نطمع في خريجين ذوي همم عالية ومشاعر قوية يخدمون دينهم وأمتهم، وتلتهب نفوسهم حرقةً على الدعوة، وتنشط عزائمهم في مسيرة الإصلاح. نريد خريجين يستشعرون أهمية العمل للدين، يبذلون له كما يبذلون لأنفسهم وأبنائهم. وإن الظن بعقلاء الخريجين طلبُ ذلك والسعي فيه واستحضار الثواب الكبير عند الله تعالى، فلا أحسنَ من كلمة الدعوة، ولا أجلَّ من مقالة الهداية، بها هداية الكون وزكاة النفس وصلاح القلوب.
وإنه ليسوؤنا عزوف الخريجين عن جلائل الأمور ومهماتها وانتهاؤهم إلى مصير شقي مهين، فلا دعوة يحيونها، ولا علم يطلبونه، ولا خير ينشدونه.
إذا رأيت شباب الْحي قد نشؤوا لا يعرفون قلالَ الْحبْر والورقا
ولا تراهم لدى الأشياخ في حلقٍ يعون من صالِح الأخبار ما اتسقا
فذرهمُ عنك واعلم أنّهم همَجٌ قد بدّلوا بعلو الْهمة الْحمقا
أيها الإخوة، إن المساجد ثغور الدعوة والإصلاح ومنائر التربية والتعليم، فلماذا الجبن والخور بعد العلم والتعلم؟! ولماذا الفرار والإعراض بعد وضوح الحق والبرهان؟! ولماذا التقاعس والانهزام في عصر الصراع والتحديات؟! قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].
والمساجد البعيدة والقرى النائية مكان خصب فسيح لنشر الخير والدعوة، ومهما أبدى الإنسان من عيوب وأدواء ففي تلك الأماكن تعلّم وتجربة ومعالجة وإصلاح ودعوة وامتحان، ومن وراء ذلك ثواب لا يضاهيه ثواب ونعيم دون ما نعيم، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت: 33]، وفي الصحيحين: قال رسول الله لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: ((فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خير لك من حمر النعم)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5244)
عندما تنحرف العقول
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الإعلام, الكبائر والمعاصي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
18/5/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقول المستنيرة بنور الوحيين نعمة من الله تعالى. 2- تغير مفاهيم الناس في زماننا واختلال تصوراتهم. 3- خطورة من يلمع الباطل ويحسن القبيح ويغيب الحقيقة. 4- أمانة الكلمة. 5- عظم فساد كلمة السوء في الصحف والمنشورات. 6- آثار الذنوب والمعاصي وعقوباتها. 7- استمراء المعاصي سبب لسوء الخاتمة. 8- المعاصي والسيئات ليست من المفاخر والأمجاد مهما كانت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، لقد وهب الله تعالى بني آدم عقولاً ثمينة، يدركون بها حياتهم، ويَعُون بها منافعهم ومضارّهم، ويبصرون بها الحسن والقبيح والجيد والرديء، وعقولُ أهل الإسلام عقولٌ استضاءت بنور الوحيين، فازدهرت زكاءً ونقاءً، وازدانت حُسنًا وصفاءً، ولم تكن عقولهم في يوم من الأيام قائدة إلى مهاوي الرذيلة أو قبائح الأمور أو سفاسف الأخلاق، وهل يُعقل أن مسلمًا يؤمن بالله وبشرعه وينقاد لأمره وحُكمه يعظّم المنكرات ويفرح بالقاذورات ويدعو للسيئات؟! إن هذا الشيء عجاب! إن العقول الزكية لتدرك محرمات الشريعة، ولا تجادل في منهياتٍ واضحة وسيئاتٍ صريحة، كيف يكون عاقلاً من يستطيب المحرمات ويستروِح الخبائث ويتفاخر بالمعاصي؟! إن أهل الإيمان إذا علموا ما حرّم الله قالوا: سمعنا وأطعنا، ولم يكن ثمة تردد وانتظار أو حيرة واضطراب، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [النور: 51].
أيها الإخوة الفضلاء، في هذه الأعصار أصابت عقولَ كثير من الناس غشاوةٌ من هوى وغطاءٌ من كدر، فاختلطت عليهم الأمور، واضطربت عندهم المفاهيم، وعميت أبصارهم عن سواد الليل وبياض النهار، وأضحت السيئاتُ حسناتٍ جميلات والرذائل مآثرَ ومفاخر، فلا يُستغرب أن ترى مثقفًا مرموقًا يحتفي بأهل الباطل ويمجد أهل الفسق والرعونة، ورُبّ إعلاميٍ سيار يجعل القبيح حسنًا والدناءة عزةً وعلاءً، وذاك مقدِّم عليم اللسان يزيِّن الانحراف ويرفع من قيمة الفساد والخبال. إن هؤلاء هم مشوّشو الحقيقة وقنوات الفساد ومكدِّرو الرأي العام، فكم من تضليل رائج وصراخ ملفق طبق الآفاق، وضلل الدهماء، وغيب الحق والضياء، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116]، وفى الحديث قال : ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)). إن من الأئمة المضلين من يستهين بالأمانة، ويلمع السوأة، وينفخ الباطل، ويغيب الحقيقة، ويحول دون تثبيت الفضيلة واكتمالها، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 18]. لقد خاف النبيّ من الأئمة المضلين الذين يقلدهم الناس، ويلمّعون ألفاظهم، ويشغلون زوايا صحفية أو مراكز ثقافية. إنّ هؤلاء منبع ضلال الأمة أو مصدر إقصاء الهداية وانتعاش الأهواء وبروز الشهوات، قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان: 43].
أيها الإخوة الكرام، إن أمانة الكلمة تقتضي النصح الصحيح والعدل المليح الذي يساير الرشاد، ولا يلوّث إشعاعه الشمس، ولا يعكر نصاعة النص والدليل، وتقتضي أمانة الكلمة صدقَ التوجيه وتجنب التشويش والتخليط. رُبّ زاوية صحفية يقرؤها ملايين الناس تمتلئ بالزور الملمَّع والباطل المدبَّج، فينطلي فسادها على العوام والخواص، أيّ جرمٍ يحمله هؤلاء عندما يتجاهلون حبائل الإفساد ووسائل الإضلال التي أغوت شعوبًا وأممًا، متجاهلين تشريع القرآن وهدي السنة والبيان؟! إن هؤلاء حقيقة يتكلمون بأهوائهم، ويمجّدون بشهواتهم، ويحكمون بعاداتهم ورغباتهم.
فمن الخليج إلى المحيط قبائل بطرت فلا فكرٌ ولا آدابُ
لا يغرنكم أسماؤهم الإسلامية، ولا ألقابهم العربية، فالنبع مكدَّر، والفكر متغير، والثقافة ضحلة متهافتة، فكيف يملك هؤلاء منصة التوجيه أو وسام الإشادة أو أحقية التحليل والتحريم؟! وفي حديث حذيفة رضي لله عنه في الصحيحين قال: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((نعم، قومٌ من جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)).
أيها المسلمون، إنّ من يمجّد فسَقَة الزمان أو مفسدي الأجيال أو يغطّي الحقائق الشرعية التي شعّت كالشمس وطارت كالهواء دعاة على أبواب جهنم، فلا تصدقوهم، فهم الذين يكذبون الكذبة تبلغ الآفاق، وهم الذين يشيدون بالضلالات ويغرون بالخطايا والسيئات، يقول ربنا سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يونس: 69].
أيها المسلمون، إن كل أمر ذمّه الشارع الحكيم وحقّره وبغّضه معصية منكره، لا يجوز إثباتها أو التمدح بفعلها أو استحسان حلاوتها ولذاذتها، وإن مسلمًا يستطيب شيئًا مما حرم الله قد حُرِم الزكاة والنقاء والسلامة، وغلبت شهوته على لُبِّه، وسيطر هواه على قلبه، فلا تعجب أن تسمع منه مقالة الشهوانين وتطبيلات العاطفيين، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) أخرجاه في الصحيحين.
أيها الإخوة، إن قلب المسلم لا يحتمل مرارة المعصية ولو لمرة واحدة، فكيف بمن يستديم المعاصي ويستمرئ الكبائر ويحيا على القبائح والجرائم؟! لا ريب أن ذلك سيبوء بما يلي: ظلمة القلب، وقبح الوجه، ووحشة النفس، وفساد العقل، وحرمان الهدى والتوفيق والسعادة، وسيعيش في ثنايا المعاصي تحت ربقة الذل والهوان، وليًا للشيطان، معاديًا للرحمن، وفى كل ذلك يحوطه غفلةٌ شديدة، تدعوه للزيادة والاجتراء، ونسيان الطاعة والاهتداء، وتمحو منه كل أسباب التوبة والإنابة.
ومن أعظم عقوبات المعاصي والإصرار على الكبائر أن العبد يحرم الخير والتثبيت، فيموت على خاتمة سيئة ونهاية قبيحة، مما كان يعيشه في الدنيا ويتفانى في حبه، وقد أضل به أممًا وأجيالاً، فهي طريق الخذلان وسبيل المذلة والحرمان. وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام نفيس في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" عن أضرار المعاصي وتقرير فسادها وخذلانها للعبد، وكان مما أشار إليه أنها قد تكون سببًا لسوء الخاتمة؛ لأنها تخزن صاحبها وتَخذله في أشدّ الحالات وأحوج المقامات، ثم ذكر صورًا وأحوالاً لبعض العصاة، فمنهم من قيل له: قل: "لا إله إلا الله" فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها، وآخر لقنوه الشهادة فجعل يهذي بالغناء ويقول: تِنتِنا تِنتِنا، وآخر قيل له" قل: "لا إله إلا الله" فقال: شاه رخ غلبتك، وكان يلعب الشطرنج، وآخر لقن الشهادة فقال: هو كافر بها، ولم يقلها وقضى، وبعض التُّجار لقّنوه الشهادة فقال: هذه القطعة رخيصة، هذا مُشترى جيد، هذه كذا، حتى قضى عياذًا بالله من ذلك، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
قال ابن القيم رحمه الله: "فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فُرطًا؟! فبعيدٌ مَنْ قلبُه بعيدٌ من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ولسانه يابس عن ذكره وجوارحه معطلة عن طاعته مشتغلة بمعصيته أن يوفَّق للخاتمة بالحسنى".
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يجب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
لقد كان هذا الدين حياة الناس وهدايتهم وصلاح أحوالهم ومعاشهم، وكان بكتاب الله نجاتهم وسعادتهم ودوام العز والرخاء لهم، فالناس بغير الإسلام موتى لا حياة لهم، وسكرى لا سبيل لهم، وأذلة لا عز لهم، فجاء الله بهذا النور، فكان به هدايتهم وفلاحهم ونجاحهم، قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة: 15]. فاستمسكوا ـ عبادَ الله ـ بدينكم، وكونوا على الهدى المستقيم، واحذروا سبل الشيطان وخطوات أتباعه التي تزيّن المعاصي وتهوّن الطاعات وتجرّ إلى عظيم البلايا والويلات، فكم من صالح أغوَوه، وكم من مغفل أردَوه، وكم من مسكين فتنوه، لم ينتهوا عن مكرهم الطويل، ولا خيانتهم المديدة، ولا تزويرهم العجيب، وإنهم لمعروفون في لحن القول، مكشوفون من خلال ما يغيّبون الحقائق ويُبرزون المساوئ ويميعون المحرمات ويتواصلون في دعم الشهوات وترسيخها وتبجيلها، والله المستعان.
عباد الله، لم تكن المعاصي والقاذورات وحمل المخالفات بطولاتٍ يُتفاخر بها أو أمجادًا يعتز بها بعد بيان الحديث الشريف الذي رواه أحمد بسند جيد عن ابن عمر أن النبي قال: ((وجُعل الذِلةُ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)). فحَمَلةُ المعاصي والكبائر في دائرة الذلة والصغار حتى يراجعوا طاعة ربهم ويستغفروا من ذنوبهم، فهم على هاوية الأخطار وحمى الضياع والانحدار.
أيها الإخوة، إن الشرف والاعتزاز في طاعة الله تعالى، فاستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى الجنان الرفيعة والمنازل الوسيعة في جنات عدن، فإن طريق الجنات الأعمال الصالحة وليس الشهوات الفاضحة، فلا معنى للحياة إذا لم تُعمر بالأعمال الصالحة المبلغة للنجاة والغفران، فإنها هي الذكر الجميل والصيت الدائم والسعادة الطيبة الباقية، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
والناسُ هِمهمُ الحياة ولا أرى طول الحياة يزيد غيْر خَبالِ
وإذا افتقرت إلَى الذخائر لم تجد ذخرًا يكون كصالِح الأعمالِ
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك...
(1/5245)
سيد الأنصار
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
24/6/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه ودعوته لقومه. 2- بعض فضائل الأنصار رضي الله عنهم. 3- موقف سعد في غزوة بدر الكبرى وكلمته العظيمة لرسول الله. 4- مشورة النبي لسعد يوم الخندق وكلمته في ذلك. 5- موقف آخر لسعد يدل على حبه للنبي والجهاد في سبيله. 6- فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله. 7- اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، لقد حدا بنا الشوق ليكون الحديث عن رجلٍ عظيم حوى لؤلؤة السيادة، وتملّك زمام القيادة، بهر الناس بشجاعته، وبزَّهم ببيانه، وفاقهم برأيه وحكمته. لقد كان من أعظم الناس جَنانا، وأقومهم سلطانًا، وأصدقهم هدى وإيمانا. كان من جيل القرآن الذين تربَّوا على مأدبته، ينهلون بلا ارتواء، ويعملون بلا انقضاء، ويمضون على اهتداء.
رفع الإسلام من بطولته، وأعلا من كلمته، وزاد من فضله وقيمته. لم يكن ليسعد بلا إيمان، ولا ليعزّ بلا قرآن، فسارع مع المسارعين، وجانب طرائق المخالفين، بل ما إن غمرته السعادة واحتواه الإيمان إلا وقام ينفض غبار الوثنية ويجعل النخوة الجاهلية نخوةً إسلامية، تقيم الحق، وتزهق الباطل، وتصلح الخلل والاعوجاج. فهو في أول أيامه داعية صدّاح وخطيب مصقع، يصبّ الكلمات صبًا، وينشرها أريجًا وحُبا. نادى في قومه أن لا عزّ إلا بالإسلام، ولا حياة إلا بالإيمان، فقال لهم ووجهه مشرق بالإيمان والسعادة: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. لقد شقَّت هذه الكلمات دياجير الظلمات، وأعادت في المدينة البسمة بعد التعاسة والنكبات، فما أمسى فيهم رجلٌ ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة سوى رجل واحد.
أيها الناس، ذلكم الرجل هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، السيد الكبير والبطل الشهير الذي عقد له المسلمون ولاء المحبة والرضا، وصار وداده شعار أهل الإيمان ومنابذته شعار أهل النفاق من حين سمعوا حديث النبي : ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغضُ الأنصار)) أخرجاه من حديث أنس، وفي الصحيحين أن النبي قال: ((لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم)) ، وفي الصحيح أيضًا قال لهم: ((أنتم من أحب الناس إليَّ)) ، وفي المتفق عليه عن البراء أن النبي قال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)). ذلك الرعيل المؤمن أخرج لنا سعد بن معاذ، الأمير القائد، والبطل المجاهد، فلنستمع لشيء من أخباره، ولْنجْنِ من أزهاره وأعطاره.
في غزوة بدر الكبرى عقد النبي مجلسًا عسكريًا استشاريًا لملاقاة المشركين وصد عدوانهم خارج المدينة، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر وقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فتكلم وأحسن، فقال النبي بعد سماع هؤلاء القادة الثلاثة: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) ، ففطِن قائد الأنصار سعد بن معاذ لِما أراد رسول الله ، فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) ، فقال سعد : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصِل حَبْل من شئت، واقطع حَبْل من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذتَ منّا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمرُنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البِركَ من غِمدان لنسيرنَّ معك، والله لئن استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه لخضناه معك، فسُرَّ رسول الله لقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)).
لقد وثّق سعد بهذه الكلمات البيعة الصادقة، وزاد من تأكيدها، مقرِّرًا خوض المعركة بالأنفس الباسلة التي تجتاح جموع الشرك في أشد الظروف والأوقات، إنها شعار الإقدام والبسالة وعنوان التضحية والجسارة.
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرتُ أستبقي الْحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما
نفلِّق هامًا من أناس أعزةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وفي وقت آخر شديد وساعة نكباء مدلهمة كما قال تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 10]، في يوم الخندق إذ يشتد الخطب وتضطرب الأنفس وتُطوَّق المدينة يحاول النبي التماس حلٍ للمسلمين، يفك به الحصار، ويزعزع به اجتماع الأحزاب الكافرة، فيعمد إلى سيِّدَي غطفان ليصالحهم على ثلث ثمار المدينة ويرجعوا بجيشهم، فاستشار السعدين في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا طاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرى ـ أي: ضيافة ـ أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوَّب رأيهما، وقال: ((إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)).
لقد طغت قوة الإيمان على الحسابات العسكرية والخطط الإستراتيجية التي إذا بولغ فيها زعزعت العقيدة وأورثت فزعًا واضطرابًا وجُبنا وانكسارا.
فهذه الكلمات العظام شعّت باليقين الراسخ الذي هدهدَ غطرسة الشرك، وفلَّ جموع الباطل، وأحيا مادة النصر، ورفرف بيارق العز والسعادة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، وفي ساعة أخرى شديدة إذ تدنو سهام الموت ويتسع البلاء بسعدٍ رضي الله عنه حيث يُصاب بسهم في الخندق، يصُدّ تقدمه، ويوقف جهاده وإصراره، لكنه لا يفقد الأمل، ولا يتذرع بالوجع، بل يصنع الطموح في وقت الجراح، ويولِّد العزيمة أثناء الكروب والشدائد. ففي مسند أحمد بسند حسن قال سعد بعدما أُصيب: (اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريشٍ شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبّ إليَّ من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيّك وكذبوه وأخرجوه. اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تُمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة).
أيها الإخوة، من يجود بمثل تلك الكلمات في موطن البلاء والسقم، أو يعالج في نفسه حب الدعة والارتياح وتشتاق نفسه لميادين الرهب والخوف؟! إنه القلب المؤمن الذي أشرق بالقرآن، وامتلأ بالإيمان، ونُقِّي من حب الدنيا وكراهية الموت. إنه قلب سعد الذي لم يُقم للدنيا وزنًا، ولم يرفع بها رأسًا، ولم يهبها عقلاً ولا بالاً. صانه الله أن يكون من عبيد الدنيا، وحفظه من مفاتنها وألاعيبها، فبات طالبًا للآخرة، ساعيًا للشهادة، راغبًا فيما عند الله، إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 47].
لقد مات سعد من أثر السهم، إذ انفجر جُرحه بعدما حكم في بني قريظة بحكم الله تعالى. نعم، مات جسده في عام الخندق، ولم تمت أخباره البهية ولا آثاره المرضية، لقد مات مفارقًا الدنيا، تاركًا مبادئَ رواها وأخلاقًا أحياها ومُثُلاً أسسها وبناها.
لقد أبقى لنا سعد تراثَ البطولة الصادقة والتضحية الجبارة التي تعيش لتسمو بالإسلام، وتعز لتعلي أهله كالأطواد والأعلام. وخلَّّف سعدٌ لنا عقيدة الإيمان بالله التي لا تخشى النكبات، وتتحدى الرزايا والابتلاءات، وشعّ منها مبدأ الثقة بالله وبوعده ونصره، وأنه لا يتخلف مهما انتفخ الباطل وكثر الأعداء والمنافقون، قال الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [الصافات: 171- 173]. وعلّمنا سعد دروس الصبر والعزيمة والاحتمال، وشرح لنا الحزم في المواقف، وشدة البأس في النزال، والفدائية إذا حانت الساعة، ومنهاج السلامة لطلاب السلامة، وطريق الآخرة لمرتجي الثواب العظيم والمقام الكريم.
ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)) ، وفيه أيضًا عن سمرة في حديثة الطويل قال : ((رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي، فأدخلاني دارًا هي أحسنُ وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء)).
إن سعدًا قد تبوأ تلك الدار الكريمة التي زانت بأطايب النعم ومباهج المنن، ولقد تواتر الحديث الشريف عن النبي الذي رواه أحمد وابن سعد والحاكم وغيرهم: ((إن العرش اهتز لموت سعد فرحًا به)) ، وناهيك بها شرفًا وفضلاً. وفي الصحيحين عن أنس قال: أُهدي لرسول الله جُبّة من سندس، وكان ينهى عن الحرير، فتعجب الناس منها فقال: ((والذي نفسي بيده، إن مناديلَ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ منها)).
أيها الآباء والمربون، لكم في هذه السيرة أنبل الدروس وأحسنها، فأفيدوا منها، وانتهجوا رسمها، وقرّبوا للناشئة هذه السيرة وأشباهها، وإياكم وتغييب الأبناء عن سير العظماء من هذه الأمة الذين ماتوا ولم تمت أعطارهم، وما جفت مزاهرهم، بل في كل يوم تجدّد وظهور، لا يعرف الذّوبان والركود.
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرِّرُ
رضي الله عن سعد والصحابة الكرام الذين هم كما وصفهم الله تعالى: صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته...
(1/5246)
معالم في تربية الشباب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
23/7/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أبناؤنا فلذات أكبادنا. 2- التنبيهات الأساسية في تربية الشباب. 3- كلمة خاصة للشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 5].
أيها الناس، يظل الشباب والشببة هم عماد الأمة وتاجها وعزها وحضارتها، فلا نكير إذ هم صناع الحضارة وعُدّة التقدم وذخيرة المواجهة، بهم مراقي الفلاح ومدارج العز ومعالي الطموح، والشباب هم ثمرة نعمة الأبناء التي بها فَخار الآباء وعزهم ومكانتهم، فالأبناء للآباء السعد والمدد والبر والإحسان والرعاية والمتابعة.
إنَّ الأبناء أكباد الآباء، يعيشون أفراحهم وأحزانهم، ويصنعون هممهم وبطولاتهم، وهم يبذلون لأجلهم أرواحهم وعواطفهم ومشاعرهم، ولا يرخصونهم من التعب والكثرة.
مُحمّدُ ما شيءٌ تُوهِّم سلوةً لقلبِي إلا زاد قلبِي من الوجدِ
أرى أخويك الباقيين فإنما يكونان للأحزان أورى من الزّندِ
وأولادنا مثلُ الْجوارح أيها فقدناه كان الفاجعَ البينَ الفقدِ
لكلٍ مكانٌ لا يسُدُّ اختلالَه مكانُ أخيه من صبورٍ ولا جَلْدِ
أيها الإخوة، إنَّ صلاح الابن صلاحٌ لأبيه، وربحه أرباح لأبيه، فهو نوع من بقاء العمل الصالح واستمراره ونمائه، وفى الحديث الصحيح: ((أو ولد صالح يدعو له)). فلنحرص جميعًا على استغلال هذه النعمة وحراستها بأسباب الحفظ والرعاية. وقد روى الإمام النسائي في سننه بسند على شرط الصحيح عن قُرَة بن إياس قال: كان نبي الله إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فقال له رسول الله: ((أتحبّه؟)) فقال: أحبَّك الله كما أحِبّه، ففقده، وفي رواية: فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي ، فقال: ((ما لي لا أرى فلانًا؟!)) قالوا: يا رسول الله، بُنيّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي فسأله عن بُنيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه ثم قال: ((يا فلان، أيّما كان أحبُّ إليك: أن تمتَّع به عمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟)) قال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ، قال: ((فذاك لك)).
أيها الآباء والمربون، هل استشعرتم قول الله تعالى: المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]، هذه الزينة وتلكم البهجة لا تطيب وتحسن إلا بمتابعتها ورعايتها وتهذيبها. لقد فاز أبٌ اصطفى المعدِن وسقى الغرس وتابع النمو وأصلحَ الخلل وصنع الهم والاهتمام، فاهتزت تلك الثمرة وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.
إن شباب الإسلام أبناؤنا وفلذات أكبادنا، عزهم عزنا، وضعفهم ضعفنا، وخسارتهم خسارتنا، فماذا أعددنا لشبابنا يا معشر الآباء والمربين؟! فاسمعوا وعوا هذه الكلمات اللطيفات والتنبيهات الأساسيات في تربية الشباب.
فهذه معالم حية أسوقها إليكم، ومن خلالها نرسم المنهج الصحيح الأقوم لتربية شباب الإسلام، وهي: المدد الإلهي، وصناعة الشخصية، والمسار الصحيح، وإبراز الهمم والعزائم.
إن شبابنا ـ يا مسلمون ـ شباب مفطورون على عبادة الله وحده، فليكن أول ما يعتقدون من أدبكم وتربيتكم تعظيم الله تعالى وإجلاله، فلا بد من إذكاء العاطفة الدينية وتأجيجها؛ بمحبة الله فيهم وتعظيم شرعه والمحافظة على فرائضه وحقوقه، فليكن أول طريق وسفر يسلكه الشباب المسلم هو طريق المسجد الذي به يرتفع نسبة الإيمان بربه، ففي المسجد يؤدي الصلوات الخمس، ويقرأ القرآن، ويسمع الدروس، ويرى اجتماع المسلمين، ويدرك الأخوة الإسلامية، وفي المسجد تشع عليه الأنوار، ويطهر من الأوزار، ويعرف ركب الأخيار من الأشرار، وفي المسجد يصبح الحس إسلاميًا والفكر دينيًا، فيقوّم الناس وأفعالهم من خلال المسجد وأنواره وبركاته.
وليتُعن الأب والمربي بتقريب القرآن لذلك الشاب وإبراز أهمية القرآن في حياته، وأنه منهاج الحياة وهداية الناس ونور البشرية، وانضمامه لحلقة قرآن من صغره مما يسهل القضية ويثبت أركان الفتوة ويصلح الخلل والاعوجاج، وقد قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحبّ أن يغدو كل يوم إلى بُطحان أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كَوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟)) فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيَعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، وأعدادهن من الإبل)).
وأما بناء الشخصية فكلنا يتمنى أن يرَى ابنه تام الرجولة حسنَ الأخلاق عظيم الفائدة، ولكن ذلك لا يحصل إلا بجهد مبذول وحسّ معقول وحرص مسلول، فعلى الأب الناصح تربية الابن على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فليبث في روحه خصال الصبر والجلد والشجاعة، وليجنبه مسالك الجبن والنعومة والرفاهية، وليعرض له سير الأبطال والمجاهدين من أهل الإسلام، فإن لها بالغ الأثر وأعظمه في التربية على الشجاعة وزراعة الثقة وطلب المعالي والأمجاد.
فإن سن الفتوة أو ما يسمى بالمراهقة فيه صور مشرقة لأبطال الإسلام الذين تربوا على الإيمان الوهاج، الذي يصقل النفوس ويدفعها للعلاء ويجنبها الخواء، فسماع الأبناء لقصة مصعب بن عمير الشاب اليافع الذي يبعثه النبي سفيرًا إلى المدينة يعلم القرآن وينشر الدعوة، أو قصة علي رضي الله تعالى عنه الذي أسلم صغيرًا ويشبّ على حمل السيف ومحبة الفدائية ويُسقِط رأس الكافر في الخندق وهو في سن تسمى هذه الأيام بالمراهقة، أو يسمع أبناؤنا بطولة محمد بن القاسم فاتح السند والهند وعمره سبع عشرة سنة، أو يسمعون قصة محمد الفاتح البطل العثماني رحمه الله فاتح القسطنطينية الذي كانت ترتعد منه أوروبا فَرقًا وأذعنت لحكمه وسياسته، ولما أتاها خبر وفاته أمر البابا أن يُحتفل بعيد وأن تقام صلوات الشكر مدة ثلاثة أيام فرحًا وابتهاجًا بموته.
إن هذه القصص والأخبار كافية في صياغة شخصية مؤمنة، تطلب السمو والعلاء، وتأبى الجبن والخورَ، وهى خير من غثاء مبثوث هذه الأيام، يعكس البطولة، ويرفع من قيمة اللعب والسفاهة في ملهيات فارغة وتنشيطات تافهة، فإلى الله المشتكى.
أيها الآباء الكرام، ومن صناعة الشخصية رسمُ معنى القدوة الحسنة في حياة الشباب قولاً وفعلاً وتطبيقًا، فلا يراك أبناؤك إلا في خير، ولتطبق لهم بعض هذه الخصال الطيبة في الحياة، فإن الولد سر أبيه، يحذو مثله، ويرتسم فعاله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ومسألة القدوة الحسنة من أعظم المؤثرات في شخصية الشاب، فاحرصوا أن يحمل الشباب عظيم الخصال ومعالي الأمور وآفاق الاعتزاز.
مشى الطاووسُ يومًا باختيالٍ فقلّد شكل مشيته بنوهُ
فقال: علام تَختالون؟ قالوا: سبقت به ونحن مقلَّدوهُ
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوهُ
والمسار الصحيح ـ يا مسلمون ـ أن يتقي الآباء الله في أبنائهم، فإنهم رعاة مسؤولون، وقد حملهم الله أمانة التربية وضمانه الرعاية والإصلاح، فليعتنِ الأب بجرّ الأبناء لمسالك الهداية وأسباب السلامة، بالدعاء لهم بالصلاح ودفعهم للمساجد وتسجيلهم في الحلق وتعويدهم الخير وتقريبهم من الأخيار البررة، وليحذر أن يصرفهم لمسالك الغواية، من تركهم هملاً في الشوارع والمقاهي السيئة، أو زجهم في عصابة السوء أو حمالي المخدرات، أو عرضهم على الفكر المنحط من الروايات الساقطة والمجلات الخليعة والفضائيات الوقحة الهادمة المؤججة لنار الفاحشة والقامعة للأخلاق والمروءة.
وإن من أعظم الغش للشباب أن يُسكَّنوا أو يسكَّتوا بالانغلاق على الفضائيات الممسوخة، وإن الأب ليأثم بذلك إثما عظيمًا، فأين غيرتكم يا أصحاب الغيرة ويا أرباب الثقافة ورواد التربية؟! وقد ثبت في المتفق عليه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من راعٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وفى رواية: ((فلم يُحطها بنصحه لم يجد رائحةَ الجنة)).
فاتقوا الله معاشر الآباء، وخذوا بأيدي الشباب إلى مساعي الخير والهدى والفلاح، فإنكم أصحاب المسؤولية، وعليكم الضمانة والتبعية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والشكر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأما المعْلَم الأخير فهو إبراز الهمم والمواهب، فإن شبابنا طاقات متأججة وهمم حارقة وعزائم صاعقة، لكنها تحتاج لمن يفك سوارها ويلهب فتيلها ويهديها طريقها؛ لهذا فقد خصها النبي بأنها من المسؤول عنه يوم القيامة، فقد روى الترمذي في سننه بسند حسن عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسألَ عن خمس: عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمِل فيما علم؟)).
ففي شبابنا قوى عقلية تصلح للعلم والفقه والإبداع والاختراع، وفي شبابنا همم تتطلع للمجد وتأبى الضعَة والهوان، متعلقة بسِيَر الأبطال والأفذاذ من أهل الإسلام، وفي شبابنا طاقات تصلح للعمل والمجاهدة والبناء. فالمهم أن يقوم الأب بإبراز همة الشباب أو إلهابها أو إعدادها أو صناعتها وتوجيهها.
إنكم ـ يا معاشرَ الآباء ـ ترون واجبًا عليكم وظيفة الطعام والكساء، وكذلك البناء الفكري السليم والقاعدة الثقافية الصحيحة لا تقلّ أهمية عن ذلك، في عصرٍ اجتاحته الأفكار المختلفة والمغريات الفتانة، فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2].
مثل هذا المعْلَم لا يتأتى إلا بالمتابعة الحسنة والتشجيع الدائم والرفق الأليف والعزلة الاجتماعية، ونقصد بالعزلة الاجتماعية توفير المناخ الجاد للشاب الجاد، فإن عصركم ـ يا مربون ـ حُشي بدناءة الهمم وتفاهة الأحداث وضعف النفوس، فجنبوا أبناءكم هذه الموارد وأصحابها وشعاراتها، فإنها شرَك الشباب ومَصيدة العقول والبصائر، ((فالمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). ولما رأى النبي أمانة ابن مسعود وحسن تأهله للعلم قال له: ((إنك غلام معلَّم)) ، فصار الغلام إمامًا يقتدى به، ويقصده الناس للعلم والتفقه.
فالمهم ـ يا أيها الآباء ـ أن لا نستعجل الثمرة، وأن نمتلك مقدارًا واسعًا من الصبر والحلم والرفق، يكتنفه المثابرة والجد والاهتمام، وكلما كانت الرعاية حكيمة كانت الثمرة يانعة بإذن الله تعالى، وكما قيل: "بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى". وفق الله الجميع لمحابه ومراضيه، وجنبنا وإياكم مكارهه ومعاصيه.
عباد الله، هذا هُتاف مخصوص ونداء ميمون لإخوتي الشباب، أخص به قلوبهم، وأنادى به هممهم، فأقول: أين رسالتكم يا شباب الإسلام؟! وأين مبادؤكم؟! وما تحملون؟! هل ترضون أن تكونوا أتباعًا للغرب وأسمارًا للشهوة والرذيلة؟! هل أنتم أحفاد معاذ وزيد وطارق، أم أنكم فئام جئتم بلا هدف ولا رسالة؟! هل فكرتم في الأوقات المبذولة في الضحك والسمر والتوافه؟! وهل ذقتم حلاوة الضياع والسفه والبطالة؟! لقد مُتعتم بالقوة والعافية والعقل والتضحية، فأين هي منكم لدينكم وأمتكم؟! خاب وخسر أقوام همهم بطونهم وحياتهم شهوتهم ومناهم لذتهم.
ألم تسمعوا المكتشف العالمي الكافر الذي ملأ البشرية باختراعاته، عندما سئل عن العبقرية فقال: "واحد في المائة وراثة، و99 في المائة عَرق جبين"، ولم يكن له عقل مزكّى بصير. وهل مرَّ عليكم ذاك الجاهلي الذي يطلب المجد والرفعة وليس له دين يهديه فيقول:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ
ولكنما أسعى لمَجد مؤثّل وقد يدرك المجدَ المؤثل أمثاليِ
وقد قال مصلحنا ونبينا في بيعة العقبة الثانية عندما قالت له الأنصار أو أبو الهيثم بن التيّهان: يا رسول الله، إنه بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، فهل حسبت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5247)
من بطولات الشباب
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
30/7/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مرحلة الشباب. 2- صور من شباب الصحابة رضي الله عنهم. 3- وصية للشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70].
أيها الناس، لم تكن مرحلة الشباب في حياة المسلمين مرحلة للحياة البهيمية أو الثورة الشهوانية أو الطفرة الرياضية أو التعاسة الفنية، بل كانت مسرحًا للبطولات وميدانًا للتضحيات ومدرسة للفدائيات. وكانت فترة الشباب فترة لصناعة القوى العقلية وتأمين البنى الثقافية، فالشباب قوة متوهجة، هي حسّ الأمة ونبضها وصمودها، وإنها لفترة ذهبية للأمة، فتسارع في تقويتها وتربيتها وإعدادها الإعداد التام.
وليتذكر ـ إخواني الشباب ـ أنهم مسؤولون عن أعمارهم، وعن شبابهم خصوصًا، وكما في الحديث الصحيح: ((وعن شبابه: فيم أبلاه؟)). فالعمر قصير، والزمان سريع، والفتن أخاذة، والأشغال كثيرة، فالبدار البدار، قال الإمام أحمد رحمه الله: "ما شبَّهت الشباب إلا بشيء كان في كُمي فذهب".
أيها الإخوة الكرام، إنَّ من أبلغ صور الشقاء والتعاسة أن تكون طاقات الشباب خائضة في محيط الملاهي، فتُهدر الطاقات في سفاهات، وتورد الألباب موارد الهلكة والتباب، ويجعل المواهب في مرارة الموائد واللذائذ، وإنه لمن النكسة أن يكون شبابها بلا عقول، يرومون الملذات، ويتهيّبون المعالي، ويستحسنون القبيح.
أين الشباب الذين يأنفون الذلة والهوان ويشتاقون للمعالي ويذلّلون الصعاب ويصنعون المستحيلات؟! لقد كان شبابنا الأوائل متَّقدي الهمم مشتعلي العزائم، يمتطون التضحيات ولا يرهبون الأزمات، صغيرهم لا يرضى بالدون ويطلب العلاء ولا يخشى الدوائر. هل تصدقون أن ناشئتهم فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى ومتعهم بطولةً وإقداما وشجاعة وجهادًا؟!
وسوف أسوق لكم أمثلة نطّلع من خلالها على أسرار الهمة عند شباب الإسلام وعظمة البطولة وسمو المقاصد والتضحيات. وإذا كان هذا الزمان صعبًا فإن لدينا إمكانات ووسائل نُصلح بها همم الشباب ونطور عقولهم ونصنع بطولاتهم ونجعل منهم جيلاً ربانيًا معطاءً. ليس عسيرًا صياغة شبابنا صياغةً جادة إذا أعطيناهم اهتمامًا بارزًا ووقتًا معينًا وجهدًا كبيرًا يضاهي أشغالنا ورغباتنا وشهواتنا، فهل نفي هذه القضية ونعطيها حقها؟!
أيها الفضلاء، دعونا نحلِّق في سماء مجد الأبطال، فنستنشق عبير أخبارهم، ونستلهم طيب أحاديثهم، ونعيش روح قصصهم وأمجادهم، فالأرواح تشتاق إليهم، والأطماح تتوقهم، والأبصار تتصاعد وتشخص إليهم، فكم من حديث لهم فيه عبرات وقد حُشي بالمباهج والمكرمات.
أبدًا تحنُّ إليكمُ الأرواحُ ووصالكم ريْحانها والرّاحُ
وقلوبُ أهل ودادكم تشتاقكم وإلى لذيذ لقائكم ترتاحُ
وارحْمةً للعاشقين تكلّفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تُباحُ
وإذا همُ كتموا تحدَّث عنهم عند الوداع الْمدمع السفاحُ
فإلَى لقاكم نفسه مرتاحة وإلَى رضاكم طرفه طمّاحُ
فتشبّهوا إنْ لم تكونوامثلهم إنَّ التشبهَ بالكرام فلاحُ
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه من شباب المسلمين ومواليهم، شابٌ امتلأ قلبه بالإيمان وبمحبة الله ورسوله، فآثر دينه على دنياه، وجعل الفروسية فوق اللذاذة، فاستروح كل مكروه في سبيل الله، ولم يبالِ بكثرة التبعات وشدة البلاءات، فراحَ يهدّ صفوف المشركين هدًّا، في شجاعة وثابة وإقدام شديد.
أحبّه النبي ، فكان من حبه أن اصطفاه للإمرة في الجهاد، وليس في موضع الدعة والارتياح، فتكلم بعض الناس في إمرته لحداثة سنه، فجاءت التزكية الفاصلة والشهادة الغالية من النبي ، كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : ((إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل. وايمُ الله، لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)).
بعث رسول الله أسامة على جيش من المسلمين، حيث قُتل أبوه ناحية البلقاء، وفي الطريق توقف في مواطن قضاعة يسيرًا، وبدأ بتتبع آثار المرتدين، حتى فروا وهربوا، ثم انتقل إلى جُذام، فأغار عليهم إغارة شديدة، وسبى وحرَّق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلهم حتى صارت أعاصير من الدخان، وأجَالَ الخيل في نواصيهم، وقضى يومه في تعبئة ما أصابوا من غنائم ثم لم يقم، وإنما كرّ راجعًا من مساء يومه وعاد بالجيش بلا ضحايا. وقال عنه المسلمون يومئذ: ما رأينا جيشًا أسلمَ من جيش أسامة.
وكان هرقل بحمص حين بلغه ما صنع أسامة بعملائه من العرب، فدعا بطارقته وقال لهم: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتُغيرُ عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم تُكلم أي: تجرج، لله درك يا أسامة! ما أشجعك وأصبرك على ميادين البطولة ومنازل الشهادة.
وشاب آخر هو حيدرة الأبطال علي بن أبي طالب ، فكان سيفًا مُصلتًا على الأعداء، ارتضع البطولة من صباه، وتدرع بالحماسة والجسارة، فكسر أعناق المشركين وزلزل قلوب المعتدين، وكان من فرط شجاعته وإيمانه أنه نام مكان رسول الله في حديث الهجرة، وخرج في بدر مبارزًا صناديد قريش، فاستأصل طليعتهم وأباد بارقَهم.
وفي غزوة الخندق يخرج كبش الكتيبة عمرو بن عبدود العامري من رؤوس المشركين، وكان ممن جاز الخندق، فصاح طالبًا النزال، ويقول: أين جنتكم يا مسلمون؟! هل من مبارز؟! فيخرج له على متَّشحًا بالبسالة، وعلى رأسه لهيب الإقدام والنضال، فيحتدّ البراز بينهما ساعة، ويثور العجَاج، فيمكّن الله عليًا من ضربه وبقر بطنه، فيكبر ويكبر رسول الله ويكبر المسلمون فرحًا واستبشارًا.
وفي غزوة خيبر يقول النبي : ((لأُعطينَّ الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه)) ، فيعطي الراية عليًا، فيكون خير فاتح ومجاهد، ودكّ حصون اليهود، وكسر شوكتهم.
وفي الغزوة يخرج فارس خيبر مَرحب اليهودي، وكان أشدَّهم وأجلدهم، فيخرج له علي بلا حَيرة أو تردّد، متطلّعًا لمدارج العز أو منازل الشهادة، فقال مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحبُ شاكي السلاح بطل مجرَّبُ
إذا الحروب أقبلت تلهَّبُ
فقال علي :
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيلَ السندره
فالتقى حيدرة بمرحب، فما أخطأ رأسه، وكان الفتح على يديه.
لأدفع عن مكارمَ صالحاتٍ وأحمي بعدُ عن عرضٍ صحيحِ
معاشر المسلمين، إن حلاوة الإيمان لتتلذّذ بألوان التنكيل والعذاب حبًا لله ولرسوله، فها هم آل ياسر يعذبون في مكة على الإسلام، صغيرهم وكبيرهم ونساؤهم، فلا يرتدّون أبدًا عن دينهم، بل يصمدون ويحتسبون، ويمرّ عليهم رسول الله ولا يملك لهم حَولاً ولا طَولاً، فيقول لهم مثنيًا: ((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)) أخرجه الحاكم وغيره بسند حسن.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23].
لقد كان هذا الإيمان العجيب الذي فاض على صحابة رسول الله طريقًا للصدق الذي صنع منهم جيلا يترسّم معاني البطولة بشتى أنواعها، ولا يرضى بالدون والدناءة، ولا يغتر بالدنيا وزخارفها.
فذلكم مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه أعطر أهل مكة وأجملهم نضارة وشبابًا، صار بالإسلام رمزًا للفداء والتضحية، وتلذّذ بخشونة العيش على النعومة والرفاهية. كان مصعب سفير الإسلام إلى المدينة، والداعية الأول الذي بثَّ النور في المدينة، وأسلم على يديه ساداتها ورجالها.
ومن التعليم والدعوة ينتقل مصعب إلى ميدان الجهاد، ليكون كوكب الشهداء، فيضرب مثلاً ساميًا في علو الهمة والصبر والثبات.
ذكر أهل السير أن مصعبًا شهد أُحدًا وكان حامل اللواء، فقاتل بضراوة بالغة يدافع عن النبي ، فضربه ابن قمئة على يمناه حتى قُطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى وصمد في وجوه الكفار، فضربه المشرك حتى قُطعت يسراه، ثم برك عليه بصدره وعنقه، حتى قتل رضي الله تعالى عنه.
فيقول خباب رضي الله تعالى عنه مشيرًا إلى فضل مصعب وما حصل له من الكرامة: هاجرنا مع رسول الله نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد، وترك نَمِرة، فكنا إذا غطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهدِبُها، أي: يجتنيها.
وفي غزوة أحد يأتي الشباب الصغار لكي يشهدوا الغزوة مع رسول الله ، فيردهم لحدَاثة أسنانهم، فقال رافع بن خَديج : إني رامٍ كما يرمي الشيوخ، فيجيزه عليه الصلاة والسلام، فيأتي سَمُرة بن جندب فيقول: يا رسول الله، أجزت رافعًا ولم تُجزني، ولو صارعته لصرعته، فيأمرهما أن يتصارعا، فيصرع سمرة رافعًا، فيجيز الاثنين معًا.
وهكذا ـ يا معاشر المسلمين ـ تتصاعد همم الأبطال، وتتسامى عقولهم، زاهيةً في رياض الإيمان، طامحة للمعالي، وراغبة عن السفاسف والمغريات.
يا إخواني الشباب، لكم في هؤلاء البررة أسوة حسنة، تعلَّموا من أخلاقهم، واحملوا من مبادئهم، واستمتعوا بأحاديثهم، فلقد توخّوا الانتصارات في شدائد الملمات، وحازوا اللذائذ على جسر المصاعب، ورَموا بالنفوس مرامي العز والشرف، وصانوها عن منازل السفه والعبث.
وعلى المستوى العلمي والثقافي يغرس الإسلام غرسًا بالغًا، يتطلع للعلم وللمعرفة، فيؤثره على الحجاب والشهوات، من هؤلاء زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه الإمام الفرضي الحجة الذي جمع القرآن وكان أهلاً لذلك، ففي الصحيح أن أبا بكر قال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه.
وهو الذي تعلَّم السُّريانية لغة اليهود في سبع عشرة ليلة، كما عند الحاكم. وعند أبي داود والترمذي بسند حسن زيد قال: أمرني رسول الله أن أتعلم له كتاب يهود، فقال: ((إني ما آمن يهود على كتاب)) ، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته وكان إذا كتب إلى يهود كتبتُ إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم. قال ابن عباس : لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.
وقفوا على هامِ الزمان رجالا يتوثّبون تطلعًا ونضالاً
وحي السماء يَجيش فِي أعماقهم ونداؤه من فوقهم يتعالى
شباب الإسلام، يقول الشيخ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في وحي القلم: "يا شباب العرب، يقولون: إن في شباب العرب شيخوخةَ الهمم والعزائم، فالشباب يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون، وإن اللهو قد خف بهم حتى ثقلت عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات، وإن الهزل قد هون عليهم كل صعبة فاختصروها، فإذا هزؤوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة، وإن الشاب منهم يكون رجلاً تامًا، ورجولة جسمه تحتج على طفولة أعماله. يا شباب العرب، اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا، إما أن يحيا الإسلام عزيزًا وإما أن تموتوا".
اللهم اهد شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أنزلهم منازل العز والفضيلة، وجنبهم مسالك اللهو والرذيلة، اللهم اجعلهم لأمتهم فخارًا ولدينهم أنصارًا، اللهم احفظهم من ألوان العبث والسفه والبلادة، واجعلهم من أهل المروءة والشهامة...
(1/5248)
نعمة الدين وفساد الحضارة الغربية
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, محاسن الشريعة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
16/11/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة المزيفة التي رسمتها الحضارة الغربية. 2- نعمة بعثة الرسول. 3- تقدم الغرب مدنيا وإفلاسه روحيًا وتدهوره عقائديًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
إخوة الإسلام، هل تأمل أحدكم حال الناس بغير دين؟ وكيف اجتاحتهم الظلمات ومزقتهم النعرات؟ ! لقد هلكت الأمم بإعراضها عن منهج الله تعالى، ولقد شقيت شقاءً قطع أسباب الفوز والفلاح والسعادة. لقد بلغ الغرب الكافر أَوجَ الحضارة وقمة المدنية، وحاول صناعة الحياة والسعادة، ولكنه قتل الإنسان؛ إذ جعله يسير بغير دين، وإن تلبس بدين تلبس بخرافات وتفاهات وشهوات، وادَّعوا أنهم أمنَة الإنسان ومصدر حياته وحريته، ومع علومهم الحضارية المتسعة إلا أنها لم تبلِّغهم سر الحياة، وما هدَتهم إلى درب النجاة، فالأمر كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].
أدهى من الجهل علمٌ يطمئن إلَى أنصاف أناسٍ طغَوا بالعلم واغتصبوا
قالوا هم البشرُ الأرقى وما أكلوا شيئًا كما أكلوا الإنسانَ أو شربوا
لقد أكلوا الإنسان وقتلوا فطرته ودمروا إنسانيته؛ بحرمانه من الدين القويم والصراط المستقيم، فها هو الإنسان الغربي يعيش في رياض الحضارة وقد هدّته آثار التعاسة وحفته أركان الشقاء والكآبة ظن الحياة السعيدة في التحرّر من القيود وامتلاك زمام الحرية والانفتاح، فصار يأكل الشهوات أكلاً، ويلتهم اللذات التهامًا، معتقدًا تحقيق الارتياح والظفر بحياة الرخاء والفلاح، فكان من جراء هذا المسلك اشتداد الظلمة وتضخم الحسرة وازدياد البلايا والأنكاد.
فغير خافٍ على عقلاء المسلمين ما تعُجّ به الحياة الغربية من التعاسة المطبقة والشهوة القتالة والفساد المدمر والانتحارات الدائمة مع ما حصل لهم من حضارة زاخرة وازدهار دنيوي، ولكن كما قال الله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ [الأعراف: 179]. لقد اجتاحوا العالم بحضارتهم المذهلة، واجتاحتهم الغفلة لما حاربوا الدين وأعرضوا من منهج الله وركنوا إلى الحياة الدنيا، أولئك هم الغافلون.
لم تكن غفلتهم هينة لما بغَوا في الأرض وكذبوا بدين الله، ولم تكن الغفلة يسيرة لما سلبوا الإنسان حقوقه، ولم تكن الغفلة يسيرة لما نزلوا أحط من البهائم وصاروا بمنزلة من لا يفقه ولا يسمع، إنها لغفلة شديدة، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10].
معاشر المسلمين، لقد كانت بعثة رسولنا رحمةً للناس، لمت شملهم، وأحيَت قلوبهم، وجمعَت حطامهم، فأكسبتهم السعادة والنضرة والحياة الطيبة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
لقد كانت الحياة قبل المبعث ضلالاً مبينًا وجحيمًا قاتمًا لا يوصف، عُبدت الأهواء، وتسلطت الشهوات، وتاهت العقول، وديست كرامة الإنسان، فكانت هذه الرسالة للناس ميلادًا جديدًا وحياةً بهيجة، أشرقت لها الدنيا وأضاء الكون واخضرَّ الوجود، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران: 164].
قد كانت الأيامُ قبل وجودنا روضًا وأزهارًا بغيْر شَميمِ
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا ليلاً لظالمها وللمظلومِ
لَما أطلَّ محمدٌ زكتِ الرُّبى واخضرَّ فِي البستان كلُّ هشيمِ
وأذاعت الفردوس مكنونَ الشذا فإذا الورى في نضرةٍ ونعيمِ
ولكي تدركوا عظمة الدين على الشعوب تأملوا ما حلَّ في ديار الإسلام من أمن وأمان وسلامة ورخاء، وانظروا إلى أمم الكفر عندما عاشوا بغير دين، صاروا مثل البهائم بل أحط، ومثل الجمادات بل أشد، ومثل التائهين بل أضل.
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد: 12]. هذه حقيقة قرآنية تكشف أن الكفار في حياتهم كالبهائم والأنعام، ليس لهم أهداف، ولا تحوطهم غايات نبيلة، وإنما يسعون للأكل واللذة والشهوة، سمت عقولهم لتحصيل المال وزجّه لمطالب النفوس والبطون، والعياذ بالله.
أيها المسلمون، لا ننكر تقدم الغرب مدنيا، ولكننا نثبت إفلاسه روحيًا وتدهوره عقائديًا، فلقد حارب الدين ليعبد الشهوة، وشُغف بحب المال، وانحرف من النصرانية المحرفة إلى المادية الجامحة بكل معانيها، ونظروا للكون على أنه لا خالق له ولا مدبر.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله في كتابه الفذ: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين): "فمما لا شك فيه أن دين أوروبا اليوم الذي يملك عليها القلب والمشاعر ويحكم على الروح هو المادية لا النصرانية، كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الأوروبية واتصل بالأوروبيين عن كثب لا عن كتب، بل وعن كتب أيضًا، ولم ينخدع بالمظاهر الدينية التي تزيد في أبهة الدولة، والتي يجد منها الشعب ترويحًا للنفس وتنوعًا، لم ينخدع بزيارتهم للكنائس وحضورهم في تقليدها".
أيها الإخوة، لا حياة للبشرية بغير الإسلام، ولا مستقبل لها في ظل عبادة المادة والشهوة والمال. لقد فشلت كل الأنظمة الكافرة في توفير السعادة للإنسان واستنقاذه من براثن التيه والظلم والضياع، فلقد تطورت وتقدمت في شتى مجالات الحياة، ولكنها خسرت خسارة عظيمة ببعدها عن الدين واستنكافها عن الإسلام.
أيها الإخوة، إن خسارة العالم ليست في تدهور الاقتصاد، وليست في شحّ المياه، وليست في كثرة متطلباته، إن خسارته في ابتعاده عن الدين وحرمانه من نعمة الإسلام. لقد حَرم المسلمون بانحطاطهم العالمَ من نعمة الإيمان ومن أنوار السعادة، وتركوا مسرح القيادة لمن سوّد الحياة وأفسد العقول ووأد الإنسان.
قالوا: همُ البشر الأرقى وما أكلوا شيئًا كما أكلوا الإنسان أو شربوا
لقد انحط العالم بانحطاط الأمة المسلمة وتدهوَر بتدهورها، وبات ينقاد لأهواء البشر لمّا هان المسلمون وتباعدوا عن شريعة ربهم، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، لقد اغتر كثير من أبنائنا وشبابنا بالحضارة الغربية، وذهبوا يغوصون فيها، جاعلينها قبلتهم، ومتخذينها قدوتهم، يعظمون مفاخرها، ويبرزون أمجادها، ويتعلقون بجمالها، متناسين إفلاس هذه الحضارة دينيًا وأخلاقيًا، وهل يفلح الجمال بلا دين؟! وهل تستقيم الحضارة بلا أخلاق؟!
تأملوا ما هم فيه من ويلات؛ ذهابُ الدين، وفقدان الأمن، والحيرة المستديمة، والطبقية العابثة، والتمزق الاجتماعي، والانحراف الأخلاقي، وحوادث القلق والظلم والاعتداء، ودوامة لا تنتهي لأنهم عبدة الرقيِّ المادي، الجاحدون للرب وللدار الآخرة، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية: 24].
أخزى الله حضارة لا تؤمن بربها، ولا تهتدي بهداه، ولا تعرف سبيله، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].
إخوة الإسلام، اشكروا ربكم على نعمة الإسلام وعلى حلاوة الإيمان، فإنكم على الهدي المبين والطريق المستقيم، إنكم على جادة الطريق ولو حصل الضعف، إنكم الناجون ولو دبّت الهزيمة، إنكم الفائزون ولو عظم الباطل، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
ما دمتم على الإيمان فليس ثمة حزن، وما دمتم مع الله تُهرَعون إليه فليس ثمة هوان، الله معزكم وناصركم، قال تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
لقد أصلح النبي اعوجاج الحياة بطائفة مؤمنة قليلة، صحَّ إيمانهم، وصدق توكلهم، وتم استعدادهم، ولم تكن لهم قوة ساحقة كقوة الإيمان الذي رسّخ جذور هذا الدين، ومد ظلاله في كل مكان، وتسلط على كل ظالم باغ. ولتدركوا ذلك طالعوا أحداث السيرة النبوية ومدارج النصر والظهور التي مرت بها هذه الفئة المؤمنة لإقامة دين الله، واستمعوا لهذه المقولة التي فاه بها رجل في غزوة بدر، وكان من فرسان المشركين، وهو عمير بن وهب، فلقد أرسلته قريش للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: "ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني، أنظر أللقوم كمين أو مدد؟"، فضرب في الوادي حتى أبعد فلم يرَ شيئًا، فرجع إليهم فقال: "ما وجدتُ شيئا، ولكن قد رأيت ـ يا معشر قريش ـ البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منَعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك؟! فَرُوا رأيكم".
أيها الإخوة، هكذا وصف صحابة رسول الله الفئة المؤمنة القليلة، يصفها بهذه القوة رجل مشرك، وكان عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
شهد الأنام بفضله حتى العِدا والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5249)
أكل الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الربا اليوم في كثير من المكاسب. 2- حرمة الربا في الإسلام. 3- من صور الربا المنتشرة عند الناس. 4- أكل الحرام وأثره في رد الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها الناس، تأمل رجل من المسلمين نفسه، فألفاها محرومة التوفيق ممنوعة البركة كثيرة الهموم والمنغصات، لم تزده كثرة المال إلا همًا، ولا سعة البيت إلا تعاسة، ولا زهرة الحياة إلا ضنكًا! تفكر وتعجب، فالمال غير منقوص، والبيت زاهٍ، والسيارة فارهة، فما الذي دبَّ في حياته ليحصل من سعادته شقاوة ومن فرحة أحزان متتابعة؟!
وفي ساعة من الساعات وعند صفائه وتوجهه إلى الله ذكر غضب الحياة وطريق السعادة، مادة العيش والمعنى، تذكر أنّ ماله قد مالَ للحرام، وأن تجارته قد تجر فيها الوباء والفساد، فراجع نفسه وحاسبها، فإذا المال يسير بلا تقوى وصيانة، ويُجمع بلا مراقبة، ويحرز على التواء وانحراف. وجد أن ماله قد غصَّ بالربا وتوابعه، وحُشي بالحرام ومشبهاته، ولم يكن يحسب أنه جارٍ في الحرام، وهو يرى الناس يجمعون بطرق ملتوية وسبل منحرفة، وقد أخلدوا للمعاملات الربوية والمكاسب الغوية والأموال المشبوهة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [النساء: 29].
أيها الإخوة الكرام، لقد تفشّت المعاملات المحرمة في أهل الإسلام، وبات الربا كبيرها وسيدها، وأصبح المسلم يأكل ولا يسأل، ويجمع ولا يتثبّت، وبتاجر ولا يتوقى؛ أعماه حبُّ المال، وأصمه طغيان الحياة، وأنساه تهالك الناس أمامه.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ليأتينَّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال، أمن الحلال أم من الحرام)) ، وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: ((هم سواء)).
أيها الإخوة، إن الله تعالى لم يجعل رزقكم فيما حرَّم عليكم، ولم يجعل سعادتكم فيما يسوؤكم، ولا غِناكم فيما يُرديكم، فلِم الانحراف في الحرام وقد أتتكم البينات؟! ولماذا الوقوع في المهالك وقد سمعتم المواعظ؟!
هل علمتم ما أعد الله لآكل الربا من عذاب شديد ونكال عسير؟! إن الله تعالى ليبعثهم من قبورهم صرعى مجانين، قال عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ [البقرة: 275]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يُخنَق). وقد عدَّ النبي أكل الربا من الكبائر والموبقات التي تهلك الإنسان وتدمره في الدنيا والآخرة.
وهاكم صورة مفزعة لنوع من عذاب آكل الربا، ثبت في صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب في حديث الرؤيا أنه قال: ((إنه أتاني الليل آتيان)) وذكر الحديث، إلى أن قال: ((فانطلقنا فأتينا على نهر ـ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم ـ، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه، فيلقمه حجرًا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغرَ له فاه فألقمه حجرًا)) ، وقيل له في تفسير ذلك: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر فإنه آكل الربا)).
فهل تأمّل أكلة الربا هذا العذاب؟! لقد أحاطوا أنفسهم بلعنة الله وغضبه، وحصروها في نقمته وعذابه، فأصابهم الخسار والدمار، وحُرموا البركة وسُلبوا التوفيق، وصاروا في شقاء عريض ووحشة دائمة.
أيها الإخوة، إن أكل الربا من أعظم الكبائر وأبشعها، والتي تقضي على الإنسان وتدمّر الأمم وتفسد الحياة الاجتماعية، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278 ، 279]، قال ابن عباس رضي الله عنه: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب). وأخرج أحمد والطبري بسند صحيح عن عبد الله بن حنظله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)).
أيها الإخوة، إن استفحال الربا وغلبته في أموال الناس لعلامة شر ودنو عذاب مقدّر، جاء في الحديث بسند جيد عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله)). ومن العذاب محق البركة وحرمان التوفيق وفقدان السعادة وكثرة البلايا وفساد الاقتصاد وخراب البيوت، فالحذر الحذرَ يا عباد الله. قال قتادة رحمة الله: "إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا، وذلك علَم ـ أي: علامة ـ لأكَلَة الربا، يعرفهم به أهل الموقف".
معاشر المسلمين، لقد غصت حياة المسلمين المعاصرة بألوان من الربويات التي أفسدت الحياة وخرقت الأواصر وأجّجت الطمع وشحنت القلوب، ومن تلك المعاملات الاقتراض من المؤسسات بفائدة صريحة، كأن يقول له: نقرضك عشرين ألفًا على أن تسدّد اثنين وعشرين ألفًا، أو يقرضه مبلغًا من المال ويجعل له أجلاً، فإن حضر الأجل ولم يسدّد زاد عليه، وهكذا حتى يتضاعف، وذلك هو ربا الجاهلية المحرم بإجماع المسلمين.
ومن ذلك بيع العينة؛ وهو أن يشترى أو يبيع التاجر سلعته مؤجلة على شخص ثم يشتريها منه نقدًا بأقل مما باع. وقد ورد في تحريمها حديث رواه أحمد في مسنده بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
ومن المعاملات المنتشرة بيع السلعة قبل حيازتها، والنبي قد قال لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، ونهى أن يبيع التجار السلع حتى يحوزوها إلى رحالهم، وقد اعتبر بعض العلماء هذه المعاملة نوعًا من العينة المحرمة.
فاتقوا الله عباد الله، وكلوا من الطيبات، وخذوا حذركم، واحفظوا أموالكم من الخيانة والموبقات، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عن سواك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، هل تذكرتم مصادر أموالكم وسلامتها من الربا والمحرمات؟! وهل سعيتم في طلب الطيبات؛ لتدوم لكم السعادة وتشع فيكم البركة وتصيبون مرضاة الله ومحبته؟!
إن طلبكم للطيبات سبب لمحبة الله ورضائه عنكم، وطريق لفلاحكم وإجابة دعائكم. إن كثيرًا من المسلمين يدعو ويدعو ويرفع يديه ولا يستجاب له، فلماذا ذلك؟! إنه بسبب أكل الحرام والربا. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] )) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعت أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).
فاتقوا الله يا مسلمون، وخذوا حذركم، فإن أكل الربا حرب لله ولرسوله، وأذان بنزول العذاب وشيوع المفاسد الاجتماعية والأخلاقية التي تشتت المجتمع وتقوِّض أركانه.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279].
اللهم وفقنا للطيبات، وجنبنا الربا والمحرمات. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5250)
حقوق العلماء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, العلم الشرعي, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم. 2- مكانة العلماء. 3- حقوق العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام، إنَّ فئة في المجتمع بلغت شخوصهم سماء العزّ والمجد، وتملّكت نفوسهم أعالي الشرف والسؤدَد، حصّلوا السعادة والبهجة في طي البلاء والنقمة، وحازوا المكارم رغم الأعادي، لم يرفعهم جاه ولا سلطان، ولم يجمّلهم مُلك ولا كبرياء، ولم يبلِّغهم نسب ولا يَسار، هم في واقعنا أضخم الأسماء وأكثرها بريقًا وأشدّها دويا، قبِلَهم الناس بلا شروط ولا ميثاق، وأذعنوا لفضلهم دون تردّد أو اضطراب؛ لصدقهم وأمانتهم وكمال ديانَتهم.
تمنى أحد أكابِر ملوك الإسلام أن يكونَ واحدا منهم، متَّصفا بصفتهم، وسائرا على هديهم وطريقتهم، وقد جيء إليه بسائر متَع الدنيا الفانيات وقدّمت له أنفس اللذاذات، قال الحافظ السيوطي في تاريخ الخلفاء في ترجمة أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي: "وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سلام الجُمَحي قال: قيل للمنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة؛ أن أقعد في مَصْطبة وحولي أصحاب الحديث، يقول المستملي: مَنْ ذكرتَ رحمك الله؟ يعني: فأقول: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان عن رسول الله ، قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال لهم: لستم بهم ـ أي: لستم بأصحاب الحديث الذين أعنيهم ـ إنما هم الدنِسة ثيابُهم المشقّقة أرجلهم الطويلة شعورهم، بُرُدُ الآفاق ـ أي: جوَّابو البلدان والمسافات البعيدة ـ ونقلة الحديث".
إنها منزلة سامية راقية، تمناها خليفة عظيم جمع ألوان السعادة في أنظار الناس، ومع ذلك اشتاق للب السعادة وحقيقة الحياة وصدق الراحة والطمأنينة.
إنهم العلماء حراس الشريعة وحماة الدين ومنارات الكون، بهم صلاح الناس وهدايتهم، وبهم ديمومة الحرية ونقاؤها وسطوع الذكر وانتشاره، العلماء كالنجوم لأهل الأرض، إذا أضاءت اهتدوا بها، وإذا أفلت ضلّوا وتحيروا، مَن مثلهم في نشر السنن ودرء الفتن ونبذ البدع وسائر الخرافات؟!
همُ العدولُ لِحمل العلم كيف وهم أولو المكارم والأخلاق والشيَمِ
هم الجهابذةُ الأعلام تعرفهم بيْن الأنام بسيماهم ووسْمِهمِ
هم ناصرو الدين والْحامون حوزته من العدو بجيش غير منهزمِ
لم يبق للشمس من نور إذا أفلت ونورهم مشرقٌ من بعد موتِهمِ
معاشر المسلمين، إنكم لتبحثون عن النجاة وتطلبون السلامة في هذه الحياة، فاعلموا أن نجاتكم مرهونة بوجود العلماء الربانيين الصادقين، فإذا قبض العلماء حلت الهلكة والفوضى والفتن، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) ، وأخرج الدرامي في سننه عن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله، ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
السادة الأعزاء، إن علماء الشريعة الأجلة لهم علينا حقوق وواجبات، يجب علينا مراعاتها ونشرها وتعليمها أبناءنا وناشئتنا، فمن أجلِّ حقوقهم إظهارهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم وصرف الجيل إلى محبتهم والاستماع إليهم، وإنه لمن الخطأ بمكان أن يعرف الأبناء رموز الخنا والسفاهة ويجهلوا علماءهم الذين هم أمنة الأمة ورعاتها وحراسها، وهم الذين يذودون عنها ويمنعونها من أيدي السفهاء والعابثين، وأما أهل اللهو والزيغ فقد عُرفت مواقفهم وانكشفت فعالهم في يوم داهمت الأمة النكبات والأزمات، فكان أهل العلم والفضل أنصح الأمة للأمة وأبرها وأحبها لها. وإنه ليسوؤنا كثيرا أن يعمد الآباء والمربون إلى تغييب العلماء والدعاة من واقع أبنائهم وشبابهم، في حين يرشدونهم إلى تراجم اللاهين البطالين الذين صرفوا عقولهم عن المعاني النبيلة والطموحات الرفيعة.
إنّ العلماء هم صفوة الأمة ونبلاؤها وقادتها وصلحاؤها، فخير لباغي الخير والسلامة معرفة العلماء والتقرب إليهم والانتفاع بعلومهم وآدابهم.
ومن حقوق علمائنا علينا إجلالهم واحترامهم والإصغاء لمواعظهم وتوجيهاتهم، وقبيح أن ترى بعض الشباب أو بعض المثقفين يذكر العلماء كذكره لعامة الناس، ويسلم عليهم سلام الباغي المترفع، لا يحترمهم ولا يكرمهم ولا ينزلهم منازلهم. روى الإمام أبو داود في سننه بسند حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)).
وقد كان سلف هذه الأمة على وعي كبير بهذا الأدب العظيم، فكانوا يُجلّون العلماء ويحترمونهم ويحفظون لهم وزنهم ومقدارهم. روى الحاكم وغيره بسند صحيح أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ بركاب ناقة زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال: (هكذا أُمرنا أن نفعل لعلمائنا وكبرائنا).
ومن حقوقهم الدفاع عنهم والذب عن أعراضهم، وفي العصور ظهر مثقفون بلا أخلاق، يهمزون العلماء ويقدحون فيهم، وربما انتقصوهم أمام العامة وحاولوا التقليل من شأنهم، ولا ريب أن انتقاص العلماء والدعاة والوقيعة فيهم من أخطر الذنوب على العبد، ويخشى عليه التردي والانتكاس. قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: "واعلم ـ يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ـ أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله فيهم لنشر العلم خلق ذميم".
وليعلم المسلم أن تنقص العلماء والاستخفاف بهم علامة وهن وسقم فيه، وليس بهدي أهل السنة والاستقامة، وقد كان الصالحون قبلنا يعرفون فساد دين الشخص بوقيعته في العلماء المخلصين.
وإن من علامة البدعيّ وقوعه في العالم الشرعي، قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر"، وقال الحسين الكرابيسي: "مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مثل قوم يجيئون إلى أبي قُبيس يريدون أن يهدموه بنعالهم".
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبِحب أحمد يعرف المتنسكُ
وإذا رأيت لأحمد متنقصًا فاعلم بأن ستوره ستُهَتَّكُ
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: "حق العاقل أن لا يستخف بثلاثة: العلماء والسلاطين والإخوان؛ فإن من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته".
وليعلم الإخوة الكرام أن القدح في العلماء إيذاء لهم، وإذا لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله ولي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد: اعلم ـ أخي رعاك الله ـ أنَّ ذبك عن أعراض إخوانك المسلمين ثواب لك ومحمدة فيك، فكيف إذا كان هذا الذب عن فضلاء الأمة وخيارها الذين هم زينة الحياة وحلاوتها ونضارتها؟! روى الترمذي بسند حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)).
ومن حقوق العلماء علينا زيارتهم والالتفاف حولهم والسؤال عنهم، فإنهم بضخامة أعبائهم أحوج ما يكونون إلى المؤازرة والمساعدة والحماس والتشجيع وتذكيرهم بعظم واجبهم، وأن عليهم مسؤولية كبرى، عليهم حفظها وتبليغها والصبر عليها.
ومن العجب المؤسف في هذه الأعصار زهد الناس في علمائهم ودعاتهم وعدم السؤال عنهم ومجالستهم، فتجد كثيرين لا يعرف العالم إلا في المسجد وفي حلقة العلم، أو إذا احتاجه في فتيا مهمة، مع أن الإنسان قليل العلم لديه مسائل واشكالات وقضايا، يهمه رأي العالم الرباني فيها، لكي يبين له الحق ويُضيء له الطريق ويهديه قصد السبيل.
ومن حقوقهم نشر علومهم ومصنفاتهم، وإياكم والكذب في النقل عن العلماء أو تحريف الكلام أو تصويره حسب الفهم والرأي، فكم جُني على علماء بسبب عدم التحري في النقل أو التجوز في نشر الكلام، وكم نسب إلى عالم فتاوى غير صحيحة، وعند التثبت علمنا فسادها وأنه قد افتري عليه فيها.
وليعلم المسلمون أن النقل عن العلماء ليس كالنقل عن غيرهم، وإن كان المسلم مأمورا بالتثبت والتبين في نقل الأخبار وإشاعتها على كل حال، وفي حق العلماء أعظم وأشد، وقد صح عنه أنه قال: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.
اللهم احفظ علينا علماءنا وخيارنا، اللهم وفقهم وسددهم، واجعلهم مفاتيح كل خير مغاليق كل شر، إنك على كل شيء قدير...
(1/5251)
تقريب المثل والقدوات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
21/12/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور لبعض همم فتيان الصحابة. 2- التربية بالقدوة الحسنة. 3- قدوات الشباب في هذا الزمان. 4- الأسوة الحسنة. 5- القدوات المضيئة التي يجب أن تعرض للأبناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، هل سمعتم بصبيان صغار يخوضون غمار البطولات ويطمحون للفدائية والتضحيات، في حين تسابق أبناؤنا للملاهي، وصرفتهم لمهين الأماني؟! تنصرف همم أولئك لرفارف المجد، وتأنف عقولهم عن منازل السفه والطياشة، ويسجلون مواقف يعجز عنها أصحاب الهمم في هذا الزمان.
في غزوة أحد يتسابق الصغار للميدان، وتتلهف نفوسهم للجهاد والتضحية، طمعًا في الشهادة والجنة، فيرد النبي من دون خمسَ عشرةَ سنة؛ شفقةً عليهم، فيأبى غلام صغير يدعَى رافع بن خديج رضي الله عنه، فيقول: يا رسول الله، رددتني وإنني رامٍ أرمي كما يرمي الشيوخ، فأجازه النبي لهذه الموهبة. فجاء غلام آخر يعترض اسمُه سمرة بن جندب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أجزتَ رافعًا ولم تجزني، ولو صارعتُ رافعًا لصرعته، فقال النبي : ((تصارعا)) ، فتصارعا فصرع سمرة رافعًا، فأجاز النبي كلا الغلامين.
هذه صورة ـ يا مسلمون ـ نستطيع من خلالها صناعة المثل لأبنائنا وإعداد القدوات لهم وتأسيس العقول والثقافات التي يحملونها. إننا بحاجة إلى أن نعرض هذه المثل العليا لأبنائنا، نبثها في حياتهم، نرسمها في مستقبلهم، نزرعها في مشاعرهم وعواطفهم.
إن من أساسيات التربية في هذه الأزمنة تقريب المثُل والقدوات التي يتعلق بها أبناؤنا ويقلدونها، ويعيشون حلوها ومحاسنها.
لقد آلمنا انصراف كثير من الشباب والأبناء إلى ميدان السخف والتعاسة، يتقلّدون بأناس تعساء، ويحفظون ثقافة رديئة، ويسعون لأهداف وضيعة. لقد أفلح آباء هؤلاء ومربوهم في عرض المثل والقدوات لأبنائهم، لكن ماذا عرضوا؟! وماذا نشروا؟! لقد جعلوا المثل العليا التي يستمسك بها أبناؤهم رياضيًا تائهًا أو مغنيًا ساقطًا، فشبَّ الأبناء على حبّ أولئك وتعظيم مواهبهم، وغابت عنهم أحاديث الأبطال وأرباب العزائم والكمال، وما عرفوا سيرة رسول الله ، ولا تطلعوا إلى إيمان أبي بكر وشجاعة عمر وخلُق عثمان وإقدام علي رضي الله عنهم أجمعين.
وصنفٌ من الآباء تركوا الأبناء يتلقّفون الغناء المنتشر، فحملوا وتحمّلوا تفاهة الأهداف ومهانة الأفكار وهوان النفوس، والله المستعان. وبعد ذلك يحزن هؤلاء الآباء ويتشكون من رداءة فكر أبنائهم وتشوّش آمالهم وضعف عزائمهم، فنجد المتفوّق يتعلق بسخافات فنيّة، والمبدع ينشر إبداعه في الرياضة معتقدًا سموَّها ومجدها، والجادّ سينزل في غير ميدان الجد والعمل.
أيها الإخوة الكرام، لم يعد غريبًا ولا عجيبًا أن ترى بعض أبنائنا يقتفي منهج ممثل مشهور، وآخر يتعلق بنجومية لاعب رياضي، يستحلي هوايته وحياته وأمانيه، ويكدح لكي يكون مثله لاعبًا أو ممثلاً مشهورًا مرموقًا. وإني لأسائلكم: هل هذا هو عين الفلاح لأبنائنا؟! وهل هو طريق المجد المطلوب؟! وهل هو درب السلامة المنشود؟!
إن العاقل من بني آدم ليدرك ما تخلّفه الأهداف التافهة على صاحبها ومبتغيها، ويعلم ما تعود به الثقافات الهشة على مستوى وعي الجيل. وإن العاقل بحق لا تخفى عليه طرق المجد الصحيح، ولا تفوته المثل المنيرة، ولا القدوات المضيئة التي يجب أن تعرض للأبناء، ويحيوها ليلاً ونهارًا صغارًا وكبارًا، وإنه ليستيقن مدى تأثير المثل والقدوات على عقول الناشئة ونفوسهم وآمالهم وطموحاتهم.
لقد أبهجنا ذلك الصبي الذي كان في الصف الرابع الابتدائي، وكان مغتمًا حزينًا للمسلمين في البلاد المنكوبة، وذاك الشبل الصغير الذي كان يدّخر من مصروفه اليومي الذي يعطيه أبوه، يدخر منه شيئًا يبذله لإخوانه المسلمين عندما عاش قضيتهم وسمع ما يذكّره بهم، وفي هذه الأيام يتفاعل بعض الصغار مع آبائهم، فيأبى شراء المنتجات الأمريكية غضبًا لدينه وأمته. وإنه ليفرحنا ذاك الذي يسمع قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه، الشاب المنعّم المدلَّل الذي تجرد من لذائذ النعم ليفوز بلذة الإيمان والشهادة، يسمعها أحد الناشئة فيتأثر بها، ويهوى حياة مصعب وشجاعته وإقدامه.
أيها الآباء والمربون، إن العقول الزكية لتتناغم مع الحياة الجادة والصفات الحسنة والمثل السامية، فاجعلوا من عقولكم الواعية طريقًا لرفعة أبنائكم والسمو بهممهم والرقي بأخلاقهم ومطامحهم. وإنَّ العقل الزكي لنعمة تأبى التلطخ بنقمة أو الانحراف إلى مهاوي الضياع والخسارة، فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2].
قال وهب بن منبّه رحمه الله: "كما تتفاضل الشجر بالأثمار كذلك تتفاضل الناس بالعقل"، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنَّ العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه"، وقال ابن جُريج رحمه الله: "قوام الرجل عقله، ولا دين لمن لا عقل له".
أيها الآباء والمربون، اجعلوا من عقولكم المستضيئة بنور الوحيين برنامجًا لحماية الأبناء وتقويم مواهبهم وحركاتهم، وحفظًا لنفوسهم من التوافه والبهارج التي تعمي الأبصار وتصدّ عن سواء السبيل، فليس لأبنائنا مفاخر إلا ميادين البطولة التي تبني الرجولة، وتفيض الإيمان، وتعلم الصبر، وتدفع للعلم والبصيرة.
فانظروا ـ يا مسلمون ـ أهدى السبل للأبناء وأسلمها لعقولهم ونفوسهم، وخذوا بأيديهم لمعالي الأمور، وجنبوهم سفسافها ورذائلها.
اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، إن أعظم المثل التي يجب أن يتربى عليها أبناؤنا ويقلدونها شخص رسول الله ، فلا بد من تقفّي منهاجه وتأمّل سيرته والتأسي بأخلاقه وتعظيم شأنه وأمره، فليس ثمة رجل أعظم منه، ولا أتقى منه، ولا أحسن منه، يذوب الكبراء والعظماء عند فضله ومجده وأدبه عليه الصلاة والسلام، فمن يضاهي علمه؟! ومن يداني كرمه؟! ومن يساوي حسنه وبطولته؟!
تذوبُ شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبرُ
أتَسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرِّرُ
ومن المثل العلية في الإسلام إيمان أبي بكر وصدقه وخضوعه، الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: ((لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي)). ومنها عمر رضي الله وإقدامه وشدته في الحق، الذي قال فيه : ((إيهًا يا ابن الخطاب، والله ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًا غير فجك)). ومنها سيرة عثمان العطرة، وفيه يقول : ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!)). ومنها سيرة علي رضي الله عنه القائد المقدام، الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: ((لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق)). إن هذه المثل والقدوات هي التي يجب أن يحبها أبناؤنا ويعتصمون بها دينًا وقدوة ومنهجًا. وإنه لمن المؤسف أن يحيا الأبناء على التعلق بحياة لاعب أو فنان، مغيَّبين عن حياة الأبطال وأمجاد الأفذاذ.
إخوة الإسلام، استمعوا إلى بعض المواقف الجليلة لأفذاذ قضوا وماتوا، ولكن لم تمت مواقفهم، ولم تختفِ بطولاتهم وتضحياتهم، وإنها لهي المثل التي يجب إحياؤها وتربية الجيل عليها:
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ردَّ رسول الله عمير بن أبي وقاص عن بدر واستصغره، فبكى عمير، فأجازه، فعقدت عليه حمالة سيفه، ولقد شهدت بدرًا وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي.
وفي الصحيحين قصة مقتل فرعون هذه الأمة أبي جهل على يد غلامين من الأنصار هما معاذ ومعوّذ، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت عن يميني وعن يساري فإذا فَتَيان حديثَا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، ما تصنع به؟! قال: عاهدتُ الله إن رأيته أن أقتله أو أموتَ دونه، وقال لي الآخر سرًا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما، فأشرت إليه، فشدّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء، أي: معاذ ومعوذ.
وأخرج ابن هشام والذهبي في السير عن معاذ بن عمرو قال: جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته، فقطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي، فطرح يدي، وبقيت معلقة بجلدة بجنبي، وأجهضني عنها القتال، فقاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها، ثم تمطأت عليها حتى طرحتها. قال الذهبي معلقًا: "هذه ـ والله ـ الشجاعة، لا كآخَر مَن خدش بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه".
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدِما
تأخرت أستبقي الْحياة فلم أجدْ لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما
نفلّق هامًا من أناس أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
يا سادة، بمثل هذه المثل الحيّة يحيا أبناؤنا، وتعلو هممهم، وتصح عقولهم، وتكبر نفوسهم، وتسمو أخلاقهم وطموحاتهم، وبغيرها من الغثاء الشائع تموت نفوسهم، وتسقط هممهم، وتهون طموحاتهم وآمالهم.
أصلَحَ الله لنا أبناءنا وشبابنا، وهداهم لمعالي الأمور، وجنَّبهم رديئها ومهينها.
اللهم أصلح أبناء المسلمين، واهدهم لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنهم سيّئها، لا يصرف عنهم سيئها إلا أنت، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات...
(1/5252)
حقوق العباد
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
28/12/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة أكل أموال الناس بالباطل. 2- الوصية برد الحقوق إلى أهلها. 3- شناعة الظلم. 4- دعوة المظلوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
معاشر المسلمين، إن تعجبوا فاعجبوا من مسلم يدّعي الإسلام ويتشدق بتقوى الله ثم هو يلتهم المال التهامًا من سائر الوجوه دون خوف أو مراقبة! أكل أموال اليتامى، وعدَا على أرض جاره، اغتصب حق المساكين والضعفة، لقد أعماه الطمع وحب الدنيا عن تحسس نار الآخرة أو استشعار أليم الجزاء والحساب، وأن العبد ليؤاخذ يومئذ على حقير المال وتافه الحقوق والسلع، فكيف بمن يأكل آلافا ويختط مخططات ويبتلع أوقافًا وأمانات؟! قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي إلى خيبر، ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله عبد له وهبه له رجل من جُذام، يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله يحل رحله فرمي بسهم، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله : ((كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا؛ أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم)) ، قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر، فقال رسول الله : ((شراك أو شراكان من نار)).
أخي جامع المال، إن ريالاً تلتهمه من الحرام تلتهم معه النار، وإن جسدًا تغذيه بالسرقات النار أولى به، وأن بيتًا تشيده بمظالم الناس لتشيد نظيره في جهنم.
وفي قصة سعيد بن زيد مع أروى بنت أريس وأنه قال لمروان بن الحكم: كيف آخذ أرضها وقد سمعتُ عن رسول الله ما سمعت؟! قال: وما سمعتَ من رسول الله؟ قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أخذ شبرا من الأرض ظلمًا طُوِّقه إلى سبع أرضين)) ، فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعمِّ بصرها واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت، وفي رواية: كانت تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي إمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) ، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرا يا رسول الله؟! قال: ((وإن قضيبًا من أراك)).
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) ، قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله مصداقه من كتاب الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً [آل عمران: 77].
عباد الله، لعل هذه الأحاديث أن تقرِّع مسامعنا وتوقظ ضمائرنا، فنعود إلى الله ونحدث توبة قبل الممات، ونتحرر من حقوق الناس ومظالمهم، فرب مطعم حرام يحرم به العبد التوفيق ولذة العبادة، ورب منزل فسيح بُني من حرام يشقى به في الآخرة ويموت وربه عليه غضبان.
من يطيق ـ يا مسلمون ـ ((طُوِّقَه من سبع أرضين)) ؟!، هل يستطيع أحدنا حملان سبع أرضين؟! وهل يتحمل سبع أرضين كالطوق في عنقه؟! إن ذلك لمفزع عجيب! فاعتبروا يا أولى الأبصار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، تحللوا من مظالم الناس، وردوا الحقوق إلى أهلها، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، واحرصوا على الطيبات واجتنبوا الخبائث.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). كيف تعان أمة أكلَ قويها ضعيفها، وبخس غنيها فقيرها، وضيع حقّ يتيمها ومسكينها؟!
روى ابن ماجه في سننه بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما رجَعَت إلى رسول الله مهاجِرةُ البحر قال: ((ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟)) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلةً من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم ـ يا غُدَر ـ إذا وضع الله الكرسي وجمع الأوَّلين والآخرين، وتكلّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غدا، قال: يقول رسول الله : ((صدقتْ صدقتْ، كيف يقدِّس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!)).
أما والله إن الظلم لؤمٌ وما زال المسيء هو الظلومُ
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تَجتمع الخصومُ
ستعلم في الحساب إذ التقينا غدًا عند الإله من الْملومُ
أيها الإخوة، قد يشق على الضعفة والمساكين أخذ حقوقهم ومغالبة الظلمة، ولكن لا يشق عليهم الابتهال إلى الله ورفع الأيدي وتسديد السهام الحارة؛ لمحق المغصوب والمسروق وتنغيص الحياة وكساد التجارة وتدمير الجاه.
وفي الصحيحين عندما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن قال له: ((واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)) ، وفي الحديث الآخر الصحيح: ((إن الله يرفعها فوق الغمام ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين)) ، وروى أحمد بسند حسن أن النبي قال: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا، ففجوره على نفسه)). وتأمل عظمتها عند الله، وأن الله نصيرها وعضيدها مهما نسيت وبلغت بك الهناءة وطالت بك الراحة والسعادة، فالحذر الحذر.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراقبوه، وردوا الحقوق إلى أهلها، واعلموا أن الله لم يجعل رزقكم فيما حرم عليكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك...
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5253)
دورنا في الانتفاضة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
12/1/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار الانتفاضة. 2- حقيقة الانتفاضة. 3- دور المسلم في هذه الانتفاضة. 4- أحلام اليهود في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
معاشر المسلمين، لا تزال انتفاضة الأقصى أبيّةً متوهجة، محروسة بالأرواح المبذولة والدماء الدفاقة والشجاعة النادرة، ولا تزال غاضبة مدوية تكتسح دبابات اليهود، وتصارع راجماتهم وقاصفاتهم، ولا تزال هذه الانتفاضة المجاهدة تأبى ممارسة الهوان وسلام الشجعان، وترفض بحجارتها وقوتها وأد البطولات وتجميد الفدائيات.
لقد ملّت هذه الانتفاضة أماني العلمانيين ووعود القوميين وشعارات المارقين الذين فصلوا الأمة عن دينها، وأذاقوها مرَّ النكسة والهزائم المتلاحقة، فكان الأمر كما قال بوق الشعارات:
أدمت سياط حزيرانٍ ظهورهمُ فأدمنوها وباسوا كفَّ من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
سقوا فلسطين أحلامًا منوِّمة وأطعموها سخيفَ القول والخطبا
عاشوا على هامش الأحداث ما انتفضوا للأرض منهوبةً والعرض مغتصَبا
وخلّفوا القدس فِي الأوحال عاريةً تبيح عزة نهديها لمن رغبا
أين الشعارات أين الْمالئون بها الدنيا لكم زوروا التاريخ والكتبا
فلا خيول بنِي حمدان راقصةً زهوًا ولا الْمتنبي مالئ حلبا
وقبر خالد في حِمص نلامسه فيَرجف القبْر من زواره غضبا
يا رُبَّ حي تراب القبْر مسكنه وربَّ ميْتٍ على أقدامه انتصبا
يا ابن الوليد ألا سيفٌ تؤجّره فكل أسيافهم قد أصبحت خشبا
أيها الإخوة، عدنا إلى الانتفاضة لنجدّد العهد بها، ونزيد في مدتها، ونبث حديثها ووعيها. فليست الانتفاضة إقليمية تخص أهل فلسطين، وليست عرقية ليحتويها دعاة القومية، وليست هزلية ليقودها سلام الشجعان! إن هذه الانتفاضة انتفاضة إسلامية، تعتصم بالله، وتتوكل عليه، وتذكّرنا بالأبطال والرّجال من أهل الإسلام، وهي تصيح بنشيدها: خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود.
نعم، إنّا لنرجو أن تكون هذه الانتفاضة مفتاح الجهاد والانطلاقة، ونافذة التضامن والاجتماع، وطريق النصر والظهور، والنهاية القاصمة لليهود وأذناب اليهود.
أيها الإخوة الكرام، يتساءل كثيرون وبعد مضي هذه الأشهر وضعف التغطية الإعلامية والشعبية للانتفاضة: ما دوري في الانتفاضة؟ وماذا تحتاج مني؟
ونقول: إن دوركم عظيم ـ يا مسلمون ـ تجاه انتفاضة الأقصى، وتجاه أطفال الحجارة والدماء السيالة، وتجاه العدو اللدود للإسلام وأهله.
فأول واجب علينا تجاه هذه الانتفاضة وعي القضية الفلسطينية، لا بد أن يعي أهل الإسلام من كبار وصغار ورجال ونساء ومثقفين وعامة أن هذه قضية الأمة ومصير الإسلام، وأن فلسطين إسلامية وليست عربية، وأنها جهاد لا نضال، وحماتها أهل الإسلام لا عصبة الرفاق، فأمتنا المنكوبة:
أودت بها قوميةً مشؤومة ومضى بها نحو الضياع رفاقُ
لا بد أن يعي المسلمون أن الصراع مع اليهود صراع ديني، وليس على أشجار الزيتون أو بساتين الليمون، وليس على حقوق الإنسان أو قرارات الشرعية الدولية. إن صراعنا مع اليهود صراع عقائدي، يؤكده قول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، ويشرحه قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]، فأعدَى عدوٍّ للمسلمين اليهود، وأخبث أمة في حرب الإسلام والكيد له هم اليهود، فما أعددتم لهؤلاء يا مسلمون؟!
ومن وعي القضية تربية الجيل والناشئة على عداوة اليهود، ونشر ذلك في حياتهم، والعناية بها كالطعام والشراب، واستنفار الأمة ضد هذا العدو على كافة المجالات.
والانتفاضة بحاجة ماسة إلى الدعم المادي لضمان بقاء المواصلة، وهي بحاجة إلى الدعم المعنوي القائم على النصرة والتأييد بالعواطف والمشاعر الصادقة. وكم هو قبيح أن نأكل ملء بطوننا وننام ملء جفوننا ونعتبر قضية فلسطين من ضمن مشكلات العالم المعقّد، وهذه مشكلة أخرى تورط فيها كثير من المثقفين والمفكرين تقليدًا للقوميين والعلمانيين الذين جعلوا القضية المسلمة بمنأى عن عقيدة المسلمين. وهذا منهم يأتي تلبيةً لمطالب اليهود في جعل القضية الفلسطينية تمارَس في محيط عربي بعيدًا عن العقيدة والمبدأ والشهادة؛ ولهذا لم يدخل الإسلام في المجابهة مع اليهود إعلاميًا ورسميًا، والله المستعان.
معاشر الغُير، أبناؤكم الذين رُبوا على الكراتين والحدائق والألعاب اصنعوا خلال ذلك قضية العداء لليهود وإحساسهم بقضية فلسطين، وأنها جزء من حياتهم ومستقبلهم، واعلموا أن التربية في الصغر لا يضاهيها تربية، وما انحرف كبار المثقفين تجاه القضية إلا بسب خوائه صغيرًا وانعزاله عنها همًا وفكرًا وعاطفة.
الشيخ الكبير يُعلَّم أن يدعو للمسلمين بالنصر والتثبيت، وأن يهتم بأمورهم وشؤونهم، والمرأة العجوز الصائمة القائمة تُحسَّس بضرورة الدعاء على اليهود بالهزيمة والدمار والتمزيق. يجب أن تُنقل المشاعر المسلمة إلى فلسطين وغيرها من البلاد الإسلامية المنكوبة تحقيقًا لوحدة المسلمين واهتمامًا بأمورهم وتضامنًا ضد أعدائهم.
إن الأمة المسلمة بشيوخها وشبابها وصغارها تملك الدعاء والتوجه إلى الله، وتملك أن تصرفه للإخوة في فلسطين، وهذا نوع من التضامن ونوع من المشاعر الصادقة تجاه جنود الأقصى العزَّل الذين يجب علينا دعمهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم.
هذا يوم الجمعة يوم عظيم، فيه ساعة إجابة من آخر وقت العصر كما صح بذلك الحديث، هل تعجز عن الدعاء فيها للمسلمين في الأرض المحتلة، وأن يسدد الله سهامنا على اليهود، أن يقتلهم ويخذلهم، ويمزقهم شر ممزق؟! مليار وربع المليار، هل يتقاعسون عن الدعاء وهو أسهل واجب يمكن تؤديته للإخوة المسلمين؟! وهل يعز أن يكون في المليار أشعتْ أغبر ذو طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره؟! أصحاب القيام والأسحار والأذكار هل يعجزون عن الدعاء للمسلمين بالنصرة والظهور؟!
إن الجميع يملك ذلك كله، ولكن لضعف التربية وهوان الإقبال والعزلة الفكرية بات كثير منا لا يفكر في ذلك كله، فضلاً عن الاهتمام به، والله المستعان.
كان النبي وهو في المدينة وقد منَّ الله عليه بالأمن والراحة يدعو للمستضعفين في مكة، وقد مكث شهرًا يدعو على قتَلَة القراء في حادثة بئر معونة. وكان يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه، وكان يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
اللهم اجمع كلمتنا، ووحّد صفوفَنا، وانصرنا على عدونا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الناس، هل تصوّرنا أننا نملك دورًا في الانتفاضة ولو كان يسيرًا؟! رئيس إسرائيل الحالي ـ عليه لعنة الله تعالى ـ يحمل نفسًا عدوانية متطرفة متغطرسة دموية تجاه المسلمين عمومًا وللفلسطينيين خصوصًا. كان وهو صغير يحمل الهراوات ليضرب بها الفلسطينيين، وفي مرحلة المراهقة انضمّ إلى عصابة الهاغاناة الإجرامية الإرهابية، وفي عام 48م اشترك في مذبحة دير ياسين والبلد، وفي عام 82م قاد غزو لبنان واقترف المذبحة الكبرى في صبرا وشاتيلا, وله غيرها وغيرها. وهو الآن وقد تربّع على رئاسة إسرائيل يحمل من هذه النفسية أضعافًا مضاعفة، ويربّي شعبه اليهودي الخبيث على ذلك، وهم يوصفون بالجدّ والاجتهاد في خدمة قضاياهم والدفاع عنه، حتى إن الغرب الكافر يسميهم الأقلية الساحقة، تعدادهم نحو أربعة ملايين، ويخدمون عقيدتهم ومصالحهم بطريقة تفوق الوصف.
ونحن المسلمين نخدم ملاذنا وشهواتنا، وآخر شيء نفكر فيه ديننا وعقيدتنا! من منا يهتم بأمر المسلمين؟! وكم الذين يفكرون في مستقبل الأمة؟! وأين الذين يعملون لخدمة قضايا الإسلام؟! وكم الذين يدعون الله لإخوانهم المسلمين في فلسطين وغيرها؟!
لم تعد مآسي المسلمين إلا نوعًا من التنغيص عند كثير من الناس، لا يحبّ ذكرها، ولا يشتهي سماعها، ولا يسأل عنها، لكنه في المقابل يسعى لمصالحه الذاتية فحسب، وينافح عنها، ويقاتل لأجلها، ويحتمل الضراء والبأساء فيها وفي تحصيلها.
فطِن بكل مصيبة في ماله وإذا يُصاب بدينه لم يشعرِ
إخوة الإسلام، استيقظوا من نومكم، وأيقظوا إخوانكم وأبناءكم، فإن الخطر قد دهم، والنار استعرت، والمرحلة شديدة. فإن اليهود الآن قادمون على حدث مرعب شديد، ألا وهو هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل أي: المعبد الذي يمثل أمنيتهم الكبيرة وسعادتهم البالغة، يقول ابن جوريون رئيس إسرائيلي سابق: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل".
إنها لكارثة عظيمة لو وصل عدوان اليهود إلى هدم الأقصى، فماذا تنتظرون يا أهل الإسلام؟! وما دوركم يا معاشر المسلمين والمثقفين في تربية الجيل؟! لقد طال النوم وفحش اللهو وزادت الغفلة، ولم نعلم إلى الآن انتماءنا الحقيقي للإسلام.
إن المرحلة الحالية مع اليهود تطلب منا وعيًا وعقلاً كبيرًا وهمة عالية وشجاعة صادقة، فالحرب قادمة، والصراع متحتم، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]، قال كما في الصحيحين: ((تقاتلون اليهود، فتسلّطون عليهم، فيخبئ اليهودي وراء الجحر والشجر، فيقول الجحر والشجر: يا مسلم، يا عبدَ الله، هذا يهودي خلفي تعالَ فاقتله)).
غصَّ الثرى بدم الأضاحي وتلهبت سوق الكفاح
وتبَرجت جند اليهود وأطرقت جند الصّلاح
وحناجر العملاء بحت مِن مبادلة النباح
والقدس في أسر اليهود وهم على دن وراح
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا, وانصرنا على من بغى علينا...
(1/5254)
فضل البنات
الأسرة والمجتمع
الأبناء, المرأة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
19/1/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأب حين يبشر بالمولود الأنثى. 2- الضيق بالأنثى والضجر بها من عادات الجاهلية الأولى. 3- التحذير من تصرفات بعض الآباء. 4- إنجاب البنات ليس عيبًا ولا منكرا وقد يكون في ذلك خير كثير. 5- فضل تربية البنات وحسن رعايتهن. 6- ابتلاء الله العبد بالذكور. 7- أقسام الناس في إنجاب الذرية. 8- نماذج من النساء الصالحات المباركات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، بات الأبُ المسلم ساهرًا مهتمًا، ينتظر فرج الله تعالى وسلامة زوجته، ويرقب البشارة بالإنجاب ووصول الولد، وما هي إلا ساعات ولحظات حتى بُشّر بمولود جميل، لكنه ليس ذكرًا بل كان أنثى، فتغيّر وجه الأب، وانكمش حاله، ونُغِّصت سعادته، واعترته الكآبة والضيق! لماذا؟! لأن الأب كان يطمع في المولود الذكر، ليقف بجانبه، ويقوم بخدمته، ويساعده على أعباء الحياة؛ لكنه نسي أن هذا رزق ساقه الله إليه، وله فيه الحكمة البالغة، ونسي أن هذا الإنجاب نعمةٌ عظيمةٌ حُرم منها بعض الناس، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص: 68]، ونسي أن كل ما يقضيه الله للمؤمن خيرٌ له وأعظم، فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
أيها الإخوة، لقد آلمَ العقلاء ما بدر من بعض المسلمين من التحاف النفسية الجاهلية تجاه إنجاب البنات، فتضايق من ولادتهن، وضاق بالبشارة بهنّ، فكان كما قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: 88]. وآخر احتوته الغفلة والبلادة، فحلف على زوجته المسكينة: لو أتت ببنات ليُطلقنَّها وليفارقنّها فراق غير وامق. سبحان الله! هل عادت فينا خَصلة الجاهلية الأولى؟! وهل تسلّط علينا الشيطان؟! وهل تردت عقول هؤلاء الأزواج حتى يعتقدوا أن الزوجة سبب في التأنيث؟!
لم يكن يُتَصوَّر أن يُطرق هذا الموضوع في ظل بيئة مسلمة تؤمن بالله وتؤمن بقدرته وحكمته، حتى ترامى إلى مسامع الجميع تغيُّر النفوس من إنجاب البنات، ومشابهة الكفار في التمعّر والغضب والاستياء من ولادة البنات، وتهديد الزوجة بالطلاق مرات ومرات، كأن المرأة هي المسؤولة والضمينة لما يصير ويحدث!
إن المسلم العاقل ليعجب ممن يدّعي الإسلام ويصلي ويصوم ثم يتخلق بأخلاق الكفرة وأهل الجاهلية في كراهية البنات والاشمئزاز بولادتهن، كأن هذا الرجل قد رأى سعادتَه في إنجاب الذكور، ورأى مستقبله في غير البنات، ورأى سلامته وبهجته في البشارة بالغِلمان، وما يدريك أيها الإنسان لعل الله يبارك في البنات، ويصرف عنك لأواء الذكور وما يكون فيهم من طيش وسفاهة.
أيها الإخوة الكرام، ليس عيبًا ولا منكرًا أن يُولد لبعضنا البنات، فإن البنات فيهنّ خير عظيم، والعاقبة منهن حسنة، ويجني الآباء والأمهات منهن فوائد عديدة، ولم يعش للنبي مدة حياته من أولاده إلا البنات، وقد رتَّب على حسن تربيتهنّ وتعليمهن أجرًا كريمًا. ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ابتُلي من هذه البنات بشيءٍ كنّ له سِترًا من النار)) ، والمعنى: إذا صبر على تربيتهن والإحسان إليهن كنّ له حجابًا يحجبه من النار. فأيّ فضل يرجوه المسلم بعد ذلك؛ أن تكون تربية البنات والصبر عليهن مانعًا له من دخول النار ومن ثم مصيره إلى جنات النعيم؟!
يُحكى أن رجلاً كان لا يولد له إلا البنات، فضاق وتضجر من ذلك حتى هدّد زوجته بالطلاق، فحملت المرأة مرة أخرى، فحُملت إلى المستشفى، وأسفر حملها عن بنت حسناء، فرئي عليها الحزن والكآبة من ذلك، فلحظَ الممرضات ذلك، فسألتها إحداهن فذكرت لهن الخبر، فأخبر أحد الدكاترة بالقضية، فقال: دعوا الأمر لي. فلما أتى زوجها سأل الدكتور: ما الخبر؟ فقال الدكتور: هنيئًا، فقد ولد لك مولود ذكر، فاستبشر الأب، فقال الدكتور: لكنه مشوّه الخِلقة، وفيه كذا وكذا، ويشكو من كذا وكذا، ويحتاج إلى إشراف وعناية، فتغيّر وجه الزوج كأنما صُفع صفعة شديدة وأحسّ بابتلاء الله تعالى له، فراجع نفسه وتساءل وقال: إنه ابتلاء الله لي لأنني كرهت البنات وما أحببتهن، فهذا جزائي، فقال له الدكتور: لا عليك بل افرح واستبشر، فقد رزقك الله بنتًا جميلة حسناء، فاستبشر الأب وحمد الله ورضي لقضاء الله وقدره، فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
أيها المسلمون، لقد سخِِِط أناسٌ البنات فابتلاهم الله بالمتاعب والأسقام، وعادت عليهم الذرية الذكور بالبلايا والنكبات، فذاك ابنه مع الرفقة الفاسدة، وذلك في عُصبة المخدرات، وذاك تعيسٌ في دينه وخُلُقه؛ جزاء فاقًا. فعلى العبد أن يرضى بحكم الله عليه، ويؤمن بقدَره خيره وشرّه، ويعلم أن الله تبارك وتعالى لا يقضى للمؤمن إلا خيرًا، قال كما في صحيح مسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كلَّه له خير، إنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)) ، وقال ربنا تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49].
فربنا تعالى هو خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، وقد جعل سبحانه الناس أربعة أقسام: قسم يرزقه الإناث، وقسم يرزقه الذكور، وقسم يجمع له الذكور والإناث، وقسم عقيم لا يولد له.
وجعل سبحانه القسم الأول في الآية الإناث: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى: 49] تنبيهًا على فضلهنّ وردًا على أهل الجاهلية في صنيعتهم النكراء من كراهتهم البنات ودفنهن أحياء، نعوذ بالله من انتكاس الفطر وموت القلوب.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
استغفروا ربكم عباد الله، وتوبوا إليه، فيا فوز المستغفرين التائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)). لقد أنجب لنا التاريخ نساءً صالحات وسيداتٍ مباركات، شيّدن مناراتٍ للعز والشرف، وبنَينَ مساكن للبطولة، عزّ فعلها على كثير من الرجال والأبطال.
آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، عاشت ونشأت في قصر أكبر طاغية عُرف في التاريخ، فلم تخضع لجبروته، ولم تدخل في ألوهيته، ولم تستسلم لدنياه، بل صبرت على دينها وعزت بإيمانها، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم: 11]. وفي الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).
وها هي ماشطة بنت فرعون تسجّل لأهل الإيمان موقفًا في الصبر والتضحية والشمَم بإيمانها واستسلامها لله، عندما يراودها فرعون على إيمانها بالله، فيقتل أبناءها أمامها واحدًا تلو الآخر وهي الأم الحنون، فتأبى أن تكفر بالله، بل تصبر وتحتسب.
وتلكم خديجة بنت خويلد زوج رسول الله التي كان لها مقام النصرة والتثبيت لرسول الله عندما نزل عليه الوحي، فقد قالت له كما في الصحيح: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق. وروى أحمد والنسائي بسند صحيح أن النبي قال فيها: ((آمنتْ بي إذ كذّبني الناس، وآوتْني إذ رفضني الناس)).
و ما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
ولو أن النساء كمن فقدنا لفُضِّلت النساء على الرجالِ
وهل سمعتم بامرأة تزوّجت على الإسلام، كان مهرها الإسلام، لم تطلب سواه، إنها الرُميصاء أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها. ثبت في الصحيحين من حديث جابر أن النبي قال: ((رأيتُني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة)). وعند النسائي بسند صحيح عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام. وفي رواية قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله، ما مثلك يا أبا طلحة يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوّجك، فإنْ تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم؛ الإسلام، فدخل بها فولدت له.
وهذه والدة سفيان الثوري رحمه الله، توجهه لطلب العلم، وتعوله بمغزلها، قال وكيع: قالت أم سفيان لسفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمِغزلي، فإذا كتبت عدةَ عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه، وإلا فلا تتعنَّ.
وهل بلغكم ـ يا مسلمون ـ خبر المرأة التي قعدت تعلّم زوجها العلم الحديث؟! إنها بنت سعيد بن المسيّب رحمه الله، التي زوّجها لتلميذه أبي وداعة، وكان فقيرًا، فلما أصبح من ليلته أصبح يريد التوجه لحلقة سعيد بن المسيب، فقالت له: أين تريد؟! فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلسْ أعلمك علم سعيد.
الله أكبر، ما أجلهَّا من أخبار! وما ألذها من قصص! أبانت لنا عظم فضل النساء، وأنهن إذا حظين بالتربية الإيمانية والعلمية سجّلن مواقف نادرة وبطولات خارقة، وأخرجن جيلاً فريدًا يطلب العلم ويروم البطولة ويسعى للنُبل والفضيلة.
(1/5255)
صديق هذه الأمة
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
26/1/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 2- فضائله رضي الله عنه. 3- الدروس والعبر المستفادة من حياته رضي الله عنه. 4- الحث على قراءة سير العظماء وتربية الأجيال عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، هل رأيتم العظمة في ذروتها والإيمان في شموخه؟! وهل سمعتم بالبطولة التي يعز نظيرها وشبيهها؟!
هنالك في مكة وفي بني تيم بن مرة يظهر رجل عاقل فاضل، كان نحيفا خفيف اللحم، غائر العينين ناتئ الجبهة، وكان نبيلاً شريفًا تاجرا نسيبًا، ولو لم يسلم لم تنفعه تلك المفاخر، فأسلم إسلاما مضيئا، كان أول صفحة صادقة في تاريخ الإسلام، فحاز الشرف كله، وتملك السيادة من أطرافها، وزادت الحياة والتجارة والسعادة.
كان رأس ماله أربعين ألف درهم، فأنفقه كلّه في نصرة الإسلام، فقال له رسول الله : ((ماذا أبقيت لعيالك؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
أول العالم إسلاما، وأكملهم إيمانا، وأرجحهم عقلا، وأكثرهم علما وفضلا، قال النبي : ((لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنْ أخي وصاحبي)).
نعم، هو صدِّيق هذه الأمة، أبو بكر رضي الله عنه، سأل الشعبي ابن عباس: أي الناس كان أول إسلاما؟ فقال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرتَ شجْوًا من أخي ثقة فاذكر أخاكَ أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبِيّ وأوفاها بما حملا
والثانِي التالِي المحمود مشهده وأولَّ الناس منهم صدَّق الرسلا
وثانيَ اثنين في الغار الْمنيف وقد طافَ العدو بهم إذ صعَّد الْجبَلا
قال علي بن أبى طالب لرجل: ويلك! إن الله ذمّ الناس ومدح أبا بكر، فقال: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40].
أيها الإخوة الكرام، تجدون في سيرة أبي بكر رضي الله عنه همةَ الداعية الحيّ الذي التهب بحب الدعوة، فجعل من إسلامه طريقا لإسلام آخرين سواه، فلقد أثر فيمن يجالسه ويألفه بطيب أخلاقه وحسن دعوته، إذ أسلم على يديه فضلاء من الصحابة رضي الله عنهم، منهم عثمان بن عفان والزبير وسعد وابن عوف وطلحة، فكان لأبي بكر رضي الله عنه المنة والفضل بعد الله في إسلام هؤلاء البررة، قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17].
وتجدون ـ يا مسلمون ـ في سيرة أبي بكر جهاد المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه لله ويدفع عن رسول الله ، قال علي رضى الله عنه يومًا لأصحابه: ناشدتكم الله، أي الرجلين خير: مؤمن آل فرعون أو أبو بكر؟ فأمسك القوم، فقال علي: والله، ليوم واحد من أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه، وهذا بذل نفسه ودمه.
وقيل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله ؟ فقالت: كان المشركون قعدوا في المسجد الحرام، فتذاكروا رسول الله وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله المسجد، فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم، فقالوا: ألستَ تقول في آلهتنا كذا وكذا؟! قال: ((بلى)) ، قالت: فتشبثوا به بأجمعهم، فأتى الصريخ أبا بكر أن أدرك صاحبَك، فخرج أبو بكر فوجد رسول الله والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم! أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ [غافر: 28]، فلَهوا عن رسول الله ، وأقبلوا على أبي بكر يضربونه، فرجع إلينا فجعل لا يمسك شيئا من غدائره إلا جاء معه وجع وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
ثم أبو بكر ـ يا مسلمون ـ المؤمن الذي يستحلي قراءة القرآن ويجهر بإيمانه في كل مكان، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ابتلي المسلمون بمكة، فابتنى أبو بكر مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيجتمع عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكَّاء، لا يملك عينه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى من أجاره، فرد أبو بكر جواره حيث قال: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
أيها الإخوة، وكان لأبي بكر رضي الله عنه نفس تواقة وعزيمة طامحة تسعى في الخيرات، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله ـ أي: صنفين من الخير ـ نودي من أبواب الجنة: يا عباد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي منن باب الصدقة)) ، قال أبو بكر: يا رسول الله، هل يُدعي أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله : ((نعم، وأرجو أن تكون أنت منهم)). وفي صحيح مسلم قال : ((من أصبح منكم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضا؟)) قال: أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)). وقد قال فيه عمر رضي الله عنه: ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني إليه.
وهكذا يا معاشر الإخوان، لا بد أن يسابق المؤمن إلى الخيرات، ويحرص على استغلال الزمان، فقد قال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [المائدة: 48]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
وقد كان أبو بكر أعظمَ الناس إيمانا وأشدَّهم تصديقا برسول الله ، ففي الصحيحين قال الرسول : ((بينما راعٍ إلى غنمه عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة فطلبه الراعي، فالتفت إليه الذئب فقال: مَنْ لها يوم السبع، يوم ليس لها راعٍ غيري؟! وبينا رجل يسوق بقرةً حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته، فقالت: إني لم أُخلَق لهذا، ولكني خلقت للحرث)) ، قال الناس: سبحان الله! فقال النبي : ((فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر)) ، وما ثَمَّ أبو بكر وعمر، أي: كانا غائبين.
وفي حديث الإسراء والمعراج ازداد كذب قريش وبان عنادهم، وكانت فتنة لبعض المسلمين، فلما حدث أبو بكر بما كان قال: لئن كان حدَّثكم بذلك فقد صدق، فقال مشركو مكة: تصدقه في رحلة نقطعها في شهر؟! فقال: أنا أصدقه في أعظم من ذلك؛ أصدقه في خبر السماء. فكان أبو بكر رضي الله عنه صديق هذه الأمة ذا المقامات الشريفة والمنازل الرفيعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، مات كما يموت الناس، فكان أظلم يوم وأشدَّه على المسلمين، أظلمت الدنيا، واسودت الأنفس، وانقشعت السعادة، واستطال الحزن، وطارت العقول، فاحتاج هذا الموقف العصيب إلى رجل عالم بصير، يثبت الناس، وينطق بالحق، ويواصل المسيرة، فكان أبو بكر رضي الله عنه.
قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: مات رسول الله وأبو بكر بالسُنْح ـ موضع قرب المدينة ـ، فقام عمر يقول: والله، ما مات رسول الله ، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله فقبّله، فقال: بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر: 30]، وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]، فنشج الناس يبكون.
ثم أبو بكر المجاهد المقدام يتحوّل من الطِّيب والسهولة إلى الصرامة والبطولة عندما يرى الظلم ويرى انتهاك الحرمات، فبعد وفاة رسول الله يرتد كثيرون ويمتنعون من أداء الزكاة، فيهب أبو بكر لقتالهم، ويراجعه الصحابة، ويقول له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قالوا: لا إله إلا الله؟! فيقول: والله، لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، إنها لقرينتها في كتاب الله تعالى، والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم عليه، وقال لعمر: أجبَّارٌ في الجاهلية وخوّار إلى الإسلام؟! ثم انشرحت صدور الصحابة لقتالهم.
إخوة الإسلام، هذه إشارات يسيرة من سيرة صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه، فهل عرفنا قدر هذه السيرة التي رباها وعلمها رسول الله ؟! هل تأملنا هذه السيرة التي أغفلناها عن أبنائنا وتلاميذنا وتركناهم للسير الساقطة والثقافات الرديئة؟! لماذا نغيِّب أبناءنا عن سير العظماء الذين كانوا عظماء في إيمانهم وجهادهم وصدقهم وتدينهم؟! قال تعالى: فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176].
أيها الإخوة، إنها لمسؤولية عظيمة علينا أن نقرب هذه السير والقدوات لأبنائنا وناشئتنا، لكي تعلو هممهم، وتصح عقولهم، وتزكو نفوسهم، فهل من مدكر؟!
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5256)
من أحاديث الأبطال الكماة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, القصص
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
3/2/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المجاهدين في سبيل الله. 2- نماذج رائعة لأبطال الإسلام. 3- الوصية بمذاكرة أخبار الأبطال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
معاشر المسلمين، هل سمعتم أحاديث الكماة الأباة، منابذي الذل والهوان، وعائفي العيش المستذل المستباح؟! وهل أتاكم خبر حملة الرسالة ورجالات الجهاد الذين كانت وظيفتهم رعاية الإسلام وحياتهم التضحية والفداء ونزهتهم النصرة أو الشهادة؟!
لقد حفَل تاريخنا الإسلامي بأخبار ذوي العزة والإقدام والشجاعة والثبات الذين سكن الإيمان في قلوبهم، وارتقت طموحاتهم بحب الله ورسوله.أناس عرفوا معنى قوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج: 40]، واستشعروا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة: 111]، فطمعوا إلى المنازل الرفيعة والمقامات السامية إلى جنات النعيم، وتيقنوا أن سبيلها ليس إلى الخلود والراحة، وليس الخنوع والكسل، وليس إلى السهرات اللاهية والمجالس التافهة. فهم أناس قصدوا المجد من بابه، وأسالوا الماء من ميزابه، فكانوا كما قال فيهم عُمير بن وهب عندما أرسلته قريش لينظر جيش المسلمين في بدر، فقد قال: "يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ولن يموت رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فرُوا رأيكم".
فها كم بعض المشاهد والمواقف لأبطال الإسلام الذين عافوا حياة الذل وتوجوا أنفسهم وأمتهم بالبطولات والتضحيات:
عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الشهيد الذي كلمه الله كفاحًا بلا ترجمان، روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه قال: لما حضر أحُد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا مع أول من يقتل من أصحاب النبي ، وإني لا أترك بعدى أعزّ علي منك غيرَ نفس رسول الله ، وإن عليَّ دينًا فاقضه، واستوص بإخوتك خيرًا، فأصبحنا فكان أول قتيل... وفي رواية قال له: إني معرِّض نفسي للقتل.
فلله دره من بطل شجاع، يطلب الشهادة، ويسعى إليها غير مبال ولا هياب! قال جابر: لما قُتل أبي يوم أحد جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله ينهونني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال : ((تبكيه أو لا تبكيه، فوالله ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه)) ، وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره عن جابر قال لي رسول الله: ((ألا أُخبرك أن الله كلَّم أباك كِفاحًا، فقال: يا عبدي، سلني أُعْطِك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا، فأُقتل فيك ثانيةً، فقال: إنه قد سبق فيها أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب، فأبلغ من ورائي، فأنزل الله : وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] )).
إخوة الإسلام، هل بلغكم ما صنع سعد بن الربيع رضي الله عنه؟! كان أحد النقباء ليلة العقبة، شهد أحدا فقاتل قتالا عنيفا، حتى توالت عليه الطعنات فأثخنته الجراح، فوجده رجل من الأنصار، فقال له: أبلغ رسول الله وقل: إن سعدا يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك مني السلام، وقل لهم: إن سعدا يقول لكم: إنه لا عذرَ لكم عند الله إن خُلِص إلى النبي وفيكم عين تطرُف.
أيها الإخوة، تخلف أنس بن النضر الأنصاري رضي الله عنه عن غزوة بدر، فلما جاءت أحد قال: يا رسول الله، غِبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعنى المشركين ـ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنةَ وربّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت ـ يا رسول الله ـ ما صنع، فوجدوا فيه بضعا وثمانين ضربة، فما عرفته إلا أخته ببنانه، أي: رؤوس أصابعه. قال أنس بن مالك: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
أيها الإخوة، أنبتت الأجساد الكافرة غرسة مؤمنة، وأسلمت وصدقت وحسن إسلامها، عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، البطل الشجاع الذي بايع على الموت إلى اليرموك، قال الشافعي رحمه الله: "كان محمود البلاء في الإسلام رضي الله عنه".
لما كان يوم اليرموك تقدم خالد وعكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو قبل أن ينشأ القتال، فبدرا يرتجزان، ودعَوا إلى البراز، وتنازل الأبطال وتجاولوا، وحميت الحرب وقامت على ساق، فنادى عكرمة: قاتلت رسول الله في كل موطن وأفرّ منكم اليوم؟! من يبايع على الموت، فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قتالا شديدا، ومات عكرمة رضي الله عنه في اليرموك، ووجدوا فيه بضعا وسبعين من طعنة ورمية وضربة رضي الله عنه.
أيها الإخوة، صورة أخرى من التاريخ ما صنعه السلطان المظفر قطز بطل عين جالوت، قال الذهبي في السير: "كان فارسا شجاعا سائسا دينا محببا إلى الرعية، هزم التتار وطهر الشام منهم يوم عين جالوت".
كانت عين جالوت في رمضان سنة 658 هـ، لما رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تنزل الشمس وتفيء الظلال وتهبّ الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم. ويذكر عن المظفر قطز رحمه الله أنه لما رأى انكشافا في بداية المعركة صرخ صرخته الشهيرة: وا إسلاماه، ورمى عن رأسه الخوذة وحمل ونزل النصر. قال تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
أيها الإخوة، أبو محمد عبد الله البطّال من صناديد الإسلام الأشداء، كان مقدم الأمير مسلمة بن عبد الملك، وكان مقره بأنطاكية، وقد أذاق الروم مرَّ الهزيمة والمهانة، وطار اسمه في بلاد الروم مهابة وإجلالا ومخافة، حتى إن المرأة لتخوّف ابنها بالبطال، واسمعوا هذه القصة:
قال أبو مروان ـ شيخ من أهل أنطاكية ـ قال: كنت غازيا مع البطّال، وقد أوطأ الروم ذلا، قال البطال: فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له: خرجت إلى سرية ليلاً، فدفعنا في قرية فقلت لأصحابي: أرخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحدًا بقتل ولا بشيء حتى تتمكّنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا واقتربوا إلى أزقتها، فدفعت أنا وأناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتنَّ أو لأدفعنك إلى البطّال يذهب بك، وانتشلته من سريره، وقالت: خُذه يا بطَّال، قال: فأخذتُه.
وله أخبار في القتال والشجاعة تطالع في السير والبداية والنهاية.
رحم الله تلك العظام العزيزة التي تهتم بهَمِّ الإسلام وتعيش لرسالته وتأكل وتشرب من أجله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس، هذه بعض مفاخر أهل الإسلام الذين بجهادهم استقامت الحياة وشمَخ الإسلام وامتد الجهاد وسادت العزة واتسعت الفتوحات وقامت المآذن والحضارات. أولئك الرجال الأبطال لا يسوغ نسيانهم أو تجاهلهم أو طي صفحاتهم المشرقة في تاريخ الإسلام.
فأين نحن عن التعلم منهم والتأثر بسيرتهم وقصها على أبنائنا وتلاميذنا؟! فإن حضارتهم لا تزال، وأمجادهم شاهدة، لكن أمتنا المنكوبة هي التي غيرت وبدلت، ومن قبل قال تعالى عن المجاهدين الصادقين: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى فِي زواياه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يَملكنا شعب ملكناه
لِي فيك يا ليل آهات أرددها أواه لو أجدتَ المَحزونَ أواهُ
لا تَحسبني محبًا يشتكي وصَبا أهوِنْ بِما فِي سبيل الحب ألقاه
إنِّي تذكرت والذكرى مؤرقة مَجدا تليدًا بأيدينا أضعناه
أنَّى اتَّجهت إلى الإسلام فِي بلدٍ تجده كالطيْر مقصوصا جناحاه
كم بالعراق وكم بالْهند من شجنٍ شكا فرددت الأهرام شكواه
أين الرشيد وقد طاف الغمامُ به فحين جاوز بغدادًا تَحدّاه
وانزل دمشقَ وسائل صخرَ مسجدها عمّن بناه لعل الصخر ينعاه
هذي معالِمُ خرصٌ كلّ واحدة منهن قامت خطيبا فاغرًا فاه
واللَّه يعلم ما قلبت سيرتَهم يومًا فأخطأ دمعُ العين مَجراه
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5257)
أين تكون السعادة؟
الإيمان
حقيقة الإيمان, فضائل الإيمان
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
10/2/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة مطلب لجميع البشر. 2- أين توجد السعادة؟ 3- من أقوال السعداء. 4- من أسباب الشقاء حرمان بعض الآباء أولادهم من الخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها المسلمون، هل ثمة مخلوق لا يحب السعادة؟! وهل هناك إنسان يكره الحياة الطيبة؟! وهل هنالك من يطيق مكدرات الحياة ومنغصاتها؟! لقد أيقن جميع بني آدم باحتياجهم الشديد للسعادة والطمأنينة، وبذل أكثرهم لتحقيق ذلك الأموال والأوقات والاهتمامات، فماذا كان؟!
أنفق ذو الجاه اللاهي ملايين على السعادة والراحة فلم يجدها، وبذل الثري الغافل مناه ووقته فما وجد صفوها، وكدح إليها طلاب المناصب فما ازدادوا إلا غما ونكدا، لماذا كل ذلك؟! ألا يمكن أن تُشترَى السعادة؟! وأين مكان بيعها؟! ومن يصدرها ويصنعها؟!
ولقد خفَّت عقول عندما ظنت أن السعادة تشترى أو أنها تباع، وقلَّ الإدراك عندما ظُنَّ أن المنصب مفتاح السعادة أو أن السيارة الفارهة والمسكن الفسيح عنوان الراحة السعادة.
يا مسلمون، لو كانت السعادة في الأموال فها هي الأمم الكافرة، أموال باذخة، وتقدم وهاج، وحضارة نادرة، وفي كل يوم ألوان من الانتحار والنكسات والدمار، وتؤسّس مصحّات الطب النفسي لمكافحة القلق والاكتئاب والأحزان والهموم، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
وحينما عجزت المستشفيات عن توفير السعادة لجؤوا إلى استدامة الشهوات، فابتلوا بالأسقام الموجعات والأدواء القاتلات، وبعدها لجؤأوا لفنون من الانتحار وتوديع الحياة الدنيا؛ إعلانا منهم بصعوبة صناعة الحياة الطيبة. وها هم أرباب الشهوات واللذائذ فرحوا قليلاً، ثم سرعان ما انقلب الفرح كآبة، وأتاهم الغمّ من كل مكان، وغشيتهم الكروب والأحزان. وها هم طلاب المناصب والشهادات، ما صفت لهم سعادتهم، ولا طابت لهم دنياهم، وهل تطيب الدنيا لأحد ضيع حق الله وعاش على غير هدى من الله؟! قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر: 19].
أيها الإخوة الكرام، دونَكم أصحابَ الأموال والزينة، سلوهم عن سعادتهم: هل ذاقوا لذيذ العيش؟! وهل استمتعوا بطيب الحياة؟! وهل حازوا الراحة والسلامة؟! إن مناظرهم لتجيبكم، وأشكالهم لتشرح لكم أن الأمر مختلف وأن الحياة صعبة وأن البلاء شديد.
إنكم ـ يا معشر أهل الإسلام ـ لا بد أن تدركوا أن سر السعادة هو الإيمان، وأن مفتاح الحياة الطيبة هو تقوى الله تعالى، يقول ربنا تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ [الزمر: 22]. فالنور والضياء إنما يلازم أهل الإسلام والتقوى.
ولستُ أرى السعادةَ جمع مالٍ ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ
ألا بالله تبلغ ما تريد وبالتقوى يلين لك الحديدُ
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسّعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحَرِج، وصار إلى أضيق سجن وأصعبه".
فتأملوا كلام ابن القيم، وانظروا إلى أمم الكفر ومن قلّدهم من بني جلدتنا، عندما غفلوا عن سر الحياة وهو الإيمان اتسعت لهم السجون، واجتاحتهم المصائب، وباتوا إلى أحزان عريضة ومآسٍ عويصة، والعياذ بالله.
يا مسلمون، هل شاهدتم حلاوة الإيمان التي يهنأ المؤمن بها طربا ويذوقها معنًى وحقيقة ويتحسسها طعومةً ولذة؟! يقول بعض الصالحين: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟! قال: الأنس بالله والتلذذ بذكره. ويقول بعضهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة لجالدونا عليه بالسيوف"، ويقول أيضًا: "إن كان أهل الجنة فيما أنا فيه من اللذة إنهم لفي عيش طيب".
فنظرنا إلى حال هذا المؤمن الصالح، فإذا هو ليس من جَمَع الأموال ولا حاز الرتب، ولا ممن اكتسب الشرف والوجاهة، لكنه حاز أكبر من ذلك وأعظم؛ حاز الإيمان بالله والتقوى، وأنِس بذكر الله، وتنعم بعبادته ومحبته. قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4]، وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5].
لقد أفلح وأنجح من ذاق حلاوة الإيمان واستطعم نور القرآن، فلقد أتى السعاة من أعظم أبوابها وتفرد بحسنها ونعيمها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58].
أيها الإخوة، لقد حاط الله المؤمن بأنوار السعادة، وبلغه ميادين النعمة، وغشاه بظلال الراحة والطمأنينة، فالمؤمن في هذه الحياة سائر على نور من ربه، لا يخشى المصائب ولا يهاب الملمات، اهتدى بهدى الله، وتوكل عليه، إيمانه منارة الطريق، وقرآنه حلاوة السبيل، يسير وكأنه إلى نعيم، محروس من الله ومؤيد بنصره وفضله، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وهذه خصلة لا يعرفها إلا أهل الإيمان. وهو إلى طريقه يدفع الشكوك بالإيمان، ويزيل الأسقام بالرضا، والحزن بالذكر، والضيق بالدعاء، ويعلم أن الله يفرج الهموم ويحل الشدائد ويجيب دعوة المضطر، فهل بعد هذا من تعب ونكد؟!
نقل ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الوابل الصيب كلامًا عجيبًا يصوّر فيه الحياة الطيبة التي تنزل بالمؤمن الذاكر مع السلامة من كرب الحياة ورزايا الدهر، يقول: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ [الحديد:13]. وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرّهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكان إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها".
اللهم ارزقنا حلاوة الإيمان، وأمتعنا بالذكر والقرآن، واجعلنا من عبادك الصالحين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين، في هذه الحياة الدنيا لا قيمةَ للإنسان بلا إيمان، ولا حياةَ بلا قرآن، ولا سعادة بلا ذكر وإقبال على الله، فالإيمان هو درب السلامة، والقرآن هو السعادة، وطاعة الله هي الحياة الطيبة، فلماذا يقصِّر أهل الإيمان في زيادة الإيمان وينشغلون بالدنيا ولا يسارعون في الخيرات؟!
لقد رضي كثيرون في هذه الأزمنة أن يبقوا في الجملة دون استشعار لمعاني الإسلام، ودون تعلم لقضاياه، ودون مسارعة في فضائله وخيراته، ففاتهم من الخيرات والسعادة بقدر ما ضيعوا من دين الله تعالى، ويزداد الأمر سوءًا وتعظم المصيبة عندما يحسّ كثير من الآباء والأولياء بنقصه في هذا الجانب، فيسعى إلى تربية أبنائه على ذلك، غير مبالي بحرمانهم من الخير والحياة الطيبة، فيتساهل في إنارة المنزل بالقرآن وحث الزوجة والأبناء على فعل الخير، ولا يسعى لتطهير المنزل من الموبقات والمفاسد، وسمعنا عن أب يحارب استقامة ابنه، ويضيق عليه تدينه، ولا يسمح له بصحبة الأخيار، ولا السفر لأداء العمرة، ولا الانضمام لحلقات التحفيظ، بدعوى ترك التشدّد والتزمّت، ونقول لهذا المسكين وأمثاله: من قال: إن الدين تزمت وتشدّد أو معاناة وتضييق؟! إن الدين ـ يا أخي ـ رحمة وهداية وجنة وسعادة وراحة وحياة طيبة، وما جنى المتدينون إلا لذائذ الأفراح وأنوار السعادات، فأين أنت من حلاوة الإيمان؟!
لماذا قفْلُ باب السعادة على الأبناء؟! ولماذا طمس نور الإيمان في قلوبهم؟! هل يسرّك أن يكون ابنك من رَعاع الناس أو مسرودًا في قائمة التائهين أو عصبة الفجور والمخدرات؟! تغضب من حرصه على الصلاة ومن حضور المحاضرات، ولا تغضب من انضمامه لرفقاء السوء واحتماله المعاصي التي تسوّد الوجوه وتلطّخ السمعة!
أما يحبّ أحدكم أن يكون ابنه بريدا له إلى الجنة؟! أما يحب أحدكم شرف حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: ((وشاب نشأ في عبادة الله)) ، وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) ؟! قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
أيها الآباء، كونوا مفاتيح خير لأبنائكم، احرصوا على دينهم، واستبشروا باستقامتهم، ففي الحديث قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)). فهل يكره أحدنا ولدًا صالحًا يملأ ميزانه بالحسنات وبالدعوات الطيبات؟! نسأل الله من فضله رحمته.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5258)
الغيرة على المحارم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, المرأة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
17/2/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من نماذج الغيرة. 2- إهمال شأن المرأة في هذا الزمان. 3- مظاهر تغريب المرأة المسلمة. 4- عظم الأمانة والمسؤولية. 5- منزلة العفة والفضيلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، ادعى رجل على زوج ابنته عند القاضي أنه لم يسدد باقي المهر، فأُحضر الزوج فنفى ذلك، فأمر القاضي بإحضار الشهود وطلب من الزوج إحضار المرأة، فقال الزوج غيرة: لا تحضر الزوجة، ولما حدثت المرأة بصنيع زوجها وغيرته عليها قالت: أنا أسقطت عنه حقي، فقال القاضي: اكتبوا ذلك في مكارم الأخلاق.
ما أجمل ـ يا مسلمون ـ أن يتحلى أهل الإسلام بخلق الغيرة الذي يكسب الرجولة ويربي على الفضيلة ويرعى الحرمات وينكر القبائح ويستقبح المناكر. لقد حفظ هذا الرجل الصالح حجاب امرأته من أن يراها الشهود، وحفظ حسنها من أن يلطخ بالأعين. يحب نساءه فيغار عليهن ويمنع حياءهن ويصون أخلاقهن.
وفى زماننا المعاصر يخالف رجال ذلك فيضيعون أمانة المرأة، ويستهينون برعايتها، ويهملون فضيلتها وتوجيهها. فهل يُضم لبستان الغُير ذاك الذي ترك المرأة تجوب الأسواق ليلا ونهارا؟! وهل من الغُيُر من قرَّب الدش للفتيات الغافلات؟! وهل منهم مالئ المنازل بالمجلات الخليعة وعروض الأزياء الفاتنة؟! وهل منهم تارك النساء يتخلقن بأخلاق المومسات والبغايا الفاجرات؟!
لقد عظمت الرزية واشتدت الحسرة عندما انعزل بعض الرجال عن مكارم الأخلاق، وخرجوا من ستار الغيرة، وتعلقوا بذيول المستغربين والعلمانيين بدعوى التحرر والانفتاح ومواكبة الحياة المدنية، فصاروا من مروجي التبرج والسفور عندما ملؤوا بيوتهم بالفضائيات الفتاكة، تبث الرذيلة، وتنشر الفساد، وتهدم الأخلاق، وتضعف جانب الدين والغيرة والمروءة، فتشاهد المرأة المسكينة أفلاما تعلّم البغاء وتشِعّ السفور وتحسّن التبرج وتدعو لترقي المرأة في مدارج الجمال والحسن واللياقة على حساب دينها وخلقها وحجابها، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].
أيها الإخوة الكرام، ليست البلية والحسرة من مستغربين رضعوا ثقافة الغرب الكافر أو منهزمي الثقافة لا علم ولا فكر ولا أدب، فهؤلاء ما ينطق منهم ناطق أو يكتب منهم كاتب إلا ويعبرِّ عن دناءة معدنة وتفاهة فكره وغياب أخلاقه عند جمهور المسلمين، لكن البلية والحسرة أن يتساهل أهل الإيمان وحملة القرآن في رعاية المرأة، وهم غالبًا بين طرفين: طرف مسؤول أهمل المرأة وضيع حقها وأهمل نصحها وتربيتها ليبوء بمغبة تضييع قوله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وطرف آخر غير مسؤول اهتم بالمرأة بطريقة عكسية، أدناها من أبواب الفساد وطرق الانحراف ويقول: نحن خير من الكافرين. وهذا الصنف هو الأشد والأنكى، خرب المنزل بدشّ فتاك، وصدّعه بأغنية ماجنة وصورة فاتنة.
ثم من هو المسؤول عن لبس ابنته العاري وتغنجها بالصبغات وتقليد المومسات باللبس الشفاف والتفليج والنمص وترداد الكلمات وتطلّب العشاق وقراءة الفكر المنحط الوضيع، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور: 19].
معاشر أهل الإسلام، لم يعد سرًا تحدّث الناس عن فتيات وبنات لوّثوا المدارس وقصور الأفراح والتجمعات النسوية بملابس خليعة وعادات ذميمة وأخلاق وضيعة لا تمت لأهل هذه البلاد بصلة، وهم من عرفوا بصدق التديّن وحبّ الغيرة والتحلّي بالحشمة والعفاف. لقد آلمنا كثيرًا أن نُحدَّث عن فتيات مسلمات يقلدن الكافرات والمومسات والضائعات، يجعلن الزواني وعارضات الأزياء مراجع ومصادر في اللباس والزينة، فلا المرأة تعتصم بحجابها، ولا تعتز بدينها، ولا تحرص على عفتها وأخلاقها.
إنكم ـ يا معاشرَ الرجال ـ لا يخفى عليكم ما تقدمه أبواب الفساد وعلى رأسها الفضائيات من تدمير للمرأة المسلمة وتنافس شديد في تحريضها على نزع الحجاب والبحث عن الحرية والراحة والسعادة. والحرية عندهم التحرر من الحجاب الشرعي، والراحة هي التفلت من الدين، والسعادة معاشرة الرجال بلا أدب ولا حياء.
أيها الرجال، من المسؤول عن تغير بناتنا وفتياتنا؟! ومن المسؤول عن تقليد الكافرات؟! ومن المسؤول عن استهانتهن بدينهن وحجابهن؟! ولماذا ظهرت هذه الأخلاق والعادات المستوردة التي ترفضونها أنتم؟! ولكن بعضكم غفل وتهاون، وغدا فاقدا الصلاحية في بيته وأسرته، منزوع الطاعة عن زوجته وابنته وأخته. هل ولَّت الغير الشرعية وانسلخت المروءة وشاع التقليد والاستسلام؟! أين نحن من غيره سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي قال فيه : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ والله إني أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) أخرجاه في الصحيحين، وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: ((إن لله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)).
أيها الإخوة، نحن المسؤولون عندما سمحنا بالتيارات الفاسدة بالدخول إلينا، وعندما سمح آباء وأولياء بإدخال طرق الإفساد في منازلهم، هل تتصورون أن تلكم الفضائيات تربي جيلا وتحفظ خلقًا وتحفظ دينا وتحمى عرضا وحجابا؟! كلا، لا تخادعوا يا طلاب الرياضة وعشاق الأخبار ومتابعي التحليلات، لقد صنعت بيوتكم تلك الفضائيات، وربت لكم بناتكم، فلا نستغرب حينئذ طيش الأبناء وتفلت البنات والركض وراء لبس عار أو قصة جديدة أو تضايق من الدين والأخلاق. ما حفِظ الغيرةَ من قرّب أسباب الانحراف للفتيات الضعيفات، وما صان الأمانة من كان سببا وراء التبرج والسفور، وإنه لجدير أن يبوء بمغبة قول النبي كما في الصحيحين: ((ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وأي غش أعظم من تدمير البيت المسلم بمثل هذه الفضائيات وترك الفتاة تتقلب عليها ليلا ونهارا دون إصلاح أو مراقبة أو محاسبة؟!
قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين، هل تحبون بستانا ذا جنان زاهرة وظلال وارفة وثمار يانعة، محفوفا بالخيرات والباقيات الراسيات، لا يشوبه تلف ولا بطالة، معدن العزة والشرف ومنبع الخير والنعمة، أهله أبرار، وحراسة أطهار، ولا يأباه إلا الأشرار الفجار؟! إنه بستان الفضيلة الذي هو ضمان المجتمع، ومحمود حفظه، وركن رعايته وصيانته.
إن المجتمع لا ينعم ولا يسعد إلا بسياج الفضيلة التي تجعل الناس في جو من الأمن والراحة والغيرة والحشمة. إن المجتمع الفاضل لا يصير فاضلاً بلا أدب ولا حشمة، ولا ينعم بالسكون دون فضيلة وعفة، ولا يعرف السعادة والاستقرار دون آداب وقيم.
انظروا للمجتمعات الأخرى لما انعدمت منها الغيرة وتلاشت الفضيلة كيف عمتهم الفواحش والأدران والأسقام، وصاروا في صورة أحط من البهائم، والله المستعان.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5259)
أصول في تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, الإعلام, التربية والتزكية, قضايا الأسرة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
24/2/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفساد العريض الذي تسببه وسائل الإعلام المنحرفة في عصرنا. 2- صعوبة تربية الأولاد في زماننا لكثرة الصوارف وتعدد جهات التلقي لدى الناشئة. 3- الدعوة إلى اليقظة والعمل لسد منافذ الشر الموجهة إلى أبنائنا. 4- عزل الأبناء عن الفضائيات والملهيات المنحرفة خطوة في تربيتهم. 5- توفير البديل السليم مطلب في احتواء المشكلة. 6- طرق وقاية الأبناء من النار. 7- أساسيات التربية. 8- أهمية تعريف الأبناء بسير الصالحين وأخبارهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، في ظل هذا العصر المتلاطم بالثقافات والمائج بالمعلومات المختلفة يغدو الفكر السليم يتيمًا في معلومات هائجة، تبثها وسائل الإعلام المختلفة، وتُلهِبها الفضائيات الفتاكة، فلا إعلام يساعد على تربية الجيل، ولا فضائيات يستنير بها الناشئة والأبناء، بل على العكس من ذلك، فإنها حين لم تُعِن على الخير والأخلاق سعت لمحاربة الخير ونسف الأخلاق.
ومع تفاقم فساد الفضائيات تبرز شبكة المعلومات العالمية العنكبوتية المسماة (الإنترنت)؛ لتجعل الشر شرورًا، وتزيد الفساد فسادًا، في مواقع تنشر الجنس وتبث الرذيلة وتدمر الدين والأخلاق، وهذا مما يجعل عصرنا أكثر تعقيدًا وأشد حسرة وخطورة. ما كان ليصدق العاقل أن تصير الأمور إلى ما صارت إليه من تجارة الجنس وترويج الفساد ومحو القيم والمبادئ.
وإزاء هذا الفساد المنتشر تتعسر مسألة التربية للأبناء والناشئة، وتصبح من المسائل الشائكة في هذا العصر الغريب، فإن البنت أو الابن إذا لم يَرَها حدثه بها زميله أو شاهدها عند آخر أو وهو مسافر أو تابعها في مجلة أو نشرة، وقد يُبتلى بمربٍ غافل، فيدعوه للمشاهدة والاستمتاع، فذوَت قضايا الدين والأدب والحرمة في ذهن هذا الولد، مما يكون بابًا لانحرافه وتعلقه بمسالك التافهين والشهوانيين الذين لا دين ولا فكر ولا مروءة لديهم، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44]. وما قيمة الإنسان حينئذ ـ يا مسلمون ـ عندما يُصبح عبدًا للشهوة، ومن ثم عبدًا للشيطان يقوده بزمامه، ويورده ميادينه ومسارحه، يقلبه في المعاصي والقبائح كيف يشاء؟! والعياذ بالله.
أيها الإخوة الكرام، إن فترة الطفولة أطول الفترات، وأحسنها لتعميق الإيمان وغرس المُثُل وتثبيت المفاهيم الصادقة، فإن الطفل في هذه المرحلة متلقٍ مستمع مقلد متأثر، فهل من الدين والعقل تركه جيفة لمثل هذه التعاسات؟! إن مثل هذا الفساد الهائج ما ينبغي أن يكون طريقًا للخضوع والاستسلام، بل لا بد أن يستدعينا لليقظة وهجر النوم والكسل والقيام بالعمل والمواجهة، فلقد بلغ السيل الزُبى، وطفح الكيل بما فيه، ونحن لا زلنا في مدرجات المتفرجين أو في الأسواق لاهين وبأعمالنا منشغلين، وكأن الأمر ليس لنا ولا يعنينا!
وإن العجب ليأخذ بالألباب حين يشاهد المسلم بعض المسلمين الذين يوهمون أنفسهم أن هذه الفضائيات ليست لمحاربة الدين ولا لتذويب الإيمان، وإنما هي أبواب للترويح والترفيه وإجمام النفس، فيقول: دع الأطفال يستمتعون ولا تضيّق على أبنائك، وهذا شيء لا بد منه. ولا أدري هل لا يزال هؤلاء وأضرابهم في دائرة العقلاء؟! وهل لا يزال يحفظ الغيرة والحياء، أم أنه ممن عبأ بطنه ولم يلتفت إلى ما سواه؟! والله المستعان.
أيها الإخوة، إن من أصول تربية الأبناء وحفظهم في هذا الزمان عزلهم عن هذه الفضائيات الممسوخة وبرامج الحاسب الرديئة أو ما يسمى (البلاي ستيشن) التي غدت حاوية خطيرة للرذائل، والحرص على حماية دين الناشئة وأخلاقهم وأوقاتهم. ولا بد من إقناع هؤلاء الأبناء أن هذه المشاهد والأفلام محرمة لا يجوز مشاهدتها، وإقناعهم أنّ أصحابها ومروجيها من المفسدين في الأرض، لكي يعلم أبناؤنا الفساد من الصلاح والأعداء من الأصدقاء والفجور من البر.
وليُعلم ـ يا مسلمون ـ أن سلامة الأبناء من سلامة المنزل من المفاسد، وحبهم للخير من حبّ الوالدين له، فالولد سر أبيه، ولكل فساد أصل، فلتحرص على أن لا يرى منك ابنك إلا خيرًا، ولا تبث له في البيت إلا خيرًا أو شيئًا مفيدًا.
مشى الطاووسُ يومًا باختيالٍ فقلّد شكلَ مشيته بنوهُ
فقال: علامَ تختالون قالوا: سبقت به ونَحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوهُ
وما دان الفتى بِحجى ولكن يعلّمه التديّن أقربوهُ
أيها الإخوة، وحين يرسخ مفهوم خطورة هذه المشاهد المحرمة يجب أن نلتمس للأبناء البديل، والساحة غير خالية من البرامج المفيدة في الحاسب التي تحوي البرامج الثقافية والأفلام الإسلامية المفيدة الخالية من الموسيقى والأفكار الفاسدة.
ومن الضروري أثناء التربية تقريب الأبناء للمساجد وإدخالهم حلق تحفيظ القرآن، لتكون درعًا لهم من ريح الفساد والأخطار، وما المانع ـ يا مسلمون ـ من أن يعقد الأب الواعي مجلسًا في منزله يبث فيه القرآن وينشر الحديث والقصة المفيدة المؤثرة؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6]. إن من الوقاية تعليمهم القرآن وطرق الطاعة وحمايتهم من أسباب الفساد والضرر. ومن وقايتهم غرس المُثل الزكّيه في حياتهم، وتحذيرهم من أمور السفه المشهورة التي بنت سفاهة عالية وشيّدت أمجادًا ساقطة، فلا هم من ثقافة صحيحة، ولا هم من عزٍ شامخ. فلا بد أن يتربى الأبناء على حب رسول الله والتعلق بسيرته ومعرفة أبي بكر وعمر وسعد وخالد وصلاح الدين ومحمد الفاتح، وليس سواهم من ليس في العير والنفير، وفي التسجيلات الإسلامية أشرطة نافعة تعلم هذه الحقائق.
ومن أساسيات التربية تحصين الأبناء بالأدعية والأذكار العاصمة لهم من الأخطار والأشرار، فإننا نلحظ على أبنائنا أنهم يحفظون المباريات والمسلسلات والكراتين، وربما فصّلوها تفصيلاً، ومنهم من يقرأ الجرائد، فهل يشقّ على الوالد أن يعلم ابنه دعاء النوم وهو كلمات وجيزة، أو دعاء الخروج من المنزل أو ركوب السيارة، وهي كلمات مباركات وليست بطويلة؟! ومنها الدعاء لهم كثيرًا واللجوء إلى الله بصلاحهم وهدايتهم، وأن يحفظهم من كل سوء ومكروه، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]. ومنها ملء فراغهم بالطيب المفيد، وتربيتهم على القراءة وحبها، وذلك يتمثل في قصص إسلامية للأطفال، ومجلات خفيفة هادفة، لا تجرح دينهم وأخلاقهم. ومنها تنمية مواهبهم في أعمال فنية، تحفظ أوقاتهم، وتفجّر طاقاتهم ونبوغهم. ومنها ترك مجالاتٍ للعبهم، والتعبير عن حريتهم في حدود المباح، والخروج بالأبناء للتنزه والرحلات، ومحاولة ربط ما يرون من جمال وآيات الخالق جلّ وعلا وبيان ضعفهم وافتقارهم إلى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ [فاطر: 15].
اللهم أصلح أبناءنا وناشئتنا، وزينهم بزينة الإيمان، واجعلهم هداة مهتدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، أبناؤنا أغلى ما لدينا وأعز مملوك علينا، فلنحرص على تربيتهم التربية الإيمانية التي تدنيهم من ربهم، وتغرس محبته في قلوبهم، فيسارعون في محبته، ويقومون لعبادته، ويجاهدون لإعلاء رايته، ويفتخرون بالانتساب لدينه. لنحرص على أخذهم للمساجد وتعليمهم القرآن وتعويذهم في المساء والصباح كما كان النبي يعوّذ الحسن والحسين بقوله: ((أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة)) ، ويقول: ((كان إبراهيم عليه السلام يعوّذ بها إسماعيل وإسحاق)). إن محبتكم لأبنائكم تعني إنقاذهم من النار والحرص على سلامتهم ونجاتهم، وذلك لا يكون إلا بتعميق جذور الإيمان في قلوبهم وتجنيبهم موارد الزيغ والانحراف.
أيها الآباء، لقد فُتن أبناؤنا بنماذج ساقطة من أهل الفن والكرة والسفه حينما غيّبناهم عن سير العظماء والصلحاء والأبطال، فصار أحدهم لا يعرف من تاريخ أمته شيئًا، ولا يفخر ببطولاتهم وعظمائهم. فالواجب علينا عرض هذه السير والنماذج الحية من أبطال الإسلام، حتى يجددوا لنا سيرة أبي بكر وعمر وسعد والزبير، ويذكرونا ببطولات مصعب وجعفر والقعقاع، فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176].
ليس عجبًا أو معجزًا أن يبرز من أجيالنا من يصنع البطولة ويستحلي الشجاعة، فلا يلتفت إلا لميادين الرجال، ويُعرض عن تفاهات ذوي الخَبال. وإننا بعون الله تعالى ثم بإصرارنا وحسن تربيتنا سنصنع أشبالا كاللَّذَين قتلا أبا جهل وككاسِر الروم ومُذل الفرس وقاهر الصليبيين.
وها نحن في هذا العصر القاتم بالخيبة والنكسة تنجب هذه الأمة أطفالاً يُقدّمون نحورهم للعدو، حاملين سلاح الحجارة، يصيدون بها قاذفات اليهود، ويزلزلون بها نفوسهم ومخططاتهم. لقد أفلح أطفال الحجارة في بث الرعب في اليهود المجرمين، وقتلوا بها أنفسًا، وأسالوا بها دماء. وإن المسلم ليفخر ويعتز عندما يرى طفلاً صغيرًا سلاحه الحجارة، وذاك اليهودي صاحب الرشاش يفر ويختبئ، ذروا أبناءكم يشاهدون هذه الصور، وقولوا لهم: هؤلاء إخواننا الصغار يفعلون فعائل الكبار، ويمسحون عنا خسة العار والشنار:
خبِّرونا باللَّه من أين أنتم أمن الورد أم من الصباره
من شموخ النخيل أم من هديل القمح أم من هواجس المَحاره
هكذا تصبح الْحجارة سيفًا عندما تصبح السيوف حجاره
و إذا العار صار عارًا مرارًا غسل العار في المنية عاره
و إذا ما غدا الكبار صغارًا أرسل المجد فِي الطريق صِغاره
الصِّغار من قال: أنتم صِغارٌ فِي يديكم رأى العدو صَغاره
والعماليق حين لحتم بقايا من بقايا أسطورة منهاره
الصغار من قال: أنتم صِغارٌ وحصاكم يهزّ قلبَ الحضاره
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا...
(1/5260)
خطر النميمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
22/4/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قبح النميمة وحرمتها. 2- الآثار المترتبة على النميمة. 3- كيف التعامل مع النمام؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها الناس، عندما تحلو الحياة ويصفو ودادها ويتواصل الأقارب ويجتمع الأصدقاء والأحبة تسطع جمرة حانقة قد ارتدت جلباب الحقد والحسد، وتجللت بألوان المكر والكيد، ساءها الوصال، وحرقها التواد والمعروف، فانبرت لتقطع حبل المودة وتعكر الصفو وتذكي الحرب والخصومة.
هل عرفتم من تلك الجمرة الخانقة؟ إنه النمام الذي قال فيه النبي : ((لا يدخل الجنة نمام)) كما في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه.
لقد شاع هذا المنكر في حياة المسلمين المعاصرة، أعني النميمة، ينقل جماعة كلام الناس في بعضهم بقصد إثارة الفتنة وإشعال الخصومة وحصول الجفاء والعداوة، وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 10، 11].
عندما يقل الكلام ويكثر الفراغ وتضعف النفوس وتنحبس على أسقامها أو أخبارهم لا تجد لها شغلاً ولا ارتياحًا إلا في نقل الكلام وتوزيع الرسائل بين الإخوة والأحباب والجيران، فيقول النمام: قال فيك كذا، وصنع كذا، ورأيته يفعل كذا وكذا. ويذهب للآخر فيعطيه كلامَ الآخر على جهة صنع العداوة وتعكير العلاقة الطيبة.
ثبت في المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((تجدون من شرار الناس يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)).
ومن وصايا لقمان الجميلة أنه قال لابنه: (يا بُني، أوصيك بخلال إن تمسّكتَ بهن لم تزل سيدًا: ابسط خلقَك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك، وأمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغٍ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك).
تنحَّ عن النميمة واجتنبها فإن النمَّ يحبط كلَّ أجرِ
يثير أخو النميمة كلَّ شرٍّ ويكشف للخلائق كل سترِ
و يقتل ذو النميمةِ كلَّ شرٍّ وليس النمُّ من أفعالِ حُرِّ
ليست النميمة ـ يا مسلمون ـ من أخلاق الأحرار الأبرار الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم، وعلموا من الله ما يزجرهم عن مساوئ الأخلاق وأفعال أهل الدناءات، فلقد عير الله بعض المشركين بقوله: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 10، 11].
وقد يجمع النمام إلى قبيحته سوء الخلق والكذب وتهويل الموقف، مع ما انطوت عليه النميمة من حقد على التآلف وحسد على الاجتماع وكراهية للحب والتقارب؛ ولهذا كان عذاب النمام شديدًا، قال : ((لا يدخل الجنة قتات)) والقتات: النمام، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) ، ثم قال: ((بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)) الحديث.
أيها الإخوة الكرام، قبيح ـ والله ـ بمن يصلي ويصوم ويذكر الله أن يتخلق بخلق النمامين الذين لا هم إلا تكدير المزاج وصناعة الفتن والقلاقل، قبيح ـ والله ـ لمن استطعم الأدب والخلق أن يسعى سعاية الدس والكيد، وليظهر أنه الناصح المشفق.
كم ساءنا ـ وايم الله ـ تناحر الأقارب وتعادي الأصدقاء بسبب وشاية نمام ورواية جبان لئيم، لا يُدرى أصحيحة هي أم مختلفة مكذوبة. لقد أفلح النمامون في اجترار كثيرين إلى نفوسهم الخبيثة ومحاولاتهم الدنيئة، فظنوا في إخوانهم المسلمين الظنون الفاسدة والأفعال المشينة، فوقعت الفرقة والبغضاء وحل التباغض والخصام، والله المستعان.
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال: يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين.
وقال الحسن البصري رحمه الله ونعم ما قال: "من نَمَّ إليك نمّ عليك".
لا تقبلنَّ نميمة بُلغِّتهَا وتحفظنَّ مِنَ الذي أنباكَها
إنّ الذي أهدى إليك نميمةً سينمُّ عنك بمثلِها قد حاكَها
أيها الإخوة، ومن مقاصد النميمة في هذا العصر الحظوة لدى المدير أو المسؤول والتزلف إليهم وقصد الانتقام من بعض الزملاء في الدائرة، فالواجب على عقلاء الناس عدم الالتفات إلى ذلك ووعظ النمام وزجره عن هذا الخلق اللئيم، وليتذكر أحدنا مقولة الحسن: "من نم إليك نم عليك". وليس بهذا الفعل اللئيم يُبلى الرجال وتكشف أسرارهم ويعرف ولاؤهم ومحبتهم.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا مساوئ الأخلاق، واطلبوا محاسنها، واحذروا أن تجرح نفوسكم وأعراضكم بهذه الأخلاق الدنيئة من النميمة وأشباهها، واهجروا النمام، وقبحوا أمره، وحذِّروه أشد الحذر من سوء فعله ومغبة أمره.
في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمدًا قال: ((ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس)) ، وإن محمدًا قال: ((إن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، ويكذب حتى يكتب كذابًا)).
وليحذر المبتلى بهذا الخلق المشين العودة إليه، وليتب إلى الله، فالنميمة كبيرة من كبائر الذنوب، وهي باب العداوة والخصومات، وطريق لكثير من المفاسد والمخالفات.
أيها الإخوة، أما كيف يُتعامل مع النمام والذي نقل فيك كلامًا عن آخر؟ قال الذهبي رحمه الله: "كل مَنْ حُمِلت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان كذا وكذا لزمه ستة أحوال:
الأول: أن لا يصدقه؛ لأنه نمام فاسق وهو مردود الخبر.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله.
الثالث: أن يبغضه في الله عز وجل؛ فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب.
الرابع: أن لا يظن في المنقول عنه السوء؛ لقوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12].
الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن تحقّق ذلك، مصداقًا لقوله تعالى: وَلاَ تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12].
السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته".
أيها الإخوة، إن معادن الرجال وشيمهم لتأبى الوقوع في مثل هذا الخلق الذميم، وإنها تترفع بشرفها عن أن تكون نقالة للكلام بين الناس، وماذا تجني من ذلك؟! إنها لا تجني إلا الوزر العظيم وفساد القلب واللسان وهوان الذات وتلوث السمعة وفرار الناس عنها.
وليتذكر من يقرأ القرآن قوله تعالى: هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11]، وقول النبي : ((لا يدخل الجنة نمام)).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت...
(1/5261)
حسن الخلق في حياة رسول الله
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الشمائل, مكارم الأخلاق
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
20/5/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من حسن خلق النبي. 2- صور من صبره. 3- صور من شجاعته. 4- صور من عداوته لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين، في الحياة الاجتماعية المعاصرة تتغلب المصالح على الأخلاق، وتلعب العادات بالمبادئ، فلا يجد المسلم مهرعًا ولا ملجأ إلا بالاطلاع على نافذة السنة النبوية واستنشاد أخلاق النبي ، فمن حياته تُستلهم الأخلاق، ومن سيرته تستفاد الآداب، فلقد أدبه ربه تعالى فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، وأثنى عليه ومدحه بقوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
فقد كان من عظمة خلقه استشعاره القرآن في سائر شؤونه ومعاملاته، وكان من عظمة خلقه انجذابُ الناس إليه بما فيهم الكفار وخضوعهم لأخلاقه وشمائله، فلقد كان خلقه القرآن، به يقول ويحكم، ومنه يأتمر وينتهي، وبه يهدي ويهتدي، كان القرآن في لفظه ولحظه وقوله وفعله، وفي رضاه وغضبه.
لم يكن للقرآن حافظًا بلا معنى، أو مرتلا بلا اهتداء، أو مرددًا بلا وعي وتطبيق، بل كان يعيش القرآن في لحظاته وحركاته ومسالكه وتصرفاته، وهكذا يكون حفظ القرآن الكريم؛ علمٌ وعمل، وتدبر وانتفاع، وعظة وتطبيق.
ومَنْ لم يعلّمه القرآن حسن الخلق فليتهم نفسه وليراجع قلبه، فلقد ذابت الموعظة في بحار الدنيا الفاتنة ومزاهرها الأخّاذة، فغدت الأخلاق الجليلة بمعزل عن العمل والتطبيق والسلوك، واستصلاحًا للحال ومعالجة للداء نذكِّر أنفسَنا وإياكم بمحاسن أخلاق نبينا ، وهو الكامل في خُلقه وخلقه، الواسع في أدبه ورفقه، السيد في حيائه وعفته، وكان رحيمًا بالمؤمنين، محبًا لهم ومشفقًا عليهم، محسنًا لفقيرهم، متواضعًا لضعيفهم، وكانت تأتيه الأمة من نساء المدينة وتأخذه إلى حاجاتها حيث شاءت، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)) ، وكان يقول لبعض صحابته: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئةَ الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
بل إن الإنسان ليعجَب من تعظيم هذه الرسالة لمحاسن الأخلاق؛ بأن جعلتها مقصدا من مقاصدها، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن جابر رضي الله عنه بسند حسن أن النبي قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، وفي لفظ: ((صالح الأخلاق)).
وكان مع رحمته بإخوانه المؤمنين شديدًا على أعداء الله الكافرين، مرهبًا لقلوبهم، كاسرًا لشوكتهم، محطّما لتحدياتهم، مهما كان عددهم أو كانت عدتهم.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل". وقد كان النبي من هذه الأركان القِدْح المعلَّى، سطعت في حياته وتجلت في شخصيته وكانت شموس أخلاقه وشمائله.
فأما الصبر فهو باب الاحتمال وجسر المشاق والطريق للحلم والأناة وكظم الغيظ، ولقد كان صبورًا غاية الصبر، محتملاً للأذى، غير ثائر ولا حاقد، غير طائش أو مستعجل، يحتمل في دعوته كل المشاق وكل الاعتداءات وكل البليات، كذبه قومه في مكة فصبر، وآذوه ونالوا منه وسخروا منه السخرية الشديدة وهو يقابل ذلك كله بالصبر، مستشعرًا قول الله له: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ [فصلت: 42]. فلم يمَل ولم يكَل، بل كان ثابتًا قويًا وصابرًا مستيقنا، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم: 60]. وبالصبر ـ يا مسلمون ـ تهون الرزايا وتخف البليات، والمسلم في هذه الدنيا لا يعيش بغير صبر، ولا يدعو بغير صبر، ولا يجاهد بغير صبر.
وأما العفة فهي الستر دون الرذائل والقبائح قولا وفعلا، وهي مفتاح الحياء، والحياء رأس كلّ خير، وقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يقول إلا خيرًا، ولا يبدي إلا خيرًا، يعظم حرمات الله، ولا يأتي من الأمر إلا أيسره وأحسنه.
وقد حملته عفته على الكرم والشهامة واجتناب البخل والكذب، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني فلست بباخل)).
وأما العدل فبه اعتدال الأخلاق واستواؤها، لا إفراط ولا تفريط، فيجود بلا إسراف، ويقتصد بلا إقتار، يلين بلا ذلّة، ويعز بلا عنف وشدة. وقد كان رحيمًا بأهل الرحمة، شديدًا على الفجرة والظلمة، أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ [المائدة: 54].
وأما الشجاعة فهي عنوان عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وبها قهر الأعداء وإعزاز المسلمين، وقد كان لنبينا من ذلك حظ كبير وقسم عظيم. قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله أحسنَ الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزِع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ، في عنقه السيف، وهو يقول: ((لم تراعوا، لم تراعوا)) ، وقال عن الفرس: ((وجدناه بحرا)) يقصد سرعته. وقال البراء بن عازب كما في الصحيحين: كنا ـ والله ـ إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي.
وقام على دعوته مجاهدا ومقاتلاً صامدًا لا يخاف العرب ولا يخشى الدوائر، وقد خُطط له وحيكت له المؤامرات وهو في ذلك كله شجاع أبيّ، غير هياب ولا خوار.
أيقن عليه الصلاة والسلام أن دعوته لن تصمد إلا بشجاعة يهتزّ لها الأعداء وتقف أمامها الخصوم، فمضى شامخًا يهدّ خصومه المشركين ويزلزل قلوبهم، وقد أعلن ذلك في مكة وهو وحيد طريد، إذ جهر بدعوته، وصدَع بالقرآن، وجمَع الأتباع، حتى أظهره الله ومكنه، فقاتل المشركين وكسر شوكتهم في بدر، وقاتلهم في أحد، وحصل ما حصل من ابتلاء الله لهم، ثم تتبّعهم في حمراء الأسد، وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((اخرجْ في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإنْ ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأناجزنَّهم)).
وفي خاتمة غزوة أحد جاء المشرك أُبي بن خلف يريد قتل النبي وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوتُ أن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله : ((دعوه)) ، فلما دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فُرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنةً تدأدأ ـ أي: تدحرج ـ منها عن فرسه مرارًا. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني ـ والله ـ محمد، قالوا له: ذهب ـ والله ـ فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان، قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصَق علي لقتلني. فمات عدو الله وهم قافلون به إلى مكة، وفي رواية: إنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعًا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، لم يكن النبي غافلاً عن أعدائه وهو يعلم ضررهم على الدعوة، ولم يكن لينشغل وهو يدرك خبثهم ومكائدهم، لقد قرأ في كتاب ربه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]. فأيقن أن أعدى أعدائه وأخبث خصومه هم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة، وهو قد تلا في القرآن: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، فانتبه النبي لعداوة هؤلاء، وحذّرهم عقاب الله، ووعظهم بالإسلام، وكان من أول قدومه للمدينة كتب معهم معاهدة لحماية المدينة، وأبقاهم على ما هم عليه، ولما نصره الله في بدر أظهروا له الغضب والحسد، فقام بجمع يهود بني قينقاع في سوقهم وقال لهم: ((يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا)) ، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحنُ الناس، وأنك لم تلق مثلنا.
ولما اشتد عداؤهم للإسلام وكثرت تحرشاتهم انطلق إليهم رسول الله بجنود الله المؤمنة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، حتى نزلوا على حكم رسول الله، على أن لهم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، ثم كلمه فيهم حليفهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي، فتركهم رسول الله له، وأجلاهم من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام.
وكان قد بقي في المدينة من قبائل اليهود بنو النضير وبنو قريظة، وكان لهم رسول الله بالمرصاد، فقد أرادت بنو النضير قتل رسول الله ، وحرضتهم قريش على الحرب، فلما علم بذلك رسول الله طلب منهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام، فمن رأوه منهم بعد ذلك ضُربت عنقه، وعندما استعدوا للخروج أرسل إليهم رأس المنافقين يحرضهم على عدم الخروج، ومناهم بالوقوف معهم، فأعلنوا العصيان والتمرد، فحاصرهم رسول الله حصارًا شديدًا، وأمر بقطع نخيلهم وحرقها نكاية فيهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب حتى نزلوا على حكم رسول الله، فأجلاهم على أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، وفيهم أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في سورة الحشر: (سورة بني النضير) كما في صحيح البخاري.
وبقي سادة بني النضير يكيدون المكائد لرسول الله ، فهم الذين أجّجوا بني النضير على نقض العهد في الخندق، فأظهروا العداء، وتنكروا لرسول الله، ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا دخل النبي بيته ووضع سلاحه، وجاءه جبريل عليه السلام وقال: أوضعتَ ـ يا رسول الله ـ سلاحك؟ انطلق إلى بني قريظة، فإني ذاهب إليهم فمزلزلٌ بهم. عندئذ أمر النبي صحابته بالتهيؤ لبني قريظة والإسراع في السير، وقال: ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)).
فانطلقَ إليهم رسول الله في ثلاثة آلاف مقاتل، وضرب عليهم الحصار، حتى أخذهم الهلع ونزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فحكم بقتل الرجال وسبي نسائهم وذراريهم، فقال له النبي : ((قضيت بحكم الله تعالى)).
فذبحهم رسول الله في الأخاديد كذبح الشياه، وهذا جزاء من حارب الله ورسوله، وليس ممارسات الذل والاستسلام التي يمارسها الضعفاء تجاه اليهود في الأراضي المحتلة، واستحق اليهود حكم مجرمي الحروب.
لو لامست أذن الفاروق خيبتُهم لكدر الصفو فِي جناته الكمَدُ
أو كان يدري صلاح الدين مااقترفت تلك العلوج لضجّ الفاتح النجِدُ
من نصف قرن وأرضُ الأنبياء على درب الدموع تنادينا ونُفتقَدُ
وإنا لنحمد الله على أن الانتفاضة المباركة لا تزال حية قوية، ترفض كل بوادر الذل والاستسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم وفقنا للخيرات وجنبنا الغفلة والحسرات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5262)
الدعوة إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأعمال, قضايا دعوية
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
27/5/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من تبليغ الرسول دعوة ربه. 2- مجالات الدعوة. 3- هم الرسول لهداية الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها الناس، هنالك في البلد الحرام وعلى جبل الصفا تنطلق الكلمات الصادقة، وتشع الهداية الحانية، مجلجلة في الأحياء والدور، شاقة طريقها إلى الله، تحتسب وقوفها وتجود بنفسها، داحرةً كل بغي، قاهرةً كل عدو، لا تبالي الأخطار، ولا تخشى القوارع.
انطلقت هذه الكلمات من أشرف مخلوق وأزكى داعية ورسول، صدع بها نبينا محمد ، متحديًا الدنيا ومواجهًا الأخطار، غير ملتفت لراحة لذيذة أو دنيا سعيدة. أمره ربه تعالى بالبلاغ فجدَّ واجتهد، وذكره بالإنذار فسارع وانتفض، مذكّرًا بالله ومحذرًا من عذاب الله تعالى.
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] خرج رسول الله حتى صعد الصفا، فهتف: ((يا صباحاه)) ، فقالوا: مَنْ هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خَيلاً تخرج من سَفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيَّ؟)) قالوا: ما جرّبنا عليك الكذب، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم)) ، قال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ ثم قام فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1].
وعند الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] دعا رسول الله قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخَصَّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكِ من الله شيئا، غيرَ أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)) ، أي: سأصلها بحقها.
أيها الإخوة الكرام، هكذا يبلغ رسولنا رسالة ربه، مؤثرًا السلامة على الهلاك، وطالبًا النجاة من العذاب، وراغبًا في الجنة عن النار، فلقد أيقن أن الدعوة إلى الله سلوته وروحه ونبضه وإحساسه وحزنه وسعادته، لقد علَّمه ربه تعالى فعلم حق العلم، وهداه فأدرك واجبَ الهداية، وانطلق في سبيل الله داعيةً موجها وهاديًا محذرا، غير هيّاب ولا خوار، موقنًا بنصر الله واثقا بوعده مهما طال الطريق أو عظمت المفازة.
رأى اليتيمُ أبو الأيتام غايتَه قصوى فشقّ إليها كل مضمارِ
في كفّه شعلةٌ تَهدي وفِي فمه بشرى وفِي عينه إصرارُ أقدارِ
وفي ملامِحه وعدٌ وفِي دمه بطولة تتحدَّى كلَّ جبارِ
وهبّ في دربه المرسوم مندفعًا كالدهر يقذف أخطارا بأخطارِ
وامتدّت الملة السمحا يرفّ على جبينها تاجُ إعظامٍ وإكبارِ
فأين حملة الشهادات وطلبة العلم ليقوموا بواجب الدعوة إلى الله؟! أين الذين انزوَوا بشهاداتهم إلى الزوايا؟! وأين الذين اختفوا بمعارفهم خلف اللذائذ والمطايا، فجعلوا الميدان للجهلة، وارتضوا حياة الذل والخور، غير مبالين بما تعلموه، ولا واعين ما درسوه وقرأوه؟! لقد نسوا واجب العلم، وغفلوا عن حقّ الدعوة، وارتضَوا ما ضربه الله لمن علم وتعلّم وما عمِل وما تقدّم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 3].
أيها الإخوة، كم يطول العجب ولا ينقضي من أستاذ شريعة انصرف لدنياه، وآخر يقتات بالشهادة، وآخر حرقها بوقود السفه والطيش، وآخر دفنها في أرضيّة الكسل والركود، فبات هؤلاء لا علمَ يرعون ولا دعوة فيها يسعَون، وقد غفلوا عن قول الرسول : ((من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) ، وغابوا عن فضل حديث: ((فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)). وما أكثر المتقاعسين عن الفضائل في هذه الأزمان، وما أكثر الكاتمين للعلم الجامدين عن الدعوة والبلاغ.
فمنهم من يتعذر بأشغاله، ومنهم من غاص في زينة الدنيا، ومنهم من حنَّ لزوجه وولده، ومنهم من يقول: لا أُحسِنُ الدعوة وإنني غافل مقصر.. إلى أعذار كثيرة يتوصلون بها للقعود والانضمام في قائمة الخوالف. ولو قرؤوا القرآن حق قراءته وتأملوا منهج النبوة لما ركنوا لما قالوا، ولا استحيا أكثرهم من بعض المعاذير والكلمات.
ألم يكن لهؤلاء واعظ من ربهم وهم يتلون قصص الأنبياء ومجادلتهم لأقوامهم؟! وعلى سبيل المثال ماذا يقول نوح عليه السلام؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا [نوح: 5]، ولم نطالِب بالدعوة ليلاً ونهارًا، وإنما طالبناك بكلمة تلقيها، بخطبة تعدّها، بقرية تزورها، وبكتاب توزّعه، المهمّ لا تركن للقعود والفشل.
إن مثل هذا الواقع لخليقٌ أن يبثّ في روح المعلمين والخريجين ـ لا سيما أهل الشريعة ـ روح الحماس والعمل وأسباب البذل والمجاهدة وإعطاء دين الله شيئًا من الهم والاهتمام.
يا أخي، شارك في الدعوة لله ولو بسبيل يسير، المهم أن تكون في قائمة المشاركين المهتمين، وليس في قائمة الخاملين النائمين. والمشاركة قد تكون بسنة تنشرها أو بفضيلة تدعو إليها أو كلمة تلقيها أو مطوية تبثها، المهم أن تكون إيجابيًا في مجتمع الأمة المسلمة.
فليست الإيجابية أن تكون نقّادةً للعمل الدعوي، لا تُعرَف إلا ناقدًا متكلّمًا مجرِّحًا، في حين لم تُر لك مشاركة، وما قدّمت بذلاً ولا صنعتَ معروفًا، فالسكوت خير لك حينئذ، ووالله لصمتُك أحبّ إلينا من جَرح الأعمال وتحطيم الجهود بحجة النصيحة والتصحيح. إذا نقدتَ فلتكن ذاك العاقلَ البصير الذي لم يتخلّف عن الميدان بمائة حجة ذكية مقنعة، وليكن نقدك بأدب رفيع وفهم بصير.
إخوة الإسلام، لا تزال الدعوة إلى الله في حاجة إلى أنصار وأعوان يعيشون لها، ويرعونها حق رعايتها، ويسيرون فيها على هدي رسول الله ، متَّعظين بقوله: ((بلغوا عني ولو آية)) ، ومسترشدين بقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 107].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان ليعجب من مجرم خبيث أو نصراني رقيع يجوب القفار، ويفارق الأهل والأوطان، داعيًا إلى نصرانيته، محتملا في سبيلها الأوزار والمتاعب، ولا تصده العوائق والجسور. أليس هذا المسلك لائقًا بأهل الإسلام وقد استيقنوا دينهم وآمنوا بربهم واستشعروا عظمة الثواب المدَّخر لهم؟! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
نريد ـ يا مسلمون ـ العمل الدؤوب للدعوة والحزن الشديد عليها، كما هو حال رسول الله ، فقد وصفه ربه بقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6]، والمعنى: لعلك قاتل نفسك حزنًا وأسفًا إن لم يؤمنوا بما جئت به.
وقد عاش بهذا المعنى في حياته كلّها، ففي حادث الطائف بعد دعوته لهم وإلحاحه عليهم طردوه وضربوه وسخروا منه، قال: ((فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، ولم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)). فهل اغتم بعضنا لمآسي الأمة وللدعوة إلى الله؟! نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويوقظ عقولنا ويتجاوز عن تقصيرنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5263)
من للعمال؟!
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
5/6/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أكل أموال العمال بالباطل. 2- وصية للعمال في القيام بحق العمل واجتناب السرقة والخيانة. 3- صور من ظلم العمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين، ما تقولون في رجلٍ يعيش على أكتاف غيره، يأكل مالاً ليس بماله، ويشيد دارا ليست من أتعابه، ويرتقي درجات الغنى على كد الضعفة والمساكين؟! لم يكن يتصور البررة الأتقياء أن مسلمًا يدعي الإسلام ويتردد على المساجد يكون عائلا على جهد العمال، وفقيرًا لدى الطبقة الكادحة يأكل أموالهم ويستنفد طاقاتهم ويبتلع سعادتهم وحلاوتهم. يبيتُ العامل المسكين كادحًا على لقمة العيش؛ ليعف نفسه ويطعم ولده ويحفظ أسرته، ويأتي هذا الكفيل الظالم يستقطع من حصالته شهريًا أو يناصفه العمل أو يشاركه، كل ذلك يتم مقابل إحضاره للبلاد.
لم يكن في بال المؤمن التقي أن يتقلد هؤلاء الكفلاء أخلاق اللئام وحُلَى الظلمة وشمائل المتسلطين الأكالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [النساء: 29]. وإلا فما هو الباطل يا معاشر الكفلاء؟! كيف تجيزون لأنفسكم أكل عرق العمال والضعفة؟! أما يخشى أحدكم بناء جسده وولده من الحرام؟! أما يستحي بعضكم من ربه وقد تسلط على مسكين؟! قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42].
ليست المهارة في التجارة بأكل الحرام، وليس الحذق التجاري سلب الضعفة والمساكين، هل من الرجولة تهديد العامل بإخفاء الجواز؟! وهل من الرجولة إخافته بعدم تجديد الإقامة؟! وهل من الرجولة نفخ الأوداج وتضخيم الصوت والقسوة في المعاملة؟!
إننا لا نطالبكم ـ يا معاشر الكفلاء ـ بأخلاق الإسلام؛ لأن الإسلام قد ذابت معانيه في قلوب الظلمة والمتسلطين، وخفي عليهم حرمة الربا وتعاسة الباطل وخطورة المأكل الحرام، فها هو الظالم يشيد بنيانا من ظهور العمال، ويشتري سيارة من أرباحهم، ويطعم أولاده من كدِّ المساكين، ثم يصلي ويصوم ويدعي أنه مسلم.
نحن لسنا بحاجة إلى إسلام منخول مخروق، يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، أو إذا حضرت الدنيا ولمعت الريالات طار الإسلام وخفيت التقوى والتهمت النفس الجائرة الأموال والأمتعة والسلع، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85]، وربنا تعالى يقول: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].
إننا نطالبكم ـ يا سادة ـ بأخلاق العرب التي شحّت من هذه البلاد المباركة، أخلاق الكرم والإحسان والشهامة والمروءة.
أين الكرم من التضييق على العامل والتقتير عليه وزجه في مساكن لا تصلح للحيوانات فضلاً عن بني آدم المكرمين؟! قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70].
أين الإحسان والشهامة التي كان يتفاخر به سادة الناس ليبنوا مجدا ويؤسّسوا عزّا؟! وأين المروءة لدى كفيل قعيد كالكسيح، يأكل من صحن عامل كادح ضعيف، قد كدَّه العمل، وأضناه السهر، وأرهقته حرارة الشمس؟! ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
لقد هانت الأخلاق عند كثيرين بعد هوان التقوى في حياتهم، وأعماهم بريقُ المال عن إدراك خطر الظلم وبخس الناس حقوقهم. لقد تعامل كثير من الناس مع العمال وكأنهم آلات لا رحمة ولا شفقة ولا إحسان، وقد قال كما في الصحيحين: ((إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
أيها الإخوة الكرام، إننا بحديثنا هذا لا نطعن في سائر الكفلاء، ففيهم صالحون وأخيار يخشون الله ويخافون يوما كان شره مستطيرا، وإننا أيضًا لا نقلل من أخطاء طوائف من العمال قلّت أمانتهم وفسدت أخلاقهم ودأبوا على السرقة والغش والاحتيال، لكننا ندعو إلى العدل واجتناب الظلم والحرص على مراقبة الله في هؤلاء الضعفة، فإنهم يأتون إلى هذه البلاد مع ضعف في الدين وقلة الثقافة وهوان التربية، ويفاجؤون بغفلة الكفيل وصاحب العمل عن دعوتهم ورعايتهم والإحسان إليهم.
وإننا لنوصي إخواننا العمال بتقوى الله في مصالح كفلائهم، وأن لا يخونوهم ولا يغشوهم ولا يغدروا بهم، وأن يقوموا بإتقان العمل في وقته وشروطه وحدوده، وهذا الكلام متوجّب في حق المسلمين الذين تجاسروا على الغربة وقطعوا المسافات حتى وصلوا إلى هذه البلاد، وفي هذا واعظ لهم أن يحرصوا على الحلال، وأن لا يعودوا على أبنائهم بالسوء والشنار، فقد قال : ((كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) رواه أحمد والدرامي وهو حديث صحيح.
أيها المسلمون، لقد تلوّنت المظالم والحسرات المتتابعة على الإخوة العمال والضّعفة، وصار التكسب من خلالهم يبادر إليه كثيرون إلا من رحمه الله، متجاهلين خطورة الظلم وعاقبته الوخيمة، وقد قال : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه مسلم في صحيحه. فإن كانت أنارت لهم أموالهم في الدنيا فإنها ستظلم عليهم في الآخرة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52]، وقد قال : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
فمن صور ظلم العمال المنتشرة هذه الأيام الأكل من ظهورهم بلا شراكه ولا استحقاق، ومنها ظلمهم وعدم إعطائهم رواتبهم وتعمد تأخيرها من بعض الكفلاء وعدد من الشركات والمؤسسات، فلم يعد سرًا مكث العامل إلى سنة وزيادة ولم يتقاضَ شيئا، يجوع ويطول جوعه، وتنتظر أسرته البعيدة الذهَب المختزن ليرفعهم وينتشلهم من مستنقع الفقر والضنك، والمؤسسة أو الكفيل غير مبال بذلك كله، يأكل نهاره وينام ليله. وفي الحديث الشهير الذي يعيه الخائفون من الله: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني رحمه الله.
ومن صور ظلمهم الاستقطاع من كدهم وتعبهم أجرًا شهريًا أو سنويًا مقابل الكفالة، وهذا ظلم صراح يعاقب الله عليه، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
ومن صور ظلمهم الاتفاق على الشغل، ثم التنكر لهم وخداعهم، فيقول صاحب العمل: إن أردت ذلك وإلا فما عندي غيره، فيأخذ العامل المسكين الأجر مضطرًا، وهو لا يملك حَولا ولا طَولا، أين يشكوه؟! أين يشهر به؟!
والمشتكى إلى الله، يرفع يديه ـ ولو كان فاجرًا ـ إلى السماء، مستنصرًا بالله على ذلك الظالم، طالبًا من الله العون والكفاية، والله عزيز ذو انتقام، وقد قال لمعاذ لما بعثة إلى اليمن: ((واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). فإن لم تأت الدعوة فيك قد تأتي في مالك أو في ولدك الحبيب، فتنقلب النعمة إلى نقمة والسعادة إلى شقاوة، ولا يظلم ربك أحدًا، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52].
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، مَن للعمال وقد سرقت أموالهم؟! ومن للضعفة وقد بخست حقوقهم؟! ومن لهم وقد أهينت كرامتهم؟! كم تحدّث وقصَّ كثيرون عن حسرات العمال وزفراتهم بسبب تأخر الراتب أو مماطلة المؤسسة أو احتيال الكفيل!
فمن صور ظلمهم الشائعة إكلالهم وإتعابهم في العمل، ثم طردهم وبلا مقدّمات، فيا قبح من استأجر أجيرا وأكل جهده ولم يعطه حقه. أتعلم ـ أيها الظالم ـ من تخاصم؟! إنك لا تخاصم العامل ولا المؤسسة ولا الوزارة، إنك تخاصم الله عز وجل، فأبشر بما يسوؤك، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
واستمع إلى هذا الحديث: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)). وما أكثر من يستوفي العمل ولا يفي بالأجر، والله المستعان.
ومن صور ظلم العمال تغيير عقود العمل، وهذا كثير جدًا، فالعامل يأتي من بلده على أنه سائق مثلاً، فيفاجأ بتغيير العقد، فيصبح مضطرا لقبول المهنة الجديدة ولو كانت رديئة.
ومن صور الظلم تحصيل الفيز والتأشيرات وبيعها على العمال بمبالغ باهظة، لا يستطيعها الموظف فضلاً عن عامل فقير غريب، وهذا يحصل لبعض المتنفذين وأصحاب الوساطات، فإنهم يجمعون فيزا كثيرة وبطرق معوجة، ويبيعونها على هؤلاء الضعفاء ولا يأكلون في بطونهم إلا النار، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
ومن صور ظلمهم استقدام عشرات العمال بل قل: المئات، وإلقاؤهم كالبهائم في الشوارع والطرقات، ومطالبتهم بدخل شهري، ولا يوفّر لهم الكفيل أو المؤسسة السكن المريح ولا المنزل، ولا الخدمات الضرورية التي ينص عليها نظام العمل والعمال في المملكة، بل يجمعون في غرف ضيقة كأنهم ليسوا بمسلمين وليسو إخوانا لنا.
يا أخي، يجب عليك الإحسان إلى الكافر وقد استخدمته، فما بالك بمسلم يمؤمن بالله واليوم الآخر؟! وهذا المال المجموع من كدهم مع عدم العناية أو مشاركتهم فهو حرام النار أولى به، وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42].
وما تضاعفت الجرائم الاجتماعية والأخلاقية إلا بسبب ترك العمال هكذا سبهللاً، بدون توفير عمل أو مساعدتهم عليه، وإنه لبئس الدرهم أو الدينار الذي تأكله من جسد غيرك دون بَذلٍ أو مساعدة.
ومن صور ظلمهم التسلط عليهم واحتقارهم وسبهم وشتمهم، بل ضربهم في بعض الأحيان دون مخافة الله، أو احترام لا أقول: لإسلامهم، بل إنسانيتهم. وقد شاهدنا وشاهدتم من ذلك عجبا، وربنا لهؤلاء بالمرصاد.
روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: ((اعلم أبا مسعود)) ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله ، فإذا هو يقول: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) ، فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا، وفي رواية: فسقط السوط من يدي هيبة له، وفي رواية: فقلت: يا رسول الله، هو حرٌ لوجه الله تعالى، فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار)) أو: ((لمستك النار)).
ومن صور ظلمهم عدم دعوتهم وحضهم على الطاعة كالصلاة، فيمكث العامل في بلادنا سنين ولا يأمره كفيله بالصلاة، بل قد يأمره بالعمل وقت الصلاة، ويرى منه أخلاقًا سيئة فينقل ما يراه ويشاهده إلى بلاده، فإن كان مسلمًا فإننا قصرنا في تعليمه، وإن كان كافرًا لم نبال بدعوته، وأريناه من الأقوال والأفعال ما يؤكد الصورة المشوهة عنده عن الإسلام.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الله معاشر الكفلاء، واطلبوا المال الحلال، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وترفقوا بهم، وأحسنوا إليهم، فإنكم بعدلكم وإحسانكم تباركون أموالكم، وتشرحون نفوسكم، وترضون ربكم، وقد قال : ((من لا يَرحم لا يُرحم)) ، وقال: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
واحذروا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، ومستوجب للعنة الله، وسبب في محق المال وفساد النفس والعيال.
لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدرا فالظلم آخره يأتيك بالندمِ
نامت عيونك والْمظلوم منتبِهٌ يدعو عليك وعينُ اللهِ لَم تنمَِ
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا وسائر البلاد المسلمين...
(1/5264)
علي بن أبي طالب
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
12/6/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 2- طرف من أخباره وعدله وشجاعته وزهده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، هل تأملتم الجيل الفريد؟ وهل عاش بعضُكم أخبارهم وآثارهم؟ وهل استطعمتم حياتهم البهيجة بالإيمان والهدى والنور؟! كان ابن المبارك رحمه الله يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟! فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟! وكان يقول رحمه الله: خصلتان من كانتا فيه نجا: الصدقُ وحب أصحاب محمد.
هَلُموا ـ يا مسلمون ـ إلى حديقة وارفةٍ بالإيمان مزدهرة باليقين مزدانة بالعلم، قد تغشتها البطولة وسماها الجد والبذل، لا تعرف الذبول ولا تخضع للتغير والانهيار، حديقة بناها الإيمان وسقاها القرآن ورباها المختار عليه الصلاة والسلام.
إنه الجيل الفريد والرعيل الزاكي المجيد الذي ما عرفت البشرية أعظم منه، ولا شاهدت أزكى منه، ولا سمعت بأحسنَ منه، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ [المائدة: 119]. تعالَوا إلى سيرة البطل المجاهد والإمام الفقيه والحكيم الزاهد ممن مات النبي وهو راضٍ عنه، وقال كما في صحيح البخاري: ((أنت مني وأنا منك)) ، ولما خرج إلى تبوك خلَّفه على النساء والصبيان وقال له مسلِّيا: ((ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه ليس نبي بعدي)) أخرجاه. فأي شرف بعد هذا؟! وأي مكرمة تُطلب بعد هذا الفضل والكرم؟!
ذلكم ـ يا مسلمون ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. هل سمعتم بأول فدائي في الإسلام؟! وهل رأيتم غلاما يُضحّي بنفسه لله ورسوله؟! لقد وضع هذا البطل الشجاع نفسه على سرير الموت، وقدَّمها قربة لدين الله وحماية لرسول الله ، أما كان يعرف الموت ويسمع صليل السيوف؟! بلى، ولكن هانت عليه نفسه في ذات الله. شاب صغير له عواطف وطموحات، وله مباهج وأمنيات، ولكنها تلاشت عندما فاض النور عليه وتغشته حلية الإيمان، فقام متحديًا الكافرين ومخاصمًا الظالمين وحاميًا لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
فبالله عليكم، هل سمعتم بمثل هذا؟! أنجبه الإسلام والتربية الإيمانية التي محَت حبَّ الدنيا من قلبه وطهّرت روحه من كل براثن الهوى، فكان بحقٍ يُحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
كذبتم لعمر الله نُبزَى محمدًا ولما نطاعن دونه ونناضِلِ
ونُسلمَه حتَّى نصرَّع حوله ونذهلَ عن أبنائنا والحلائلِ
روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن أن النبي قال لعلي يوم الهجرة: ((نَمْ في فراشي هذا، وتسجَّ ببردي الحضرمي الأخضر، فإنه لن يصل إليك شيء تكرهه)) ، فما كان من هذا الشاب المؤمن إلا المبادرة والانصياع، دون تلكؤ أو ترد، متوكلاً على الله، ومن توكل على الله كفاه.
ثم شبّ هذا الصحابي الجليل، وصَلُب عوده، وصار فارسًا بتارًا، يَهُد العمالقة، وَيفلُق هام المعاندين الفجرة.
وصلَت الأحزاب المتجمعة إلى الخندق في السنة الخامسة من الهجرة، وكانوا عشرة آلاف مقاتل، فاندهشت لما رأت من تحصّن المسلمين بالخندق، فقالوا: والله، إن هذه لمكيدة من مكائد فارس، ليس للعرب بها علم قط. فلم يحصل القتال، وإنما تراشقوا بالنبل، واستطاعت فوارس من المشركين أن تجتاز الخندق، فكان من هؤلاء فارس كبير ضخم يدعى: عمرو بن عبدود العامري، فدعا إلى النزال وقال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبى طالب رضي الله عنه وقال له: يا عمرو، إنك كنت عاهدتَ الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلتين إلا أخذتها منه، قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، فقال: فإني أدعوك إلى النزال، قال: لِمَ يا ابن أخي؟! فوالله ما أحب أن أقتلك، فقال علي رضي الله عنه: لكني واللهِ أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، وفي رواية: قال له عمرو: والله، ما كنت أعيش حتى أُدعى إلى النزال، فاقتحم عن فرسه وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ رضي الله عنه، فخرجت خيل الباغين منهزمة، حتى اقتحمت الخندق هاربة.
تلك ـ يا مسلمون ـ هي الشجاعة والبطولة التي يصنعها الإيمان، فتمضي قُدُمًا تشقّ الأهوال وتخترق الأبطال، قال تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23].
وفي غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة يغزو المسلمون اليهود، فيتحصن الجبناء في حصونهم المنيعة، فيتأخر النصر ويطول الحصار، فيبشر النبيّ أصحابه بالفتح، ويبين لهم أن النصر لن يأتي بسهولة ولا بد من قائد مؤمن صادق متوكل على الله، فذكر من صفته ما جعل الصحابة الكرام يشتاقون للإمارة تلك الليلة. ثبت في الصحيحين من حديث سهل رضي الله عنه أن النبي قال يوم خيبر: ((لأُعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتحُ الله على يديه)) ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟!)) فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: ((فأرسلوا إليه)) ، فأُتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النَّعم)) ، فأخذ أبو الحسن رضي الله عنه الراية، فانطلق إليهم في شجاعة وَمضاء، فخرج إليه مرحب اليهودي، فنزل يختال ويرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مَرحَبُ شاكي السلاح بطل مجرَّبُ
إذا الحروب أقبلت تَلهَّبُ
فخرج له من المسلمين عامر بن الأكوع رضي الله عنه، فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في تُرس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ومات رضي الله عنه.
ثم بَرز له علي رضي الله عنه فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كلَيث غاباتٍ كريهِ المنظره
أوفيهمُ بالصاع كيلَ السندره
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
هل سمعتم ـ يا شبابَ الإسلام ـ بمثل هذه البطولات؟! فدونكم الأبطال، تعلموا منهم وتشبهوا بهم، وكونوا على سبيلهم ومنهاجهم، وعيشوا على سيرهم وأخبارهم، ودعوا عنكم البطولات المزيفة، ولا تغتروا بمن يجعل السفاهة بطولة والخور شجاعة؛ ليقطعوا الأمة عن دينها ويفصلوها عن تاريخها، فتمسي وتصبح على اللهو واللعب المسمى عند هؤلاء: بطولة.
يقول الشيخ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: "يا شباب العرب، يقولون: إن في شباب العرب شيخوخةَ الهمم والعزائم، فالشباب يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون. يا شباب العرب، اجعلوا رسالتكم إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا. يا شباب العرب، لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في أيديهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها، أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملا من أعمال الخالق، غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي. يا شباب العرب، اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا، إما أن يحيا الإسلام عزيزًا وإما أن تموتوا".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، إننا نشهد الله تعالى على محبة هذا الصحابي الجليل الإمام علي، فما أحبه إلا مؤمن، ولا أبغضه إلا منافق. روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال: (والذي فلَق الحبة وبرأ النسْمة، إنه لعهد رسول الله إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يُبغضني إلا منافق).
ومع حبنا له فإننا لا نغلو فيه، ولا نعطيه أكثر من حقه، ولا نخصه بثناء دون الصحابة الكرام، ونعتبره رابع الخلفاء الراشدين المهديين، وهو رابعهم في الفضل والمنزلة. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن.
أيها الإخوة، وإنكم لتشاهدون في سيرة هذا العلَم الكبير العالم المتواضع الزاهد، فقد ذُكر أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يُرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال، فيفتح عليه القرآن، ويقرأ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا [القصص: 83]، ثم يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وكان يركب الحمار، ويدلي رجليه من موضع واحد، ويقول: أنا الذي أهنتُ الدنيا. ومن مقالاته المستحسنة رضي الله عنه: (ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد أتت مقبلة).
ولكل واحدٍ في سيرته معالم العدل التي سبق بها الإسلام سائر الملل وفازت الأمة بالعدالة التي لا تقيم للشريف وزنًا إذا كان ظالمًا، وتحفظ حق الضعيف إذا كان مظلومًا، واسمعوا إلى هذه القصة العجيبة.
قال الشعبي رحمه الله: وجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه عند رجل يهودي، فأقبل به إلى القاضي شريح يخاصمه، قال: يا شريح، هذا الدرع درعي، ولم أبِعْ ولم أهَبْ، فقال شريح لليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال اليهودي: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى بها شريح لليهودي، فأخذه اليهودي ثم مشى، ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يُدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع ـ والله ـ درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين، فخرجت من بعيرك الأورَق، فقال علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك، وحملَه على فرس.
أيها المسلمون، هكذا كان أسلافكم الكرام، مؤمنين في سائر شؤون الحياة، في الليل عباد، وفي النهار فرسان، ومع الناس متواضعون، يؤدون الحق الذي عليهم، وينصفون من أنفسهم، ولا يبخسون الناس أشياءهم. فهل سمعتم بمثل هذه الأخلاق؟! كلا ـ وايم الله ـ ما سمعنا بها إلا في تاريخ الإسلام المجيد الذي ضيعناه وأهملناه، وإذا ذكرناه ذكرناه على استحياء. وقد غابت أمتنا عن تاريخها، وركنت إلى دنياها، ورضيت بالذل والهوان، ولم تتصل بذلك التاريخ.
مثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيط عِيّ في الناس انتسابا
فأين من يطالع التاريخ ليتعلم منه؟! وأين من يقرؤه؟! وأين من يبلغه للأجيال؟! وأين من يعتزّ به؟! وأين من يستلهم الدروس والعبر منه؟!
فعودوا ـ يا مسلمون ـ إلى التاريخ، وعلّموه الأجيال، وقفوهم على محاسن الأبطال وآداب الرجال، فإنه من مفاخرنا أمام الأعداء.
ومن حوى التاريخ في صدره أضافَ أعمارًا إلى عمره
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5265)
من يغالب الله يُغلَب
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, القصص, مواعظ عامة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
26/6/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله في إهلاك الجبابرة والطغاة. 2- من يغالب الله ويتكبر على أحكامه سيُغلب لا محالة. 3- خبث اليهود ومكرهم واستكبارهم على الحق. 4- ذكر إهلاك الله للأمم السالفة كقوم عاد وثمود بسبب تكذيبهم. 5- قصة أبي جهل لما همّ بأذية النبي. 6- نماذج لأناس تكبروا على الله وتجبروا على عباده فأهلكهم الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، وراقبوه حق المراقبة، واعلموا أن الخير والسلامة في طاعته، وأن الشر والندامة في معصيته، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
أيها الناس، هل سمعتم بآل فرعون وعلوهم في الأرض وكيف تجبّر فرعون وطغى وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] وقال: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الزخرف: 51]؟! وقد مارس كل ألوان العظمة والكبرياء، وسام الناس أصناف الظلم والعسف والعذاب، قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ [القصص: 4]. وطالت به الحياة فما ازداد إلا ظلما وعدوانا وبغيًا وطغيانا، فما كان هذا المجرم الخبيث ليفلت من سنة الله تعالى في الظالمين والمكذبين، سنة التدمير والنهاية، سنة الإبادة والإفناء، قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ [الزخرف: 55، 56].
إخوة الإسلام، هكذا يطبع الله على قلب كل متكبّر جبار، فما أغنت عنهم آلهتهم المكذوبة، ولا نفعتهم قوتهم المدمرة، فما زادتهم غير تتبيب وتخسير، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ [هود: 99].
تبارك الله، من الذي يعاديه؟! ومن الذي يحاربه؟! ومن الذي ينازعه في كبريائه وألوهيته؟! قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًا كَبِيرًا [الإسراء: 42 - 43].قال المجرم اليهودي الخبيث حييى بن أخطب عندما أُحضر لضرب عنقه مع بني قريظة، وكان هو الذي جمّع الأحزاب، وأمر بني قريظة بنفض العهد، عندها قال حيي بن أخطب: والله، ما لُمت نفسي على معاداتك، ولكن من يغالب الله يُغلَب.
لقد حَرَص اليهود ـ عليهم لعائن الله المتوالية ـ أن تكون النبوة منهم، وقضى الله تعالى أن يكون خاتم النبيين من العرب، فبعث نبينا محمد رسولاً إلى الناس كافة، فشق ذلك على اليهود، وحقدوا على العرب، فدبروا المكائد لتدمير الدعوة وقتل رسول الله ، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء: 54]، ولكنهم كانوا حمقى في ذلك كله، وغرهم حنقهم الشديد، واستبشروا بجموع الأحزاب المتكالبة، ونسوا أنهم حاربوا الله، ولم تستيقظ هذه الجماعة إلا عند الإعدام، فقال الخبيث: ولكن من يغالب الله يغلب. نعم، فمهما بلغ الإنسان من القوة ومهما حصل من المعارف الدنيوية فإنه إذا حارب الله بما علم فإن الله يسلط عليه وينتقم منه، والله عزيز ذو انتقام.
أيها الإخوة، وقد مر على هذه الحياة عمالقة وأشرار، وظنوا أنهم بقوتهم التي هي كالجبال في رسوخها وببطشهم الذي هو كالنار في اشتعالها، اعتقدوا أنهم بأموالهم ونِعَمِهم من المخلدين الباقين، فأولئك أمة عاد، وما أدراك ما عاد؟! كانت مساكنهم بالأحقاف، وهو موضع قريب من حضرمَوت اليمن، ومكنهم الله تعالى في الأرض، ووهبهم بسطةً في الخلق، وقالوا: مَن أشد منا قوة؟! وكفروا بآيات الله، وكذّبوا رسله، وقد قال لهم نبيهم هود عليه السلام: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 128-135]، فلم تؤّثر هذه المواعظ الشديدة في تلكم النفوس المستكبرة، بل كفروا وكذّبوا واستكبروا في الأرض بغير الحق، فحلّت بهم سنة الله في الظالمين؛ إذ سلط الله عليهم ريحًا صرصرًا في أيامٍ نحِسَات، وقد كانت هذه الريح شديدة البرد عاتية، شديدة الهبوب جدًا، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم، وتقلعهم من الأرض، فترفع الرجل منهم إلى عَنان السماء، ثم تنكسه على أم رأسه، فتشدخه، فيبقى بدنًا بلا رأس، كأنهم أعجاز نخل منقعر، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئًا، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 4].
فاعتبروا ـ عباد الله ـ بمصير هذه الأمم المكذبة التي بدّلت نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار، فلا زالت هذه الحياة الغاصّة بالصراعات تُخرج لنا أممًا مستكبرة، تكذّب بدين الله، وتحارب رسله، وتغالب أمره وقَدَره، ولكن الله يمهل للظالمين، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178]، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا [مريم: 84]، فإذا حانت ساعتهم وأراد الله بهم سوءًا فلا مرد له، وما لهم من دون الله من ولي ولا نصير، فلتقم أسلحتهم لتدافع عنهم، ولتقم صناعاتهم، ولتقم علومهم ومعارفهم، قال الله تعالى : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15].
عباد الله، قص الله تعالى علينا في كتابه خبر ثمود، وأنه أخذهم بالصيحة لما عتَوا وكذبوا وقتلوا الناقة وهموا بقتل نبيهم صالح عليه السلام، وقد كانوا يسكنون مدائن الحِجْر بين تبوك والمدينة، وقد أنعم الله عليهم بالنعم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتًا ويشقون الصخور دون تعب ومشقة، فكذّبوا رسولهم غاية التكذيب، وقتلوا الناقة، وكفروا بالله، فقال الله تعالى في شأنهم: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: 17]، وقال تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ [هود: 67، 68]. سلط الله عليهم صيحةً من السماء ورجفةً شديدة من أسفلَ منهم، ففاضت الأرواح وزَهقت النفوس في ساعة واحدة، فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 67] أي: صرعى لا أرواح لهم، ولم ينجُ منهم إلا صالح والذين آمنوا.
اللهم إنا نعوذ بك من جَهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في يوم من الأيام أقسم أبو جهل ليطأنَّ بقدمه رقبة رسول الله ، فلما حضر الموعد وكان النبي يصلّي عند البيت سارع أبو جهل إليه ليفعل فعلته ويفي بقَسَمه، فلما انتهى إليه رجع وهو فَزِعٌ منتقع اللون، فقال له الملأ من قريش: ما لك يا أبا جهل؟! فقال: إن بيني وبينه خندقًا من نار وهؤلاء أجنحة، وقال النبي : ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا)) ، قال تعالى: كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 15-19]. ليدعُ هذا الظالم المعتدي ناديه وقومه، وليجمع قوته، سندعُو الزبانية وهم ملائكة العذاب؛ حتى يأخذوه عيانا أمام الناس.
معاشر المسلمين، إن أمر الله غالب، وإنَّ سنته في المكذبين الظالمين جلية معروفة، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 43، 44].
هل سمعتم ـ يا مسلمون ـ بمن تسلّط على عباد الله الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فأذاقهم صنوف العذاب والتنكيل، فاستغاث المسلمون بربهم: يا ربنا يا ربنا، فقال الزنديق الخبيث: هاتوا ربكم وأنا أضعه في الحديد، أحطه في زنزانة؟! فماذا كان جزاؤه؟! أماته الله شر ميتة، فقد كان يقود سيارته في ساعة من الساعات، فاصطدم بشاحنة كبيرة محملة بأسياخ الحديد، فدخلت الأسياخ في جسمه، فأخذ يولول ويصيح ولا مسعف ولا منقذ، واجتمع الناس من حوله لا يملكون له حيلة ولا يهتدون سبيلاً جزاءًا وفاقًا، حديد بحديد، والجزاء من جنس العمل، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42].
أيها الإخوة، آمنوا بربكم حق الإيمان، واعتبروا بسننه وآياته، فهو الإله الحق المدبر لكل شيء، ولا رادَّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، يُعزّ بأمره من يشاء، ويذل بحكمه من يشاء، وهو الكبير المتعال. من تعاظم عليه قصَمه، ومن غالبه ونازعه في ملكه عذّبه وأفناه سبحانه وتعالى. ولما جاء أبرهة الأشرم بجيشه الكبير لكي يهدم الكعبة وقد اصطحب معه الفيلة الضخام عذّبه الله بمخلوق صغير وبطائر ضعيف، يحمل ثلاثة أحجار، فأصابت منهم من أصابت، وصرفهم الله عن بيته المعظم، وخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل سبيل، وأصيب أبرهة في جسده، وأخذ يتساقط ويذبل كالفرخ، قال الجبار سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [سورة الفيل]. أتدرون ما العصف؟! إنه حطام النبات والحب المتكسر وبقايا ما تتركه البهائم. وهكذا يدافع الله عن الذين آمنوا وعن حُرماتهم، ويقمع الكافرين وغرورهم واستكبارهم، وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ [سبأ: 17].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...
(1/5266)
ورد الله الذين كفروا بغيظهم
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
4/7/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان الصحيح وأثره في النصرة والتأييد. 2- طرف من أخبار غزوة الخندق. 3- الدروس والعبر المستفادة من غزوة الخندق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
معاشر المسلمين، آية في كتابكم تقرؤونها ويتمثل بها قراؤكم ويرددها أطفالكم، لو تأملتموها لارتقى الإيمان وصح اليقين وهانت عندكم قوى المجرمين وضجيج المتكبرين؛ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب: 24].
يدخل المؤمنون المعركة وقد استيقنت قلوبهم بنصر الله تعالى، ينصرهم وهم أذلة، ويثبتهم وهم قلة، ويمكنهم وهم مساكين مستضعفون، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123].
يتدرع الأعداء ويشدِّدون الحراسة ويستنفرون الهمم والطاقات، فيقتلهم الله وهم لا يشعرون، ويبيدهم وهم يبصرون، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2].
نصر الله تعالى نبينا محمدًا بالرعب، يهابه أعداؤه من مسيرة شهر، ولم يكن يملك عليه الصلاة والسلام ترسانة حربية ولا مفاعلات نوويّة، ولكن كان يملك سلاح الإيمان الوهاج، المتّصل بالله العظيم قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
سلاح الإيمان المتين الذي يسحق كلّ كبير ويهدّ كلّ صعب وشديد ويفلق هام المشركين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
ولم يكن أهل الإيمان يتوكلون على الأسلحة والكثرة، وإنما يتوكلون على القوى العزيز، ومن توكل عليه كفاه ونصره، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمرآن: 173، 174].
ويحاول الشيطان أن يُدخل الوهْن والخوف في قلوب المؤمنين، فيهوّل عندهم الأعداء، ويُعظم عندهم الأخطار، ولكن الله يقول لعباده المؤمنين: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. إن الله تعالى ـ يا مسلمون ـ لا ينصر عباده فحسب، بل يكفيهم شر الأعداء، فيأمنون الخسائر والشدائد والأزمات، وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ [الأحزاب: 25].
تارة يجمعهم بأعدائهم وينصرهم عليهم، وتارة يقمع أعداءهم بلا قتال، وتارة يكفيهم شر القتال، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31].
أما الجنود المؤمنة فإنها إذا فاضت بالإيمان لم تبالِ بالموت؛ فتراها تسارع في الأهوال وتقتحم الشدائد، موقنةً بالنصر متوكلة على الله، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [الروم: 47]. يقذف الإيمان فيها حب البذل والتضحية وشمم العز والإقدام، فتطلب الموت فتوهب لها الحياة وتدرك الفلاح، فترتفع عن أدناس الدنيا وشهواتها، وكلّ فرحها المضي قدُمًا إلى الله تعالى، إما نصر مبين وأإما شهادة في علِّيِّين.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدِما
تأخرت أستبقي الْحياة فلم أجدْ لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما
نفلّق هامًا من أناس أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أيها الإخوة الكرام، يقول الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. كانت هذه الآية هي نتيجة غزوة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة، وفيها تحزب الأحزاب من قريش وغطفان واليهود على المسلمين؛ لقمع الدعوة واستئصال خضرائها، فجاؤوا بجيش عظيم عرمرم، فتهيب الناس ذلك الجيش وأحسوا بالخطر وكثرت الأراجيف، إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11].
فكانت هذه الجموع بلاء شديدا للمؤمنين، هزّت قلوبهم، ومحّصت نفوسهم، واختبرت إيمانهم، فكان من جراء ذلك أن ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض، قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب: 12]. وحاولت بعض القبائل الاستئذان من النبي بالرجوع إلى المدينة لبيوتهم؛ وبزعمهم أنها عورة، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب: 13].
وقد صد الله تعالى جموع الأحزاب بما أشار به سلمان الفارسي رضى الله تعالى عنه بحفر الخندق، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوِصرنا خندقنا، وبالفعل اقتنع النبي بمشورة سلمان، وأمر صحابته رضوان الله عليهم بالحفر، وقسم العمل والمهام، وشارك هو عليه الصلاة والسلام في الحفر، وبادر الصحابة إلى العمل مسرورين مبتهجين مع ما فيهم من ضعف وفقر، وكانوا يرددون:
لئن قعدنا والنبي يعملُ فذاك منا العمل المضلَّلُ
وكان النبي يقول: ((اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)).
وأثناء حفر الخندق وقعت آيات؛ كمضاعفة الطعام وحصول البركة فيه، وكرؤيا بشائر بتمكين هذا الدين، فقد روى أحمد والنسائي بسند حسن عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما كان حين أمرنا رسول الله بحفر الخندق عَرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا إلى رسول الله ، فجاءنا فأخذ المِعول فقال: ((بسم الله)) ، فضرب ضربة فيها فكسَر ثلثها، وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة)) ، ثم ضرب الثانية، فقطع الثلث الثاني وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض)) ، ثم ضربها الثالثة فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة)).
وقد كانت هذه الآيات والبشائر بمثابة التثبيت للمؤمنين والتذكير للمرجفين، وقد قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيما [الأحزاب: 22].
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الناس، انذهلت جموع الأحزاب الكافرة من الخندق الذي حال بين اصطدام الفريقين وقالوا: والله، إن هذه المكيدة من مكائد فارس، وليس للعرب بها معرفة قط! ولم يحصل قتال وإنما تراشقوا بالنبال، واستطاعت فوارس من المشركين اجتياز الخندق، منهم عمرو بن عبد ود العامري، ودعا إلى المبارزة، فبرز له أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، وسحق غروره وكبرياءه، وانصدم المشركون بذلك.
ولما اشتد الحصار على المسلمين أراد النبي أن يفكّك جموع الأحزاب بأن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة ويعودوا لرحالهم، فشاور في ذلك السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا ثمرة إلا قِرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟! والله، لا نعطيهم إلا السيف. فرجع رسول الله لرأيهما وقال: ((إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)).
فبالله عليكم يا مسلمون، هل سمعتم بمثل هذه الشجاعة وتلكم التضحية؟! الأحزاب طوقت المدينة، والنفاق نجم، والنفوس تزعزعت، ويقول السعدان: والله، لا نعطيهم إلا السيف!
ما الذي كان يملكه سعد بن معاذ رضي الله عنه حتى يلتجئ للخيار العسكري؛ خيار المواجهة والجهاد؟! العدد قليل، والعدة ضعيفة، لقد كان يملك قوة الإيمان المتسلحة بعظيم التوكل وقوة الثقة بالله تعالى، وقد قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، وقال: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249].
أيها الإخوة، هكذا كانت غزوة الأحزاب، صمود من المؤمنين، ونصر من الله، وتأييد لأوليائه، وتباشير وآيات تقضي بالتمكين لأهل الإسلام، وأن الله معهم ولن يسلمهم لأعدائهم.
وفيها عظم ما تحلى به الصحابة من الإيمان والصبر اللَّذين بهما انقشعت كل المخاوف وانزاحت كل التحديات، وقد أرشدهم ربهم تعالى إلى ذلك فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
وفيها إشارة إلى عظيم صبره في ذلك اليوم، وإلى مرابطته وثباته، وانتظار الفرج من ربه، وفى ذلك أسوة حسنة.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5267)
جولة في السوق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
11/7/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السوق ما له وما عليه. 2- منكرات وملاحظات تقع في أسواقنا. 3- قضايا مهمة متعلقة بالأسواق.
_________
الخطبة الأولى
_________
هذه جولة في السوق واضحة وأنباء صحيحة موثقة، وهذه الجولة والتجلية لم يصفها مدعٍ ضعيف، ولم يتقوّلها كاذب فاسد، ولم يقلها معتوه ساقط. وإنما جولة جالها المسلم الواعي السائر على هدى الله تعالى، فهو بصير يدرك محاسن الأشياء ومساوئها، ومتأدب يحفظ خلقه وحياءه، ومتَّقٍ لله يخشى أكل الحرام، وعاقل صان لبه وجوهره من مهاترات وسفاهات. إن هذه الجولة والصورة تعرض أحوال السوق وخباياه ومفاسده ورزاياه، وتقف على مكر الماكرين وغش المخادعين وألاعيب المتسوقين.
يا معاشر المسلمين، الأسواق موطن تجمّع الناس وتكسبهم وطلبهم المعاش والسعي فيه، في السوق ألوان الكدح والتعب وصنوف الصبر والجَلَد وفنون الحرص والكسب، في السوق ترى الأغنياء والفقراء والشرفاء والوضعاء والكبار والصغار، في السوق نشاهد الحركة الدؤوب والنشاط القوي والتفاني المنقطع، وفي السوق تدرك علو الهمة وتعجب من قوة الإرادة وتذهل من تحمل المشاق، في الأسواق يتعلم الإنسان المسؤولية والصبر، وفيها دروس الجد والعمل والبذل والعطاء، فلا مقام هناك للكسالى، بل هو الحركة والنشاط والعمل المتواصل والسعي الشديد.
لقد آمن الناس أجمعون بأهمية الرزق للنفس والعيال، وآمنوا أنه لن يتم رزق إلا بعمل وسعي وحركة، واعتقدوا أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فسلخوا أعمارهم للقمة العيش وتربية الأبناء وبناء البيت وشراء السيارة وتحقيق السعادة الدائمة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].
أيها الإخوة، ليس ولوج الأسواق وغشيانها طعنًا في ذات الشخص إذا صحّت النية وحسن المقصد؛ لأنه منزل قد وطئه الأنبياء والعلماء والصالحون ونبلاء الأمة، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة: 198]، وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان: 7]، وقال عمر رضي الله عنه: (ألهاني الصفق بالأسواق)، وقال عبد الرحمن بن عوف: (دلوني على السوق). قال ابن القيم رحمه الله: "وباع رسول الله واشترى، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله برسالته أكثر من بيعه، وأما شراؤه فكثير، وآجر واستأجر، واستئجاره أكثر من إيجاره، وشارك رسول الله، ووكل وتوكل، وكان توكيله أكثر من توكّله، واستدان واشترى بالثمن الحال المؤجل". وقال قتادة رحمه الله: "كان القُوّام يتّجرون، ولكنهم كانوا إذا نابهم حقّ من حقوق الله لم تُلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله".
أيها المسلمون، إن أسواقنا يُلحظ عليها أمور يجب التنبه لها والحذر منها، وأكثرها غير خاف على باغي السلامة وطالب الحلال والنزاهة.
أولاً: المتاجرة في أشياء محرمة لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا الانتفاع بها، كالدخان بأنواعه والمجلات الخليعة والأشرطة الغنائية وأفلام الفيديو المحرمة وأشباهها، فهذه وأخواتها كسبها وعائدها محرم، النار أولى به. أضف إلى أن بعضها طرق فساد تدمر الشباب والمجتمع كافة.
وضد ذلك أن يتجر الإنسان ببضاعات سليمة، لكنه يروجها بوسائل محرمة كالغش والخداع المكر والتحايل. فعلى سبيل المثال بعض محلات الخضار والفاكهة إذا ابتعت من عندها صندوقًا من خضار أو فاكهة رأيت أعلاه سليمًا، وغرك حسنه ولونه، فإذا ما ذهبت للمنزل ونظرت في داخله بان لك فساد أكثره، وأنه قد تلوعب بك، وخُدعت في الشراء، ونظيره من يبيع أجهزة ومعدات وسيارات فيها عطل كبير ولا يوضح ذلك للمشتري، بل ربما جزم بسلامتها وفائدتها.
أخرج مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مرَّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت ـ أي: أصابت ـ بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا)).
إذًا ليتقِ الله هؤلاء الباعة الذين همهم ترويج سلعتهم والتخلص منها ولو كان على سبيل الحيلة والمكر والضحك على الطيبين والسذج كافة.
ثانيًا: فشو الأيمان الكاذبة في الأسواق، فتجد كثيرين من الباعة هان عندهم الحلف بالله، بل جرَّه ذلك للحلف كذبًا ومكرا، فيدعي أنه اشترى السلعة بكذا وكذا وهي رخيصة، وأنه لا يملك في صندوقه شيئًا، أو أنه لم يبع شيئًا هذا اليوم، أو يحلف إنها قد بيعت بأغلى من ذلك وأنه تسامح معك، إلى غير ذلك مما تلحظون وتشاهدون.
يا معاشر التجار، إن الحلف بالله تعالى كذبًا من كبائر الذنوب، فإن كنت تريد أن تجني ريالات من هذا اليمين فقد أتعبت نفسك وأغضبت ربك، ألم تسمعوا قول النبي : ((الحلف منفقةٌ للسلعة مَمحقةٌ للكسب)) أخرجاه عن أبي هريرة؟! وثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((إياكم وكثرةَ الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق)). وتأمل هذا الحديث عن أبي ذر عن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ فقال: ((المُسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
ثالثًا: إهمال ذكر الله والصلاة، إن الأسواق أبغض البقاع إلى الله تعالى، فيها يزهو الشيطان ويرفع رايته، وتعظم الدنيا وتبدو زهرتها، ويكثر اللغو وينسى الذكر والنور. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغضها أسواقها)).
أيها الإخوة، تضرب الغفلة على بعض الباعة والتجار، فيمكث في سوق من الصباح إلى المساء لا يذكر الله فيها ولا يهلل ولا يسبح ولا يقرأ القرآن، بل ربما العكس من ذلك، فيجلس هاذيًا غافلاً متكلمًا فيما لا ينفعه ولا يعنيه، وقد يخالط كلامه زور وكذب وغيبة ونميمة، ينقص ثوابه وتزيد سيئاته، ومن فَرطِ لسان بعضهم أنه لو كتب كلامه لبلغ كراريس، والله المستعان.
أخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفعه ألف ألف درجة)).
ومن هؤلاء من إذا حانت الصلاة تثاقل وتكاسل، وربما صلى لوحده على عجل وسرعة. واعلموا أن هناك نسبة غير قليلة من الباعة يصلون في حوانيتهم ومتاجرهم ويهجر جماعة المسلمين، وهناك فئة لا تصلي بالكلية، وأخرى تغلق الدكاكين على نفسها ويختبئون ويظهرون للناس أنهم ذهبوا للصلاة، قال تعالى: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37].
رابعًا: لقد أمَّ أقوام السوق لا يطلبون الحلال، اختلفت قلوبهم وشاهَت وجوههم، ولا يبالون أحلالاً أكلوا أم حرامًا، بل شرارهم مارس العمليات المحرمة، واستطعم قاذورات الربا والمكر والبخس والاختلاس والغش، رضي بحرب الله تعالى وبأذية عباده التي تورث بغضه ولعنته ومنابذته، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ [البقرة: 275]. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، من الحلال أم من الحرام)).
لقد بُنيت أجساد هؤلاء من نار حامية، وزُيّنت من لظى العاتية، إذ أكلوا الربا واستطعموا الردى، يخشون الفقر وقلة المال، ولم يبالوا بنار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
من صور احتيال هؤلاء القرض بفائدة، وبيع ما لا يملك، وإخفاء رداءة السلعة، وبخس العمال حقوقهم، وتلقّي الركبان، والزيادة في السلعة وهو لا يريد شراءها كما يحصل في المزادات والمعارض، وهو ما يسمى بالنجش، فيتواطأ عصبة من أهل المكر على رجل مسكين والسلعة لهم، فيوهمون شراءها حتى يرتفع ثمنها، وهي أقل من ذلك وأهون. ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي نهى عن النجش، وقال عبد الله بن أبي أوفى: (الناجش آكل ربا خائن). قال ابن بطال رحمه الله: "أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله". وذهب أهل الظاهر وبعض أهل الحديث إلى فساد ذلك البيع، وهو المشهور عند الحنابلة. وقد أخرج ابن عدي وغيرهم عن قيس بن سعد بن عبادة أن النبي قال: ((المكر والخديعة في النار)).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، من القضايا المهمة المتعلقة بالأسواق خروج النساء للأسواق، لقد غاب عن بعض الرجال أن النساء من زينة الدنيا الفاتنة وحلاوتها الجذابة، فوكل إلى امرأة شأنَها وقضاء حوائجها، وتركها سبهللا تجوب الأسواق من محل إلى آخر، وتتكلم مع الرجال، وربما تغنجت في الكلام، فطمع الذي في قلبه مرض، ومكثت في الأسواق ساعات، واختلت بالبائع وزاحمت الرجال، وخففت من حجابها أو تلاينت، ثم ضعف حياؤها وقلت مروءتها ولانت عفتها فوقعت المصيبة.
ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))، وقال: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء)).
إن الأسواق في هذه الأعمار أصبحت واسعة الأرجاء عظيمة المفاتن، يرتادها بطالون ومغرضون وسفهاء، لا هَمّ لهم إلا مطاردة النساء والاستمتاع بهنّ، فكيف ترضى ـ أيها الغيور ـ أن تنزل نساءك إلى الأسواق دون حياء أو رجولة أو مراقبة؟!
أيها الناس، أتدرون من البائع الصالح والتاجر الصدوق؟! إنه من يطلب الحلال في جميع أقواله، ويهجر الحرام وأشكاله، يذكر ربه ويشكره، ويصدق النصيحة للمشتري، ويبين عيب السلعة، ويكسب الناس بأخلاقه وسماحته، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخَّاب، قانع بما آتاه الله، لا يداري ولا يماري، ويحسن إلى الناس، ولا يظلم الأُجراء. هذا الذي سيؤتى البركة والرحمة والنجاح.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
والصدق والبيان والنصيحه واجبة بالسنن الصحيحه
والكذب والكتمان والخديعه مع حلف ممحقة شنيعه
والكيل والْميزان بالقسط وجَبْ إيفاؤه والنقص موجب الغضبْ
قال الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح: "باب: السهولة والسماح في الشراء والبيع، ومن طلب حقًا فليطلبه في عفاف". عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)).
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على خير البرية...
(1/5268)
فخرج على قومه في زينته
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص, مساوئ الأخلاق
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
18/7/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طرف من قصة قارون. 2- الوصية بتدبر القرآن. 3- الدروس والعبر المستفادة من قصة قارون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، هل تأمل أهل الإيمان وهم يقرؤون القرآن مصير الغني المستكبر والطاغي المتجبّر الذي وهبه الله تعالى أموالا ومتاجر وثروات وذخائر، فضن بها وارتفع وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي؟! أي: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال! وسار في نعمته سيرة الفرِح المغرور والعاتي المخمور، قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُه لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ [القصص: 76].
كان هذا الغني المتجبر هو قارون بن يصهب، كان من قوم موسى، وقد قيل: إنه كان من قرابته، وقد رزقه الله كنوزا كثيرة، وغصَّت خزائنه بالأموال، وقد كانت مفاتيحها يثقل حملُها على الفِئام من الناس لكثرتها، فبغى في هذه الكنوز، وجحدَ نعمةَ الله عليه، ولم يجعلها طريقا إلى الطاعة والاستقامة.
وذات يوم خرج قارون في زينته، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، تقلد زينةً فخمَةً عظيمة، وتجمّل بمراكب وملابس، قد علاها الكبر والتفاخر، واحتفت بها ألوان البهجة والتعالي من خدَم وحشم وأعوان، فافتتن ضعاف النفوس وطلاب الدنيا بهذا المنظر الفتان وهذه الأبهة الكبيرة، فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص: 79]، تمنى المفتونون بالدنيا وزخارفها أن لو كان لهم مثل نعمته، وتمنوا جماله وغناه، وتمنوا زينته ومراكبه، فلقد أوتي من الدنيا حظا وافرا ومالا كثيرا.
ولكم أن تتصوروا هذا الموقف وما فيه من الكبرياء والعظمة والتعاظم بالجاه والقوة والتعالي بالثراء والمحاسن، وما فيه من نسيان نعمة الله تعالى والتنكر لآياته، وما فيه من احتقار الناس وربما التسلط على الضعفة والمساكين، وما فيه من كسر قلوب الجوعى والمعدمين وما فيه.
ولا يزال المتكبرون البغاة ذوو الزينة والمال والقوة يتعاظمون بأموالهم ظنًا منهم أنها تورثهم الأرض، أو تمكنهم كالجبال، أو تحفظهم من الأهوال والأخطار.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ يتعاظم بنعمة الله على عباد الله، نسي مَنْ خلَقه وسوّاه، وعدله وأطعمه ورزقه ومكنه، فخرج خروج الباغين العالين، كأنه لا يرى أحدا ولا يبالي بمرصود ولا يخاف معترضًا، المال قد غطّى آفاقه، والزينة مد بصره، والحراسة له من كل مكان، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ.
جعل من ماله فتنة له عمياء، أعمته عن عبوديته لله تعالى، فلم يكن في هذه النعمة عابدا، وما كان في ماله تقيا، وما كان في زينته متواضعًا.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، خرج على الناس كأنه الغالب لهم، والمتسلط عليهم، والحاكم فيهم، يدوس الناس بكنوزه، ويفاخرهم بزينته، ويحارب كل الفضلاء والمصلحين.
فقد ذكر أهل التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن قارون أعطى امرأة بغيًا مالاً على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله تعالى، فتقول: يا موسى، إنك فعلت كذا وكذا، فلما قالت ذلك في الملأ لموسى عليه السلام أُرعد من العرق، وأقبل عليها بعدما صلى ركعتين ثم قال: أنشدك بالله الذي فرق البحر وأنجاكم من فرعون وفعل كذا وكذا لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت، فقالت: أما إذا نشدتني فإن قارون أعطاني كذا وكذا وأمرني أن أقول ذلك لك، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فعند ذلك خر موسى لله عز وجل ساجدًا، وأوحى الله إليه أن قد أمرتُ الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره، فكان ذلك).
فها هو قارون المستكبر مع تراثه الباذخ وعلوه الطاغي يكيد لأولياء الله تعالى ويقيّض لهم مراصد؛ لكي يسقطهم ويشوِّه صورهم أمام الناس.
ولما كانت ساعة الله تعالى في هذا الظالم المستكبر خسف الله به وبداره الأرض، فلم تغنِ عنه ثروته الباهظة، ولم تدفع عنه زينته وجماله، ولم ينصره خدمه وأعوانه، قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ.
لقد تهاوى الغرور الكاذب إلى أعماق الأرض، وتوارت الزينة إلى حطام تجلجل في الأرض، ليس له دافع أو نصير، أما نفسه فقد هلكت وتردت، وأما من حوله فمشفقون من حاله، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ.
وقد كان تمنى طلاب الدنيا ما عند قارون من النعمة والفضل، وحذرهم أهل العلم العارفون بذلك، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ.
وهذا من المقامات الشريفة لأهل العلم النافع، أنهم المذكرون حين تختلط الأمور وتلتبس السبل، وأنهم القائمون بالأمانة حين يختفي الوعاظ والنابهون، وأنهم الراجون ما عند الله تعالى والغافلون عن حطام الدنيا الزائف ولو عظم.
ثم قال تعالى مبينا أن الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم لا تكون إلا لعباد الله المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون ترفعا على الناس ولا يحدثون شرًا ولا فسادا: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِين لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)).
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا...
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا فوز المستغفرين التائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، لا يُعقل أن يُتلى علينا القرآن ولا نعيه، ولا يليق أن نُخاطَب بهذه المواعظ ولا نتدبرها، هل كان القرآن لأمة سوانا حتى نغفل عنه؟! وهل كانت دروسه لغيرنا حتى نستشكلها؟!
لقد أنزل الله كتابه الكريم موعظة للمؤمنين وذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين، ولا ينتفع بمواعظ هذا الكتاب إلا من يتدبره ويتأمله، فهلا نقبل عليه ونقرؤه حق قراءته؟! أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
أَزيحوا كل غشاء يحول دون فهم القرآن، وسارعوا إلى تدبره وفهمه، فإن النعمة على المسلم أن يحيا القرآن متدبرا ومتعظا وعاملا، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
أيها الإخوة، لقد كان في هذه القصة المتلوة عليكم عبرة لأولي العقول، وقد كان فيها موعظة لأصحاب البصائر، فأين من إذا تلي عليه القرآن انشرحت نفسه واتعظ قلبه؟! وأين من إذا سمع قصة استلهم عبرها واتعظ بخيرها وأعرض عن شرها؟!
لقد كان في قصة هذا الثري المتعاظم عبر عظيمة ودروس كثيرة.
منها: أن المال فتنة عظيمة لمن جانبه الإيمان وضيع حق الله تعالى فيه، ومِن تبعات فتنته جحود نعمة الله والخوض في المعاصي وامتطاء الكبر والاختيال والعجب بالنفس والترفع على الخلائق، وفي الحديث الصحيح قال : ((لكل قوم فتنة، وفتنة أمتي المال)).
ومنها: الحذر من زينة الدنيا، وأنها مفتاح الانتكاسة وطريق الكبر والغرور، وقد كان النبي يقول لصحابته: ((إن مما أخشى عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)).
ومن دروس هذه القصة: فضيلة أهل العلم وأنهم مصدر أمان الأمة وسبب سلامتها والصادعون بالحق حين الاختلاف والتباس الأمور.
ومنها: فضيلة التواضع والانكسار لله تعالى وأنه طريق الجنة، قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِين لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
ومن الدروس: أن طغيان المال والتميز على الناس صاد عن سماع الموعظة والانتفاع بها، فقد وعظ قارونَ صالحو قومه فقالوا له: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [القصص:76، 77].
ومن الدروس: أن الله تعالى لا يعجزه ظالمٌ طغى وجبار تكبر، ولا ذو زينة تفاخر، فإذا جاء أمر الله فإن أخذه أليم شديد، يجعل الكنوز هشيما والوجاهة خرابا والقوة تبابا وهوانا، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((بينما رجل يجر إزاره قد خُسِفَ به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)).
ومن الدروس أيضا: أن المال قد يكون فتنة لبعض الناس، يطغى به ويتمرد، وليس هو علامة صلاح في العبد كما قد ظنه أهل الدنيا في قارون، وأن الله قد يبتلي بالنعم والأرزاق.
قد يُنعم اللهُ بالبلوى وإن عظُمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ
ومنها: أن في هلاك هؤلاء المستكبرين عبرة لأولي الألباب؛ أن يحذروا طريقهم ويجتنبوا مسالكهم، ولقد كان لقارون عبرة فيمن سبق لو فكّر واتَّعظ، ولكن كابر وعاند، قال تعالى: أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا.
ومنها: أن هوان الدنيا بالنسبة لما عند الله في الآخرة لا يدركه إلاّ الصابرون المؤمنون الذين صبروا على محنة الدنيا، ورجوا ما عند الله من الفضل الحسن والثواب الدائم، قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف: 71].
وفيها من الدروس المهمة: أن العاقبة للمتقين مهما تطاول المجرمون فيها وانتفخ المستكبرون وأظهروا ما لديهم من زينة عظيمة أو قوة متينة، فقد ظهر وغلب المتّقون في كلّ زمان ومكان، ولكن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد قال تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178]، وقال تعالى: فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا [مريم: 84].
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء...
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5269)
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, القرآن والتفسير, القصص
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
25/7/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة مع القرآن الكريم. 2- سرعة استجابة الصحابة لأمر الله وأمر رسوله. 3- فهم القرآن وتدبره طريق إلى وعي هذه الأمة ومجدها ورقيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 ، 71].
معاشر المسلمين، تقرأ طوائف من الناس القرآن وكأنه ليس لها، وترتله ترتيلا ولا تنتهجه في حياتها، وتصلي به ولا تحياه في قلوبها وضمائرها، كأنَّ القرآن يخاطب أمة سوانا، أو أنه نزل بغير لغتنا، أو أنه باب للانشراح وطريق للحسنات والثواب فحسب.
لقد تعامل كثير من المسلمين مع القرآن تعاملاً سيئًا، ففئام اتخذوه ظِهريا وغفلوا عنه غفلة شديدة، فهم كما وصفهم القرآن: اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، وفئام ألحقوه بكتب التراث الأصيل، وأنه معجزة نباري به الأمم، ومحله المتاحف والخزائن! وآخرون اتخذوه للقراءة والتلاوة، فصلوا به بلا وعي، وحفظوه بلا تأمل، وملؤوا به المحافل والمآتم والمجامع، فكانوا ممن جعل القرآن بركة المجالس وما باركوا به أعمالهم، وكانوا ممن نشروه كالأعطار وما عطَّروا به قلوبهم ولا زكّوا به نفوسهم. قال الحسن البصري رحمه الله ونِعمَ ما قال: "نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا".
هل يليق ـ يا مسلمون ـ أن نقرأ القرآن خلاف قراءته، فلا نعيه ونهتدي به، ولا نعيشه ونعمل به؟! كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
يا أهل القرآن، اتقوا ربكم، وعودوا إلى خير كلام وأزكاه، فاقرؤوه حق قراءته، عيشوا مواعظه، وتأملوا أسراره، وتدبروا قصصه وأخباره.
يقول منزِل القرآن وهو يخاطب هذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]. هل تدرون ما مادة حياة الناس؟ لقد كان هذا الدين مادة حياة الخلق، هداهم لأحسن السبل، وبصرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، فكان في هذا الدين صلاح العباد والبلاد، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبث فيهم السعادة والابتهاج بعد الشقاء والانكسار. فهل سمعتم بحياة كريمة لغير أهل الإسلام؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
أدرك أولو الألباب أن الإسلام هو مداد حياتهم وغياث أرواحهم، فاعتصموا واستمسكوا بطريقه، وأيقنَ المؤمنون أن الإيمان يحيا بالقرآن، ومن لا قرآن له لا إيمان له، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. فعاش ذوو العقول حلاوة هذا القرآن، واستطعموا خيره وأمره، وتذوقوا بصحة إرشاده، وقاموا به في الظلماء، وحملوه في ساعات النهار، حتى قال قائلهم: (والله، لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم)، وقال الآخر المتأمل لعظمة القرآن: (والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثُر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصَبه وشُغله وقلت راحته وبطالته).
قرأ أولئك الكرام القرآن وتدبروه، فإذا فيه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ، فعلموا أن الاستجابة لله في طاعته ومرضاته، فامتثلوا دينَه، وسلكوا منهجه، وسارعوا في سبيله. استجاب أولئك المؤمنون لربهم في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وفي الحر والبرد، فكانوا خير أناس آمنوا، وأمثلَ قوم استجابوا، وأحسن معشر صلّوا وصاموا.
قاموا بدين الله وشرعه، ورفعوا اسمه وذكره، وجاهدوا فيه حق جهاده، بإيمان متوهج ويقين راسخ وصبر كالجبال، لم يلينوا في زمن الليونة، ما ضعفوا حين ضعف الناس، ما يئسوا عند اشتداد المحن والبلايا. استجابوا لله ورسوله أيام الشدائد، وصبروا ساعات العظائم، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
إخوة الإيمان، كان جيل الصحابة أمثل الناس استجابة، وأعظمهم طاعة، وأسرعهم خيرًا وإنابة، ما دُعوا لخير إلا كانوا سابقيه، وما أُرشدوا لفضيلة إلا كانوا أصحابها، ولا رُفعت راية إلا كانوا تحتها وفي مظلتها. لما سمعوا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [آل عمران: 133] التهبت نفوسهم، وانتفضت هممهم، وأشرقت عزائمهم، فكانوا قوام الليل وميدان الفضائل وبستان الخيرات. يقرؤون القرآن وقد علموا دعوته للتوحيد وحضّه على الخير وتحذيره من الموبقات وأمره بالتفكر والاعتبار، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
لما نزلت: لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وعَاها أهل الإيمان، وعلموا مراد الله منها، فضحّوا بأنفَس أموالهم، وقدّموها حبًّا لله ورسوله وابتغاء ما عند الله تعالى.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيرُحاء، وهي الحديقة، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك: لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب مالي بَيرُحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو بِرَّها وذُخرها عند الله تعالى، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخٍ بخٍ، ذاك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسَمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
تلك ـ يا مسلمون ـ هي النفوس المؤمنة التي استجابت لله ورسوله، فهل سمعتم بمثلها؟! حدّثونا عن رجال أبطال ينفقون مع الحاجة، ويضحّون في الشدة، ويسارعون إذا حانت الساعة.
هذا أبو طلحة الأنصاري المنفق الجواد، كان إذا حمي الوطيس البطلَ الشجاع كَرًّا وإقدامًا وبسالة، وكان إذا بقي مع النبي جثا بين يديه، وقال: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء. وفيه يقول رسول الله : ((لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة)) ، وفي لفظ: ((خير من ألف رجل)). فهذا صوته مدد للجيش وإرعاب للأعداء، فكيف بقتالِه وصموده وضربه وقتله؟! رضي الله عنه.
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ [آل عمران: 172]، كان هذا القرح في أُحد، وكانت الاستجابة في غزوة حمراء الأسد، أصاب المسلمين ما أصابهم من الجراحة والإثخان ابتلاءً من الله وتحميصًا لهم في غزوة أحد، ولما انقضت المعركة لم تطب نفوس المشركين بما حصل، وهمّوا بالركض نحو المدينة لاستئصال من فيها، فبلغ ذلك النبي فندب أصحابه للخروج من اليوم الثاني رغم ما فيهم من القرح والتعب والجراحات، ولم يأذن لأحد بالمشاركة إلا من خرج معه في أحد، فخرج جميعهم ولم يتخلّف أحد طاعة لله ورسوله. فلقد استجابوا مع الهزيمة، ونهضوا مع القرح، غير متخاذلين ولا منهزمين ولا ضجرين.
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 172]. ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة: أبواك مِن الذين استجابوا لله والرسول بعدما أصابهم القرح، تعني: أبا بكر والزبير.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أيها الإخوة الكرام، كذا فهِم السلف الاستجابة، وكذا قرؤوا القرآن، قرؤوه حق قراءته، ورعوه حق رعايته، فأقاموه في حياتهم منهاجًا مبينا، يهتدون بهديه، ويستنيرون بنوره، ويتّعظون بوعظه وأمره. قال كما في الصحيح: ((أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيَ رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثَقَلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ، وفي لفظ: ((هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)).
وإنما يهتدي بالقرآن ـ يا مسلمون ـ من آمن به حقَّ الإيمان وتأمّله حق التأمل، فكم هم الذين يقرؤون القرآن والقرآن منهم بعيد، وكم هم الذين يتلون القرآن والقرآن منهم بريء.
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، هجرت هذه الأمة كتاب ربها تدبرا وعملا، وأعرضت عنه منهجًا ودليلا، فأصابها ما أصابها من الذل والمهانة والتمزق، والله المستعان.
أيها الإخوة، إنَّ فهم القرآن وتدبره طريق إلى وعي هذه الأمة ومجدها ورقيها، فلقد هانت هذه الأمة عندما فقدت الوعي، وغدت ألعوبةً تنحرف وراء كل موجة، وتخضع لكل متسلط، وتسكت على كل فظيعة، وتحتمل كل صيغة، وتلدغ من الجحر الواحد مرات تِلو مرات.
إن كتاب ربنا تعالى فيه قوة عظيمة تكفي لإحياء هذه الأمة واجتثاثها من مستنقعات الهوى والمذلة والاستعمار.
يا مسلمون، ليس هذا القرآن للقراءة فحسب، بل هو للحياة بعد الممات، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]. يبعث الأموات الخامدين، وينقذ الضالين التائهين، ويرفع المنهزمين الخاملين، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]. إن في الكتاب لوقودا للأنفس الخاوية، ومددًا للقلوب المجاهدة، وإلهابًا للأنفس المتطلعة.
القرآن وسيرة محمّد قوّتان عظيمتان تستطيعان أن تشعِلا في العالم الإسلاميّ نار الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي، وتجعلان من أمة مستسلمة منخذلة ناعسة أمةً فتية ملتهبة حماسة وغَيرة وجهادًا.
إن هذا القرآن جعل صعاليك العرب يتحولون إلى عظماء، يهدون الجبابرة، ويخلعون قلوب الأكاسرة، فيقول أحدهم: (الله ابتعثنا ليخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
هذا هو القرآن يا مسلمون، الذي فتح به أسلافكم الدنيا، وأذلوا به الجبروت، وكسروا به يهوديًا خبيثًا ونصرانيًا حاقدًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك...
(1/5270)
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
10/8/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة الإسلامية اليوم. 2- غفلة كثير من مثقفي الأمة عن قضاياها. 3- أسباب ضعف الأمة الإسلامية. 4- أسباب النصر والعز والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، من حين أن سقطت أمتنا وهوت قوتها وتبعثرت وحدتها تسلط عليها الأعداء وسُلبت خيراتها، وتكاثرت عليها المصائب وتلوثت جراحها، ففي الشرق تمزق، وفي الغرب مهانة، وفي كل مكان معاناة ومأساة.
فمال هذه الأمة؟! أليست بأمة مسلمة؟! أليس كتابها القرآن؟! ألم تكن عزيزة يومًا من الأيام؟! ألم يقل الله فيهم: وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ [الفتح: 22]، وقال الله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]؟!
لقد نسيت هذه الأمة حياة العز والإباء، وارتضت صنوف الذل والبلاء، وكأنها لم تخلق إلا لها! وكأن الكوارث من دمائها وأشلائها!
ألا ما لأمتنا ما لها فقد بدَّد البيْن أحوالها
كأنَّ الْمصائب ما قُدَّرت ولا النُّوب السود إلا لها
تئنّ لدى فلوات الضياع أنين المضيِّعة أطفالها
يدنس شارون أقدامها ويحصد شمعون أبطالها
نوازل فيهن شقُّ الصدور وهيهات نملك إغفالها
هل تساءلنا: لماذا كل ذلك؟! المصيبة تلو المصيبة، والحدث يخترقه الحدث، فلا نستيقظ إلا على بلية! ولا نقوم إلا وتجابهنا مشكلة! تجابه الأمة المسكينة بالوجود اليهودي في فلسطين، ويلاحقها ثالوث الدمار في أكثر البقاع: الجهل والفقر والمرض، ويحرص أعداؤها على إشغالها بالنعرات والشعارات ودوام المشكلات فيها، فلا هي تخلصت من المجرمين في فلسطين، ولا هي عالجت تخلفها وتقهقرها، ارتضت بالهزيمة أم الهزيمة رضيتها!
لقد حرص أعداؤها ـ قاتلهم الله ـ أن يطوّقوها بالهزيمة والعداء في كل مكان، فانهزمت الأمة في كل ميادين الحياة، وانهزمت في نفسها، أفلح أعداؤها في هزيمتها دينيًا وعسكريًا وفكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، بل استطاعوا هزيمتها من الناحية النفسية، وأنها ساقة الركب وصُبابة الإناء ومستنقع التخلف والجهل والهوان، فلا تُرشَّح لمجد، ولا تستحق السيادة، ولا تملك مقومات الرقي والازدهار.
فرضي كثيرون بهذه النتيجة, واستطعم مثقفوها لذيذ النوم والجهالة والبلادة، تَعابى لا حولَ ولا قوة، مثقّفها يستحي من إبانة عقيدته الصحيحة، ويستكين في إبراز أمجادنا ومفاخرنا.
وكان بعض الناس ذات مرة في منطقة قريبة من فلسطين، فقال له السائق: هنا تشوّش إسرائيل على إذاعتنا فلا نسمع شيئا، فقال له الراكب: ونحن لا نحسن التشويش عليهم؟! فأجاب السائق على وجه السخرية والعجب: نحن نشوّش عليهم! الله يرحم حالنا.
يغفل كثير من المثقفين عن أمتهم وقضاياهم وقالوا: الأمة لا تزال بخير، والله يتولى دينه ويرعاه، وركنوا إلى دنياهم وشهواتهم، فأكلوا وشربوا واعتنوا ببطونهم، وغفلوا عن تبصير الأمة وإيقاظها، بل أسهموا في غفلتها وسطحيتها؛ بإهمالهم الواجب المنوط بهم، ولم يجدّدوا وعي هذه الأمة ولا تحرقوا على حالها وذلتها، والله المستعان.
إن ثقافة هؤلاء وإن كانت عميقة إلا أنها على هامش الأحداث، لا في العير ولا النفير، إما أن تكون معلومات مخدَّرة، أو أنها ثقافة مهينة منهزمة، فحينئذ لا فرق بينهم وبين عوامنا.
ويُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ
قال تعالى: إِنَّ اللَّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
أيها الإخوة الكرام، لماذا أمتنا تعاني ما تعاني من الويلات والنكبات؟! ولماذا هي غاصة في المشكلات؟!
ولكي نعرف الجواب المقنع الصحيح استعرضوا حال الأمة مع ربها تعالى، هذا القرآن منهجنا القويم وصراطنا المستقيم يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
فما الذي أحدثته الأمة حتى أصابها ما أصابها؟! لقد بعدت هذه الأمة المسلمة عن دينها بعدًا كبيرًا، فلا هي عبدت الله حق عبادته، ولا هي قدرته حق قدره.
لقد أصبح الإسلام في حياتها شعارا تتميز به الأمم، وليس سلوكا وتطبيقا، وبات القرآن في نظرها للتلاوة فحسب، وليس المشعل لإسلامها الماحي لضعفها الهادي لمجدها وفخارها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. ومارست هذه الأمة ألوانًا من الصدود والإعراض، وانغمست في أعماق الدنيا، وتلطخت بالمعاصي والقاذورات، دونما حياء أو إشفاق. وحرص أعداؤها على توسيع دائرة التمزق فيها، صنعوا منها دويلات متناحرة ومسلمين متباغضين، ونسوا قرآنهم الذي يتلونه صباحا ومساء: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. فذابت الأخوة الإيمانية في شعارات القومية والإقليمية والعرقية، وجعلت من تلك الشعارات والمناهج أصناما تلوذ إليها: "إعادة فلسطين" أو "لمّ الشمل" أو "النضال القومي"، وما أغنت عنهم شعاراتهم التي رغبوا بها عن الإسلام.
أمتِي كم صنمٍ مَجدته لَم يكن يَحمل طهرَ الصنمِ
وطفقت الأمة الممتحنة تستبدل بعزة دينها ذلةَ الشعارات التي صنعها الاستعمار، وأجّجها أفراخ الاستعمار الذين استغربوا في عقولهم وأخلاقهم وانتماءاتهم.
من كان يصدّق أن هذه الأمة ترفع شعارا غير الإسلام، أو تنزوى تحت مظلة جاهلية أو شيطانية تضاد بها منهج الله تعالى، وتحرم نفسها من رحمة الله ونصره وتأييده؟!
إذن فهذه الأمة ـ يا مسلمون ـ ما أصلحت نفسها مع ربها فحلَّ بها ما حلّ، فلقد أضاعت دينها وأهملت القرآن، وما قامت بواجب النصرة، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]. فأمتنا المسكينة تجني ما كسبت أيديها وما صاغتها عقولها وتوجهاتها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
فهل غيرت هذه الأمة ما بنفسها؟! وهل صفت إيمانها من الشوائب والمكدرات؟! كلا، إنها لم تغير ما بها، ولم تجدد إيمانها، ولم تطهر واقعها، وسنة الله تعالى ونظامه في كل أمة أن لا تحصِّل صلاحها ولا فلاحها حتى تطهّر ذاتها وتصلح أحوالها، فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ [النحل: 92].
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إخوة الإسلام، مهما حميت الظروف واشتدت الأرزاء فلا تزال سفينة النجاة قريبة منا، ولا يزال سراج الهداية في طريقنا، نحن الذي سيطول السفينة ويستضيء بالسراج ويعصم نفسه من الهلاك.
إن سفينة النجاة هي الإسلام الصادق، ليس المتوارث عن الآباء والأجداد، فإن أكثرهم يقولون: نحن المسلمون، وما أقل فعالهم وتضحياتهم. أما سراج الهداية فإنه القرآن، من استرشده رشد، ومن استهدى به هدي، ومن تعزز به عز وصلب وحاز مجدا وأصاب شرفا، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44].
وإن هذا الكتاب لهو حياة الأمة لو حملته بصدق، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]، وإنه لعزها وفلاحها لو استهدت به وجعلته إمامها، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]. فأين القوة في حمل القرآن؟! وأين الجد في العمل به؟! وأين الصدق في تأمله وتدبره؟! إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
ما ضعفت أمتنا في عصر من العصور إلا وأدركت أن ذلك بما كسبت أيديها، وأنها غافلة عن ربها، وأنها أهملت كتابه وذكراه، فإن أحست بالذنب وعادت إلى قرآنها هبت فيها الحياة من جديد، وتماسك بنيانها وقوى جنابها، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
أيها المسلمون، عودوا إلى دينكم، واعتزوا بقرآنكم، وأصلحوا ذات بينكم، فما بكم من آفة فبما كسبت نفوسكم وفعلت أيديكم، فاستغفروا الله وتوبوا إليه، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33].
إن التوبة والاستغفار ـ يا مسلمون ـ طريق التغيير والإصلاح وباب الفلاح، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى في بعض الأمم: فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام: 6]. كانت ذنوبهم سببا لهلاكهم وتدميرهم، وقال تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. كسبهم من المعاصي والذنوب حال دون صلاحهم واتعاظهم وانتفاعهم بالمواعظ والتوجيهات. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ [يونس: 57]، فهل وعينا هذه الموعظة المباركة وجعلناها مداد الإيمان ووقود اليقين وشعل الحماس والغيرة؟! وهل جعلنا منها زكاة للأنفس وطهارة للأفئدة وعنوانا للجد والعمل والمقاومة؟!
إن هذا القرآن المجيد ضمن لنا التغيير والإصلاح، وضمن لنا الرفعة والظهور، فهو الذي بعث في قلوب العرب سرج الإيمان والشجاعة، فهابهم الناس وتخوفهم الأعداء، حتى قال أحد فرسان المشركين لما رآهم: "رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ولن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا منكم، فروا رأيكم". هكذا غيّر القرآن النفوس وأصلحها، وجعلها فياضة بالإيمان ريانة بالجهاد، سباقة للخيرات والتضحيات.
اللهم آت نفوسنا تقوها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5271)
عمر الفاروق
سيرة وتاريخ
تراجم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
17/8/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 2- طرف من أخباره وعدله وشجاعته وعبادته وزهده. 3- الوصية بقراءة التأريخ واستلهام الدروس والعبر منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، اليوم نحن في المدينة المنورة، نستنير بنورها، ونهتدي بهداها، ونستلهم عزها ومجدها، من خلال سيرة رفيعة جليلة وتاريخ مشرق مجيد، رفرفت في زمنه معالم العدل، وتجسدت في حياته خصال البطولة، وشمخت في مدته عزة المسلمين.
لماذا تنتقل إلى المدينة في جوّ ملبَّد بالدخان وصعيد ملون بالجراحات؟! انتقلنا إلى المدينة لنعيدَ للتاريخ قيمتهَ وللأمة حياتها وللمسلمين قوتهم، فإن في التاريخ عبرة لنا لو اعتبرنا، وفيه موعظة لنا لو اتعظنا، وفيه مستقبلنا لو تفكرنا، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف: 111]، فنلتجئ إليه لنجدد ذكراه، ولنمحو شيئا من العار، ولنسعد ولو شيئا قليلاً.
نحن في المدينة النبوية، لسنا في بساتينها الغناء، ولا في قصورها الشامخة، ولا في مؤسساتها الضخمة، وإنما في مكان متواضع موحش، يزوره خليفة المسلمين عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه. فقد رآه طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه في ليلة من الليالي يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثراتِ عمر تتبع؟!
ماذا أقول ـ يا مسلمون ـ في هذا الرجل الملهم العظيم؟! أأتكلم عن إيمانه الصلب، أم أتكلم عن عدله وسياسته، أم أتكلم عن شجاعته وبطولته، أم أروي لكم قصص زهده وفقره، أم أطوف بكم في حدائق بيانه وحكمته؟!
رجل مبارك عظيم، صنع منه الإسلام أعجوبة نادرة، فما عرف التاريخ مثله، وما أنجبت النساء نظيره، تخرج من مدرسة محمد الذي رباه برعايته وفجر طاقاته وأبرز محاسنه مواهبه، قال : ((إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون ـ أي: مُلهمون ـ ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)).
كان قبل الإسلام بدويًا جلفًا شرسَ الأخلاق، من بني عدي، وكان شديد الوطأة على المسلمين، شديد الحنق على رسول الله ودعوته، حتى نفر الناس منه ويئسوا من إسلامه، فقال القائل: والله، لا يسلم حتى يسلمَ حمارُ الخطاب.
فأسلم ابن الخطاب، وكان بشارة دعاء رسول الله ، واهتزت مكة من الفرح وارتجت نواحيها بالتكبير، وعزَّ به المسلمون المستضعفون، قال ابن مسعود كما في صحيح البخاري: (لم نزل أعزةً منذ أسلم عمر).
ولما دقت ساعة الهجرة هاجر الناس مستخفين متسلّلين، أما عمر رضي الله عنه فقد صنع شيئا مهولاً؛ إذ تقلد سيفه وتنكَّب قوسه، ومضى قِبَل الكعبة، فطاف بالبيت ثم صلى، وخاطب الملأ من قريش بهذا البيان الرسمي الخطابي فقال: (شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس ـ أي: الأنوف ـ، من أراد أن يُثكل أمه أو ييتِّم ولده أو يُرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي)، فما تبعه أحد من سادات قريش.
لقد جعل الإسلام من شدة عمر رضي الله عنه شدة في أمر الله، اهتزت لها عروش الجبابرة، وفرَقت منها قلوب الشجعان، وفيه يقول في معرض الثناء على صحابته الكرام: ((وأشدّهم في أمر الله عمر)) ؛ حينما كان يغلظ على أعداء الله ويغضب لحرماته وينطق بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
في أسرى بدر يشاور النبي فيهم صحابته، فيشيرون بالسماح والفداء، فيقول رسول الله: ((ما ترى يا ابنَ الخطاب؟)) فيقول الشديد في أمر الله: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكّنّي من فلان فأضرب عنقه، وتمكّن حمزة من أخٍ له فيضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، حتى يُعلم أنْ ليس في قلوبنا هوادةٌ للكفار، هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم، فيُعرِض رسول الله عن مشورة عمر، فينزل القرآن مصدقًا لعمر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 67].
وفي غزوة أحد يعلو أبو سفيان الجبل ويصيح: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلا يجيبونه حيث نهاهم رسول الله عن إجابته، فقال أبو سفيان ظانًا موتهم: أمّا هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يتمالك عمر نفسه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله، إنّ مَن ذكرتَ أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك.
وفي صلح الحديبية يحتمل النبي عَنتَ قريش في الشروط، ويرتضيه لحِكم بعيدة، فيغضب عمر ويقول: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: ((بلى)) ، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: ((بلى)) ، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! أنرجع ولما يحكم الله بيننا أبدًا؟! فقال النبي : ((إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا)).
أيها الإخوة الكرام، في عهد هذا الصحابي الإمام انتظمت أمور المسلمين، واتسعت دولتهم، وعزَّ أهل الإسلام، وتخوفهم المجرمون والأعداء. ولقد عجب الناس من رجل واحد تهابه الشياطين وتخشاه الملوك، ويشق جنوده الآفاق فاتحين ومنتصرين، ولا يملك ترسانة حربية، ويعيش فريدا بلا حراسة، ويدوم فقيرًا، وينام في كل مكان!
ذكر أهل السير أن قيصر عظيم الروم أرسل رسولاً إلى عمر رضي الله عنه لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك، بل لنا أمير قد خرجَ إلى ظاهر المدينة، فخرج الرسول في طلبه، فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمْل، وقد وضع درعه كالوسادة، والعرَق يسقط من جبينه قد بلَّ الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل لا يَقَرّ للملوك قرارٌ من هيبته وتكون هذه حالته! ولكنك يا عمر عدلت فأمنت فنمت، وملكنا يجور فلا جرمَ أنه لا يزال ساهرًا خائفا، أشهد أن دينك الدينُ الحق، ولولا أنني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن أعود وأسلم.
فهل سمعتم ـ يا مسلمون ـ بمثل هذه العظمة؟! وهل قرأتم غير هذا التواضع؟! لا يضيره التعفف، ولا يعنيه الترف، هاب الله فهابه الناس، وأرضى ربه فأرضى عليه الناس ومكنه في الأرض، تخافه الدنيا ويرتعد منه العظماء، ويقضي راحته في العَراء نائمًا مطمئنًا غير وجل ولا هياب، فما يملك أعداؤه إلا أن يقولوا: عَدلت فأمنتَ فنمتَ يا عمر.
رآه مستغرقا في نومه فرأى فيه الجلالة فِي أسْمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا ببُردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدلَ بينهمُ فنمتَ نومَ قريرِ العيْن هانيها
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
قال في عمر: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يُعرضون وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثُديّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، فرأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)) ، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) ، وفي الحديث الآخر في الصحيحين قال : ((بينما أنا نائم إذ رأيت قدَحًا أتيت به، فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلتي عمر بن الخطاب)) ، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، كان عمر رضي الله عنه مع عظمته وجلالته الكبيرةِ العابدَ القانت والإمام البكاء. قال عبد الله بن عيسى: "كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء". وكان يمر بالآية وهو يقرأ فتخنقه العبرة، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد، يحسبونه مريضا.
ومرة زار أبا الدرداء فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثا حدثناه رسول الله ؟ قال: أي حديث؟ قال: ((ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)) ، قال: نعم، قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
وكان هذا الإمام العظيم من أكثر الناس تحسسًا لأحوال الأمة وتفقدا لأخبارهم؛ لكي يعينهم ويسد جوعهم ويقضي حوائجهم، فقد ذكروا أنه كان ذات ليلة يعس في المدينة، فأتى على امرأة من الأنصار تحمل قربة، فسألها عن شأنها، فذكرت أن لها عيالاً، وأنه ليس لها خادم، وأنها تخرج في الليل فتسقيهم الماء، وتكره أن تخرج بالنهار، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، وقال: اغدي على عمر غُدوة يُخدِمك خادما، فقالت: لا أصِل إليه، فقال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى، فغدت عليه فإذا هي به، فعرفت أنه الذي حمل قربتها، فذهبت تولي، فأرسل في أثرها وأمر لها بخادم ونفقة.
أيها المسلمون، سيرة هذا الرجل طويلة وأخباره عجيبة، ولا يمكن الإتيان عليها كلها، لكننا نشير إليها إشارات لنبين لكم صورة مشرقة عن الإسلام، ولنذكّركم بمجدكم التليد الذي أضعناه، أضاعته الأمة عندما أضاعت دينها، ونسيته عندما نسيت قرآنها. صدق المسلمون الأوائل في حمل هذا الدين، واستمسكوا بالقرآن، ففتحوا الدنيا وفجّروا أمثال عمر وسعد وطارق وصلاح الدين، فأين أنتم ـ يا مسلمون ـ عن دينكم الصحيح الذي يحمله أهله بصدق وجد ومجاهدة؟! خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]، وليس يُحمل بالشّكل أو الاسم أو بالوراثة، وأين أنتم ـ يا مربون ـ عن هذه السير لتُرَبَّى عليها الناشئة ويحياها شبابنا المستهدف بالضياع والمستهدف بالنعومة والتلهية والتفاهة؟!
فهل عرفتم ـ يا شباب الإسلام ـ سيرةَ عمر؟! وهل تأملتم صدقه وإيمانه؟! وهل عايشتم شجاعته وإقدامه؟! فهل يسرّكم أنكم لهوتم ولم تتعلموا هذه السيرة العطرة؟! وهل يسركم أنكم نمتم ولم تطالعوا هذه الأخبار المضيئة؟!
يا شبابنا، إن عمر رضي الله عنه مثالكم في صدق الإيمان وعظيم الجهاد وشدة البأس وجميل الخصال، وهو منهاجكم في التواضع والخشية ودوام التزهد والمراقبة، فاقرؤوا سيرته وطالعوا أخباره، فإنها العجب العجاب والمنهل الروي المُستطاب.
يا من يرى عمرًا تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه
إنِّي تذكرت والذكرى مؤرقة مجدًا تليدا بأيدينا أضعناه
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تَحداه
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعلّ الصخر ينعاه
هذه معالِم خرص كل واحدة منهنّ قامت خطيبًا فاغرًا فاه
والله يعلم ما قلَّبت سيرتَهم يومًا فأخطأ دمعُ العين مَجراه
يا مسلمون، عودوا إلى التاريخ وتعلموه وعلموه الأجيال، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111].
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا...
(1/5272)
فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
25/11/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية تدبر القرآن حال تلاوته. 2- قتال أتباع الرسل ووصف الله لهم بالصبر. 3- كتاب النبي إلى عظيم الروم. 4- سبب معركة مؤتة. 5- بكاء عبد الله بن رواحة وكلمته العظيمة. 6- قوة جيش مؤتة رغم قلة عددهم وعتادهم. 7- أحداث معركة مؤتة. 8- إخبار النبي لأهل المدينة في المدينة بوقائع غزوة مؤتة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، كتابكم القرآن هو مصدر عِزّكم وشرفكم، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]. فهل إذا تلاه العقلاء تفكروا فيه؟! وهل إذا قرأه بعضنا تدبّره كما أمر الله، أم أننا نقرؤه كقراءة الغافلين الذين يُردّدونه بلا وعي، ويحسّنُونَه بلا اتعاظ، ويقومون به بلا تخشع وتأثر؟! إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2].
أيها الإخوة، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، من تأملها علم عظمة هذا الإيمان، وأدرك علو هِمم المؤمنين وشدّةَ صبرهم وجهادهم، وأنه لا طريق للوَهَن إليهم، ولا باب لليأس إلى قلوبهم، فهم بإيمانهم أقوياء أشِدّاء، وهم بشجاعتهم أفذاذ بُسَلاء، وهم بصبرهم وإقدامهم لا يَذِلُّون ولا يهِنُون ولا يضعفون، وعلى ربهم يتوكلون.
قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 45]. فالله يقول: كم من نبي قاتل وقاتل معه جماعاتٌ كثيرةٌ، فما وهَنوا ولا ضعُفُوا من شدّة القتل والجراحات، ولا ارتدّوا على أدبارهم، ولا تنازلوا عن مبادئهم، جاهدوا مع الضعف، وصبروا مع البلاء، وقاوموا رغم الإحباط والتخذيل.
أيها الإخوة الكرام، ومن العجائب في التاريخ أن يتجاسر جيشٌ صغير قليل العدد ضعيفَ العُدّة، يتجاسر على ملاقاة جيشٍ كبير، ترجُف من سماعه الأرواح قبل رؤيته ومعاينته. يخرج ثلاثة آلاف مقاتل لمنازلة مائتي ألف مقاتل! أين موقع ثلاثة آلاف من هذا البحر الخِضَم؟! وأين قوتهم؟! وأين عتادهم؟! أمرٌ عجيبٌ لا تقبله العقول! خرجَ هؤلاء نصرةً لدين الله وطاعةً لرسول الله وحميةً لإخوانهم الذين قُتلوا غدرًا وخيانة.
فبعد أن وطَّد النبي حكم الإسلام في المدينة بعث بالرسل والكتب إلى ملوك الأرض وعظمائها، يدعوهم إلى الإسلام، ويُحذّرهم الكفر والضلالة، فكان ممن بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له شُرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قِبل قيصر، فأوثقه رباطًا ثم قدَّمه فضرب عنقه، فكانت هذه الفِعلة الشنيعة ـ وهي قتل الرُّسل ـ كافيةً لإعلان الحرب على الرومان مهما كان الثمن، فإن قتل الرسول يعني استضعاف الخصم وامتهان قيادته والتحدي له بالمقاومة، فما كان من النبي إلا أن قفَّ شعره والتهبت غيَرته واشتد بأسه، فجهز جيشه الصغير الذي خرج إلى مؤتة من بلاد البلقاء الأردن، وهناك كانت المواجهة العنيفة والمعركة الدامية التي يخوضها المسلمون لأوّل مرة ومع جيش ضخم ومتطوّر ومتحضّر.
هيأ رسول الله جيشه، وأمّرَ عليهم زيد بن حارثة وقال: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة)) ، وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة. خرج الجيش الإسلامي وكلُّه بأس وإقدام وشجاعة، يجلّلهم الإيمان، وتغشاهم السكينة، ويعلوهم اليقين، إما النصر وإما الشهادة. فبدأ الناس يودّعُون الجيش وأمراء رسولِ الله، فبكى عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟! فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابةً بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا [مريم: 71]، فلست أدري كيف الصدور بعد الورود؟! فقال المسلمون: صَحِبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنِّي أسأل الرحْمن مغفرةً وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهزةً بِحربة تنفذ الأحشاءَ والكِبدا
حتى يقال إذا مرّوا على جدثي: أرشده الله من غازٍ وقد رشَدا
هكذا ـ يا مسلمون ـ هي نفسية المؤمن بالله والمؤمن بوعده، لا تُهمّه الدنيا ولا يعيش لها، وإنما يتمنى أمانيَ ساميات وأشياءَ عجيبات، فهو لا يبكي للبقاء، وإنما يبكي للِّقاء، ويتمنى من الله تعالى منازل الشهداء الذين يبذلون أرواحهم فداءً لله، ويُضحّون بأنفسهم حبًا لدينه، ويسعون بلا تردّد ابتغاء ما عنده، فهل رأيتم أو سمعتم بأكبر من هذه الأماني؟!
ويتجه الجيش المؤمن الباسل إلى الأردن، ويعسكر في مَعان، وهناك تأتيهم الأخبار بأن جيش الروم عظيم جِدُّ عظيم، وقد يكون من المخاطرة منازلتهم بثلاثة آلاف مقاتل، فيتشاورون ويفكِّرون، فيقول بعضهم: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فيفزّ ابن رواحة معترضًا هذا الرأي، ومحرِّضًا على القتال، ومشجّعًا الناس، فيقول: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحُسنيَين، إما ظهورٌ وإما شهادة. فأجمع الناس على كلام ابن رواحة، وجعلوا هذا اللّقاء الدامي طريقًا للجنة وسُلَّمًا للحياة السعيدة وشعارًا للمجد والعلاء، متجاوزين بذلك حدود المعقول والمألوف، ومحطمين القوانين المادية والإجراءات العسكرية، وسجلوا لنا في تاريخنا المجيد صورًا من البسالة والإقدام، نظل نرويها ونتمدح بها ونمسح بها صور المذلة والهوان، والله المستعان.
وبعد الخروج من مَعان تحرك الجيش إلى أرض المعركة، وهناك رأوا جيش الروم، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتهيؤوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. وهناك في مؤتة اصطدم الفريقان: جيش الهدى وجيش الضلالة، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل! معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبَّت ريح الإيمان جاءت بالعجائب والمذهلات. أخذ الرايةَ زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخرّ صريعا مسجِّلاً صورة عجيبة من البسالة واقتحام الأهوال بفضل إيمانه وصدقه ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، وكما رأيتم كان زيد رضي الله عنه طليعة الأبطال الشهداء الذين هيجتهم نسمات الجنة للبذل والتضحية، وسحق الجبن والمخافة، ولم يُبقِ خلفه إلا الشجاعة القاهرة التي صنعها الإيمان ويتربى عليها الأجيال.
وبعده أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ، وطفق يقاتل قتالاً عجيبًا، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قُطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل. ويقال: إن روميًا ضربه ضربةً قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. وفي صحيح البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذٍ وهو قتيل، يقول: فعددتُ به خمسين بين طعنةٍ وضربهٍ، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهرَه. ولما قُتل جعفر أخذ الراية ابن رواحة، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردّد بعض التردّد، حتى حاد حَيدةً، ثم قال:
أقسمتُ يا نفس لتنزِلنَّهْ مطاوعةً أو لتُكرَهِنَّه
إن أجلب الناسُ وشدّوا الرنه مَا لي أراكِ تكرهين الجنةْ؟!
ثم نزل فأتاه ابن عم بَعْرق من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبَك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتل.
ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فقاتل قتالا مريرًا، حتى تكسّرت في يده تسعة أسياف، يقول خالد كما في الصحيح: ودُقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ولم تبق معي إلا صفيحة يمانية. وكان رسولنا جالسا على المنبر، فنقل أحداثَ المعركة إلى الناس في المدينة عن طريق الوحي، فقال وعيناه تذرِفان: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأُصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم)).
وبالفعل لقد كان فتحًا عظيمًا ونصرًا مبينًا بفضل الله تعالى ثم بسالة هؤلاء الأبطال، فقد حمل الراية سيف الله خالد، فهدَّ صفوف الروم وأثخن فيهم، حتى تكسرت عليه تسعة أسياف، واستطاع بخبرته العسكرية أن ينحاز بالجيش الصغير، ويوهم الروم بمجيء المدد، فتراجع الرومان، وغنم المسلمون منهم، ولم يمت من جنود الله إلا اثنا عشر رجلاً.
وفي هذه المعركة علَّمنا أبطال الإسلام فضيلة التضحية والفداء، وأن الدنيا لا مكان لها في أحاسيسهم ومشاعرهم، وعلمونا أهمية الصبر والثبات على المبدأ، وعلمونا أن النصر من عند الله، وأنهم لا يقاتلون الأعداء بعدة وقوة وكثرة، وإنما بدينهم وإخلاصهم، فمن صدق صدقه الله، ومن بدّل بدّل الله عليه. مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]. وعلمتنا مؤتة أن منازل المجد والعلياء يحققها الأبطال الأفذاذ الذين يشقون الأهوال ويخترقون الآفاق.
لقِّني درس الصمودِ من خاف وأحجمْ
وأرينا كيف يقضي السيف بالعدل ويحكمْ
لن ينال النصر مَن بالنوم والراحة ينعمْ
وكسيح الهمّة الخوار ما فاز بِمغنمْ
فعودوا ـ يا مسلمون ـ لذلك التاريخ، وتعلموه، وعلّموه الأجيال...
(1/5273)
مستقبل البيت المسلم في الأحداث العصيبة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, المسلمون في العالم, قضايا الأسرة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
1/1/1423
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال بيوتات المسلمين. 2- الوصية بتربية الأبناء على الاهتمام والشعور بقضايا أمتهم. 3- وسائل حفظ البيت والأسرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، تأمل متأملٌ بيوتات المسلمين فإذا الغفلة فيها ظاهرة، والوعي بها ضعيف، والتربية لها هشّة ركيكة. بيت لا يزال تديُّنه ضعيفا، وبيت غصّ بالشهوة والعبث، وبيت لا يعيش مشاعرَ المسلمين ويسكن بمعزل عن أخبارهم وقضاياهم!
فمع هيمنة الخير وانتشاره يرى شبابًا في الأحياء لا يصلون في المساجد! ومع التعليم لا يزال وعي المسلم ضيقا محدودًا! ومع وهَج الأحداث وخطورة الأيام القادمة لا يزال عند بعض الناس ساعات للشهوة والعبث والمترفات!
هل أُغلقت القلوب عن استطعام حلاوة الإيمان وسعادة الإسلام؟! وهل عميت أبصارنا عن رؤية الهلاك ومشاهد التعاسة؟! وهل صُمّت آذاننا عن مآسي أمتنا وجراحات إخواننا في كل مكان؟! أين يقظة البيت المسلم ليتدارك نفسه وليُصلح منهجه وليزيد من تدينه؟! قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، فهل حفظ الرعاية من ترك أبناءه بلا رعاية؛ يسعون ويمرحون كما يشاؤون؟! وهل أدى الصيانة من لا يعرف بيته إلا عند المنام والطعام؟! وهل يرعى الأمانة من أضعف دين البيت وأطفأ أنواره بفضائيات تعيسة وثقافة متدنية تتمثل في برامج ساقطة ومجلات خليعة؟! أين البيت المسلم المتنامي دينيًّا والواعي حضاريًا والمهتم إسلاميًا؟!
إننا نشاهد بيوتنا تغصّ بالفضائيات، ولا تمتلئ بالإيمانيات، وتسمع الأخبار وليس هناك أدنى تأمل واعتبار. إننا في عصر إما أن ينفتح البيت على خير أو على شر، وإما أن يعيش في غفلة دامسة عاقبتها شر خطير وفساد عريض.
فما أنتم صانعون ـ يا معاشر الآباء والأولياء والمربين ـ في العصر الروماني الجديد الذي يحكم بالقهر والعسف والاستبداد، ولا يعطي أدنى حرمة ولا حق للشعوب المسلمة المنكوبة؟!
لقد آن الأوان لتكفّ الأمة عن اللهو قليلا، ولقد حان الوقت لتستيقظ بعد النوم الطويل وبعد التغافل المديد. مسلم غافل يعيش لبطنه، إذا نابته النوائب في نفسه تحرك وانخلع، وإذا احترقت تجارته هبَّ من نومه كالأسد وانطلق للدفاع والمكافحة كالشجاع.
سبحان الله! أين ذا الشعور تجاه أمّة تُعامَل بالتعسف والقوة وتراق دماؤها في كل ساعة من ليل أو نهار؟! وأين ذا الإحساس لدين يُراد تغييبه وإماتته؟! أليس لهذه الأحداث العصيبة التي تشق كبد الأمة أن توقظ الضمائر وأن تشعل الإيمان وأن تحيي البيت المسلم ليؤدي وظيفته في التربية والوعي، أم أننا نقتِّل القتلى بمقالاتنا القاتلة، ونتهم الشهداء في شهادتهم، ونعيب البطولات والتضحيات ونبقى في غينا ولهونا؟!
اسمعي نوحَ الحزانى واطرَبي وانظري دمعَ اليتامى وابسمي
قاتل الله من خذل مسلمًا في وقت النصرة، وقاتل الله من أعان عليهم وفتَّ في عضدهم وطعنهم من خلفهم ساعةَ الكرب والبلاء. إن لم تكن ناصرًا ساعة النصر فلا تكن خاذلا مخذلا وجبانا مثبطًا.
ارفعوا أقلامكم عنها قليلا واملؤوا أفواهكم صمتًا طويلا
لا تجيبوا دعوة القدس ولو بالْهمس كي لا تسلبوا أطفالها الموت النبيلا
يا مسلمون، إن نارًا في بيت أحدنا توقظ النائمين وتنبه الغافلين، فمتى نستيقظ لأمتنا ونأسى لأحوالها؟!
إن البيت المسلم ليس كأي بيت في العالم، فلا بد أن يدرك عظمة المسؤولية، ولا بد أن يدرك أنه سيحترق ما لم يعمل ويجتهد ويتحرك. إن البيت المسلم بأبويه وأبنائه يستطيع تعميق الدين وتأسيس الجد وصياغة المشاعر والأحاسيس من خلال ما ينتمي إليه ويأوي إليه، فهو حين تجلجل القرآن منه وتشع منه مكارم الأخلاق يُنتج أهل الخير والصلاح ويثمر أهل المروءة والفلاح، وهو حين يتواجد لسماع الأغنية ويتلفظ السفاهات يخرج جيلاً مغنيا عابثا يُرثى لحاله. لم يكن البيت المسلم وهو يشعّ بالإيمان ويستضيء بالقرآن أن يغيب عن مسالك الخير ويعرض عن سبيل الجد والبطولة.
يا مسلمون، إن ثقافة الأبناء دينًا وخلُقًا وجِدًا وبطولة هي إفراز ما زرعه الأبوان في المنزل، فإن كان ما زرعاه خيرًا خرج نباتًا طيبًا مباركًا، وإن كان ما زرعاه شرًا خرج نباتًا ضارًا موحشا يؤذي ولا ينتفع به. فتأملوا بيوتكم، وراجعوا ما فيها من وسائل الإصلاح والبناء والتأثير، واحرصوا على تأسيس بيت مسلم حي بالإيمان، يعظم القرآن ويهتدي به في كل شؤونه.
الشاب لا يراهن على دينه ويعتز بنشر معانيه، والفتاة تشمخ بإسلامها وتفتخر بحجابها وعفتها، والصغار يهتمون بدينهم وبإخوانهم. ليس عجيبًا أن تجعل الابن الصغير هو الذي يؤدّي الصدقة عنك للإخوة في فلسطين أو في الشيشان وغيرها، المهم أن تحسن صناعة الشعور الشامل الصادق في قلبه منذ صغره، وقل له: إن هذه الريالات تنصر بها مسلمًا وتقتل بها يهوديًا أو نصرانيا أو بوذيًا.
وفي الطعام والشراب تؤسس أن الرازق هو الله تعالى، وأنه المنعم المتفضل، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]. وإذا استغلق الرزق وشحّت الوظائف فالرزق بيد الله، وليس بشركات ومؤسسات، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود: 6].
والبيت المسلم لا يتجاهل الانفجار المعلوماتي والفضائي الذي يخترق كل شيء، فيسعى ليكون مسابقا في بناء قاعدته، فيثبت الدين، وينشر الأخلاق، ويحيي معاني الرجولة والبطولة، فما بعث نبينا إلا ليتمم مكارم الأخلاق. وهل من مكارم الأخلاق ترك الأبناء بلا أخلاق وآداب؟! وهل من مكارم الأخلاق أن يُترك الابن يختار ما يشاء من الأخلاق؟! وهل من مكارم الأخلاق أن يخرج البيت المسلم مغنيًا أو مغنية يتنكر للقيم والمثل والمبادئ؟! قال : ((ما من راعٍ استرعاه رعيته يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة)).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، هل سمع أهل الإيمان نداء الله لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]؟!
لقد عمّت الفتن وطمَت، وصار المسلم يخاف على دينه ويخشى على أخلاقه ومبادئه. هناك من يميّع عداوتنا للكافرين ويدعو للسماح والسلام والمعايشة، وهناك من يجعل الغناء وخلع الحجاب فضيلة وشرفًا، وهناك من يتأسف على أبطال الجهاد والمقاومة في فلسطين وغيرها بأنهم قتلوا أنفسهم وحرموها من الراحة والسعادة!
انتكاس في الفطر، وتقليب للمبادئ والمفاهيم، وهم كما قال رسولنا : ((دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها)) ، وقال: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)).
يا من تركتم بيوتكم للفضائيات وللفكر المسموم، إن في موادها ما يشوّه الدين، ويحلّي الشهوة، ويسفّه المجاهدين، ويدعو للذلة والمهانة. فأين أنتم ـ يا رعاة البيوت ـ عن أبنائكم وفتياتكم؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.
إن ما نعايشه من أحداث جسيمة ما ينبغي أن تجعلنا نخاف ونهون، وإنما نحاول أن نحسن استغلالها في تربية الجيل، فنبث فيهم معاني الإيمان والصدق والبطولة، ونجعل مقتل الشيوخ والنساء والأطفال مشاعل للتضحية والفداء، ونعمِّق فيهم هذا الدين، ونعرفهم بالأصدقاء والأعداء.
فما خدِّدت فيك الأخاديد إنَّما تُشَقّ لُحود للعِدا وضرائحُ
ويا داميَ العينين مهما تراكمت سدوفُ الدجى فالنور لليل فاضحُ
وكلُ دمٍ يَجري سينبت ثورةً كما تُنبت العشبَ الغيوثُ السوافحُ
فهبوا ـ يا مسلمون ـ لنجده بيوتكم وإنقاذها من عصرٍ دفّاق بكل الشرور، زاخرٍ بكل الفتن والمغريات، والسعيد من وُعظ بغيره وانتفع بهدى ربه وشرعه.
فاملؤوا البيوت بالشريط الإسلامي، وأسسوا مكتبةً في المنزل، وبثوا فيه المواد النافعة، وجنبوه كل فاسدٍ ولاهٍ، فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93].
(1/5274)
كيف تعالج المصائب؟
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن, خصال الإيمان
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
19/3/1423
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصبر عند الصدمة الأولى. 2- الدنيا مطبوعة على الأكدار والمنغصات. 3- الاسترجاع والحمد على المصيبة من صفات المؤمنين الصابرين. 4- قصة امرأة من أهل الجنة. 5- وصايا لكل من نزلت به مصيبة. 6- فوائد الاسترجاع ودعاء المصيبة. 7- بعض أقوال السلف في المصائب والنكبات. 8- وصايا لتخفيف وقع المصيبة وعلاجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، مرّ النبي بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقي الله واصبري)) ، فقالت: إليكَ عني؛ فإنك لم تُصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ، فأتت بابه، فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال : ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).
لماذا تأخذ المصائب من الناس مأخذها؟! ولماذا تمسّ أديانهم وأخلاقهم؟! ولماذا تفقدهم شعورهم وتفكيرهم؟! أليس الله تعالى الذي قدّر كل شيء وكتب كل شيء وخلقنا للابتلاء، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع؟! الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [الملك: 1].
إن حياتنا لا تستقيم بلا مكدرات، ولا تدوم بلا شدائد وابتلاءات، فهي مخلوقة على ضرر ومطبوعة بكدر، لا تطيب لملخوق ولا ينعم بها أحد، وقد علّمنا ديننا الصبر على الأقدار والرضا بالقضاء والمكتوب، وأثنى الله على الصابرين المحتسبين، وخصَّهم برعايته ومعيته، وجعل مثواهم جنات النعيم، فلماذا تتضجر ـ يا مؤمن ـ من قدر الله؟! ولماذا تجزع لمصيبة الأموال والأنفس؟! ألم تقرأ في القرآن: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]؟! ألم تسمع قوله : ((واعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف)) ؟!
وقد ابتلى الله تعالى خير الناس دينًا وأحسنهم استقامة، وكان في ذلك لهم مزيد الدرجات وتكفير السيئات، قال : ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)). ولم ينفك من بلاء الدنيا وأنكادها الملوك والأغنياء والعظماء، فجاءتهم المصائب لتعكر السرور، وحلّت الرزايا لتفسد اللذة، وخالطتهم المرارات، ولم تبقَ لهم مسرات، لماذا؟! إنها الدنيا المزدحمة بالشرور والابتلاءات، فلماذا الجزع وقد كرّمك الله بالإسلام؟! ولماذا التضجّر وقد متّعك الله بالقرآن؟! إنما يجزع ـ يا مسلمون ـ من لا دين له، وإنما يسخط من لا عقل له، ولا يقدر الله تعالى للمؤمنين إلا خيرًا. قال كما في صحيح مسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن! إنّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
لقد شرّف الله أهل الإيمان بهذا الحديث، وخصّهم بهذه النعمة من بين سائر العالمين، فها هو الكافر يُبتلى، فيذهب صوابه، ويطيش عقله، وربما انتحر، قتل قريبه، أو انتقل لعيادة نفسية، يتجرع فيها آلام النكد وحرارة البلاء، لماذا صنع ذلك؟! لأنه لا يعرف رعاية الحق، ولا ذاق حلاوة الصبر، ولا جرّب الرضا بالقضاء وحمدَ الله تعالى على البلاء. تنزل المصيبة بالمسلم في دينه أو ماله ونفسه فيقول: الحمد لله على كلّ حال، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها. فما إن يقولها إلا وتنزاح عنه الهموم والأحزان، ويشرح الله صدره للإيمان، فيذوق لذاذة الصبر، ويعينه الله على أمره، ويقضي له حوائجه، ويفتح له من الخير ما لا يبالي به، وينزله منازل الصابرين. فهل سمعتم بفضل أعظم من ذلك؟! إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
أيها الإخوة الفضلاء، إن الصبر منزلة في الدين عظيمة، وهو مفتاح الخيرات والأفضال، وهو باب واسع إلى الجنة. وإن من أهل الجنة مؤمنين صابرين، أُتوا في أنفسهم فصبروا، وابتُلوا في أولادهم فحمدوا الله، وامتُحنوا في أموالهم ففرحوا وشكروا وقالوا: لك الحمد يا ربنَّا، إن كنت قد أخذت فقد أعطيت، وإن كنت قد ابتليتَ فقد عافيت، فلك الحمد على ما قدّرت وقضيت، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد 22، 23].
قال ابن عباس رضي الله عنهما يومًا لعطاء: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قال: قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني أُصرع، وإني أتكشّف، فادع الله لي، قال: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك)) ، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشّف، فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها.
عباد الله، إنّ ثمة وصايا نافعة ووسائل مهمة يوصى بها كل مبتلى وجريح وكل حزينٍ وكسيح، في زمن قلَّ فيه الدين وكثرت فيه البلايا والمشكلات، وإنها الطريق إلى علاج المصيبة وحزنها:
فأولاً: أن يقول المؤمن ما أمر الله به عند وقوع المصيبة وحصول البلاء، قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].
وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها)). قال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلّى عن مصيبته، أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل، والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلّف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربَّه فردًا، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟!".
ثم ذكر ابن القيم من علاج المصيبة أن يعلم المرء علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن علاجها أن ينظر إلى ما أُصيب به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه أو ادَّخر له.
ومن علاجها أن يُطفئ نار المصيبة ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟! ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟! وأنه لو فتّش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلى، فلماذا الحزن؟! ولماذا طول البكاء والتوجع؟!
قال ابن مسعود : (لكل فرحة ترحة، وما مُلئ بيت فرحًا إلا مُلئ تَرحا). وقالت هند بنت النعمان: "لقد رأيتُنا ونحن أعزّ الناس وأشدهم ملكا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتُنا ونحن أقل الناس، وإنه حقٌ على الله أن لا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عبرة".
ومن علاجها أن الجزع لا يردها، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض، وسلوا الجزِعين: هل عالج جزعهم مصائبهم؟! وهل خفف سخطهم أمراضَهم؟! بل ما ازدادوا إلا بلاء، ولا ازدادوا إلا نكدًا وشقاء، والفضيلة والسرور للصابرين.
اللهم ألهمنا الصبر والشكر، واجعلنا من عبادك الصابرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، إن الصبر على المحن والرزايا مظهرٌ من مظاهر الرجولة والاستقامة، وهو علامة تمام العقل ورجاحته، والجازع من المصائب ضعيف قليل العزيمة واهن الصبر، ليس مؤهلاً لاختراق الشدائد أو حمل المشاق، وليس مؤهلاً لحمل الخيرات والسعي وراء الطيبات.
إنَّ الصبر ـ يا مسلمون ـ مدرسة تعلّم المؤمن ضبط النفس والثبات وعدم الانحراف وراء الأهواء والشهوات، وإنها لتضفي على الجسم كلَّ مقوِّمات الجلَد والتحمّل والاستبسال، فما أحلى أن يكون المسلم صبورًا ثابتًا متأنيًا، يحمد الله على مصابه، ويتجمّل لإرضاء ربّه، ويأمل كثير فضله وثوابه. وقد قال عمر (وجدنا أكثر عيشنا بالصبر).
ومما يعين على علاج المصيبة وتخفيفها أن يعلم العبد أن فوت ثواب الصبر والتسليم ـ وهو الصلاة والرحمة التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع ـ أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها أن يعلم أنه بالجزع يشمت به العدو ويسيء الصديق ويغضب الرب ويحبط الأجر.
ومن علاجها أن يعلم أن ما يُعقبه الصبر والاحتساب واللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه.
ومن علاجها أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له.
ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه ولا ليجتاحه، وإنما ابتلاه به ليمتحن صبره ورضاه وإيمانه، وليراه طريحاً ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا غصصَ الشكوى إليه. قال الشيخ عبد القادر: يا بني، إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرَك وإيمانك، يا بني، القدر سبُع، والسبُع لا يأكل الميتة.
ومن علاجها أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً أوآجلاً، فمن رحمة الله أن يتفقده في الأحيان بأنواعٍ من أدوية المصائب، تكون رحمة له من هذا الداء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعضَ القوم بالنعمِ
وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5275)
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الفتن
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
12/8/1423
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آثار قسوة القلب. 2- الذنوب وأثرها على الفرد. 3- الدنيا دار نكد وبلاء. 4- المنجي من الفتن والبلايا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، يجذِب المتدبرَ لكتاب الله آيةٌ قرآنية شريفة، تكشف حال كثير من الناس، من وعاها وعى كل خير، ومن تدبرها فاز بموعظتها وهدايتها: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126].
تنزل بفئام المحن والرزايا فلا يتوبون ولا ينتهون، وتزورهم الأسقام والبليات فلا يتعظون ولا يذّكّرون! لكأنّ القلوب قاسية والنفوس خاوية، مع أنها تصلّي وتصوم وتحج وتتصدق!
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ، لقد شاهدوا الفتن والمصائب في أنفسهم وأهليهم وجيرانهم وفي أمتهم، فما لهم لا يتعظون؟! وما لهم لا يتذكرون؟! لم لا يقطعون من فتنة أكلت وافترست؟! ولم لا يعتبرون من مصيبة فتكت وأفنت؟! فالصحة نقصت والمال تلاشى، والسيادة تكدرت والراحة تعكرت، والموت في كل ساعة له حاجة وغاية، فما لنا من متّعظ، وما لنا مزدجَر، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
إن الإنسان ـ عباد الله ـ مبتلى في هذه الحياة، وممتحن في نفسه وماله وأهله، فالكافر يبتلى، والمسلم يبتلى، ولكن الكافر يبتلى فيضلّ طريقه وربما نزع لشهوته وهواه، والمؤمن إذا ابتُلي عرف طريقه وأبصر ربه، وأدرك أن وجهته إلى الله، وأن شفاءه إلى الحي القيوم، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11].
وقد قال رَجل الجاهلية قبل إسلامه لما سأله النبي : كم تعبد إلهًا؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال له النبي : ((من الذي تُعد لرغبك ورهبك؟)) قال: الذي في السماء.
فهذا مشرك يعترف بأن ملاذه ومفزعه إلى الله تعالى إذا ألمت الملمات، فكيف بمؤمن يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويؤمن بسر الله في خلقه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف. مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [الحديد: 22].
إن إدراك المسلم بأن الله مقدر الأقدار وخالق كل شيء يهوّن عليه مصابه، ويدفعه إلى الخضوع لربه والانطراح بين يديه والاعتماد عليه، حين تنزل الأركان وتهتز القوائم والعمدان.
وإن المؤمن في كربه وفي خضم شدته ليأوي إلى ركن شديد وإلى عماد متين، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53].
أيها الإخوة الكرام، لا تزال الحياة دار ابتلاء وامتحان، يبتلى فيها أهل الإيمان على قدر إيمانهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فله السخط، الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيكم أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [الملك: 2].
لقد أحسَّ كثير من الناس وأيقنوا بفظاعة البلوى وحرارة المصيبة، ولكن القليل من يعتبر، واليسير من يتنبه ويتفكر، فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 86].
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاء والأكدارِ
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلِّب فِي الْماء جذوة نارِ
ابتلي مُحرِز الأموال وجمّاعها فما أحدث له توبة! وما بذل من ماله لله شيئا! وانهارت تجارة فلان فما فزع إلى الله! وتضاعف السقم على بعضهم فما انكسر لله! ولا تواضع لعباد الله تعالى! وتوالت الفتن على الأمة فما عُرف الله ولا تسارعوا إليه!
لماذا لا تحرك الفتن والرزيات قلوب بعض الناس، فتنقلها من الردى للهدى، ومن السقم للصحة، ومن الضلال للصلاح، ومن الموت للحياة، ومن الغفلة لليقظة والاعتبار؟! فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. هل ماتت قلوب هؤلاء، أم أنها تعيش في دار مغلقة لا يصل إليها النور ولا تنفذ إليها الموعظة؟! وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
مسلم متبصر ابتلي في ماله فما تغير، وافتتن في نفسه فما تفكر، وأوذي في ولده فما اتعظ، فيا للعجب! ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].
يُنتَفَع ببعض الأحجار ولا ينتَفَع بقلوب هؤلاء القساة التي أماتتها الذنوب وأصمتها المعاصي وأهلكها حب الدنيا والتعلق بها، ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)).
ما أمات القلوبَ ـ يا مسلمون ـ شيء كالذنوب، ولا أحياها شيء كذكر الله والإقبال على طاعته ومجاهدة النفس على ذلك، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
لماذا لا تتوبون وقد فرقتكم المصائب؟! ولماذا لا تنتهون وقد أضنتكم الأسقام وشقت فيكم البليات؟! فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، ومن يرد الله به خيرًا يُصب منه ويزد في بلائه؛ ليرفع درجاته ويمحص عنه سيئاته، فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
إن الفتن والبلايا ـ عباد الله ـ محَكّ اختبار الخلق، وخليق بمن ذاق حرارتها أن يتوب إلى ربه، ويفرّ إلى خالقه تائبًا منيبًا مستغفرًا، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
هل يصبح هؤلاء كالكفرة والمنافقين، لا يتعظون بآيات الله، ولا يتذكرون بما يرون من ملاقٍ ويواجهون من شدائد؟! أين دين تعلقوا به وربٌ آمنوا به وقرآن قرؤوه وحفظوه ورددوه ورتلوه؟! أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 74]. وقد كان نبينا إذا حزنه شيء فزع إلى الصلاة، وهو فرار إلى الله وخضوع بين يديه.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء، إن المنجى من الفتنة والمهرَب من البلاء إلى الله عز وجل، فهو المفرج والمعين والمولى والنصير.
فليس حَلُّ الفتنة بمزيد الغفلة، ولا شفاء البلية بالركض وراء الشهوة، وليس علاج الكرب دوام اللهو واللعب أو التجزع والتسخط، كلا، إن المرَدّ والمنجي إلى الباري تبارك وتعالى، فهو نصير عباده ومولى صالحيهم ومجيب دعواتهم ومفرج همومهم وكروبهم، فهو ثقة كل مؤمن، ورجاء كل مصلٍ وقانت، أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 61]. فالله تعالى ـ يا مسكين ـ يجيب دعاءك ويفرج همك وينفّس كربك ويرفع معصيتك ويقضي حاجتك، وإنك به لموصول إذا ذكرته وعبدته وفوضت الأمر إليه، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
تخيل، ينقلب الحزن إلى سرور، والعسر إلى يسر، وتزول المحنة إلى منحة، ويصير الضعف قوة والسقم صحة وعافية، كل ذلك بفضل الإيمان ودوام الذكر والابتهال للواحد الديان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه". وذكروا عن الأحنف بن قيس رحمه الله الحكيم والحليم المشهور قوله: إن عينه ذهبت من أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد.
فأين الذي يشكو للناس ولا يشكو لخالقه، ويعالج البلاء بلهو وهناء، أو يدفعه بسخط واعتراض، غافلاً عن مقام الصبر والتسليم لله تعالى؟! قال تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43]. وكان الإمام أحمد يئن في مرضه، فحدثوه عن طاووس أن أنين المريض شكوى، فما أنَّ حتى مات رحمه الله.
وفي الصحيح عن رسولنا قال: ((وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسعَ من الصبر)). فأول خطوة لممتحنٍ الرضا، ثم الصبر، ثم التسليم، ثم الفرار إلى الله تعالى. وقال عمر رضي الله عنه: (أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا).
فمفتاح الفرج من البلاء والكرب هو الصبر، وعنوان الرضا حمد لله تعالى، وطيب العيش الفزع إلى الله ودوام ذكره وعبادته، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
قال ابن عباس لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! هذه المرأة السوداء أتت إلى رسول الله ، فقالت له: يا رسول الله، إني أُصرَع، فادع الله لي، فقال: ((إنْ شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيكِ)) ، فقالت: أصبر، ثم قالت: يا رسول الله، إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. فهذه امرأة صبرت واحتسبت فطريقها الجنة، وما أزكى عقلها! وما أصبرها!
ففروا ـ عِباد اللهِ ـ إلى الله، واعلموا أنكم في دار النكد والبلاء، وما صفت لأحد، وما دامت لشريف ولا كبير، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 82].
اللهم أعِزَّنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك...
(1/5276)
أهمية الدعاء واللجوء إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, الفتن
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام أول داعٍ إلى الاستعداد والتسلح. 2- الدعاء سلاح الأنبياء والمؤمنين. 3- منزلة الدعاء وفضله. 4- حاجة كل الناس إلى الدعاء خاصة حال الأزمات والشدائد. 5- نماذج من دعوات الأنبياء عليهم السلام. 6- أوقات وأحوال إجابة الدعاء. 7- ما ينبغي أن يكون عليه المسلم حال الفتن والأزمات. 8- وقفات مع دعاء من أدعية النبي. 9- أهمية الصدق في الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَعَلَيْكُم بِتَقْوَى اللهِ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، فَالزَمُوهَا فَإِنَّهَا الطَّرِيقُ إِلى جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاواتُ والأرْضُ، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
أيُّهَا النَّاسُ، تَتَسَابقُ الأُمَمُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ عَلَى التَّقَدُّمِ والرُّقِيِّ فِي دَاخِلهَا، وَعَلَى قَدْرِ تَقَدُّمِهَا في البِنَاءِ بِقدْر تَقَدُّمِهَا في هَدْمِ مَا بَنَتْ فِي وَقتٍ يَسِيرٍ، فِي سِبَاقٍ عَاجِلٍ للتَّسَلُّحِ، غَيرَ أنَّ الإسْلاَمَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلى التَّسَلُّحِ وَالاسْتِعْدَادِ؛ لأنَّ المُؤمِنَ لَيسَ ضَعِيفًا وَلاَ غِرًّا. نَعمْ، الاسْتِعْدَادُ بِسِلاَحِ الإيمانِ وَالتَّقْوَى الَّذِي لاَ يَغْلِبُهُ أَحدٌ، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. وَمَنْ تَأمَّلَ ـ عِبادَ اللهِ ـ هَذَا الدِّينَ وَجَدَ بِدَاخِلهِ أَسْلِحَةً لَم يُوجِدِ النَّاسُ لَها مَا يُضَادُّهَا عَلَى مَرِّ الزَّمَنِ، بَلْ إِنَّهُ منذُ أَنْ خُلِقتِ الدُّنْيَا وَثَمَّةَ سِلاَح كَرَّرَ القرآنُ ذِكرَهَ وَاسْتِنْجَادَ المَؤمِنِينَ بِهِ فِي أَوقَاتِ ضِيقِهم وَشِدَّتِهم وَانْتِصَارِهم عَلَى أَعْدَائهِم.
عِبادَ اللهِ، حَتَّى أَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ وَهُم المؤيَّدُونَ مِنَ اللهِ كَانَ هَذَا السِّلاَحُ مَعهمْ في كُلِّ وَقتٍ؛ لأَنَّهُ اسْتِنْجَادٌ بِمَنْ يَمْلِكُ القُوةَ والنَّصْرَ، وإقْرَارٌ بِتوحِيدِ اللهِ وَأَنَّهُ عَلَى كَلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ وَلاَ مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ، وَأَنهُ يَعْلَو عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
الدُّعَاءُ ـ أيُّها الإخْوَةُ ـ سِلاَحُ المؤمِنينَ فِي كُلِّ وَقتٍ، الدُّعَاءُ مَنْزِلَتُهُ عَظِيمَةٌ وَدَرَجَتُهُ رَفِيعَةٌ فِي دِينِ الإسلامِ، بَل هُوَ العِبادَةُ كُلُّهَا، بِهِ تُسْتَجلَبُ الرَّحْمَةُ، وَبِهِ تُسْتَدْفَعُ النِّقْمَةُ، بِهِ يَظْهَرُ الافْتقَارُ وَالذِّلَةُ وَالتَّبَرُّؤُ مِنَ الحَولِ وَالقُوةِ إلاَّ لله سُبحَانَهُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَابنْ حِبَّانَ وَالحَاكِم وَصَحَّحهُ عَن أبِي هُرَيرَةَ أنَّ رَسُولَ الله قال: ((لَيسَ شَيءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)).
أَيُّها النَّاسُ، الدُّعَاءُ عِبَادةٌ مِنْ أَسهَلِ العِبَادَاتِ وَأَيسَرِهَا، وَمِنْ سَهْولَتهِ أَنَّهُ لاَ وَقْتَ لَه، بَلْ هَوَ فِي كُلِّ وَقتٍ وَكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، وَمَا كَانَ النَّبيُّ يَحْرِصُ عَلَى شَيءٍ حرْصَهُ عَلَى تَعلِيمِ صَحَابتِهِ للدُّعَاءِ وَتَلقِينِهِ لَهمْ كَمَا يُلَقِّنُهم السُّورَةَ مِنَ القُرَآنِ.
وَتَزْدَادُ حَاجَةُ النَّاسِ إلى الدُّعَاءِ في أَوقَاتِ ضيقهم وَكُربِهم، وَعنْدَ الْتِحَامِ الشَّدائِدِ هُم فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إلى رَبِّهم، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62].
الدُّعَاءُ أَكرمُ شَيءٍ عَلَى اللهِ، هُوَ طَرِيقٌ للصَّبرِ فِي سَبيلِ اللهِ، وَصِدْقٌ فِي الالْتِجَاءِ إِلَيهِ وَتَفْويضِ الأُمورِ إليهِ سُبحَانَهُ، وَتوكّلٌ عَلَيهِ، وَبُعْدٌ عِنِ العَجْزِ والكَسَلِ، واسْتِعَانةٌ بِمَنْ يَمْلكُ العَونَ وَحدَهُ.
وَهَذَا كِتَابُ اللهِ بَينَ أيدِيكُمْ لَم تَرِدْ قِصَّةُ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِيَاءِ إِلاَّ وَبِدَاخِلِهَا دُعَاءٌ ولُجُوءٌ إِلى اللهِ باِلنَّصْرِ وَالتَّأيِيدِ عَلَى الأَعْدَاءِ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 118]، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 168، 169]، وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 88]، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61، 62]، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250].
الدُّعَاءُ ـ أيُّها النَّاسُ ـ هُوَ السِّلاَحُ الَّذِي مَتَى كَانَ صَادِقًا صَوابًا لَم يُوجَدْ لَه مُضَادٌ، وَانْظُرُوا كيفَ أَنَّ الكُفَّارَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّعَاءَ لَيسَ بهَيِّنٍ حِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى فَقَالُوا: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 134].
الدُّعَاءُ هُوَ السِّلاَحُ الَّذِي لاَ يُبْصرُه الأعْدَاءُ، الدُّعَاءُ هُو سِلاَحُ المُؤمِنِ دَائِمًا، قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح: 21-28].
أيُّها النَّاسُ، الدُّعَاءُ حِصْنٌ يَلْجَأُ إِليهِ المُؤمِنُ حَالَ الضِيقِ وَالشِّدَّةِ، وَاسْمَعُوا مَا قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ: وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127].
وَبعدُ: أيُّها النَّاسُ، فَلَيسَ الدُّعَاءُ نَافعًا إذَا لم يخرُجْ مِنْ نُفُوسٍ مُؤمِنَةٍ وَقُلُوبٍ صَادِقَةٍ، وأَفْضَلُ الدُّعَاءِ مَا كَانَ بِظَهر الغَيبِ، وَأَسْمَعُهُ حِينَ يَكْونُ الثُّلثُ الآخِرُ مِنَ الَّليلِ، وَلِيَعلَمِ النَّاسُ أَنَّ الاقْتِدَاءَ بِأدْعِيَةِ النَّبِيِّ مَطْلَبٌ مُؤَكدٌ حَالَ دُعَاءِ الدَّاعِي، وَلِيعلَمِ النَّاسُ أنَّ اسْتحْضَارَ مَعَانِي الدُّعَاءِ حَالَ قَولِهِ أمرٌ مُهِمٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ صَادِقةٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ غَافِلٍ لاَهٍ.
وَبَينَ يَدَيَّ دُعَاءٌ مِنْ أَربعِ جُمَلٍ كَانَ يَدعُو بِهِ ، جَمَع مَعَاني عَظِيمَةً، فاحْفَظُوه وادْعُوا بهِ؛ لأنَّ مَنْ دَعَا بِهِ فَقدْ دَعَا بِأمرٍ عَظِيمٍ جَامِعِ.
رَوَى الإمَامُ مُسلمٌ وَأبُو دَاودَ عن عَبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِي اللهُ عنهما قالَ: كانَ منْ أَدعِيةِ النَّبِيِّ : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وفجاءَةِ نِقْمَتِكَ وجَمِيعِ سَخَطِكَ)).
النِّعَمُ لاَ يَعرِفُ قَدْرَهَا ـ عِبادَ اللهِ ـ إلاَّ مَنْ فَقَدْهَا، ولاَ نِعمةَ أعظَم مِنْ نِعمَةِ الإسلامِ، فَإِنَّ الإسْلاَمَ إِذَا زَالَ زَالَ كُلُّ شَيءٍ، وَالمقْصُودُ مِنْ زَوالِ النِّعَمِ انْتَهاؤهَا وَفَنَاؤُهَا، وَعَلَى عِظَمِ هَذَا الدِّينِ يعظمَ خُرُوج المَرءِ مِنهُ، يَقُول الرَّسُولُ : ((مَنْ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحدُهُمَا)) رَوَاهُ الإمَامَ أَحمدُ، وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمسلمٌ عِن عُمَرَ أَنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإلاَّ رَجَعتْ عَلَيهِ)) ، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالكُفْرِ أَو قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيسَ كَذلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فَانْظُرُوا أَنَّ نِعْمَةً قَدْ يُنْقِصُ المرءُ كَمَالهَا بِلَفْظٍ يَسِيرٍ فَكَيفَ غَيرُهَا؟! اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ.
أيُّهَا النَّاسُ، مَا أَكثَر مَا يَسْأَلُ النَّاسُ رَبَّهمْ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، وَغَالِبُهمْ لاَ يَدْرِي مَا العَافِيَةُ المَقْصَودَةُ، إِنَّ العَافِيَةَ فِي البَدَنِ مِنَ الأَمْرَاضِ مَا هِيَ إِلاَّ جِزءٌ يَسِيرٌ مِنَ العَافِيَةِ الحَقِيقِيَّةِ، العَافِيةُ هِيَ أَنْ تُعَافَى مِنْ تَعْرِيضِ دِينِكَ لأُمُورٍ تُنْقِصُهُ، العَافِيةُ أَنْ يَسْلَمَ الإِنْسَانُ مِنَ الفِتَنِ، العَافِيَةُ هِيَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ حِينَمَا قَالَ عَنْ آخِرِ الزَّمَانِ: ((يوشِكُ أنْ يكُونَ خيرُ مَالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ؛ يفِرُّ بِدينهِ منَ الفِتَنِ)) رواه البخاريُّ.
وَكَمَا تَرَونَ ـ أيُّها الإخْوَةُ ـ فَإِنَّ فِئامًا مِنَ المَرْضَى يَشْتَرونَ المَرَضَ شِرَاءً كَمَا هُوَ حَالُ أصحابِ المُخَدِّرَاتِ وَالمُسْكِرَاتِ، فَكَذَلِكَ الحَالُ فِي أُنَاسٍ كَفَاهُم اللهُ أنْ يَكُونُوا طَرَفًا في فتْنَةٍ أَو بَابًا إِلى حَرْبٍ، وَيَأبَونَ إلاَّ أَنْ يقحِمُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، وَرَحِمَ اللهُ سَعِيدَ بنَ جُبَيرٍ، فَقَدْ أُثِرَ عَنْهُ أَنَّه قَالَ حينَ سُئِلَ عَنْ دِمَاءِ الصَّحَابةِ، قَالَ: تلكَ فِتنةٌ عَصَمَ اللهُ مِنْهَا يَدِي أَفَلاَ أُطَهِّرُ منها لِسَاني؟! وَقَالَ هَذِهِ الكَلِمةَ بَعدَهُ كَثيرٌ مِنَ السَّلَفِ. وَمِمَّا أثِرَ عِنِ الحَسنِ البَصْرِيِّ أَنَّه قَالَ: "مِنْ عَلاَمَةِ إعَرَاضِ اللهِ عَنْ عَبدِه أنْ يَجْعَلَ شُغْلَه فِيما لاَ يَعنِيه". وَقَالَ أَحد السَّلفِ: "هَلاَكُ النَّاسِ فِي خَصْلَتينِ: فُضُولُ مَالٍ وَفُضولُ مَقالٍ". اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَوعَّدَ العُصَاةَ بِالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّ العُقُوبَةَ تَشْتَدُّ إِذَا كَانَتْ فَجأةً مِنْ غَيرِ سَابِقِ إِنْذَارٍ، كَمَا أَنَّ عُقُوبَاتِ اللهِ مُتَنَوعَةٌ، فَقَدْ تَكُونُ فِي ظَاهِرهَا نِعْمَةً وَهِيَ عُقُوبَةٌ مِنَ الله، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف: 133]. اللَّهُمَّ إنَّا نَعْوذُ بِكَ مِنْ فجاءَةِ نِقْمَتِكَ.
أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ إذَا سَخِطَ عَلَى قَومٍ أَشْغَلَهمْ بِمَا يَكُونُ بِهِ هَلاَكُهم، وَسَخَطُ اللهِ شَدِيدٌ إِذَا خَالفَ النَّاسُ أَمْرَهُ وَابْتَعَدُوا عَنْ هَدِي نَبيِّهِ ، وَرَوَى البُخَاريُّ فِي صَحِيحِهِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)) ، وَكَانَ مِنْ دُعَائه فِي الوِتْرِ: ((اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ)) رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالبُخَاريُّ فِي الأَدَبِ المُفردِ وَهَذَا لَفظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إنَّ اللهَ يْرضَى لكُم ثلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُم ثَلاثًا: يَرْضى لَكُم أنْ تَعْبدُوهُ ولا تُشْرِكوا بهِ شيئًا، وأنْ تَعْتَصِموا بحبلِ اللهِ جَميعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحَوا مَنْ وَلاَّه اللهُ أَمْرَكُم، وَيَسْخَطُ لَكُم: قِيلَ وقال، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ المَالِ)).
أيُّهَا الإخوةُ، إِنَّ النَّاسَ لاَ يَقْوَونَ عَلَى سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ، فَأكْثِرُوا مِنَ الاسْتِعَاذَةِ مِنْ غَضَبِهِ سُبحَانَهُ. اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَمِيع سَخَطِكَ.
فَانْظُروا كَيفَ أَنَّ هذَا الدُّعَاءَ علَى اختصَارِ جُمَلِهِ قَدْ حَوَى مَعاني عَظِيمَة، وَفَّقَنَا اللهُ لِكُلِّ خَيرٍ.
أقُولُ قَولي هَذَ،ا وَأسْتَغْفرُ اللهَ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ، مَالِكِ الخَلْقِ ومُوجِدِهِم، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إهْلاَكِهم كَمَا خَلَقَهُم، وَأشهدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدهُ لاَ شَريكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عبده وَرسولُهُ، صلَّى الله عَليهِ وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا.
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّعَاءَ سِلاَحٌ لَيسَ لَهُ ثَمَنٌ، فَالنَّاسُ فِيهِ سَواءٌ؛ غَنِيُّهمْ وَفَقِيرُهُمْ وَحَقِيرُهُمْ، وَإنَّما تَتَبيَّنُ الأُمُورُ وَتَتضِحُ إِذَا صَدَقَ النَّاسُ فِي لُجوئِهم إِليِهِ سُبْحَانَهُ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام: 63-65].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ الحَدِيثَ مَعَ النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ مَكَانَتِهمْ، فَإِقْحَامُ عَامَةِ النَّاسِ فِي أُمُورٍ هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الوُلاَةِ مِنَ الخَلْطِ وَالغَلَطِ، وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي إحْدَى مُدنِ العِرَاقِ فِي القَرْنِ الخَامِسِ أَرْسَلَ بَعْضٌ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ سُؤَالاً إِلى الإِمَامِ ابِنِ البَنَّا يَسْتَفْتُونَهُ فِي تِلْكَ الفِتْنَةِ، فَأَجَابَهمْ بِرسَالَةٍ مُؤَلَّفَةٍ سَمَّاهَا: (الرِّسَالةُ المُغْنِيَةُ فِي السُّكُوتِ وَلُزُومِ البُيُوتِ).
فَالزَمُوا الدُّعَاءَ؛ فَإِنَّهُ نِعْمَ العَونُ حَالَ الفِتَنِ واخْتِلاَلِ الأُمُورِ.
اللَّهُمَّ أَلْهِمنَا رُشْدَنَا، وَقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا، اللَّهمَّ اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا، اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وفجاءَةِ نِقْمَتِكَ وجَمِيعِ سَخَطِك، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاَقِ والأقوالِ والأَعْمَالِ...
(1/5277)
الأمر بالعلاج والتداوي
فقه
المرضى والطب
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الإسلام على احترام الإنسان وصيانته والحفاظ عليه. 2- الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلى المرضى. 3- للأمراض فوائد كثيرة. 4- أمر الإسلام بالعلاج والتداوي. 5- من هدي النبي التداوي والأمر به. 6- أصناف الناس تجاه الرقية الشرعية. 7- ومضات شرعية للرقية الشرعية. 8- محاذير شرعية في التداوي والعلاج. 9- أمور لا بد من معرفتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ الوَصِيَّةَ هِيَ أنْ تَتَّقُوا اللهَ في جَميعِ أمُورِكُمْ، فإنَّ تقوى الله هِيَ الملتَجَأُ عندَ البَلايَا وهِيَ السُّلْوانُ عندَ الهمُومِ والرَّزَايا.
عبادَ الله، الإنسانُ في نَظَرِ الإسلامِ أغلَى ثَروةٍ وأكرمُ مَخلوقٍ، يُجِلُّهُ ويحتَرِمُهُ ويَصُونُهُ ويحفَظَهُ، ويَعمَلُ لِنُمُوِّهِ وكمالهِ، وعَلى حَقنِ دَمِه وبَقاءِ نَوعِهِ ونُضُوجِ عَقلِهِ وتَقَدُّمِ وَعْيهِ وبُلُوغِهِ مِنَ الرُّقيِّ والتَّقدُّمِ الحُدُودَ الممكنَةَ والمسْتَطاعَةَ ليكُونَ في أحْسَنِ تقويمٍ. ولكِنَّ الإنسَانَ في هذِهِ الحياةِ هَدفٌ للبَلايَا والمِحَنْ، ولا يَخلُو حَيٌّ مِن نَكَدٍ، ولا يَصْفُو وَقْتٌ مِنْ كَدَرٍ. ومِحَنُ الحَياةِ وشَدائِدهَا امتِحَانٌ واخْتِبَارٌ، فَمَنْ رَضِيَ فلَهُ الرِّضَا، ومَنْ سَخِطَ فعَليهِ السَّخَطُ، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1-3]، ويقولُ : ((عَجَبًا لأمرِ المؤمِنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ، وليسَ ذلكَ إلاَّ للُمؤمِنِ، إنْ أصابَتهُ سَرَّاء شَكَرَ فكَانَ خيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكَانَ خيرًا لهُ)).
وإنَّ مِنْ أعظَمِ ما يُصيبُ الإنسَانَ في حَياتِهِ مِنَ الابتِلاءِ الابتِلاءَ بالأمْرَاضِ والأسْقامِ، النَّاسُ ـ عبادَ الله ـ مُجمِعُونَ إجماعًا لا شَكَّ فيهِ أنَّ الصِّحةَ تاجٌ لا يعْرِفُهُ إلاَّ المَرْضَى، الصِّحةُ والعَافِيَةُ نِعمةٌ مَغْبونٌ فيها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، ولكنَّ المَرَضَ مُنْتشرٌ بينَ بَني آدمَ انْتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، لا يَخْلُو مِنهُ زَمانٌ ولا يَسْلَمُ منهُ عَصْرٌ، بَلْ لا يسْلَمُ منهُ أحَدٌ إلاَّ مَنْ رَحِم الله، بَلْ إنَّ الوَاحِدَ إنْ سَلِمَ مِنْ شِدَّةِ مَرَضٍ فلا بُدَّ أنْ يُصيبَهُ شَيءٌ مِنْ رشَاشَهِ المتَنَاثِرِ هُنَا وهُنَاكَ.
ثَمانيةٌ لا بُدَّ مِنَها عَلى الفَتَى ولا بُدَّ أنْ يجري عَلَيهِ الثَّمانِيه
سُرورٌ وهَمٌّ واجْتِمَاعٌ وفُرقَةٌ ويُسْرٌ وعُسْرٌ ثُمَّ سُقْمٌ وعَافِيهْ
الأمْراضُ والأسْقامُ وإنْ كَانَتْ ذَاتَ مَرَارَةٍ وثِقَلٍ واشْتِدَادٍ وعَرَكٍ، إلاَّ أنَّ البَاري جَلَّ شأنهُ جَعَلَ لها حِكَمًا وفَوائِدَ كثيرَةً، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا وجَهِلَهَا مَنْ جَهِلهَا، ولَقَدْ أحصَى الإمامُ أبنُ القَيِّمِ في كِتابهِ شِفَاءِ العَليلِ مَا للمَرَضِ مِنْ فَوائدَ وحِكَمٍ فزَادَتْ على مائةِ فائدةٍ وقالَ: "انْتِفاعُ القَلبِ والرُّوحِ بالآلامِ والأمْرَاضِ أمْرٌ لا يُحسُّ بهِ إلا مَنْ فيهِ حَياةٌ، فصِحَةُ القُلُوبِ والأرْواحِ موقُوفَةٌ على آلامِ الأبْدانِ ومَشَاقها" اهـ.
ومِنْ هذَا المُنطَلق فإنَّ المَرَضَ يجتَمِعُ فيهِ الكَافِرُ والمسْلِمُ والبَرُّ الفَاجِرُ، ولكنَّهُمْ يفتَرِقُونَ في الثَّمَرَةِ، يَقُولُ ابنُ مَسْعودٍ : (إنَّكُم تَرَونَ الكافِرَ مِنْ أصحَّ النَّاسِ جِسمًا وأمرَضهُمْ قَلْبًا، وتَلقونَ المؤمِنَ مِنْ أصَحِّ النَّاسِ قَلبًا وأمرَضِهمْ جِسْمًا، وايْمُ الله لو مَرِضَتْ قُلوبُكمْ وصَحَّت أجْسَامَكمْ لكُنتُمْ أهوَنَ على اللهِ مِنَ الجُعْلاَنِ)، ودَخَل سَلمانُ الفَارسيُّ عَلَى مَريضٍ يَعُودُه فقَالَ لَهُ: (أبشِرْ فإنَّ مَرَضَ المؤمِنِ يجعلُهُ الله كَفَّارةً ومستَعْتبًا، وإنَّ مَرَضَ الفاجِرِ كالبعيرِ عَقَلهُ أهلُهُ ثُمَّ أرسَلُوهُ، فلا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ ولا لِمَ أُرْسِلَ ).
وبعدُ: أيُّها النَّاسُ، فإنَّ الإسلامَ جَاءَ للمُحَافَظةِ على بَني البَشَرِ، فلا يَنْبغِي للمُسلِمِ أنْ يستَسلِمَ للمَرَضِ عَجزًا وكَسلاً، لقدْ جَاءَ الإسلامُ بالعِلاجِ والأمرِ بالتَّدَاوي، بَلْ لقدْ بَنَى لنَا رَسُولُ الله قَواعِدَ في العِلاجِ وكَيفَ تسيرُ عَليهِ، ولكنْ قبلَ ذَلِكَ أُمُورٌ لا بُدَّ مِنْ مَعرِفَتِها، وهِيَ أنْ يَعْلَمَ المرءُ أنَّ ما أصَابَهُ إنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ سُبحانهُ، وأنَّهُ بِقضاءٍ وقَدَرٍ، فلا مَجالَ للتَّشكِّي والتَّضجُّرِ، وليَعْلَمْ أنَّه ما أصابَهُ شيءٌ إلا بسَبَبِ ذُنوبهِ، ومِنْ حِكْمَةِ الله أنْ يُعَجِّلَ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، فلا بُدَّ إذَنْ للمَريضِ مِنْ تَوبَةٍ واسْتِغْفَارٍ وشُكرٍ لله أنْ جَعَل عُقُوبتَهُ في الدُّنْيَا دُونَ الآخِرَة، وعَلى المريضِ أنْ يتوكَّلَ عَلى اللهِ وأنْ يعتَمِدَ عليهِ في زَوَالِ مَا أصَابَهُ.
عبادَ اللهِ، كَانَ مِنْ هَديهِ فِعلُ التَّداوي في نفْسِهِ والأمر بهِ لمَنْ أصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أهلِهِ وأصْحَابِهِ، بَلْ لقدْ أخْبَرَ أنَّهُ مَا مِنْ مَرضٍ إلاَّ ولَهُ دَواءٌ، ولكِنَّ النَّاسَ لا يَعْلَمونَ. رَوى مُسلمٌ في صَحيحهِ عَن جابرٍ أنَّ النبيَّ قالَ: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فإذَا أُصيبَ دَوَاء الدَّاءِ بَرأ بإذنِ اللهِ تَعالَى)).
ولكنَّ الدَّواءَ لا يجوزُ إلاَّ إذَا كانَ فيهِ أمْرَانِ: أنْ يَكُونَ مُبَاحًا غَيرَ حَرَامٍ، وأنْ يَكُونَ نَافِعًا لهُ فائدَةٌ، فَإنَّ الإنْسَانَ لا يَمْلِكُ نَفسَهُ حَتَّى يجعَلَهَا مَحَلَّ تجَارُبٍ لأدوِيَةٍ قَدْ تُفلِحُ وقَدْ لا تُفْلِحُ، يَقُولُ : ((تَدَاوُوا عِبادَ اللهِ، ولا تَتَدَاوَوْا بِحَرامٍ)) رَواه أحمدُ وأصْحَابُ السُّنَن بسندٍ صحيح. ويَقُولُ ابنُ مَسْعودٍ: (إنَّ الله لم يَجعَلْ شِفاءَكمْ في ما حَرَّمَ عَليكُمْ).
عِبادَ الله، رَوى الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجَه والتِّرمذيُّ بسندٍ صحيحٍ أنَّ النبيَّ قَالَ: ((مَا مَلأ ابنُ آدمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بحَسْبِ ابنِ آدمَ لُقَيماتٍ يُقِمْنَ صُلبَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلاً فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرابهِ، وثُلثٌ لِنَفَسِهِ)).
هذَا حديثٌ عظيمٌ، مِن أعظَمِ أحَاديثِ العِلاجِ والتَّداوي، وهُوَ الكلامُ عَنِ الغِذَاءِ والحِمْيةِ. يَقُولُ أهلُ الطِّبِّ كما ذَكَر ابنُ القَيِّم: كُلّ دَاءٍ قُدِرَ عَلى دَفْعهِ بالأغْذِيَةِ والحِمْيةِ لم يُحَاوَل دَفْعُه بالأدوِيَةِ، وقَد اتَّفَقُوا عَلى ذلِكَ، وذَكَر أنَّهُم قَالُوا: لا يَنْبَغي للطَّبيبِ أنْ يُولَعَ بسَقْي الأدْويةِ؛ فإنَّ الدَّواءَ إذَا لم يَجدْ في البَدَنِ داءً يُحلِّلُه أو وَجَدَ دَاءً لا يُوَافِقُهُ أو زادَتْ كَمِّيتهُ قليلاً تشَبَّث في الصِّحةِ وعَبَثَ بِهَا.
ولَقدْ اجْتَهدَ الأطبَّاءُ في إيجادِ أدويَةٍ لكثيرٍ من أمْراضِ بَني آدَمَ، وليسَ مِنهَا محظُورٌ إلا ما كَانَ مَصنُوعًا من حَرَامٍ أو هُوَ حَرامٌ في نَفْسِه كالخَمْرِ ومَا مَاثَلهُ، يَقُولُ أحدُ السَّلفِ رحمهُ الله: "مَهْمَا اجْتَهَدَ الأطبَّاءُ في أدْويتهِم فإنَّ ما عِنْدهُمْ لا يُساوي شيئًا في جانِبِ ما أعْطَانَا الله ـ مَعَاشِرَ المسْلِمينَ ـ مِنَ الأدويَةِ القَلْبيَّةِ والرُّوحانِيَّةِ وقُوةِ القَلبِ واعتِمادهِ على الله والتَّوكُّلِ عَليهِ والالْتِجَاءِ إليهِ والانْطِراحِ والانْكِسارِ بينَ يَدَيهِ والتَّذلُّلِ لهُ والصَّدَقةِ والدُّعَاءِ والتَّوبَةِ والاسْتِغفارِ والإحسْانِ إلى الخَلقِ وإغاثَةِ الملْهُوفِ والتَّفْريجِ عَنِ المكْرُوبِ، فإنَّ هذِهِ الأدوِيَةَ قَدْ جَرَّبَتْهَا الأمَمُ عَلى اختِلافِ أدْيانِهَا ومِلَلِهَا، فوَجَدُوا لهاَ مِنَ التَّأثيرِ في الشِّفَاءِ ما لا يَصِلُ إليهِ عِلمُ أعْلَمِ الأطبَّاءِ".
أيُّها الناسُ، إنَّ مِنَ العلاجِ الذي أرْشَدَنا إليهِ دينُنَا لِدَفْعِ الأمْرَاضِ والأسْقامِ هُوَ ذلِكَ العِلاجُ الذي صَارَ النَّاسُ فيه بينَ غُلُوٍّ وتَقصيرٍ، وأهْمَلُوا جَانِبًا مِنهُ، وحَرِصُوا عَلى جَانبٍ آخَرَ مِنهُ، إنَّها ـ عِبادَ الله ـ الرُّقْيَةُ الشَّرعيَّةُ، لقَدْ رَقَى نفْسَهُ، ورَقَى أهلَهُ، وأمَرَ الصَّحابةَ بالرُّقَيَةِ، وقالَ: ((لا بَأسَ بالرُّقْيَةِ بمَا لَيْسَ فيهِ شِرْكٌ)) لما قالَ لهُ أحدُ الصَّحابةِ: كُنَّا نَرْقي في الجَاهليَّةِ، كيفَ تَرَى ذلكَ يا رَسولَ الله؟ رَواهُ مسلمٌ، وقالَ : ((لا رُقيَةَ إلاَّ مِنْ عَينٍ أو حِمةٍ)) ، بَلْ لقدْ رَقَى بعضَ أهلهِ، تقولُ عَائشةَ رضيَ اللهُ عنهَا: إنَّ رسولَ الله كانَ يُعوّذُ بعضَ أهلِهِ؛ يَمسَحُ بيدهِ اليُمنَى ويقولُ: ((اللهمَّ ربَّ الناسِ، أذْهِبِ البَأسَ، اشْفِ أنتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إلا شِفاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا)) مُتفقٌ عَلَيهِ، بَلْ إنَّ عائِشَةَ رَضِيَ الله عَنهَا رَقَتْ النبيَّ ، تَقولُ رضيَ الله عنها: كاَن رسُولُ الله إذَا اشْتَكَى يقرَأ عَلى نفسِهِ بالمعَوّذاتِ ويَنفُثُ، فلمَّا اشتَدَّ وجَعُهُ كُنتُ أقرأُ عليهِ وأمْسَحُ عليهِ بيمينهِ رَجَاء بَرَكتَها. رَواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ. وروى مُسلمٌ عن أبي سَعيدٍ الخدريِّ رضيَ الله عنهُ أنَّ جبريلَ أتى النبيَّ فَقالَ: ((يا مُحمَّد، أشْتَكيتَ؟)) قالَ رسولَ الله: ((نعمْ)) ، قال جبريلُ: باسمِ الله أرقيكَ، مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤذيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفسٍ وعَينٍ الله يَشْفيكَ.
وإنَّ أعظمَ الرُّقَى ـ عبادَ اللهِ ـ مَا كَانَ بكتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ؛ إذْ هوَ الشِّفاءُ الحقيقيُّ لأمراضِ النَّاسِ، وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء: 82]. ولقدْ سَمَّى رسولَ الله الفاتحةَ رُقْيةً، فهذَا هوَ الواجبُ على المريضِ؛ أنْ يَرقي نفسهُ بكتابِ الله، وَينفث بما وَرَدَ في سنَّةِ رسولِ الله.
لكنْ هُنا أمر لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتهِ عبادَ الله، وهو أنْ الرُّقيةَ تَكُونُ قبلَ وُقُوعِ المَرَضِ قبلَ أنْ تكونَ بعدهُ، فإنَّ اللازمَ للمُسلمِ الحقّ أنْ يُحصِّنَ نفسهُ مِنَ الأمراضِ قبلَ وُقُوعِهَا بالأدْويَةِ الشَّرعيَّةِ والنَّصائحِ النبويَّةِ، فإنَّ مَن أهملَ أورادَ الصباحِ والمساءِ وأدبَار الصَّلواتِ وغَفلَ عنْ قراءةِ القُرآنِ حَريٌّ أنْ تتسلَّطَ عليهِ شَياطين الإنسِ والجنِّ، فيُصيبونَهُ بما يُؤذِيه؛ لأنهُ هُوَ المفَرِّطُ وهُوَ الذي ضَيَّع نفسَهُ، ألمْ يَقُلْ : ((مَنْ قرأَ الكُرسيِّ في ليلةٍ لم يَزَلْ عليهِ مِنَ الله حَافِظٌ ولم يَقْرَبهُ شَيْطانٌ حتَّى يُصبحْ)) رواه البخاري، وقالَ: ((مَنْ تصبَّحَ بسبعِ تَمراتٍ عَجْوةٍ لمْ يضرَّهُ ذلكَ اليومَ سُمٌّ)) متفق عليه؟! إلى غيرِ ذلكَ من تعاويذَ غَفَلَ عنها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ.
اللهمَّ إنَّا نسألُكَ العَفْوَ والعَافيةَ في الدِّينِ والدُّنْيا والآخِرةِ.
بارَكَ اللهُ لي ولَكُمْ في القُرْآنِ العَظيمِ...
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعد: فاتَّقُوا الله عبادَ اللهِ، واعلَمُوا أنَّ الواجِبَ عَلَى الإنْسَانِ أنْ لا يَحملَهُ حُبُّه للشِّفَاءِ وحِرْصُهُ علَى العَافيةِ أنْ يَقَعَ في مَحاذِيرَ شَرعيَّةٍ، فَيَذهَبَ للعِلاجِ عَلَى أيْدِي المُشَعوذينَ والدَّجالينَ بِحجَّةِ ذَهَابِ الناسِ لهمْ.
وإنَّ التوسُّعَ ـ عبادَ الله ـ في جانِبِ الرُّقيةِ وإخراجِهَا عنْ حَدِّها المشروع أمرٌ مُحرمٌ مُخالِفٌ للهَدْي النبويِّ، فإنَّ الناسَ في هذَا الزَّمانِ قدْ اتخذُوا مِنَ الرُّقيةِ حِرْفةً وتِجَارة تتمثَّلُ في أماكِنَ للعِلاجِ بهَا بمواعيدَ وتَرتيباتٍ، بَلْ إنَّ مِنهُم مَنْ لا عَمَل لَهُ غيرهَا، وهذَا ـ عبادَ اللهِ ـ منَ العبَثِ وضَيَاعِ الأموالِ في غيرِ ما شَرَعَ اللهُ، بلْ إنَّ منهمْ مَنْ بالغَ في الرُّقْيَةِ حَتَّى أخْرَجَهَا عَنِ الحَدِّ الشرْعِيِّ في صُوَرٍ غيرَ خافيَةٍ عَلى العُقلاءِ.
وفِي ظِلالِ مَا قَدْ سَمِعْتُمْ فإنَّ هناك أُمورًا لا بُدَّ أنْ يَعرِفَهَا النَّاسُ:
أولاً: أنَّ الرُّقْيةَ عِبادَةٌ ودُعَاءٌ، وكُلُّ عِبَادةٍ ليسَتْ عَلى ما شَرَعهُ اللهُ ورسُولهُ فهِيَ بَاطِلَةٌ وغيرُ صَحيحةٍ، فَهلْ كَانَ مِنْ هَديِ النبيِّ أو مِنْ فِعلِ أصحَابهِ هَذَا الأمْر، ثُمَّ لم يُؤثَرْ عَنِ السَّلفِ أنَّ مِنهُم من انْقَطَعَ للرُّقيَةِ وفَرَّغَ نَفسَهُ لها خِدْمَةً للمُسْلِمينَ ورَحمةً بهمْ كمَا زعَمُوا.
ثانيًا: أنَّ حِرْصَ المريضِ عَلى الشِّفَاءِ والعَافيةِ لا يَنبغي أنْ يدفَعَهُ إلى الذَّهابِ لكُلِّ سَاقطٍ أو مُنْحرفٍ، فإنَّ المريضَ حَالَ مَرضِهِ أشبَه ما يَكُونُ بالسَّكْرانِ الذي لا يَشعُرُ بمَا حَولَهُ، فلا بُدَّ للأصحَّاءِ مِنْ تَدَخُّلٍ في إرشَادهِ وتَوجيههِ.
ثالثًا: أنَّ الواجِبَ على المرْءِ أنْ يَرقِي نَفْسهُ بنفْسِهِ، بلْ إنَّها أفضَلُ وأنفَعُ مِن طَلَبهِ الرُّقْيةَ من غَيرهِ، فإنَّ الله يَقولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]، والسُّوءُ هُوَ المرضُ، فعَلى المريضِ أنْ يلجَأَ إلى رَبِّه بالدُّعاءِ وطَلَبِ رَفْعِ ما أصَابَهُ.
رابعًا واسْمَعُوا ما أقُولُ: إنَّ الأمَّةَ العَاقِلةَ هي التي تأخُذُ مِنْ تاريخهَا الماضِي دُرُوسًا وعِبرًا، وتَعْلمونَ مَا وقعَ في هذهِ البلادِ قبل دَعوةِ الشيخِ مُحمَّد بن عبدالوهابِ مِنْ صُورٍ لبعضِ الشِّركياتِ والبِدعِ، يقُولُ مؤرِّخُ نجدٍ عثمانُ بنُ بِشْرٍ في كتابهِ (عِنْوانُ المجد) بعدَ أن ذكَرَ صُورًا مِنْ هذه الشِّركيَّاتِ قالَ: "والسَّبَبُ الذي أحْدَثَ ذَلِكَ في نَجْدٍ واللهُ أعلَمُ أنَّ الأعْرَابَ إذَا نَزَلُوا في البُلْدانِ وقْت الثِّمَارِ صَارَ مَعَهُمْ رِجَالٌ ونِساءٌ يتطبَّبُونَ ويُدَاوُونَ الناسَ، فإذَا كانَ في أحَدٍ مِنْ أهلِ البلدِ مَرضٌ أتى أهْلهُ إلى مُتطبِّبِ تلكَ الباديَةِ، فيسْألونَهُمْ عنِ الدَّواءِ لعِلَّتهِ، فيَقُولونَ: اذْبَحُوا لهُ في الموضعِ الفُلاني كذَا وكذَا، وذلِكَ ليُحقِّقُوا مَعرِفتَهُمْ للطبِّ عنْدَ هؤلاءِ الجَهَلَةِ، ثُمَّ يَقُولونَ لهُمْ: لا تُسَمُّوا الله عَلى ذَبْحهِ، وأعْطُوا المريضَ منهُ كَذا وكَذا، وكُلُوا مِنهُ كذَا وكذَا، واتْرُكُوا كَذَا وكَذا، ورُبَّما يَشْفي اللهُ مريضَهُمْ فِتْنَةً لهمْ واستِدْراجًا، ورُبَّما يُوَافِقُ وقْتَ الشِّفَاءِ، حتَّى كَثُرَ ذلكَ في النَّاس، وطَالَ عليهِمْ الأمَدُ، فَوَقَعُوا بهذَا السَّببِ في عَظائِمَ..." إلى آخِرِ كلامِهِ.
فانْظُروا عِبَادَ اللهِ، كَمْ رأيتُمْ بينَ هؤلاءِ القُرَّاءِ مَنْ هُوَ في ضَرْبٍ مِنَ الدَّجَلِ والشَّعْوَذَةِ والسِّحْرِ، فإذا لمْ يَنتَبِهْ عُقَلاءُ النَّاسِ للخَطَرِ أوشَكَ الخَطَرُ أنْ يَقَع.
إنَّ خَيرَ الحديثِ كَلامُ اللهِ...
(1/5278)
الأمن والأمان مطلب الجميع
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع
فرق منتسبة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس جميعا إلى الأمن. 2- الأمن أول طلب طلبه إبراهيم الخليل عليه السلام. 3- حلف الفضول. 4- الخوف والجوع من شر عذاب الدنيا. 5- التفجيرات إيذان بزرع الفوضى ونزع الأمن من البلدان. 6- أغراض الخارجين عن الطاعة من إحداث الفوضى في بلاد الحرمين. 7- مقالات العلماء الأجلاء في بلاد الحرمين الشريفين. 8- طرق تحقيق الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا الله ـ عِبادَ الله ـ حَقَّ التَّقْوى.
أيُّها المسْلِمُونَ، النَّاسُ في هَذِهِ الحَيَاةِ لهمْ مَآرِبُ شَتَّى وأحْوالٌ مُتَعدِّدَةٌ، تختَلِفُ أديَانُهم وتَوجُّهَاتُهمْ، وتخْتَلِفُ رَغَباتُهمْ، إلاَّ أنَّ هُنَاكَ أمُورًا هُمْ جَميعًا مُجمِعُونَ علَى طَلَبِهَا والبَحْثِ عَنْهَا، بَلْ هِيَ غَايَةُ كثِيرٍ مِنْهُمْ، ويَظْهَرُ هَذَا الأمْرُ جَليًّا ووَاضِحًا في المَطْلَبِ الذِي يُكَابِدُ مِنْ أجلِهِ شُعُوبٌ، ويَسْعَى لتَحْقِيقهِ فِئَامٌ كَثيرُونَ، إنَّهُ الأمْنُ عَلَى النَّفْسِ والمالِ والوَلَدِ.
الأمْنُ في الأوْطَانِ مَطلَبُ الكَثيرِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مَطْلَبُ العَالَمِ بأسْرِهِ، حَيَاةٌ بِلا أمْنٍ لا تُسَاوِي شَيئًا، كَيفَ يَعيشُ المرْءُ في حَالَةٍ لا يأمَنُ فيهَا عَلَى نَفْسِهِ حتَّى مِنْ أقْرَبِ النَّاسِ إليهِ؟! خَوفٌ وذُعْرٌ وهَلَعٌ وتَرَقُّبٌ وانْتِظَارٌ للغَدِ، لا يُفَكِّرُ الإنْسَانُ في شَيءٍ إلاَّ في حَالِهِ اليَومَ، لَيسَ عِنْدَهُ تَفْكيرٌ في مُسْتَقْبَلٌ، ومَا كانَ ذَلِكَ إلا بِسَببِ فُقْدَانِ الأمْنِ.
عِبادَ الله، أوَّلُ مَطْلَبٍ طَلَبَهُ إبرَاهيمُ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ أنْ يَجْعَلَ هَذَا البَلَدَ آمِنًا، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، ويَقُولُ في آيَةٍ أُخْرى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126].
فانْظُرُوا هَاتَينِ الآيَتَينِ، فإبْراهيمُ طَلَبَ في الآيَةِ الأولَى تَحقيقَ الأمْنِ حَتَّى يَتَحقَّقَ لهُ عِبادَةُ الله عَلَى الوَجْهِ الصَّحيحِ، وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ؛ لأنَّ الإنْسَانَ في حَالِ الفِتْنَةِ والقَلاقِلِ يَشْغَلُهُ الخَوفُ عِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورُبَّمَا زَاغَ كَثيرًا عَن الحَقّ، ألمْ يُخبِر الرَّسُولُ عَنْ أنَّ المُتَمَسِّكَ بدِينهِ في آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ تَكْثُرُ الفِتَنُ كالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ؟!
أمَّا الآيَةُ الثَّانيَةُ فطَلَبَ إبْراهيمُ تَحقيقَ الأمْنِ، ثُمَّ قالَ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ ؛ لأنَّ بَلدًا لا أمْنَ فِيهِ كَيفَ تَسْتقيمُ للنَّاسِ فِيهِ أرْزَاقُهُمْ؟! وهَذَا الوَاقِعُ أمَامَكُمْ مَا إنْ تُعْلَنُ حَرْبٌ أو فِتْنَةٌ في بَلَدٍ حَتَّى يَنْقُلَ أرْبَابُ الأمْوَالِ أمْوَالَهُمْ إلى بُلْدَانٍ أخْرَى، وما عَلِمُوا أنَّ الحِفَاظَ علَى النَّفْسِ أولَى مِنَ الحِفَاظِ عَلى المَالِ، فالنَّفْسُ تَزُولُ، والمالُ غَادٍ ورَائِحٌ، ولكِنْ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
عباد الله، الأمْنُ مَطْلَبُ الجَميعِ، ولَقَدْ كَانَتْ قُرَيشٌ في الجَاهِليَّةِ جَعَلَتْ نَفْسَهَا مَسؤُولَةً عَنْ أمْنِ مَكَّةَ والحَجيجِ الوَافدينَ إليَها، حَتَّى إذَا جَاءَ حاجٌّ فتَعَامَلَ مَعَ أحَدِ المُقيمينَ في مَكَّةَ ثُمَّ ظَلَمَهُ حَقَّهُ، نَادَى هَذا الرَّجُلُ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ بأعْلَى صَوتِهِ طَالِبًا حَقَّهُ، فاجْتَمَعتْ قُرَيشٌ بأفْخَاذِهَا وقَبَائِلهَا في دَارِ عبدِ الله بنِ جُدْعانَ، فتَحَالَفُوا عَلَى أنْ لا يُظْلَمَ في مَكَّةَ غَريبٌ ولا حُرٌّ ولا عَبدٌ إلا كَانُوا مَعَهُ. رَوَى البَيْهقيُّ وغَيرهُ أنَّ رَسُولَ الله قالَ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عبدِ الله بنِ جدْعَانَ حِلْفَ الفُضُولِ، أمَا لَو دُعيتُ إليهِ اليَومَ لأجَبْتُ، ومَا أُحِبُّ أن لي بهِ حُمُرَ النَّعَمِ وأنِّي نَقَضْتُهُ)). ولما دَخَل رَسُولُ الله إلى مَكَّة فاتحًا أمَرَ أنْ يُنَادِي مُنادٍ: ((مَنْ دَخَلَ المسجِدَ الحَرامَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَنْ دَخَلَ دَارَهُ فهُو آمِنٌ، ومَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيانَ فَهُو آمِنٌ)) ؛ لأنَّ النَّاسَ إذَا أمِنُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ اطْمأنُّوا وزَالَ عنهُمُ الرُّعْبُ وعَادَتْ إليهِمْ عُقُولهُمْ.
عبادَ الله، يَقولُ الله سُبْحَانَهُ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، الخَوفُ والجُوعُ إذَا اجْتَمَعَا فإنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرِّ عَذَابِ الدُّنْيا؛ لأنَّ الخَائِفَ إذَا كَانَ عِندَهُ مَا يَقْتاتُ بهِ أَمِنَ أو اسْتَخْفى، ولأنَّ الجَائعَ إذَا كانَ يَعيشُ آمِنًا اسْتَطاعَ أنْ يَسيرَ في الأرْضِ ويَطْلُبَ الرِّزْقَ، ولهذَا امْتَنَّ اللهُ على قُرَيشٍ بِقَولِهِ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
ولَقَدْ عَاشَتْ هَذِهِ البلادُ قَبلَ أكْثَرَ مِنْ مائةِ عَامٍ صُورًا مِنَ الخَوْفِ والذُّعْرِ، لم يَكُنْ للمَرْءِ أنْ يَتَصَوَّرَهَا الآنَ، لأنَّها صَارَتْ كالخَيَالِ، لكِنْ بَعْدَ أن اسْتَقَرَّ الوَضْعُ في هَذِهِ البِلادِ مِنْ عَشَراتِ السِّنينَ والبَلَدُ يَعيشُ أمْنًا وارِف الظِّلالِ مُتَّسِعَ الأطْرَافِ، حَتَّى صَارَتْ مَثَلاً للأمْنِ والاسْتِقْرَارِ بَينَ البُلْدَانِ. هَذَا البَلَدُ صَارَ مَقْصِدًا لطُلاَّبِ الرِّزْقِ والعَمَلِ؛ لأنَّ أهَمَّ مُقَومَاتِ الحَيَاةِ مَوجُودَةٌ فيهِ.
انْظُرُوا إلى بِلادٍ شَتَّى في العَالَمِ تَحْمِلُ صُورًا مِنَ الفَوضَى والخَوفِ الذي لَيسَ لَهُ حُدُودٌ، إنَّ مِنَ الأمُورِ المُقَرَّرَةِ عندَ أهلِ تِلْكَ البِلادِ أنَّ البَيتَ هُوَ المَكان الوحيدُ الذِي يُمكِنُ أنْ يأمَنَ المَرْءُ فيهِ عَلَى نفْسِهِ، وإذَا جَاءَ الليلُ فكأنَّ الأمْنَ ثَوبُ عَاريَّةٍ خُلِعَ، لا يُؤمَنُ عَلى المَرءِ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ لَيلاً، فَكَيفَ بالسَّفَرِ؟!
الأمْنُ ـ أيُّهَا الأخْوَةُ ـ مَطْلَبٌ أكيدٌ لا تستَقيمُ الحَيَاةُ بِدُونِهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ : ((مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا في سِرْبهِ مُعافى فِي بَدَنِهِ عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ ولَيلَتِهِ فكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) روَاهُ التِّرمِذيُّ.
أيُّها الإخوَةُ، إنَّ مَا حَصَلَ خِلالَ الأشْهُرِ المَاضِيَةِ مِنْ تَفْجيراتٍ ومَا أعْقَبَهَا مِنْ تَدَاعياتٍ كُلُّهَا مُؤذِنَةٌ بِخَطَرٍ عَظيمٍ، إذَا لم يُتَدَاركُ أوشَكَ أنْ تَعُودَ هذِهِ البِلادُ فِتنًا وقَلاقِلَ.
مَاذا يَنْقِمُونَ مِنَ البِلادِ والأمْنُ فِيهَا مُسْتَتِبٌّ ووارِفٌ؟! ماذَا يَنْقِمونَ مِنَ البِلاد ولَو رأوا غَيرَها مِنَ البُلْدانِ ورَأوا ما فِيهَا مِنْ فِتَنٍ وقَلاقِلَ لعَلِمُوا فَضْلَ هَذِه البِلادِ عَلَى غَيرهَا؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ البِلاد وشَعَائِرُ التَّوحيدِ والسُّنَّةِ فيهَا قَائِمَةٌ وعَلامَاتُ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ البِلادِ وهِيَ رَاعِيَةُ الحَرَمينِ، ولم يَشْهَدِ الحَرَمَانِ اهتِمامًا عَلَى مَرِّ التَّاريخِ مَا شهِدَاه في هَذِهِ الدَّولَةِ؟! مَاذَا يَنْقِمُونَ مِنَ البِلادِ ولَم نَرَ فيهَا شِركًا ظَاهِرًا ولا قُبُورًا تُعْبَدُ، ولمَ نَرَ فيهاَ خُرَافاتٍ ولا بِدعًا ظَاهِرَةً؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ البِلاد وهِيَ البِلادُ الوَحيدَةُ في الدُّنْيَا التي تُحَكِّمُ شَرْعَ الله؟! لكنَّه الحِقْد الدَّفينُ عَلى أهْلِ الإسْلامِ، وإرادَةُ الفوضَى والشَّرِّ والفِتْنَةِ. إنَّ أولَئِكَ الأقْوامِ الذينَ خَرَجُوا ـ ونَسْألُ الله أنْ يَفْضَحَ بَاقيهمْ ـ مَا هُمْ إلا صُورَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ للخَوَارِجِ الذينَ جَعَلُوا الخُرُوجَ عَلى الحُكَّامِ ومُنَازَعَتَهُمْ أمرَهُمْ هَدَفًا لَهمْ.
يَقولُ ابنُ بَازٍ رحمِهُ الله: "العَدَاءُ لهذِهِ الدَّولَةِ عَدَاءٌ للحَقِّ، عَدَاءٌ للتَّوحيدِ، أيُّ دَولَةٍ تَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ؟! أيُّ دَولَةٍ مِنْ حَولِنَا مِنْ جِيرانِنَا في مِصْرَ والشَّامِ والعِرَاق، مَنْ هوَ الذي يَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ ويُحَكِّمُ شَرِيعَةَ الله ويهدِمُ القُبُورَ التي تُعْبَدُ مِنْ دَونِ الله؟! مَنْ؟! وأينَ هُمْ؟! أينَ الدَّولَةُ التي تَقُومُ بِهَذِه الشَّرِيعَةِ؟!" اهـ.
وقَالَ ابنُ عُثَيمينَ رَحمهُ الله: "إنَّ بِلاَدَنَا ولله الحَمدُ أقْوَى بِلادِ العَالَمِ الآنَ في الحُكْمِ بمَا أنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ، يَشْهَدُ بذلِكَ القَاصِي والدَّاني"، وقالَ أيضًا: "لا يَضُرُّ السَّحَابَ نَبحُ الكِلابِ، لا يُوجَدُ والحَمدُ للهِ مِثلُ بِلادِنَا اليَومَ في التَّوحيدِ وتحكيمِ الشَّريعَةِ، وهِيَ لا تَخْلُو مِنَ الشَّرِّ كسَائرِ بلادِ العَالَمِ، بَلْ حَتَّى المدينَة النَّبويَّة في عَهْدِ النَّبِيِّ وُجِدَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ شَرٌّ، لَقدْ حَصَلَتْ السَّرِقَةُ وحَصَلَ الزِّنَا" اهـ.
إنَّ أولَئِكَ الشَّبابُ الذينَ خَرَجُوا عَلَى الأمَّةِ هُمْ ثَمَرَة مَدَارسَ فِكْريَّةٍ خَطِيرةٍ، كَانُوا وَاجِهَةً لهَا، ليَكُونُوا هُمُ الضَّحِيَّةُ أمَامَ النَّاسِ. إنَّ فِكْرَ التَّكْفِيرِ والخُرُوجِ عَلَى الحُكَّامِ هُوَ دَيدَنُ كَثيرٍ مِنَ الجَمَاعاتِ الحَرَكيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى السَّاحَةِ اليَومَ، ومَنْ لهُ دِرَايَةً يَعرفُ مَا أقُولُ.
أيُّها النَّاس، إنَّ هذَا الفِكْرَ الذِي خَرَجَ بهِ أولَئِكَ وأوصَلَهُمْ إلَى مَا رأيتُمْ مَا هُوَ إلاَّ حَصِيلَة شُبَهٍ وأوهَامٍ أكثَرُوا مِنْ تَدَاولِهَا حَتَّى صَارَتْ بَينَهُمْ مِنَ المُسَلَّماتِ، فاسْتَحَلُّوا بِهَا الدِّمَاءَ وتَرْويعَ النُّفُوسِ وإزْهَاقَ الأرْوَاحِ.
اللهُمَّ أدِمْ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأمنِ والاطْمِئنَانِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ.
أقُولُ قَولِي هَذَا، وأسْتَغْفرُ الله فاسْتَغْفِرُوهُ، إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله عَلى إحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لهُ عَلى تَوفِيقهِ وامْتِنَانِهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لا شَريكَ له، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورَسُولُهُ، صَلَّى الله عَلَيهِ وعَلى آلهِ وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ تَسْليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا الله ـ عِبادَ الله ـ حَقَّ التَّقْوى.
ثُمَّ اعلَمُوا أنَّ الأمنَ هَوَ مَطْلَبٌ أكَيدٌ لجَميعِ النَّاسِ، وكذَلِكَ لا يَقُومُ الأمنُ ويَستَقِرُّ إلاَّ بِتَعاونِ الجَميعِ، وإنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أنْ يَسعَى جَاهِدًا لِتَحْقيقِ الأمنِ في بَلَدِهِ، ويَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَريقِ أمْرَينِ:
الأوَّلُ: السَّمْعُ والطَّاعَةُ لِوُلاَةِ الأمُورِ الذِينَ لَهُمْ بَيعَةٌ فِي عُنُقِ المُسْلِمِ، ويَكُونَ ذَلِكَ في المَنْشَطِ والمَكْرَه، فَهَذا الأمْرُ مِنْ آكَدِ مَا يَنْبَغِي السَّعْيُ إليهِ، إذْ هُوَ أصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، يَقُولُ البربَهَاريُّ رَحمه الله: "مَنْ وَليَ الخِلافَةَ بإجْمَاعِ النَّاس ورِضَاهُمْ فهُوَ أميرُ المؤْمِنينَ، لا يَحلُّ لأحَدٍ أنْ يَبيتَ لَيلَةً ولا يَرَى أنْ لَيسَ عَليهِ إمامٌ، برًّا كَانَ أو فَاجِرًا، هَكَذا قَالَ الإمَامُ أحمدُ" اهـ.
ويَدُلّ على ذَلِكَ أيضًا مَا رَواهُ مُسْلِمٌ أنَّ عبدَ الله بنَ عُمرَ جَاءَ إلى عبدِ الله بنِ مُطيعٍ حينَ كَانَ مِنْ أمرِ الحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزيدِ بنِ مُعاويَةَ، فقَالَ عبدُ اللهِ بنَ مُطيعِ: اطْرَحُوا لأبي عَبدِ الرَّحمنِ وِسَادةً، فقَالَ: إنِّي لم آتِكَ لأجْلِسَ، أتَيتُكُ لأحَدِّثَكَ حَديثًا، سَمِعتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((من خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ الله يَومَ القيَامَةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَنْ مَاتَ ولَيسَ في عُنُقِهِ بَيعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهليَّةً)).
ويَقُولُ ابنُ حَجَرٍ رَحمه الله: "قَدْ أجمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ المتَغَلبِ والجِهَادِ مَعَهُ، وأنَّ طَاعَتَهُ خَيرٌ مِنَ الخُرُوجِ عَلَيهِ، لما فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وتَسْكينِ الدَّهْمَاءِ".
وإنَّمَا يبرُزُ تَطبيقُ المؤمِنِ لهَذَا الأصْلِ وقتَ الفِتَنِ والنَّوازِلِ، فَوقْتُ الرَّخَاءِ كُلٌّ يَدَّعِي السَّمْعَ والطَّاعَةَ.
الثاني: لُزُومُ طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَهِيَ مِنْ أهمِّ مُقَوِّمَاتِ الأمنِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. وقد حَثَّ النبيُّ عَلَى العِبادَةِ والإكْثَارِ مِنَ الطَّاعاَتِ وَقْتَ الفِتَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: ((العِبَادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ)). يَقُولُ النَّوَويُّ رَحِمَهُ اللهُ: "المُرَادُ بالهَرْجِ هُنَا الفِتْنَةُ واخْتِلاطُ أُمورِ النَّاسِ، وسَبَبُ كَثرَةِ فَضلِ العِبَادَةِ فيهِ أنَّ النَّاسَ يَغْفَلُونَ عَنْهَا ويَشْتَغِلُونَ عَنْهَا ولا يَتَفَرَّغُ لهَا إلاَّ أفْرَادٌ" اهـ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، والزَمُوا طَاعَتَهُ والتَّقَرُّبَ إليهِ، وكُونُوا قَائِمينَ بالأمْنِ سَاعِينَ إليهِ، وإيَّاكُمْ والنِّزَاعَ والشِّقاقَ ومُخَالَفَةَ أمْرِ الجَمَاعَةِ.
اللهُمَّ صَلِّ عَلَى عَبدِكَ ورَسُولِكَ مُحمَّدٍ...
(1/5279)
الإيمان بالملائكة
الإيمان
الملائكة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إخبار النبي عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة. 2- الجهل والتلقي من غير الوحيين سببان لحصول الخلل في الاعتقاد. 3- الأصول والأركان الستة التي ينبغي لكل مسلم أن يؤمن بها ويقر بمضمونها. 4- ما يتضمن الإيمان بالملائكة. 5- وظائف الملائكة الكرام المنصوصة في كتاب الله وسنة رسول الله. 6- ثمرات الإيمان بالملائكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فأوُصِيكُم ـ أيَّها الناسُ ـ بالوَصِيةِ الدَّائِمةِ التَّي كرَّرها اللهُ في كِتابهِ، وَصِية الله للأولينَ والآخِرِينَ؛ الوَصِية بِتَقوَى الله، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيها الناس، إنَّ منَ الأصُولِ الثَّابتةِ التي قامَتْ عَليها السَّماواتُ والأرضُ بَل هِيَ أصلُ الأصولِ معرفةَ أنَّ الله ربُّ العالمينَ الرحمنُ الرحيمُ المالكَ المتصَرِّفُ ذُو الألوهِيةِ والعُبودِيةِ على خَلْقِهِ أجْمَعين، وأنَّ جَميعَ الكونِ وَكُلَّ مَا فيهِ خَلقُهُ ومُلكهُ وعَبيدهُ وتحتَ تَصرُّفهِ وقَهْرِهِ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93-95].
عباد الله، لقدْ أخبرَ رسولُ الله ـ وخبرهُ صِدقٌ ـ عن افتراقِ هِذِهِ الأمَّةِ إلى ثَلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً، كُلهمْ ضُلاَّلٌ إلا فِرْقةً واحِدَةً، هيَ التي وَافَقَتْ هَدْيَ الكتابِ والسُّنةِ وسَارتْ عَلى نهجِ المصطفَى وأصْحَابهِ من بَعدِهِ.
إنَّ هَذا الافتراقَ شامِلٌ لكلِّ أمورِ الدينِ عقيدةً وعملاً، ولكنَّ التفرقَ قدْ لا يُعالجُ إلاَّ في بابٍ واحدٍ إذا كُسِرَ فَلا يُمكنُ إصلاحُهُ إلاَّ بإعادَتِهِ جَديدًا كَما كَانَ، لا يَصلُحُ في سَدِّه بَابٌ فيهِ ثُقوبٌ أو خَللٌ، إنهُ بَابُ التوحيدِ والاعتقادِ، بَابٌ أهلُ الزَّيغِ والضلالِ فيه فِرقٌ شَتَّى، كُلُّ فرقةٍ فَرِحَةٌ بما عندَها، أمَّا أهلُ السنةِ والجماعةِ الذينَ سَارُوا على النَّهجِ فَإنهمْ عَلى خَطٍّ مُستقيمٍ في هَذا الأمرِ، بَلْ وفي جَميعِ أُمورهمْ، ولكنَّ بابَ التوحيدِ والاعتقادِ يَخصُّونَهُ بمزيدِ اهتمامٍ ومزيدِ عِنَايةٍ؛ لأنَّ الضَّلالَ فيهِ ضَلالٌ كَبيرٌ، والخطأ في التوحيدِ ليسَ كَخطأٍ في غيرهِ.
أيَّها النَّاسُ، إنَّ أكثر مَا جَاءَ الانحرافُ إلى طَوائفَ شَتَّى في هَذا البابِ بسببِ أمرينِ:
السبب الأول: الجهلُ؛ فكثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجهَلونَ أمورَ مُعتَقدِهمْ التي يَعتقدُونَها، وقليلٌ مِمَّنْ آتاهم الله عِلمًا يتَحدَّثُ عَنها، ولَو أنَّ النَّاسَ إذَا جَهِلُوا شَيئًا سَألوا عنهُ لَبَلَغُوا مُرَادَهُم، ولكنْ عَلى نَفْسِهَا جَنَتْ، وَلا يَنَالُ العلمَ مُستَحٍ ولا مُستكْبِر.
أمَّا السَّببُ الثَّاني: فهوَ أنَّ فِئامًا مِنهمْ أخَذوا هَذا العِلْمَ مِنْ غَيرِ مَصْدريهِ: الكتابِ والسُّنةِ، العقلُ ـ أيها الناسُ ـ لا دَخْلَ لهُ في بَابِ العَقيدَة؛ لأنَّها مِنْ بَابِ الغيبِ، والغيبُ لا يُعْلَمُ إلا بِوَحيٍ.
إذَا كانَ ذلكَ كذلكَ فاعلَموا ـ أيَّها النَّاسُ ـ أنَّ عَليكم أنْ تُؤمِنُوا بأنَّ دِينَ المرءِ يَقومُ عَلى أُصولٍ سِتَّةٍ هي كالعمدِ للبُنْيانِ، لَو سَقَطَ منهُ عَمُودٌ سَقَطَ البِناءُ أو لا يَزالُ مُخَلْخَلاً. سِتةُ أُصولٍ يَنبغي لِكلِّ مُؤمنٍ ومؤمنةٍ الإيمانُ بِهَا والإقرارُ بمضمُونِهَا إيمانًا لا خَلَلَ فيهِ وإقرارًا لا يَعْتَريهِ نَقْصٌ، لَخَّصَها رسولُ الله حينَ جَاءهُ جِبريلُ عَليهِ السَّلامَ، فسألهُ عنِ الإيمانِ فقالَ: ((أنْ تُؤمِنَ باللهِ وملائِكتِهِ وكُتُبهِ ورُسُلهِ واليومِ الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ)).
الإيمانُ بالملائكةِ أحدُ تِلكَ الأصولِ السِّتةِ التي مَنْ أقَرَّ بِهَا فَقَدْ استكمَلَ الإيمانَ، الملائكةُ ـ عبادَ الله ـ عَالمٌ غَيبيٌّ مخلوقٌ عَابدون لله، ليس لهمْ مِنْ خَصائِص الرُّبُويَّةِ والألوهيَّةِ شَيءٌ، خَلَقَهم الله تَعالَى مِنْ نُورٍ ومَنحهمْ الانقيادَ التَّامَ لأمرهِ والقُوةَ على تَنفيذِه، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20]. الملائكةُ رُسلٌ من رُسُلِ الله، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً [فاطر: 1]. الملائكةُ عددٌ كثيرٌ لا يُحصيهمْ إلا اللهُ سبحانَهُ، جَاءَ في الصَّحيحَينِ من حَديثِ أنسٍ فِي قِصةِ المعرَاجِ أنَّ النَّبيَّ رُفِعَ لهُ البيتُ المعمورُ في السَّماءِ فَرَأى يُصلي فيهِ سَبعونَ ألفَ مَلَكِ كُلَّ يومٍ، إذَا خَرَجُوا لا يَعُودُونَ إليه آخِرَ مَا عَلَيهمْ، يَعْني: لا يأْتيهمْ الدَّورُ مَرَّة أُخْرَى. الملائِكَةُ قال الله عنهم: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، جَاء في الحديثِ: ((أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لها أنْ تَئِطَّ، ما فيهَا موضع أرْبَعَة أصَابعَ إلاَّ ومَلَكٌ قائِمٌ راكِعٌ أوْ ساجِدٌ)).
عباد الله، الإيمانُ بالملائِكَةِ يَتَضَمَّنُ أرْبَعَةَ أمُورٍ لا بُدَّ مِنَ الإقرارِ بِهَا حَتّى يَكونَ الشَّخصُ مؤمِنًا بهِمْ:
الأوَّلُ: الإيمانُ بوجُودهِمْ وأنَّهمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله كمَا جاءت بهِ الآياتُ والسُّنَن.
الثاني: الإيمانُ باسْمِ مَنْ عَلِمْنَا اسمَهُ مِنهمْ، ومَنْ لم نعلَمْ اسمَهُ نُؤمِنُ به إجْمالاً دُونَ حَاجةٍ إلى مَعرفةِ اسْمِه. وممَّا يَنْبغي أنْ يُعْلَم هُنَا أنَّه لم يَصِحَّ مِنْ أسْمَاءِ الملائِكَةِ إلاَّ قَليلٌ، وهُم: جِبريلُ وميكَائيلُ وإسْرَافيلُ ومَلَكُ الموتِ ومَلَكانِ يَسْألانِ الميِّتَ لَمْ يثْبتْ تَسْميتهُما بحديثٍ صَحيح.
أمَّا الأمْرُ الثالثُ عِبادَ الله: الإيمانُ بِمَا عَلِمنَا مِن صِفَاتِهمْ، فقدْ صَحَّ عنهُ أنَّهُ رأى جبريلَ عَلى صِفَتهِ التي خُلِقَ عليهَا ولهُ سِتمائةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الأفُق، وقَدْ أعطاهُم الله مِن القُدْرَةِ في التَمَثُّلِ في صُورٍ عَديدةٍ كَمَا قال الله عَن جبريلَ لمَّا بَعثهُ إلى مَرْيمَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17]، وجاء جبريلُ إلى النبيِّ في صُورةِ رَجلٍ شَديد بَياضِ الثِّيابِ شَديدِ سَوَادِ الشَّعرِ لا يُرَى عَليهِ أثَرُ السَّفرِ ولا يَعْرفُه أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فجَلَسَ إلى النبيِّ ، فأسْنَدَ رُكْبَتيهِ إلى رُكْبتيهِ، ووَضعَ كفَّيهِ عَلَى فَخِذيهِ، ثُمَّ سأل النّبي عَنِ الإسلامِ والإيمانِ والإحْسَانِ، ثُمَّ قال عنهُ : ((هذا جِبريلُ أتَاكُمْ يُعلِّمُكم دِينَكم)) رواه مسلم. وجَاءَ مرَّةً عَلى صُورة دِحْيَةَ الكَلبيّ. وكَذلِكَ الملائكةُ الذينَ جَاؤُوا إلى نَبيِّ الله إبْراهيمَ ونَبيِّ الله لُوطٍ كَانُوا عَلى صُورَةِ رِجَالٍ، ولَكن تمَثُلُهمْ في صُورةِ البشَرِ إنَّما هُوَ بأمرِ الله وقُدْرَتهِ ليسَ للملائكةِ أمرٌ فيهِ.
أمَّا الأمرُ الرابعُ ـ أيَّها الإخوةُ ـ مَمَّا يَجِبُ اعتِقادُهُ في الملائكةِ: فَهُو الإيمانُ بِمَا عَلِمْنَا مِن أعْمَالهم التي يَقُومُونَ بِها؛ كَتَسْبيحِهمْ لله وعَبَادَتهمْ لهُ لَيلاً ونَهَارًا بِدُونِ مَلَلٍ أو فُتُورٍ. كمَا أنَّه يَنْبغِي لنَا أنْ نُؤمِنَ بأنَّ لبَعضِهمْ أعمالاً خَصَّهُمُ الله بِهَا مِمَّا فيه مَصْلحةُ البَشرِ؛ فجبريلُ مُوَكَّلٌ بِمَا فيهِ حَياةُ القُلوبِ وهُوَ الوحْيُ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193-195]، وإسْرَافيلُ مُوَكَّلٌ بالنَّفخِ في الصُّورِ الذي بهِ حَياةُ الأجْسادِ بَعدَ مَوتِها، وميكَائيلِ مُوَكَّلٌ بإنْزَالِ المطَرِ والنَّباتِ اللَّذين بهمَا حَياةُ الأرضِ، فهؤلاءِ الثلاثةُ جَعَلَ الله على أيديهمْ حَياةَ القُلوبِ وحَياةَ الأبدَانِ وحياةَ الأرض، ولقدْ كانَ يَسْتَفتِحُ صَلاةَ الليلِ بقوله: ((اللهُمَّ رَبَّ جِبريلَ وميكائيلَ وإسْرَافيلَ، فَاطِرَ السَّماواتِ والأرضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَة)).
ومِنْهُم مَالِكٌ مُوكَّلٌ بالنارِ، يَقُولُ الله عن أهلِ النَّار: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]. ومَلَكٌ مُوَكَّل بالجَنَّةِ، ومَلَكُ الموتِ الذي يَقولُ الله عنه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11]، قادِرٌ بأمرِ الله على قَبْضِ نفْس في المَشْرقِ وأخْرَى في المغْرِب في آنٍ واحدٍ. ومَلكانِ موَكَّلانِ بسؤالِ الميِّتِ في قبرِهِ كما ثَبَتَ في أحاديثٍ صحَيحةٍ.
وممَّا يَنبغي مَعرفَتهُ هُنا أنَّ ثَمَّة مَلَكينِ مَعَ كُلِّ شَخْصِ يَكتُبانِ عليه جميعَ أعمَالهِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18]. فإيَّاكَ إيَّاكَ ـ أيُّها المُسلمُ ـ أنْ يُكْتَبَ عليكَ مَا يَسُوؤُكَ يومَ القِيامَةِ.
لمَّا دَخَلُوا على الإمامِ أحمد وكَان مَريضًا فَإذَا هُوَ يئنُّ أنينَ المريضِ، فَقيلَ لَهُ: يَا أبا عبد الله، إنَّ طاووسًا ـ وهُو أحدُ التَّابعينَ ـ يقولُ: إنَّ أنينَ المريضِ يُكْتَبُ عَليهِ، فأمْسَكَ عَنِ الأنينِ.
فاتَّقُوا الله عبادَ الله، واعْلَمُوا أنَّ الإنسانَ سَوفَ يُخْرَجُ لهُ يومَ القِيامة كتابه، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
اللهمَّ زَيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ، وجَنِّبْنَا الزَّلَلَ في القَولِ والعَمْلِ، أقولُ هَذا القَولَ، وأسْتغْفِر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، يَعلمُ السِّرَّ والنَّجْوَى، لا يُعْجِزهُ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، أحمَدُهُ سبحَانَهُ وأشْكُرُهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورَسُولَه، صَلَّى الله عَليهِ وسَلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله أيّها النَّاسُ، وتَعلَّموا مِنَ العِلْمِ ما تُقيمونَ بهِ دِينَكُم، فإنَّ خيرَ العِلمِ العِلمُ الذي يَزيدُ المؤمِنَ إيمانًا بِرَبِّهِ.
عبادَ الله، السُّؤالُ الذي أرَاه عَالِقًا بِذهنِ كثيرٍ منَ النَّاسِ هوَ قولُهمْ: ما فَائدةُ الإيمانِ بالملائكةِ؟
ألا فَليعلَم كُلُّ مؤمِنٍ أنَّ الإيمانَ بملائكَةِ الله يُثْمِرُ ثَمرَاتٍ جَليلةٍ، أوَّلها: العِلمُ بِعَظَمةِ الله وقُوَّتِهِ وسُلطَانه؛ فإنَّ عظَمةَ المخلُوقِ منْ عظَمَةِ الخَالقِ، ثُمَّ ثانيهَا: شُكْر الله عَزَّ وجلَّ عَلى عِنَايتهِ بِخَلقِهِ حينَ وَكَّلَ مِن هؤلاءِ الملائكةِ مَنْ يَقومُ بحِفْظِهمْ وكِتابةَ أعمالِهمْ وغير ذلِكَ مِنْ مَصالحهِم، والثَّالِثةُ: محبَّةُ الملائكةِ عَلى ما قَامُوا بهِ من عِبَادَةِ الله تَعالَى.
أيُّها النَّاس، إنَّ الملائكةَ أجْسَامٌ تتحرَّكُ، لَيْسَتْ بِقُوى معنَويَّةٍ كمَا قَالَ أهلُ الزَّيغِ والضَّلالِ، يقولُ الله عَنهُم: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50]، ويقول: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ [الأنعام: 93]، ويقولُ الله عن أهلِ الجنَّةِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23، 24]، ويقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في كتَابهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 123-125].
وثَبَتَ في صحيحِ البُخاريِّ مِن حديثِ أبي هُريرةَ رَضيَ الله عنه عَنِ النبيِّ أنه قالَ: ((إذَا أحبَّ اللهُ العبدَ نَادَى جبريلَ: إنَّ الله يُحبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، فيُحبُّهُ جبريلُ، فَيُنادي جبريلُ في أهْلِ السَّماءِ: إنَّ الله يُحبّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فَيُحبُّهُ أهلُ السَّماءِ، ثُمَّ يُوضَعَ لهُ القَبُولُ في الأرْض)).
وصَلاتُكم هذِه ـ أيُّها النَّاسُ ـ يَقُولُ الرسول فيها: ((إذَا كانَ يوم الجُمُعَة كانَ على كُلِّ بابٍ مِنْ أبوابِ المسجدِ مَلائكةٌ يَكْتُبونَ الأوَّلَ فالأوَّلَ، فإذَا جَلَسَ الإمامُ طَوَوا الصُّحُفَ وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْر)) رواه البُخَاري.
عبادَ الله، هَذِهِ نُبْذَةٌ مُختَصَرةٌ مِمَّا يلزَمُ المؤمِنَ اعتِقَادُهُ في مَلائكَةِ اللهِ، بَصَّرَنا اللهُ بالعِلْمِ النَّافِعِ، ورَزَقَنَا عَمَلا صَالحًا.
اللهمَّ صَلِّ عَلى مُعَلِّمِ البَشَريَّةِ مُحمَّد ، وارْضَ اللهم عن أصحابِهِ أجمعين...
(1/5280)
الاعتداء على رجال الأمن
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمن مطلب عزيز ومنال نفيس. 2- فوائد ومنافع الأمن على الفرد والمجتمع. 3- تلازم الأمن مع إقامة الدين. 4- امتنان الله سبحانه بالأمن على عباده. 5- مفاسد اضطراب الأمن على الفرد والمجتمع. 6- من هدي النبي اتخاذ الحرس. 7- فضل المرابطة على ثغور المسلمين. 8- الإنكار على قتلة رجال الأمن والفرق بين القاتل والمقتول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فأوصِيكُمْ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ ونَفْسِي بِتَقْوَى الله عَزَّ وجَلَّ، فَاتَّقُوا الله ـ رحَمَكُمْ الله ـ مَا اسْتَطَعْتُم، فَمَنْ ابْتَغَى غِنًى مِنْ غَيرِ مَالٍ وعِزًّا بِغَيرِ جَاهٍ ومَهَابَةً مِنْ غَيرِ سُلْطَانٍ فَلْيَتَّقِ الله، فَربُّكُمْ سُبْحَانَهُ مُعِزٌّ مَنْ أطَاعَهُ واتَّقاهُ، ومُذِلٌّ مَنْ خَالَفَ أمْرَهُ وعَصَاهُ، سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِهِ، لا يَذِلُّ مَنْ وَالاهُ، ولا يَعُزُّ مَنْ عَادَاهُ، لا إلهَ غَيرُهُ، ولا رَبَّ سِوَاهُ.
عِبادَ الله، الأمنُ مَطْلَبٌ عَزيزٌ وكَنْزٌ ثَمينٌ، هَوَ قِوامُ الحَياةِ الإنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، وأسَاسُ الحَضَارَةِ المدَنيَّةِ أجْمَعِهَا، تَتَطلَّعُ إليْهِ المُجْتَمَعَاتُ، وتَتَسَابَقُ لِتَحقيقِهِ السُّلُطَاتُ، وتَتَنَافَسُ في تأمينِهِ الحُكُومَاتُ، تُسَخَّرُ لَهُ الإمكَانَاتُ المادِيَّةُ والوَسَائِلُ العِلميَّةُ وأنْوَاعُ الدِّرَاساتِ، وتُحشَدُ لَهُ الأجْهِزَةُ الأمْنِيَّةُ والعَسْكَريَّةُ، وتُسْتَنْفَرُ لَهُ الطَّاقَاتُ البَشَريَّةُ.
مَطْلَبُ الأمنِ يَسْبِقْ طَلَبَ الغِذَاءِ، فبِغَيرِ الأمْنِ لا يُسْتَساغُ طَعَامٌ، ولا يهْنَأ عَيشٌ، ولا يَلَذُّ نَومٌ، ولا يُنعَمُ بِراحَةٍ، قِيلَ لحكيمٍ: أينَ تَجدُ السُّرُورَ؟ قَالَ: في الأمْنِ، فإنِّي وَجَدْتُ الخائِفَ لا عَيشَ لَهُ.
فِي ظِلِّ الأمْنِ تُحْفَظُ النُّفُوسُ وتُصَانُ الأعْرَاضُ والأمْوَالُ وتَأْمَنُ السُّبُلُ وتُقَامُ الحُدُودُ ويَسُودُ العِمْرَانُ وتَنْمُو الثَّرَوَاتُ وتَتَوافَرُ الخيرَاتُ ويَكْثُرُ الحَرْثُ والنَّسْلُ، في ظِلِّ الأمْنِ تَقُومُ الدَّعْوَةُ إلى الله وتُعمَرُ المسَاجِدُ وتُقَامُ الجُمَعُ والجَمَاعَاتُ ويَسُودُ الشَّرْعُ ويَفْشُو المَعْروفُ ويَقِلُّ المُنْكَرُ ويحْصُلُ الاستِقْرارُ النَّفْسيُّ والاطْمئنَانُ الاجْتِماعيُّ.
مَا قيمَةُ المالِ إذَا فُقِدَ الأمْنُ؟! مَا طِيبُ العَيشِ إذَا انْعَدَمَ الأمْنُ؟! كَيفَ تَنْتَعِشِ مَنَاشِطَ الحَيَاةِ بِدُونِ الأمْنِ؟! الأمْنُ تَنْبَسِطُ مَعُهُ الآمَالُ، وتَطْمئنُّ مَعَهُ النُّفُوسُ عَلى عَوَاقِبِ السَّعْيِ والعَمَلِ، وتَتَعدَّدُ أنشِطة البَشَرِ النَّافِعَة مَعَ الأمْنِ، ويَتَبادَلُونَ المصَالِحَ والمنَافِعَ، وتَكثُرَ الأعْمَالُ المتَنَوِّعَةُ التي يحتَاجُ إليهَا النَّاسُ في حَيَاتِهِمْ. مَعَ الأمْنِ تُحقَنُ الدِّمَاءُ، وتُحفَظُ الأمْوالُ والحُقُوقُ، وتَتيسَّرُ الأرْزَاقَ، ويَعظُمُ العمْرَانُ، وتَسعَدُ وتَبتَهجُ الحيَاةُ في جَميعِ مجَالاتِهَا مَعَ الأمْنِ.
عِبَادَ الله، الأمْنُ والدِّينُ مُتَلازِمانِ، بل لا يَسْتَقيمُ أمرُ الدِّينِ إلاَّ مَعَ وُجُودِ الأمنِ، لذلِكَ امْتَنَّ الله عَزَّ وجَلَّ في آيَاتٍ كَثيرةٍ عَلَى عِبَادِهِ بِنعْمَةِ الأمْنِ التِي يَسْتَقيمُ بهَا أمرُ الدِّين؛ إذْ لَولا الأمْنُ ما اسْتَقامَ للنَّاسِ عِبَادَةٌ، وانْظُرُوا قَولَ الرَّسُولِ : ((والله، لَيُتِمَنَّ الله هَذَا الدِّينَ حَتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ لا يَخَافَ إلاَّ الله والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)) رَواهُ البُخَاريُّ، وقَالَ أيضًا: ((فوَالذِي نَفْسِي بِيدِهِ، لَيُتِمَّنَّ الله هذَا الأمْرَ حَتَّى تخرُجَ الظَّعينَةُ مِنَ الحيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالبَيتِ مِنْ غيرِ جِوَارِ أحدٍ)) رَوَاهُ أحمدُ والبيهَقِيُّ، وقال الله سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
بلْ إنَّ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لمَّا دَعَا رَبَّهُ طَلَبَ مِنهُ تَحقيقَ الأمْنِ لتَتَحَقَّقَ لهمْ عِبَادَتُهمْ وتَتَحقَّقُ لهمْ أرْزَاقُهُمْ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126]؛ لأنَّهُ إذَا اضْطَرَبَ الأمْنُ ـ عياذًا بالله ـ ظَهَرَتْ الفِتَنُ، وتَزَلْزَلَتِ الأمَّةُ، وتَخلْخَلَتْ أرْكَانُها، وكَثُرَ الخَبَثُ، والتَبَسَ الحَقُّ بالبَاطِلِ، واسْتَعْصَى الإصْلاحُ عَلَى أهلِ الحَقِّ. إذَا اخْتَلَّ الأمْن ـ عِياذًا باللهِ ـ حَكَمَ اللُّصُوصَ وقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وسَادَتْ شَريعَةُ الغابِ، وعَمَّتِ الفَوضَى، وهَلَكَ النَّاسُ.
أيُّهَا الإخوَةُ، الأمْنُ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ بالألْسُنِ ثمَّ بَعدَهُ تَسْتَقيمُ الأمُورَ، بَلْ الأمْنُ يَحْتَاجُ إلى جُهْدٍ ومُصَابَرَةٍ، لا يَقُومَ الأمْنُ إلاَّ بِرِجَالٍ مُخلِصينَ وشَعْبٍ مُتمَاسِكٍ مَعَ حَاكِمٍ يَقُومُ بأمرِ النَّاسِ. يَقُولُ الإمَامُ الماوردِيُّ رحمه الله: "لا بُدَّ للنَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، تَأْتَلِفُ بقوّته الأهويَةُ المخْتَلِفَةُ، وتجْتَمِعُ بهَيبَتِهِ القُلُوبُ المتفَرِّقَةُ، وتَكُفُّ بسَطْوَتِهِ الأيدي المُتَغالِبَةُ، وتُقْمَعُ مِنْ خَوفِهِ النُّفُوسَ المتَعَانِدَةُ والمتَعَادِيَةُ؛ لأنَّ في طَبَائعِ النَّاسِ مِنْ حُبِّ المُغَالَبَةِ والقَهْرِ لمَنْ عَانَدُوهُ مَا لا يَنْكَفُونَ عنهُ إلا بمَانِعٍ قَويٍّ ورَادِعٍ مَليٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
والظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فإنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
والعِلَّةُ المانِعَةُ مِنَ الظُّلْمِ عَقلٌ زَاجِرٌ أو دِينٌ حَاجِزٌ أو سُلْطَانٍ رَادِعٍ أو عَجْزٍ صَادٍ، وإذا تأمَّلْتَ لم تَجد خَامِسًا، ورَهْبَةُ السُّلْطانِ أبْلَغُهَا؛ لأنَّهُ رُبَّما كَانُوا مشْغُوفينَ بِدَاعِي الهوَى، فتَكُونُ رَهْبَةُ السُّلْطانِ أشَدّ زَجْرًا وأقْوى رَدْعًا" اهـ.
ولا يَسْتَقيمُ أمرُ السُّلْطانِ إلاَّ برِجَالٍ مُخْلصينَ، يَقُومُونَ مَعَهُ، يَحرُسُونَ البِلادَ، ويحمُونَ الثُّغورَ أنْ يَعْتَدي عَلَى المُسلمينَ مَنْ يُريدُ قَتْلَهُمْ، فَلا تَسْتَقيمُ للنَّاسِ حَيَاتُهُمْ ولا يَسْتَقيمَ لهمْ أمْنُهُمْ بِدُونِهمْ؛ ولِذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبيُّ حَرَسًا يحرُسُونَ المدينَةَ، فَقَدْ رَوَى البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا تَقُولُ: أرِقَ النَّبيُّ ذاتَ لَيلَةٍ فَقَال: ((لَيتَ رَجُلاً صَالحًا مِنْ أصْحَابي يَحرُسُنِي اللَّيلَةَ)) ، إذْ سَمِعْنَا صَوتَ سِلاحٍ، فقَالَ: ((مَنْ هَذَا؟)) فقَالَ: أنَا سَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ جئتُ أحْرُسُكَ، فنَامَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، وفي رِوَايةٍ: فَدَعَا لهُ.
وجَعَلَ بَدِيلَ بنَ وَرْقَاء في حَرَسِ المدينَةِ، وكَانَ عبدُ الرحمَنِ بنُ عَوفٍ أمين رَسُولِ الله عَلَى نِسَائهِ في السَّفَر. وفي سيرَةِ ابنِ إسْحَاقَ أنَّ سَعدًا كَانَ عَلَى بابِ العَرِيشِ الذِي كانَ فيهِ رَسُولَ الله مُتَوشِّحًا بالسَّيفِ في نَفَرٍ مِنَ الأنْصَارِ يَحرُسُونَهُ، وحَرَسَهُ حينَ أعْرَسَ بِصَفِيَّةَ يَومَ خَيبرَ أو ببعْضِ الطَّريقِ أبُو أيُوبَ الأنْصَاريُّ. ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ كانَ يحرُسُ النَّبيُّ حينَ كانَ يُصَلِّي في الحِجْرِ في مَكَّةَ. ولمَّا خَرجَ إلى بَدْرٍ جَعَلَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ وأوسَ بنَ ثَابتٍ وأوسَ بن عِرَابَةَ ورَافِعَ بنَ خَديجٍ حَرَسًا عَلَى المدِينَةِ حَتَّى رَجَعَ. وكَانَ إذَا نَزَلَ في المدِينَةِ فَزَعٌ كَانَ أوَّل المُنْجِدينَ لهَذَا الصَّوتِ هُوَ ، روَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أنَسٍ قَالَ: كَانَ أحْسَنَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ، ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المدِينَةِ لَيلَةً، فخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبيُّ وقَدْ اسْتَبْرأ الخَبَرَ وهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُري، وفي عُنُقِهِ سَيفٌ، وهُوَ يَقُولُ: ((لمْ تُرَاعَوا لمْ تُرَاعَوا)) ثُمَّ قَالَ: ((وَجَدْنَاهُ بَحْرًا)) ، وفِي رِوَايَةٍ: ((مَا رأيْنَا مِنْ فَزَعٍ)).
وهَكَذَا كَانَ صَحَابَتَهُ مِنْ بَعْدِه، وعَلَى هَذَا سَرَتِ الأمَمَ إلى وَقْتِنَا هَذَا، لكِنَّ الله خَصَّ أُولئِكَ الأشْخَاصِ الذِينَ يَقُومُونَ بالأمْنِ والحِرَاسَةِ؛ أولَئكَ الأقْوَامِ الذِينَ بَذَلُوا أرْوَاحَهُمْ لِحراسَةِ المُسْلِمينَ، خَصَّهُمُ الله بأجْرٍ عَظِيمٍ، يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]، يَقُولُ ابنُ كَثيرٍ رَحِمهُ الله: "المُرَابَطَةُ هِيَ حِفْظُ ثُغُورِ المُسْلِمينَ وصَيَانَتُهَا عَنْ دُخُولِ الأعْدَاءِ إلى حَوزَةِ بِلادِ المسْلِمينَ" اهـ، فكَيفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ العَدُوّ مِنْ دَاخِلِ البَلَدِ؟!
ولَقَدْ جَاءَتْ النُّصُوصُ الشَّرْعيَّةُ الكَثيرةُ في فَضْلِ عَمَلِ المُرَابِطينَ فِي سَبيلِ الله عَلَى ثُغُورِ المُسْلِمينَ، رَوَى البُخَاريُّ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ رَسُولَ الله قَالَ: ((رِبَاطُ يَومٍ فِي سَبيلِ الله خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا عَلَيْهَا)) ، ورَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحهِ عَنْ سَلْمَانَ الفَارسيِّ عَنْ رَسُولِ الله أنَّهُ قَالَ: ((رِبَاطُ يَومٍ ولَيلَةٍ خَيرٌ مِنْ صِيامِ شَهرٍ وقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيهِ رِزْقَهُ وأمِنَ الفَتَّانَ)).
الرِّباطُ هَوَ العَمَلُ عَلَى حِرَاسَةِ المُسْلِمينَ، فَكَيفَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ حِرَاسَةُ المُقَدَّساتِ؟! وكَيفَ إذَا كَانَ في ذَلِكَ حَقْنٌ لِدِمائهِمْ؟! كَيفَ إذَا كانَ في ذَلِكَ مَنْعُ الظُّلْمِ عَنهُم؟!
الرِّبَاطُ أفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ كمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ جَمعٌ مِنَ العُلَمَاءِ؛ لأنَّهُ بالرِّباطِ تُحْقَنُ دِمَاءُ المُسْلِمينَ الموَحِّدينَ، ولَقدْ وَرَدَ في الحديثِ الذِي رَوَاهُ التِّرْمِذيُّ عَنْ أبي صَالِحٍ مَولَى عُثْمانَ بنِ عَفَّانِ قَالَ: سَمِعتُ عُثْمانَ وهُوَ عَلَى المِنْبرَ يَقُولُ: إنِّي كَتَمْتُكُمْ حَديثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله كَرَاهيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لي أنْ أُحَدِّثكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ الله خَيرٌ مِنْ ألفِ يَومٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المنَازِلِ)).
قَالَ المنَاوِيُّ: "والحديثُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ الرِّبَاطَ أفْضَلُ لأنَّهُ جَعَلَهُ الغَايَةَ التي يَنْتَهي إليهَا أعْمَالُ البِرِّ، والرِّبَاطُ يَكُونُ بِحَقْنِ دِمَاءِ المسْلِمينَ، والجِهَادُ يَكُونُ بسَفْكِ دِمَاءِ المُشْرِكينَ، فانْظُرْ مَا بَينَ الدَّمَينِ حتَّى يَصِحَّ لَكَ أفضَلُ العَمَلَينِ" اهـ. وقَالَ أحدُ العُلَماءِ: ومَنْ يُسَوِّي بينَ مَنْ يَسْفِكُ دَمَهُ ليَحْمِيَ دِمَاءَ المسْلِمينَ ومَنْ يَسْفِكُ دَمَهُ ليُريقَ دِمَاءَ المُشْرِكينَ؟!
عِبَادَ الله، إنَّ كُلَّ رَجُلِ أمْنٍ يَعْمَلُ في بلادِ الإسْلامِ مَتَى مَا أخْلَصَ لله القَصْدَ فَهُوَ في رِبَاطٍ، مِنْ حينِ بَدَأ إلى أنْ يَفْجَأهُ الموتُ.
يَقُولُ الشيخُ ابن بازٍ رَحِمهُ الله: "عَمَلُ المتَطَوِّعينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ضِدَّ الفَسَادِ مَعَ رِجَالِ الأمْنِ يُعْتَبرُ مِنَ الجِهَادِ في سَبيلِ الله، لمَنْ أصْلَح الله نِيَّتَهُ، وهُوَ مِنَ الرِّبَاطِ في سَبيلِ الله؛ لأنَّ الرِّباطَ هُوَ لُزُومُ الثُّغورِ ضِدَّ الأعْدَاءِ، وإذَا كَانَ العَدوُّ قَدْ يَكُونُ في البَاطِنِ احْتاجَ المُسْلِمُونَ أنْ يَتَكاتَفُوا مَعَ رِجَالِ الأمْنِ ضِدَّ العَدوُّ الذِي يُخشَى أنْ يَكُونَ في البَاطِنِ يُرْجَى لهمْ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُرَابِطينَ، ولَهُم أجرُ المُرَابِطِ لحِمَايَةِ البلادِ مِنْ مَكَائِدِ الأعْدَاءِ الدَّاخِليِّينَ. وهَكَذا التَّعاوُنَ مَعَ رِجَالِ الهيئَةِ الآمِرينَ بالمَعْرُوفِ النَّاهينَ عَنِ المُنْكَرِ يُعْتَبَرُ مِنَ الجِهَادِ فِي سَبيلِ الله في حَقِّ مَنْ صَلُحَتْ نِيَّتَهُ؛ لِقَولِ الله سُبحَانَه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وقَولِ النَّبيِّ : ((مَا بَعَثَ الله مِنْ نَبِيٍّ فِي أمَّةٍ قَبْلي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وأصْحَابٌ يأخُذُونَ بِسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأمْرِهِ، ثُمَّ إنَّها تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ مَا لا يُؤمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهمْ بِلِسَانِهِ فَهُو مُؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، ولَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ" اهـ.
ألاَ فَلْيَعْلَم كُلُّ رَجُلِ أمْنٍ يَعْمَلُ لحِراسَةِ هَذَا البَلَدِ أنَّهُ مَتَى مَا أخْلَصَ لله النِّيَّة فَهُوَ مُجَاهِدٌ في سَبيلِ الله.
أقُولُ هَذَا القَولَ، وأسْتَغْفِر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ لله عَلَى إحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأنِهِ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْليمًا كَثيرًا إلَى يَومِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
وإنَّ مَا حَصَلَ خِلالَ الأيَّامِ المَاضِيَةِ مِنْ قَتْلِ رِجَالِ الأمْنِ والاعْتِدَاءِ عَلَيهِمْ مَا هُوَ إلاَّ عَمَلٌ مُنْكَرٌ وجُرْمٌ شَنيعٌ، ولَكُمْ أنْ تَتَأمَّلُوا الفَرْقَ بَينَ القَاتِلِ والمقْتُولِ؛ أمَّا رِجَالُ الأمْنِ فقَدْ قَالَ فيما رَوَاهُ مُسْلِمٌ وأحْمَدُ: ((كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلاَّ الذِي ماتَ مُرَابِطًا فِي سَبيلِ الله، فإنَّهُ يُنَمَّى لهُ عَمَلُهُ إلَى يَومِ القِيَامَةِ، ويأْمَنُ فِتنَةَ القَبْرِ)) ، وعِندَ ابن مَاجَه: ((مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبيلِ الله أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الصَّالِحُ الذِي كَانَ يَعْمَلُ، وأجْريَ عَليْهِ رِزْقَهُ، وأُمِّنَ مِنَ الفَتَّانِ، وبَعثَهُ الله يَومَ القِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الفَزَعِ)) ، يَقُولُ الطِّيبيُّ رَحِمهُ الله: "أي: يُقَدَّرُ لَهُ مِنَ العَمَلِ بَعْدَ مَوتِهِ كَمَا جَرَى مِنهُ قَبلَ المَمَاتِ، وأُجْرِيَ عَلَيهِ رِزْقُهُ، أي: يُرْزَقَ في الجَنَّةِ كالشُّهَدَاءِ، ذَلِكَ إذَا قَصَدَ حِرَاسَةَ الدِّينِ ونُصْرَةَ المسْلِمينَ وإعْلاءَ كَلِمَة الله". أمَّا القَاتِلُ مِنْ هَؤلاءِ البُغَاةِ الخَارجِينَ عَنِ الجَمَاعَةِ فقَدْ رَوَى التِّرمِذِيُّ وحَسَّنهُ أنَّ النَّبيُّ قالَ: ((مَنْ أهَانَ سُلْطَانَ الله في أرْضِهِ أهَانَهُ الله)) ، قَالَ أهْلُ العِلمِ: وَمِنْ إهَانَةِ السُّلْطَانِ إهَانَةَ جُنْدِهِ، وأيُّ إهَانَةٍ أعْظَمُ مِنَ القَتْلِ؟! فَلْيَنْتَظِرِ القَتَلَةُ لِرِجَالِ الأمْنِ الهَوانَ في الدُّنْيَا والهَوَانَ يَومَ القِيَامَةِ، كَمَا أخْبَرَ اللهُ بذلِكَ فقَال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحمَّدٍ...
(1/5281)
المخاطر الأربعة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال شريعة الإسلام وشمولية أحكامها. 2- في تطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه من المنافع والفوائد ما يبهر العقول. 3- خطورة شرب الدخان وتعدي ضرره إلى غير متعاطيه. 4- الأمر بإعفاء اللحية وحف الشارب. 5- التحذير من إسبال الثياب. 6- التحذير من الغناء وبيان مفاسده. 7- الدعوة إلى إنكار المنكرات وعدم السكوت عنها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَإِنَّ أَصدَقَ الحدِيثِ كَلامُ اللهِ تَعَالَى، وخيرَ الهديِ هَديُ محمَّدٍ ، وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وَكُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وَكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، اتَّقُوهُ واعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ تَفُوزُوا بِخَيرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ مِنَ المُسَلَّمَاتِ عِندَ المسلِمينَ جَميِعًا أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ كَامِلٌ، كَامِلٌ بِأَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ، كَامِلٌ بِصَفَاتِهِ وَمُمَيِّزَاتِهِ، لاَ نَقْصَ فِيهِ بَأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَمَنِ ادَّعَى خِلاَفَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ أَمرًا عَظِيمًا واجَتَرَأَ عَلَى كَلاَمٍ قَدْ يُؤَدِّي بِهِ إِلى الزَّيغِ، يَقُولَ اللهُ سُبْحَانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُولُ اللهِ إِلاَّ صورَ تَكَالِيفَ وَمَشَاقٍ وَأَوَامِرَ مُخَالِفَةٍ لِلهَوَى وَنَوَاهٍ مُعَارِضَةٍ لَهُ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النّعِيمِ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَمَا نَفَذَت إِليهِ بَصِيرَتهُ؛ لِجَهْلِهِ وَلكَثَافَةِ حِجَابِ الذُّنُوبِ عَلَى قَلْبِهِ.
إِنَّ مِثْلَ هَذَا ـ عِبادَ اللهِ ـ يَسْتَثْقِلُ الطَّاعَةَ وَيَسْتَمْرِئُ المَعْصِيَةَ، وَلاَ تَسْأَلْ عَنْ قَسْوةِ قَلْبِهِ وَضِيقِ صَدْرِِهِ وَطُولِ هَمِّهِ وَحُزْنِهِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ رَأسًا بِمَا خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، فَهُو مُنْحَرِفُ المِزَاجِ، فِطرَتُهُ مُجْتَالَةٌ، وَاخْتِيَارُهُ لِنَفْسِهِ أَسْوَأُ اخْتِيَارٍ.
إِنَّ فِي أَوَامِر اللهِ وَنَوَاهِيهِ مِنَ الحِكَمِ مَا يَبْهَرُ وَلاَ يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عالِمٍ، كَذَلِكَ فِيهَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ مَا لا يُحَاطُ بِهِ. إنَّ مَنْفَعَةَ قَلْبِ الإِنْسَانِ وَرُوحِهِ بامْتِثَالِهِ أَمْرَ رَبِّهِ أَعْظَمُ مِنَ انْتفَاعِ بَدَنِهِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الأَغْذِيَةِ الطَيِّبَةِ المُنَاسِبَةِ وَاحْتِمَائِهِ عَمَّا يَضُرُّهُ مِنَ الأَخْلاَطِ الرَّدِيِئَةِ، بَلْ أَجَلُّ وَأعْظَمُ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ غَايةَ مَا يُصِيبُهُ بِسَبَبِ فَقْدِ الطَّعَامِ المُنَاسبِ أَوِ الإِكْثَارِ مِنْ أَكلٍ مُعَيَّنٍ هُوَ المَوتُ، وَالمَوتُ لاَ بُدَّ مِنهُ إِذ هُوَ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ، أَمَّا فَقْدُ رُوحِ العَبْدِ وَقَلْبِهِ لِغَذَائِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ وَخَلْطُه بالذُّنُوبِ فَهَذَا لاَ عِلاَجَ لَه إِلاَّ تَوبَةٌ تَمحُو الذَّنْبَ وَتُصْلِحُ القَلْبَ، أَو هَلاَكٌ وَعَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَمْ يُخْلَقْ سُدى وَلَمْ يُتْرَكْ هَمَلاً، إِنَّهُ مُمتَحَنٌ مُبْتَلى فِي صُورَةِ حُرٍّ طَلِيقٍ، فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129]، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود: 7]، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46]، ويجمعُ هذهِ الآياتِ كلِّها قولُ اللهِ سبحانَهُ: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]. يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمَهُ اللهُ: "قَدْ أَنْصَفَكَ ـ واللهِ ـ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نفْسِكَ".
إنَّ الأمرَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ شديدٌ، لكننا عنهُ في غفْلَةٍ، وقدْ قَالَ اللهُ: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 3]. أَلاَ فَلْتَعْلَمُوا جَميعًا ـ أيُّها النَّاسُ ـ أَنَّ مُحَاسبَةَ النَّفْسِ اليومَ أَيْسَرُ مِنْ مُفَاجَأَتِهَا غَدًا بِالفَجِيعَةِ وَالأمُورِ المَهُولَةِ الفَظِيعَةِ.
لَما ضَعُفَتْ أَو عُدِمَتْ عِنْدَنَا المَعْرِفَةُ بِمَنفَعَةِ الطَّاعَةِ فِي العَاجِلِ وَالآجِلِ هَانَ عَلَينَا ارْتِكَابُ المَحظُورِ وَتَرْكُ المَأْمُورِ.
أَرْبَعَةُ أُمُورٍ هِيَ مَخَاطِرُ كَبيرَةٌ وَأُمُورٌ عَظِيمَةٌ تُرتَكَبُ مُجَاهَرَةً وَلاَ يُمْكِنُ إخْفَاؤُهَا مِنْ صَاحِبِهَا، كَثُرَتْ بَينَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ، لاَ لِشَيءٍ إِلاَّ لِضَعْفِ الوَازِعِ الدِّينِيِّ عِندَ النَّاسِ، وَلَيسَ عَيبًا أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنْسَانُ عَنْ هَذِهِ الأُمورِ، وَلَكِنَّ العَيبَ ومَحَلَّ العَجَبِ أَنَّ النَاصِحِينَ سَكَتُوا عِنِ الحَدِيثِ عَنْهَا.
أَمَّا الخَطَرُ الأَوَّلُ ـ عِبادَ الله ـ فَهُوَ شُرْبُ الدُّخَانِ، وَإِنِّمَا بَدأْنَا بِهِ لأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ صَاحِبَهُ وَغيرَهُ. نَعمْ، الدُّخَانُ قَدْ يُخْفِيهِ شَارِبُهُ، وَلَكِنَّ آثَارَه تُنْبئُ عَنْ أَسْرَارِه، إِنَّهُ مِنَ الخَبَائِثِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا مُجتَمعُ المُسْلِمِينَ اليَومَ. هَذَا الدُّخَانُ فَشَا شُرْبُهُ بَينَ الصِّغَارِ وَالكِبَارِ، وَصَارَ شُرَّابُه يُضَايِقُونَ بِهِ النَّاسَ وَيُؤْذُونَ بِهِ الأَبْرِيَاءَ مِنْ غَيرِ خَجَلٍ وَلاَ حَيَاءٍ، وَلَوْ أَنَّ إنْسَانًا تَنَفَّسَ فِي وَجْهِ هَذَا المُدَخِّنِ أَو بَصَقَ أَو امْتَخَطَ كَمْ يَكُونُ تَألُّمُهُ بِهَذَا الفِعْلِ، وَهُوَ يَفْعَلَ أَقْبَحَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِن إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.
عِبادَ اللهِ، كَمْ تَعَالَتْ مِنْ أَصوَاتٍ فِي إِنْكَارِ شُرْبِ الدُّخَانِ، وَكَمْ صَدَرتْ مِن تَحْذِيرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ، وَكَمْ صَدَرَ مِنْ فَتَاوَى شَرْعِيَّةِ بِتَحْرِيمِهِ، وَكَمْ أُلِّفَ مِنْ كُتُبٍ وَرَسَائِلَ فِي بَيَانِ مَفَاسِدِهِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَشَارِبُوهُ لاَ يُجيبُونَ دَاعِيًا، وَلاَ يُصْغُونَ لِنَاصِحٍ؛ لأَنَّهُ قَدْ أَسَرَهُمْ وَأَحْكَمَ أَسْرَهُمْ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ مِنهُ خَلاَصًا إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَصِدْقِ العَزِيمَةِ وَشَهَامَةِ الرُّجُولَةِ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ يَفْقِدُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَاسْمَعُوا هذَا الحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ فِي الصَّحِيحَينِ حَتَّى تَعْلَمُوا آثَارَ الذُّنُوبِ وَمَاذَا تَفْعَلُ؛ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((منْ أكلَ ثومًا أو بَصلاً فلْيَعْتَزِلْنا)) ، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((فإنَّ الملائِكَةَ تَتَأَذَّى ممَّا يتأَذَّى مِنهُ النَّاسُ)). فَانْظُرُوا إِذَا ابتعَدَتِ المَلاَئِكَةُ عَنِ الشَّخَصِ فَمَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ إِلاَّ الشَّيَاطِين، فَتَأمُّلْوا آثَارَ الذُّنُوبِ وَمَا يَتَفرَّعُ عَنْهَا مِنَ الفَسادِ، إِنَّ البَصَلَ وَهُوَ حَلاَلٌ تَتَأذَى مِنْ رَائِحَتِهِ المَلاَئِكَةُ، فَكَيفَ بالدُّخَانِ؟!
عِبَادَ اللهِ، أمَّا الخَطَرُ الثَّانِي وَالمُنْكَرُ الآخَرُ فَهُوَ حَلقُ اللِّحيَةِ، حَلقُ اللِّحيَةِ ارْتِكَابُ مَعْصِيَةِ الإِلَهِ وَتَغْييرُ خَلقِهِ، إِنَّ الخَالِقَ حَكيمٌ عَلِيمٌ، زَيَّنَ الرَّجُلَ باللِّحْيَةِ، وَمَنْعَهَا المرأَةَ؛ لأَنَّ مِنْ صِفَاتِ الرَّجُلِ الخُشُونَةُ وَهِيَ مِنْ كَمَالِه، والمرْأَةُ لأَنَّهَا مَحلُّ مُتعَةٍ للرَّجُلِ خَلَقها اللهُ بِوَجهٍ لا شَعَرَ بهِ، فهيَ تتطلَّبُ الخشُونَةَ منَ الرجُلِ، كما يَتَطَلَّبُ هُوَ مِنْهَا النُّعُومَةَ.
مَا أكْثَرَ مَا يَقُولُ الخُطَبَاءُ وَالوعَّاظُ فِي كَلاَمِهم تِلكَ الجُمْلَةَ العَظِيمَةَ المُخْتَصَرةَ: إِنَّ خَيرَ الهديِ هَدي مُحمدٍ ، وَلقدْ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ، فَهَدْيهُ الكَامِلُ فِي كُلِّ شَيءٍ، وَمِنْ هَدْيِهِ إِعْفَاءُ لحيَتِهِ وَإحْفَاءُ شَارِبِهُ، يَقُولُ جَابرُ بنُ سَمُرَةَ: لَقدْ كَانَ النَّبِيُّ كَثيرَ شَعَرِ اللِّحيَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. بَلْ إنَّ الأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلهِ كَانُوا أَصْحَابَ لِحى، بَلْ إنَّ حَلْقَهَا مِنْ صِفَاتِ اليَهْودِ، يَقُولَ : ((خَالِفُوا المُشْركِينَ؛ وَفِّرُوا الِّلحَى وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ)) مُتَّفقٌ عَلَيه.
إِنَّ اللِّحيَةَ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ عَلاَمة عَلَى الرُّجُولَةِ، واسْمَعُوا مَا جَاءَ فِي تَرجَمَةِ قَيسِ بِنِ سَعْدِ بِنِ عُبَادَةَ ، فَقَد كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ، وَكَانَ مَوصُوفًا بِالكَرَمِ وَالسَّخَاءِ وَالجُودِ بحدٍّ لا يوصفُ، إلا أنَّ فيهِ أمرًا تمنَّى قومُه منَ الأنصارِ زَوَالَهُ عنهُ، وهو أنَّهُ كانَ لا ينبُتُ في لحيتِهِ شَعَرٌ، فَقَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّنَا دَفَعْنَا أَمْوَالَنَا وَاشْتَرَينَا لِقَيسٍ لِحْيَةً. يَا لَيتَ قَومِي يَعْلَمُونَ مَا فِي اللّحْيَةِ مِنَ الرُّجُولَةِ وَصِفَاتِ الكَمَالِ.
أَمَّا الخَطَرُ الثَّالِثُ ـ عِبَاد اللهِ ـ فَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ وَذَنْبٌ عَظيمٌ، إنَّه إِسْبَال الثِّيابِ وَجَرّهَا، منكَرٌ عَظِيمٌ وَرَدتْ فِي الزَّجْرِ عَنهُ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ، لَكنَّ البَعْضَ مِنَ الناسِ يَسْمَعُهَا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا هُو عَلَيهِ مِنْ إسْبَالِ ثَيَابِهِ عَلنًا دُونَ مُبَالاَةٍ أَو حَيَاءٍ.
كَيفَ يُسْبِلُ الرَّجُلُ ثَوبَهُ أَو قَمِيصهُ أَو إِزَارَهُ وَقَدْ قَالَ : ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكِلِّمُهُم اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إليهم وَلاَ يُزَكِّيهمَ وَلَهمْ عذابٌ أليمٌ)) ، قَالهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أبو ذَرٍّ: مَنْ هم يَا رَسُولَ اللهِ، خَابُوا وَخَسِرُوا، قَالَ: ((المُسبِلُ إِزَارَهُ، وَالمنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتهُ بِالحَلِفِ الكَاذبِ)) رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَولُهُ : ((مَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَينِ مِنَ الإزَارِ فَهو فِي النَّارِ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ؟! كَيفَ يَجرؤُ النَّاسُ عَلَى إِسْبَالِ الثِّيَابِ وَقدْ قَالَ : ((يا جابرُ، إياكَ وإسْبَالَ الإزارِ؛ فإنها مِنَ المَخيلَةِ، وإِنَّ اللهَ لا يُحبُّ المَخِيلَةَ)) رواهُ أبُو داودَ والترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ بسندٍ صحيحٍ، وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ: ((بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ تُعْجِبهُ نفسُهُ مُرَجِّلٌ رأسَهُ يخْتَالُ فيِ مشْيتِهِ إذْ خَسَفَ اللهُ بهِ، فَهُو يتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يومِ القِيامَةِ)) ؟!
أَمَّا الخَطَرُ الرَّابعُ ـ عِبادَ اللهِ ـ فَهُوَ أَمرٌ تَضْحكُ مِنهُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ وَالفِطَر المُسْتَقِيمَة، هُوَ الغِنَاءُ، وَهُوَ وَاللهِ الشَّقَاءُ وَالعَنَاءُ، إِنِّهُ الصَّادُّ عَنِ الهُدَى وَالفَاتِحُ لأَبوابِ الرَّدَى، مَبنَاهُ على مَتَاهاتِ الخيالِ، بل ويُفضِي بصاحبِهِ إلى الضلالِ والخبالِ، به تفتحُ أبوابُ الأَمَانِي، وَلاَ تَسألْ المشْغُوفَ فِيهِ عَمَّا يَجِدُ وَيُعَانِي، إِنَّهُ طَنْطَنَةٌ وَدَنْدَنَةٌ وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيء مِنَ المَعَانِي، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 6، 7]، يَقُولُ أَكثرُ المُفسِّرِينَ: إِنَّ لَهْوَ الحَدِيثِ هُوَ الغِنَاءُ، وَيَقُولُ عَبد اللهِ بن مَسْعُودٍ: (وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، هُوَ الغِنَاءُ) رَوَاهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ وابنُ جريرٍ بِسَندٍ صَحِيحٍ. وَرَوىَ البُخَاريُّ فِي صَحِيحِه مِنْ حديثِ أَبِي مالكٍ الأشعرِيِّ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعازِفَ)).
إِنَّ الغِنَاءَ ـ عِبادَ اللهِ ـ هُوَ رُقْيَةُ الزِّنَا كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ: "وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ نَحنُ وَغَيرُنَا وََعَرَفْنَاهُ بالتَّجَارُبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرتِ المَعَازِفُ وَآلاتُ اللَّهوِ فِي قَومٍ وَفَشَتْ فِيهم وَاشْتَغَلُوا بِهَا إِلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيهمْ العَدوَّ وَبُلُوا بالقحْطِ وَالجَدْبِ وَوُلاَةِ السُّوءِ".
عِبادَ اللهِ، هذِهِ مَخَاطِرُ أَربَعةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ فِي شَخْصٍ وَمَا أَكْثَرُهُم، وَقَدْ يَكْتَفِي البَعْضُ بِبَعْضِهَا، وَلَقَدْ ظَهَرَتِ اليَومَ ظُهُورًا يَبْعثُ عَلَى الخَوفِ مِنَ العُقُوبَةِ، فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ العَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعدُ: فَإِنَّ المُنْكرَ إِذَا خَفِيَ لاَ يَضُرُّ إِلاَ مُرْتَكِبَهُ وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَيهِ، أَمَّا المُجَاهَرةُ بِالمُنْكَرِ فَهِيَ دَليِلُ الوَقَاحَةِ وَعَدمِ المُبَالاَةِ، وَتَدْلُّ عَلَى أَنَّ عِندَ فَاعِلِهَا أُخَيَّاتٍ لَهَا.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ الأربَعةَ صَارَتِ اليَومَ مِنَ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتي يَجِبُ إَنْكَارُهَا، فَمَنْ أَنْكَر بَرِئتَ ذِمَّتُهُ، وَمَنْ سَكَتَ فَهْوَ شَرِيكٌ للعَاصِي فِي وِزْرِهِ. إِنَّهُ لاَ يَسَعُ المُسْلِمَ السُّكُوتُ، فَأَصْحَابُ هَذِهِ المَعَاصِي تَرَاهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فِي الشَّارِع وَالسُّوقِ، بَلْ حَتَّى فِي البَيتِ. وَإِنَّ هَذِه الأمورَ الأَرْبَعَةَ وَغَيرَهَا مِنَ المُنْكَراتِ لا تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ كَمَا قِيلَ: أَلْسُنٌ تَصِفُ وَقُلُوبٌ تَعْرِفُ وَأَعْمَالٌ تُخَالِفُ.
لاَ تَجْتَرِئوا ـ عِبادَ اللهِ ـ عَلَى حُدُودِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَذَابَه عَلَى أَهْلِ السَّبْتِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَمَا نَجَا إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِالمَعْرَوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، أَمَّا نَحنُ اليَومَ فَالمْنكَرَاتُ بَينَنَا لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، فَإِلى اللهِ المُشْتَكَى.
أَيُّهَا النَّاسُ، عُودُوا إِلَى رَبِّكمَ وَارْجِعُوا إِليهِ، فَإِلى المَتَابِ قَبلَ التَحَوُّلِ وَالاْنقِلاَبِ، ارْجِعُوا إِلى رَبِّكمْ فَإِنَّهُ وَاللهِ لَيسَ دُونَهُ حُجَّابٌ وَلاَ حَرَسٌ، مَا أَقْرَبَ الرَّحْمَةَ إِذَا أَبْدَى النَّاسُ التَّوبَةَ، فَيومُ القِيَامةِ مَوعِدُ الخَلاَئق لِفَصلِ القَضَاءِ، وَهُنَاكَ تَتَجَلَّى العِزَّةُ وَيَظْهَرُ العَدْلُ: حِسَابٌ وَمِيزَانٌ وَصِرَاطٌ وَنِيرَانٌ، هُنَاكَ تَبدُو الفَضَائحُ وَتَظْهَرُ القَبَائِحُ، يُحَاسَبُ الإِنْسَانُ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
وَاسْتَمِعَوا ـ عِبادَ اللهِ ـ إِلى قَولِ اللهِ سُبْحَانَهُ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5282)
توجيهات نبوية
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق, مواعظ عامة
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قبول النصيحة من صفات العقلاء الراشدين. 2- الوصايا النبوية الخمس. 3- اتقاء المحارم من الطاعات الجليلة. 4- الرضا بقسمة الله عز وجل من أعمال القلوب العظيمة التي تثمر الحمد. 5- محبة الخير للغير من شيم الكرام ومن خلال المحسنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعدُ: فإنَّ تَقوَى الله شِعَارٌ للفائِزينَ في الدُّنْيا والآخِرَة، فاتَّقوا الله أيُّها النَّاسُ؛ يُيَسِّرُ لكُمْ أُمورَكُمْ، ويَزِدْكمْ رِزقًا في دُنياكُمْ، وتَفَوزُوا في الآخرَةِ بكُلِّ خَيرٍ وسَعَادةٍ.
أيُّهَا النَّاسُ، آيةُ رجحانِ العقلِ ودَليلُ استِنَارةِ الرَّأي العملُ بنُصحِ النَّاصحينَ والسيرُ عَلَى نَهْجِ المرشِدينَ الذين لا يُتَّهَمونَ في نُصْحِهم، ولا يسألونَ النَّاسَ أمرًا على إرشَادِهِمْ وهِدَايتهمْ، النَّصيحَة التي جَعلَها الله سبحَانَهُ شِعارَ هَذَا الدِّين، فهيَ وسيلةُ تعبيرِ المرْءِ عن رَأيهِ، وهيَ طَريقُ إصْلاح المجْتَمع، ليسَ للنَّصيحةِ حَواجِزُ مُعينة ضِدَّ شخصٍ مَا، بَلْ هِيَ واجِبَةٌ عَلَى المسْلِم لكُلِّ شَخْصٍ يَعيشُ مَعَهُ مَهمَا عَلَتْ منزِلتُهُ أو دَنَتْ, لكنْ مَا دَامتْ النصِيحَةُ صَادِرَةً ممن لا تُهمةَ في نصِيحتهِ ولا يُعلمْ منهُ رَغبةٌ في وُصولٍ أو نُزُولٍ فإنَّ القُلوبَ تنفَتِحُ لَهَا، كَيْفَ إذَا كَانت النَّصيحَةُ صَادِرَةً مِنْ خَيرِ النَّاصحينَ وَسيِّد الهُدَاةِ المرشِدِينَ؟! كَيفَ إذَا كَانَتْ صَادِرَة مِنْ مُحمدٍ بنِ عبد الله الذِي وَصَفهُ الله بقَولِهِ في مُحكَمِ كِتَابه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]؟!
ولقَدْ كانَ كثيرَ النُّصحِ لأمَّتِهِ، دائم البَذْلِ لهمْ، حتَّى حَفِظَ عنه صَحَابَتُه عِدَّةَ نَصائحَ جَامِعَةٍ، حَوتْ خيرًا كَثيرًا بِعِبَاراتٍ مُوجَزةٍ، ويَكفي المرءَ أنْ يَعيدَ النَّظَرَ فيهنَّ كَي يَصلَ إلى خَيرٍ في أمورٍ كَثيرَةٍ، دُونَ عَناءٍ وطولِ مُكَابَدةٍ. ولَقَدْ كانَ مما نَصَحَ بهِ أمتَه خَمْسُ وَصَايا كَريمَة، في الأخذِ بَهَا صَلاحُ أمرِ الدِّينِ والدُّنْيَا والفَلاحُ في الآخِرَةِ والأولَى.
رَوى التِّرمذيُّ والإمَامُ أحَمدُ والخَرَائطيُّ في مَكَارِمِ الأخْلاقِ والطَّبَرانيُّ في الأوسَطِ والبَيْهَقيُّ في الشُّعَب عَن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ: قالَ رسُولُ الله : ((مَنْ يأخُذْ عَنِّي هَؤلاءِ الكَلِماتِ فَيعملُ بِهنَّ أو يُعَلِّمْ مَن يَعمَل بهِنَّ؟)) فقَال أبُو هُريرَةَ: فقلتُ: أنَا يا رَسُولَ الله، فأخَذَ بيدِي فَعَدَّ خَمسًا وقَالَ: ((اتَّقِ المحارِمَ تَكنْ أعبدَ النَّاسِ، وارضَ بِمَا قَسَمَ الله لَكَ تَكُنْ أغْنَى النَّاسِ، وأحسِنْ إلى جَارِكَ تَكُنْ مُؤمنًا، وأحبَّ للنَّاسِ ما تُحِبُّ لنَفْسِكَ تَكُنْ مُسلِمًا، ولا تُكْثِر الضَّحِكَ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُميتُ القَلْبَ)).
عباد الله، جَمَعَ النبيُّ في هَذَا الحديث بَيْنَ عِدَّة أمُورٍ ممَّا يحفِزُ المتعلِّم عَلى التعلُّم، فأثار عَزيمةَ مَنْ أمامهُ حِينَ طَلبَ شخصًا يَقْوَى علَى تحمُّلِ هذهِ الكَلِماتِ؛ ليكُونَ ذلِكَ حَافِزًا لذَوي الهِمَم العَاليةِ في استقَاءِ هذِه النَّصائحِ، فإنْ كَانَ المرءُ عَاجزًا عَنْ ذلكَ فلا أقلَّ مِنْ أنْ يأخُذَهُنَّ فيوصِلهنَّ إلى مَن يَعملُ بهنَّ، فربَّ حامِلِ فقهٍ لا فِقهَ مَعهُ، ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ منهُ. ثمَ لمَّا أرادَ تعليمَ أبي هُريرةَ بهذهِ الكَلِماتِ أخذَ بيدِهِ وعَدَّها في يَدِه كَي يَكونَ أربَطَ لذهْنِ المتعلِّمِ وأبعدَ عَنْ شُرودِ ذِهنِهِ، وفيه لُطفٌ في التَّعامُلِ بينَ المُعَلِّم وتلميذِهِ.
أمَّا النصيحَةَ الأولى فاتِّقاءُ المحارِم: ((اتقِ المحارِمَ تَكُنْ أعبدَ النَّاس)) ، المحارِمُ التي أمَرَ رَسُولُ الله باتِّقائِهَا هِيَ حُقُوقُ الله التي يَجِبُ القِيَامُ بِهَا وعَدَمُ التَّفْريطِ فيهَا مِنْ صَلاةٍ وصِيامٍ وزَكَاةٍ وحَجٍّ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عَنْ مُنكرٍ وغير ذَلكَ منَ الواجِبَاتِ، فترْكُهَا حَرامٌ يجب أنْ يُتقى، وكذلكَ كُلّ ما نَهَى الله عنهُ مِنْ كِبارِ الذِّنُوبِ وصِغَارِها الإقدَامُ عَليهِ حَرَامٌ يجبُ أنْ يُتَّقى، يَقولُ المناويُّ رحمهُ الله: " ((اتَّقِ المحَارِمَ)) أي: احْذَرْ الوقُوعَ في جميعِ ما حَرَّم الله عَلَيكَ، ((تَكُنْ منْ أعبدِ النَّاس)) ؛ لأنَّه يَلزَمُ مِنْ تركِ المَحَارِمِ فِعلُ الفرائِضِ، فباتِّقَاءِ المحارِمِ تَبقَى الصَّحيفَةُ نَقيَّةً مِن التَّبِعاتِ، فالقليلُ مِنَ التَّطوعِ مَعَ ذَلِكَ يَنْمُو وتَعْظُمُ بَرَكتهُ، فَيصيرُ ذَلِكَ المتَّقي مِن أكابِرِ العبّادِ" اهـ. وقَالَ ابنُ العَربي: "المحرَمَات عَلى قِسمَينِ: مُحرَّمُ الفِعلِ ومحرَّمُ التَّركِ، فإذَا اتَّقاهما العَبْدُ فَقَامَ بِحَقِّ الأمرِ والنَّهيِ، وهو رأسُ العِبَادَةِ، ووراءَ ذلكَ تَرك المُشتبهِ، وبعدَه تَركُ المباحِ، فمنْ تَرَك المُحرَّم هَانَ عليهِ مَا بَعدهُ" اهـ.
عِبادَ الله، إنَّ انْهِمَاكَ النَّاسِ في المحظُورِ وبُعدهُمْ عَنْ طَاعَةِ الله أذْهَبَ مِن قُلُوبهم مَخافَةَ الله، فأينَ مَنْ حَفِظَ سَمعَه عَنِ الحَرَامِ وبَصَرَهُ عَنِ الحَرامِ ويَدَهُ عَنِ الحَرامِ؟! لما قَلَّ ذلِكَ قَلَّتْ عِبادةُ النَّاسِ.
وتأمَّلُوا كَيفَ كَانَ الصحَابَةُ رضيَ الله عنهم، كَانَ الرَّجُلُ يأتي إلى النبيِّ وَجِلاً خَائِفًا لأنَّه حَانَتْ مِنهُ التفَاتَة إلى امرَأةٍ مُحرَّمةٍ عليهِ، فَجَاءَ إلى رَسُولِ الله مقرًّا بخطأهِ معترفًا بِذنْبهِ، لذلِكَ قَالَ : ((لا تَسُبُّوا أصْحَابي؛ فوَالذي نَفْسي بيَدِه لو أنْفَقَ أحدُكم مِثل أُحدٍ ذَهبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَهُ)). الصحابَةُ بشرٌ مِثلنا، لكنَّهم بَلَغُوا مِنَ الخوفِ من الله منزلةً جَعَلَتْهُم مُتَّقينَ لَهُ، مُبتعدينَ عَنْ محَارِمِهِ؛ ما لمْ يَكُنْ مَوجُودًا عِندَ مَنْ بَعدَهُمْ.
النَّصيحَةُ الثَّانية: الرِّضَا بقسْمَةِ الله، ((وارضَ بما قَسمَ الله لَكَ تَكُنْ أغْنى النَّاسِ)) ، الرِّضَا بقسْمَةِ الخَالِقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّسْليمِ بقَدَرِ الله والقَنَاعَة بتَدبيرهِ والاعترَاف بِعَدْلِهِ.
أيُّهَا النَّاسُ، اقْتَضَتْ حِكمةُ الله أنْ يَكونَ في النَّاسِ أغنياءٌ وفُقراءٌ، فَيَجِبُ أنْ يَرضَى الجميعُ بهذِهِ القِسمَةِ العَادِلة التي اقتَضَتها حِكمَةُ العَليمِ الخبير، و((ليسَ الغِنَى بكَثْرَةِ العَرَضِ، وإنَّما الغِنى غِنَى النَّفسِ)) كَمَا جَاءَ في الحديثِ، كما أن القَنَاعَة غِنى وعِزّ بالله، وضدُّها فقرٌ وذُلٌّ للغير، ومَنْ لم يَقْنَعُ لم يشبَعْ أبَدًا، ففي القَنَاعةِ العِزُّ والغَنى والحرِّية، وفي فَقْدِهَا الذُّلُّ والتعبُّد للغيرِ، ((تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عبدُ الدّرهَمِ، تَعِسَ وانْتَكَس، وإذا شِيكَ فلا انْتَقَشْ)). يقولُ المناويُّ رحمهُ الله: يَتعينُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أن يَعلَمَ أنَّ الرِّزقَ بالقَسمِ لا بالعلمِ والعَقْلِ، ولا فَائدةَ للجدِّ؛ حِكمةً بالغةً دَلَّ الله بها علَى قُدْرتهِ، وأنَّ الأمورَ تجري بمشيئتهِ، قالت الحكَمَاءُ: لو جَرَتِ الأقسامُ عَلَى قَدرِ العُقولِ لم تعِشِ البهائِمُ، ويقولُ أبُو تَمَّام:
ينالُ الفَتى مِن عَيشهِ وهوَ جِاهلٌ ويكدى الفتى في دَهْرِهِ وهوَ عَالِمُ
ولو كانت الأرزاقُ تَجرِي على الْحِجَا هَلَكنَ إذنْ مِن جَهلِهنَّ البَهَائمُ
ومن كلام الأوائِل: كَمْ مَنْ عَرَج إلى المَعالي عَرَجْ.
أما النَّصيحةُ الثالثة التي أوصَاكُم بِهَا رسولُ الله فالإحسانُ إلى الجَار: ((وأحسِن إلى جارِكَ تَكُنْ مؤمِنًا)). الإحسانُ إلى الجارِ في كُلِّ أوجهِ الإحسانِ حَقٌّ مشروعٌ، صَوَّرَهُ رسولُ الهُدَى في أوضَحِ صُورَةٍ حيثُ قالَ: ((مَا زالَ جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظَننتُ أنَّه سيورثُهُ)) ، وقالَ: ((مَنْ كانَ يؤمنُ بالله واليَومِ الآخِرِ فليُحسنْ إلى جَاره)) ، وقال أيضًا: ((والله لا يُؤمِنُ)) ، قيلَ: مَنْ يا رسولَ الله؟ قال: ((مَنْ لا يأمَنُ جَارُهُ بَوائِقَهُ)) ، يعني غوائِلَهُ وأذاه. أحاديث صحيحَةٌ كُلّها مؤكِدَةٌ عَلى حَقِّ الجارِ والإحْسَانِ إليهِ، فإذَا لم يقدِرِ المرءُ على الإحْسَانِ إلى جَارِهِ فلا أقلَّ مِنْ أنْ يَكُفَّ أذاهُ عنهُ، وإن كان مؤذيًا لَكَ فعَلَيكَ الصَّبر حتَّى يجعلَ الله لَكَ فَرَجًا، فقَدْ قالَ : ((خَيرُ الجِيرانِ عندَ الله خَيرهمْ لِجَارِه)) ، فإذا أحسنَ المرءُ إلى جارِهِ طَمِعَ بعدَ ذلِكَ أن يكونَ مُؤمِنًا كَمَا وَعدَ بذلِكَ رَسُولُ الله.
أما النَّصيحَةُ الرَّابعةُ فَهِيَ تسويةُ المرءِ غيرَهُ بنفسِهِ: ((وأحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لنفْسِكَ تَكُنْ مُسلِمًا)). العَاطِفَةُ الكَريمةُ والخُلقُ النبيلُ هوَ الذي يحجِزُ النَّفْسَ عَن الأنانيَةِ ويُبَاعِدُهَا عَن الحَسَدِ الذَّميمِ، ليغْدُو المرءُ بِهَا مُسلمًا كَاملَ الإسلامِ، فالمرءُ يُحِبُّ لنفسِهِ السَّلامَةَ مِن أسْبابِ الهَلَكَةِ، فإذا أحبَّها لِغيرهِ دَخَلَ في هَذَا الحديث. قالَ السُّديُّ: "لي ثَلاثونَ سنةً في الاستغفَارِ عن قولي: الحمدُ لله، ذلِكَ أنَّهُ وقعَ ببَغْدادَ حَريقٌ فاسْتقبلني رَجلٌ فقالَ: نَجَا حَانوتُكَ، فقلتُ: الحمدُ لله، فمنذُ قُلتها وأنا نَادِمٌ حَيثُ أردتُ لنفْسي خَيرًا دونَ المسلمينَ". ويَقولُ : ((المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسَانهِ ويدِهِ))، وكمْ مِنْ مسلِمٍ اليومَ لا يُريدُ النَّاسُ مِنهُ مالاً ولا جَاهًا بقدْرِ ما يُريدُونَ مِنهُ أنْ يَكُفَّ أذَاهُ عَنهم بِقَولٍ أو فِعلٍ.
فاتَّقُوا الله عِبادَ الله، وتَخَلَّقُوا بالأخلاقِ الفَاضِلةِ، واسْتَمْسِكُوا بالهَدْي الرَّشيدِ؛ لتحظَوا بالمَقَامِ السَّعيدِ.
أقولُ مَا قدْ سَمعتُمْ، وأستغفرُ الله لي ولَكُمْ فاسْتَغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ يَهدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطِهِ المستقيمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمدًا عَبدُه ورَسُولُهُ، ذُو الخُلِق الكَريمِ والنَّهجِ القَويمِ، صَلَّى الله عَليهِ وعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ إلى يَومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا الله عِبادَ الله، واعْلَموا أنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذِي يَكونُ فَرَحُهُ إذَا تأتَّى للمسلمينَ مَا يأمَلُونَ مِنْ نَصرٍ وتأييدٍ وعِزّ وتَمكينٍ، لذلِكَ كَانَ مِنْ مَوتِ القَلْبِ وفَرَاغِهِ عن الاشتغَالِ بمَا يَنفعُ صاحِبهُ في دُنياهُ وأخرَاهُ أنْ تَرَاهُ كثيرَ الضَّحِكِ وهيَ الوصيَّةُ الخامِسَةُ التي أوصَى بها محمدٌ : ((ولا تُكثرِ الضَّحِكَ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُميتُ القَلْبَ)).
القلوب الفَارِغَةُ مِنَ المسؤوليَةِ أيًّا كانَتْ دُنيويَّةً أو دينيَّةً يَشْتغِلُ أصحَابُهَا بالهَزَلِ، ويبحثونَ عَنِ المضْحِكَاتِ على اختلافِ ألوَانَها، رَغبةً في الإغْرَاقِ في الضَّحِكِ وإسْرافًا فيهِ، وفي ذَلِكَ كُلِّه إماتَةٌ للقلبِ وإعراضٌ لَهُ عَن التَّذكِرَةِ، وحسبُ المسلمِ مِنْ ذَلِكَ زَاجِرًا قولُ الرسول الكريمِ : ((لَو تَعَلْمُونَ مَا أعلَمُ لضَحِكْتُمْ قَليلاً ولَبَكيْتُم كَثيرًا)). الإكثارُ مِنَ الضَّحِكِ مُضِرٌّ بالقَلْبِ؛ لأنَّ المرءَ إذَا ضَحِك اغْتَرَّ، فأثَّرَ ذَلكَ في قَلبهِ، فَفَتَر عَن العِبَادَةِ وكَسَلَ عَن الاجتِهَادِ في العَمَلِ لِغَفْلَةِ قَلبهِ، فإذَا أكثرَ مِنْ ذلِكَ ودَامَ عَليهِ مَاتَ قَلْبُهُ بِتَرْكِ أصْلِ العَمَلِ وإعرَاضهِ عَنِ الخَوفِ مَنَ الله.
تِلكُمْ ـ عِبادَ الله ـ هِيَ وَصَايَا خيرِ النَّاصحينَ وسيِّدِ المرسَلينَ، وهُوَ الحريصُ على هدايَةِ الأمةِ والأخذِ بِهَا إلى ما فيهِ صَلاحُهَا واستِقَامَةِ أمرِهَا.
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنَّ السَّعيدَ مَنْ أَخذَ نفسَهُ باتِّباعِ هَدْي مُحمدٍ ، والشَّقيُّ مَنْ خالَفَ أمرهُ.
ثم اعلَمُوا أن الله أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على رسول الهدى...
(1/5283)
خطورة البدع وأهلها
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة إسلام ضماد بن ثعلبة وقومه. 2- بلاغة خطبة الحاجة التي كان يعلمها النبي أصحابه. 3- تأملات في مضامين خطبة الحاجة. 4- من أهم الأصول التي تضمنتها خطبة الحاجة التحذير من البدع والإحداث في دين الله. 5- صفتان من أبرز صفات أهل البدع. 6- أسباب ظهور البدع في الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعد: فَإِنَّ أَصدَقَ الحدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالى، وخيرَ الهديِ هَديُ مُحمدٍ ، وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُهِا، وَكُلَّ مُحدثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وَكلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
وَبَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ، فَلَقَد كَانَ رَسُولَ اللهِ يَفْتَتِحُ مَوَاعِظَهُ وَخُطَبَهُ وَكَلاَمَهُ لأصْحَابِه بِهَذِه الخُطْبَةِ العَظِيمَة الَّتِي تُسَمَّى خُطْبَةَ الحَاجَةِ، كَانَ يُعَلِّمُهَا أَصْحَابَهُ فِي شَأنِهمْ كُلِّهِ؛ وَلهذَا قَالَ شَيخُ الإسلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّة رَحَمِهُ اللهُ: "إِنَّ هَذِهِ الخُطْبَةَ عِقدُ نِظَامِ الإسلاَمِ وَالإِيمَان". وإنْ كانَ عَجِيبٌ فَعَجَبًا أنَّ هَذِه الخُطْبَةَ كَانتْ سَببًا لِحَقْنِ دِمَاءِ قَومٍ مِنَ العَرَبِ وَدُخُولِهم فِي الإسلاَمِ.
رَوَى الإمَامُ مُسلمٌ في صَحِيحِه عَنْ ابن عَباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ ضِمَادَ بنَ ثَعلَبةَ قَدِم مَكَّةَ وَكَانَ مِن أزدِ شَنُوءةَ، وَكَانَ يَرقِي مِنْ هَذهِ الرِّيحِ ـ وَهو نَوعٌ مِنْ المرَضِ ـ، فَسمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أهلِ مكَّةَ يقولُون: إنَّ محمدًا مجنونٌ، فقالَ ضِمَادُ: لَو أَنِّي أَتيتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَشفيَهُ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ فَقَال: يَا مُحمَّدُ، إِنِّي أرْقِي مِنْ هَذهِ الرِّيحِ، وَإنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ، فَهلْ لَكَ أنْ أرقِيَكَ؟ فقال رسول الله : ((إِنَّ الحمدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ، مَن يهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهْ، وَأشهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهَ، وَأشهدُ أَنَّ محمَّدًا عبدُه وَرسُولُهُ، أمَّا بعدُ)) ، قَالَ: فَقَالَ ضِمَادُ: أعِدْ عليَّ كَلِماتِكَ هؤلاءِ ، فأعادَهُنَّ عليهِ رسولُ اللهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقالَ ضِمادُ: لَقَدْ سَمعتُ قَولَ الكَهَنَةِ وَقولَ السَّحَرَةِ وقَولَ الشُّعَراءِ، فَمَا سَمِعتُ مِثلَ كَلَماتِكَ هَؤلاءِ، وَلقَدْ بَلَغَتْ نَاعُوسَ البَحرِ ـ يَعنِي أَنَّ بَلاغَةَ كَلاَمِكَ وَصَلتْ إلى قَعرِ البَحرِ مِنْ رَوْعَتِهَا ـ، ثُمَّ قَالَ ضِمَادُ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايعكَ عَلَى الإسلاَم، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسَولُ اللهِ : ((وَعَلَى قَومِكَ)) ، قَالَ ضِمَادٌ: وَعَلَى قَومِي، قَالَ: فَبَعَثَ الرَّسُولُ سَرِيَّةً فَمَرّوا بقَومِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ للجَيشِ: هَل أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤلاءِ شيئًا؟ فَقَالَ رَجلٌ مِنَ القَومِ: أصَبتُ مَطهرَةً، فَقَال: رُدَّهَا فَإِنَّ هَؤلاءِ قَومُ ضِمَادَ.
عِبادَ الله، إِنَّ خُطبَةً بَلَغَتْ هَذِهِ المَنْزِلَةَ جَدِيرَةٌ أن يُعِيدَ الْمرءُ النَّظَر في مَضَامِينِها وَمَا اشْتَمَلَت عَليهِ، إنَّهَا حَوَتْ عُيونَ المَدْحِ وَالثَّناءِ عَلَى اللهِ خَالِقِ الأرضِ وَالسَّمَاءِ، تَضَمَّنَتْ عُبُودِيَّةَ المرْءِ وَحَاجَتَهُ إِلى إلَههِ وَمَعْبُودِهِ وَاسْتِعَانَتَهُ بِه فِي كُلِّ أُمُورِهِ وَجَميعِ شُؤُونِه، لَقَدْ طُرِّزَتْ هذِهِ الخُطبَةُ بِثَلاثِ آيَاتٍ جَامِعَاتٍ للوصِيَّةِ بِتَقَوى اللهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَجلِّ الوَصَايا؛ لأنَّ مَنْ اتَّقَى اللهَ خَافَ مِنهُ وَحَذِرَ بَطْشَهُ. إنَّ هَذِهِ الخُطْبَةَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ جَاءتْ لِتَقْرِيرِ أصْلَينِ عَظِيمَينِ هُمَا قُطبُ رَحَى الإسْلاَمِ وَعِمَادُهُ: الإقَرارُ لِلهِ سُبْحانَهُ باِلتَّوحِيدِ الَّذيِ يُوجِبُ الإِخْلاَصَ لَهُ فِي كُلِّ الأُمُورِ، وَالشَّهَادَةُ لمحمَّدٍ بالرِّسَالةِ التي تُوجِبُ مُتَابَعَتَهُ في كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبيرٍ.
عِبادَ اللهِ، إنَّ تَكرَارِ النبيِّ لِهذِهِ الخُطْبةِ في أمُورٍ كَثيرةٍ وَتَعْليمهِ لأصْحَابِهِ لَها كَمَا ورَدَ ذَلِكَ عَنِ ابن مَسْعودٍ قَالَ: عَلَّمَنا رَسُولُ اللهِ خُطْبَةَ الحاجةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِه، ثُمَّ ذََكَرهَا. رَوَاه أحمدُ وَأبو داودَ والنَّسَائِيُّ وَغيرُهم. كُلَّ هَذا يُوجِبُ التَّأملَ في المَقصُودِ مِنْهَا.
ألا وَإنَّ مَما ظَهرَ وَاضحًا في هذه الخُطبَةِ تَحذيرُه مِنَ البِدَعِ وَالإحدَاثِ في الدِّين، يَقولُ سُبْحَانَه وَتَعَالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3].
يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "هَذِهِ أَكبرُ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأمَّةِ، حَيثُ أَكْمَلَ لَهمْ دِينَهُمْ، فَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلى دِينٍ غَيرِهِ، وَلاَ إِلى نَبيٍّ غَيرِ نَبِيِّهم، وَلهَذََا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالى خَاتَمَ الأنبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلى الإِنسِ وَالجِنِّ، فَلاَ حَلاَلَ إلاَّ مَا أَحَلَّهُ، وَلاَ حَرَامَ إلاَّ مَا حَرَّمَهُ، ولاَ دِينَ إلاَّ مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيءٍ أَخَبَر بِهِ فَهُو صِدْقٌ وَحَقٌّ لاَ كَذِبَ فِيه وَلا خُلْفَ، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115]، أي: صِدْقًا في الأَخبَارِ وَعدْلاً فِي الأَوَامرِ وَالنَّوَاهِي، فَلمَّا أَكمَلَ لَهمُ الدِّينَ تَمَّتْ عَلَيهمْ النِّعْمَةُ".
أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ البِدَعَ أَصلُ كُلِّ بَلاءٍ وَفتْنَةٍ، وَإِنَّ الشَّيطَانَ هُوَ أَوُّلُ الدَّاعِينَ إِليهَا، وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119]. البِدَعُ هَدمٌ لأَسَاسِ الدِّينِ وَعَمُودِهِ وَهُوَ الإِخلاَصُ لِلهِ سُبْحَانَهُ والمُتَابَعَةُ لِرَسُولِهِ، يَقُولُ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ: "سَنَّ رَسُولُ اللهِ وَخُلَفَاؤهُ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا؛ الأَخذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللهِ وَقُوَةٌ عَلَى دين اللهِ، لَيسَ لأَحَدِ تَغْييرٌ فِيهَا، وَلاَ النَّظَرُ فِي رَأي يُخَالِفُهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدِي، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهَا وَلاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى وَأَصَلاَهُ جَهَنِّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا".
البِدَعُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ كُلُّ مَا أُحدِثَ فِي الدِّينِ مِنْ طَرِيقَةٍ يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالى، وَهِيَ فِي ذَاتِهَا مُضادَّةٌ لِغَيرَِها مِنَ العِبَادَاتِ.
البِدَعُ تَبدأُ صَغِيرَةً يَسْتَهينُ بِهَا النَّاسُ، ثُمَّ تَكْبرُ حَتَّى تُصْبِحَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ المُسَلَّمَاتِ، يَقُولُ عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ أيضًا في خُطْبَةٍ خَطَبَهَا لَمَّا تَولَّى الخِلاَفَةَ: "أَلاَ وَإنِّي أُعَالِجُ أمرًا لاَ يُعِينُ عَلَيهِ إلاَّ اللهُ، قد فَنِيَ عليه الكَبيرُ وَكَبُرَ عَليهِ الصَّغيرُ، وَفصَحَ عَليهِ الأعْجَمِيَّ وَهَاجَرَ عَليهِ الأعرَابيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لاَ يَرونَ الحَقَّ غَيرَهُ".
أيُّهَا النَّاسُ، البِدَعُ والمحدَثَاتُ وَاقِعَةٌ في الأمَّةِ كَمَا أخبرَ نَبِيُّنا ، فَإِنَّهُ أخبرَ أَنَّ هَذِه الأمةَ ستَسيرُ على ما سارَ عليه اليهودُ والنَّصَارَى، وَإنَّمَا ضَلَّ أُولَئِكَ حينَ زَيَّن لهم الشَّيطَانُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقصَ عَلَى حَسَبِ أَهوَائِهم.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالإِمَامُ أَحمدُ وَابنُ أبي عَاصِمٍ عَن أبِي وَاقِدٍ الليثيِّ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ النَّبيِّ قِبَلَ حُنَيْنٍ وَنَحنُ حَدِيثُو عَهدٍ بكُفرٍ وَلِلمُشْرِكينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ حَولَها ويَنُوطُونَ بها أَسلحَتَهم يُقَالَ لَها: ذَاتُ أَنوَاطٍ، فمَرَرَنَا بِسِدرَةٍ فَقلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كما لهم ذاتُ أنْواطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((اللهُ أكبرُ! هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]، لَتَركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لَو دَخَلَوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه))، قَالُوا: مَنْ هُم يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((اليَهُودُ والنَّصَارَى)).
عِبادَ اللهِ، إِنَّ البدَعَ تَشوِيهٌ لِجَمالِ الدِّينِ وَطَمسٌ لِمَعَالمِ السُّنَنِ وَحيْلُولَةٌ بيَنَ النَّاسِ وَبَينَ دِينهِم الصَّحِيحِ. إِنَّ أصحَابَ البِدَعِ منذُ أَنَّ ابتَدَؤُوا بِخُروجِ الخَوَارجِ عَلَى عَثْمَان إِلى وَقْتنَا هَذَا مِنَ الصَّعْبِ حَصْرُهُمْ أَو الكَلاَم عَلَى جَمِيعِهم، وَلَكِنْ يَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَجْمَعُهم صِفَتَانِ:
الأُولَى: الخُرُوجُ عَنْ مَنهَجِ السَّلَفِ الصَّالحِ في السَّيرِ عَلَى الدَّليلِ، يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ ابنُ تَيْميَّةَ رَحمَهُ اللهُ: "وأَمَّا أَهلُ البِدَعِ فَهُم أَهلُ أَهوَاءٍ وَشُبُهَاتٍ، يَتَّبِعُونَ أَهَوَاءهُم فِيمَا يُحبُّونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ، وَيَحكُمُونَ بِالظَّنِّ وَالشُّبَهِ، فَهُم يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنْفُسُ، وَلَقَد جَاءهُمْ مِنْ رَبهمْ الهُدَى، فَكُلُّ فَرِيقٍ مِنهُمْ قَدْ أَصَّلَ لِنَفْسِهِ أَصْلَ دِينٍ وَضَعَهُ؛ إِمَّا بِرَأيهِ وَقِياسِهِ الَّذِي يُسَمِّيهِ عَقْلِياتٍ، وَإِمَّا بذَوقِهِ وَهَواهُ الَّذي يُسَمِّيهِ ذََوقيَّاتٍ، وَإمَّا بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ القُرآنِ وَيُحرِّفُ فيهِ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيقُولُ: إِنَّمَا يَتَّبِعُ القُرآنَ كالخَوارِجِ، وإِمَّا بِمَا يَدَّعِيهِ مِن الحدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَيَكُونُ كَذِبًا وَضَعِيفًا كَمَا تَدَّعِي الرَّوَافِضُ مِنَ النَّصِّ وَالآياتِ، وَكَثيرٌ مِمَّنْ يَكُونُ قَد وضَعَ دِينَهُ بِرَأْيِهِ أَو ذَوقِهِ يَحْتَجُّ مِنَ القُرآنِ بِمَا يَتأوَّلُهُ عَلَى غَيرِ تَأوِيلِهِ، ويجعَلُ ذَلك حُجَّةً لاَ عُمدةً، وَعُمدتُهُ فِي البَاطِنِ عَلَى رَأيهِ" اهـ.
وَيَقُولُ الشَّاطِبيُّ رحمهُ اللهُ: "لاَ تَجدُ مُبْتَدِعًا مِمَّنْ يَنتسِبُ إِلى المِلَّةِ إِلاَّ وَهُو يَسْتَشْهدُ عَلى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ"، وَيقَولُ ابنُ أَبِي العِزِّ: "كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أرْبابِ البِدَعِ يَعْرِضُ النُّصُوصَ عَلَى بِدْعَتِهِ وَمَا ظَنَّهُ مَعْقُولاً، فَمَا وَافَقَه قَال: إِنَّهَ مُحْكَمٌ وَقَبِلَهُ واحْتَجَّ بِهِ، وَمَا خالَفَهُ قَالَ: إِنُّه مُتَشَابِهٌ ثُمَّ رَدَّهُ، وَطَرِيقَةُ أَهلِ السُّنَّةِ أَن لاَ يعدِلُوا عَنِ النَّصِّ الصَّحِيحِ وَلاَ يَعَارِضُوهُ بِمَعْقولٍ وَلاَ قَولِ فُلاَنٍ" اهـ.
اللَّهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَالحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعدُ: فَإِنَّ الصِّفَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي تَجْمَعُ أَهْلَ البِدَعِ هِيَ الخُرُوجُ عَنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، وَيَتَمَثَّلُ ذَلِكَ فِي الخُرُوجِ عَلَى إِمَامِ المُسْلِمِينَ وَمَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَو تَأَمَّلتُم ـ عِبادَ اللهِ ـ فِرَقَ أهْلِ البِدَعِ والضَّلاَلِ مِنْ عَهدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشدِينَ إلَى وَقْتِنَا هَذَا لَوَجَدْتُّمُوهُم بَدَؤوا أَوّلاً بِلبَاسِ الدِّين وَالتَّجْديدِ وَإحْيَاءِ الإسْلاَمِ مِنْ رَقْدَتِهِ وَمُوَاكَبَتهِ لِلأُمَمِ الأُخْرَى، حَتَّى إذَا قَوِيَ عُودُهَا وَاشْتَدَّ سَاعِدُهَا أظْهَرَتْ هَدَفَهَا وَهُو الخُروجُ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَلَكم أَنْ تَعْجَبُوا كَيفَ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يُبَايعُ أَصْحَابَهُ فِي بِدَايَةِ إسْلاَمِهمْ عَلَى أمَرٍ لاَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ في عَهْدِهِ، وَهُو الإِقْرَارُ بالجَمَاعَةِ وَعَدَمِ الخُرُوجِ عَلَيهَا، مَا فَعَلَه إلاَّ إشَارَةً إلى وُقُوعِهِ فِيمَا بَعْدَهُ. جَاءَ فِي الصَّحِيحين وَغَيرهِمَا عَنْ عُبادَةَ بن الصَّامِتِ قال: بَايعنَا رَسولَ اللهِ عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ في المَكْرَهِ وَالمنْشَطِ وَالعُسْرِ وَاليُسرِ وَالأَثَرَةِ عَلَينَا وَأن لاَ نُنَازِعَ الأمْرَ أَهلَهُ، وَفِي روَايةٍ: وَعَلَى أنْ نَقُولَ الحقَّ أينَمَا كنا لا نَخَافُ في اللهِ لَومَةَ لاَئِمٍ. يَقَولَ العُلَيمِي رَحمَه اللهُ: "إِنَّ أصْحَابَ الأَهْوَاءِ مِثلَ العَقَارِبِ، يَدْفِنُونَ أَجسَامُهمْ وَأَيدِيهمُ فِي التَّراب وَيُخْرجُونَ رُؤوسَهُمْ، فَإِذَا تَمَكَنُوا لَدَغُوا، وَكَذِلِكَ أَهلُ البِدَعِ هُمْ مُخْتَفُونَ بَينَ النَّاسِ، فإِذَا تَمَكنُوا بَلَغُوا مَا أرَادُوا".
عِبادَ اللهِ، لاَ يَقْوَى أَمرُ البِدَعِ وَأهْلِهَا إلاَّ إذَا تَوفّرَ لَها سَبَبَانِ:
أَوَّلُهمَا: قِلَّةُ العُلَمَاء واندِثَارُهُم أو سُكُوتُهم عَنْ تَبِليغِ الحَقِّ وَالإِنكَار عَلَى البَاطِل، عِنْدئِذٍ تَصِيرُ البِدَعُ وَكَأَنَّهَا مْقَرَّرَاتٍ وَشَرائع مُحَرَّرَاتٍ، يَقُولُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِه البِدَعُ: "مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَيسَ بِعَالمٍ فَضَلَّ وَأَضَلَّ".
نَعم أَيُّهَا النَّاسُ، تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ الطَّبِيبُ وَالمُهَنْدِسُ وَالبَيطَرِيُّ، وَصَارَتْ الفَتوى عُرضَةً لِكُلِّ نَاعِقٍ. وَلَقد أَخْبَرَ عَنْ أَثَرِ فُقدَانِ العُلَمَاءِ وَمَوتِهم وَمَا يُحْدِثُ ذَلِكَ مِنَ الفَجْوَة فِي الدِّينِ.
وَثَانِي الأَمْرَينِ اللَّذَين يَزِيدَانِ مِنِ انْتِشَارِ البِدَع: اتِّصَالُ النَّاسِ بأمَمِ الكُفْرِ وَالإِلْحَاد اتِّصَالاً يَجْعَلُهمْ يَبْتَعدُونَ عَنِ دِينِهم، وَخُذُوا مِثَالاً عَلَى ذَلِكَ بِدْعَةَ القَولِ بِخَلقِ القُرآنِ، بِدْعَةٌ تَشْمَئزُّ مِنْهَا الفِطَر، قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّ وُقُوعهَا كان بعَدَ أَنْ تَرْجَمَ المَأمَونُ كُتَبَ اليُونَانِ وَانْتَشَرتْ بَينَ النَّاسِ. وَمَا أَظُنُّ اتِّصَالاً وَقَعَ فِيمَا مَضَى كَاتِّصَالِ النَّاسِ اليومَ بَعضِهم بِبَعضٍ، وَلَكِنْ يأبَى اللهُ إلاَّ أنْ يَكُونَ البَقَاءُ لِدِينهِ فَقَط.
بَقِيَ أنْ تَعْلَمُوا ـ أيُّها النَّاسُ ـ أنَّ أَهلَ البِدَعِ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ تَمسُّكًا بآرَائهم وَدِفَاعًا عَنْهَا، وَهُم مِنْ أَكْسَلِ النَّاسِ عَنِ الطَّاعة وَأكثرِهمْ بُغْضًا للسُّنَّةِ، وَأمَّا نَشَاطُهم في إحْيَاء بِدْعَتِهم فَيَقَولُ تَعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية: 2، 3]، يَقولُ ابن كثيرٍ: "هَذِه عَامَّةٌ فِي كَلِّ مَنْ عَبدَ اللهَ عَلَى غَيرِ طَرِيقِ الحَقِّ، يَحسب أَنَّه مصِيبٌ فِيهَا وأن عَمَلهُ مَقُبولٌ وَهُوَ مخطِئٌ وَعَمله مَردُودٌ".
عباد الله، إن الله وملائكته يصلون على النبي...
(1/5284)
قتل الأنفس المعصومة بغير حق
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إكرام الله لبني آدم وتفضيلهم على سائر المخلوقات. 2- عظم مكانة المؤمن عند الله وعلو منزلته. 3- حرمة دم المسلم وعرضه وماله. 4- حرمة ترويع المؤمنين. 5- لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً. 6- النهي عن حمل السلاح وسل السيف على المؤمن. 7- شناعة وجرم من قتل نفسا بغير حق. 8- حرمة قتل المعاهد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ، فإنَّ مَنْ اتَّقَى اللهَ خَافهُ، ومَنْ خَافهُ حَذِرَ بَطْشَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].
أيُّهَا النَّاسُ، لَقَدْ كَرَّمَ اللهُ جَلَّ وعَلا الإنسَانَ، وخَصَّهُ بخصائصَ تُميزُهُ عنْ غيرهِ مِنَ المخْلوقاتِ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]، أيْ: جَعَلنَا لهُمْ كَرمًا أيْ: شَرَفًا وفَضْلاً.
خَلَقَهُمْ فأحْسَنَ خَلْقَهمْ عَن سَائِرِ الحَيَوَانِ، خَلَقَ لَهمْ في البَرِّ والبَحرِ مَا لا يَصِحُّ لسِوَى بَني آدَمَ، خَصَّهمْ بالمطَاعِمِ والمشَارِبِ والملابِسِ، وأعْطَاهُمْ منَ القُدْرةِ على تَصْنِيعِ المآكِلِ والمطَاعِمِ، وكَانَ غَايةُ الحيَوَانِ أنْ يأكُلَ لحمًا نَيِّئًا أو طَعامًا غَيرَ مُركَّبٍ. كَرَّمَهُم اللهُ بالنُّطقِ بهذَا اللِّسانِ، سَخَّرَ لهمْ الهَوَامَّ والحيوانَ.
ألا وإنَّ مِنْ أعظمِ مَا خَصَّ اللهُ بهِ الإنْسَانَ أنْ صَانَ دَمَهُ وعِرضَهُ ومَالَهُ عَنْ أنْ يُعتَدَى عَليهِ، فهوَ مَعصُومُ الدَّمِ مُحرَّمُ القَتْلِ بدونِ قِصَاصٍ شرعيٍّ، مَالُهُ مُحتَرمٌ، لا يَجُوزُ الاعْتِداءُ عَليهِ، عِرْضُهُ مِنْ أغلَى مُكْتَسَباتِهِ، لا يَحِلُّ لِشَخْصٍ أنْ يَعْتَدي عَليهِ، يَقُولُ : ((والذِي لا إلهَ غَيرُهُ، لا يَحلُّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنِّي رَسُولُ الله إلا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّاني، والمفارِقُ لِدينِهِ التَّارِكُ للجَمَاعَةِ)) روَاهُ البُخاريُّ.
ذَلِكَ أنَّ المؤمِنَ ـ عِبادَ الله ـ لا يَزِيدُهُ عُمُرهُ إلاَّ خَيْرًا وأجرًا مِنَ اللهِ تَعالى؛ لأنَّ حَيَاتَهُ كُلّهَا طَاعَةٌ للهِ تَعَالى، مَا بَيْنَ صَلاةٍ وصِيامٍ وحَجٍّ وزَكَاةٍ وذِكرٍ لله جَلَّ وعَلا وأمرٍ بالمعْرُوفِ ونَهيٍ عَنِ المنْكَرِ وإحْسَانٍ إلى جَارٍ وَوجهٍ مُنْبَسِطٍ وصُور مِنَ العِبَادَةِ والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162]، وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لا يَتَمَنَّى أحدُكُمُ المَوتَ، ولا يَدعُ بهِ مِنْ قَبلِ أنْ يَأتِيَهُ، إنَّه إذَا مَاتَ أحدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّهُ لا يَزيدُ المؤمِنَ عُمُرُهُ إلاَّ خَيرًا)) رواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ.
لأنَّ المؤمِنَ عِندَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى لهُ مَنْزِلَةٌ سَامِقَةٌ ودَرَجَةٌ رَفِيعةٌ، فَهُو بِخَيرِ مَنْزلةٍ عِندَ رَبِّهِ تَبَاركَ وتَعَالَى، عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ : ((إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إنَّ المؤمِنَ بِمَنزِلَةِ كُلِّ خيرٍ، يَحمَدُني وأنَا أنزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بينِ جَنْبيهِ)) رواه أحمدُ والبَزَّارُ بسَندٍ حَسَنٍ.
ومِنْ عِظَمِ حُرْمَةِ المؤمِنِ أنَّ حُرُمَتَهُ أعظَمُ مِنْ حُرْمَةِ البيتِ الحَرَامِ، يَقُولُ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُما وهُوَ يَنْظُرُ إلى الكَعْبَةِ: (ما أعْظَمَكِ! ومَا أعْظَمَ حُرْمَتَكِ! والمؤمِنُ أعظَمُ حُرْمَةً عِندَ اللهِ مِنْكِ).
ومِنْ عِظَمِ مَنْزِلَةِ المؤمِنِ أنَّ النَّبِيَّ أولَى النَّاسِ بِهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، عَنْ أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُؤمِنٍ إلاَّ وأنَا أولَى النَّاسِ بهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، اقرؤُوا إنْ شِئْتُمْ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]، فأيُّمَا مُؤمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَليَرِثْهُ مَنْ كانُوا، فإنْ تَرَكَ دَيْنًا أو ضَيَاعًا فَليَأتِني فأنَا مَولاَه)) رواه ابنُ مَاجَه وأبُو دَاودَ.
ولمْ يُؤثَر عَنهُ أنَّهُ دَعَا عَلَى قَومٍ مُعَيَّنينَ إلاَّ قِلَّةً، ومِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فأصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ في رأسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصْحَابَه فقَالَ: هَلاَّ تَجِدُونَ لي رُخْصَةً في التَّيَممِ؟ فقَالُوا: ما نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وأنتَ تَقْدِرُ عَلَى الماءِ، فاغتَسَلَ فمَاتَ، فلمَّا قَدِمْنَا عَلى النَّبِيِّ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فقال: ((قَتَلوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، ألاَ سَألُوا إذْ لم يَعْلَمُوا، فإنَّما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إنَّمَا كَانَ يَكفيهِ أنْ يَتَيمَّمَ)) رواه أبو داودَ وابنُ ماجَه بِسَندٍ صَحيحٍ. فَدَعَا عَليهمُ النَّبِيُّ بأنْ يُهلِكَهُمُ اللهُ؛ لأنَّهُمْ تَسَبَّبُوا في قَتْلِ نَفْسٍ بَريئَةٍ، لأنَّهُمْ تَسَرَّعُوا في الفُتْيا.
أيُّها الناسُ، أرَأيتُمُ الدُّنْيَا ومَا فيهَا مُنذُ أنْ خَلقَ اللهُ آدَمَ إلى قِيامِ السَّاعَةِ، فإنَّ زَوَالها أهْوَنُ عِندَ الله مِنَ الإقْدَامِ عَلَى قَتلِ مَعْصومٍ، يَقُولُ كَمَا في سُنَنِ النَّسَائيِّ والتِّرمِذيِّ بسَنَدٍ صَحيحٍ: ((لَزَوالُ الدُّنْيَا أهونُ عِندَ الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) ، وقَالَ أيْضًا: ((قَتْلُ المؤمِنِ أعْظَمُ عِنْدَ الله مِنْ زَوَالِ الدُّنْيا)) رَوَاهُ النَّسَائيُّ.
بَلْ أشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أنَّ الله حَرَّمَ تَروِيعَ المؤمِنِ، فَكَيْفَ بِقَتْلِهِ؟! يَقُولُ النَّبيُّ : ((لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يَرَوِّعَ مُسْلِما)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ والتِّرمِذِيُّ والبَيْهَقِيّ. بَلْ رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ أنَّ النَّبيِّ قالَ: ((سِبَابُ المؤمِنِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ، وحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرمَةِ دَمِهِ)). فَحُرمَةُ الدَّمِ وحُرْمَة المالِ جَعَلَها اللهُ لمَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلاَّ الله مُحمَّدٌ رَسُولُ الله، يَقُولُ النَّبيُّ : ((إنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذا، في بَلَدِكُمْ هَذَا)) رَوَاهُ مُسْلمٌ.
لكِنَّ المُصيبَةَ العُظْمَى الَّتي قَدْ لا يَجِدُ المرءُ مِنهَا مَخْرَجًا إقْدَامُهُ عَلَى قَتْلِ أخِيهِ المُسْلِمِ بغَيرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ، رَوَى أبُو الدَّرْداءِ عَنْ رَسُولِ الله أنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ المؤمِنُ مُعنِقًا صَالحًا مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فإذَا أصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّح)) رَوَاه أبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، يَعْني: لا يَزَالُ يَسيرُ بِسُرعَةٍ، فإذِا أصَابَ دَمًا حَرَامًا انْقَطَعَ بهِ السَّيْرُ.
عِبادَ الله، إنَّ هذِه الدُّنْيَا فُسحَةٌ للمُؤمِنِ يَنْتقِلُ فيهَا بَينَ أنْوَاعِ الطَّاعةِ، ويَعُود إلى رَبِّهِ متَّى ما اقْتَرَفَ ذَنْبًا أو خَطِيئةً، لكِنَّ الوَرْطَةَ العَظِيمَةَ التي يُوقِعُ المرْءُ فيهَا نَفْسَهُ ولا يَسْتَطيعُ المخْرَجَ مِنها أنْ يَصيبَ الدَّمَ الحَرَامَ، عنِ ابنِ عُمرَ رضيَ الله عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ الله : ((لَنْ يَزَالَ المؤمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دينهِ مَا لمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا)) رَوَاهُ البُخَاريُّ، ورَوى البُخاريُّ أيضًا عَنْ عبدالله بنِ عُمرَ أنَّهُ قَالَ: (إنَّ مِنْ وَرَطاتِ الأمُورِ التي لا مَخْرجَ لمَنْ أوقَعَ نَفْسَهُ فيهَا سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بغَيرِ حِلِّهِ). ورَوى أبُو دَاودَ في سُنَنهِ عَنْ عُبَادةَ بنِ الصَّامتِ رضي الله عنه عَنْ رسُولِ الله أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُؤمنًا فاغْتَبَطَ بِقَتْلهِ لم يَقْبلِ الله مِنهُ صَرْفًا ولا عَدْلاً)) ورُويَ: ((فاعْتَبَطَ)) ، والمعنى عَلى اللَّفْظِ الأوَّلِ: مَنْ قَتَل مُؤمنًا وفَرِحَ بِقَتْلهِ، وعلَى الرِّوايَةِ الثَّانيةِ: مَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا ظُلمًا بغَيرِ قِصَاصٍ لم يَقْبلِ اللهُ منْهُ نَافِلَةً ولا فَرْضًا.
وليس القَتل فَقَطْ، بَلْ حتّى حَمل السِّلاحِ وسَلّ السَّيفِ علَى النَّفْسِ المؤمِنَةِ كُلُّ ذلك مِنَ الأمُورِ التي حَرَّمَهَا اللهُ ورَسُولُهُ، يَقُولُ كَما في حَديثِ عبد اللهِ بنِ عُمرَ عندَ البُخَاريِّ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَينا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا)) ، وفي حدِيثٍ آخَرَ: ((مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيسَ مِنَّا)).
كُلُّ تِلْكَ الموَاعِظِ وتِلْكَ العِظَاتِ تَزْجُرُ أصْحَابَ العُقُولِ عَن أنْ يُقدِمُوا عَلى أفْعَالٍ يَنْدَمُونَ بَعدَهَا، ولكِن مَا هِيَ النَّتيجةُ؟ مَنْ قَتلَ نَفْسًا مؤمِنَةً بِغيرِ حَقٍّ فقَدْ جَاءهُ مِنَ الوَعيدِ مَا تَنَهدُّ لهُ الجِبَالُ الرَّاسيَةُ، عَنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رَضيَ الله عَنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله : ((أبَى اللهُ أنْ يجعَلَ لِقَاتِلِ المؤمِنِ تَوبَةً)) ، وفي رِوَايَةٍ: ((إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ الطَّبَرانيُّ في الكَبيرِ والضِّيَاءُ في المُخْتَارَةِ.
إنَّ أوَّلَ مَا يحكُمُ الله بهِ بينَ العِبَادِ يَومَ القِيَامَةِ هِيَ الدِّمَاءُ، كَما جَاءَ ذلِكَ في البُخَاريِّ عَنْ عبدِ الله بنِ مَسعُودٍ.
أيُّهَا الإخْوَةُ، اعْلَمُوا جَميعًا أنَّ قَتْلَ نَفسٍ مُؤمِنَةٍ ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ يُطَالَبُ بِهَا القاتِلُ ولَو بَلَغُوا كَثرَةً لا تَنْتَهي، روَى التِّرمِذيُّ في جَامِعِهِ والطَّبَرانيُّ في المُعْجَمِ الصَّغيرِ عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله : ((لَوْ أنَّ أهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤمِنٍ كَبَّهُمُ الله عَزَّ وجَلَّ في النَّارِ)). ذَلِكَ أنَّ الذُّنُوبَ ـ عَدَا الشِّرْكَ بالله ـ فَإنَّ لِصَاحِبهَا تَوبَةً، مَا عَدَا قَتْل النَّفْسِ المؤمِنَةِ بغَيرِ حَقٍّ، فقدْ جَاءَ فيهَا مِنَ الوَعيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَغْليظِ العُقُوبَةِ، يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلاَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أو مُؤمِنًا قَتَلَ مؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ بسَندٍ حَسَنٍ، ويَقُولُ : ((مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بهِ شَيئًا لم يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ دَخَلَ الجَنَّةَ)) رَوَاهُ ابنُ مَاجَه بِسَندٍ صَحيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ. وإنَّمَا لَم تُقْبَلْ تَوبَةُ القَاتِلِ لأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَقِفَ هوَ والمَقْتُولَ بَينَ يدَي الله يَومَ القِيَامَةِ يَقْتَصَّانِ، يَقُولُ : ((يُؤْتَى بالمَقْتُولِ مُتَعَلِّقًا بالقَاتِلِ، وأوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، حتَّى يَنْتَهي بهِ إلى العَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَني؟)) رَوَاهُ التِّرمِذيُّ والنَّسَائيُّ وابنُ مَاجَه بسَندٍ صَحيحٍ.
عِبادَ اللهِ، ولَيسَ الأمْرُ قَاصِرًا عَلَى النَّفْسِ المؤمِنَةِ، بَلْ حتَّى المُعَاهَدَ فقدْ حَفِظَ الله لَهُ كَرامَتَهُ وحَقَّهُ وهُو مُشْركٌ غَيرُ مُؤمِنٍ، رَوَى البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عبدِ الله بنِ عُمرَ عَنِ النَّبيِّ أنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لمْ يَرَحْ رَائحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعينَ عَامًا)) ، ويَقُولُ : ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا في غَيرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)) أخْرَجَهُ أبُو دَاودَ والنَّسَائيُّ وأحمدُ والحَاكِمُ، ويَقُولُ : ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا بغيرِ حِلِّهَا حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجَنَّةَ أنْ يَشُمَّ رِيحَهَا)) رَوَاهُ أحمدُ والنَّسَائِيُّ والبَيْهَقيُّ.
كُلُّ مَا قَدْ سَمِعْتُمُوهُ هُوَ مِنْ تَكريمِ اللهِ لبَنِي البَشَرِ أنْ يَطَالَهُمْ مِنَ المُنْغِصَاتِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَلْ يَعِي العُقَلاءُ؟!
أقُولُ هَذَا القَولَ، وأسْتَغْفِرُ الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، أفضَلَ مَا يَنْبَغِي لجَلاَلِ وَجْهِهِ وعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ تسْليمًا كَثيرًا إلى يَومِ الدِّينِ.
أمَّا بَعدُ: فَإنَّ مَنِ اتَّقَى الله زَرَعَ الخَشْيَةَ فِي قَلْبِهِ فَخَافَهُ، وأقَامَ شَرِيعَتَهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ ويَرْضَاهُ.
عِبادَ اللهِ، رَوَى أبُو دَاودَ والنَّسائِيُّ والتِّرمِذيُّ وابنُ مَاجَه وغَيرُهُمْ قِصَّة عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ لمَّا حَاصَرَهُ الخَوارِجُ الذِينَ كَانُوا مِنْ أشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، يَقُولُ أُسامَةُ بنَ سَهلٍ: كُنَّا مَعَ عُثْمانَ وهُوَ مَحصْورٌ في الدَّارِ، وكَانَ في الدَّارِ مَدخَلٌ، مَنْ دَخَلَهُ سَمِعَ كَلامَ مَنْ عَلى البَلاَطِ، فَدَخَلَهُ عُثْمانُ فخَرجَ إلينَا وهُوَ مَتَغَيِّرٌ لَونُهُ، فَقَالَ: إنَّهُمْ ليتَوَعَّدُونَني بالقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفيكَهُمُ الله يَا أميرَ المؤمِنينَ، قَالَ: ولِمَ يَقْتُلُونَني؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٌ بَعدَ إسْلامٍ، أو زِنًا بَعدَ إحْصَانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغَيرِ نَفْسٍ)) ، فوَاللهِ ما زَنَيتُ في جَاهِليةٍ ولا إسْلامٍ قَطُّ، ولا أحْبَبْتُ أنَّ لي بدِيني بَدَلاً مُنذُ هَدَانيَ اللهُ، ولا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبمَ يَقْتُلُونَنِي؟!
وعَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنْهُ أنَّ رَسُولَ الله قَالَ: ((إنَّ بَينَ يَدَي السَّاعَةِ لهَرْجًا)) ، قَالُوا: ومَا الهَرْجُ؟ قالَ: ((القَتْلُ)) ، فقَالَ بَعضُ المسلِمينَ: يَا رَسُولَ الله، إنَّا نَقْتُلُ في العَامِ الوَاحِدِ مِنَ المُشْرِكينَ كَذَا وكَذا، فَقَالَ رَسُولُ الله : ((ليسَ بِقَتْلِ المُشرِكينَ، ولَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، ويَقْتُلَ أخَاهُ، ويَقْتُلَ عَمَّه، ويَقْتُلَ ابنَ عَمِّهِ)) ، قَالُوا: ومَعَنا عُقُولُنَا يَومئذٍ؟! قالَ: ((إنَّه لَتُنْزَعُ عُقُولُ أكثرِ أهلِ ذَلِكَ الزَّمانِ، ويَخْلُف لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لا عُقُولَ لَهُمْ، يَحسِبُ أكثرُهُمْ أنَّهُم عَلى شَيءٍ، ولَيْسُوا عَلَى شَيءٍ)) رَوَاهُ ابنُ ماجَه وغَيرهُ بسندٍ حَسَنٍ.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ مَا حَدَثَ مِنْ قَتْلٍ للأنْفُسِ المَعْصُومَةِ جَديرٌ أنْ يُوقِفَ أصْحَابَ العُقُولِ لِيُراجِعُوا أمُورًا كَثيرةً، فمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ إلاَّ نَتِيجَةَ جَهْلِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ بِعِظَمِ هَذَا الذَّنْبِ، وهُوَ الإقْدَام عَلَى قَتْلِ مَنْ حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهُمْ. لَقَدْ أهملَ الآبَاءُ أبْنَاءَهُمْ ثِقَةً بِأصْحَابٍ صَاحَبُوهُمْ، فَكَانَتْ نِهَايَتُهُمْ تِلكَ التي رَأيتُمْ: قَتلٌ وسَفْكٌ وتَرويعٌ. وإنَّ غَفلَةَ الأولِيَاءِ عَنْ بَعضِ التَّصَرُّفَاتِ السَّيِّئَةِ الصَّغيرَةِ وتَرْكهَا حَتَّى كَبرَتْ صَارَتْ إلى مَا رَأيْتُمْ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وعَظِّمُوا أمْرَهُ، واجْتَنِبُوا نَهْيَهُ؛ تَفُوزُوا وتُفْلِحُوا.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ...
(1/5285)