السحر وآثاره
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
محمد بن سعد الشهراني
خميس مشيط
جامع النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر السحر وعِظم شرّه. 2- بعثة محمد أبطلت مسالك الجاهلية وقضت على معالم الأوهام والخزعبلات. 3- انتشار السحر حتى عبر القنوات الفضائية. 4- حكم عمل السحر. 5- حكم من أتى ساحرا أو كاهنا. 6- أسباب العلاج من السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، فإن الكثير من الناس يشكون داءً عظُم انتشاره واتّسع شره، داءً خطيرا وشرّا كبيرا يصادم الفطر ويصادر العقل، لغز من الألغاز الفتاكة، وسرّ كبير من الأسرار الهدامة، إنّه كهف مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة أهله، فشا بين الرجال والنساء، والفقراء والأغنياء، والأميين والمتعلمين، والمرضى والأصحاء، والبؤساء والوجهاء، والعالة والرؤساء، تجده في أوساط المجتمع كله؛ السياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي، فشا بين الناس عامة وخاصة إلا من رحم ربي، إنه مزيل البسمات، وهادم البيوتات، فكم من أسرة فرق شملها وشتت جمعها، وكم من نساء طلقن وأطفال شردوا، وكم من صحة ذبلت وسعادة سلبت، وكم من فرحة قتلت، وكم من تجارة كسدت، إنه خطر على المجتمع بأسره.
أعرفتموه أيها الإخوة؟ إنه السحر، تلكم العزائم والرقى والعقد والطلاسم التي تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق ويهدم، ويفسد ويدمر، ويرى المسحور النافع ضارًا والضار نافعًا. إنه السحر قرين الكفر، عالم عجيب، ظاهره فاتن خلاب، وباطنه قذر عفن، هذه هي أعمال الشعوذة والسحر، ما حلت في قلوب إلا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، تجلب الأوهام والخيالات الباطلة والوساوس الرديئة.
أيها الإخوة المؤمنون، لما بعث الله نبيه محمدًا بعثه بالهدى ودين الحق الذي أبطل مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، من الأوهام والخزعبلات والتخرصات والشعوذات التي وأدت التفكير وسلبت العقول، كان الناس يعمدون إلى نُصُبٍ وحجارة فيعلقون بها آمالهم وآلامهم، وآخرون يتعلقون بحروز وتمائم وخيوط وطلاسم، علها تدفع أو تنفع، فلما جاءت العقيدة الخالصة لله حررت القلوب ورفعت النفوس وسمت بالعقول، فأقامت سدًا منيعًا ودرعًا مكينًا أمام زحف الشعوذة والضلالات وغزو السحرة والخرافات، إذ كيف تزكو النفوس وتصلح القلوب وتُعمر الحياة وتُشاد الحضارات بأوهام السحرة الكاذبين ودجل المشعوذين السارقين النفعيين الذين لا يرعون للإنسان كرامة ولا للعقول حصانة وصيانة؟!
ومع أن العالم اليوم ـ أيها الإخوة ـ يعيش عصر التطور والآليات والتقدم والتقنيات التي يُفترض أنها تُناوئ الخرافة وتناقض الشعوذة وتحارب الدجل والسحرة، إلا أنك تجد فئة من الناس لا زالوا بأعمال السحرة مصدقين، عاكفين ركبهم عندهم، يسألونهم في خوف وذل عمّا هم عنه عاجزون، من دفع ضر أو جلب نفع، فلْيرِنا أهل السحر وأربابه إن كانوا صادقين قدرتهم في دفع مرض يصيبهم أو مصيبة تأتيهم أو رد مَلَك الموت إذا داهمهم.
السحرة ـ إخوة الإيمان ـ وقعوا في سخط الله وغضبه، واستحقوا عقاب الله ونقمته، إذ إن السحر يفسد أعمال الساحر ويبطلها؛ لأنه يتضمن الشرك بالله تعالى، فلا يكون الساحر ساحرًا إلا إذا تقرب إلى الشياطين بطاعتهم والانصياع لأوامرهم، بالذبح لهم والسجود لهم والاستغاثة والاستعاذة بهم ودعائهم من دون الله أو البول على المصحف ودهسه والدخول به إلى الخلاء أو كتابة آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض أو أكل النجاسات والخبائث وفعل الفاحشة بأمه أو ابنته، وغير ذلك من الموبقات والمهلكات.
هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في استجابته للشياطين، وعنوان ارتباطه بهم. حينئذٍ يوقن الشيطان أن تلميذه من السحرة قد جاوز المرحلة، فيبدأ يسخر له من شياطين الجن من يعينه على إحداث الفتن والجرائم، هذا سرّ قصة تعلم الساحر الكاذب للسحر.
قال عز وجل: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَى كُلْ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكّثَرَهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223]. وكلما كان الساحر أشد كفرًا كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، وعلى هذا فالسحر يمثل طعنة في صميم العقيدة، وشرخا خطيرا في صرح التوحيد الشامخ، ولذا فهو من نواقض الإسلام الكبرى، يقول تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) أخرجه النسائي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له)) رواه الطبراني بسند حسن.
وعدّ المصطفى السحر من السبع الموبقات أي: المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)) ، قالوا: يا رسول اللَّه، وما هن؟ قال: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)).
أيها المؤمنون، إن الذين يقصدون السحرة قوم ضعف إيمانهم بالله، وضعف توكلهم على الله، هم بإتيانهم للسحرة قد اشتروا الغضب والخسران بالرضا والغفران، واستحقوا الوعيد والتهديد، روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي : ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)) ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) ، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)) حسنه الألباني.
إخوة الإيمان، في عمل السحر وإتيان السحرة جمعٌ بين الكفر بالله والإضرار بالناس والإفساد في الأرض، فالسحرة يعملون للإفساد والفساد مُقابل مبالغ يتقاضونها من ضعاف النفوس وعديمي الضمائر، الذين امتلأت قلوبهم حسدا وحنقا وغيظا على إخوانهم المسلمين، لا يبالون بإخوانهم الذين يُعانون آثار السحر الوخيمة، فلا براحةٍ يهنؤون، ولا باستقرار يسعدون، ضيق وشدة وحزن وكدر يجدونه، خلافات وشقاق ونزاع وقتال يحصل بين الأسرة الواحدة والبيت الواحد.
ألا فليتق الله هؤلاء الذين يقصدون السحرة ليفسدوا في الأرض، ألا يخافون سخطَ الله ونقمته؟! ألا يخشون عاقِبة إيذاء المؤمنين الآمنين والمؤمنات العفيفات؟! يقول الله عز في علاه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يَفْضَحْهُ ولو في جوف رحله)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الإخوة المؤمنون، إننا اليوم في زمنٍ كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة من السحرة والمشعوذين، ووجدوا لهم مكانًا وعزًا وانتشارًا، فهذه بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية تجعل من برامجها ما تبث من خلالها أعمال السحرة والمشعوذين والدجالين، بل قنوات تفتح من أجل الترويج للسحر والسحرة؛ فتراهم يأتون الناس من باب العلاج الشعبي والتداوي والتطبيب، أو من باب التأليف والمحبة بين الزوجين، أو من باب سداد ديون المديونين، وهم في الحقيقة يحملون السم الزعاف والشر المستطير، فهم الذين يفرقون ويفسدون، ويزرعون الفتن ويخلقون الشرور، بل حدا ببعضهم أن يعملوا السحر بالأولاد والفتيات من أجل فعل فاحشة اللواط والزنا بالمسحورين. من هنا ـ أيها الإخوة ـ يأتي الواجب العظيم في القضاء على هذه الفئة الكافرة؛ لما تُمثله من خطر على الأمة وإخلال بأمن المجتمع وإفساد لعقائد الناس واستهانة بعقولهم وابتزاز لأموالهم.
ومن أعمال السحر ما يسمى بالعلم بالنجوم وتأثيراتها النفسية، والتنبؤ عن طريقها بالمستقبل. عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) حسنه الألباني. ومن ذلك التعلق بالنجوم والمطالع والأبراج والكواكب، والتنبؤ من خلاله بالمستقبل، فمن وُلِدَ في برج كذا فهو السعيد في حياته، وسيحصل على ما يريد من مال أو جاهٍ أو حظوظ، ومن وُلِدَ في برج كذا فهو التعيس المنحوس، وسيحصل له كذا وكذا من الشرور والبلايا. اللهم إنا نسألك السلامة في الدين وصحة الاعتقاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لم تكن أعمال الشعوذة والسحرة لتروج في المجتمع لولا ضعف الإيمان لدى الكثير وانتشار المعاصي في كثير من البيوت وهجر قراءة القرآن والحرص على الأذكار، فعلينا أن نحصن أنفسنا وأهلينا بالإيمان بالله والتوكل عليه، ثم بالرقى المشروعة والأوراد المأثورة، كأذكار الصباح والمساء وأدعية دخول المنزل والخروج منه وأذكار النوم والأذكار دبر الصلوات وغيرها من الأذكار المأثورة؛ فإنها حصن حصين وحرز أمين لصاحبها بإذن الله من كل داء وبلاء.
ومن ابتلي بشيء من السحر فليصبر ويحتسب، ويعمد إلى الطرق الشرعية التي جعل الله فيها شفاء ورحمة للمؤمنين من الأمراض الحسية والمعنوية، فإن الله سبحانه بمنه وفضله جعل لكل داء دواء، وأنفع العلاج ما كان بالرقية من القرآن الكريم والعلاج بالأدعية الشرعية النبوية.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة: "ومن الأدعية الثابتة عنه في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان يرقي بها أصحابه: ((اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)) أخرجه البخاري.
ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي وهي قوله: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) أخرجه مسلم.
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضًا، وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله، أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فيدقها بحجرٍ أو نحوه، ويجعلها في إناءٍ ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل، ويقرأ فيه آية الكرسي، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس]، وآيات السحر التي في سورة الأعراف، من قوله سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [آية: 117]، إلى قوله تعالى: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [آية: 122]، والآيات في سورة يونس من قوله سبحانه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [آية: 79]، إلى قوله تعالى: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [آية: 82]، والآيات في سورة طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [آية: 65]، إلى قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [آية: 69]. وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه بعض الشيء ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإذا دعت الحاجة لاستعماله أكثر من مرةٍ فلا بأس، حتى يزول الداء بإذن الله تعالى.
ومن علاجه أيضًا إتلاف ما فعله الساحر من عقَدٍ أو غيرهما، فيما يعتقد أنه من أعمال الساحر.
أما علاجه بعمل السحرة ونحوهم مما يتقربون إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان، بل من الشرك الأكبر، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة يدّعون علم الغيب ويلبّسون على الناس، وقد حذر الرسول من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم" اتنهى كلامه رحمه الله.
(1/5070)
السعداء في الآخرة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, اليوم الآخر
عبد الله بن عبد المجيد بولحاج
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصحاب الظل يوم القيامة. 2- الإمام العادل. 3- الناشئ في طاعة الله. 4- المتعلق بالمساجد. 5- المتحابون في الله. 6- المتعفف عن الفاحشة. 7- المتصدق سرا. 8- الباكي من خشية الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)).
إخوة الإيمان، في هذا الحديث النبوي الشريف بيان شاف وتقسيم لطيف لأولئك السعداء الأبرار الذين نالوا الكرامةَ الإلهية والسعادةَ الأبدية في دار الخلد والنعيم بسبب الأعمال الصالحة التي قدموها في الدنيا والخصال الحميدة التي اتصفوا بها، فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يحدّثنا عن شمول العناية الإلهية والرحمة الربانية تحت ظل عرش الله الكريم لكل من اتصف بواحدة من تلك الخصال الحميدة التي يحبها الله ورسوله، ولقد أوضحها عليه الصلاة والسلام في أجمل عرض وأقوى بيان؛ ليلهب نفوسَ المؤمنين ويحرّك فيهم روحَ الإخلاص والعمل الصالح، ليسيروا على المنهج القويم ويقتدوا بالأخيار الأطهار من عباد الله الصالحين.
فأول السبعة الكرام المحبوبين عند الله المقربين إلى جلاله والمستظلين بظله الإمام العادل، والمراد به الخليفة السلطان الراعي الذي ولاّه الله أمور المسلمين وقلده شؤونهم في بلد من بلاد الإسلام، وبسط يده فيه لإقامة الدين وحفظ شريعته وأحكامه، ولتحقيق العدل والإنصاف بين الناس من أفراد رعيته، والسهر على المصالح الدينية والدنيوية للبلاد والعباد، وكذلك من ينوب عنه من ولاة الأمور وقضاةِ الأحكام، وكذلك من له سلطة على غيره إذا استقاموا في أعمالهم وأخلصوا في مسؤوليتهم وعدلوا في أحكامهم بين الناس، يكونون تحت ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، مصداقا لهذا الحديث النبوي الشريف، ولقوله في حديث آخر: ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) ، ومصداقا لقوله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9].
وثاني السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم القيامة الشابُّ الذي نشأ في عبادة الله، وكذلك الشابة المسلمة التي نشأت في عبادة الله، وذلك بامتثال أوامر الله عز وجل، من تلك الفرائض والطاعات الواجبات، ولا يقصر ولا يتهاون فيها، واجتناب نواهيه من الغش والخداع والبغض والحسد والمكر وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من المعاصي، وذلك منذ بداية شبابه ومقتبَل عمره، وفوق ذلك يجمع بين العمل الصالح لدينه ودنياه، وفي ذلك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)). وإذا أردنا أن نكون من هذا الصنف المبارك فلا يسعنا إلا أن نرجع إلى سيرة الحبيب المصطفى ، هذه السيرة العطرة التي مع الأسف أصبحت غريبة بين المسلمين، فشباب النبيّ يتميز بمسائل ثلاث، ما أحوج شباب الأمة إليها في عصر ظهر الفساد فيه في البر والبحر بما كسبت أيديهم، المسألة الأولى: العفة والطهارة، فالنبي عفيف طاهر، لم يشرب خمرا قط، ولم يزنِ قط، ولم يسجد لصنم قط، فهو طاهر في سريرته، طاهر في صورته، طاهر في سيرته ، المسألة الثانية: الكد والعمل، فقلد كان يرعى الغنم لأهل مكةَ على قراريط، المسألة الثالثة: المشاركة الفعّالة في القضايا المهمة للدولة، فلقد اشترك في حرب الفجار وحِلف الفضول وفي بناء الكعبة المشرفة.
وثالث السبعة ـ أيها الإخوة في الله ـ رجل قلبه معلّق بالمساجدِ، في رمضان وغير رمضان، فقلبه عامر بحب المساجد بالحضور إليها للصلاة مع الجماعة، واغتنام ثوابها وأجرها، والاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم والدروسِ العلمية للتفقّه في الدين، وهو بذلك حين يخرج من المسجد يتشوّق إلى الساعة المقبلة واللحظة التي يعود فيها إليه، لأنه بيت الله، وأحبُّ البقاع إلى الله، ومكانُ سكينةِ النفس واطمئنانها، ومحل سعادتها وراحتها بالتوجه إلى الله وذكره وعبادته، قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد: 28، 29].
ورابع السبعة ـ أيها المؤمنون ـ رجلان تحابا في الله وفي طاعته وطاعة رسوله ، يجتمعان عليها كلما التقيا، بنفس طيبة وروح صادقة وقلب سليم وشعور صاف خالص، يتعاونون على خير الدنيا والآخرة، ويتبادلون الود والاحترام المطلوبين من المسلم تجاه أخيه المسلم، فليست محبتُهما قائمةً على طمع مادي، ولا مبنيةً على غرض دنيوي، ولا على مصلحة من المصالح الدنيوية، كما هو حال بعضِ الناس اليوم، فهناك بعض الإخوة يحبون هذا ويبغضون ذاك، يقرّبون هذا ويبعدون ذاك، يسلّمون على هذا ويعرضون عن ذاك، كل هذا بدعوى أو بحجة أنه فلان أو ابن فلان أو أنه من جماعتنا ومن حزبنا، فمن العار ـ أيها الإخوة ـ أن تكون هذه حالتنا ونحن أمةُ محمد ، هذه الأمة التي هي خير الأمم، يجمعها ربّ واحد ودين واحد، وتجمعها كلمة واحدة كلمة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فهذه المحبة لا تكون صادقة راسخة، وقديما قال أهل العلم: ما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فإذا كنت ـ أيها الأخ المسلم ـ تحبّ أخاك المسلم لوجه الله تعالى فأبشر بمحبّة الله لك، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابّين، في وللمتجالسين فيّ، وللمتزاورين فيّ، وللمتباذلين فيّ)).
وخامس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة رجل دَعته امرأة ذات منصب وجمال للوقوع بها فيما حرم الله ولكنه استحضر عظمةَ الله ومراقبتَه في السرّ والعلن، وتذكّر حسابَه وعقابَه، فامتنع عن ذلك، وغالب نفسه على الوقوع في الإثم والمعصية، ولم يستسلم للإغراء، لا بالمكانة، ولا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالجمال، وقال مثلَ ما قال سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23]، وذلك شأن عباد الله الصالحين المخلصين الذين يتّقون الله ويراقبونه في الظاهر والباطن، مستحضرين في ذلك قوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4].
وسادس السبعة رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والمراد به أنه يكتم الصدقة ويخفيها عن أعين الناس؛ حتى تكونَ سليمةً من كلّ سمعة ورياء، وتبقى خالصةً لوجه الله الكريم، مصداقا لقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 271].
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيّد الأولين والآخرين، ووقانا وإياكم من عذابه المهين، وختم لي ولكم بالحسنى والزيادة يوم لقاء وجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدّين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، أما آخر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فرجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، رجل ذكر الله عز وجل في مكان منفرد فيه عن أعين الناس، فتأمل في ملك الله وملكوته، أو قرأ آية من القرآن الكريم، فاستحضر قدرةَ الله وعظمتَه ورحمته وعذابه، أو تذكر ما صدر منه من الذنوب والآثام والتفريط في حقوق الله وحقوق عباد الله، فندم وتأثر، وتضرّع واستغفر، وبكت عيناه من خشية الله إشفاقا وخوفا من عذابه، يقول النبي في ثواب ذلك البكاء: ((عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على النبيّ الأمين محمد بن عبد الله.
اللهم صلّ على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد...
(1/5071)
الإرهاب: الدوافع والأسباب
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
أحمد الخطيب
غير محددة
7/7/1426
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصطلح الإرهاب من أخطر ظواهر العصر. 2- لفظة الإرهاب في اللغة والقرآن. 3- حقائق لفظة الإرهاب في الغرب. 4- أهمية الخلافة الإسلامية في إعادة العزة للمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
"الإرهاب" لا شك بأنه ظاهرة سياسية استحوذت على الأوساط السياسية في معظم دول العالم حتى باتت وكأنها ظاهرة هذا العصر، فلا تكاد تخلو نشرة إخبارية منها، فلفظ الإرهاب أصبح الأكثر تداولاً في وسائل التلفزة والصحافة والإعلام. ومجرد النطق بكلمة الإرهاب أصبح يلفت نظر كل سامع لها، لدرجة أن إيقاعها صار له وقع مميز في النفس يثير مشاعر خاصة متباينة من شخص لآخر.
لقد احتل موضوع "الإرهاب" جدول أعمال المؤتمرات والاجتماعات والاتصالات التي يعقدها السياسيون والزعماء وصُنّاع القرار في هذه الأيام، فالرئيس الأميركي بوش ـ على سبيل المثال ـ لا ينفكّ عن ذكر هذا الموضوع في كل خطاباته وتصريحاته، بحيث لم يعد له همٌّ إلا الحديث عن الإرهاب والإرهابيين والمنظمات الإرهابية والدول الراعية للإرهاب والجمعيات الخيرية والمؤسسات غير الحكومية التي تدعم الإرهاب، حتى غدا كلامه أسطوانة إرهابية مكرورة مملولة مشروخة، يملّها حتى الأميركيين أنفسهم.
والإرهاب لم يقتصر على الخطابات والتصريحات وحسب, بل وتعدّاه ليصبح حجر الزاوية في رسم السياسات وإرساء الإستراتيجيات, وأساسًا لإنشاء العلاقات وتشكيل الائتلافات في المجتمع الدولي.
لقد تحول الإرهاب بالفعل إلى عُقْدة العُقَد وأُسِّ المشاكل، بل تحوّل إلى غُول العصر الذي لا يملكون له علاجًا، ولا يستطيعون إيجاد أي حلول ناجِعَة له.
ومع كل هذا التضخيم والتضخم لواقع الإرهاب إلا أنه ما زال غير واضح المعالم ولا مُشَخَّص القَسَمات، فالمجتمع الدولي حتى الآن لم يتوافق على وضع تعريف له، فالمؤتمرات التي تلتئم لتعريف الإرهاب تنعقد وتنفضّ ولا يتوصل المؤتمرون إلى تحديد أو توصيف لمعنى كلمة الإرهاب، مع أن الكل يُجدّف بمجَادِيفه، فالمقاومة حوّلوها إرهابًا، والجهاد أصبح إرهابًا، والمعارضة تحولت إلى إرهاب, والخصوم تحولوا إلى إرهابيين، وحتى أصحاب الرأي السياسي المخالف يحاولون إقحامهم في خانة الإرهاب الفكري.
إن هذا المفهوم المطّاطي للإرهاب يأتي في زمن يُعتبر فيه التقدم التكنولوجي مفخرة من مفاخر البشرية، ويعتبر فيه تحديد وتعريف كل شيء سِمَة من سِمَاته, وإذا كان الغربيون يتشدّقون بأنهم يعرفون ويحددون كل شيء بدقّة بالغة، فلماذا إذًا يبقى الإرهاب هو الوحيد الذي تقف البشرية عاجزة عن تعريفه وتحديده؟! أم أن في الأمر أغراضًا ومصالح وأهدافًا ومقاصد. فهل يريدون لظاهرة الإرهاب أن تبقى ضَبَابيّة عن تعمُّد، فلا يوجد لها ملامح ولا محدّدات، أم أنهم يحاربون هذه الظاهرة وهم لا يستطيعون تحديدها، وبالتالي فلا يدرون من يحاربون، ولماذا يحاربون؟!
أيها المسلمون، لو تناولنا لفظة الإرهاب في البداية من ناحية لغوية ومن ناحية شرعية لوجدناها لا تخرج في جميع استعمالاتها عن معاني الخوف والإخافة والتخويف والمخافة، فقد جاء في لسان العرب: "رهِبَ الشيء رهْبًا ورَهَبًا ورهْبةً أي: خافه"، وورد في البخاري بمعنى مشابه، فعن ابن عباس قال: (تُرْهَبُ خيرٌ من أن تُرحَم، ورَهَبُوت خيرٌ من رَحَمُوت)، أي: أن الإرهاب هو عكس الرحمة، وعن ابن سيرين قال: "رهّب قوم غلامًا حتى اعترف لهم"، بمعنى: خوَّف القوم الغلام.
وفي القرآن الكريم وردت معاني متقاربة للإرهاب، فقال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40]، أي: وإياي فخافون، وقال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154]، أي: يخافون، وقال تعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51]، وهي نفس المعنى السابق للآيات، وقال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]، فجاءت رَهَبًا هنا في مقابل رَغَبًا، أي: بمعنى التخويف من عذاب الآخرة، وقال تعالى: فلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116]، أي: خوّفوهم بالسحر، وقال تعالى: لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13]، بمعنى: أنهم يخافون المؤمنين أكثر مما يخافون الله سبحانه؛ لقلّة إيمانهم وفقههم. وأما قوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] فتعني هنا الإخافة، أي: تخويف أعداء الله الذين نعلمهم والذين لا نعلمهم بالإعداد.
وهكذا فالمعاني الشرعية للفظة الإرهاب هي نفسها المعاني اللغوية لها، وهي لا تخرج عن معاني الخوف والتخويف والإخافة. ومن هنا فلا يوجد في الإسلام معنى اصطلاحي خاص بلفظة الإرهاب غير المعنى اللغوي الذي تقدم.
أما ما يستخدمه الناس في هذا الزمان لهذه اللفظة فهو اصطلاح غربي نشأ في الغرب، وله واقع متميّز عندهم، وإن كان غير متكامل. فالإرهاب في الغرب مصطلح يعني قتل المدنيين وتخويفهم وترويعهم بدافع سياسي، والذي يقوم بالإرهاب في نظرهم هم الأفراد والمنظمات وليسوا الدول. وحاولت الدول العربية والدول المسلمة والدول المستضعفة إدخال إرهاب الدولة في التعريف، لكنها عجزت عن ذلك، ورفضت الدول الكبرى التي تمارس القتل والترويع في حق المدنيين لتحقيق أهدافها السياسية أن تقبل بإدخال إرهاب الدولة في المصطلح، ولذلك ظل المصطلح غير متوافق عليه دوليًا، وغير متبنى من المجتمع الدولي.
وليس السبب في عدم حصول التوافق في التعريف هذه النقطة وحسب، بل هناك سبب خفي آخر لا يريد الغرب الجهر به، وهو أن الأفراد والمنظمات الإرهابية هم جميعًا من المسلمين، وأن الإسلام كعقيدة وفكر هو مصدر للإرهاب. وقد صرّح بهذا المعنى أكثر من مسؤول أمريكي وغربي، ومن هذه التصريحات ما قاله وزير أمريكي للصحافة العالمية من أن الإسلام هو المشكلة في تفريخ الإرهابيين وليس المسلمون، وما قاله آخر من أن إله المسلمين يدعو أتباعه إلى القتل من أجله، بخلاف إله المسيحيين الذي ضحّى بنفسه من أجل البشر، وما شاكل ذلك من أقوال كفر وتجديف، تعالى الله علوًا كبيرًا عما يقولون.
ولم يكتف الكفّار الغربيون بإلصاق الإسلام بالإرهاب المادي، بل ويحاولون أيضًا إلصاقه بالإرهاب الفكري، فطوني بلير في خطابه في مجلس العموم في (16/7/2005م) ردًّا على تفجيرات لندن لم يكتف بتوجيه تهمة التفجيرات إلى المسلمين بشكل عام، بل ويهاجم بشكل خاص حَمَلَة الدعوة الإسلامية الذين يسعون لتطبيق شرع الله في الأرض وإقامة الخلافة الإسلامية فيقول: "إن ما يواجهه الغرب اليوم ليس مجرد حركة عَبَثية لا تملك هدفًا، بل إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة إسرائيل، وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي، وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تحكم الشريعة الإسلامية في العالم العربي على طريقة إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية".
إن الغرب في إلصاقه لتهمة الإرهاب بالمسلمين إنما يُعبّر عن خوفه من الحالة الإسلامية التي يحياها المسلمون، والتي تدلّ على وجود مَخَاض عنيف تدل كافة مَجَسّاته على قرب انبلاج فجر الدولة الإسلامية التي ستضع حدًّا لهيمنة الغرب على بلاد المسلمين.
إن الغرض من وراء حملة الغرب لإلصاق حالة "الإرهاب الفكري" بالمسلمين يتمثّل في حمل المسلمين على الاعتراف بالآخر ونبذ الجهاد وقبول العلمنة، أي: بمعنى آخر حملهم على التخلي عن الإسلام السياسي، وحصر الإسلام في العبادة والصوامع والمساجد، وهذا ما يفسّر حملات الدول الغربية على الأقليات الإسلامية فيها لدمج تلك الأقليات في الحياة الغربية، وإقامة النماذج التي تمثّل الإسلام الوطني، بمعنى الإسلام الذي يخدم فكرة جعل السيادة المطلقة للوطن، واعتبار الإسلام مجرد مصلحة بسيطة من مصالحه المعقّدة الكثيرة، فأصبح يقال: إسلام فرنسي، وإسلام بريطاني، وإسلام أمريكي، وإسلام هولندي، وهلم جرًا!
إن الغرب عليه أن يتوقّع أكثر بكثير من هذه التفجيرات التي تقضّ مضاجعه، وذلك بسبب انتهاكاته المتكررة وجرائمه التي لا تتوقّف ضد الأمة الإسلامية في جميع المجالات، فماذا تتوقع أمريكا وبريطانيا من المسلمين بعد عدوانها السافر والمتواصل ضد العراق وأفغانستان؟! وماذا يتوقّع اليهود والروس والهندوس من المسلمين بعد احتلالهم لفلسطين والشيشان وكشمير؟! وماذا يتوقعون من المسلمين بعد كل هذه المجازر والمعاناة وكل أنواع العذاب التي ألحقوها بالشعوب الإسلامية؟! هل يتوقعون أن يلقي عليهم المسلمون الورود، أم يتوقعون أن يسلّموا بالأمر الواقع ويقبلوا باحتلالهم وذبحهم للنساء والأطفال في كل يوم وفي كل ليلة؟! لماذا لا يسمّون جرائمهم هم إرهابًا، أم أن الإرهاب هو ثوب مفصَّل على مقاس المسلمين فقط؟!
إن قيام دولة الخلافة الإسلامية هو الذي سينهي تَطْفِيف هذه الموازين لصالح الغرب والكفار بشكل عام، فالدولة الإسلامية هي الوحيدة المؤهّلة لإعادة التوازن إلى العلاقات السياسية وإنهاء هذا النظام الدولي الظالم الذي تقوده أمريكا والدول الكافرة الكبرى لصالح الحضارة الغربية الفاسدة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5072)
آثار الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المسلمين منذ أن فقدوا الأندلس. 2- أسباب ضعف المسلمين وهوانهم. 3- شؤم الذنوب والمعاصي وآثارها على الأفراد والمجتمعات. 4- الحل الحقيقي لوضع الأمة الراهن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقو الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فالأعمار تطوى، والأجيال تفنى، والآجال تُقضى، والمؤمِّل يقعد به أمله، والمسوّف يعاجله أجله، فاتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
هذه هي حقيقة الدنيا في ابتلائها، تُضحك وتُبكي، وتجمع وتُشتّت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، ودار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرة لمن اعتبر بها.
أمة الإسلام، لقد كانت هذه الأمة أمةً رائدة في الأمم قائدةً للناس، أقامت العدل ورفعت الظلم وأشاعت الرحمة، ولقد ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشدّ بعضه أزر بعض، ويؤازر الكل العقيدة الإسلامية الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم خطب. ومنذ أن فقدنا الأندلس وقع تغيُّرٌ رهيب في حياته وأخذت أرضه تنقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم، وانتهكت مقدسات ومحارم، ودارت رحى الحرب على المسلمين، ودبَّ الضعف إلى جسد الأمة حتى أصابه الهوان والمذلة، ونزعت هيبتها من قلوب أعدائها، دماءٌ تراق، وأعراضٌ تنتهك، وبيوت تهدم، وألوف تشرد، بُقِرت بطون، واندلقت أحشاء، أبيدت أسر، وسلب وطن، إرهابهم لا يفرق بين شيوخٍ ركع ولا نساءٍ عُزّل ولا أطفال رُضّع، ما أرخص دماء المسلمين! وما أشدّ ما نزل بهم من أهوال! وما أعظم ما حلّ بهم من هوان! صور متكررة لواقع واحد.
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يحكمنا شعب ملكناه
أيها المسلمون، وهنا يأتي السؤال، نعم السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة على واقع المسلمين اليوم: لِمَ لا نبحث عن أسباب هزائمنا وذهاب مقدساتنا؟! هل السببُ عوج خلقي أو خلل سياسي أو اقتصادي أم غشٌ ثقافي أو انحراف عقدي أم هو مزيج متفاوت من هذه العلل جميعا؟! ما المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية التي ارتكبها أهل الإسلام فأصابهم ما أصابهم بسببها؟!
أمة الإسلام، لقد حام حول هذا الموضوع كثير من المصلحين الذين يريدون للأمة الخير، فمن مقرّب ومن مبعّد، كثرت الأقوال، وارتفعت الشعارات، وعُقدت المؤتمرات، وسُطّرت الكتابات، ولكن لم نَرَ شيئًا مع هذا كلّه، إذن ما العلة؟ وأين العلاج؟
أتريد ـ أخي المسلم ـ أن تعرف العلة والعلاج؟! تأمل في هذين الحديثين:
روى أحمد وأبو داود أن رسول الله قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أمن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
وعند أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذ تبايعتم بالعِينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرّع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فهذا هو السبب، وهذه هي العلة، وذلك هو الوهن؛ حب الدنيا، وكراهية الموت، وترك الجهاد، أن يعيش الناس عبيدًا لدنياهم عُشاقًا لها، تحرّكهم شهواتها وتسيّرهم رغباتُها.
إن سبب ضعف المسلمين وما بهم من هوان وسبب كلّ بلاء وفتنة هو حب الدنيا والحياة وكراهية الجهاد والموت، وهذا يولّد الذنوب والمعاصي والبعد عن الالتزام بأوامر الله وتحكيم شرعه ودينه.
لما تركنا الهدى حلّت بنا محنُ وهاج للظلم والإفساد طوفانُ
أيها المسلمون، في أُحد شُجّ النبي وكسرت رَباعيته، وقتل حمزة أسد الله، وانقلب النصر إلى هزيمة؛ كلّ ذلك بسبب مخالفةٍ واحدة لأمر من أوامر الرسول وبتأويل واجتهاد. إذًا فكيف يريد المسلمون نصرا وتأييدا من الله ويرددون: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7] وهم غرقى في الذنوب والمعاصي إلا من رحم الله؟!
إن الأمة اليوم ردّدت وذكرت الجزاء والجواب ونست شرطه. إن الواقع يثبت أن الكثير اليوم يحب الدنيا ويكره الموت ولم يستعد للجهاد، حال المسلمين اليوم إلا من رحم الله ليالٍ حمراء، سهرٌ وغِناء، فضائيات ومسلسلات ونساء متبرجات، أتُنصر الأمة اليوم بغناء من فنان أو بمسلسل خالع أو بطرحٍ ممن لا يعرف الله طرفة عين؟!
إن الذنوب والمعاصي ـ يا عباد الله ـ سبب لكل بلاءٍ وشر ومحنة، فبالمعصية تبدّل إبليس بالإيمان كفرًا، وبالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا تلظى. وبالمعصية عم قوم نوحٍ الغرق، وأهلكت عادٌ بالريح العقيم، وأخذت ثمود بالصيحة، وقُلّبت على اللوطية ديارهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]. إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ.
تلكم الذنوب يا عباد الله، وتلكم عواقبها، وما هي من الظالمين ببعيد. ما ظهرت المعاصي في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا تمكّنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، فلا تفارقها حتى تدع الديار بلاقع.
أيها المسلمون، إن للمعاصي شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والجو، تَضلّ بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]. قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". بسبب الذنوب والآثام والمعاصي والإجرام يكون الهم والحزن والذل والهوان، بالمعاصي تزول النعم وتحل النقم وتتحول العافية ويستجلب سخط الجبار.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تُزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهمااستطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
يا عبد الله، انتبه لهذه الحقيقة؛ إن العبد إذا ابتلي بالمعاصي استوحش قلبه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، قلت طاعته لربه، واستحوذ عليه شيطانه. وحتى تعلم أن الأمة انهمكت في المعاصي واستهوَت الذنوب إلا ما رحم ربي فتأمل وانظر لواقعنا اليوم، فلقد فشا فينا أنواع من الذنوب والآثام والسيئات والإجرام، بل أصبحت عند كثيرٍ منا أمرًا طبيعيًا، كثر الإمساس فقلّ الإحساس، فلقد فشا فينا الربا والزنا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأُدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام، وتنوعت الحيل فيه؛ شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، وانتشر بيننا الحسد والبغضاء، لا لشيء إنما لأمر الدنيا، حتى نجد الرجل يبغض الرجل ولا يسلّم عليه من أجل هواه ودنياه ولا حول ولا قوة إلا بالله، أصبحت الأمة مخدَّرة بكأس غنائية وأمور تافهة ساقطة، بل تأمّل فيما يبثّ عبر شاشات الفضائيات؛ سهر وفجور، وآثام وذنوب، وقلة حياء وفساد، واهتمام كثير من الناس بها، فماذا يعني كل ذلك؟!
إن آثار الذنوب والمعاصي كثيرة، ولقد عدّ الكثير منها ابن القيم في كتابه القيّم الداء والدواء، فليُرجع له فهو مفيد في بابه.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدى والبيان، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، إن ربي قريب مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، من تمسك بهديه قرّبه وأدناه، ومن خالف أمره أبعده وأقصاه، أحمده سبحانه لا يذلّ من والاه، ولا يعزّ من عاداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا ربّ سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أمة التوحيد، إن الحل الحقيقي لجراحنا وآلامنا ومصائبنا هو عودتنا إلى الله وعودة الأمة بجميع أفرادها إلى الالتزام بدينها وأوامر ربها، وبذلك يعود لها عِزُها ومجدُها، ومن ثم تستطيعُ الردَ على أعدائها وحماية أبنائها ومقدساتها، وفي ذلك الوقت نستطيع أن نحمي فلذات أكبادنا وزهرات العمر وأطفال التوحيد الذين ذهبوا ضحية رصاص إخوان القردة والخنازير وعباد الصليب.
وإلى كل مسلم وكل غيور متألم على واقع أُمته، ألا فلنعلم أن هذا هو الحلّ الأساسي والجذري الذي يوقف هذه المذابح والمآسي المتكررة. وحتى نعلم مدى تأثير الذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله وأوامر الرسول وبتأويل واجتهاد انقلب النصر إلى هزيمة وحصل ما حصل، فماذا نقول ونحن نخالف أوامر الله ورسوله، بل ربما نستهزئ بها ونستهتر بالملتزمين بها؟! يقول سماحة الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز قدّس الله روحه في رسالة له بعنوان: "أسباب نصر المؤمنين على أعدائهم": "ومتى فرّط المؤمنون في هذه الأمور فهم في الحقيقة ساعون في تأييد عدوهم في نصره عليهم، والمعنى أن معاصي الجيش عون لعدوّهم عليهم كما جرى في يوم أُحد، فعلى المؤمنين جميعًا في أي مكان أن يتقوا الله وأن ينصروا دينه وأن يحافظوا على شرعه وأن يحذروا من كل ما يغضبه في أنفسهم وفيمن تحت أيديهم وفي مجتمعهم" اهـ. فهل وعيت الأمر أُخيّ؟! وهل علمت السبب؟!
إنّ الواجب علينا أن نستشعر أننا مسؤولون عن مآسي المسلمين وجِراح الأمة، وأننا بتصرفاتنا واستمرارنا على الذنوب وتركنا للدعوة إلى الله ونصرة إخواننا نكون سببا في ضعف الأمة وهوانها، ولهذا لما لم يستطع أعداء الإسلام الفتك بالإسلام وأهله بالأسلحة المدمرة قال قائلهم: "لن تهزموا المسلمين بكثرة الجيوش ولا بقوّتها، ولكن ستهزمهم النساء وقوارير الخمر".
فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! وإلى متى الرقاد والنوم يا أبناء التوحيد؟! وإلى متى إلى متى تستمر غفلتنا ويستمر لهونا في وسط ألمنا؟! هل يدري الواحد منا متى يموت؟ لا والله. استمع إلى هذه القصة التي حدّث بها أحد الدعاة الفضلاء، يقول الشيخ: حدثني أحد القائمين على تغسيل الأموات فقال: قُدّمت إليّ جنازة، فغُسلت وكُفنت وصُلي عليها، ثم ذهبنا بها إلى المقبرة للدفن، فلما نزلتُ كي ألحد هذا الميّت ومعي أحد أقاربه فلما وضعناه في اللحد ودفناه قال لي قريب هذا الميّت: الحمد لله الذي علّمني كيف أدفن ميتا قبل موتي، قال هذا الأخ: فوالله، ما تجاوزت هذه الكلمة إلا وهو يسقط على ظهره في المقبرة، رفعناه فإذا هو يلفظ أنفاسه ويُتوفى وهو على باب المقبرة لم يخرج منها. قال هذا المغسّل: فأنا غسّلته ودفنته بجانب صاحبه. إذًا اسأل نفسك: متى التوبة؟ اسأل نفسك: ماذا قدّمت لدينك؟ وماذا تعمل؟ وكيف تقابل ربك؟
يا مسلمون أما نخشى من النقم كم من قتيل هوى والغير في نغم
كم من نساء ثكالَى عَزّ مُنْجِدهم كم من سبايا وكم من يتيم ودم
يا مسلمون أفيقوا من رقادكم قبل الْمثول أمام الله والندم
وقول الله أحكم وأعلى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16].
اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
(1/5073)
تربية الأولاد (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
8/2/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية وقاية الإنسان لنفسه وأهله من النار. 2- عناية الإسلام بتربية الأبناء. 3- وصية الله للآباء بالأبناء. 4- واجبات الوالد تجاه ولده. 5- الدعاء للأبناء بالهداية من أعظم أسباب صلاحهم. 6- منافع وفوائد تعويد الأبناء على ارتياد المساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
روى ابن جريرٍ عن ابن عباس قال في معنى الآية: (اعملوا بطاعة الله، واتّقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فذلكم وِقايتهم من النار)، وعن علي قال في معناها: (علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدِّبوهم). فالآية تدل على أنه مطلوب من الإنسان أن يعمل بما يُبعده ويُبعد أهله من النار.
عباد الله، إنّ مهمة تربية الأولاد مهمّة عظيمة، يجب على الآباء أن يحسبوا لها حسابها ويُعِدوا العُدة لمواجهتها، خصوصا في هذا الزمان الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن، واشتدت غربة الدين، وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار الأب مع أولاده بمثابة راعي الغنم في أرض السِباع الضارية، إن غفل عنها أكلتها الذئاب.
إن عناية الإسلام بتربية الأولاد واستصلاحهم تبدو واضحةً في حثِّ الشرع للرجل أن يختار الزوجة الصالحة ذات الدين والأخلاق الفاضلة؛ لأنها بمنزلة التُربة التي تُلقى فيها البذور، ولأنها إذا كانت صالحة صارت عونًا للأب على تربية الأولاد، كما أنه يشرع للزوج عند اتصاله بزوجته أن يدعو فيقول: ((بسم الله، اللهم جنّبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا)) ، فإذا رُزق مولودًا استُحبّ له أن يؤذِّن في أُذُنِه اليمنى ويُقيم في أُذُنِه اليسرى، كما وردت بذلك الأحاديث عن النبي. والحكمة في ذلك والله أعلم ليكون أول ما يسمع المولود كلمات الأذان، ولتكون دعوة المولود إلى دين الإسلام سابقة على دعوة الشيطان. ويختار الأب لولده الاسم الحسن، فقد أمر بتحسين الأسماء.
ثم يَختنه بإزالة القُلفة؛ لما في إزالتها من التحسين والتنظف. والختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني، وهو من خصال الفطرة. ويعقّ عنه بأن يذبح عن الذكر شاتين وعن الجارية شاة، والحكمة في ذلك أنها قربانٌ يتقرب به إلى الله عن المولود في أول خروجه إلى الدنيا، وهي أيضا فدية يفدي بها المولود، كما فدى الله إسماعيل بالكبش، كل ذلك مما يدل على الاعتناء بالمولود.
عباد الله، كما أن للأب حقًا على ولده فللولد حقٌ على أبيه؛ قال بعض العلماء: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، وقد الله تعالى: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11]، وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]، وقال النبي : ((اعدلوا بين أولادكم)). فوصية الله للآباء بالأولاد سابقة على وصية الأولاد بآبائهم؛ فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاءهم الفساد بسبب إهمال الآباء لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسنَنِه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينفعوا أنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، ولذا لما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبتِ، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا.
فالطفل ينشأ على ما عوّده المربي، فيجب على وليه أن يُجنِّبه مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء، ويُجنّبه الخيانة والكذب والكسل والبطالة والدعة والراحة؛ فإن الكسل والبطالة لهما عواقب سيئة ومغبة وندم، وللتعب والجدّ عواقب حميدة. وعلى الوالد أيضا أن يُجنِّب ولده الشهوات الضارة، فإنّ تمكينه منها يفسده فسادًا يصعب إصلاحه، فبعض الآباء يُغدق على ولده العطاء، ويمدّه بالمال الذي يتمكن به من شهواته، ويزعم أنه يكرمه بذلك وهو قد أهانه، ويزعم أنه قد رحمه وهو قد ظلمه. وكذلك يجب على الوالد أن يمنع ولده من قرناء السوء ومخالطة أهل الفساد. وبعض الناس لا يربي ولده إلا التربية الحيوانية فيأتي له بالطعام والشراب والكسوة، ويترك تربيته على الدين والأخلاق الفاضلة، فلا يعلمه ما ينفعه ولا يهتم بأمر دينه، فلا ينفذ أمر الرسول فيه حيث يقول: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)).
أيها الآباء، إن الرسول حمّلكم بهذا الحديث مسؤولية أولادكم، وأمركم بتربيتهم على الصلوات، علموهم كيف يتطهرون وكيف يصلون، واسلكوا معهم مسلك التدرج بهم حسب أعمارهم وتحملهم، أولاً بالأمر في سنّ السابعة، ثم بالضرب في سنّ العاشرة، كما أمركم أن تباعدوهم عن أسباب الفساد الخُلُقي، فتفرقوا بينهم في مراقدهم، فلا ينام بعضهم إلى جانب بعض خشية الوقوع في المحذور؛ فصرتم مسؤولين عنهم حتى في مراقدهم، كما أنكم مسؤولون عنهم في حال يقظتهم.
أيها الآباء، أنتم مسؤولون عن توجيه أولادكم الوجهة الصالحة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الآباء، ادعوا الله أن يصلح أولادكم، كما دعا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 53]، وقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، وقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40]، وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128]، وكما دعا زكريا عليه السلام حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38]. هذه دعوات الأنبياء لأولادهم فاقتدوا بهم في ذلك.
أيها الآباء، إن الولد الصالح ينفع والده حيًا وميتًا، قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد يدعو له)).
إن الأولاد إما أن يكونوا نعمة على والديهم أو نقمة عليهم، ولذلك أسبابٌ أهمها التربية، كما أن الوالد قد يكون سببًا لسعادة الولد أو شقاوته، قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف: 82]، وقال: : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه)) ، فليكن ذلك منكم على بال.
أيها الآباء، إنكم تحرصون أشدّ الحرص على ذهاب أولادكم للمدارس بدافع الطمع الدنيوي، ولا ترضون بتخلفهم عنها يومًا واحدًا؛ فما بالكم لا تهتمون بحضورهم في المساجد وهو خير وأبقى؟! إن حضورهم إلى المساجد يفيدهم آدابًا حسنة وأخلاقًا فاضلة ومحبة للخير وبُعدًا عن الشر، حضورهم إلى المساجد ينشّئهم على الطاعة ومخالطة الصالحين، وفيه مصالح كثيرة، فلِمَ لا تهتمون به؟! لماذا تتركون أولادكم في أوقات الصلوات يجوبون الشوارع والطرقات أو يختفون في البيوت ولا يقيمون للصلاة وزنًا؟! هل كانت المدرسة أهمّ عندكم من المسجد؟! وهل كانت الدراسة أعظم من الصلاة؟! هل الدنيا أحب إليكم من الآخرة؟! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة: 38]. فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، وقد قال : ((من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشرا)).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، وعن بقيه أصحابه أجمعين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين...
(1/5074)
تربية الأولاد (2)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
15/2/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر القصور في تربية الأولاد. 2- مشكلة تأخير تزويج البنات. 3- نصيحة لولي الأمر خاصة. 4- نماذج لبعض الأمهات اللائي ربين أبنائهن على التقوى والعلم. 5- أمور معينة على تربية الأولاد. 6- كتب يُنصح بقراءتها في موضوع تربية الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
أيها الأحبة، كان الحديث في الخطبة الماضية عن مظاهر القصور في تربية الأولاد، واليوم إن شاء الله نكمل ما تبقّى منها، سائلا الله تعالى لي ولكم صلاح النية والذرية.
فمن مظاهر القصور في تربية الأولاد العهد للخادمات والمربيات بتربية الأولاد، فهذا الأمر جدُّ خطير، خصوصًا إذا كانت الخادمة أو المربية كافرة؛ فذلك مدعاةٌ لانحراف الأولاد وفساد عقائدهم وأخلاقهم.
ومنها ترك البنات يذهبن للسوق بلا محرَم، ولا شك أنّ هذا تفريط عظيم وإخلال بالأمانة، فمن الناس من يذهب ببناته إلى السوق الذي يبيع فيه الرجال، فيمكثن فيه الساعات الطوال، يتجوّلن بين الباعة بدون محرم؛ مما يعرضهن للفتنة، ويجعلهن يَفْتِنَّ غيرهن. ولو قيل لبعض هؤلاء: لِمَ لا تنزل معهم إلى السوق؟ لقال: أستحيي أن يراني أحد معهن، سبحان الله! أتستحيي من الناس ولا تستحيي من الله؟! أما تخاف العقوبة؟! أما تخشى الفتنة؟! لو كان عندك غنم ما تركتها بلا راعٍ يرعاها، أَعِرْضُك أرخص عندك من غنمك؟! أما تخشى عليه من الذئاب الضارية؟!
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولّى رَعْيَها الأسدُ
ومن مظاهر القصور إهمال الهاتف وترك مراقبته في المنزل، فبعض الآباء ـ هداهم الله ـ لا يُلقي للهاتف بالاً، ولا يراقبه ألبتة، بل ربما أعطى كلّ واحدٍ من أبنائه وبناته هاتفًا خاصًا في غرفته، أو يعطيهم هاتفًا جوالاً ولو كانوا لا يدركون مخاطِره ولا يستفيدون منه على الوجه الصحيح، وما علم أن الهاتف إذا أُسِيء استخدامه أصبح معولَ هدم وخراب؛ فكم جرّ من بلايا ورزايا، وكم قاد إلى الشرور والمحن، وكم انتُهِك بسببه من عِرض، وكم خَرِب لأجله من بيت.
ومنها أيضًا احتقار الأولاد وقلّة تشجيعهم، ومن مظاهر هذا الاحتقار إسكاتهم إذا تكلّموا، والسخرية بهم وبحديثهم؛ مما يجعل الولد عديم الثقة بنفسه، قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه، وكذلك التشنيع عليهم إذا أخطؤوا ولمزهم إذا أخفقوا في موقف أو تعثّروا في مناسبة، مما يولّد لديهم الخجل والهزيمة، ويشعر الوالد بالعجب والكبرياء، فيتكون بذلك الحاجز النفسي بين الطرفين؛ فلا يمكن بعده للوالد أن يؤثر في أولاده. وأيضًا ازدراؤهم إذا استقاموا، وهذا من أشدّ الاحتقار وأعظم صوَره، فتجد من الآباء من يحتقر أولاده إذا رأى منهم تقى وصلاحًا واستقامةً وهدايةً، مما يجعلهم يَضلّون وعلى أعقابهم ينكُصون، فيصبحون بعد ذلك عالة على أبيهم وسببًا لجرّ البلايا إليه، وكم عرفتُ وتعرفون من الشباب من ضلّ بعد استقامة بسبب استهزاء والده وأهله به.
ومن مظاهر القصور في تربية الأبناء عدمُ إعطائهم فرصةً للتصحيح والتغيير للأفضل؛ فبمجرد أدنى خطأٍ أو زلّة تجد بعض الآباء يزري بولده، ولا يكاد ينسى هذا الخطأ له، فإذا سرق الولد ناداه باسم السارق، وإذا كذب ناداه باسم الكذَّاب، وكأن هذه الأخطاء ضربة لازب لا تزول أو وصمة عار لا تنمحي، ومن هنا ينشأ الولد وفي نفسه أنه سارق أو كذّاب، فلا يحاول التخلّص من عيبه، ولا يجد من يعينه على ذلك.
ومن المظاهر الشماتة بالمبتلَين، فبعض الآباء إذا رأى مبتلى بدأ يشمت به، ويتّهم أهله بالتقصير في تربيته بدلاً مِنْ أن يسأل الله السلامة لنفسه والعافية لهذا المبتلى؛ فكم من الناس من انحرف أبناؤه وضلوا بسبب شماتته وذَرابة لسانه وجُرأته على الناس.
ومن مظاهر القصور قلة التعاون مع مدارس الأولاد أو انعدامه بالكلية؛ فكثير من الآباء لا يتعاون مع المدارس التي يدرس فيها أولاده، بل ربما لا يعلم أين يدرسون. ومن ذلك الدفاع عن الولد بحضرته خصوصًا في المدرسة، فقد يحدث أن يقوم أحد المدرّسين أو المسؤولين في المدرسة بتأنيب طالب من الطلاب أو عقابه، ثم يأتي والده وقد غضب غضبةً مُضَريةً، وبدلاً من الحوار الهادئ مع صاحب الشأن وبدلاً من أن يكون ذلك بعيدًا عن ناظِرَي الولد تجد ذلك الوالد يطلق العباراتِ النابيةَ على الأستاذ أو المسؤول، ويصبُّ جام غضبه عليه، وينزله في الحضيض بحضور ولده، ومن هنا تقِلّ قيمة المدرسة والمدرّس في نفس الولد، ويشعر بالزهو والتيه والإعجاب بالنفس، فلا يكاد بعد ذلك يصيخ السمع للمعلّمين والمربّين.
ومن مظاهر القصور تركُ المبادرة في تزويج الأبناء مع الحاجة والمقدرة، فمن الآباء من لا يحفل بهذا الأمر، فتراه لا يبادر إلى تزويج أبنائه مع حاجاتهم إلى الزواج ومع غِنى الأب واستطاعته أن يزوّجهم. وهذا خطأ فادح؛ حيث يترتب عليه مفاسد عظيمة تعود على الفرد والأمة؛ فبسببه يتأخر الشباب عن الزواج إلى سنٍ متأخرة، وبسببه تضيع أعراض وأخلاق، والذي يُؤخَّر زواجه يُحْرم من سكون النفس وطمأنينة القلب ويتعرض للفتن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الزواج مشروع في دين الإسلام، وأقلُّ درجات المشروعية الإباحة، بل إن المتأمّل في أدلة الشرع يجدها لا تدلُّ على الإباحة فحسب، بل تدلّ على الاستحباب أو الوجوب، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنّ النكاح فرض عين يأثم تاركه مع القدرة عليه، قال بذلك أهل الظاهر.
ألا فليتَّق الله الأولياء، وعلى الآباء أن يَعُوا هذا الأمر، وأن يَسعَوا في تزويج أبنائهم عند حاجة الأبناء ويسار الآباء.
ومن مظاهر القصور في باب الزواج تأخير زواج البنات بغير مسوّغٍ شرعي؛ فمن الآباء من يُؤخّر زواج ابنته بلا مسوّغ شرعي؛ فتراه يردُّ الخاطب الكفء، ويؤخّر زواج ابنته إما لكونها وحيدتَه فلا يرغب في فراقها، أو لرغبته في أن تخدمه، أو لأنها موظفة ويرغب في مالها، أو لأنه ينتظر خاطبًا غنيًّا يتقدّم لموليته، أو لغير ذلك من الأسباب، وهذا حرمان للفتاة من حقّها في الزواج، فكيف تكون حالها وهي ترى أترابها من بنات عمها أو بنات خالها أو صديقاتها وهن يحملن الأطفال ويسعدن بالأزواج؟! إنها تحترق كمدًا وغمًّا وحسرة، فتبِعة ذلك التأخير يتحملها الأب؛ لأن الأصل أن يبادر إلى تزويجها متى تقدّم لها الخاطب الصالح، فإذا ارتضت المرأة رجلاً وكان كفئًا فليس لوليِّها منعُها من التزوج به.
فيا أيها الأب الناصح لابنته، خَفِ اللهَ، وارحم مُوليتك، وتذكر بأنك لست مخلّدًا في هذه الدنيا، وتذكر بأن الأنثى لا بدَّ لها من رجل يحوطها برعايته أبًا كان أو أخًا أو عمًّا أو خالاً؛ فإذا انْتَقَلْتَ عن هذه الدنيا ولم تَدْخُلِ ابنتُك عشَّ الزوجية وأنت السبب فمعنى ذلك أنها ستكون عالةً على إخوانها أو أحدِ أقاربها، وقد تُبتلى بمن لا يخاف الله فيها، سواء كان ذلك زوجَ أمِّها إذا تزوجت أمها بعد فراقك أو زوجة أحد إخوانها أو غير أولئك، فتتحوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق.
وفي المقابل من الخطأ أيضًا تزويج البنات بغير الأكفاء، فمن الآباء من لا يقصِّر في المبادرة إلى تزويج ابنته، ولكنّه يُقصِّر في اختيار الزوج المناسب، فتراه لا يتحرَّى الكفء الذي يُرضى دينُه وخلقُه، إما لرغبته في التخلّص من تبعتها وبقائها بلا زوج وإما لعجلته وإما لطمعه في المال إذا تقدم إليه غنيّ أو لرغبته في الوجاهة والمنصب والسمعة إذا تقدّم له من هو كذلك، أو يزوجها للقريب الذي يستحيي من ردّ طلبه، أما الدين القويم والخُلُق الكريم فلا يخطر بباله ولا يدور في خياله، ولهذا قد تُبتلى بتارك للصلاة أو مدمن للمخدرات أو شرس الأخلاق جافي الطبع، ولا حرج أن يسأل الإنسان عن المنصب والحسب والنسب ونحو ذلك من الاعتبارات، لكن الحرج أن تكون هي المحكَّمةَ في المفاضلة والترجيح دون اعتبار للدين والخلق، وهذا من الخلل والتفريط.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الآباء الكرماء، هذه بعض مظاهر التقصير في تربية الأولاد، فماذا نؤمِّل بعد هذا الإهمال؟! وماذا سنحصد من جراء ذلك التقصير؟! أَوَبعد هذا نطمع في استقامة الأولاد؟! نحيطهم بكل ما يؤدِّي إلى الانحراف ثم نرجو بعد ذلك صلاحهم وفلاحهم!
ومن هنا نعلم أية جناية نجنيها على الأولاد حين نقذف بهم إلى معترك الحياة في جوِّ هذه التربية الخاطئة، ثم ما أسرعنا إلى الشكوى منهم حين نراهم منحرفين أو عاقِّين أو متمرّدين؛ ونحن قد غرسنا بأيدينا بذور هذا الانحراف أو العقوق أو التمرد.
أين تربيتنا في هذه الأعصار المتأخّرة من تربية سلفنا الصالح الذين أخرجوا لنا أكرم جيل وأفضل رعيل؟! لا يُدانيهم أحدٌ مِن بعدهم، ولا يبلغ شَأْوَهمْ مَنْ لحق بهم، فمن كان وراء هؤلاء الأبطال؟! ومن الذي صنع أولئك الرجال؟! إننا لو سبرنا أحوالهم وتتبّعنا سِيَرَهم لوجدنا أن وراء كل واحد منهم ـ بعد توفيق الله ـ أبًا عظيمًا أو أمًّا عظيمة يُربُّون أولادهم على تطلاب الكمال ونشدان المعالي، ولنأخذ نماذج لبعض الأمهات ممن كنَّ وراء الخدور، يربِّين الأولاد، ويغرسن الفضيلة في جوانحهم، ويثبِّتْن دعائمها في مسارب دمائهم:
فهذا أمير المؤمنين، أريب العرب وألمْعِيُّها، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، من كان وراءه؟ لقد كان وراءَه أمٌّ عظيمة هي هند بنت عُتبة رضي الله عنها، وهي القائلة وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: إن عاش ساد قومه، قالت: ثكلته إن لم يسُد إلا قومَه. وكان معاوية إذا نُوزِع الفخر بالمقدرة وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمّه، فصدع أسماع خصمِه بقوله: أنا ابن هند.
وهذا عبد الله بن الزبير كان وراءه أمٌ كريمة شجاعة، هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهي القائلة وقد نعي ابنها عبد الله: ما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍ من بغايا بني إسرائيل؟! وهي القائلة أيضًا قبل ذلك عندما استشارها ابنها عبد الله بن الزبير في قتال الحجاج: اذهب، والله لضربة بالسيف على عزٍّ أفضل من ضربة بالسوط على ذُل.
وهذا سفيان الثوري، وما أدراك ما سفيان الثوري؟! إنه فقيه العرب ومحدِّثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث، وما كان ذلك العَلَم الشامخ والإمام الجليل إلا ثمرةَ أمٍ صالحةٍ، حفظ لنا التاريخ مآثرها وفضائلها ومكانتها، وإن كان ضنَّ علينا باسمها.
روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بنيّ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمِغْزَلي. فكانت رحمها الله تعمل وتقدِّم له ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوّله بالموعظة والنصيحة؛ قالت له ذات مرة فيما يرويه الإمام أحمد: يا بُني، إن كتبت عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى في نفسك زيادةً في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.
واعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن هناك أمورا تعين على تربية الأولاد، يجدر بنا مراعاتها، وينبغي لنا سلوكها مع فلذات الأكباد، فمن ذلك ما يلي:
الدعاء للأولاد وتجنب الدعاء عليهم، فإن كانوا صالحين دُعِي لهم بالثبات والمزيد، وإن كانوا طالحين دُعِي لهم بالهداية والتسديد، والحذر كلَّ الحذرِ من الدعاء عليهم؛ فإنهم إذا فسَدوا وانحرفوا فإن الوالدين أولُ من يكتوي بذلك.
ومنها غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد، فمما يجب بل هو أوجب شيء على الوالدين أن يحرصوا كل الحرص على هذا الأمر، وأن يتعاهدوه بالسقي والرعاية، كأن يعلِّم الوالد أولاده منذ الصغر أن ينطقوا بالشهادتين وأن يستظْهِروها، وينمي في قلوبهم محبة الله عز وجل، وأنّ ما بِنَا من نعمة فمنه وحده، ويعلمهم أيضًا أنّ الله في السماء وأنه سميع بصير، ليس كمثله شيء، إلى غير ذلك من أمور العقيدة، وهكذا يوجّههم إذا كبروا إلى قراءة كتب العقيدة المناسبة لهم.
ومنها غرس القيم الحميدة والخلال الكريمة في نفوسهم؛ فيحرص الوالد على تربيتهم على التقوى والحلم والصدق والأمانة والعفة والصبر والبر والصلة والجهاد والعلم؛ حتى يَشِبُّوا متعشّقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور ومكارم الأخلاق.
ومنها تحصينهم بالأذكار الشرعية؛ وذلك بإلقائها إليهم إن كانوا صغارًا، وتحفيظهم إيّاها إن كانوا مميّزين، وتبيين فضلها، وتعويدهم على الاستمرار عليها.
ومنها تشويقهم للذهاب إلى المسجد صغارًا، وحملهم على الصلاة فيه كبارًا؛ كأنْ يعْمَد الوالد إلى تشويق أولاده للذهاب للمسجد قبل تمام السابعة من أعمارهم، فيشوّقهم قبل ذلك بأسبوع بأنه سيذهب بالولد إلى المسجد، ثم يذهب به، ويحرص على ضبطه فيه، ولا يسمح له بأن يكثر الحركةَ ويُشغِل المصلّين، أما إذا كبرُوا فإنه يجب عليه أن يقوم عليهم، وأن يأمرهم بالصلاة في المسجد مع جماعة المسلمين، وأن يحرص على هذا الأمر، ويصطبر عليه، قال الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132].
ومنها قراءة الكتب المفيدة في التربية؛ فهي مما يعين على تربية الأولاد؛ لأنها ناتجةٌ عن تجربة وممارسة وخبرة وعُصارة فكر ونتاج تمحيص وبحث.
ومن تلك الكتب التي يجدر بالمسلم اقتناؤها والإفادة منها ما يلي:
أ- العيال لابن أبي الدنيا.
ب- تحفة الودود بأحكام المولود لابن القيم.
ج- المسؤولية في الإسلام للدكتور عبد الله قادري.
د- أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع للدكتور عبد الله قادري.
هـ- تذكير العباد بحقوق الأولاد للشيخ عبد الله الجار الله.
و- الأولاد وتربيتهم في الإسلام لمحمد المقبل.
ز- نظرات في الأسرة المسلمة للدكتور محمد بن لطفي الصباغ.
ح- تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله ناصح علوان.
(1/5075)
سيرة عمر رضي الله عنه
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 2- من مآثر عمر. 3- موافقات عمر لكلام الله تعالى. 4- مواقف جليلة من حياة الفاروق.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن لهذه الأمة سلفًا، هم أبر الناس قلوبًا، وأحسنهم إيمانًا، وأقلّهم تكلفًا، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية. وإننا اليوم على موعد مع واحدٍ من هؤلاء العظماء، إنه رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجلٌ غليظٌ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، وليٌ من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مُرقَّع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، إنه شهيد المحراب، إنه من قُتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وجمعني وإياكم في زمرته.
سنتحدث في هذا اليوم عن سيرته العطرة وفضائله، ونستلهم من ذلك الدروس والعبر، وأول هذه الفضائل ـ يا عباد الله ـ أن الرسول عليه الصلاة والسلام يفسِّر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لعمر ، وكلها صحيحة كالشمس.
الأولى: قال : ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدِي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)) ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)). دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كلّ جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق.
الثانية: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم أُتِيت بقدح لبن، فشربت، حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب)) ، قالوا: فما أوّلته يَا رسولَ الله؟ قال: ((العلم)). سبحان الله! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟!
الثالثة: عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله إذ قال: ((بينا أنا نائمٌ رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضّأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرًا)) ، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!
وقال يخاطب عمر: ((والذي نفسي بيده، ما لقيَك الشيطان سَالكًا فجًا قط إلا سلَك فجًّا غير فجّك)). وسأل عمرو بن العاص رسول الله عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب)) وعدَّ رجالاً.
وأخبر النبي أنه كان ينزع من بئر، فجاء أبو بكر فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين، قال: ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن. ولقد صدق الله رسوله الرؤيا، فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وقوي سلطان الإسلام، وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس، حتى قيل: إن الفتوحات في عهده بلغت ألفًا وستًا وثلاثين مدينة مع سوادها، وبنى فيها أربعة آلاف مسجد.
قال ابن سعد في طبقاته: "إنَّ أوّل من سُمِّي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإنه أول من كتب التاريخ، كتبه من هجرة النبي من مكة إلى المدينة، وهو أولُ من جمع القرآن في المصحف، وهو أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان وكتب به إلى البلدان".
أيها المسلمون، وإذا أردنا أن نتحدث عن سيرة عمر فبماذا وعن ماذا نتحدث؟! أنتحدث عن دينه وعلمه، أو نتحدث عن زهده وورعه وتقواه، أو عن حكمه وسياسته وعدله، أو عن شجاعته وقوته وجهاده، أم عن محافظته على سنة النبي والتمسك بها وتأديب كلّ من حاول الإحداث في الدين، أم عن سهره ومراقبته لكل ما يحدث في البلاد ومتابعته بنفسه لكل صغيرة وكبيرة؟! حقًا إنك لتحتار وأنت تتحدث عن عمر!
لقد كان إسلامه فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، كما قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي) أي: كفار قريش. والقتال هنا المضاربة باليد؛ لأن الجهاد لم يؤذَن به إلاّ بعد الهجرة. لقد أعلن عمر إسلامَه وجهر به وازداد المسلمون عزةً وقوةً بإسلامه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه)). وقد قال أيضًا عن عمر رضي الله عنه: ((كان فيما خلا قبلكم من الأمة ناس مُحّدَّثون ـ أي: ملهَمون ـ، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب)). والمحدَّث هو الملهَم، وهي منزلة جليلة من منازل الأولياء. وقد قيل عنه : ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر.
وقد وافق القرآن قول عمر في عدة مواقف، منها ما قاله للنبي بأن يحجب زوجاته أمهات المؤمنين، فنزل الأمر بالحجاب، وقال للنبي حينما طاف بالكعبة في العمرة: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125].
ولما تولى عمر الخلافة وصعد المنبر ألقى خطبته العظيمة، بيّن فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم، تأتيه القوافل محمّلة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربع عشرة رقعة تختلف بعضها عن بعض. وكان إذا هدأت العيون وتلالأت النجوم يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفًا يساعده أو فقيرًا يعطيه أو مجرمًا يؤدّبه.
وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي إذ بامرأة في جوف دارٍ لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القِدْرُ الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أُعلّلهم به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئًا، فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئًا دقيقًا وشحمًا وسمنًا وتمرًا وثيابًا ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: يا أسلم، احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك، فقال: لا أمّ لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا.
أيها الأحبة، كان عمرو بن العاص واليًا على مصر في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، لماذا يضربه؟ فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنّينا أن يرفع عنه.، ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: منذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.
تلك هي عدالة عمر، وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
وتستمر مسيرة عمر الخالدة، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعًا، فحلف عمر أن لا يأكل سمينًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان يبكي ويقول: آلله يا عمر، كم قتلت من نفس؟ وهل قتل عمر أحدًا؟! لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس.
وقف على المنبر يوم الجمعة ببُرْده المرقّع، وأثناء الخطبة قرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن المواقف العظيمة في سيرة عمر أنه حينما أرسل كسرى مستشاره الهرمزان إلى المدينة يريد عمر لابسًا تاجًا من ذهب وزبرجد وعليه الحرير، يدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتًا من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس، فطرق الهرمزان الباب، فخرج ابنه، فقال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه، فبحثوا عنه فوجدوه نائما تحت شجرة وقد وضع درّته بجانبه وعليه ثوبه المرقع وقد توسّد ذراعه في أنعم نومة عرفها زعيم، وكأني بالهرمزان يتساءل في نفسه: أهذا عمر؟! أهذا الذي فتح الدنيا؟! هذا الذي دوّخ الملوك؟! هذا الذي داس جماجم الخونة؟! ينام تحت شجرة؟! فانهدّ الهرمزان من الدهشة وقال: حكمتَ فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرًا بين الرعية عُطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظلِّ الدوح مشتملاً ببُردةٍ كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حقّ أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها
وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى، فنُعت له العسل، وفي بيت المال عُكّة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي عليّ حرام، فأذنوا له.
وخرج مرة في سواد الليل فرآه طلحة ، فذهب عمر فدخل بيتًا، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟!
أيها الناس، هذا تاريخنا، فهل لنا تاريخ غير تاريخ عمر؟! بماذا نتكلم مع الأمم؟! بماذا نفتخر؟! بماذا نتصدى للهجوم البشع على الإسلام؟!
(1/5076)
سيرة عثمان رضي الله عنه
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
3/5/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه. 2- بشارة النبي لعثمان بالجنة. 3- سخاء عثمان بن عفان وبذله. 4- عبادته رضي الله عنه وتقواه لربه. 5- حياؤه رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله سبحانه، واعلموا أنه لا ينجِّيكم من عذاب الله إلا أن تجعلوا بينكم وبينه تقاة؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
أيها المؤمنون، نتحدّث اليوم عن رجل لا كالرجال, وفذٍ لا كالأفذاذ، رجل يكفيه أنه صاحب رسول الله، إنه عظيم القدر، رفيع المنزلة، كان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البرَرَة وقتيل الفجرة، مخذولٌ من خذله، منصورٌ من نصره، إنه صاحب الهجرتين وزوج الابنتَين وذو النورين، أمّه أروَى عمّة رسول الله ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، إنه عثمان الخير، إنه عثمان الحياء، إنه عثمان الصدق والإيمان، إنه عثمان البذل والتضحية بالنفس والنفيس، إنه عثمان بن عفان، أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين.
كان عثمان ـ أيها الناس ـ من أجمل الرجال وجهًا، وأحسنهم شكلاً، معتدل القامة، كبيرَ اللّحية.
عباد الله، لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحقٍّ أن يكونَ في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد تزوّج بنت رسول الله رقية رضي الله عنها، فلما توفيت زوَّجَه رسول الله أمّ كلثوم، فتوفيت أيضًا في صحبته، فقال رسول الله : ((لو كان عندنا أخرى لزوّجناها عثمان)). قال الحسن البصري: "إنما سُمِّي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحدًا أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره".
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي في حائطٍ من حيطان المدينة ـ أي: بساتينها ـ، فجاء رجل فاستفتح ـ أي: استأذن بالدخول ـ، فقال النبي : ( (افتح له وبشّره بالجنة)) ، ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي ، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي : ((افتح له وبشره بالجنة))، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي ، فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: ((افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)) ، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله ، فحمد الله ثم قال: الله المستعان. متفق عليه.
ولما صعد رسول الله الجبل جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف ـ أي الجبل ـ، فقال : ((اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) رواه مسلم.
ومن مآثر عثمان ـ يا عباد الله ـ أنه كان صاحب ثروةٍ عظيمة وجاهٍ في قريش، لكنه لم يسلط هذه الثروة الطائلة في احتقار الآخرين والاستعلاء على عباد الله المؤمنين، لكنه استعملها في مرضاة الله، في الإنفاق في سبيل الله، فقد كان يبذل البذل العظيم لنصرة هذا الدين، فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي وهو يحثُّ على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ رسول الله على جيش العسرة مرة أخرى، فقال: يا رسول الله، عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ رسول الله على الجيش، فقال عثمان: يا رسول الله، عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله : ((من يشتريها من خالص ماله فيكون دلْوُه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة؟)) قال عثمان: فاشتريتها من خالص مالي.
عباد الله، ها هو عثمان رضي الله عنه كما في الموقفين السابقين يعلن للدنيا وظيفة المال الحقيقية ودوره الأكرم، فسابق به تجارةً رابحةً مع الله، ويُلغي من حسابنا اللّهثَ وراء ماديات الحياة وجمعَ المال كذبًا أو زورًا أو اختلاسًا أو غشًّا أو سرقة أو خداعًا أو رِبا، ويذكرنا بأنّ المال مالُ الله ولو احتوته منّا الخزائن. ولا بد أن نعلم ـ يا عباد الله ـ أننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشدّ من حاجتنا إليها في الدنيا، غدًا نتوزّع نحن وأسرنا في زوايا وحفر الأرض، كل سَيُرتَهَن في حفرته، الأب في حفرة، والابن في حفرة، والأم في حفرة، والأخ في حفرة، والأخت في حفرة، ألسنا في حاجة إلى أقلّ القليل من الأجر في تلك الحفرة؟! ألسنا في حاجة إلى أموالنا إذا تمزقت منا الأوصال وتباعد منا المقترب وتفرّق منا المجتمع واتّحد علينا الليل والنهار ونسينا المعارف؟! عثمان رضي الله عنه اشترى الجنّة من رسول الله مرتين، فكم مرة اشترينا نحن الجنة؟ يكون ذلك بدعمٍ في سبيل الله، أو كفالة يتيم، أو مواساة مسكين، أو كسوة لعارٍ، أو إطعامٍ لجائع، أو برٍ بأقارب، أو إجابةٍ لسائل؟!
أيها المؤمنون، لم يكن عثمان سباقًا في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابدًا خاشعًا خائفًا من الله، لا يملُّ من قراءة القرآن، فقد روي عنه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا دأبه رضي الله عنه، ولذلك قال ابن عمر في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ [الزمر: 9]: (هو عثمان بن عفان)، وقاله ابن عباس في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76].
ومن أقواله رضي الله عنه: (إن قلوبنا لو طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف).
وكان رحيمًا بأهله ويخدمهم، فكان إذا استيقظ من الليل لا يُوقظ أحدًا من أهله ليعينه على الوضوء إلا أن يجده يقظانًا، وكان يعاتَب في ذلك، فيقال: لو أيقظت بعض الخدم، فيقول: لا، الليل لهم يستريحون فيه. فأين بعض الناس من هذا الخُلُق حينما يظلمون الخَدَم والعمال ويكلفونهم ما لا يطيقون؟!
وإن أعظم منقبة سُجّلت لعثمان ولا ينساها التاريخ له أبدًا، بل لا ينساها أهل الإسلام أبدًا؛ ألا وهي جمعه الناس على حرفٍ واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنيّ حياته، فرضي الله عن عثمان وجمعنا به في جنات النعيم.
قلت ما قد سمعتموه، واستغفروا الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة في الله، إن سيرة هذا العَلَم مليئة بالأحداث، وما زالت فضائله مشهورة بين الناس، وإنَّ أميَزَ صفة تميّز بها عثمان والتي أصبحت ملازمة لاسم عثمان، فما يُذكر عثمان إلا وتذكر معه، ألا وهي صفة الحياء، فقد كان عثمان حييّا، كأنه العذراء في خدرها من شدة حيائه، فقد كان إذا اغتسل يغتسل جالسًا لئلا يُكشَف شيءٌ منه مع أنه في بيت مغلق عليه.
وتروي لنا عائشة قصّة عجيبة يشهد فيها رسول الله أن الملائكة تستحي من عثمان، فقد قالت رضي الله عنها: كان رسول الله مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله وسوَّى ثيابه فدخل فتحدّث، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله ـ أي: لم تغير من حالك شيء ـ، ثم دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!)) رواه مسلم.
الله أكبر، لا إله إلا الله، بل كان يقول: ما مسست فرجي بيميني منذ بايعت رسول الله.
كيف ـ يا عباد الله ـ لو خرج علينا عثمان رضي الله عنه ورأى زماننا هذا الذي ظهرت فيه النساء لا أقول الرجال بل النساء، ظهرن بلباسٍ فاتِن وأظهرن مفاتنهن للرجال، من عباءة مخصَّرة، ونقابٍ فاتن، وصور عارية، وخروجٍ متكرّر من البيوت، ومسلسلات، ونساء كاسيات عاريات؟! بل أين عثمان من رجالٍٍ لا يتورّعون ولا يستحون أن يبدوَ شيء من عوراتهم ويلبسون القصير ويجولون فيه كلّ سوق واجتماع دون حياء من أنفسهم أو من الناس؟! وإلى الله المشتكى، وإذا فُقدت الغَيرة والحياء فماذا تنتظر؟! فرضيَ الله عن عثمان بن عفان؛ فلقد كان مثلاً رائعًا للصدق والإيمان والحياء والبذل في سبيل الله.
عباد الله، وأما صفة موتِه بل قتله رضى الله عنه فهذا يحتاج إلى خطبة كاملة لعظم القصّة، وأنا لا أحبّ أن أطيل عليكم، ولهذا سنتعرّض لها في الخطبة القادمة إن شاء الله.
(1/5077)
المخاطر المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك واتفاق مكة المكرمة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
يوسف جمعة سلامة
غزة
21/1/1428
المغازي الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الارتباط الوثيق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. 2- فضل بيت المقدس. 3- تاريخ العدوان على المسجد الأقصى المبارك. 4- جريمة الحفريات تحت وحول المسجد الأقصى. 5- رسالة إلى الشعب الفلسطيني المرابط. 6- رسالة إلى الشعوب العربية والإسلامية. 7- رسالة إلى الحكام العرب والمسلمين. 8- شكر جهود المملكة العربية في التئام الصف الفلسطيني. 9- حث الأشقاء الفرقاء على التمسك بالوحدة والاستمرار في درب الألفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء: 1].
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في هذه الآية الكريمة التي بدِئت بها سورة الإسراء؛ وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يفرط في واحد منهما، فإنه إذا فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد يوضع لعبادة الله في الأرض كما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عامًا)) أخرجه الشيخان.
ولقد ربط الله بين المسجدين حتى لا تهون عندنا حرمة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإذا كان قد بارك حوله فما بالكم بالمباركة فيه؟! فالمسجد الأقصى مبارك في ذاته، كما أن الأرض التي حوله مباركة، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ: 18]، القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس كما جاء في تفسير ابن كثير (3/704). وقال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 71].
أيها المسلمون، إن مدينة القدس تحتل مكانًا مميزًا في نفوس العرب والمسلمين، فهي المدينة التي تهفو إليها نفوس المسلمين، وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسَه بقوة في كلّ شارع من شوارع القدس وكل حجر من حجارتها وكل أثر من آثارها، فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (4/67) بسنده عن ذي الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: ((عليك ببيت المقدس؛ فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
فهذا الصحابي الكريم يسأل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله، أين تأمرنا أن نذهب؟ أين نسكن إن ابتلينا تعرضنا للبلاء واللأواء والمصائب بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عليك ببيت المقدس؛ فلعل الله يرزقك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون.
فهذا الحديث الشريف فيه دلالة واضحة على أن بيت المقدس وأكناف بيت المقدس هي محضن المؤمنين عندما تدلهم الخطوب وتحلولك الظلمات وتشتد الفتن، فهذا المسجد المبارك قد أخذت القدس وفلسطين مكانتها منه.
أيها المسلمون، لقد صلى رسولنا في المسجد الأقصى المبارك بالأنبياء إمامًا، كما صلى في ساحاته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من مئات الصحابة.
وفي جنبات الأقصى رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه الأذان بصوته النديّ، وفي ظلّ هذا البيت دفن العديد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أوّل قاض للإسلام في بيت المقدس، وما من شبر من أرضه إلا وشهد ملحمة أو بطولة تحكى لنا مجدًا من أمجاد المسلمين. إنه الأقصى أسمى من أن يتأثّر بتصرفات حاقدة وبتصريحات باطلة.
لقد كانت مدينة القدس سببًا في وحدة المسلمين أيام الصليبيين، وهي التي ستوحد العرب والمسلمين إن شاء الله.
إنه المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
لقد تعرض المسجد الأقصى المبارك لاعتداءات إسرائيلية منذ حرب 1967م، حيث قامت سلطات الاحتلال بمصادرة مفاتيح باب المغاربة، ثم قامت بهدم وإزالة حي المغاربة بالكامل، ثم حريق المسجد الأقصى في 21/8/1969م الذي أتى على منبر البطل صلاح الدين، ثم مذبحة الأقصى سنة 1990م، وأحداث النفق عام 1996م، وزيارة شارون للأقصى التي سببت انتفاضة الأقصى المبارك، وها نحن نرى الحفريات والأنفاق أسفله لتقويض بنيانه.
إن ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى ارتباط عقدي وليس ارتباطًا انفعاليًا عابرًا، ولا موسميًا مؤقتًا، حيث إنّ حادثة الإسراء من المعجزات، والمعجزات جزء من العقيدة الإسلامية، وكما نشاهد فإن المسجد الأقصى المبارك يتعرض في هذه الأيام لمؤامرات عديدة تسببت في تقويض بنيانه وزعزعة أركانه، جراء الحفريات الإسرائيلية المستمرة للأنفاق أسفل منه، وكذلك محاولات السلطات الإسرائيلية إقامة ما يُسمّى بالهيكل المزعوم بدلاً منه.
إن ما تقوم به الجرّافات الإسرائيلية في هذه الأيام من إزالة التلة الترابية وكذلك الجسر المؤدي إلى باب المغاربة وهدم الغرفتين أسفله التي مضت قرون طويلة على إقامتهما ليس مجرد اعتداء على جسر وغرفتين، بل هو اعتداء مباشر على جزء أصيل من المسجد الأقصى، قبلة المسلمين ومسرى نبيهم وأرض الإسراء والمعراج، فهو وقف إسلامي خالص يحوي آثارًا وعقارات إسلامية من العصور الإسلامية المتعددة، كما أنه اعتداء على تاريخ وحضارة هذه المدينة المقدسة.
إن المسجد الأقصى المبارك فتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وحرره صلاح الدين الأيوبي، فهلا قام المسلمون بواجبهم تجاه الأقصى؟! وهل نحن ننتظر قائدًا مسلمًا كصلاح الدين ينفض الغبار عن مسرى الحبيب عليه الصلاة والسلام، ويعيد إليه عزته وكرامته؟! أملنا في الله، فما بعد الضيق إلا الفرج، وما بعد العسر إلا اليسر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وبهذه المناسبة فإننا نوجه رسائل متعددة، أستهلها برسالة إلى الشعب الفلسطيني أقول فيها: لا بد لشعبنا الفلسطيني أن يشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، ولا ننسى أن نرسل بالتحية لأهل القدس وحراس المسجد الأقصى المبارك وفلسطيني الداخل المرابطين في المسجد الأقصى المبارك والمدافعين عنه.
كما نوجه رسالة إلى الشعوب العربية والإسلامية، ونقول لهم: لا بد من الخروج إلى الشوارع في مظاهرات عارمة، كي تكون رسالة واضحة للجميع بأن العرب والمسلمين لن يسكتوا على ما يحدث اليوم من هدم لأسوار المسجد الأقصى المبارك، لأنه جزء من عقيدة الأمة.
كما نطالب الحكام العرب والمسلمين بالقيام بواجبهم للذّود عن المسجد الأقصى المبارك، ونقول: ها هو المسجد الأقصى ينادي قادة الأمة كما ناشد صلاح الدين، ونطالبهم بضرورة دعم المقدسيين مواطنين وتجارًا ومدارس وجامعات ومستشفيات ومزارعين وسدنة للأقصى، كي يبقوا مرابطين محافظين على القدس والمسجد الأقصى المبارك.
كما وندعو منظمة المؤتمر الإسلامي إلى عقد اجتماع عاجل لقادة الأمتين العربية والإسلامية؛ ليتدارسوا هذا الأمر، فأي موضوع أهم وأجّل من موضوع المسجد الأقصى مسرى رسول الله ؟!
جاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي)) ، وعنه أنه قال: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) أو كما قال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يا أحبتي في الله، دعونا ننتقل من المسجد الأقصى المبارك إلى شقيقه المسجد الحرام بمكة، حيث التقى عدد من قادة الشعب الفلسطيني بجوار الكعبة المشرفة، وكنا قد خاطبنا هؤلاء وأولئك وقلنا لهم: ما دام هدفكم واحدًا وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف فها هي القدس تحترق، فعلام تفترقون إذًا ومسرى الحبيب عليه الصلاة والسلام مهدد بالزوال؟! حيث إن أركانه قد تصدعت، وبنيانه قد تقوضت أركانه، وأثمرت هذه الجهود التي بدأت من فلسطين عن طريق الفصائل الفلسطينية والشخصيات الاعتبارية ولجنة المتابعة والفصائل المتعدّدة والوفد المصريّ الذي يعمل ليل نهار من أجل حقن الدماء الفلسطينية، إلى أن جاءت دعوة كريمة من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله لاستضافة اللقاء الأخويّ الفلسطيني، ومن فضل الله أن هذا اللقاء قد أتى بثمرات طيبة، وهي حكومة الوحدة الوطنية وحقن الدماء الفلسطينية، الفلسطينيون يأملون أن يستمر ذلك، وأن لا ينفض هذا الاتفاق كسابقاته، وأن يفتح الفلسطينيون صفحة جديدة، وأن يتناسوا الجراح والآلام التي حدثت في الأسابيع الماضية؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يعاتب لا تنتهي الأمور، فقديمًا قال الشاعر العربي:
سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط
وتَجافَى عن تعنيفه إن جار يومًا أو قسط
من الذي ما ساء قط ومن له الْحسنى فقط
غير نبينا الذي عليه جبريل هبط
فكل ابن آدم خطاء، وليس هناك معصوم إلا الحبيب ، لذلك جميل أن نتناسى ونطوي الصفحات الماضية، وأنا هنا أشيد بدور المملكة العربية السعودية ملكًا وقيادة وشعبًا على مواقفها الطيّبة، وعلى حسن المتابعة، فاللقاء بجوار الكعبة مؤثّر، أن تجلس وأنت ترى الكعبة أمام عينيك هذا أمر يؤثّر في النفس لما للكعبة من قداسة، فالحبيب عليه السلام وهو يطوف بالكعبة أقدس بقعة قال لها: ((ما أطيبك! وما أعظمك! وما أشد حرمتك! لكن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك؛ ماله وعرضه ودمه)) أخرجه أصحاب السنن.
أنا أحيي الأسرى البواسل الذين كان لهم دور بارز في وثيقة الوفاق الوطني، وفي حث الجميع على اللقاء، نسأل الله أن يفرج كربهم جميعًا.
أيها المسلمون، لا بد للأمة أن تستيقظ، نحن في خطر داهم، نحن في خطر حقيقي يريد القضاء على الأخضر واليابس، نحن في خطر يريد القضاء على مصدر عزتنا وكرامتنا ومكانتنا، على الأقصى المبارك مسرى الحبيب ، لذلك يجب أن يتسع كل منا للآخر، والوطن يتسع للجميع، فالوطن صغير في حجمه لكنه كبير في مكانته، فهو يتسع لكل الكفاءات ولكل المخلصين والمعطائين في هذا الوطن، لكن ما على المخلصين إلا أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يعملوا على متابعة هذا الاتفاق لتنفيذه، بالاتصال مع الإخوة في الداخل والخارج لنريح الشعب الفلسطيني.
أول أمس كان الكل قابضًا على الزناد، هذا يريد أن يفتك بذاك، والكل متخوّف، أمس اختلفت الصورة، الكلّ يطلق الرصاص، لماذا؟ قالوا بهجة وسرورًا: الحمد لله رب العالمين، وخرج الناس إلى الشوارع بصورة عفوية، الناس مساكين يحبون الجميع، ويريدون السلام والخير والأمان. يا إخوة، حتى الجاليات الفلسطينية كانت تعيش لحظة بلحظة، تضع يديها على قلبها، إخوانكم في العراق الذين يذبحون ويقتلون، تنتهك أعراضهم تسلب أموالهم ويختطفون كانوا يناشدون الجميع: اتقوا الله فينا. فالحمد لله الذي أحل السلام والوئام والمحبة بين الأشقاء، وندعو الله أن يستمر هذا الاتفاق بكل تفاصيله ودقائقه، والتي سيتم متابعتها على أرض الوطن في خلال الأيام القريبة القادمة، وإياكم ـ أيها الإخوة ـ من الشيطان، فقد قال عليه السلام: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، لكنه لم ييأس من التحريش بينهم)) أخرجه مسلم، الشيطان لن يسكت ولن ينام، وجنود الشيطان كثر من الإنس والجان، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ [سورة الناس].
(1/5078)
مع سورة ق (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الموت والحشر
عبد العزيز بن أحمد الغامدي
جدة
جامع الأميرة العنود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قراءة النبي سورة ق على المنبر. 2- إنكار المشركين للبعث ورد الله تعالى عليهم. 3- دعوة إلى النظر في آيات الله الكونية. 4- إهلاك الله تعالى للأمم المكذبة للرسل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على أن هداكم للإسلام وجعلكم من أمة القرآن.
عباد الله، كانت سنة رسول الله كثرةَ وعظِ الناس بهذا القرآن، وكان ربما خطبَ بسورة من القرآن، ومن هذه السور التي خطب بها سورة ق، روى الإمام مسلم عن أم هشام رضي الله عنها قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [سورة ق] إلا من في رسول الله ، كان يقرأ بها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
إخوة الإيمان، ما أجمل أن نحيي هذه السنة، ونعيشَ لحظاتٍ في ظلال هذه السورة نقرؤُها، ونتدبّرُ آياتها ونتأملُ عظاتها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق: 1-5].
يقسم الله تعالى بالقرآن، رفيع القدر والشرف، وسيع المعاني وعظيمها، كثير البركات، الذي قد احتوى من العلوم أعظمها، ومن الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمّها وأحسنها، وهذا كله مثبت لكماله، موجب لاتّباعه وسرعة الانقياد له وشكر الله عليه.
ولكن أكثر الناس لا يقدِّر نعم الله قدرها، فالكفار المكذبون للرسول عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ من جنسهم، يمكنهم التلقّي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه، ينذرهم عقاب الله وما يضرّهم، ويأمرهم بما ينفعهم، فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه. فَقَالَ الْكَافِرُونَ الجاحدون المكذبون: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، يتعجبون حقيقة أو تصنّعًا من بعثة النبيّ بشرًا مثلهم، ويتعجّبون مما أخبرهم به وأنذرهم من البعث بعد الموت للحساب والجزاء. يقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ؟! فاستبعدوا البعث بعد الموت، وأنكروا الحساب والجزاء، ويرون أنه غير ممكن؛ قاسوا قدرة من هو على كل شيء قدير بقدرة العبد الفقير العاجز، وقاسوا الجاهل بمن هو بكل شيء عليم.
ثم قال سبحانه ردًا على تعجبهم، وقد يكون هذا هو جواب القسَم في أول السورة: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ، فالله الذي يعلم ما تنقص الأرض وتأكل وتُفني من أجسادهم مدة مقامهم في برزخهم وعنده سبحانه كتابُه اللوحُ المحفوظُ قد أحصى فيه عددهم وأسماءهم وكلَّ ما يجري عليهم في حياتهم وبعد مماتهم، وهذا استدلال بكمال علمه وعظيم قدرته على إحيائه الموتى.
ثم أخبر سبحانه أن كلامهم وتعجبهم إنما هو عناد وتكذيب للحق والصدق والقرآن والنبوة: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ، فكذبوا القرآن بمجرد تبليغهم به، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مختلط مشتبه ملتبس؛ لا يعرفون حقه من باطله، فلا يثبتون على شيء، فتارة يقولون عن النبي : ساحر، وأخرى يقولون: مجنون، وتارة يقولون: شاعر، وأخرى يقولون: كاهن، وكذلك قولهم في القرآن؛ فقد جعلوه عضين؛ كلٌ قال فيه ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق فإنه في أمر مختلط، لا يُدرى له وجهةٌ ولا قرار، أما من اتبع الحق وصدق به فإنه يثبت أمرُه ويستقيم.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 6-11].
لما ذكر تعالى حالة المكذبين دعاهم أن ينظروا إلى آياته في مخلوقاته كي يعتبروا، فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ أي: أغَفِلوا عن عظيم قدرة الله حين كذّبوا بالبعث، فالله خلق السماء، فلينظروا كَيْفَ بَنَيْنَاهَا على هذه الصفة العجيبة؛ قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مرفوعة بغير عمد، وَزَيَّنَّاهَا بالنجوم والكواكب واللّون الحسن وغير ذلك، وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ : لا ترى فيها عيبًا ولا صدوعًا ولا شقوقًا ولا إخلالاً، قد جعلها الله سقفًا لأهل الأرض، وأودع فيها من مصالحهم ما أودع.
وَلينظروا إلى الأَرْض كَيْفَ مَدَدْنَاهَا بسطناها وفرشناها ووسعناها، حتى أمكن كلُّ من يعيشُ عليها السكون فيها والاستقرار وقضاء مصالحه، وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ، وأرساها بالجبال الثوابت التي رست فيها لتستقر بأهلها، وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل صنف نافع يَسُرُّ الناظرين؛ ذاتِ ألوانٍ مختلفة وأشكالٍ عجيبة وروائح عطرة وثمارٍ ذات مذاق طيِّب، جعلها الله نفعًا لبني آدم ولأكلهم وأكل بهائمهم.
ثم أخبر تعالى أن خَلْقه للسماوات والأرض وما فيهما من الآيات العظيمة تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ، عبرةً لمن ينظرُ فيها، فيتبصرُ من عَمَى الجهل، ويوقنُ بأن القادر على مثل هذه الأمور قادرٌ على البعث، ويتذكر بها ما أخبر الله به وأخبرت به رسله، وليست هذه الذكرى والتبصرة لكل أحد، بل لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ، خاضع لله، مفكِّر في عظيم قدرته، رجّاعٍ مقبل على الله محبة وخوفا ورجاءً، أما المكذب والمعرض فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.
ثم قال سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا أي: نزلنا من السحاب ماء كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم، ثم خص سبحانه بالذكر بعض تلك المنافع فقال: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ يعني: حدائق من بساتين، بها أشجار كثيرة المنافع، مشتملة على صنوف الفواكه، وَحَبَّ الْحَصِيدِ الحبوب التي تحصد من الزرع وتُدَّخر وتكون قوتا للناس، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ طوال الارتفاع، لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ متراكب بعضه فوق بعض، فيخرج الثمر بشتى أنواعه وأحواله.
كل ذلك رِزْقًا لِّلْعِبَادِ ، فما يُخرج الله بالمطر وما هو من آثاره مما هو على وجه الأرض أو تحتَها مما يؤكل أو يشرب أو يدخر هو رزق للناس يقتاتون منه حسب حاجاتهم. وإن ما في ذلك من إحياء الأرض المجدبة بعد موتها دليل على قدرة الله على إحياء الموتى، ولهذا قال سبحانه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ. وما ذكر من هذه المخلوقات دليل على عظيم قدرة الله، وأنه أحكم الحاكمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه هو المستحق وحده للعبادة بخضوعها وذلها وحبها وخوفها ورجائها.
رزقنا الله لذة وشرف العبودية له، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 12-15].
ولما ذكّر الله المكذبين بهذه الآيات في السماء والأرض خوّفهم إن استمرّوا على التكذيب أن يصيبهم ما أصاب من سبقهم من المكذبين، فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: كذبت قبل هؤلاء المشركين من قوم النبيّ أممٌ سابقة، كذّبوا رسلَهم الكرام، كنوحٍ عليه السلام، كذبه قومُه، وأصحابُ الرسّ هم أصحاب البئر، وقيل: هم أصحاب الأخدود، كذبوا نبيَهم وقتلوه في البئر، وثمود كذبوا صالحًا، وعادٌ كذبوا هودًا، وفرعونُ وملؤه كذبوا موسى، وإخوانُ لوط القوم الذين بُعث فيهم كذبوا لوطًا، وأصحاب الأيكة الشجر الملتف كذبوا شعيبًا، وقوم تبّع الحميري باليمن أحد تبابِعة اليمن يعني ملوكها وقد أسلم، ولكن قومه كذّبوا رسولَهم الذي أرسَله الله إليهم ومكثوا على عبادة أوثانهم، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ، فهؤلاء كلهم كفروا بالله وكذبوا رسله، فحق عليهم العذاب، وليس المكذبون لمحمد خيرًا منهم، إن ربك لبلمرصاد.
ثم استدل تعالى بالخلق الأول وهو المنشأ الأول على الخلقِ الآخِر وهو النشأةِ الآخرة، فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم كذلك يعيدهم بعد موتهم، فقال: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: لم نعجز ولم تضعف قدرتنا عن الخلق الأول في الدنيا، وليس هؤلاء المكذبون في شك من ذلك، وإنما هم في لبس وشكّ وحيرة من خلق جديد وهو بعثُ الأموات، مع أنه لا محلّ للبس فيه؛ لأن الإعادةَ أهونُُ من الابتداء، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.
اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم إنا نسألك حسن الختامة، اللهم أعنا على الموت وما بعده، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك...
(1/5079)
مع سورة ق (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الموت والحشر
عبد العزيز بن أحمد الغامدي
جدة
جامع الأميرة العنود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم الله تعالى بالإنسان وحفظه لأعماله. 2- شدة الموت. 3- البعث والنشور. 4- جزاء الكافر يوم القيامة. 5- تبرؤ الشيطان من أتباعه يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
إخوة الإسلام، نواصل الحديث مع سورة ق.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16-18].
يخبر تعالى أنه المتفرّد بخلق الناس، وأنه يعلم أحوال كلِّ واحد منهم وما يُسِرُّه ويوسوس في صدره، وأنه سبحانه أقرب إلى العبد بعلمه وملائكته من حبل الوريد؛ وهو عرق في العنق متصل بالقلب، والمعنى: أنه سبحانه أقرب إلى العبد من حبل وريده، فكيف يخفى عليه شيء مما في قلبه؟! وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه حيث نهاه أو يفقده حيث أمره، ويحذر أن يفعلَ أو يقولَ ما يُكتبُ عنه مما لا يسره يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكَّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عملَه؛ إلزاما للحجة، فقال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ الملكان المترصّدان للعبد أعماله كلها، واحد عَنِ الْيَمِينِ يكتب الحسنات، والآخر عَنِ الشِّمَالِ يكتب السيئات، وكل منهما قَعِيدٌ مترصد مع العبد. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ خير أو شر إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ مُعَدٌّ لمراقبته، حاضر لحاله، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ، قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)).
قال الحسن البصري التابعي الجليل رحمه الله وتلا هذه الآية: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ : "يا ابن آدم، بُسِطت لك صحيفة، ووكِّل بك ملكان كريمان... ـ إلى أن قال: ـ فاعمل ما شئت؛ أقلل أو أكثر؛ حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك، معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]"، ثم يقول رحمه الله: "عدَل واللهِ فيك من جعلك حسيبَ نفسك".
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 19-22].
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ، جاءت هذا الغافلَ المكذّبَ بآيات الله شدةُ الموت بالحق الذي لا مردّ له ولا مناص، فيتضحُ له الحقُ، ويظهرُ له صدقُ ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي: ذلك الموت الذي كنت تروغ عنه وتفرّ منه. وتجيء سكرة الموت للمؤمِن كما تأتي لهذا الغافل المكذب، فالكلّ يجمع بينهما الفرار من الموت وملاقاته لهم وشدَّته بهم، فشدة الموت تأتي الجميع، ولذا فهي لا تدلّ على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إمّا زيادة في حسناته وإمّا تكفير لسيئاته، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول عن رسول الله لما كان يحتضر: كانت بين يديه علبة فيها ماء، فجعل يُدخل يدَه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) ، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) ، حتى قبض ومالت يده.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، ينفخ إسرافيل عليه السلام في القرن النفخةَ الثانية؛ نفخةَ البعث، ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، في اليوم الذي يلحقُ الظالمين ما أوعَدهم الله به من العذاب، ويلحقُ المؤمنين ما وعدهم الله به من الثواب.
روى الإمام مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)) ، قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض)).
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ، مَلَكٌ يسوقها إلى أمر الله، فلا يمكنها أن تتأخر عن موقف المحشر، ومَلَكٌ يشهد لها أو عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر، وهذا يدلّ على عناية الله بالعباد وحفظه لأعمالهم ومجازاته لهم بالعدل، وهذا الأمر مما يجب تذكُّره وعدمُ نسيانه، ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ، يقال هذا الكلام يوم القيامة للمعرضِ المكذبِ توبيخًا ولومًا وتعنيفًا، فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ، فيُرفع عنه الحجابُ الذي كان بينه وبين أمور الآخرة، فيُكشَف الحجاب الذي غطّى قلبه، فكثر تفريطه، واستمرّ إعراضه، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ قويّ نافذ، يبصر به ما يزعجه ويروعه من أنواع العذاب والنكال، ثم بعد ذلك يحشر أعمى. وفي هذا تذكير وتخويف من الله للعباد بأنّ من لم تزل غفلته في الدنيا فإن زوالها يوم القيامة لا ينفع؛ إذ لا يمكنه أن يتدارك أمرَه، ولا أن يستدرك ما فاتَه.
اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة، اللهم أعنا على سكرات الموت، اللهم ارزقنا الأمن يوم الفزع، اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.
وبعد: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 23-29].
يقول تعالى: وَقَالَ قَرِينُهُ أي: من الملائكة الذين وكلهم الله على حفظه وحفظ أعماله، فيُحضرُه يومَ القيامة ويُحضرُ ديوانَ أعمالَه ويقول: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ من ديوان عمله؛ حَفِظْتُه وأحضرْتُه.
ويخاطب الله الملكَين القرينين السائقَ والشهيدَ، بعد أن جاءا بالعبدِ وديوانِه، وبعد أن يفصلَ الله بين الخلائق، فيأمرُهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ كافر، كثير الجحود، معاند لآيات الله، كثير المعاصي، مجترئ على المحارم والمآثم، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ، يمنع كلَّ حقٍ وَجَبَ في ماله لله أو لآدمي، فهو مناعٌ لأداء ما عليه من حقوق، ويدخل في ذلك أيضًا كلُّ محاربٍ مناعٍ لدعوة التوحيد، مُعْتَدٍ ظالمٍ عبادَ الله، متعدٍ حدودَ الله مُرِيبٍ شاكٍّ في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان؛ وإنما وصْفُه الكفرُ والعدوان والشك والريب والشح واتخاذ الآلهة من دون الرحمن، ولهذا قال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ يعني: فعبدَه، ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فيأمرُ اللهُ الملكين القرينين: فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ في عذاب جهنم الشنيع.
قَالَ قَرِينُهُ من الجن وهو الشيطان الذي كان يدعوه إلى الغواية في الدنيا، يقول متبرئًا منه حاملاً عليه إثمَه: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ، ينكر أن يكون أغواه، بحجّة أنه لم يكن له عليه سلطان ولا حجةٌ ولا برهان، ويجعل سببَ غوايتِه وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، في طريق بعيد عن سبيل الهدى، فالقرينُ الشيطان يقول: إن هذا العبد كان في ضلال وبُعد عن الحقّ باختياره، فدُعي للغواية فأجاب، ولو كان من عباد الله المخلَصين لم يُقدر عليه، كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22]، وإنما أخبرَ الله عن قول قرين الكافر له يوم القيامة إعلاما منه عباده أنهم يوم القيامة يتبرأ بعضُهم من بعض.
وقال تعالى مجيبًا لاختصام الغاوين وقرنائهم من الجن ناهيا لهم عن الاختصام في موقف الحساب: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي: لا تختصموا لديَّ اليوم في موقف الجزاء والحساب؛ إذ لا فائدة من ذلك، والحال أني قد قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: وقد قَدَّمْتُ إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني، فقد جاءتكم رسلي بالآيات البينات والحجج الواضحات والبراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتُكم، وقدِمتم عليَّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ما يُغيَّر؛ فلقد قضى الله بالعذاب لهم، وقضى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13]، وقضى سبحانه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، ولا يمكن أن يُخلِفَ الله ما قاله وأخبر به، لأنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أصدق منه حديثًا.
وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ أي: لا أعذّبهم ظلما بغير جرم اجترموه ولا ذنب أذنبوه، بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا يُنقَص من حسناتهم، فلا يعذبُ الله أحدًا بذنب أحد، ولا يعذب أحدًا إلا بذنبه بعد إقامة الحجة عليه.
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، اللهم أيقظنا لتدارك ما بقي من الأعمار، اللهم إنا نسألك أن تعيننا على الموت وما بعده، اللهم ثبتنا عند السؤال، اللهم اجعل قبورنا من رياض الجنة، ولا تجعلها من حفر النار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل...
(1/5080)
مع سورة ق (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الجنة والنار, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن أحمد الغامدي
جدة
جامع الأميرة العنود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلب النار للمزيد. 2- جزاء المؤمن يوم القيامة. 3- إهلاك الله تعالى للأمم الطاغية. 4- الأمر بالصبر وذكر الله تعالى وعبادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، كلنا راحلون من هذه الدنيا، فلنتزود لهذا الرحيل، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
إخوة الإيمان، نختم اليوم الحديث في سورة ق.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 30-35].
هذه الآيات تخويفٌ من الله لعباده، وذكرى يذكِّر بها النبيُّ قومَه وأمتَه: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ ، وذلك من كثرة ما أُلقي فيها، فتنطق وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي: لا تزال تطلب الزيادة من المجرمين العاصين؛ من الجن والإنس، غضبًا لربها، وغيظًا على الكافرين، وقد وعدها الله مَلأها، كما قال تعالى: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، قال : ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثِرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقَطهم؟! قال الله عز وجل للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكلِّ واحدة منكما ملؤُها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضعَ رجلَه فيها؛ فتقول: قطٍ قطٍ، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإنّ الله عز وجل ينشئ لها خلقا آخر)) يعني لتمتلئ.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي: قُرّبت الجنة للمتقين بحيث يشاهدونها في الموقف زيادةً في المسرة لهم، وينظرون ما فيها من النعيم المقيم والحبرة والسرور، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإنما أزلفت وقربت لأجل المتّقين لربهم، التاركين للشرك صغيرِه وكبيره، الممتثلين لأوامر ربهم، المنقادين له، ويقال لهم على وجه التهنئة: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي: هذه الجنة وما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين هي التي وعد الله كل أوَّابٍ رجَّاع إلى الله، تائب مما زلّ فيه من المعاصي، منيب إلى الله في جميع الأوقات، بالفرائض والنوافل والذكر والدعاء والاستغفار والتوكل، حبًا لله سبحانه وخوفًا من عذابه، ورجاءً في رحمته وكرمه، حَفِيظٍ حافظٍ لحدود الله ومحافظٍ على فرائضه وطاعته.
والأوّاب الحفيظ هو مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، خاف الله في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة، رجاء رحمته وخوفَ عقابه؛ فلازم خشية الله في الغيب والشهادة.
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بقلبٍ مخلصٍ منيبٍ إلى مولاه، راجعٍ منجذبٍ إلى مراضيه، خاف الله في الدنيا ولقيه يوم القيامة من المنيبين التائبين، ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ أي: دخولاً مقرونًا بالسلامة من العذاب والآفات والشرور؛ مأمونًا فيه من جميع المكاره، وبسلامة من زوال النعم، فلا انقطاع لنعيمهم، ولا كدر ولا تنغيص، وبسلام من الله وملائكته عليهم، ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ الذي لا يزولون عنه، ولا يزول عنهم.
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ أي: لهم في الجنة كلُّ ما يريدون، مما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم، من فنون النعم وأنواع الخير، ولهم فوق ذلك مَزِيدٌ ثوابٌ يمدهم به الرحمن الرحيم، من النِعَم التي لم تخطر لهم على بال، ولا مرَّت لهم في خيال، وأعظم ذلك وأجله وأفضله النظرُ إلى وجه الله الكريم، والتمتعُ بسماع كلامه، والتنعمُ بقربه، ورضوانُه الدائم، قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يقول الله عز وجل: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلْنا الجنةَ وتنجِّنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب؛ فما أُعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم)) ، ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ رواه مسلم.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37].
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ، يخبر تعالى أنه أهلك أمما كثيرة ممن كذبوا رسلَه، هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا ، هم أشدُّ قوةً وسطوةً وآثارًا في الأرض ممن كذبوا محمدًا ، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ، سارَوا وتقلبوا فيها وطافوا بقاعَها، وبنَوا الحصونَ المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسَوا الأشجار، وأجرَوا الأنهار، وزرعوا وعمَّروا ودمَّروا، فلما كذَّبوا رسلَ الله وجحدوا آياتِ الله أخذهم الله بالعقاب الأليم والعذاب الشديد، فـ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ هل لهم من مهرب يهربون إليه؛ يتخلصون به من العذاب؟! أي: ليس لهم مفر ولا منقذ من عذاب الله، حين نزل بهم، فلم تغن عنهم قوتهم ولا أموالهم ولا أولادهم.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ، إن ما ذكر في هذه السورة ومن ذلك ما ذُكر من إهلاك القرون الماضية وقَصصهم لعبرة وموعظة، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قلب عظيم حي ذكي زكي يعقل به، فصاحب هذا القلب إذا ورد عليه شيءٌ من آيات الله تذكر بها وانتفع وارتفع، وكذلك ينتفع بالذكرى من أَلْقَى السَّمْعَ : أصغى سمعه إلى آيات الله ووحيه، واستمعها استماعًا يسترشد به، وقلبه شَهِيدٌ فهو حاضرُ القلب والفهم غيرُ غافل.
فالقرآن للمؤمنين ذكرى وموعظةٌ، وهدى وشفاء، أما المعرض الذي لم يُلْقِ سمعَه إلى الآيات والوحي فهذا لا تفيده شيئًا؛ لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمةُ الله هدايةَ من هذه صفتُه.
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المتقين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 38-40].
هذه الآيات إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة ومشيئته النافذة التي أوجد بها أعظم المخلوقات السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، قالت اليهود: واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله؛ فقال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ أي: من غير تعب ولا نصب. فالذي أوجدها على كِبَرِها وعظمتها قادر على إحياء الموتى من باب أولى وأحرى.
ثم أمر الله نبيه بالصبر: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ، بعني: من ذمٍ وتكذيبٍ، فإن الله لهم بالمرصاد، وأمر الله نبيه أن يشتغل عنهم وعن مقالاتهم الفاسدة بطاعته فقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: بالصلاة والتسبيح وغيرهما، فتنزيه الله بالذكر تسبيح والقيام بالصلاة يُسمى تسبيحا؛ وذلك لما فيها من تسبيح، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ، هذا التسبيح بحمد الله يكون في أول النهار وآخره، وفي أوقات الليل، وأدبار الصلوات، فإن ذكر الله تعالى مع كونه عبادةً لله فهو مسلٍ للنفس، مؤنسٍ لها، مهونٍ للمصائب، مقوٍّ للصبر. وقيل أيضًا: المقصود: وصلِّ لربك حامدًا له صلاة الصبح قبل طلوع الشمس؛ وصلاة العصر قبل الغروب, وصلِّ من الليل , وسبِّحْ بحمد ربك عقب الصلوات، وصل مع الفرائضِ النوافلَ.
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 41-45].
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ حين ينفخُ في الصورِ إسرافيلُ النفخةَ الثانية؛ صيحةَ البعث للقيامة، بعدها ينادي المنادي جبريل أو إسرافيل عليهما السلام: هَلُموا للحساب، ينادي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ من الخلق؛ فيصل النداء إلى كل فرد من أفراد المحشر. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ ، كل الخلائق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة، يسمعونها بالحق الذي لا شك فيه ولا امتراء.
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور، للاجتماع للحساب، بأمر وقدرة رب العالمين وحده، ولهذا قال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي: نحيي الموتى ونميت الأحياء، وإلينا مصير جميعهم يوم القيامة للحساب والجزاء؛ فنجازي كل عامل بعمله، يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ تتصدعُ الأرضُ عن الموتى المقبورين بها؛ فيَخرجون ويُساقُون إلى المحشر، سِرَاعًا يسرعون لإجابة المنادي لهم إلى موقف القيامة، ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ بعث وجمع هيِّنٌ يسيرٌ سهلٌ على الله.
ثم ختم تعالى هذه السورة: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، نحن ـ يا محمد ـ أعلم بما يقول هؤلاء المشركون بالله؛ من فريتهم على الله، وتكذيبهم بآياته ورسوله، وإنكارِهم قدرة الله على البعث بعد الموت، وكلِّ أقوالهم المحزنةِ للنبي ، وإذا كان الله أعلم بذلك فهو المعتني بنبيه، والناصرُ له على أعدائه، وهذا تطمين من الله لنفس النبي ، فلم يبق له إلا انتظارُ وعدِ الله والتأسي بأولي العزم من رسل الله، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ مسلَّط عليهم فتقهرهم وتجبرهم على الإيمان؛ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ؛ ولهذا ختم سبحانه هذه الآيةَ والسورةَ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وهذا أمر لنبيه وأتباعه بالتذكير بهذا القرآن، والحرص في ذلك التذكير على من ينتفعُ به؛ ممن يخاف الوعيد الذي أوعده الله من عصاه وخالف أمره، أما من عداهم فلا يُشتغل بهم عن غيرهم، وإنما يُذكَّرون إقامة للحجة عليه، لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَّلاَ نَذِيرٍ.
ثم بعد أن قويت دولة الإسلام في المدينة أمر الله نبيه مع الدعوة والصبر بالجهاد والقتال في سبيله ضد المعاندين المعارضين لدعوة التوحيد.
اللهم اجعلنا من أهل خشيتك الذين إذا ذُكّروا تذكروا، اللهم لا تجعلنا من الأشقياء الذين لا ينتفعون بالذكرى، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل...
(1/5081)
النهاية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
24/8/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بتقلب الناس وتبدل الأحوال. 2- الإنسان بين لحظتين: لحظة الحياة السعيدة ولحظة مفاجأة الموت. 3- حقيقة الموت التي حيرت الألباب. 4- حال الإنسان أثناء الموت ولحظة الوداع. 5- علامات حسن الخاتمة. 6- اللحظات الأخيرة من حياة السلف. 7- علامات حسن الخاتمة. 8- أسباب سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله بإذن الله كفاية كلِّ هم وزادك من كلِّ غم، ومن اتقى الله جعل الله له من كل همٍ فرجًا ومن كل ضيقٍ مخرجًا، وإن سعادة المؤمن ورِفعته تبدو في تقواه لربه، فليتق الله امرؤٌ حيثما كان، وليُتْبِع السيئةَ الحسنة، وليُخالِق الناس بخُلُق حسن، ذلك ذكرى للذاكرين والعاقبة للمتقين.
أيها الناس، في الحياة ومواقفها عبر لمن اعتبر، وفي تقلُّب الناس وتبدُّل أحوالهم ذكرى لمن تذكر، يسير الناس كل الناس في هذه الدنيا فرحين جذلين، يتسابقون في دنياهم ويلهثون وراء أمانيهم كل بحسبه؛ الصغير والكبير، الرجال والنساء، ترمقهم من حولك يَجْرُون ويلهثون، كلٌ يسعى لشأنه، والمعظم منهم قد غَرِقَ في غيه ولهوه وشهوته وأمانيه، لكن ـ يا رعاك الله ـ أعطني قلبك وافتح لي سويداء فؤادك، ودعني وإياك نتأمل في هذا المشهد العظيم وذلك المنظر الرهيب، أما سمعت عنه؟! أما تخيلته يوما ما؟! إنه مشهدُ جدير بنا جميعًا أن نتذكَّره وأن نتأمل فيه، بل جدير بنا أن لا يفارقنا.
بينما أنت بين أهلك وأطفالك تغمرك السعادة ويغشاك السرور، تمازج هذا وتلاطف ذاك، بهيَّ الطلعة، فصيح اللسان، قائم الأركان، إذ بقدميك تعجزان عن حملك، لتسقط شاحبَ الوجه شاخصَ البصر، قد أُعجم لسانك، وعُطِّلت أركانك، والأهل حولك قد تحلقوا، وبأبصارهم إليك نظروا، وبِكَ صرخوا، ينادونك فهل تُجيب؟! بماذا تحس؟ بماذا تشعر؟ وأنت تنظر إليهم بعينيين ذابلتين، تريد الحديث فما تستطيع، ترفع يديك لتضمهم إليك فما تَقْدِر، أُمُّك قد غصت بدموعها، وأبناؤك قد ارتموا على صدرك الحنون، وزوجتك قد غشَاها الذُّهُول. فليت شعري، أي حال هي حالك؟! ووالله ـ يا عبد الله ـ ما حالي وحالُك إلا كما قال أنس بن مالك : (ألا أُحدِّثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن، أول يوم يجيئك البشير من الله إما برضاه وأما بسخطه، واليوم الثاني يوم تعرض فيه على ربك آخِذًا كتابك إما بيمينك وإما بشمالك، وأول ليلةٍ تدخل فيها القبر، والليلة الثانية صبيحتها يوم القيامة).
نعم يا عباد الله، ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في مخيلته، ليلة في بيتك مع أهلك وأبنائك فرحا سعيدًا مسرورًا، تضاحك أولادك ويضاحكونك، والليلة التي تليها مباشرة أتاه ملك الموت فنقله بأمر ربه من الدُور إلى القُبور، ومن السَّعة إلى الضيق، ومن الفُرُش الوثيرة والقصورِ المثيرة إلى ظلمة مخيفةٍ ووحشةٍ رهيبة وسفر بعيد وهول مطلعٍ شديد، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 19-22].
يا عبد الله، إنها حقيقة الموت وما بعد الموت، الموت الذي سيذوقه كل واحدٍ منا، فقيرًا كان أو غنيًا، صحيحًا كان أو سقيمًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، رئيسًا أو مرؤوسا، ولن ينجو من الموت أحد ولو فرّ إلى مكان بعيد أو برج عالٍ أو وادٍ سحيق، قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78].
الموت ـ يا عبد الله ـ على وضوح شأنه وظهور آثاره سرٌ من الأسرار التي حيّرت الألباب وأذهلت العقول، الموت حقيقة ما أقربها، وما أسرع مجيئها، فما أقرب الموت منّا، كلّ يوم يدنو منا ونحن ندنو منه، فما الأعمار في الحقيقة إلا أزهار تنفتح ثم تذبل، أو كمصباح ينير ثم ينطفئ، وليبحث أرباب المطامع وطلاب الدنيا؛ ليبحثوا فوق رمال تلك القبور المبعثرة، وبين أحجارها المتهدّمة المتساقطة، ليعلموا أن طرق الشهوات والملذات المحرمة وإن كانت تلوح لناظريها بالأزهار فإن نهايتها تلك القبور المظلمة والحفر الموحشة، فطوبى لمن أتاه بريد الموت بالإشخاص قبل أن يفتح ناظريه على هؤلاء الأشخاص.
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة الخلد إن عملت بما يرضي الإله وإن قصرت فالنار
أول ليلة في القبر ـ يا عبد الله ـ شكا منها العلماء، وبكى من هولها الأولياء، وصنفت فيها المصنفات. حين حضرت محمد بن سيرين العالم العابد حين حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "أبكي لتفريطي وقلة عملي للجنة العالية وما يُنجِّيني من النار الحامية".
يا عباد الله، عند الموتِ وشدته والقبرِ وظلمته وفي القيامة وأهوالها يكون الناس فريقين: فريق يُثبَّتُ عند المصائب ويُؤَمَّن من المخاوف ويُبشَّر بالجنة، وآخر يكابد غاية الخزي والإذلال والشقاء والهوان. عند الموت ـ يا عباد الله ـ تكون حال الإنسان إحدى حالتين: إما أن يكون من أهل الخير والصلاح، فهذا ميتته ميتة طيبة ويُبشَّر بالعفو والغفران وربٍ راضٍ غير غضبان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وأما إن كان العبد من أهل الكفر والضلال والفجور والفساد فهذا يُبشَّر بالويل والعذاب: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93].
وإن مصير المرء بعد موته ـ يا عباد الله ـ وإن كان قد استأثر الله بعلمه والكلام عنه من الرجم بالغيب؛ ولكن لمَّا كانت خاتمة المرء من القرائن لمصير الآخرة فقد جاء التأكيد عليها والتحذير من الغفلة عنها، قال رسول الله كما في البخاري: ((إنما الأعمال بالخواتيم)).
وإن حسن الخاتمة ـ يا عبد الله ـ أن يتوفّاك الله على الإسلام، وأن يوفِق الله العبد للتوبة من الذنوب والمعاصي والإقبال على الطاعات قبل حلول الأجل وتغيُّر الحال، وإن آخر ساعةٍ في حياة الإنسان هي الملخّص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيمًا على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرًا وتسبيحًا وتهليلاً وعبادة وشهادة.
فهلموا ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار عند قوم عاشوا على طاعة الله، وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح.
وإن من أعظم علامات حسن الخاتمة ما يُبشَّر به العبد عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلاً منه تعالى كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]. ومن علامات حسن الخاتمة أيضًا الموت على عمل صالح، وقد ذكر أهل السير أن أبا مريم الغسَّاني رحمه الله كان صائما يومًا من الأيام فنزل به الموت واشتد به الكرب، فقال له من حوله: لو جرعت جرعة من ماء، فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن؟ قالوا: نعم، ففطّروه وجعلوا في فمه قطرة ماءٍ ثم مات بعدها.
ولما احتُضِر عمر بن عبد العزيز قال لمن حوله: اخرُجوا عني فلا يبقى أحد، فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]، ثم قُبض رحمه الله.
ولما حضرت آدم بن إياس الوفاة خَتَم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما انتهى قال: اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أُؤمِّلك لهذا اليوم وأَرجوك، ثم قال: لا إله إلا الله، وقضى.
وهذا أبو الحسن النسّاج لما حضره الموت غُشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلّى ثم تمّدد وغمض عينيه وتشهد ومات.
وذكر بعض الفضلاء أن امرأة عجوزًا كانت من أهل الصلاة والطاعة، وفي يوم وهي في مُصلاها ساجدة أرادت أن ترفع من سجودها فلم تستطع، صاحت بابنها، أجلسها كهيئة السجود، حملها إلى المستشفى، ولكن لا فائدة، فقد تجمدت أعضاؤها على هذه الحال، قالت: يا بني، خذني إلى مصلاي أتعبد وأصلي إلى أن يفعل الله ما يشاء، ولم تزل في صلاةٍ وهي على هيئة السجود لا تقوى على الحِراك، فقبض الله روحها وهي ساجدة، غسّلوها وهي ساجدة، كفّنوها وهي ساجدة، أُدخلت إلى قبرها وهي ساجدة، وتُبعث يوم القيامة بإذن الله وهي ساجدة.
وإن من أعظم علامات حسن الخاتمة الموت في سبيل الله، أن يموت العبد وقد قدّم نفسه وأَرْخص روحه وباع مُهجته لله تعالى، مجاهدًا أعداء الدين، ومدافعًا عن عباد الله المؤمنين. ذكر الذهبي في السير عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: بعثتي النبي يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي: ((أنّى رأيتَه فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله : كيف تجدك؟)) فطفت بين القتلى فأصبته وهو في آخر رَمَقٍ وبه سبعون ضربة، فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: إني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عُذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عينٌ تطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه وأرضاه.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بما فيها من الهدى والنور، قد قلت ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله فاستغفروه، إن الله غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إنّ فئةً من الناس لا يُحبون أو لا يُحبّذون الحديث عن الموت وساعة الاحتضار؛ لأن ذلك على حدّ زعمهم يؤلمهم ويُشعرهم باليأس، ويقطع حبل أمَلِهم ويؤرق حياتهم، فهم يُريدون العيش دون سماع ما ينغِّصُ حياتهم ويفزع خواطرهم، وأغلب هؤلاء ممن قصروا في حق ربهم وخانوا أنفسهم، وإنّ الحديث عن الموت كما أنه شرع ودين فهو سجيّه العقلاء والراشدين.
أيها المسلمون، إنّ آخر ساعةٍ في حياة الإنسان كما قلنا هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، وهي ترجمة لما كان يفعله المرء أثناء عمره من الخير والشر، والقلب أثناء نزول الموت بالمرء لا يظهر منه إلا ما كان بداخله وما استهواه صاحبه، فانظر ـ يا رعاك الله ـ ما في قلبك وما تحب في الدنيا؛ فهو خارجٌ منه أثناء النهاية شاء ذلك صاحبه أم أبى.
ولكي يدرك العبد المؤمن حسن الخاتمة فيجب له أن يلزم طاعة الله وتقواه، والحذر من ارتكاب المحرمات ومعاقرة المنكرات فقد يموت عليها. وليحذر كل الحذر من الخاتمة السيئة، وهي أن يتوفّاه الله على غير الإسلام، أو أن تكون وفاةُ الإنسان وهو مُعرضٌ عن ربّه جلّ وعلا مقيم على ما يسخطه مضيع لما أوجبه، أو أن يتوفاه الله وهو مُعاقر لمنكر، ولا ريب أن تلك نهاية سيئة، طالما خافها المتقون وعباد الله المؤمنون.
فهذا مالك بن دينار رحمه الله: كان يقوم طوال ليلته قابضًا على لحيته ويقول: "يا رب، قد علمْت ساكن الجنة وعلمْت ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟"، ويبكي بعضهم عند الموت، فسُئل عن ذلك فقال: "إني سمعت الله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47]، فأنا أنتظر ما ترون، ووالله ما أدري ما يبدو لي".
وإن من أسباب سوء الخاتمة ـ يا عباد الله ـ أن يُصّر العبد على المعاصي ويألفها؛ فإن الإنسان إذا ألِف شيئًا مدة حياته وأحبه فعلِق قلبه به فالغالب أنه يموت عليه إن لم يتب من ذلك.
في إحدى الطرق كان هناك ثلاثة من الشباب يستقلون سيارتهم بسرعة كالبرق، والموسيقى تصدح بصوت مرتفع، وهم فرحون بذلك، كحال كثير من شبابنا إلا من رحم الله، كان من أبعد ما يفكرون فيه أن يفارقوا هذه الدنيا، كانت الآمال تطير بهم وهم يتابعون تلك المزامير الشيطانية، وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، انقلبت السيارة عدةَ مرات، وصلت سيارة الإسعاف، حملت المصابين، أحدهم كان مصابًا إصابات بليغة، جلس صديقاه بجانبه، كان يتنفس بصعوبة والدم قد غطى جسده حتى غير ملامحه، حينئذ علم الضابط أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، عرف اسمه من صاحبيه قال له: يا فلان قل: لا إله إلا الله، يا فلان قل: لا إله إلا الله، فيقول: هو في سقر، فيقول: يا فلان قل: لا إله إلا الله، فيقول: هو في سقر، ثم سقط رأسه ولفظ أنفاسه ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكم سمعنا وسمعتم من القصص في هذا كثيرًا، وقد ذكر ابن القيم في كتابه القيم الداء والدواء شيئًا من ذلك فليراجع فإنه مفيد.
عباد الله، ليحذر العبد كل الحذر من معصية الله أن تخونه عند موته، يقول ابن كثير رحمه الله: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت". ويقول ابن القيم نقلاً عن الإشبيلي رحمه الله: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلُُح باطنه؛ إنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله".
فالوصية المبذولة للنفس ولكَ ـ أيها الأخ المبارك ـ الاستعداد للموت واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب يُنتظر، وما يدري الإنسان لعلّه لم يبق من عمره إلا اليسير، وهو مقبلٌ على دنياه، ومعرضٌ عن آخرته.
يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا"؛ لأن أوقاته بالتعبد معمورة وعن الشر يداه مقصورة.
والاستعداد للموت ليس بالأماني الباطلة والألفاظ المعسولة، بل هو بهجر المنكرات والإنابة إلى رب الأرض والسموات وإزالة الشحناء والبغضاء والعداوة من القلوب وبر الوالدين وصلة الأرحام؛ ولكن ـ يا عباد الله ـ متى يستعدُّ للموت من تظلّله سحائب الهون ويسير في أودية الغفلة؟! متى يستعدُّ للموت من لا يبالي بأمر الله في حلالٍ أو حرام؟! متى يستعدُّ للموت من هجر القرآن ولا يعرف صلاة الفجر مع الجماعة؟! متى يستعدُّ للموت من أكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وارتكب الزنا؟! كيف يكون مستعدًا للموت من لوّث لسانه بالغيبة والنميمة وامتلأ قلبه بالحقد والحسد وضيّع أوقات عمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم؟!
فيا أيها المذنب ـ وكلنا كذلك ـ عُد إلى ربك وجدّد التوبة قبل فوات الأوان ولات ساعة مندم.
اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5082)
مع الصدقة وأهميتها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصدقة. 2- فضل الصدقة وفوائدها. 3- أفضل الصدقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، سنقف وإياكم مع الصدقة وأهميتها في الدنيا والآخرة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الصدقة باب للرزق فلا تغلقوه، وطريق للخير فلا تنكبوه، اطلبوا الرزق الواسع بها، فبها يبارك الله لك في رزقك القليل، ولا يفتح عليك أبوابًا تضطر فيها إلى الدَيْن والسؤال بسبب مرض أو مصيبة، والرسول الكريم يوجهنا: ((داووا مرضاكم بالصدقة)). ومن هنا جاء توجيه علي : (الصدقة دواء منجح)، فبها يصرف الله عنك البلاء، ويفتح عليك أبواب الخير والسعادة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! فأنت بصدقتك أدخلت السرور والفرح على أهل بيت ضاقت بهم السبل واشتد عليهم الكرب، فجاءت صدقتك نورًا وأملاً يبدد ظلامهم الدامس ويأسهم القاتل، فالله سبحانه حقيق أن يبدد من حولك الظلمات، ويدخل على قلبك السعادة والأمل. فمن يُعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد المبسوطة، ويدك بالتأكيد هي اليد القصيرة، ويد مولاك سبحانه هي المبسوطة العظيمة.
استنزلوا الرزق بالصدقة، فقد فرض الله الزكاة تسبيبًا للرزق، فلا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنْعَيْن أشدّ؟! فإنّ لله في كل نعمة حقًا، فمن أداه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.
الزكاة تحصين، والصدقة حفظ، والعطاء زيادة، والبذل سيادة. سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء. استنزلوا الرزق بالصدقة، والمعنى: إذا افتقرتم وأعسرتم فتصدقوا بالقليل الذي تملكون، فإن الله يعطف الرزق عليكم بالصدقة، فكأنكم عاملتم الله بالتجارة، وإنها لتجارة رابحة، وها هنا أسرار لا تعلم.
فأين المتاجرون بالصدقات؟! أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟! أين المتاجرون بدفع الزّكوات؟! أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟! وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم؟! مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].
فاستنزلوا الرزق بالصدقة، فقهٌ ينبغي له أن يحيَا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوّج عرش قلوبنا، حتى نتخلّص من شحّ نفوسنا وسوء ظننا. قال الله تعالى آمرًا نبيه: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، ويقول جل وعلا: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم [البقرة: 254]. وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]، وقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16].
ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين.
عباد الله، إن للصدقة فضائل وفوائد:
أولاً: أنها تطفئ غضبَ الله سبحانه وتعالى، كما في قوله : ((إن صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى)) صححه الألباني في صحيح الترغيب.
ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة وتذهب نارها، كما في قوله : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار)) صححه الألباني في صحيح الترغيب.
ثالثًا: أنها وقاية من النار، كما في قوله : ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين.
خامسًا: أن في الصدقة دواء للأمراض البدنية، كما في قوله : ((داووا مرضاكم بالصدقة)). يقول ابن شقيق: سمعت ابن المبارك وسأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجةٍ إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.
سادسًا: إن فيها دواء للأمراض القلبية، كما في قوله لمن شكا إليه قسوة قلبه: ((إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم)) رواه أحمد.
سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء، كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل التي أخبرنا بها رسول الله : ((وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم)) وهو في صحيح الجامع. فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه.
ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملك كلّ يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجاه في الصحيحين.
تاسعًا: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله، كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم.
عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به، كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة: 272]. ولما سأل النبيّ عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها: ((ما بقى منها؟)) قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه مسلم.
الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره، كما في قوله عز وجل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18]، وقوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
الثاني عشر: أن صاحبها يدعى من باب خاصّ من أبواب الجنة، يقال له: باب الصدقة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان)) ، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) أخرجاه في الصحيحين.
الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد أوجب ذلك لصاحبه الجنة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم.
الرابع عشر: أن فيها انشراح الصدر وراحة القلب وطمأنينته، فإن النبي ضرب مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا اتسعت أو فرت على جلده حتى يخفى أثرها، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع. فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلما تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
الخامس عشر: أنَّ النبَّي جعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به، وذلك في قوله: ((لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار)). فكيف إذا وفق الله عبده إلى الجمع بين ذلك كله؟! نسأل الله الكريم من فضله.
السادس عشر: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب والغفلة، فقد كان النَّبي يوصي التّجار بقوله: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع.
أسأل الله أن يقوي إيماننا، وأن يرفع درجاتنا.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عباد الله، أيها المسلمون، ما هي أفضل الصدقات؟
أولاً: الصدقة الخفية؛ لأنَّها أقرب إلى الإخلاص من المعلَنة، وفي ذلك يقول جل وعلا: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ [البقرة: 271]. قال ابن القيم في طريق الهجرتين: "فأخبر أنَّ إعطاءها للفقير في خفية خيرٌ للمنفق من إظهارها وإعلانها، وتأمَّل تقييده تعالى الإخفاء بإتيان الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خيرٌ لكم، فإنَّ من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيشٍ وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك، وأمَّا إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد والستر عليه وعدم تخجيله بين النَّاس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنَّه لا شيء له، فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدرٌ زائدٌ من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبه المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرًا من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صدقة السّر، وأثنى على فاعلها، وأخبر أنَّه أحد السبعة الذين هم في ظلِّ عرش الرحمن يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنَّه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته".
ثانيًا: الصدقةُ في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال المرض والاحتضار، كما في قوله : ((أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا)) أخرجاه في الصحيحين.
ثالثا: بذل الإنسان ما يستطيعه ويطيقه مع القلة والحاجة؛ لقوله : ((أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول)) رواه أبو داود، وقال : ((سبق درهم مائة ألف درهم)) ، قالوا: وكيف؟! قال: ((كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها)) رواه النسائي وهو في صحيح الجامع.
رابعا: الإنفاق على الأولاد كما في قوله : ((الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة)) أخرجاه في الصحيحين، وقوله : ((أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم.
خامسا: الصدقة على القريب، كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ البِر حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنَّ الله يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث شئت، فقال رسول الله: ((بخ بخ، مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، إني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. أخرجاه في الصحيحين.
وقال : ((الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان؛ صدقة وصلة)) رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقال : ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو في صحيح الجامع. والرحم الكاشح هو القريب الذي يضمر العداوة ويخفيها.
سادسًا: الصَّدقة على الجار؛ فقد أوصى به الله سبحانه وتعالى بقوله: وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ [النساء: 36]، وأوصى النبي أبا ذر بقوله: ((وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، واغرف لجيرانك منها)) رواه مسلم.
سابعًا: النفقة في الجهاد في سبيل الله، سواء كان جهادًا للكفار أو المنافقين، فإنه من أعظم ما بُذلت فيه الأموال؛ فإن الله أمر بذلك في غير ما موضع من كتابه، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في أكثر الآيات، ومن ذلك قوله سبحانه: انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَموَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]، وقال سبحانه مبينًا صفات المؤمنين الكُمَّل الذين وصفهم بالصدق: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَم يَرتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، وقال : ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا)) أخرجاه في الصحيحين.
ثامنًا: الصدقة الجارية؛ وهي ما يبقى بعد موت العبد ويستمر أجره عليه، لقوله : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وبطاعتك عن معصيتك، اللهم قوِّ إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا يا رب العالمين.
هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5083)
وقفات مع عباد الرحمن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عباد الرحمن. 2- صفات عباد الرحمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله، يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 63-66].
هذه لوحة قرآنية رسمت فيها صفات عباد الرحمن، وضّح الله فيها معالمهم وصفاتهم، وجعلهم أنموذجًا يقتدَى بهم ويتأسّى بهم. وعباد الرحمن هم المنسوبون إلى الله وحده، فكما أن هناك عبادًا للشيطان وللطاغوت وللشهوات، فإن هناك عبادًا لله، وكما أن هناك عبادًا للدنيا والنساء، فإن هناك عبيدًا لله وحده.
هؤلاء العباد الذين يئس الشيطان من أن يغويَهم أو يجد منفذًا للسيطرة عليهم، فقد أقسم كما قال جل وعلا: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42].
عباد الرحمن نسبهم الله إلى ذاته: عباد الرحمن، إنه الرحمن الذي علم أنهم أهل لرحمته، وأن رحمته تحيطهم عن يمينٍِ وشمال ومن فوقهم ومن تحتهم.
أخي الحبيب، يا عبد الله، أتريد أن تكون من عباد الرحمن؟ أتريد أن تنتسب إلى الله عز وجل؟ أتريد أن تكون واحدًا من هؤلاء؟ ما عليك إلا أن تتصف بصفات عباد الرحمن قولاً وعملاً، فما أكثر من يقول: أنا من عباد الرحمن ولكن أفعاله تقول غير ذلك.
أول صفة من صفاتهم كما قال تعالى: وعبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ، إنّ صفة المشي لها عند الله قيمة؛ لأنها تعبر عما في الإنسان من مشاعر وأخلاق، فالمتكبرون والمتجبرون لهم مشية، والمتواضعون لهم مشية، كل يمشي معبرًا عما في ذاته.
عباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا متواضعين هيّنين ليّنين، يمشون بسكينةٍ ووقار بلا تجبر واستكبار، ولا يستعلون على أحد من عباد الله. عباد الرحمن يمشون مشية من يعلم أنه من الأرض خرج وإلى الأرض يعود، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55].
اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أنه ليس معنى يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس كما يفهم بعض الناس، فهذا رسول الله كان أسرع الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له. ورأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشي رويدًا مطأطئ الرأس فقال: ما لك؟ أأنت مريض؟ قال: لا، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي مشية الأقوياء. والقرآن نهى عن مشي المرح والبطر والفخر والاختيال، قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]. وهذا لقمان يوصي ابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18]، لا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا، إنّ الله لا يحب كل متكبر متباهٍ في نفسه وهيئته وقوله، ولا تكلّم الناس وأنت معرض عنهم، بل أقبل عليهم بوجهك وتواضَع وابتسم، فالابتسامة صدقة، والله لا يحب كل مختالٍ فخور، المختال الذي يُظهر أثر الكبر في أفعاله، والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقواله، والله يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه، ولا يحتقر أحدًا من الناس، كان النبي يدعو: ((اللهم أحيِني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين)) ، وروى الإمام أحمد قوله : ((من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو غضبان)) ، وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((بينما رجل ممن قبلكم يتبختر يمشي في بردته قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)).
إذًا علام يتكبر الناس؟! علام يتميّزون؟! علام يستعلون على عباد الله بأموالهم ومناصبهم؟! ولو نظروا إلى أنفسهم لوجدوا أن أباهم الماء المهين وجدّهم التراب، كما قال تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7، 8].
رأى مطرف بن عبد الله أحد الأمراء يمشي متبخترًا فنهاه، وقال: هذه مشيةٌ يبغضها الله تعالى، فقال له: أما تعرفني؟! قال: نعم أعرفك وأعرف من أنت، أنت الذي أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفةُ قذِره، وأنت مع ذلك تحمل العذرة، فيا عجبًا ممن خرج من مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟!
ولا تمشِ فوق الأرض إلا تواضعًا فكم تَحتها قوم همُ منك أرفعُ
وإن كنت فِي عزٍ وجاهٍ ومنعةٍ فكم مات من قومٍ همُ منك أمنعُ
ولذلك كان سيد المتواضعين، كان يمشي خلف أصحابه كواحدٍ منهم، وكان يجلس لا يتميز عليهم، حتى إن الرجل الغريب ليأتي فيقول: أيكم ابن عبد المطلب؟ وكان في بيته في مهنة أهله، يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته.
عباد الرحمن ـ أيها المسلمون ـ هم الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ويترفعون عن الرد عن كل سبّ وشتم واستهزاء، إنما هم أكرم وأرفع، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ، وقال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]، وقل لعبادي المؤمنين يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم الكلام الحسن الطيب؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العداوة والفساد والخصام، إن الشيطان كان للإنسان عدوًا ظاهر العداوة.
وحسن الكلام مع الأعداء يطفئ خصومتهم ويكسر شوكتهم، وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه.
عباد الله، هؤلاء عباد الرحمن رأينا حالهم مع أنفسهم، وهو التواضع، لا الفخر ولا الكبرياء، وحالهم مع الناس الصبر على جهل السفهاء. ثم انظروا حالهم مع ربهم، إذا خيّم الليل وأرخى سدوله، إذا أوى الناس إلى فرشهم كان عباد الرحمن مع ربهم، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64]. بينما كثير من الناس في غفلاتهم نائمون وفي سهرهم ماجنون هناك عباد يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، إنهم يضعون الجباه التي لم تنحنِ لمخلوق، يضعونها بين يدي الله جل وعلا راكعة ساجدة خاشعة خائفة طائعة، إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة: 15]. وهم قياما يتلون آيات الله، يسألونه الجنة ويستعيذون به من النار. إنهم يفعلون ذلك ليس طلبًا لمرضاة أحد، ولا لابتغاء محمدة أو شهرة، وإنما يبيتون لربهم سجّدًا وقيامًا يبتغون وجهه، يرجون رحمته ويخافون عذابه، وصدق الله القائل عنهم: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر: 9].
عباد الرحمن هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((عجب ربنا تعالى من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: انظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله ثم انهزم أصحابه، فرجع حتى يهريق دمه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي وشفقةً مما عندي)). إنهم عباد الرحمن، كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17].
مات أحد العلماء فقيل له: يا إمام، ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت تلك الإشارات، وطاحت العبارات، وضاعت العلوم، ولم ينفعنا إلا ركعات كنّا نركعها في السحر.
عباد الرحمن تتجافَى جنوبهم عن الْمضاجع كلهم ما بين خائف متهجد وطامع
تركوا لذة الكرى للعيون الْهواجع واستهلّت عيونهم فائضات المدامع
عباد الله، شتان بين من يقضي الليل في طاعة الله وبين من يقضيه في معصية الله، شتان بين من يسهر في لهو وعبث حتى قرب الفجر فإذا قرب الفجر ناموا، وبين من يقضي الليل صلاةً واستغفارًا وتسبيحًا ونومًا على ذكر الله، شتان بين من يقضي الليل في إجرام يدبر المكائد والشرور لعباد الله الصالحين، وبين من يقضي الليل علمًا وتعلمًا ودعوة إلى شرع الله.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا أهل الأمن فِي الدنيا هجوع
قال : ((إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها))، قيل: هي لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)).
اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين، من عبادك المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا، وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله، فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5084)
مع الثبات وأسبابه
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا دعوية
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. 2- الثبات وأهمية. 3- أسباب معينة على الثبات على الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع الثبات وأسباب الثبات؛ لعلنا نكون وإياكم ممن ثبتهم الله على الحق حتى ماتوا عليه.
نتكلم على الثبات في وقت تمر الأمة فيه بمراحل حرجة من حروب وفتن، ربما لو فكر فيها الرجل العاقل لشرد ذهنه وانخلع قلبه مما يرى. ولكن اعلم ـ أخي المسلم ـ أن الثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27]. وقدوتنا في ذلك هو رسول الله ، فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.
عباد الله، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث شاء)) ، ثم قال: ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم. وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أصبحت وزهرها يابس هشيم، فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح ومن أرباب التقى والفلاح، قلبه بطاعة ربه مشرق سليم، إذا به انقلب على وجهه فترك الطاعة وتقاعس عن الهدى، وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد، قلبه بمعصية الله مظلم سقيم، إذا به أقبل على الطاعة والإحسان وسلك سبيل التقى والإيمان.
أيها الإخوة المؤمنون، إن تذكر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء، وتنفطر منه قلوب الأتقياء، وتنصدع له أكباد الأولياء، كيف لا والخاتمة مغيّبة والعاقبة مستورة؟! والله غالب على أمره، والنبي قد قال: ((فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه. فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، اعلموا أنه على قدر ثبات العبد على الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثباته على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط في الدنيا يكون سيره على ذلك الصراط، فمنهم من يمر مر البرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم كالريح، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش، ومنهم من يسقط في جهنّم، وهل تجزون إلا ما كنتم تعملون؟! ولذا نحن في اليوم مرات ومرات ندعو الله أن يثبّتنا على الصراط المستقيم، ونقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7].
يا رب، ثبّتنا على طريق الصالحين، طريق الإيمان، طريق التقوى، طريق التوحيد، طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
فيا عباد الله، عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات وأن تحتفوا بها، علمًا بأن المقام جد خطير، والنتائج لا تخالف مقدماتها، والمسببات مربوطة بأسبابها، وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى:
أولاً: الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى؛ وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطبًا خير خلقه وأكرمهم عليه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً. وقال تعالى: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. وكان نبينا يكثر من قوله: ((لا، ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد، مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
ثانيًا: ومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله تعالى، قال عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة [إبراهيم: 27]. والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. فالمثابرة على الطاعة والمداومة عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.
ثالثًا: ومن أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها؛ فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). وأما الصغائر فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تَحقرن صغيرة إن الْجبال من الحصى
رابعًا: من أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلمًا وعملاً وتدبرًا، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتًا للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، فقال الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.
خامسًا: ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده مكره، فقال عز وجل: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وقد قطع خوف مكر الله تعالى قلوب المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون، كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان، وقال الله تعالى: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ.
يا آمنًا معَ قبحِ الفعل منه هل أتاك توقيعُ أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنًا واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه
أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف، يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن، حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشى الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس، فإنه ما دام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر. قال ابن القيم رحمه الله: "إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب وأنه يحول بين المرء وقلبه وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم".
سادسًا: ومن أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت، فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، فألحوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، وما ذكره الله تعالى عنهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، وقد كان أكثر دعاء النبي : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)). أسال الله أن يثبتنا وإياكم على الخير والصلاح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: لا زلنا وإياكم مع أسباب الثبات.
سابعًا: من أسباب الثبات على الإيمان نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين، قال الله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. ونصر دين الله تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد ولا تقف عند رسم، فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله، وطلب العلم نصر لدين الله، والعمل بالعلم نصر لدين الله، وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله، والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله، والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله، والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله، وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة، جعلنا الله وإياكم من أوليائه وأنصار دينه. ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئًا، فقاعدة الطريق: ((اتق النار ولو بشق تمرة)). قال ابن القيم رحمه الله:
هذا ونصر الدين فرض لازم لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن عجز ت فبالتوجه والدعاء بجنان
ثامنًا: ومن أسباب الثبات على الهدى الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة، فهم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر، فارجع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات، قبل أن تنشب أظفارها في قلبك فتوردك المهالك. قال ابن القيم رحمه الله حاكيًا عن نفسه وأصحابه: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه ـ أي: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنا وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة".
عاشرًا: ومن أسباب الثبات على الحق والتقى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي، فإنه لن يحصل للعبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وقد قال النبي : ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)).
فالصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقه لكن عواقبه أحلى من العسل
الحادي عشر: ومن أسباب الثبات على الحق والهدى ترك الظلم، فالظلم عاقبته وخيمة، وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين والإضلال حظ الظالمين، فقال جل ذكره: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
فاتقوا الظلم أيها المؤمنون، اتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب، واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم والتضييع لهم، واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم من العمال ونحوهم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
وقال : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أبيض كالصفا، وقلب أسود مربادا كالكوز مجخيا ـ أي: مقلوبًا ـ لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا)). وهذه صفة أهل النار، ويقول : ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)). ومن المعروف أن الدينار مملوك والعبد مالك للدينار، فكيف يكون الدينار هو المالك والعبد هو المملوك؟!
من ذلك يتبين لنا أن العبد إذا انشغل بجمع الدينار وتركَ عبادة الله كان عبدًا للدينار من دون الله، ولذلك يدعو الرسول على هذا الصنف فيقول: ((تعس وانتكس)).
وأعجب من ذلك أن يكون المال سببًا في الانتكاس الكلي وهو الردة، فقد ثبت عند الإمام مسلم أن الرسول أرسل عمر رضي الله عنه لجمع الزكاة، فذهب إلى ابن جميل وكان فقيرًا فأغناه الله، فطلب عمر منه الزكاة فمنع ولم يعترف بها، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 75-77]
الثاني عشر: ومن أسباب الثبات على الدين والصلاح كثرة ذكر الله تعالى، كيف لا وقد قال جل شأنه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ؟! وقال : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)).
وقد أمر الله تعالى عباده بالإكثار من ذكره فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا. فذكر الله كثيرًا وتسبيحه كثيرًا سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور. فيا حسرة الغافلين عن ربهم! ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه؟!
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا على الطاعة يا رب العالمين.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله، فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5085)
الشتاء والناس
الأسرة والمجتمع, فقه, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, الطهارة, قضايا المجتمع
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
خميس مشيط
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة البرد هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم. 2- بعض أحكام المسح على الجوربين. 3- اغتنام ليالي الشتاء. 4- البرد وحال إخواننا الفقراء. 5- مخالفات ومنكرات تقع أثناء النزهة والرحلات. 6- التنزه البريء وضوابطه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لنتقِ الله عز وجل، ولنتبصر في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة، حتى ننتهي إلى آخر سفرنا، وإن كل يوم يمر بنا بل كل ساعة بل كل لحظة تبعدنا من الدنيا وتقربنا من الآخرة، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالنا، ومحفوظة لنا شاهدة علينا بما عملنا فيها من خير أو شر.
أيها المسلمون، نعيش الآن في فصل الشتاء، نحسُّ بنفثات برْدِه، نستنشق نسمات هوائه اللاذع، نتأمّل في كيفية تدرّج برودته على بني البشر، يجعلنا نتأمل ونتفكر في آياته التي تترى، حِكم لا تعدّ ولا تحصى.
وما يشعر به الناس من شدّة البرد باختلاف مناطقهم ومناخهم هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم، ومصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عندما قال: قال رسول الله : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون من الحرّ من سمومها)) رواه البخاري ومسلم.
وهذا يذكر الإنسان في كل فترة من عامه كيف أحواله مع ذهاب أيامه وأعوامه وهو في غفلة عن الموت، قد انغمس في شهوات الدنيا وملذاتها.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة وعيشك فِي الدنيا محال وباطل
أيها المؤمنون، في فصل الشتاء يلبس أكثر الناس الجوارب، ولم يهتم بعضهم بأحكام لبسها، بل قد يغيب ذلك عن أذهان بعض أبناء المسلمين، وبعضهم يستجلب الرخَص في تمديد فترة المسح؛ بسب اجتماع الضرورة والمشقة مع هوى النفس على حسب اجتهاده الفردي.
وهذا الأمر اهتمّ به شرعنا المطهر، فأجاز المسح على الجوارب، وحدَّ أوقات معينة للمسح عليها، فجعل للمقيم يومًا وليلة أي: أربعًا وعشرين ساعة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن أي: اثنتان وسبعون ساعة، وتبدأ المدة من أول مسح بعد اللبس على الصحيح من أقوال أهل العلم. ثم يمسح بيده على مقدمة الجورب فقط من دون أن يمسح على أسفله.
وينبغي علينا ـ أيها الناس ـ إذا هيئنا لأبنائنا وأهلينا الجوارب وألبسناهم إياها أن نرشدهم مع ذلك إلى هدي المصطفى فيما ينبغي التعامل معها من أحكام وآداب؛ لأن المشاهد في المدارس من بعض الطلاب أنهم لا يهتمون بأحكام المسح على الجوارب.
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا هو أن لا تطول مُدة لبس الجورب على الإنسان من أجل أن يحمي المصلين من الرائحة الكريهة. فلنهتم بهذا الأمر ولنسبغ الوضوء على أعضائنا مهما اشتدّ البرد، ونسفر عن أكمامنا عند غسل اليدين سفرًا كاملاً، ولا نترك شيئًا من الذراع بلا غسل؛ لأن هذا الدين يرشدنا إلى التمسك بأحكامه وآدابه في طهارتنا، لماذا؟ من أجل أن تكون صلاتنا بين يدي الله صحيحة.
يا من يسمع ويعقل، فصل الشتاء هو أمنية أهل السلف؛ لأنه كما قال ابن عمر: (أمنية العابدين)، وقد قال ابن مسعود: (مرحبًا بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام). هذه أخبار من قبلنا مع فصل الشتاء، أما أخبار بعضنا ـ والله المستعان ـ فقد أطفأنا نور إيماننا بهجر قيام الليالي وترك صيام الأيام.
فيا إخوتاه، لنترك التوسع في المباحات، ونجدّ في طلب مرضاة الرحمن في ليالي الشتاء الطوال وفي غيرها، وندرب أرواحنا مع القيام والصيام، فالرسول يقول كما في الحديث الذي صححه الألباني: ((الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة)). إيه وربي، إنها الغنيمة، فأين المشمرون المخلصون؟!
ويُحْيِي الشتاء فينا ـ أيها المسلمون ـ اتباع إرشاد الرسول بعدم إبقاء النار وما سواها مشتعلة حال النوم؛ لما في ذلك من خطر الاحتراق أو الاختناق، فقد جاء في البخاري ومسلم أن النبي قال: ((إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم)). وإرشاد الإعلام والمختصين أصله إرشاد من إرشادات الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه.
وهنا بشرى لمن أصابته الحمى بتكفير الخطايا والذنوب، وكثيرا ما يصاب بها الناس في هذه الأيام، وهذا توجيه نبوي من رسول الهدى لأم السائب حينما قال لها: ((ما لك يا أمَّ السائب؟)) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب خبث الحديد)) رواه مسلم.
وحينما نأخذ بالاستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافئ والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش فإن من جيراننا وأقاربنا وإخواننا المسلمين مَن يجلسون جلستهم العائلية بلا مدافئ، وترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد، ويذهب أطفالهم إلى مدارسهم من غير الكساء الذي يلبسه أبناؤنا وإخواننا، فيخترق البرد عظامهم، وليس ذلك إلا من قلة ذات اليد وقلة المحسنين الذين كانوا يتابعونهم في رمضان ثم غفلوا عنهم.ونحن المسلمين كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فلله الحمد والمنة، لله الشكر والحمد، لله الحمد والمنة، لله الشكر والحمد، لله الحمد والمنة، لله الشكر والحمد.
وهذه ـ والله ـ نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 80، 81].
نحن نعيش الآن في نعمة لا تقدر بثمن، فنلبس ونغير في كل عام، ونقتني كل واقٍ يقينا من شدة البرد، فننام ملتحفين، ونخرج إلى مساجدنا مثل ذلك، ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف، ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عز وجل، فلنحبَّ للناس ما نحبُّه لأنفسنا، فإذا مرت عليك ـ أيها المسلم ـ ليلة شاتية وذقت فيها البرد القارص ففررت إلى مكان دافئ وغصت بين أحضان فراش وفير اعلم حينها أن هناك من يشاركك الشعور بالبرد ولكن لا يجد وسائل الدفء، هناك من يفترش الأرض ويلتحف السماء لا يجد له من دون الأرض مفرشا، ولا يجد له من البرد غطاء. فالأموال متيسرة عند الكثير، والثياب والألبسة الزائدة عند الكثير منَّا لم تلبس، ولم تنفق للمحتاجين، بل هي أسيرة في المستودعات أو في سلة المهملات، ووالله إن إخوانا لنا في شتى بلدان العالم قد مزق البرد أوصالهم وأسال دموعهم وجمد جلودهم وأذاقهم الحزن الأليم، واجتمع مع ذلك فقد الأهل والوطن وعدم المأوى والكساء، فيقول أحدهم:
أتدري كيف قابلنِي الشتاء وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيف البرد يفعل بالثنايا إذا اصطكت وجاوبَها الفضاء
فإن حل الشتاء فأدفئونِي فإن الشيخ آفته الشتاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهدده من الفقر العناء
وكيف يداه ترتجفان بؤسًا وتصدمه المذلة والشقاء
يصب الزمهرير عليه ثلجًا فتجمد في الشرايين الدماء
هذا الآدمي بغير دار فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يَجوب الأرض من حي لحي ولا أرض تقيه ولا سماء
معاذ الله أن ترضى بهذا وطفل الْجيل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عوز وضيق ولا تحنو؟ فما هذا الْجفاء
أخي بالله لا تَجرح شعوري ألا يكفيك ما جرح الشتاء
فلَهم منا الدعاء الخالص، وليس لهم إلا الذي خلقهم، فهو ولي المستضعفين وناصر المكروبين.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: إن أناسا لهم ثقل في هذه الحياة قد أفرطوا في ضياع أوقاتهم، واسترسلوا في حاجة النفس إلى الترويح، فضيعوا الأوقات، وأصابهم فتور عن الطاعات، والمعروف في فصل الشتاء أن الليالي طويلة، وبعض من لم يقدِّر الأوقات لم يحيوا هذه الليالي ولم يستفيدوا من طولها؛ سواء كان ذلك في القيام أو طلب العلم أو ما يكون له مصلحة نافعة على نفسه وأمته، فلو استغل الناس وقت ما بعد العشاء خصوصا لجنوا ثمرات عديدة في طول هذه الليالي.
والملاحظ من بعض فئات المجتمع أنهم يتوسعون في التنزه والخروج بحجة الدفء والترويح، وعلى سبيل المثال تجد أن بعض الناس يذهبون إلى البراري أو إلى الأماكن الدافئة في الأسبوع مرات عديدة؛ بحجة الترويح والدفء، فتضيع عشرات الساعات من غير فائدة يستطيع أن يجنيها الإنسان في بيته ومكتبته، والأمر الأعجب أن تفوت بعضهم صلاة الفجر بسبب الترويح والدفء.
وأنا لست معارضا لمثل ذلك، لكن الاعتدال مطلوب، فلا يسوغ أن تقضى كل الأوقات في أماكن التنزه والدفء، وتذهب الأوقات هدرا، وهذا الكلام ليس إلا لكل من لديه احترام للوقت.
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟
وأما ذهاب العوائل أيضا للتنزه والدفء فهذا جميل وأمر تريده الأسرة من مسؤولها، لكن بعض الأسر خرجت عن إطار الضوابط التي ينبغي أن لا يغفلوا عنها، فعند الشواطئ وفي المجمعات السكنية وفي البراري يغفل بعض الآباء عن أهاليهم، فيقل الحياء، ويذهب الوقار, ويختلط الحابل بالنابل، وتنطمس المروءة، وتتبلد الأحاسيس، وتعقد العلاقات السيئة بسبب الدفء والتنزه، وهذا لا يرضاه أي إنسان، لكن الواقع يشهد بذلك.
فعلى شاطئ البحر وفي بعض البراري نجد بأن خيام العوائل ملتصقة ببعضها، ونجد التحركات الكثيرة غير المنضبطة من بعض النساء، كما تحدث الطوام العظام والمصائب الكبار حين ينزل النساء إلى البحر أو يخرجون للمشي بحجة ظلام الليل، ولا يعلمون بأنه أصبح بالأيادي ما يلتقط الصور ويقرب البعيد وغير ذلك كثير. وأما في بعض المجمعات السكنية فقد ضاعت غيرة بعض الرجال، وذهب أدب وحياء بعض النساء، نسأل الله العافية. والحل ـ أيها المسلمون ـ أن يرسم ربّ الأسرة ما يسعد أسرته وما ينجيها من لغط الزمان بفطنته وحذاقته.
ومما يزيد الأسى أن تجد بعض الشباب يلهون ويعبثون، ففي الطريق سرعة جنونية، وعلى شاطئ البحر صخبٌ ومعاصي، وعلى تلال الرمال تجمعات شبابية على ما لا يصدقه العقل، وفي الجلسات مفاتيح للدخان والمسكرات وعجبٌ وعشق وإشارات إنذار تحدق على شبابنا. ومما يفطر الأكباد أنك تجد شبابا في المرحلة المتوسطة أو الثانوية بين شباب يكبرونهم بعشرات السنين ليس همهم إلا الإفساد وتعليمهم نواقيس الخطر والإضلال.
ومما يُحِدُّ من هذه الظواهر التي يعاشرها الناس في هذه الأيام:
أولاً: أن يلبي الآباء حاجات أبنائهم وأهليهم من غير إفراط ولا تفريط، مع مراعاة اختيار الأمكنة التي تحفظ دين الأسرة.
ثانيًا: زراعة الوعي من الآباء والمعلمين والدعاة لدى شباب الإسلام بأثر الصحبة السيئة والأخطار التي يجنيها الصاحب السيئ حاضرًا ومستقبلاً.
ثالثًا: فقه إنكار بعض المنكرات التي تحيط بمجتمعاتنا الشبابية والعائلية وضرورة ذلك.
رابعًا: التواصل مع الهيئات وإدارة مكافحة المخدرات؛ للتغلب على مروجي الحبوب والخمور على الشواطئ وتلال الرمال.
خامسًا: التواصل الدعوي مع الشباب الذين يجلسون على البحر وعلى تلال الرمال، فوالله أإننا نسمع ونشاهد القبول والارتياح لأهل الدعوة والنصح، وكم من شاب كانت انطلاقته بسبب جلسة إيمانية على ساحل البحر أو على ارتفاع تلّ. وأبشركم بأن الأمة فيها خير كثير، وأن ما يصيب بعض أفرادها هو النزر اليسير، وواجبنا هو التوجيه والتنبيه.
روحُ التَّفاؤُلِ فِي الحياةِ سبيلُنا وَلَوِ المهالِكُ أحدَقَتْ ومخاطِرُ
والظُّلمُ ليلٌ لا مَحالَةَ زَائِلٌ فالنُّورُ من حُلَكِ الليالي صَائِرُ
مهما ادلَهَمَّتْ دَاجياتٌ وانْتَشَت فالحَقُّ صَوتٌ لا مَحالةَ هَادِرُ
(1/5086)
وقفات مع خطبة عرفات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا الأسرة, محاسن الشريعة
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
9/12/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة المسلم. 2- لا جاهلية في الإسلام. 3- الوصية بالنساء وشيء من حقوق الزوجين. 4- سفينة النجاة. 5- سؤال الله للرسل وقومهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي مثل هذا اليوم في حجة الوادع التي ودّع فيها نبي الهدى أمته خطبهم بكلام بليغ وجيز فقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل ـ ، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن غير مبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) [1].
أولُ وقفة مع قوله : ((إنَّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
حقوق العباد ـ أيها المؤمنون ـ مبنية على المشاحّة، وهو بهذه الكلمات يحذر من التهاون فيها ويحذر من الظلم.
عن رجل من العرب قال: زحمت رسول الله يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوَطِئْتُ على رجل رسول الله ، فنفحني نفحة بسوط في يده وقال: ((بسم الله، أوجعتني)) ، قال: فبتُّ لنفسي لائمًا أقول: أوجعتُ رسول ، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: أين فلان؟ قال: قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس، قال: فانطلقت وأنا متخوِّف، فقال لي رسول الله : ((إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس، فأوجعتني، فنفحتك نفحة بالسوط، فهذه ثمانون نعجةً فخذها بها)) رواه الدارِمي (1/48) وصححه الألباني في السلسلة (3043)، ثمانون نعجةً ـ يا نبي الله ـ لنفحةِ سوطٍ! فماذا يفعل الذين يأكلون أموال الناس ظلمًا ويقعون في أعراضهم صباح مساء؟!
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ إياس بن ثعلبة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)) ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) رواه مسلم.
ثم حذر النبي من سنن الجاهلية ومسائلها فقال: ((ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع)) ؛ لأنّ من أحيا سنة جاهليةً فهو بغيض إلى الله، بل إنه من أبغض العباد إليه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ)) رواه البخاري.
وقد كان من هديه أن يخالفهم في كل شيء، فلو أخذنا حجة الوداع نموذجًا اتضح لنا ذلك من خلال الأمثلة التالية:
في التلبية كان الجاهليون يقولون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، فأهلّ نبي الله بالتوحيد فقال: ((لبيك لا شريك لك لبيك)).
في الطواف كانوا يطوفون عراةً إن لم يجدوا ثيابًا جديدةً ولم يُعِرهم قرشي ثوبًا، وكذلك المرأة عندهم، فخالفهم النبي ونزلت الآية: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31].
من أهلّ منهم لمناة لم يسع بين الصفا والمروة، فجعله النبي ركنًا من أركان الحج.
من القبائح عندهم العمرة في أشهر الحج، فقرن رسول الله ، وأمر بالتمتع، وأعمر عائشة رضي الله عنها، واعتمر أربع مرات، كانت كلها في أشهر الحج.
كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب، ومن مزدلفة بعد الشروق إذا كانت الشمس على الجبال كعمائم الرجال، فخالفهم نبينا في الأمرين، فأفاض من عرفة بعد الغروب، ودفع إلى منى قبل الإشراق.
وهنا ذكر أمرين من أمور الجاهلية:
الأول: دماء الجاهلية، فقال: ((ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)) ، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل.
((موضوعة)) أي: متروكة لا قِصَاص فيها وَلا دِيَة وَلا كَفَّارَة، فقد كان الجاهليون يأخذون بالثأر، فربما قتلوا من قبيلة القاتل أضعافًا، وربما قتلوا غير قاتله، فأبطل ذلك نبينا حقنًا لدماء المسلمين، فحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة المشرفة.
قال أسامة بن زيدِ بْنِ حَارِثَةَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيَّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ فَقَالَ لِي: ((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟)) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. رواه البخاري ومسلم.
ثم قال: ((وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)).
المقصود الزيادة على رأس المال، وإنما وضعه لأن من أخذه فقد حارب الله، ومن يقوى على ذلك؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا، أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ)) رواه ابن ماجه، وقال : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية)) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
ثم وقف نبينا وقفة أخرى من شأنها أن تصلح أمورَنا الأسرية وشؤوننا البيتية فقال: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن غير مُبَرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (4/312): "وَالْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ أَن لا يَأْذَنَّ لأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فِي دُخُول بُيُوتكُمْ وَالْجُلُوس فِي مَنَازِلكُمْ، سَوَاء كَانَ الْمَأْذُون لَهُ رَجُلاً أَجْنَبِيًّا أَوْ اِمْرَأَة أَوْ أَحَدًا مِنْ مَحَارِم الزَّوْجَة، فَالنَّهْي يَتَنَاوَل جَمِيع ذَلِكَ. وَهَذَا حُكْم الْمَسْأَلَة عِنْد الْفُقَهَاء؛ أَنَّهَا لا يَحِلّ لَهَا أَنْ تَأْذَن لِرَجُلٍ أَوْ اِمْرَأَة وَلا مَحْرَم وَلا غَيْره فِي دُخُول مَنْزِل الزَّوْج إِلا مَنْ عَلِمَتْ أَوْ ظَنَّتْ أَنَّ الزَّوْج لا يَكْرَههُ".
عباد الله، شرع في بيان حقوق الزوجين لأنّ الحياة لن يستقيم أمرها وسفينة الزوجية لن تَرْفَأَ في برِّ الأمان ولن تقوى على مقارعة أمواج الحياة العاتية فتتخطاها بسلام إلا بحفظ كل واحد لحق صاحبه. ثلاثة أحاديث أذكّركم بها أيها المؤمنون:
الأولُ أذكر به الزوجة: عن أنس بن مالك قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسنون عليه ـ أي: يستقون ـ، وإنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وإن الأنصار جاؤوا إلى رسول الله فقالوا: إنه كان لنا جمل نَسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال لأصحابه: ((قوموا)) ، فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته فمشى النبي نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب نخاف عليك صولته، قال: ((ليس عليَّ منه بأس)) ، فلما نظر الجمل إلى رسول الله أقبل نحوه حتى خر ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول الله بناصيته أذلّ ما كانت قطّ حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك ونحن نعقل فنحن أحقّ أن نسجد لك، قال: ((لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَة تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ)) رواه أحمد.
وأما الحديث الثاني فأذكِّر به الزوج: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي، ولمسلم: ((إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)). قال النووي في شرح مسلم (5/207): "وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُلاطَفَة النِّسَاء وَالإِحْسَان إِلَيْهِنَّ وَالصَّبْر عَلَى عِوَج أَخْلاقهنَّ وَاحْتِمَال ضَعْف عُقُولهنَّ وَكَرَاهَة طَلاقهنَّ بِلا سَبَب وَأَنَّهُ لا يَطْمَع بِاسْتِقَامَتِهَا، وَاَللَّه أَعْلَم".
وتأمل ـ يا عبد الله ـ هذه الرواية: عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خلقت من ضلع، فإن أقمتها كسرتها، فدارها تعش بها)) رواه ابن حبان. سبحان الله! ((دارها تعش بها)) ، لا بد من المداراة، لا بد من أن تلومَ حينًا وأن تتغاضى أحيانًا، عاتب مرّة واسكت مرات ومرات، أما إذا توقّفنا في حياتنا مع زوجاتنا في كل أمر، في الصغير والكبير، فإن الطلاق لا بد أن يقع، لا بد من التجاوز حتى تستمرّ الحياة ونهنأ بالعيش، لئلاّ يكون البيت جحيمًا لا يُطاق، لا بد أن نعوّد أنفسنا على ذلك، هذا رسول الله دعا أبا بكر فاستعذره من عائشة، فبيناهما عنده قالت: إنك لتقول: إنك لنبيّ! فقام إليها أبو بكر فضرب خدّها، فقال النبي : ((مه يا أبا بكر، ما لهذا دعوناك)) رواه عبد الرزاق.
ثم أذكّر الزوجين بهذا الحديث: عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهُ فَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ)) رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا وإياكم بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] مجموعة روايات الحديث كما رتبها الألباني رحمه الله في حجة النبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فنقف مع آخر جملتين من هذه الخطبة المباركة:
((وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله)) ، هذه الجملة فيها منطوق ومفهوم:
أما منطوقها: لن يضلّ من تمسك بالكتاب الكريم، وكيف يضل وهو إنما يتبع ما رسمه خالقه الذي هو أعرف بنفسه من نفسه؟! أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
وأما المفهوم: فأنّ الضلال مكتوب على من لا يتبع الكتاب الكريم.
وقد جاء هذا المفهوم وذاك المنطوق في منطوق آيتين في سورة طه حيث يقول سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123، 124]. فمن أراد النجاة فلا سبيل إلى تحقيقها إلا باتباع الكتاب والسنة، أما اتباع غيرهما من آراء الرجال وأفكارهم وأهواء نفوسنا فهذا لا يحقق لنا إلا الضلال المبين.
ثم قال : ((وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت رسالات ربك وأديت ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)). قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 67]، يُسأل الناس عما أجابوا، والمرسلون عما بلَّغوا.
وبما شهد به الصحابة إنا لقائلون، وعلى دربهم سائرون، نشهد ـ يا نبي الله ـ أنك قد بلغت وأديت، ما تركت أمرًا يقرب من جنة الله إلا وأرشدتنا إليه، وما تركت جرمًا يبعدنا عن الله إلا وحذرتنا منه، لمَّا قال المشركون لسلمان : عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ! قَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ. رواه مسلم. وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ إِلا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ: : ((مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُم)) رواه الطبراني في المعجم الكبير.
اللهم اجمعنا بنبيك عند حوضه واسقنا منه شربة هنيئة لا ظمأ يعقبها...
(1/5087)
طريقة لزيادة المال والحصول على السعادة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
9/6/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم أسباب الرزق الاستغفار. 2- آثار وفوائد الاستغفار. 3- الوصية بالاستغفار في كل الأحوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، وتقربوا إليه جل وعلا بالأعمال الصالحة، وبادروا أعماركم بالتوبة والإنابة ولاستغفار.
أيها الإخوة المؤمنون، كثير من الناس يشتكي قلة الرزق وقلة ما في اليد وتراكم الديون وكثرتها، كثير من الناس يشتكي عدم كفاية الدخل ويعاني من ضنك العيش، فتجده يتضجر في المجالس ويشتكي إلى فلان وعلان من الذين لا يملكون له رزقًا، ويغفل هذا وأمثاله عن أسباب الرزق الشرعية التي جاء بها الدين وذكرها الله في كتابه المبين وبينها النبي في سنته المطهرة.
أيها الإخوة المؤمنون، إليكم طريقة هامة والتي تكون سببًا بإذن الله تعالى لسعة الرزق ووفرته وعدم الحاجة والنظر إلى ما في أيدي الناس. إنها سبب شرعي متى عملها الإنسان ووافقت إخلاصًا وصدقًا منه فإنها تكون سببًا لسعة رزقه وكثرة ماله. طريقة عملية وسهلة لزيادة المال والسعادة. نعم، طريقة مجربة أدعو الجميع تجربتها ويجني نتائج التجربة بأسرع وقت.
ربما استغربتم ذلك يا عباد الله، إنها ـ والله ـ حقيقة مجربة وثابتة، أنا لن أتحدث بلغة الموظفين ذوي الدخل المحدود، بل بلغة رجال الأعمال ولغة تجار السوق العالمية للاستثمار، ولكن من مدخل مختلف تمامًا، وأقوى من مدخل السوق العالمية، ربما ستدهشون من كلامي، ولكن التجربة خير برهان، طريقة سهلة تزيد من راتبك ودخلك، وتجعلك من أهل الثراء، صاحب عمارات وفلل وأراضي وأملاك. لا زلتم تنتظرون؟! نعم، هذه الطريقة تجارة تسويق، كلما سوقت أكثر ربحت أكثر، وهي شرعيًا حلال مائة بالمائة إذا كانت ضمن شروطها، وهي ممتعة وسهلة ومن بيتك، وربما برأس مال قليل جدًا.
إليكم هذا السر، السر الذي من خلاله تكسب الملايين والأراضي والأملاك يا إخوة الإيمان، إن السر ليس بالصعب، ك لنا يعرفه، وليس من باب التجريب على الله، إنما ثقة بوعد الله، فالله عز وجل حين يقول أمرًا في القرآن يكون وعدًا منه ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9].
أكيد أنكم تنتظرون بفارغ الصبر ذلك السر العجيب. السر هو في قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح: 10-12]. إذا استغفرت الله فأنت قد علمت أن لك ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فخفت واستغفرت، وقد وعدك ووعده الحق، فقال: استغفروا يا عبادي، وسأغفر لكم، وباستغفاركم سأرسل السماء عليكم مدرارًا حتى ترتووا وترتوي دوابكم، ومن يحب المال فسأمده بالمال وليس المال فقط، من يحب البنين فسأمده كذلك بالبنين، وليس بالبنين فقط، ومن يحب الأراضي والأملاك والمزارع والجنان والعقار، فكل ذلك مرتبط بالاستغفار.
نعم، أصغ سمعك إلى قصة هؤلاء الذين جربوا هذه التجربة، جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو إليه الجذب والقحط، فأجابه قائلاً: استغفر الله، ثم جاءه رجل آخر يشكو الحاجة والفقر، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد، فقال له: استغفر الله، فعجب القوم من إجابته، فأرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي، وتلا قول الحق جل وعلا: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
تأمل ـ أخي المسلم ـ إلى هذا الفهم والفقه واليقين في إجابة هذا الإمام من أئمة التابعين، ليس قولاً مجردًا ولا فلسفةً ولا هرطقة، وإنما يقين ومعرفة وتجربة وتوكل واعتماد على الله سبحانه وتعالى. فهل فكرت يومًا عندما يصيبك همٌ أو غمٌ أو عندما تقع في مشكلةِ ومعضلة، هل فكرت في أن المخرج هو مد الحبال إلى الله عز وجل دعاءً وتوسلاً واستعانة وخفض الجبهة وتمريغها ذلاً وخضوعًا واستغفارًا واستكانة؟! هل عرفنا مثل هذا النهج الذي كان عليه أسلافنا في واقع حياتهم؟! تأمل كيف رأى الحسن البصري هذه الآية ورأى صدقها يقينًا في واقع الحياة، فأرشد المسترشد وأجاب السائل إجابةً موجزةً إيمانيةً واقعيةً لمن أيقن بها وصدقها، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
الخير عند الله في السماء يمسكه عن الناس لذنوب أحدثوها وفضائع وجرائم ارتكبوها، ولولا شيوخ ركّع وأطفال رضع وبهائم رتع ومن يدعو الله عز وجل لحرم الناس القطرة، ولأصيبوا بالسنين والجدب، ولأنزل الله عز وجل عليهم السخط والعذاب. من أين لك ـ يا حسن البصري ـ مثل هذا الفقه؟! لقد تلقاه من صحابة رسول الله الذين أخذوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، الذي ترجم لهم القرآن ترجمة عملية.
فهذا الحديث يكشف لنا عن سرّ من هذه الأسرار، وهو من رواية عليِ بن أبي طالبِ، قال: كان الرجل يحدثني فأستحلفه على حديث رسول الله ، وحدثني أبو بكرِ رضي الله عنه وصدق أبو بكرِ، قال أبو بكرِ: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجلِ يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له)) ، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق جل وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135].
هذه الآية القرآنية، وهذا هو التقريب والتفهيم النبوي، وهذه هي الرواية الصحابية، وذلك هو الفهم التابعي، وتلك هي الحياة الإسلامية التي تربط بالله سبحانه وتعالى، وتدرك أن الأمور كلها مغاليقها ومفاتيحها وأسبابها ومنعها بيد الله سبحانه وتعالى.
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى آثار هذا الاستغفار في دفع الرزايا والبلايا والمشكلات والمعضلات الدنيوية، وانظر إلى الأثر الذي ثبت في هذا الحديث من أثر الاستغفار في محو الذنوب والآثام وصقلها وإزالتها من صحائف المسلم بإذن الله عز وجل. فإذا نحن في باب عظيم من أبواب نعم الله عز وجل، وفي رحمةٍ واسعةٍ من رحمات المولى سبحانه وتعالى. فأين نحن منها؟! وأين فقهنا لها؟! وأين ارتباطنا بها؟! وأين عملنا بمقتضياتها؟! فوائد كثيرة ومنافع عديدة تفوتنا، نفرط فيها، ونغفل عنها ونتجاهلها، تعصف بنا رياح الفتن، وتمر بنا زينة الدنيا، ونغرق في أوحال الشهوات، ونتعثر في المعاصي والسيئات، وننسى أحبال النجاة وسبل السلامة التي جعلها الله عز وجل قريبة منا، وساقها إلينا وأهداها لنا لتظل القلوب موصولة به، لتظل الدموع تذرف خوفا وتضرعا وخضوعا، لتظل الجباه تسجد تضرعا واستكانة لله سبحانه وتعالى، ليظل عند المسلم سلاح من الله سبحانه وتعالى يستعين به على أمور دينه ودنياه.
أثر عظيم من الآثار لهذا الاستغفار ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو عند الحاكم والطبراني بسندِ حسن، أن رسول الله قال: ((يقول إبليس لله عز وجل: بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم)). هذه مهمته وهذا قسمه الذي خلده القرآن بأن يغوي بني أدم: ((بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم، فيقول الحق جل وعلا: فبعزتي وجلالي، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)). فهذا السلاح رد لكيد الشيطان في نحره، وإغاظة له بفضل الله سبحانه وتعالى الذي ساقه لعباده المؤمنين وحرم منه ذلك الإبليس اللعين، الذي تكبر عن الخضوع والذلة والصغار والاندحار لله رب العالمين.
فأنت كلما استغفرت الله عز وجل كأنما تسدد سهما أو تضرب بسيف بتار في إبليس عليه لعنة الله عز وجل، فلا يصيب من المؤمن غرةً أو سهوةً أو غفلةً حتى يتذكر القلب المؤمن، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. هذه اليقظة الإيمانية تدعوك إلى الاستغفار، تدعوك إلى أن تواجه هذا الشيطان اللعين بهذا العطاء الرباني وتلك المنحة الإلهية التي خص الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين.
وأثر رابع عظيم ينتظره الإنسان في وقتٍ يكون فيه أشد احتياجًا إلى ما ينفعه بين يدي الله عز وجل، في وقتٍ تنقطع فيه الأسباب وتنعدم فيه الإعانة، يحتاج حينئذٍ إلى ذلك الاستغفار الذي لهج به لسانه وخفق به قلبه وظهر على سمته وخضوعه وخشوعه وخشيته من ربه، هذا حديث الزبير أخرجه الطبراني في الدعاء بسندٍ حسن والبيهقي بسند لا بأس به، عن رسول الله أنه قال: ((من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار)) ، من أحب أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر فيها من الاستغفار. وعند ابن ماجه بسندِ صحيح والنسائي في عمل اليوم والليلة بسند صحيح أيضا عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)).
كل ذلك من أقوال سيد الخلق ، وانظر إلى تطبيقه العملي، فهذا حديث السنن يروي فيه الصحابة أنهم كانوا يعدون للنبي في المجلس الواحد أنه يقول: ((أستغفرك وأتوب إليك)) في المجلس سبعين مرة، وفي بعض الروايات: مائة مرة. وفي حديث الرسول أنه قال: ((إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)) ، وفي بعض الروايات: ((مائة مرة)).
فلو تذكرنا ـ أحبتنا الكرام ـ هل نستغفر في يومنا وليلتنا مثل هذا العدد؟! وهل استغفارنا لو استغفرنا بقدر هذا العدد مثلُ استغفار رسول الله ؟! وهل حاجتنا ونحن مثقلون بالذنوب والخطايا مثل حاجة رسول الله للاستغفار وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقد كان عليه الصلاة والسلام دائما في عبادة وتقرب وتضرع لله عز وجل وازدياد في الخير، فيستغفر أن لم يكن زاد في الخير لا يستغفر من ذنبِ وقع فيه. وقال بعض أهل العلم في هذا أيضا: "إنه السهو الذي ليس فيه عمل باطل، لكنه يستغفر أن لم يشغل كل وقت بطاعة وذكر واستغفار وتهليل وتسبيح لله عز وجل، وقيل أيضًا: إن هذا الاستغفار منه تشريع لأمته وتعليم لهذه الأمة التي يمتد أمدها إلى قيام الساعة أن تعلن دائما أنها ذات أوبة ورجعة إلى الله عز وجل، وأنها ذات طلب واستجداء واستعانة بالله سبحانه وتعالى. وذكر في ذلك أيضا قول آخر وهو أن استغفاره استغفار لأمته؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام دائم الدعاء لأمته ودائم السؤال لربه في حق أمته". وقد جاء قول الحق سبحانه وتعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19]، فهذا رسولنا يقول: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة)). وهذا التطبيق العملي يجعل القلب في انصقالٍ دائمٍ وفي حياةٍ وارتباطٍ قوي بالله سبحانه وتعالى.
وانظر كذلك إلى الأثر العظيم المهم من آثار الاستغفار، وهو دفع العذاب ورفع المصائب، مصداقًا لقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]. وقد ورد في معنى ذلك آثار وأحاديث فيها ضعف، لكن المعنى الذي في الآية واضح، بين أن الاستغفار من أسباب رفع العذاب وعدم نزول نقمة رب الأرباب سبحانه وتعالى. وهذا رسولنا يبين هذا في حديث صحيح عظيم يخطئ بعض الناس فهمه ويسيئون تصوره واستخدامه، وهو حديثه عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه كما في صحيح مسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم)). ليس في الحديث دعوة لمقارفة الذنب والاستغفار من بعد، وإنما في الحديث تصوير لطبيعة الإنسان في غفلته ووقوعه في زلته، وطبيعة ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن إذا وقع في الخطأ أن يبادر بالاستغفار؛ فإن لم يفعل ذلك لم يكن متحققًا بمعنى العبودية، لم يظهر مظاهر التذلل والخضوع، لم يبتهل لرب الأرباب، لم يعظم ربه سبحانه وتعالى، لم يعرف حقيقة أسماء الله الحسنى: التواب الغفار الرحيم إلى غير ذلك من أسمائه العظيمة الجليلة الحسنة، فلذلك جعل الله عز وجل بتبليغ رسوله أن الغفلة عن هذا الاستغفار مع ما هو مقرر من طبيعة وقوع العبد في الغفلة أنها نوع مما يستحق به العقاب، ونوع مما يظهر جحود أولئك القوم الذين لم يقروا ولم يظهروا ولم يبرزوا عبودية الله.
ألا ترى شعائر الإسلام وهي تعلن العبودية لله وتظهر تذلل العباد لله في صلاة الاستسقاء في الصلوات الخمس في غيرها من الأمور التي يريد الله عز وجل ويحب أن يظهر تذلل عباده له وتضرعهم إليه وابتهالهم وافتقارهم إلى ما عنده سبحانه وتعالى.
وأثر سابع أيضا يتعلق بهذا القلب الذي كثر فيه في هذا العصر الظلمات وتكالبت عليه الشبهات وغشيته الشهوات وتزينت له المحرمات وواجهته كثيرٌ وكثير من الفتن العظيمة، كيف نحافظ على وضاءته؟ كيف نحسن صيانته؟ أخبرنا النبي فيما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه)) أي: جاء أثرها من سوادها وظلمتها وانعدام تأثر القلب بالآيات وانعدام تأثر القلب بالمواعظ والشواهد الحية في واقع الحياة، ((فإن نزع واستغفر صقلت، فإن عادت زيد فيها حتى تعلو قلبه، وذلك الران الذي قال الله عنه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] )). فهذه فائدةُ عظمى.
من فوائد هذا الاستغفار أيضا، فنحن عندما نتأمل في هذه النصوص وفي تلك التطبيقات العملية في حياة رسول الله وأصحابه الكرام، على ما كانوا عليه من الفضل والسبق في أعمال الخير، وعلى ما كانوا عليه من الترفع من الدنايا والبعد عن الخطايا والبكاء على الذنوب ودوام التوبة والاستغفار، رأينا سوء حالنا وأدركنا خطر وضعنا، فنحن الذين نكثر الذنوب وكأنا قد أمنا العقوبة عليها، ونلهو ونسهو عن التوبة والاستغفار وكأننا قد استغنينا عنها. وهذا الحسن البصري يخاطبنا مرةً أخرى، ويقول مخاطبًا لذلك الجيل الذي كان فيه، ولذلك العهد لذي كان فيه من الخير والصلاح ما فيه، يقول: "لقد أدركت أقوامًا ـ يعني الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ـ كانوا أخوف أن لا تقبل منهم حسناتهم منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم". يقصد الذين يحدثهم، لستم في خوف من المحاسبة على السيئات وأنتم تعلمونها وأنتم ترونها وأنتم تقعون فيها، وقد كان القوم من قبلكم قد أمنوا هذا؛ لأنهم لم يقعوا في تلك المعاصي، ولكنهم عندهم خوف أعظم وهو أن لا تقبل منهم الحسنات، فأين نحن من هذه القلوب الحية والمواقف التي كانت في سير أسلافنا رضوان الله عليهم؟! بل أين نحن من أمر أعظم وأجل من هذا؛ أين نحن من هذه الرحمة الواسعة والنعمة العظيمة التي يقدمها الله لنا ويسوقها إلينا ثم نغفل عنها؛ كأننا لا نعظم ربنا، كأننا لا نفتقر إليه، كأننا لا ندرك عبوديتنا له سبحانه وتعالى، كأننا قد أدبرنا بظهورنا وأعرضنا بغفلتنا وسهونا وشهواتنا عن باب ربنا الذي فتحه لنا وعن دعائه الذي دعانا إليه من الاستغفار والتوبة الدائمة إليه؟! ولذلك قد قال أهل العلم في معنى هذه الأحاديث: إن الله عز وجل قد فتح الباب لعلمه بطبيعة العبد، وأنه يحتاج إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه قد ورد في الصحيح عند الإمام مسلم: ((إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: يا رب، أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله عز وجل لملائكته: علِمَ عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويؤاخذ به فاستغفرني، أشهدكم أني قد غفرت له، ثم أذنب ذنبا فقال: يا رب، أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويؤاخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له، ثم ثالثة فيعاد القول: فليعمل عبدي ما شاء فإني أغفر له)) ، وفي الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة)).
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلب
وهذا مصداق قول الله عز وجل في قصة آدم أن الله عز وجل هو الذي علّمه الكلمات: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37]، علّمه الاستغفار حتى يغفر له، فضل من الله سبحانه وتعالى عظيم، لماذا؟ لأنه يعلم طبيعة الإنسان وغفلته وما يقع منه من سهو، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان عليمًا غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز الغفّار، الواحد القهّار، مصرّف الأمور ومقدّر الأقدار، أوصى بالإحسان إلى الجار، ووفق من اجتباه ليكون من الأخيار، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيّد الأبرار، وعلى آله وصحبه المبرئين من الشوائب والأكدار.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، عباد الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه؛ وإن من التقوى دوام الأوبة ومتابعة التوبة والإكثار من الاستغفار، فإنها أبواب الرحمة الربانية التي فتحها سبحانه وتعالى فضلاً منه ومنةً على عباده، ولم يجعل لذلك حدًا ينتهي إليه ولا وقتا يتوقف عنده، فكيف بنا نغفل عن هذه الأبواب وعن هذه النعم؟! وكيف بنا نغفل فنغوص في أوحال المعاصي، لا ندرك ما يوقف عنا هذا الهوى وهذا الانزلاق، ولا ندرك الأسباب التي بإذن الله عز وجل نتوصل بها إلى الاستمساك بأمر الله والاعتصام به من تلك الزلات ومن وساوس الشيطان ونزغات الهوى ومضلات الفتن؟!
قد جعل الله لنا سبل النجاة، ورسم لنا طريق السلامة، فأين نحن منها؟! قد غفلنا عنها والله سبحانه وتعالى قد جعل الفضل عظيما حتى لا يتاعظم مذنب ذنبه. لكن هذا الاستغفار يحتاج إلى أن ندرك معانيه وأن نعرف حقيقته، فإن الله عز وجل قد قال في سياق الآية القرآنية: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. قال أهل العلم: "فيه دليل على أن الاستغفار المقبول هو الذي يقع به الإقلاع عن الذنب، مع استحضار الندم في القلب والاستغفار باللسان". وليس مجرد ذكر هذه الكلمات كما نسمع في أدبار الصلوات أصوات الصفير بحرف السين: "أس أس" ولا نسمع استغفارًا يستحضره القلب، ولا ندرك حقيقة ما نحن فيه من هذه المعاني.
وانظر إلى ذلك الاستغفار المأثور في أدبار الصلوات، فهذه الصلاة لا شيء فيها يستغفر منه، إن الاستغفار يبين لنا حقيقتنا؛ فنحن نستغفر في عبادتنا مما وقع فيها من تقصير وما وقع فيها من قصور عن الكمال، ومما وقع فيها من غفلة وسهوة قلب وعدم استحضار المعاني التي يجب استحضارها في تلك الصلاة أو تلك العبادة، وكل ذلك جبر، وكل ذلك إعانة، فإن في هذا الاستغفار تلك الفوائد العظيمة والمنافع الجليلة والأبواب الواسعة.
أخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن سول الله عن رب العزة والجلالة أنه قال: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض معصيةً ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتك بقرابها مغفرة)). فأي فضلِ أعظم من هذا؟! فهل يقابل هذا الفضل من الله بالاستهتار من العباد والغفلة ومزيد المعصية من المسلمين رغم ما أعطاهم الله عز وجل؟!
وانظر إلى جوامع كلم المصطفى ، كيف يجعلك تتعلم كيف تستغفر الله، ومن أي شيء تستغفر الله. إن بعض الناس اليوم إذا قلت له قل: أستغفر الله، قال: وأي شيء فعلت؟! سبحان الله! أما كان في قلبك خاطر سوء؟! أما مر بك نية غير سليمة؟! أما تلفظت بكلمة غير حسنة؟! أما فعلت فعلاً؟! أما نظرت نظرةً؟! كلنا ذاك الرجل المذنب.
فهذا رسول الله يدعو بهذا الدعاء الخاشع الجامع الذي يرويه الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عن رسولنا أنه كان يدعو فيقول: ((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءِ قدير)). فنسأل الله عز وجل دوام المغفرة.
عباد الله، اجعلوا القلوب حجةً حاضرة، واجعلوا لكل ذنب أو غفلة استغفارًا وتوبة، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل ذلك، ويجعل من وراء ذلك خيرًا في تفريج هموم الدنيا وتكثير أسباب الرزق فيها، ويجعل من وراء ذلك خيرًا في دفع العذاب ورفع المصائب عن المسلمين، فإنهم ما استغفروا الله إلا رفع الله عز وجل عنهم من البلاء، كما ورد في الأثر: ((إن الدعاء والقضاء ليعتلجان فيما بين السماء والأرض؛ فإنه لا يرد القضاء إلا الدعاء)) ، بقضاء قد أحكمه الله عز وجل وكتبه في اللوح المحفوظ.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى ما تبتغون من أمور الدنيا، وإلى ما يعرض لكم من مصائبها، فاعلموا أن أعظم الأسباب هي أسباب الطاعة وأسباب الإنابة والاستغفار لله سبحانه وتعالى.
يا كثير العفو عمّن كثر الذنب لديه
جاءك الْمذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيفٌ وجزاء الضيف إحسانٌ إليه
والله عز وجل لا يخيّب من دعاه، ولا يرد من رجاه؛ لأنه سبحانه وتعالى قد فتح الأبواب وجعل رحمته أوسع وأعظم من غضبه وأسبق من غضبه سبحانه وتعالى.
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي أريد لإسرافي فإني لتالف
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل ما رزقتنا عونًا لنا على طاعتك، إنك خير مسؤول.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا...
(1/5088)
سعد بن معاذ
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التسلية بقصص العظماء وسيرهم. 2- عظمة الكرسي والعرش. 3- اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ. 4- دعوة سعد قومه إلى الإسلام. 5- موقف سعد من قريش. 6- موقف سعد من اليهود. 7- سعد بن معاذ في قبره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى كان يسلّي نبيه محمدا بالقصص وسير العظماء من الأنبياء؛ وذلك من أجل تخفيف آلامه وهمومه. وإننا في زمن نعيش فيه همَّ المؤامرة الكبرى على الإسلام والمسلمين، ومن هنا رأيت أن نتسلى جميعًا بذكر جزء من سيرة أحد أصحاب النبيّ.
أيها المسلمون، وقبل أن أبدأ تأمّلوا معي جيدًا قول الرسول : ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)) ، والترس: شيء يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما. والكرسي هو موضع قدمي الله تعالى، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في فلاة من الأرض)) أي: في صحراء من الأرض. أخرجه ابن جرير. وأيضًا قال الرسول : ((ما الكرسي في العرش ـ يعني عرش الرحمن ـ إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)).
إذن السماوات السبع بكلّ ما فيها من كواكب وأجرام وأجسام لا تساوي شيئًا بالنسبة لكرسي الرحمن سبحانه وتعالى، والكرسي لا يساوي شيئًا بالنسبة للعرش، فإذًا كيف العرش؟! فلا شك أن البشرية كلها، بل إن الأرض كلها لا تساوي شيئًا يذكر بجانب العرش، ومع ذلك فإن هذا العرش بعظمته قد اهتز مرة، لقد اهتز هذا العرش لموت رجل من صحابة النبي ، لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، وشيعه عدد كبير من الملائكة، لم يجد النبي موضعًا يسير فيه إلا على أطراف قدميه ، فيا ترى ماذا فعل سعد ليستحق كل هذا التكريم؟!
لا شك ـ يا عباد الله ـ أن لهذا الرجل مواقف عظيمة، ولكني سأقتصر على ذكر ثلاثة مواقف فقط من مواقفه، فقد كان له مع قريش موقف، ومع اليهود موقف، ومع قومه موقف:
وأبدأ مع موقفه المشرف مع قومه: أخرج ابن إسحاق في السيرة قال: لما أسلم سعد وقف على قومه فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلامكم علي حرام رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله، ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا.
ونخرج من هذا الموقف بدرس عظيم وهو أن يهتم المرء بدعوة أقاربه وإصلاحهم كما قال تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]، ويتوجب الأمر أكثر في حق من كانت له مكانته عند أقاربه وقومه.
أما موقفه مع قريش: فإن قريشًا قد بلغها إسلام سعد، وقد تأثرت قريش لإسلام سعد، ففضلاً عن صداقته مع بعض زعمائهم قبل الإسلام، ظلت قريش تكن له العداوة منذ أسلم، وظل بعض رجالاتها ينتظرون الفرصة للقضاء عليه، حتى كانت غزوة الأحزاب رماه حبان بن العرقة بسهم في أكحله وهو يقول: خذها مني وأنا ابن العرقة، فرد عليه سعد: عرّق الله وجهك في النار، ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة، ويقصد ببني قريظة اليهود. ولقد استجاب الله دعوة سعد ، فما قدمت قريش إلى المدينة بعد الأحزاب، واندمل جرحه حتى مكنه الله من رؤية ما قرت به عينه لبني قريظة، ثم انفجر الجرح ونزف الدم، وكانت الشهادة لسعد بعد حكمه في بني قريظة. فما هو موقفه مع اليهود؟
أخرج البخاري ومسلم أن بني قريظة حين نقضوا العهد وحاصرهم الرسول نزلوا على حكم رسول الله ، فأرسل إلى سعد فجيء به محمولاً على حمار وهو متعب من جرحه، فقال له الرسول : ((أشِر عليّ في هؤلاء))، قال سعد : إني أعلم ـ يا رسول الله ـ أن الله قد أمرك فيهم بأمر أنت فاعله، قال الرسول : ((أجل، ولكن أشِر)) ، قال سعد : لو وليت أمرهم لقاتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم، فقال : ((والذي نفسي بيده، لقد أشرتَ عليّ فيهم بالذي أمرني الله به)).
لقد كان سعد أعرف الناس باليهود، وإن قومًا نكثوا عهدهم في أحلك الظروف ومع خير البرية لا ينفع فيهم إلا قطع الرؤوس، وقد كان حكم سعد موافقا لحكم الله من فوق سبع سماوات، وهذا الذي أقره النبي ونفذه.
وما أحوج الأمة اليوم إلى رجل بل رجال أمثال سعد يتعاملون مع اليهود بما يستحقون، فسعد لم يكن مجاملاً لليهود على حساب دينه، وكذلك لم يكن مجاملاً لأصدقائه من زعماء قريش، بل حتى لم يكن مجاملا لقومه وأهله، فصدع بالحق ولم يخش في الله لومة لائم، فاستحق لذلك أن يهتز عرش الرحمن عند موته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، وهذا السيد المجاهد البدري لم يسلم من أذى المنافقين ولمزهم، فلقد كان سعد رجلاً طويلاً بدينًا، وحين مات واحتملوا جنازته وجدوا له خفّة عجيبة، فقال المنافقون: والله، إنه لكان بدينًا وما حملنا أخف منه، وفي الرواية الأخرى وهي أصح إسنادًا فقال القوم: ما حملنا ـ يا رسول الله ـ ميتًا أخف علينا منه، قال: ((ما يمنعه أن يخفّ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا، لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معهم)).
أيها المسلمون، وسعد الذي اهتزّ عرش الرحمن لموته كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ، ومع هذا الجهاد والشهادة والمواقف العظيمة لم يسلم سعد من ضمة القبر، تلك التي لا ينجو منها أحد، قال جابر : جلس النبي على قبر سعد وهو يدفن فقال: ((سبحان الله!)) مرتين، فسمع القوم، ثم قال: ((الله أكبر، الله أكبر)) ، فكبروا، ثم قال: ((عجبت لهذا العبد الصالح شدِّد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرِّج عنه)).
فما أعظم الهول يا عبد الله، وإذا لم يسلم سعد من أهوال القيامة وهو بعد في أول منازلها، فكيف الحال بعرصات القيامة؟! وكيف الحال بمن هم دون سعد بمراحل؟! رحماك ربي ما أشد الهول!
ألا فاتخذوا لهذا اليوم عدّته، واستعدوا له بطاعة الله وترك الذنوب والمعاصي، وجددوا العهد مع الله بالتوبة الصادقة، ولا سيما وأننا نعيش زمن فتن متلاحقة، نسأل الله العافية والسلامة.
عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله...
(1/5089)
الرجل المبارك
الإيمان
فضائل الإيمان
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مباركة الله تعالى لعيسى عليه السلام. 2- معنى البركة. 3- بركة الرسول. 4- من بركات عمر بن عبد العزيز. 5- عبد الله بن المبارك رجل مبارك. 6- سبب قلة البركة. 7- أسباب البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم: 30، 31]، فيخبر عيسى عن نفسه بأن الله تعالى قد جعله مباركًا، أي: باركه فزاده الله في كلّ شيء. وفي هذه الآيات دليل على أن الله واهب البركة ومصدرها، ومعنى وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ أي: معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مرغبًا في طاعته، فهذه من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة.
عباد الله، إن للوحيَين دورًا كبيرًا في توجيه سلوكنا، فمن اهتدى وامتثل الشرع فلا نشك أبدًا بأنه رجل سيباركه الله، وسيكون ممن ينفع الله به البلاد والعباد، والبركة هي هبة من الله يهبها لمن حقّق شروطها، وليست بابًا مفتوحًا لكل أحد، فإذا توفرت فيك الشروط فهنيئًا لك فأنت رجل مبارك، والبركة قد تعم كل شيء، وتكون في المال والولد والوقت والعمل والإنتاج والزوجة والعلم والدعوة والدار والعقل والجوارح، ولهذا كان البحث عن البركة ضروريًا، فكان النبي يدعو في قنوته: ((وبارك لي فيما أعطيت)).
وكما هو معروف أن عمر العبد هو مدة حياته، ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره، ولذا كانت المعصية سببًا لمحق بركة الرزق والأجل، ولهذا شرع ذكر الله عند الأكل والشرب واللباس والركوب والجماع، لما في مقارنة اسم الله من البركة، وذكر الله يطرد الشيطان فتحصل البركة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة، فإنّ الله وحده هو الذي يبارك، والبركة كلها منه سبحانه، وكلّ ما نسب إليه مبارك، فكلامه مبارك، ورسوله مبارك، والعبد المؤمن النافع لخلقه مبارك، وبيته الحرام مبارك.
أنت ـ أيها المؤمن ـ لو تدبرت النصوص الشرعية لوجدتها داعية لك إلى بذل الخير للغير؛ ليباركك الله ويبارك لك فينتفع منك الآخرون. وأول المباركين هو رسولنا محمد ، فحينما أخذته حليمة السعدية لترضعه أصبحت دابتها أسرع الدواب بعد أن كانت هزيلة ضعيفة؛ لأنها كانت تحمل على ظهرها أفضل الخلق ، أما البهائم العجاف التي كانت تملكها حليمة السعدية فأصبحت تدر لبنًا كثيرًا ببركة محمد ، وحينما جاءت الرسالة بدأت بركاته تنهال على الناس، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يذهبون بصبيانهم إلى النبي ليباركهم ويدعو لهم ويمسح عليهم. ومن بركاته تكثير الماء وتكثير الطعام، فيأكل الصحابة الطعام ويخرجون والطعام كما هو، ومن بركته أنه كان يداوي مرضى الصحابة رضي الله عنهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما كان مع النبي في الغار فلدغته عقرب فتفل النبي على المكان الملدوغ فبرئ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا علي رضي الله عنه في يوم خيبر أصابه الرمد في عينيه فتفل النبي في عيني علي فقام وكأنه ليس به شيء، وهذا صحابي آخر يأتي إلى الرسول في إحدى الغزوات وقد خرجت عينه فذهب، يأتي وعينه في يده إلى الرسول ، فأخذها النبي بيده الشريفة ورد عينه في مكانها، فعادت أحسن مما كانت، فهذا هو نبينا الذي باركه الله، وقد مات وبقيت البركة في طاعته والتمسك بسنته ، وإننا لنرجو من الله أن يرزقنا شفاعة نبيه يوم القيامة.
أيها المسلمون، ومن المباركين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فقد كان حكمه عدلاً وعلمه بحرًا وخلقه حسنًا وعقله كمالاً وسمته جيدًا وسياسته حكيمة ونفسه زكية ولربه قانتًا خاشعًا، ومن بركة عمر في حكمه أن المال فاض بأيدي الناس فاغتنى الناس حتى أن الغنيّ يبحث عن فقير ليعطيه المال ويتصدّق عليه فلا يجد فقيرًا، فلا يبرح أن يرجع بماله، فقد كان عمر بن عبد العزيز رجلاً مباركًا في كل شيء؛ في عدله وعلمه وعبادته وصيامه وقيامه وذكره لله تعالى، ثم تأتي ساعة الفراق فيموت وهو يتلو القرآن عند قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]. ومن بركته أن فترة خلافته كانت سنتين وخمسة أشهر فقط، فعمّ العدل أنحاء الدولة الإسلامية، واغتنى الناس في فترة وجيزة.
ومن الناس المباركين عند الله ابن المبارك، بارك الله له فأحبه الجميع، فقد كان عالمًا مجاهدًا عابدًا صادعًا بالحق، وما من خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك. كان رجلاً مباركًا في ماله لأنه لم يكن يدخره لنفسه، بل كان يشكر الله على ما أعطاه فينفق على الناس، فكان إذا سافر مع مجموعة يطلب منهم أن يضعوا أموالهم معه، فيجمعونها عنده فيضعها في صندوق وينفق عليهم من أفضل أنواع الطعام ويلبسهم أفضل اللباس ويطلب منهم أن يشتروا لأهليهم، وبعد العودة يقيم لهم مأدبة ثم يخرج لكل واحد منهم ماله في منديله كما وضعه، لقد كان يتاجر ولكن للإنفاق على أهل العلم والعبادة، لقد كان مسخَّرًا لخدمة الناس ومساعدتهم، فكان يفك المحبوس على المال ويطلب من الدائن أن لا يخبره المحبوس ولا يعلم الناس بذلك إلا بعد موته رحمه الله.
أيها المسلمون، إن حياتنا اليوم قد ملأها التعقيد المادي لدرجة أنه أثّر على توحيدنا وطاعتنا ويقيننا بالله، فأصبح الناس يفعلون المعاصي بكثرة، فذهبت البركة من حياتنا، فترى المرء يقبض راتبه ثم لا يلبث أن يأتي منتصف الشهر إلا وليس عنده منه شيء، هل حاسبنا أنفسنا لماذا؟! ألا يمكن أن يكون تقصيرنا في علاقتنا بالله سببا لزوال هذه البركة؟! كان الفضيل يقول: "إني لأرى أثر معصيتي على خلق زوجتي ودابتي". فهذا الاعتقاد نتيجة لقوة إيمانهم، أما نحن فأمورنا كلها مادية، وليسأل كل منا نفسه عند حصول مشكلة لنا: ماذا ينقدح في أذهاننا ابتداءً؟ هل نربط بين المشكلة وبين تقصيرنا في حق الله؟ للأسف الواقع يخالف ذلك تمامًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلم، كيف تكون مباركًا؟ سؤال مهم، والجواب عنه يحتاج إلى أوقات طويلة، ولكن سأذكر بعض الأمور السريعة التي تجعلك مباركًا:
أولاً: دعاؤك الله بأن يباركك ودعاء الناس لبعضهم البعض، فقد كان الرسول يدعو للناس بالبركة، وعلمنا ذلك في مناسبات عديدة، فعندما يطعمك أخوك المسلم تقول له: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم، وعندما يتزوج المسلم تدعو له بالبركة: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير... وغير ذلك.
ثانيًا: البكور بأداء الأعمال وبخاصة صلاة الفجر، فتبدأ يومك بعبادة الله بصلاة مهمة، فعندها يبارك الله لك في كل شيء، ومن ذلك الرزق، قال : ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)).
ثالثًا: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره؛ فإنه لا بركة فيه ولا بقاء.
رابعًا: المداومة على الاستغفار لقوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
خامسًا: الإيمان الصادق بالله والبعد عن الذنوب الفردية والجماعية، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
سادسًا: الشرب من ماء زمزم، فهو ماء مبارك، وماء زمزم لما شرب له، فكان ابن حجر يشربه ليكون من الحفاظ، فكان له ما أراد، فما هي دعوتك عندما تشرب من ماء زمزم؟
سابعًا: التقرب إلى الله تعالى بالعبادات.
ثامنًا: البعد عن الشحّ والشره في أخذ المال، فقد قال النبي : ((فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع)).
تاسعًا: الصدق في التعامل بيننا عندما نتبايع، قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لها في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)).
أيها المسلمون:، هذا الذي سمح به الوقت، أسأل الله أن يبارك لنا جميعًا في أنفسنا وفي أعمارنا وفي أوقاتنا وفي أعمالنا وفي زوجاتنا وفي أبائنا وفي أولادنا وفي أمهاتنا، وأن يبارك لنا في أموالنا وبيوتنا وبلادنا وبلاد المسلمين وفي حياتنا كلها، وأن يبارك لنا في كل ما أعطانا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5090)
بناء الشخصية بين الإسلام ووسائل الإعلام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, التربية والتزكية, قضايا الأسرة
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شخصية المسلم. 2- بناء الشخصية بين الماضي والحاضر. 3- مقارنة بين الإسلام والإعلام في بناء الشخصية. 4- الإعلم الإسلامي الهادف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن من أفضل ما يكتسبه المرء في حياته الشخصية المتميزة، الشخصية المتوازنة، الشخصية المثالية، الشخصية التي يكون صاحبها مثلاً لكل من يراه.
أيها المسلمون، وإلى عهد قريب كان البيت هو الذي يشكّل شخصية أفراده، وكان المجتمع صغيرًا، عبارة عب بيت ومسجد ومدرسة، فكان هذا المثلّث هو الذي يشكّل شخصية أفراد المجتمع، وفي مجتمع مثل مجتمعنا كان هذا المثلّث يقتبس ما يبثّه للفرد من الكتاب والسنة ومن الآداب الإسلامية السامية، أما اليوم فقد دخلت بعض العوامل الخارجية والتي لها دور في التوجيه المنحرف، مع العلم أن الانحراف كان موجودًا منذ قديم الزمان، ولكنه تطوّر واتخذ أشكالاً أكثر إغراءً وتشويقًا، وقديمًا كان الانحراف محدودًا في بعض الأفراد ولكن المجتمع بعمومه كان متوجهًا بطبيعته للأخلاق الفاضلة، فكان الحيّ الواحد مثل الأسرة الواحدة، كلّ منهم يوجّه من شاء من أفراد الحيّ، أما اليوم فالبعض لا يستطيع أن يوجّه أبناءه فضلاً عن أبناء الحي. وفي السنوات القليلة الماضية ازدهرت التقنية وامتلأ العالم بها حتى دخل التطوّر كلَّ بيت واختلط الحابل بالنابل، حتى أفلت زمام القيادة من بعض الآباء والأمهات، فلم يعودوا يملكون نصح أبنائهم، والسبب هو أن الإعلام قد تولى زمام القيادة وبناء شخصيات الناس.
أيها الناس، كونوا معي في هذه المقارنة السريعة بين الإسلام والإعلام في بناء الشخصيات:
أراد الإسلام أن يبني شخصية الإنسان ليكون عبدًا لله وحده، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، والإعلام يهدف إلى أن يشتت قلوب الناس ليكونوا عبيدًا لكل شيء إلا الله، يهدف الإعلام من بثّ برامج الانحلال إلى أن يلهَث المسلم وراء كلّ طرق الإغراء التي تجعل الإنسان عبدًا للشهوات، وصدق الله إذ يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27]. نعم، إن كثيرًا مما يعرض في الإعلام يجعل الناس يميلون ميلاً عظيمًا عن الدين وعن الخلق، يميلون إلى تلك البرامج الخليعة والرقصات التي تهزّ الحجر القويّ فكيف بالقلب الضعيف؟! إن الفرد اليوم ينتقل بين دول العالم وهو في غرفته بلا رقيب إلاّ الله، فيحدث الصراع داخل النفس بين الخوف من الله وبين نزغات الهوى والشيطان، فمن أي الفرقين أنت؟!
أيها الناس، أراد الإسلام للفتاة أن تكون عفيفةً ممتلئةً بالحياء، حتى الكلام فتنة لها، فإذا أرادت أن تخاطب الرجال الأجانب فعليها أن تبتعد عن الليونة في الكلام، قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]. أما الإعلام فعلّمها أن تقول للمذيع: كيف حالك يا حبيبي؟! وأنت أكثر مذيع أحبه. فأين الآباء والأمهات عن هؤلاء البنات؟! هؤلاء البنات بنات من؟! هل هنّ بنات اليهود أم بنات النصارى أم بنات المجوس؟! لا وألف لا، إنهن من بناتنا نحن المسلمين.
أيها المسلمون، أراد الإسلام أن يبني الشخصيةَ المسلمة المتوازِنة التي تعطي كلّ ذي حق حقَّه، ((إن لربك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) ، فيكون المرء متوازنا، يتعامل مع من حوله بتوازن، يكون فعالاً في مجتمعه، مشاركًا لأهله وذويه ووطنه في السراء والضراء، يشعر بأفراحهم ويتألم لأحزانهم ويواسيهم ويهوّن عليهم مصائبهم. أما الإعلام فقد ربى بعض أفراد المجتمع ليكونوا سلبيّين، يتسمَّر الواحد منهم أمام التلفاز أو الكمبيوتر فلا يعرف أحدًا، وكثيرًا ما يشكو الآباء والأمهات اليوم من عدم رغبة الأولاد والبنات في المشاركة في اللقاءات الاجتماعية والأسرية؛ لأنهم شغلوا بالإعلام الذي أصبح يسيّرنا ولا نسيّره، فالواجب على الأسرة أن تحدّد لأفرادها أوقاتًا محدّدة للجلوس أمام هذه الأجهزة، ولا يترك الباب مفتوحًا في كل ساعة من ليل أو نهار، فبعض البرامج لا يمنع أن يشاهدها الأولاد بحضور والديهم؛ لأننا مسؤولون عن تربيتهم وتوجيههم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، من السمات الحسنة التي تميّز الإنسان وحرص الإسلام على بنائها في أتباعه الإيجابية في المجتمع؛ بأن يكون المرء عضوًا فاعلاً في مجتمعه، وقد دلت النصوص الشرعية على ذلك من أمرٍ بالتواصل مع القرابة وصلة الأرحام إلى الإحسان إلى الجار وتحريم أذيته، وقد أمر الله المجتمع كله بالتعاون على ما فيه خير الفرد والأمة، فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]، ولكن التربية الإعلامية تحثّ على التعاون على الإثم والعدوان ونشر الرذيلة في المجتمع، وأن يعيش الناس سلبيين في المجتمع؛ فلذلك تسمع كثيرًا من الناس يقولون: ماذا يجب أن يقدم لي الوطن؟ وقليل منهم من يقول: ماذا يجب أن أقدم لوطني وأمتي؟ كثيرة هي الأعمال الخيرية التي يحتاجها منك الوطن، وكم قدم لنا الوطن من خير كثير، فهل نرد له بعض الدَّين لنكون فعّالين مؤثرين والله تعالى يقول: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77]؟
أيها المسلمون، لقد جاء الإسلام بالهداية للناس، فردّ النفوس من الطرق المنحرفة إلى الطريق المستقيم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله خطًا مستقيمًا، وخط عن يمينه خطوطًا وعن شماله خطوطًا، فقال: ((هذا صراط الله، وهذه السبل، على كل سبيل شيطان يدعو إلى النار)) ، وتلا قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]، ولكن الإعلام هو الذي يظهر هذه السبل للناس، فيعلمهم طرقًا لم يكونوا يعرفونها من طرق المكر والخديعة والفساد، علّم الفتيان طرقًا مبتكرة في الجريمة، ودلّ البنات على أساليب للخروج، وأوجد لهم المبررات والغدر الكاذب، فأخرج لنا بعض المتمرّدين على الأسرة والمجتمع.
ومع كل هذا الفساد الذي يبثه الغرب إلينا كالسيل المنهمر إلا أن هنالك إعلامًا هادفًا يبني الأخلاق والقيم ويظهر العلماء والقدوات، ولإذاعة القرآن الكريم في هذه البلاد سبق في هذا المجال ولله الحمد، وأضيفت اليوم قنوات تحوي برامج أسريّة نظيفة وبرامج للأطفال هادفة، وبين ثناياها الدورات المفيدة في المهارات والأخلاق وغيرها مما هو مفيد، وأصبح واقعًا إعلاميًا موجودًا ولله الحمد، وهذا هو الذي ينبغي أن يشجَّع ويتابع؛ لأنه مما يبني شخصية الفرد بناءً صحيحًا، ويصوغها بما يفيد المجتمع في قوادم الأيام والأعوام.
أما أصحاب القنوات من المسلمين فنسأل الله لهم الهداية، فكم من قلوب دمروها، وكم من بيوت أفسدوها، وماذا سيقولون لربهم عندما يسألهم عن أموالهم؟ هل سيقولون: أنفقناها في إفساد أخلاق أمتنا الإسلامية؟! أنفقناها في إحلال الأخلاق الغربية الغريبة بدلاً من الأخلاق الإسلامية؟! وللأسف إن رأس المال مسلم والإدارة نصرانية، فماذا نتوقع من رجل غير مسلم يتولى إدارة قناة توجّه للمسلمين؟! والإجابة على هذا السؤال هو ما يشاهد اليوم وما يبثّ في هذه القنوات. فنسأل الله العافية والسلامة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمتَنا بسوء اللّهم فعليك به وامكر به يا رب العالمين، وأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميرَه يا رب العالمين...
(1/5091)
وفاق مكة المكرمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
28/1/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قضية المسلمين الكبرى. 2- نداء المصالحة والمسامحة. 3- الإشادة بجهود خادم الحرمين الشريفين في إيقاف النزاع بين الإخوة في فلسطين. 4- دلالات الوفاق. 5- واجب الأمة في هذا العصر. 6- حفريات اليهود في المسجد الأقصى. 7- تحذير الأمة من التفرق والاختلاف. 8- دعوة للثبات على المصالحة والوئام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسِكوا من دينكم بأوثقِ عُراه، فمن لزِم التقوى فقد أجاب داعيَ الله ولبى، واستعصى عن الأهواء والمضِلاّت وتأبَّى، ولم يزدَد من الله إلا قربى، وسَعِد في دنياه وأَربى، وسما رُوحًا وزكا قلبًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
أيّها المسلمون، قضيّتُنا الإسلاميّة الكبرى التي لن نملَّ فيها تردادًا ولن يكونَ ذِكرها مَهيَعًا مطروقًا مُرتادًا قضيةُ المسجد الأقصى المبارك، أولى القِبلتين وثالثِ المسجدَين الشريفين ومسرَى سيِّد الثقَلَين، قضِيَّتُنا التي يجِب أن لا تُغفَل في خضَمِّ النزاعات والصراعات وجديد الأزمات والتحديات، ولا يعزُبُ عن بال المحبِّ ذلك الارتباط العقديّ والشرعيُّ والتأريخيّ المتمثّلُ في قول الحقِّ تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1].
معاشر المسلمين، وإذ تسير أمّتُنا في ليلٍ من الأحداث داجٍ وتغدو على صفيحٍ ساخِن وهّاج وفي غواشٍ من التسلّطات والطغيانِ متلاحمَة وصفوف مشروخةٍ غير متراحمَةٍ، وصِفُوا بما شِئتم مما تَنطِق به دموعُ الحدَق وتُبرِئ عنه الغُصَص والحرَق، ينصِت التأريخ المعاصرُ ليسجِّل في طروسِ إصلاح ذاتِ البَين أسنَى شهادةٍ ودرّةَ رِيادة، ويسَّمَّع الكونُ الخاشِع ليدبِّج بقُلُبِ الذّهَب ما نافَ عن العادةِ، في عَزمَةٍ لم تَسَعها حدودُ الطموح، ولم يُثنِها عن مُناها التردّدُ والجموح.
إنها المؤاخاة والمصالحةُ والوِفاق والمناصحة، في مبادرة تأريخيةٍ موفَّقة من لدُن وليّ أمر هذه البلاد المباركة بين الإخوةِ الأشقّاء قادةِ فلسطين المجاهدة الأبيّة، تلك المبادَرَةُ الكريمة الأثَر السّاطِعة الحجولِ والغُرَر، التي استَعلَنَ فيها ناطقًا جهيرًا القولُ الشامِل العميم للمولى عزّ اسمه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10].
لقد نشَرت تلك الوقفةُ الإيمانيّة الحقَّ والحكمة على الفُرَقاء، وزرعَتِ البسمة بين الأوِدّاء، فآضَوا من العِداء إلى الإخاء، ومن الشحناء إلى الصفاء، ومن التبادُر والافتراق إلى التسامح والتعاوُن والوِفاق، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2].
أخا الإسراءِ والمعراج بينِي وبينك حبلُ أنهارٍ وطِيبُ
كلانا في فلسطينَ التَقَينا على هَدَفٍ لينهزِم الغريب
بحبلِ العروة الوثقى اعتصَمنا فلا عاش المخالِفُ والكذُوب
وهذا الحدَث التأريخيّ الذي انتشَت برحيقِة أمّةُ الإسلام وباركه دعاةُ الوفاق والسلام وهشَّ له رجال السِّلم والوئام لم يكن عَوضَ طَيفِ خَيال أو عَارِض حَال، إنما صدَر عَمَّن يُتَوَّج بجدارةٍ في ريادة الإصلاح المعاصر، من أحكَمَت رأيَه السِّنون، وعجَمَت حِنكَتُه عِداه فخابت منهم الظّنون، وشَيَّعت قلبه الواجدَ العقيدة وحقوقُ الإخوّة الإيمانيّة الوطيدة، فَتَجافى عن الحزبيّة والمذهبيّة، وسما بأمّتِه عن العصبيّة والطائفيّة، وسَلَّ فَضلاً مِن الله ومِنَّةً أضغَانَ الصدور، وعبَّأ القيادةَ الواعدَة بمحضِ النّصح الموفور والتوجيه الضارعِ الصادِق والأملِ اللَّهيف الرغيب؛ اهتداءً بقول المولى جل وعلا: لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].
نعم، ها هي مآثِر الإصلاح وآثارُه، وفاقٌ بين الأحبَّاء، وصلح بين الأشقّاء، وحقنٌ لزاكِي الدماء، إقالةٌ للعاثر وإشاعةٌ للمآثر وإذابَة للجليد في وئامٍ صادق فريد. وانتِظامُ حُرّاس الأقصى المبارك صفوفًا تسرّ النواظر كتألُّفِ الزَّهرِ الناضِر، وهذا هو وجهُ الفَيئة إلى واحةِ الائتلاف البنّاء الجديرِ بتغيُّر مَسَار قضيَّتِنا الكبرى جذريًّا إلى مراسِي العِزِّ والأمان والنّصر، النصرِ المؤزَّر بإذن الله لفلسطينَ السليبةِ الحبيبة. وحسبُ المصلِح رِضا وثوابًا قولُ المصطفى : ((ألا أخبرُكم بأفضلَ مِن درجة الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذاتِ البيت)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داودَ والترمذيّ.
لغة الوفاء ثلاثةٌ كلماتها فيها عن الحب الأصيل بيان
يسمو بها صدق الشّعورِ إلى الذُّرى ويزفُّ عِطرَ حروفها الوجدانُ
أمّةَ الإسلام، دعاةَ الإسلام، وهذا الوِفاقُ والتعاهُد والميثاق لهو رِسالة نورانيّة للعالَم أجمَع تكشِف بأنَّ دينَنا الإسلاميّ الأغرّ دينُ الفيأَةِ والإخاءِ والتسامح والصفاء، وأنَّنا أمّة حضارةٍ وتأريخ ودُعاةُ رسالةٍ ومُثُل وقِيَم لا تلين. نعم، في هذا الإنجاز الأخويِّ الباهر إيذان بانبلاج فجرٍ جديد في تأريخ قضايَانا المعاصرة، وبرهانٌ جليّ ظاهر على أنَّ نصرَ الله آتٍ لا محالة مهما ادلهمَّت الخطوب ومسَّ أمّتَنا اللّغوب واحلَولَكَت ساعةُ الغروب، ولكن إن قدَّمنا وقَد لذلك ناصِعَ الدلائل والأعمالَ الجلائل. وإنَّا لنخطُّها مُكبَّرة مكرَّرة؛ لِتغدُوَ في الأسماع مقرَّرة: غير مجدٍ ـ يا أمّةَ الإسلام ـ الشّجبُ والامتعاض والاستنكار والارتماض وأن تُرفَع التندِيدات في النائبات وتتعالى وتدَبَّج الاحتجاجات وتتوالى فحسب، فهَل دَفَع ذلك حَيفًا أو فلَّ لمعتَدٍ سَيفًا أو دَفع هَارِيةَ عادٍ أو سفَّهَ أمانيَ المحتلّ في مسرى خير العباد؟!
لا بدَّ للأمّة أن تخرجَ من سَمِّ الانفعال إلى صادِق الفِعال والامتثال، ولن يَبهضَ الباغي مثلُ أن يكونَ المسلم فعّالاً لا قوّالاً، صوّالاً لا جوّالاً، ذلِكم وأن تُتَّخَذ هذه الوَثبة العمَليّة الإيجابيّة التي تملَّينا فيها الانبلاجَ ومديدَ الانفراجِ الأنموذجَ المبجَّل والمثلَ الشرود في حلِّ قضيَّتنا الكبرى وسائر قضايانا الأخرَى عن طريق الإصلاحِ والائتلاف؛ فضلاً مِنَ الله ومَنًّا، لا باكتِساب مِنّا، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].
أيّها المؤمنون، لقد حَزَب الأمر، ولم يَعُد في قوسِ الأقوال منزَع، وآنَ لهذه الأمّة أن تترجِمَ آمالها إلى مبادراتٍ وأفعال، وأن تفيدَ من واقِعِها المأساويِّ المشجون بالمشاقّ والمتاعب والخطوبِ والمصاعِب وتدرِكَ بأوسعِ يقظةٍ ووعي أيَّ عالم مثخَن بالجراحات والتعديّات والطغيان تعيشُه، وأن تمتشِقَ كلَّ الجهودِ والإمكانات والأقلام والمشاعرِ والطاقات لنصرِ الأمة وسُؤددها، فهذه نيرانُ الغرائز والشّهواتِ في استِعارٍ وضِرام، وهذه الأهواء والأفكار المنحرفةُ والشبهات ترشُق الحقَّ ببَواطل السّهام، وتلك الطائفيّةُ والعِرقِيّة المقيتَة على رُعُونَاتها وأطماعِها تدكُّ من الأمّةِ أطنابَها وأوتادها، ناهيكم بالفصول الداميَة على ثرَى الرافدين، حيث سُمُّ الحرب الناقِع يستأصِل إخوانَنا في العراقِ الجريح، والواغِر يساوِمُه في قَضِيّته ويماكس، ويكايِدُه ويعاكِس، ويَزعم أنَّ له عليه يدًا مَمنونة، ووايم الله إِن في طيِّها إلاّ مُدى مَسنونَة، وكذا كلاليبُ التصدُّع والشقاق تقضِم أمنَ لبنان الشقيقِ، وهكذا أعداءُ الرّحمة والسلام وأصلالُ الاحتلال ـ عجَّل الحقّ حَينَهم وعَفّى أثَرَهم وعَينَهم ـ يتداعَون إلى العدوان عن قصد واتِّفاق، ويصدرون عن عهدٍ للخيانةِ ومِيثاق، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]. ولا نَخالها تلك المبادَرة الميمونة إلا غُصّةً في حَيزُومِهم وشَجى في حُلقومِهم، قد اشتفَت بها صدورُ المؤمنين، وفي الكلام العزيز المبين: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105].
إخوةَ الإيمان، وفي الوقتِ الذي اجتمع فيه قادَةُ فلسطين في رحاب بيت اللهِ الحرام لحلِّ أزمتهم ونصرةِ قضيَّتِنا وقضيَّتِهم تابعَ الغيورون بأسى بالغٍ يقضّ المضاجعَ وقلوبٍ تَغلي بالمواجِع وعيونٍ تهمِي بالمدَامِع ممارَساتِ الاستِفزاز الإجراميّ التي يقوم بها العدوّ الصهيونيّ الغاصب حول المسجد الأقصى المبارك، حيث تصَعّد الصّلفُ الأرعن القاتِم والنزَق المسفُّ الغاشِم بشكلٍ مذهل مروِّع، وذلك بتَصعيدِ الحفرِيّات والهَدم بجرّافَات الظلمِ والطغيانِ على سَمعِ العالم ومَرآه، وهذا الحدثُ الإجراميُّ المتسارِع الخطير الذِي يستهدِف مقاتِل التأريخ الإسلاميّ العريق وحضارتَه الخالِدة يُعَدّ سابِقَةً قَبيحة ومخالَفَة صريحةً لجميع الشرائعِ السماويّة وخرقًا صارِخا لجميع القوانين الدوليّة التي تعتبر المنطقةَ أَرضا محتلَّةً مغصوبَة، وأنها بشهادةِ الشرائع والتأريخ حقٌّ خاصّ للمسلمين لا يعدُوهم، لا يقبَل المماحَكَاتِ والتّنازُلات، ولا يخضَع للمساوَمات والمزايَدات.
وتَلَفَّتَ الأقصى وفِي نظراتِه ألم وفِي ساحاتِه غَليَانُ
والقدسُ أرمَلةٌ يلفِّعُها الأسى وتميتُ بهجَةَ قَلبِها الأحزان
ولذا فإنَّ الأمة الإسلاميّةَ جمعاء تعطِف وتؤكِّد دعوةَ خادم الحرمين الشريفين ـ وفّقه الله ونصَر به دينَه ومقدَّساته ـ للقياداتِ الفلسطينيّة للوحدةِ الفاعلة والتحرّك الإيجابيّ الأمثل؛ لأجل ردِّ العدوان عن الأرض المباركة وإيقافِ استفحال الهدم والحفريات المتبَّرةِ، وتناشِد جميع القادةِ والدولِ والشعوب والهيئات والمنظمَات الإسلاميّة والدولية لكفِّ يدِ الباطش الغاشم الذي يستهدِف شموخَ الأمّة في عمق تأريخها ورمزِ هويَّتها وأسِّ ثوابتها وأغلى مقدساتها، وتتطلَّع إلى دعوة علماءِ الأمّة ومفكِّريها وجميع وسائل الإعلام وحملةِ الأقلام للتصدي لهذه الجريمةِ النكراء وهتك أستارِها وأخبارها بكلِّ ما أوتُوا مِن أجندةٍ وقوَّة؛ مؤازَرَةً للشعب الفلسطينيّ الصامد الباسل الحبيبِ الأبيّ المجاهد المناضل.
شَعبٌ فِلسطينُ العزيزة أنبَتت فيه الإباءَ فلم يصِبه هوانُ
شعبٌ إذا ذكِر الفداء بدا له عزمٌ ورأي ثاقِب وسِنان
شعورًا بروحِ الجسدِ الواحد، واحتِواءً على هدًى وتعقّل وبصيرة لهذه المحنَةِ القَاتمة القاصمةِ، إنها الحفريات، وماذا بعد؟! إنها الحفريات ونقضُ العهد، فماذا بعد؟! ماذا بعد؟! ولئن استغاثَ الأقصى فلم يجِد إلاّ الصمتَ المطبِق أمام هذا الخطر المحدق، فللأقصى ربٌّ يحميه، اللّهمّ سلِّم سلِّم.
لنا أرض مباركة دهاها من الأعداء عدوان رهيب
سمعتُ مآذن الأقصى تنادي وفي البيت الحرام لها مجيب
وآمالُ الأمّةِ بعد الله معقودَةٌ بعبدِ الله وإخوةِ عبد الله وشعبِ عبد الله، فهنيئا لعبدِ الله، وهنيئًا للأمّة بعبد الله، فادعوا لعبد الله، ادعوا لعبد الله، من وفّى بحقوقِ الأخوَّةِ وأتمّ، وانتَشَل كبرى قضايَانا من بركانٍ ألمَّ، فبارَك الله مساعيَه، وضاعف مثوبتَه، وبُوِّئ عن صالحِ إمامته من الجنانِ منازلا، ولا زالَ لسائرِ قضايا المسلمين كمِيًّا مُنازِلا.
يا قدسُ لا تأسي ففي أجفانِنا ظلُّ الحبيب وفِي القلوب جِنان
من يخدم الحرميْن يأنف أن يرى أقصاكِ في صلفٍ العدو يهانُ
يا قدس صبرًا فانتصارك قادم والْخصمُ يا بلَد الفداء جبان
ويا أمّةَ الإسلام والاعتصام، حذارِ مِن التفرُّق والانقسام؛ ففيهما ـ وايم اللهِ ـ الموتُ الزّؤام، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
يا أمّتَنا، إن جدّدتِ العهدَ بالوحيَين عوفِيتِ من خطر الآراء وتسلُّط الأعداء ومهازلِ الأهواء، وترقَّيت صُعُدا بأمضى الهِمَم إلى أسمَق الأمجادِ وعالي القِمَم، وما ذلك على الله بعزيز.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
نَفَعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم والذكرِ الحكيم وبهديِ سيّد المرسلين، وألهمنا الاعتصامَ بحبله المتين، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان توّابًا غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
نَحمَد الله بجميعِ المحامِد والأوصافِ، ونثني عليهِ بما أولى من نِعمٍ وأسدَى من أَلطافٍ، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةَ خضوعٍ واعترافٍ، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورَسوله خيرُ من دعا للتآخي والائتِلاف، صلّى الله وسلّم وبَارك عليه، وعلى آلِه أولي المحبّة والتَّصاف، وعلى صحابته أئمّة الهدى والإنصاف، ومن تبِعهم بإحسان إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وكونوا ـ رَحمكم الله ـ على التآخي أَنصارًا وأحلافًا، وانفِروا إلى وحدتكم وألفَتِكم ثقالاً وخِفافًا؛ يوطَّأ لكم من العزّةِ أكنافًا، وتُبوَّؤوا من الجنة ألفافًا.
إخوةَ الإسلام، وبعد أن أتمَّ الباري مِن قضيّة الأمّة الأولى وقضيّة الأشقّاءِ مواقعَها وأنهَضَ كابِيَها وجلَّى مواقِفَها يأتي شأنُ الحِفاظِ على تلك المبادرةِ الصادقة والثباتِ عليها وتفعِيلها، فلن تخيَّب بإذن الله آمالُ أكثرِ مِن مليارِ مسلم، وأَن تؤخذَ بقوّةٍ واعتزازٍ واعتقاد وبَسالةٍ وحزم واعتِداد؛ لأنها نِبراس التّحَوُّل من الضَّعف إلى القوّة ومن الإحباطِ إلى التّفاؤل، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، مَع مَا يُرَجّى عمومًا من استِلهام العِظاتِ والعِبَر من كون تلك الأحداثِ الداكنَةِ أبهجَت المنافقين والأعداءَ، ومكَّنت لهم تأريثَ نارِ الكراهية والتعصّب والبغضاء، وسَرَّهم أن تظلَّ ـ وهيهات ـ أمّةُ الفتوحات والنّصر والأمجاد عن القوّة والعزّة في إيصاد، مستَصحبين ـ يا رعاكم الله ـ نُصبَ أعينِكم أنَّ لكم في كلِّ غَمرة من غمَرات الجهاد روحًا تجلّ عن الحزازات وبطولات تسمو عن المآرب والنزاعات وتأريخًا سُطِّر بِعَبَق الدّماء وأثِّلَ بمفاخِرِ الأجداد والآباء، فاثبُتوا ـ يا أحبَّتَنا ـ على مبدَأ الوَفاء ومِيثاقِ الوَلاء، ولتَسلَمي ـ يا مَهدَ الرسالات والأنبياء ـ مِن مكائِد الأعداءِ الألدّاء.
يا جيرَةَ الوطنِ المقدّس جدِّدوا روحَ المودَّةِ بعد طول جَفائِها
أمُّ القرى بَسطَت رداءَ مودَّة والْخير يكمُن فِي لفِيفِ رِدائِها
ناداكم الْملِك الذي عَزَماتُه تدعو النّفوسَ لصفحها وصفَائها
يُساق ذلك ونحنُ أحوَج ما نكون تطلُّعًا إلى البَصيرةِ النافذة إلى التحدّيات السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي سوَّقها المستَجِنّ بالمصطلحات المذؤومَة والشعارات الصدِئةِ المهزومة، ويا حبّذا ثم يَا حبَّذا ما يؤمِّلُه الغُيُر مِن إخوانهم من التحقّق بالإخوّة الإسلاميّة والرّابطة الإيمانيّة على صَعيدِ الوقائِع كافّة تراحمًا وتآزُرًا وتعاونًا وتناصُرًا، صدًّا لظلم الباغِين الغاصبين، واستِشرافًا للنّصرَ المكين، واستثمار الأحداث ألمًا وأمَلا في نهضةِ الأمة من كبوتها وصحوتها من غفلَتِها وعَودتها إلى دينِها وتمسّكِها بعقيدَتها والتجائِها إلى بارِئها واتِّباعها لحبِيبِها ونبيِّها ونصرَتها لرسالتها، وبذلك تسهِم الأمّة قيادةً وعملاً وسُلوكًا وأمانَة ومسؤوليّة في الظفَرِ والظهور مهما انآدتِ العَقَبات وتراكَمَت المعوِّقاتُ، واللهُ من وَراءِ القصدِ وهو يَهدِي السّبيل.
هذا، وقد قال المولى قولاً كريمًا، ولم يزل قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة نبيِّنا محمّد بنِ عبد الله، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الرّاشدين والأئمّة المهديّين الّذين قضوا بالحق وبِه كانوا يعمَلون: أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعليّ، وعَن سائر الصّحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5092)
والله متم نوره
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
28/1/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيد الأعداء للإسلام وأهله. 2- الحرب على الإسلام وأهله عبر التاريخ. 3- سوء عاقبة قوى الشر والطغيان. 4- المستقبل للإسلام وأهله. 5- حفظ الله تعالى لهذا الدين. 6- طريق العزة والتمكين. 7- خطر التنصل من أحكام الإسلام وأخلاقه. 8- أخطار تهدّد الأمة. 9- محاسن الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكُم ونفسي بتقوَى الله جلَّ وعلا، فتقواه طريقُ النصر وسبيلُ الأمن في الدنيا وفي الآخرة.
معاشرَ المسلمين، منذ فجرِ الإسلام وأعداؤُه يريدون أن يطفِئوا نورَه ويطمِسُوا وحقائقَه، يسعَون ما أمكَنَهم بالمعاداة للإسلام، يبغون له الغوائلَ ويحيكون الخططَ والمؤامرات للصدِّ عنه؛ بالمقالات الفاسدة والفعال القبيحة، تتكالب جهودُهم وتتواصل مساعيهم لصدِّ المسلمين عن دينهم وإبعادهم عن عقيدتهم، حتى وصَلَ بهم الأمرُ إلى قول قائلهم: "تبشيرُ المسلمين يجب أن يكونَ بواسطة رسول من أنفسِهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرةَ يجب أن يقطعها أحد أبنائها".
جهودٌ متواصلة من أعداءِ الإسلام على مرِّ الأزمان، تتلوَّن أشكالُها وتتِّفِق حقيقتُها على هَدَفٍ واحد: تفتيتِ عقيدة الإسلام وهَدمِ كيانِه واقتلاع جذوره ومَسخِ شخصيّة أهلِه، يقول جلَّ وعلا: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
أَعداءُ الإسلامِ يجلِبون بخَيلِهم وَرَجِلهم لِتجنِيدِ الحمَلاتِ المسلَّحة بسِهام الشّهواتِ وسمومِ الشّبُهات؛ لِتعيثَ في قلوبِ المسلمين فسادًا وفي دِيارهم خرابًا ودمارًا، يقول جلَّ وعلا: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109]، ويقول عزَّ شأنُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].
إنَّ أخبارَ التأريخ المتواتِرةَ وحوادثَ الزمان المشتهرة تخبِرنا أنَّ الإسلام لم يزَل يُناوَش من قِبل الحاقدين بالسهام من كلِّ جانب، ويقاسِي الخطوبَ والشدائد من كلِّ شيطان مارد. ففي القَرنِ الأوّل لا ينسى المستَقرِئ ما جرَى في حروبِ الردَّة وما وقع من قتلِ الخلفاء الراشدين: عمرَ وعثمان وعليّ رضي الله عنهم؛ ممّا يحمِل أشدَّ العداء للإسلام وأعظمَ الكيد لأهله، ولا يعزب عن البالِ ما أُدخِل على المسلمين من فِتنِ الفلسفَاتِ الإلحادية والسفسَطاتِ العقليّة التي أحدثَت فتنَةَ القولِ بخلق القرآن وما جرى بسبَبِها للأئمّة الأعلام.
وفي التأريخ تلوحُ للذّاكرة حروبُ التتار وما جرَّته من خرابٍ ودمار وسفكٍ للدماء، بما لا يحيط به بيان ولا يصِفه لسانٌ، حتى سقَطَت بغداد وقتِل خليفة المسلمين، لولا أن مَنَّ الله على المسلِمين بالظّفَر والنصر المؤزَّرِ في معركة عين جالوت.
لا تَنسى ذاكرةُ التأريخ حضارةَ ثمانية قرونٍ في الأندلُس وما وقع على المسلِمين من قتلٍ وتعذيب وإجبار على تركِ دينهم وما تَبِعَها من أحداثٍ سطّرَتها صفحاتُ التأريخ وصوَّرتها مقالاتُ الأدباء وسجَّلَها شِعر الشّعراء.
أيّها الناس، ومعَ مرور اللّيالي والأيّامِ تتواصل حلَقات العِداء فيأتي على المسلِمين بما يُعرَف عند المؤرِّخين بالحروبِ الصليبيّة التي جاءَت بقضِّها وقضيضِها على نحوِ قَرنَين من الزّمان حتى مَنَّ الله على المسلِمين بعودةِ القدسِ بعد تسعين عامًا من الاحتلال.
معاشرَ المسلمين، ولا ننسَى العصورَ المتأخِّرةَ وما يحصُل للإسلام وأهلِه، تكالَبَت المكائِدُ ودُبِّرَت الحفَائِر، قُتِلَ المسلمون، واحتُلَّت بلدانهم، وفُرِضَت عليهم غيرُ شريعتهم، وذلك في حقبة ما يُسمَّى: الاستعمار، وهو في حقيقتِه الخراب والدّمار الذي عانى منه المسلمون المصائبَ العظمى والكوارثَ الكبرى، ولا يزالون يُعانون.
هذه قِراءَةٌ موجزة عمَّا لاقاه ويلاقيهِ الإسلامُ وأهلُه، ولكن حقيقةٌ لا تتبدَّل وسنّةٌ إلهيّة لا تتغيَّر أن القوى الشرِّيرةَ والتي تريد الإسلامَ سُرعان ما تَنهار وتندَحِر قوَّتها وتزول دولتُها وتذهَب ريحها، فالله جلَّ وعلا وهو ربُّ الخلقِ يقول في محكَم التنزيل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18]، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد: 17].
أيُّها النّاس، الإسلامُ هو دِينُ الحقِّ الّذي أرادَه الله أن يبقَى خالِدًا مخلَّدًا مهما كادَه الكائدون وعادَاه الحاقِدون، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7، 8].
سيَبقَى الإسلامُ طودًا شَامخًا وجَبَلاً راسِخًا، لا تزعزِعُه الرياحُ مهما كانت قوّةُ عاصفَتِها، فالإسلامُ أرسَخُ قدَمًا وأثبَتُ جُذورًا وأعمَق أصولاً مِن أن تؤثِّرَ فيه الأباطيلُ أو تزَعزِعه قوى البشَر، بل ستظلُّ شمسُه تمتدّ ويسطَع نورُه، قال سبحانه: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال: 18]، فهو مُضعِفُ كيدِهم وجاعِلٌ مآلَهم في تَبارٍ ودَمار، يقول سبحانَه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
ثبت في الصحيح عن رسولِ اللهِ أنّه قال: ((إنَّ اللهَ زوَى ليَ الأرضَ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ ملكَ أمّتي سيبلُغُ ما زُويَ لي منها)) ، وروى الإمام أحمد عن تميم الداريّ عن النبيِّ أنه قال: ((ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدرٍ ولا وَبَر إلاّ أدخله هذا الدينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو ذلّ ذليل، عزًّا يعزّ الله به الإسلامَ، وذلاًّ يذل به الكفرَ)) ، وكان تميم يقول: قد عرفتُ ذلك في أهلِ بيتي، لقد أصاب من أسلَمَ مِنهم الخيرُ والشرَف والعزّ، ولقد أصاب من كان كافرًا منهم الذّلُّ والصغار والحزن.
أيَها المسلمون في كلِّ مكان، دينُكم تكفَّل الله بحفظِه ووعَد بعلوِّه على الدينِ كلِّه وضمن بنصره: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، يعليه بالحجّةِ والبرهان، ويظهر أهله بالسّيفِ والسنان.
معاشرَ المسلمين، إنَّ المسلمين لا نصرَ لهم ولا عِزَّ ولا مجدَ ولا رِفعة إلا بالله سبحانه والالتجاءِ إليه والاعتماد علَيه، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50]. أهلُ الإسلام لهم الظهورُ والقَهر ما قامُوا بهذا الدين واستناروا بنورِه واهتدَوا بهديِه، ومتى ضيَّعوه واكتفَوا منه بمجرَّدِ الانتساب إليه صارَ إهمالُهُم لَه سبَبَ تسليطِ الأعداء، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51]. لا تنقَشِع غمّةٌ ولا تنقَلِع كربة إلا بإذنِ الله ثمّ بسبَبِ العودة للدّين. كان صلاحُ الدين يمرّ على الخِيَم، فإذا سمع من يقرأ القرآنَ ويسبِّح الله ويذكُره يقول مقالَتَه المشهورةَ عند المؤرِّخين: "مِن ها هُنا يأتي النصرُ".
إنَّ الحقائقَ التي أخبر بها القرآنُ وحدَّثتنا بها السنّة وعلَّمتنا إياها صوارفُ الزّمان وحوادِثُ التأريخ تتضمَّن أنَّ على أهل الإسلام أن يعلَموا ويتعلَّموا أنه لا خطرَ على الإسلام وأنَّ الإسلام قوّةٌ لا تقِف أمامها قوّة، ولكن الخطرُ علَى أهلِه مَتى ابتعَدوا عنِ الإسلامِ وكانوا بمَنأًى عَن تعالِيمِه، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]، وأمّا متى تولَّى المسلِمون عن نُصرةِ دين الله وإقامةِ شريعتِه فإنَّ الله جلَّ وعلا يستبدِلُ بهم مَن هو [خيرٌ منهم]، فإنَّ الله جلّ وعلا يقول: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]، أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19، 20].
إنَّ على أبناءِ الأمّة الإسلاميّة السعيَ الحثيثَ إلى التمسُّك بالإسلامِ الحقِّ عقيدةً وشريعةً ومنهجَ حَياة، أخلاقًا وسلوكًا، أمرًا ونهيًا. أخرج الإمام أحمد في الزّهدِ وأبو نعَيم في الحِلية عن التابعيّ الجليل جبير بن نفير قال: لما فُتِحت قبرص فبكى بعضهم إلى بعض رأيتُ أبا الدرداءِ جالسًا وحدَه يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله؟! قال: ويحك يا جبير، ما أهونَ الخلقَ على الله إذا هم ترَكوا أمرَه، بينما هم أمّةٌ قاهِرة ظاهرة لهم الملكُ تركوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى.
إنَّ على أبناء الإسلام وأجيالِ المسلمين وشبابهم أن يعتزُّوا بدينهم، وأن يحذَروا من الانهزامِ الداخليِّ، وأن [يحافِظوا] على أصالَتِهم، ويفخَروا بأحكام الإسلام، وأن يستعلوا بها على كلِّ ما خالفها من نُظُم ومناهجَ، قال في الحديث الصحيحِ: ((الإسلامُ يعلو ولا يُعلى عليه)). روى الحاكم من طريق ابن شهابٍ قال: خرج عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشامِ ومعه أبو عبيدة، فأتوا على مخاضَة وعمر على ناقَتِه، فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعها على عاتِقِه وأخذ بزمامِ ناقته فخاض بها المخاضةَ، فقال أبو عبيدةَ: يا أمير المؤمنين، أنت تفعَل هذا؟! تخلع نعليك وتضعُها على عاتقك وتأخذ بزمامِ ناقتِك وتخوض بها المخاض؟! ما يسرّني أنّ أهلَ البلد استَشرَفوك، فقال عمر: أوَّه، لو يقُل ذا غيرُك ـ يا أبا عبيدةَ ـ جعلتُه نكَالاً لأمّةِ محمّد ، إنّا كنّا أذلَّ قومٍ فأعزَّنا الله بالإسلامِ، فمهما نَطلُب العزَّ بغيرِ ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله. والأثر صحيحٌ عند المحقِّقين.
إخوةَ الإسلام، أعظمُ ما يواجِه أجيالَ المسلمين التنصُّلُ من أخلاقِ دينهم والاغترارُ بأخلاق أعدائهم، فتلكم انهزاميّةٌ فكرية خطيرةُ العواقب سيِّئة الآثار، يقول ابن خلدون: :المغلوب مولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه وسائر أحواله وعوائده".
إنَّ على المسلمين جميعًا أن يعلَموا أنَّ الإسلامَ هو القوّةُ التي لا تضعُف، وأنه السبَب الذي يجمَع ولا يفرِّق، وأنه حبل النجاةِ الذي لا ينقطع ولا يتبدَّل. فعلى المسلمين أن لا يستسلِموا للوهنِ ولا يسيطر عليهم اليأس من الواقع، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
إنَّ الأمّةَ بحاجةٍ إلى أن تنتَبِهَ من غفلَتِها، وأن تستَيقِظَ من نومها، وأن تجمَع شتاتها، وأن تنفخَ روح الإيمان في جذرِ قلوبها، فهي أمّةُ الخير التي لا تقودُ إلا باسم الله وباسم الإسلامِ والإيمان، مِفتاح خَيرِها أحكامُ الإسلام، فبِذلك تتخطَّى العقبات وتصنَعُ المستحيلات وتنشِئ البطولات، فإنَّ الحلولَ المستوردَةَ والأنظِمةَ المتَسوَّلةَ والإصلاحاتِ المُعارَةَ تجرّ على الأمّة الهزيمة والعارَ والنّكَسات والوَكسات والتفكّكَ الاجتماعيَّ والاضطرابَ الاقتصاديّ والفساد الأخلاقيّ والتحلُّل الأسريّ.
إنَّ الأمّةَ تعاني من أخطارٍ تهدِّد أمنَها الفكريّ وأمنَها العسكري والسياسيَّ والاجتماعي والأخلاقيّ؛ ولذا فلا وصولَ لها إلى المأمَنِ والأمنِ الشّامِل إلا بالإيمانِ الصحيح والعمل الصالح، فربها يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
إنَّ أمّةَ الإسلام اليومَ قادِرةٌ بهذا الدِّين على أن تحتَفِظ بشخصيَّتها، وقادرة على أن يكونَ لها مكان تحت الشّمس أمّةً وسطًا لها السّيادة والعِزّةُ والمجد والسؤدَد، إنها الأمّة التي تملِك أقوى ما في الدّنيا، تلك القوّة الروحيّة، وهي الرسالة الخالدة رسالة الإسلام التي هي سفينةُ الإنقَاذِ وحَبل النّجاة، لكن لمن وَعَى حقَّ الوعي وفهم تمامَ الفَهم.
إنَّ الإسلام الحقّ الشامل الخالِص السالمَ من الشوائب والزوائدِ والفضول والبِدَع هو الذي يجعَل المسلمين في أعلَى القمّة في الدنيا والآخرة، يقول : ((لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً على أمرِ الله، لا يضرّهم من خالفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتيَ أمرُ الله وهم ظاهِرون على الناس)).
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعنا بما فيه من الهديِ والبيان، أقول هَذَا القولَ، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلَى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، تمسَّكوا بتقوى الله جلّ وعلا سرًّا وجهرًا ليلاً ونهارًا، فتلكم وصيّة الله جل وعلا للأولين والآخرين.
أيّها المسلمون، إنَّ الإسلام دين البشريّة، جاء ليصلِحَ الدنيا والدين، ليقيمَ للبشريّة حياةً مثاليّة ينعَم بها الإنسانُ ويسعَد دنيا وأخرى. جاء الإسلام ليخرجَ الناس من الظلمات إلى النور، مِن الجَور إلى العدل، من الضِّيق إلى السّعَة، لا يعرِفُ حروبًا عدَائية ولا نزعاتٍ عنصرية، بل دعوتُه تحقيق العبوديّة لله وحدَه والخضوع له سبحانَه والتذلُّل له وحدَه، شريعةٌ تقوم على الإحسان، أحكامُه تدور على الرّحمة بجميع الأنام، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]، لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8].
الإسلامُ يُنادي بالسّلام، يقِرّ التحالُفَ علَى الخير والتعاوُنَ على الصالح العامّ، يوجب على أتباعِه الوفاء بالعهد والالتزامَ بالوعدِ حتى مع غيرِ المسلمين، بل حتى معَ الأعداء، يأمُر بمبادئ الخير والفضيلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا [المائدة: 8].
فيا أمّةَ الإسلام، أنتم أهلُ الإسلامِ والسّلام، أنتم أهلُ العدل والإنصَافِ، أنتم أهلُ الوفاءِ وبَذل الخير والندَى، دينكم دينُ الأخلاق، عقيدتكم عقيدة المساواة واحترامِ حقوقِ الآخرين، فابذلوا للعالمين أخلاقَ الإسلام، واعكسوا بحياتكم مُثُل الإسلام العُليا ومَبادِئَه العُظمى وأخلاقَه الفُضلى.
ثمّ إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم تزكو به دنيانا وأخرانا، ألا وهو الصّلاة والسلام على النبيِّ الكريم.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديّين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ...
(1/5093)
وفاء الرسول لخديجة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الزواج. 2- مواقف للرسول مع زوجه خديجة. 3- وقوف خديجة رضي الله عنها ومؤازرتها للنبي. 4- حسن العهد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، حينما شرع الله الزواج جعله سكنًا؛ يسكن الرجل لزوجته وتسكن المرأة لزوجها، والزواج أمر ديني يستقر الرجل فيه والمرأة كذلك، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21]، يرحم الزوج زوجته، وتتودّد المرأة لزوجها؛ ليكون البيت هادئًا مستقرًا ومطمئنًا.
فهذا هو الأصل، لكن الواقع اليوم وللأسف قد اختلف كثيرًا، نجد بعض النساء يشتكين من أزواجهن ومن سوء التعامل ونكران الجميل، وكذلك الأزواج يشتكون من الزوجات.
واليوم سأقف معكم بعض المواقف للرسول مع زوجته خديجة رضي الله عنها، فقد كان الرسول قبل أن ينبَّأ يعيش في مكة، وعرف عند أهلها بالأمانة والصدق، وكانت خديجة تملك مالاً كثيرًا، ولم يكن لها من يرعى تجارتها، وكانت تبحث عن رجل تثق به ينمي لها مالها، فوقعت يدها على محمد ، فأرادت أن تجربه لعلها تجد فيه ضالتها، فاتفقت معه على أن يخرج في تجارة لها إلى الشام، ووعدته أن تعطيه مالاً وفيرًا أكثر مما تعطي غيره، وأرسلت معه غلامها ميسرة، وقد رأى من العجائب مع محمد ما لم يره من قبل، ومنها ما قاله له الراهب: من هذا المستظل بالشجرة؟ فقال: رجل من مكة، فقال له: ما نزل تحت هذه الشجرة إلاّ نبي، وكانت سحابة تظلّله من الشمس، وعاد إلى مكة وأربح خديجة ما لم تربحه في تجارة.
وحينما حدثها غلامها عن العجائب التي رآها وكانت امرأة عاقلة فطلبت من محمد الزواج، وصرحت له بالسبب الذي دفعها لذلك فقالت: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، وكان رجالات قريش يتمنون الزواج منها لرجاحة عقلها، فأخبر محمّد أعمامه بقول خديجة، فأيدوه وتزوج محمد خديجة، وكانت أول زوجة.
كل هذا قبل أن يختاره الله للرسالة، وولدت له القاسم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله، وكان عمره خمسة وعشرين عامًا عندما تزوج، وكان عمرها خمسة وثلاثين وقيل: أربعين وقيل غير ذلك.
وحين أراد الله بخلقه خيرًا اختار محمدًا للرسالة، وأول من وقف معه زوجته خديجة، فكانت أول من آمن به على الإطلاق، وهكذا تكون الزوجة الصالحة مع زوجها، فهي أول من يقف معه في الشدائد، وحينما نزل الوحي على الرسول خاف وارتعد وعاد إلى بيته إلى زوجته، ولم يذهب لقرابته ولا لأصدقائه، بل ذهب لزوجته لأنها عاقلة تجيد التصرف في المواقف الصعبة، وحدثها بما حدث له في أول لقاء مع الوحي وقال: ((لقد خشيت على نفسي)) ، فقالت له في ثقة ويقين: إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. لقد كانت بعد ذلك هي الزوجة المثالية التي تخفّف عنه ما يعانيه من أذى قومه، تثبته وتصدّقه وتهون عليه أمر الناس، ووقفت معه بمالها، فلم ينس الرسول الزوج الكريم هذه المواقف لزوجته، فهل أنت كذلك أيها الزوج، أم أنك ممن يأكل مالها وحين يغنيك الله من فضله تستغني عنها وترمي بها لتأخذ فتاة صغيرة تدلِّلك لتقتل زوجتك الأولى قهرًا؟! ولا يمكن أن نعارض تعدّدَ الزّوجات، ولكن طريقة بعض الأزواج في التعدّد من ظلم وعدم عدل بين زوجاته وإهمال لزوجته الأولى وإهانتها أحيانًا تجعلك تقف كثيرًا عند حال هؤلاء.
لقد كان الرسول طوال حياته يذكر لخديجة كلّ خير فعلته معه، حتى بعد موتها، فلم ينس فضلها عليه حتى بعد أن ماتت، فكيف به في حياتها؟! لقد بشرها ببيت في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ ـ لا صخب فيه ولا نصب، وقال عنها: ((إنها من خير نساء العالمين)). وحينما توفيت حزن عليه الزوج محمد حزنًا شديدًا، وكان كثير الذكر لها بعد موتها والثناء عليها، حتى غارت عائشة منها وهي ميتة، فكيف لو كانت موجودة؟! قالت: ما غِرت على أحد من نساء النبيّ ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر ذكرها.
وذات يوم أهدِي لرسول الله جزور أو لحم، فأخذ رسول الله عظمًا منها ناوله لمن عنده وقال: ((اذهب بهذا إلى فلانة)) ، فسألت عائشة فقال الرسول مغضبًا: ((إن خديجة أوصتني بها)) ، فغارت عائشة وقالت: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله مغضبًا، فلبث ما شاء الله ثم رجع فإذا أمّ رومان قالت: يا رسول الله، ما لك ولعائشة؟ إنها حدثة ـ أي: صغيرة ـ، وإنك أحقّ من تجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة وقال: ((ألست القائلة: كأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة؟ والله، لقد آمنت بي إذ كفر قومك، ورزقت منها الولد وحرِمتُموه)).
وزادت غيرتها ذات يوم فقالت له: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟! فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: ((لا والله، ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس)).
وهكذا، فقد حفظ الرسول مكانة زوجته، فكان لها عنده منزلة عظيمة، وكانت خديجة مثالاً عظيمًا للزوجة الصالحة المؤمنة، وقد كان يرجع إليها زوجها الرسول ويستشيرها، فقد كانت بمثابة الوزير له، فأين الأزواج من هذا؟! إن بعضنا لا يستشير زوجته في أي شيء حتى فيما يخصّها أو يخصّ بيتها؛ لأنه يرى ذلك عيبًا، وكأنّ هذه الزوجة لا قيمة لها في حياته إلا لقضاء وطره فقط، فاقتدوا برسولكم الكريم، ((وخيركم خيركم لأهله)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأزواج، اقتدوا برسول الله في تعامله مع زوجاته، فهذا الرسول الزوج لم يعيّر يومًا من الأيام زوجته خديجة بأنها كانت ثيبًا، ولم يذكرها يومًا بأنها تزوجت قبله مرتين، ولم يعيّرها يومًا بأنها أكبر منه كما يفعل بعض الأزواج اليوم، والّذي يتزوّج من امرأة وهو فقير ربما لا يجد ما يأكله، وحينما يغنيه الله بسببها أو غير ذلك يبدأ بتغيير زوجته بسبب أنها أكبر منه أو أنه لم يخترها بنفسه بل اختارها أهله له، وأنه لم يرها أو غير ذلك؛ لأنه يريد أن يتزوج من غيرها ويعدّد، وليس همّه إحياء سنّة أو إعفاف الفتيات، ولكن للمتعة والتجديد فقط، ولمثل هذا نقول: قال الرسول : ((من كانت له امرأتان فمال لإحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل)).
لقد كان الرسول يتذكّر وقوف زوجته خديجة معه دومًا لدرجة أنه لحبّه لها لم يتزوج عليها في حياتها، فهل فينا من يحفظ حقّ زوجته؟! هل فينا من يكرم زوجَته وهي حيّة فضلاً عن إكرامها بعد موتها؟! ولقد جاءت عجوز من صويحبات خديجة إلى النبيّ ، فأحسن النبي لقاءها وأكرم مثواها وبسط لها رداءه فأجلسها عليه، وصار يسألها عن أحوالها وما صارت إليه، فقالت عائشة لما خرجت: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال! فقال: ((إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)) ، وكان النبي إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلها إلى أصدقاء خديجة)) ، فأين نحن من هذا الخلق ومن هذا الوفاء؟!
اللهم صل على محمد...
(1/5094)
أنقذوا الأقصى
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
28/1/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طموح وآمال. 2- وتلك الأيام نداولها بين الناس. 3- المطالبة بوقف جميع حفريات الهدم والتخريب. 4- الوصية بالوحدة والتكاتف. 5- التنديد بما حصل من اعتداء على المصلين في ساحة المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد آن للأمة الإسلامية أن تتكلم، آن لها أن تقف موقفا إيجابيا، الأمة التي تملك مليارا ونصف المليار من البشر، الأمة التي تملك من المقدرات الاقتصادية والإستراتيجية ما لا يملكها غيرها، الأمة التي تملك من القوة الروحية ومن مواريث السماء ما لا يملكه أحد سواها، الأمة التي تملك كل هذه المقومات تستطيع أن تفعل الكثير لو وجدت القيادة الصالحة. مشكلة الأمة الإسلامية ليست في القاعدة بقدر ما هي في القمة، لقد استطاعوا أن يمزقوا ما بين قادة هذه الأمة وأن يفرقوا بينهم.
أين الأمة التي خاطبها الله بقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]؟! أين الأمة التي خاطبها الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]؟! أين الأمة التي قال عنها المولى تبارك وتعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]؟! أين هذه الأمة الواحدة التي عبر الرسول عن العلاقة بين أبنائها بقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) ثم شبك بين أصابعه؟! هذا هو الذي ينبغي أن تكون عليه الأمة.
عباد الله، وأمام الأحداث الجسام يجب على الأمة أن تنسى كلّ خلافاتها، أن توحد صفوفها، أن تجمع كلمتها، أن تتنادى فيما بينها لتنقذ مقدساتها، لا يجوز للأمة أن تسكت على هذا الباطل أو هذا العدوان أو الإجرام مهما كلف الثمن.
عباد الله، ألا يوجد من يدعو هذه الأمة وبقوة لتجتمع في شكل قمة إسلامية إيجابية لزعماء المسلمين، ويتخذوا من خلالها قرارات حاسمة تثبت وجودهم وتعيد لهم العزة والكرامة؟! نريد كلمة حق تعلي شأن المسلمين، لسنا بحاجة إلى قمم ليست لها قيمة، نحن بحاجة لقمة تعيد المسجد الأقصى للمسلمين.
عباد الله، إن الأحداث الدامية في أرضنا المباركة توجب علينا أن نقف وقفة رجل واحد، ونفدي أرضنا وأقصانا بكل ما نملك، إن أمتنا الإسلامية تقدر أن تفعل الكثير، ولكنها معطلة مقيدة مغلولة الأيدي والأقدام. وينبغي أن نتحرر من الأغلال والقيود، وأن نسير إلى الأمام، وأن ندعو الله تبارك وتعالى في الصباح والمساء، في السجود والركوع، في خلواتنا في الليل وفي ساعات السحر، أن يمدنا بمد من عنده، أن يمدنا بروح من عنده، أن يمدنا بملأ من جنده، وأن يفتح لنا فتحًا مبينًا، وأن يهدينا صراطًا مستقيمًا، وأن ينصرنا نصرًا عزيزًا، وأن يأخذ أعداءنا أخذًا أليمًا شديدًا.
عباد الله، تذكروا دائما أن دوام الحال من المحال، فلن يستمر القوي قويا أبد الدهر، ولن يستمر الضعيف ضعيفا أبد الدهر، ومن سنة الله التداول؛ تداول الأيام بين الأمم، كما قال سبحانه: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. والدهر ـ يا عباد الله ـ يومان: يوم لك ويوم عليك، وقد مرت الأيام التي علينا وبقيت التي لنا، فلا تيأسوا من روح الله، والفرج القريب إن شاء الله، المستقبل لنا بإذن الله، وسوف تكون الكلمة لنا، وسوف يكون معنا الحجر والشجر والمدر، فمزيدًا من الصبر يا أهلنا في بيت المقدس، مزيدا من الصبر يا أهلنا في فلسطين المباركة، مهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، الفجر الجديد المشرق بنور الإيمان والفتح المبين، الفتح القريب الذي وعدنا المولى تبارك وتعالى به، ألم تقرؤوا قوله تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 13]؟! فالبشارة قادمة إن شاء الله مهما اشتدت المحن.
عباد الله، حقيقة ثابتة ثبوت السنن الإلهية، هذه الحقيقة أن هذه الأمة كلما اتصلت بالإسلام واقتربت منه اقترب منها المجد والرفعة والازدهار والعز والانتصار والغلبة على الأعداء، كلما اقتربنا من الإسلام انتصرنا وازدهرنا، كلنا يذكر عهد أبي بكر وعمر، عهد عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، وهؤلاء الذين نفخوا في الأمة من روحها، نفخوا فيها روح الإيمان والقوة، وقاوموا الأعداء وانتصروا عليهم، هذه الفترات المضيئة هي التي تدلنا على أن الإسلام هو مصدر القوة لهذه الأمة.
عباد الله، وتذكروا بنفس الوقت أن تدبير الأعداء تدبير متين وكيدهم عظيم، وقد وصفه الله بقوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46]، وقال كذلك: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح: 22]. والواجب على أمتنا أن تتفطن لهذا المكر والكيد، وأن تكون متيقظة بما يدبر في الخفاء. وتذكروا أن الجميع مقصود، الأمة كلها يراد أن يهال عليها التراب، ونحن لا نشتكي إلا إلى الله تعالى.
ولا يكفي هنا الاحتجاج والتنديد؛ فما هو إلا فقاعات هواء سرعان ما يتلاشى تحت هدير الجرافات، فالحفريات المستمرة تشكل خطرا على المسجد، ونحن من هنا نطالب المسؤولين وقف جميع الحفريات، والتي لا تؤدي إلا إلى الدمار والهلاك والخراب، فالإنسان العاقل لا يلعب بالنار، وإلا فسوف يحترق فيها، وعندئذ ولات ساعة مندم، وليكن واضحا لدى الجميع أن وسائل الإعلام التي روجت لاتفاق بشأن هذه الحفريات لا أساس له من الصحة، فالأوقاف لا يمكن لها بحال أن توافق على هذه الحفريات، والمسؤولون في الأردن قد نفوا ما أوردته وسائل الإعلام بهذا الشأن.
نسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن ينير طريقنا، وأن ينصرنا على أعدائنا، إنه سميع قريب مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، الأوضاع الصعبة التي نعيشها تجعل الحليم حيرانا، ومن هنا نؤكد لإخوتنا ونشد على أيديهم أن يقفوا صفًا واحدًا، فالإسلام العظيم يمقت الفرقة والخصام، ويأمر بالوحدة والتكاتف، وعقيدتنا الإيمانية تملي علينا التمسك بالثوابت، ولا يجوز لأيّ كان أن يتنازل عن ذرة واحدة من أرضنا المباركة، فتعاليم الإسلام واضحة، وتطبيق الأحكام الإسلامية فرض على كل مسلم. فاستيقظوا يا أمة الإسلام، استيقظوا يا أهل فلسطين، ليقف الجميع أمام الظلم والبغي والعدوان حتى يحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
عباد الله، إن ما جرى يوم الجمعة الماضي من الاعتداء على المصلين وتحويل المسجد إلى ساحة حربية لهو أمر مرفوض بكل أشكاله، والحكومة الإسرائيلية تتحمل تبعات هذا العدوان السافر على المقدسات، وللأسف الشديد فقد اعتادت سلطات الاحتلال تحويل المسجد إلى ثكنة عسكرية في أكثر أيام الجمع، ومنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى، وتحديد أعمار من يصلي ومن لا يصلي، ومنع المسلمين من الدخول إلى مسجدهم، وهم يتشدقون بحرية العبادة، ولا ندري المراد من كلمة حرية العبادة عندهم! ولعلها تعني منع الناس من الصلاة ومنع الناس من الوقوف بين يدي الله.
ومن هنا نوجه الكلام لسلطات الاحتلال أن يكفوا عن ممارسة الأعمال الاستفزازية بحق المصلين، وأن يجنّبوا المسجد مظاهر الأعمال الحربية، فمن يريد ساحة الحرب يعرف مكانها.
وأنتم ـ يا عباد الله ـ فوتوا الفرصة ولا تعطوا مجالا لأحد أن يمتهن كرامة مسجدكم، وتذكروا أنكم أهل رباط إلى يوم الدين، فقد شرفكم الله بهذا الشرف العظيم، فكونوا أهلا لهذا الشرف، وكونوا مع الله يكن معكم، انصروه ينصركم، وتوجهوا إليه بالدعاء يستحب لكم.
(1/5095)
محطات في حياة الإنسان: 3. القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
28/2/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القبر أول منازل الآخرة. 2- خوف الصالحين من القبر. 3- أسئلة القبر وفتنته. 4- عذاب القبر. 5- قسوة القلوب تحول دون الخوف من القبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: نصل اليوم في هذه المحطات من حياة الإنسان إلى محطة القبر، فقد وقفنا في الخطبة الماضية عند خروج الروح كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ?لْفِرَاقُ وَ?لْتَفَّتِ ?لسَّاقُ بِ?لسَّاقِ [القيامة: 29-26 ].
وبخروج الروح وسحب تيار الحياة منك تصبح أيها الإنسان مادة أرضية قابلة للتعفن والتحلل، لهذا يسعى أقرب الناس إليك ومن كان يقبلك ويعانقك والذي إذا أحسست بوجع بسيط في الرأس أو في المعدة هرع بك إلى الطبيب أو أحضر لك الدواء ـ يسعى هذا الحبيب ويُجدُّ مسرعاً في أمر دفنك في الأرض وإهالة التراب عليك، لأنك بهذه الحالة لا يطيق البقاء بقربك أحد، ولن يتحملك بحالتك هذه إلا رحم الأرض التي خلقت منها، لهذا تعاد إليها.
والقبر أيها المسلم سكن موحش ضيق تنتقل إليه من السكن الرحب الواسع أو من القصر الفسيح الذي كنت تقيم فيه، القبر مكان تفترش فيه التراب وتصاحب فيه الديدان والدواب، ولا يسمح لك في هذا السكن أن تصطحب معك شيئاً إلا القماش الذي يلفك ويستر عورتك، هذا هو القبر، وهو سكن لا يدوم، بل هو مرحلة برزخية بين الموت والبعث يقول سبحانه: وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100 ].
حفرة مخيفة، تجد نفسك في ليلة من الليالي ممدداً فيها لوحدك، لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا صديق ولا أنيس، وليتصور الواحد منا الفرق بين ليلتين، ليلة هو فيها بين أهله وأبنائه يلاعبهم ويداعبهم، وفي الليلة التي تليها هو طريح القبر، بيت الدود والظلمة، والذي لا يدري ما يكون حاله فيه هل هو من المنعمين أم من المعذبين؟ والواحد منا يا عباد الله إذا غيَّر مكان نومه في بيته أصابه الأرق والسهاد فكيف بالقبر.
فارَقْتُ موضعَ مَرْقَدي ليلاً ففارقَني السكونُ
قل لي فأول ليلة فِي القبر كيف ترى أكون؟
وفي القبر تبدأ الفتن العظيمة والامتحانات العصيبة التي يتمايز فيها الناس: فريق مفلح وفريق خائب، لهذا نظر الصالحون إلى القبر نظرة خوف ونظرة وجل، أخرج الترمذي عن البراء أنه قال "كنا مع رسول الله في جنازة، فجلس على شفير القبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)) ، وأخرج ابن ماجه عن هاني مولى عثمان قال: "كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبُل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا! قال: إن رسول الله قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)) ، هنا تكمن خطورة القبر ـ إخوة الإيمان ـ فهو مؤشر لما بعده.
والجنازة وهي تحمل على الأعناق إلى المقبرة هي إما تُقدَّم إلى خير وإما تُقدَّم إلى شر أخرج أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) ، وهذا كله لا يغني عن الميت شيئاً لأنه قد كان ما كان، وفات على الندم الأوان.
ونصل إلى القبر ذلك المكان الذي سيرقد فيه الكبير والصغير والغني والفقير، ولعلنا نتفاضل في حياتنا الدنيا ونتفاخر بالأثاث والرياش، فالبعض يفخر بأن أثاث بيته من الدولة الفلانية، وبلاطه جاء عبر البحار، وبسطه وفرشه من أفخر الأنواع، والبعض لا يملك من هذا شيئاً، أما في القبر فيختفي الأثاث وتختفي الفرش الوتيرة، فكلنا نفترش التراب وكلنا فقيرون إلى العزيز الوهاب.
والقبر ـ عباد الله ـ مكان عجيب، ففيه تطرح ثلاثة أسئلة سهلة، ولكنها من السهل الممتنع، فقد يجيب عنها الكناس والجزار، ولا يجيب عنها المهندس والدكتور، لأن القبر لا يعترف بالشهادات والمناصب والمراكز التي نتباهى بها في الحياة الدنيا، بل يعترف بعملة واحدة غير مزيفة، هي عملة العمل الصالح الخالص من كل شائبة والموافق لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن دخل القبر ومعه هذه العملة أجاب عن الأسئلة الثلاثة التي يطرحها الملكان في القبر مهما كان أميَّاً وجاهلاً في هذه الدنيا، ومن لم يصطحب معه هذه العملة تلعثم وارتبك ووقف كما يقف حمار الشيخ في العقبة، ولو كان حاملاً في هذه الدنيا أعلى الشهادات، يقول في الحديث الذي أوردنا جزءاً منه في الخطبة السابقة ونكمل باقيه الآن يقول عن روح المؤمن بعد أن ينتزعها ملك الموت وتصل بها الملائكة إلى السماء السابعة: ((يقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى; فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي)).
أما روح العبد الكافر فتمنع من الصعود إلى السماء كما أوردنا في الخطبة السابقة: ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة)) رواه أحمد عن البراء. وفي رواية أخرى أنه ((يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) ، أي يسمع صيحته كل مخلوق إلا الإنس والجن.
إذاً في القبر أسئلة يجيب عنها المؤمن ويعجز عنها الفاجر، في القبر فتنة لا يثبت أمامها إلا المؤمنون: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم: 27 ].
وفي القبر عذاب، لا خلاف في هذا، يقول سبحانه عن عذاب آل فرعون في البرزخ: ?لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ?لْعَذَابِ [غافر: 46 ]، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أنس: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)) ، فرسول الله يخشى أننا لو سمعنا عذاب القبر ألا ندفن موتانا بعد ذلك، بل لقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من عذاب القبر على الأقل خمس مرات في اليوم، وكثير من الناس يهمل هذا، يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال)).
هذا هو القبر، موعد للمؤمن والفاسق، لا بد أن يصل إليه كل منهما، ونحن في سيرنا في هذه الحياة إنما نسير نحو القبور شئنا أم أبينا وإليها تتجه "بوصلتنا" في كل الأحوال.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا لهذه الظروف العصيبة التي ستمر بكل واحد منكم، ولا تغفلوا عن الموت، فإنه لايغفل عنكم، يقول سبحانه: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22-19 ].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة الكرام، منظر القبر منظر رهيب ومخيف، ولكننا وللأسف أصبح منظر القبر لا يمثل عندنا شيئاً وذلك بسبب قسوة قلوبنا، والله سبحانه ذم بني إسرائيل لقسوة قلوبهم فقال عز من قائل: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74 ]، ولكن مع هذا ينبغي أن نحاول أن نستحضر الرهبة والخشوع والخوف عند الجنازة وعند القبر قدر الإمكان، لأنها مواطن الخوف والرهبة، وإذا لم نستطع استحضار الخوف عند القبر فمتى سنخاف ومن أي شيء سنخاف، وأنا أعلم أن تحقيق هذا أمر صعب لأنه يحتاج إلى قلوب سليمة صافية، وقلوبنا فيها من الهوى والغفلة ما الله به عليم، ولكن لا بأس من أن نحاول وندعو الله أن يطهر قلوبنا حتى نرى الأمور على حقيقتها، وأفضل ما يساعدنا على ذلك استحضارنا لآيات كتابنا وأقوال نبينا وسلفنا الصالح حول القبر والموت، لعلها تحيي موات قلوبنا.
فهاهو أفضل خلق الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقولها بكل وضوح كما في الترمذي عن أبي هريرة: ((ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)) ، فمشكلتنا أننا ننظر للقبر على أنه حفرة ذات شكل هندسي له طول وعرض وعمق، بينما هو في الحقيقة مسرح لأمور فظيعة رهيبة، لهذا لم ير رسول الله منظراً أفظع منه، بل إن القبر يبدو كأنه كائن حي فهو يضيق ويتسع وينضم على الميت حتى تختلف أضلاعه، ولقد ضم القبر صحابياً من أفضل أصحاب رسول الله هذا لصحابي هو سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن عند موته، ومع هذا لم ينج هذا الرجل العظيم من ضمة القبر فهل تفكرنا في هذه الضمة التي لا مهرب منها، يقول عن هذا الصحابي كما في الحديث الذي أخرجه النسائي عن ابن عمر: ((هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضمه القبر ضمة ثم فرج عنه)) ويقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن ابن عباس: ((لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ)).
(1/5096)
زلزال شرق آسيا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
19/11/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره. 2- كارثة زلزال شرق آسيا. 3- خطورة تفسير هذه الحوادث بأسبابها الطبيعية فقط. 4- النظرة الصحيحة لهذه الكوارث. 5- دروس وعبر من الحدث. 6- وجوب التوبة الصادقة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، إن كلّ ما يحدث في هذا الكون من أمور هو بإذن الله وقدرته وعلمه سبحانه، قدره تقديرا، يقول سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، ويقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، فلا شيءَ في الوجود يحدث عبثا أو بدون سبب وحكمة بالغة، فوراء كل شيء حكمة ينبغي أن نتدبرها ونتأمّلها.
لقد رأينا في الأيام الماضية مقتل ما يقارب المائة ألف إنسان وتشريد الملايين بعد زلزال حدث في عرض المحيط ففاضت مياه البحار على أكثر من بلد وفي أكثر من منطقة، فأحدثت في دقائق أو ساعات دمارا لا يمكن تصوره، وهذه الأحداث تدق لنا ناقوس الخطر وتبين لنا أن الإنسان ليس بمنأى عن بأس الله سبحانه وعن أمره، خاصة إذا هو طغى وفرط ونسي قدرة الله عليه، فبينما هو في أمن وأمان إذا بأمر الله يقلب أمنه خوفا وذعرا ويقلب فرحه ترحا وغناه فقرا، يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
كل ما يصيب الإنسان من نقمة الله وعذابه هو بما كسبت يداه، وهذا أمر مقرّر في كتاب الله وسنة نبيه ، ولكننا نغفل عن هذه الحقيقة المهمة، فمن الناس من ينظر إلى هذه الكوارث على أنها مظاهر طبيعية لا غير، ويحلّلها تحليلا علميّا ماديّا بحتا، لا يربطها بالخالق وتدبيره وتصريفه للأمور، ولا يربطها بأعمال الناس وكسبهم، وهذا أمر خطير لأنه بهذا الطرح ينظر إلى الطبيعة كأنها فاعل مستقل عن الله سبحانه، وهذا غير صحيح، فالله هو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي يرسل الرياح، وهو الذي ينزل المطر، وهو الذي يصرف الأمور كيف شاء سبحانه، كما أن هذا التحليل المادي للكوارث يحول بين الناس والتوبة النصوحة إلى الله؛ لأن الناس إذا فهموا أن هذه الكوارث مجرد أمر طبيعي لا دخل لهم فيه فإنهم لا يفكرون في الرجوع إلى الله والتوبة إليه ومفارقة الفواحش والمعاصي.
أما النظرة الصحيحة لهذه الظواهر الطبيعية فتكون بربطها بالله سبحانه، فهي لا تحدث إلا بأمر الله بناء على طاعة الناس ومعصيتهم أو لحكمة يعلمها سبحانه، يقول سبحانه: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]، ويقول سبحانه: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [الأنعام: 44]، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته)) أخرجه الطبراني.
هذا أمر الله، وهذا قضاؤه وتدبيره، يفعل ما شاء سبحانه، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، يعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين، ويرحم أقواما ويحرم آخرين، والله سبحانه يقدر هذه الأمور بناء على كسب الناس وأعمالهم، فما من مصيبة تحدث على الأرض إلا كان سببها كسب الناس، يقول سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، ويقول سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، ويقول سبحانه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15].
فإذا أسرف الناس في الظلم والكفر والفاحشة والعري والشذوذ والفسق والانحلال نزل بهم عذاب الله سبحانه وغضبه، هذه سنة كونية سارية نافذة على مر العصور، وقد يكون هذا الغضب طوفانا يغمر الناس أو جفافا أو أعاصير أو صواعق أو أمراضا مختلفة جسدية وروحية تنتشر بينهم يصعب الشفاء منها أو قلقا وضياعا أو غير ذلك، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت40]، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) أخرجه ابن ماجة
هذه هي عاقبة مخالفة أوامر الله سبحانه وتوجيهات رسله عليهم السلام، والله سبحانه قد يصيب العباد بهذه المصائب انتقاما فهو القائل: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 136]، أو يصيبهم بها ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم يقول سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، ويقول أيضا: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21]، والمعنى أن الله يذيق عباده بعض العذاب بما كسبت أيديهم لعلهم يتوبون إلى رشدهم ويكفون عن غيهم وضلالهم إذا رأوا النتيجة الوخيمة والخاتمة المريعة لمن عصا ربه وتنكب الصراط المستقيم.
مثل هذه الكوارث ـ أيها الإخوة ـ إنما هي عبرة ودروس للناس، فإذا مرت هذه الكوارث العظيمة وهذه الأخبار السيئة على الإنسان كما يمر أي خبر عادي آخر فتلك المصيبة، لهذا لا بد أن نستخلص من مثل هذه الحوادث والكوارث الدروس التي تدفعنا إلى العمل الصالح وعدم الركون إلى الدنيا، لا بد أن نفكر جيدا ونحن نرى تلك المشاهد المؤثرة ونتعظ من مصرع غيرنا، فالسعيد من اتعظ بغيره، والتعيس يظل سادرا في غيه وجهله حتى ينزل به بأس الله فيكون هو العظة والعياذ بالله، فما العبر التي نستخلصها من هذه الأحداث؟ وما الدروس المستفادة؟
نستخلص من هذه الأحداث أن الناس إذا ابتعدوا عن هدي الله سبحانه وغشيتهم الغفلة وجهروا بالمعاصي وانغمسوا في الفواحش صاروا عرضة للانتقام الإلهي، فلا بد لكي نقي أنفسنا مثل هذا الانتقام ولكي نجنب أنفسنا مثل هذه الكوارث والحوادث العظيمة أن نكفّ عن محارم الله ومعاصيه حتى لا ينزل بنا العذاب الذي نزل بغيرنا.
نستخلص أيضا من هذه الحوادث العجيبة السريعة أن الموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فليس هناك موعد محدّد يعرف منه الإنسان ساعة موته، ولا يشترط للموت سنّ معينة أو مرض معين، بل قد يموت الصحيح بغتة ويعيش السقيم حينا من الدهر، فهؤلاء الناس الذين شاهدناهم موتى بأعداد كثيرة جرفتهم المياه وانهارت عليهم المباني لو قيل لأحدهم: إنك ستموت بعد دقائق لما صدق ذلك.
ومن دروس هذه الأحداث أيضا أنها تذكرنا بصورة يوم القيامة، فقد رأينا الناس في هلع وخوف فارين لا يدرون أين يذهبون وبأي شيء يحتمون، لا قدرة لهم أمام هذا الطوفان العظيم، وكذلك الناس سيفرون في يوم القيامة ويصرخون ويجأرون ولكن لا مناص ولا مفر، يقول سبحانه عن ذلك اليوم: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97]، ويقول أيضا: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة: 1-3]، هكذا يصاب الإنسان بالهلع والخوف مما يرى من أمور عظيمة لا قِبَل له بها.
هذه عبر ودروس تبيِّنها هذه الحوادث، من تأمّلها وتمعن فيها عرف أن الأمر جد ليس بالهزل، وأعد للأمر عدته قبل فوات الأوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف: 96-100].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، المسلم الحازم هو من اتعظ بغيره كما قلنا، وبادر بالفرصة قبل أن تكون غصّة، المسلم الحازم يعلم أن سنن الله ماضية لا تحابي أحدا، فلا نسب بين الله وخلقه، كلهم أمامه سواء، من عمل صالحا فاز ونجا، ومن فرط وعصى خسر وهلك، فلا ينبغي أن نظن أننا في مأمن من غضب الله، ولا ينبغي أن ننظر إلى هذه الكوارث على أنها خاصة بغيرنا، فالله يوجهنا إلى العبرة والاعتبار، ويرينا مصارع الأقوام حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، وحتى نعلم أن الموت قريب، ويطلب منا أن نسير في الأرض لننظر في عاقبة من كان قبلنا ونرى دورهم الخالية ومبانيهم الشامخة التي لم تمنعهم من الله ومن بأس الله، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [يوسف: 109]، ويقول سبحانه: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ [غافر: 21]، ليس لنا من الله من واق إذا أراد بنا أمرا سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ما يفعله بنا هو العدل، هذه أمور لا بد أن نعيها وأن نتدارسها لنرجع بهذه القلوب إلى بارئها ومولاها.
ولكن مع كل هذا ليس من الحكمة ـ إخوة الإيمان ـ أننا لا نتوب ولا نصدق في التوبة إلا إذا شاهدنا صنيع الله بمن عصاه ونكاله بمن ضل عن هداه، بل نحن على ميثاق ثابت أزلي مع الله أن لا نشرك به شيئا وأن نعبده ونطيعه، يقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]، ويقول أيضا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56-58]، فنحن مخلوقون لعبادة الله ابتداءً، ومأمورون بطاعته سبحانه في فرحنا وحزننا، في يسرنا وعسرنا، في منشطنا ومكرهنا، ولكن مثل هذه الأحداث قد تزيد في خوف المسلم ولجوئه إلى مولاه، فيستفيد منها في تحفيز نفسه على فعل الخيرات واجتناب المنكرات؛ لعل الله أن يرحمه ويسدده ويصلح له أمره. أسأل ألله أن يقيني وإياكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد ، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد...
(1/5097)
من حسن إسلام المرء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, آفات اللسان, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
26/10/1247
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القلب السليم والنفس الزكية. 2- فضل ترك مالا يعني وفوائده. 3- مفاسد الاشتغال بما لا يعني. 4- الأمر بحفظ اللسان. 5- خطورة الكلمة. 6- التحذير من الاشتغال بعيوب الناس وتتبع عثراتهم. 7- سبيل الخلاص من هذا الوصف الذميم. 8- ميزة التثبت في شريعة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلِمون، القُلوبُ السليمةُ والنفوسُ الزكيّة هي التي امتلأَت بالتقوَى والإيمان، ففاضت بالخير والإحسان، وانطبع صاحبها بكلِّ خلق جميل، وانطوت سريرتُه على الصفاء والنقاءِ وحبِّ الخير للآخرين، فهو مِن نفسه في راحة، والناس منه في سلامةٍ، أما صاحب القلب السيئِ والخلقِ الذّميم فالنّاس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء.
وإنَّ المتطلِّب بصدقٍ صلاحَ قلبه وسلامةَ صدره ليسلُك لتحصيل ذلك مسالكَه، ويستصلح قلبَه بما يطهِّره، ويجنِّبه ما يكدِّره. ولقد حوَى الكِتاب كما حفِلَتِ السنّةُ بكلِّ خير وهدى مما يعود على النفوس والقلوبِ بالزكاء والصفاء، ومن ذلكم ـ عباد الله ـ ما رواه أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ : ((مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)) رواه الترمذيّ وابن ماجه ومالك في الموطأ وأحمد في المسنَد.
إنّه أصل عظيمٌ من أصول الأدَب، فيه أنَّ من ترك مَا لاَ يَعني وفعَل ما يعنيه فقد حسُن إسلامُه، وقد جاءَت الأحاديث بأنَّ مَن حَسن إسلامه ضُوعِفت حسناته وكفِّرت سيِّئاته كما في صحيح مسلم وغيره.
وفي المسندِ عن أنس أنَّ النبي قال: ((لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه)) ، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((مَن كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)) ، وعند قول الله عز وجلّ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] قال بعض السلف: "أما يستحِي أحدُكم لو نشِرَت صحيفتُه التي أملى صَدرَ نهاره وليس فيها شيءٌ مِن أمر آخرته".
أيّها المسلمون، إنّ الترفّعَ عن الخوضِ فيما لا يعني لمن تمامِ العقل، كما أنّه يورِث نورَ القلب والبصيرة، ويثمر راحةَ البال وهدأَةَ النفس وصفاءَ الضمير، مع توفيقِ الله تعالى للعبد. إنها طهارة الروح وسلامَة الصدر. وفي سِيَر الذهبيِّ عن زيد بن أسلَمَ قال: دُخِل على أبي دجانةَ رحمه الله في مرضه ووجهُه يتهلَّل ويقول: (مَا مِن عملٍ أوثق عندي من شَيئين: لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وقد كان قلبي سليمًا). وفي صحيح مسلم أن النبيَّ قال: ((إنَّ الله كره لكم قيلَ وقال)).
إنَّ الاشتغال بما لا يعني ينتِج قلّةَ التوفيق وفسادَ الرأي وخفاءَ الحقّ وفساد القلب وإضاعةَ الوقت وحِرمان العِلم وضيقَ الصدر وقسوةَ القلب وطول الهمّ والغمّ وكَسفَ البال ومحقَ البركة في الرزقِ والعمر، وإنَّ أعظمَ الربح في الدنيا أن تشغَلَ نفسك كلَّ وقت بما هو أولى بها وأنفعُ لها في معادها، ولقد كان السّلَف رحمهم الله يكرهون الخوضَ فيما لا يعني، ويمنعون أحدًا أن يغتاب أحدًا في مجالِسهم؛ حرصًا على سلامةِ صدورهم وصيانةً لأعمالهم، قال الحسن رحمه الله: "مِن علامة إعراض الله تعالى عن العبدِ أن يجعَل شغلَه فيما لا يعنيه؛ خذلانًا من اللهِ عزّ وجلّ"، وقال سهل التستريّ: "من تكلَّم فيما لا يعنِيه حرِمَ الصدق"، وقال معروف: "كلامُ العبد فيما لا يعنيه خذلانٌ من الله عز وجلّ".
عبادَ الله، ولما كان مدارُ هذا الأمر على اللّسان والكلام والتعبيرِ بالقلم والبيان فقد توافَرت التوجيهات الرّبانيّة والنصائح النبوية بما لا يدع لأحد عذرًا، ذلك أنَّ الكلام ترجمان يعبِّر عن مستودَعات الضمائر ويخبر بمكنوناتِ السرائر، لا يمكن استرجاع بوادِرِه، ولا يقدَر على ردِّ شوارِدِه، فحَقٌّ على العاقل أن يحتَرِزَ من زلَلِه بالإمساك عنه أو الإقلال منه، والصّمتُ بسلامة هو الأصل، والسكوتُ في وقتِه صفَة الرّجال، كما أنَّ النطق فيما موضعِه من أشرف الخصال، وفي الحديث: ((كفَى بالمرء كذِبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع)) رواه مسلم.
قال عمر بن الخطاب : (مَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه، ومن كثُر سقطه كثرَت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنّار أولى به)، وقال وهب بن منبّه: "أجمعتِ الحكماء على أنَّ رأسَ الحكمة الصمت"، ومن كان سكوته وكلامه لله عز وجل مخالفًا هوى نفسِه فهو أجدَر بتوفيق الله له وتسديدِه في نطقِه وسكوته، ومن عَدَّ كلامَه من عمله قلَّ كلامُه فيما لا يعنيه ولا ينفعه. قال أنَس : (لا يتَّقِي اللهَ أحدٌ حقَّ تقاته حتى يخزنَ من لسانه).
إنَّ حفظَ اللسان دليلُ كمال الإيمان وحُسن الإسلام، وفيه السلامة من العَطَب، وهو دليل على المروءَة وحسنِ الخلق وطهارة النفسِ، كما يثمرُ محبّةَ اللهِ ثمّ محبة الناس ومهابَتَهم له، فأيُّ مجتمع طاهِر رفيع سينتُج إذا التزم أفرادُه بهذه الوصايا؟! لذا فإنّه ليس كَثيرًا إذا ضُمِنت الجنّةَ لمن أمسك لِسانه، ففِي صحيح البخاريّ أنَّ النبيَّ قالَ: ((مَن يَضمَن لي ما بين لحيَيه وما بين رِجليه أضمَن له الجنّة)).
إنَّ الكلِمَة لها أثرٌ خطير، والحسابُ عليها عَسير، وسَواء قِيلَت باللّسان وسمعت بالأصوات أو كتِبَت في الصحف والمجلاَّت أو تداوَلَتها المنتدَيات، ورُبَّ كلمة قالت لصاحبها: دعني، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يَزِلّ بها في النّار أبعَدَ ما بين المشرق والمغرب)) ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11]. عن عقبة بن عامرٍ قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسِك عليكَ لسانَك، وليَسَعك بيتُك، وابكِ على خطيئتِك)) رواه الترمذيّ بإسناد صحيح.
ولو أقبَلَ كلُّ مسلم على واجِبِه وسعى فيما يُصلِح معاشَه ومعاده واكلاً أمرَ الناس لخالقهم سَاعِيًا في الإصلاح فيما أنِيط به لكان أثرُه على نفسه وعلى المجتمع أبلغَ من المحتَرِق بعيوب النّاس الراكِض خلفَ ما لا يعنيه، وفي الحديث المتَّفق عليه: ((المسلِمُ من سَلِم المسلمون من لسانِه ويده)).
عبادَ الله، الصغارُ هم الذين يهتمّون بالصغائر، ويَتبَعون الدسائسَ، ويفتِّشون عن أحوالِ الناس، قال المزنيّ رحمه الله: "إذا رأيتمُ الرجل موكلاً بذنوب الناس ناسيًا لذنبه فاعلَموا أنه قد مُكر به"، وقال غيره: "مَن رأى أنه خيرٌ من غيرِه فهو مستكبِر، كما قال إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12]، وسماه الله استكبارًا"، وقال ابن القيم رحمه الله: "وكم ترى من رجلٍ متورِّع عن الفواحش والذنوبِ ولسانه يفرِي في أعراضِ الأحياء والأمواتِ، لا يبالي بما يقول، وربما أوبَقَ نفسه كما في صحيح مسلم". وفي حديثِ معاذ بن جبل: ((وهَل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!)).
إنَّ الحديث عن الآخرين وتتبّعَ سقَطاتهم وإشاعَتَها والفَرحَ بها لمن أقبَحِ المعاصي أثرًا وأكثَرِها إثمًا، ولا يموت مقتَرِفها حتى يُبلى بها، ((وكلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه)) رواه مسلم. فكيف إذا كانَت مسائلَ خلاف بلا هدى ونوازع طيش على هوَى وحبَّ غلبةٍ ورغبةَ استعلاء وإرادةَ خَفضٍ للآخرين؟! فكيفَ إذا كانت غِيبةً لأهل الخير وتحرِيشًا خفيًّا أو جليًّا بالعلماء وطلبةِ العلم وأهلِ الصلاح وتصنيفًا ظالمًا بلا برهانٍ ولا بيِّنة وغمزًا ولمزًا وسخريةٍ واتهامًا للعقائد والنيات؟!
إنّه لا خلاصَ مِن هذهِ الرّذائل إلاّ بعزمةِ صدقٍ يكتال معها المؤمن من فيوضاتِ الرحمة ما يلينُ قلبَه ويجعله أخشَى لربِّه، ولو كان مثلُ هذا صاحب ليلٍ يحيِيه بالحواميم وله في هَزيعِ اللّيل تملُّقاتٌ لربِّه تُكسِب قلبَه النورَ وتكسو وجهَه الضياء واهتمامٌ بكتب الرقائقِ ومجالسة لأصحاب الهمَمِ العالية من العلماء والصالحين الصادقين رَطبَ اللّسان من ذكر الله لترقَّى لمنازِلِ الصّدِّيقِين ولطهر قلبه، وهذا يحتاج إلى ترويضِ نفسٍ ومجاهدةٍ، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
أيّها المسلمون، ومِن مَذموم الخوضِ فيما لا يَعني التقحُّم بجهلٍ في مسائل العِلم، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20]، ومن تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب، ورَحِم الله السيوطيّ إذ يقول: "لو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتطلِّعِ على مكنونِ الضّمائر، يعلم النّجوى وما تخفِي السّرائر، الخفيُّ عندَه ظاهِر، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 10]، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له القويّ القاهر، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا متّصلا إلى اليوم الآخر.
وبعد: أيّها المسلمون، العقيدةُ الإسلامية عقيدةُ الوضوح والاستقامة، فلا يقوم فيها شيءٌ على الظنّ والوهم والشّبهةِ، وفي محاسن توجيهاتِ القرآن العظيم: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]، قال القرطبيّ رحمه الله: "أي: لا تتبَع ما لا تعلم وما لا يعنيك"، ونقل قولَ ابن عباس رضي الله عنهما: (أي: لا تذُمَّ أحدًا بما ليس لك به عِلم).
أيّها المسلمون، هذه الكلمات القليلةُ التامّة تقيم منهجًا كاملاً للقَلب والعقل، يتفوَّق على المنهج العلميّ الحديث؛ لأنه يضيف إليه استقامةَ القلب ومراقبةَ الله عزّ وجلّ. إنها ميزة الإسلام على المناهج العقليّة الجافة، فالتثبُّت من كلّ خبر ومن كلّ ظاهرة قبل الحكم عليها هو دعوةُ القرآن الكريم ومنهج الإسلامِ الدقيق، ومتى استَقَام القلب والعقلُ على هذا المنهج لم يبقَ مجالٌ للوهم والخرافةِ في عالم العقيدَةِ، ولم يبقَ مجال للظّنّ والشبهةِ في عالم الحكمِ والقضاء والتعالم، بل لم يبقَ مجال للأحكام السطحيّة والفروض الوهميّة في عالم البحوث والتجارب والعلوم. والأمانة العلميّةُ التي يشيد بها الناس اليوم ليست إلا طرفًا من الأمانة العقليّة القلبية التي يعلن القرآن تبِعَتها الكبرى ويجعل الإنسانَ مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهِبِها سبحانه.
إنها أمانةُ الجوارح التي سيُسأَل عنها العبد يوم القيامة، أمانةٌ يهتزّ الوجدان الحيّ لجسامتها ودِقّتها، كلما نطق الإنسان بكلمة أو روى رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أو حادثة، وصدق الله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم أنبيائِه.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمد...
(1/5098)
وكونوا عباد الله إخوانا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
5/2/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- روح الثبات والمصابرة. 2- ضرورة ترابط المجتمعات المسلمة. 3- الحاجة إلى الصبر. 4- توثيق الإسلام للعلاقة بين المسلمين. 5- فطرية التعاون والتآزر. 6- اضطهاد بعض المجتمعات المسلمة. 7- التلاحم واقع منشود. 8- أهمية التعاون والتكاتف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، لَقَد تَوالتِ السّنون والعصورُ الإسلاميّة منذ الرعيل الأوّلِ إلى يومِنا هذا والإسلامُ يلقِّن أبناءَه يومًا بعد يومٍ روحَ الثبات على الدين وآدابَ المغالبة والمدافعةِ والصبر على الشدائدِ وتكفُّؤ الفِتَن والرَّزايا بروحِ الراضِي بقضاء ربِّه الوَاثقِ بإنجازِ وعده، محتمِلاً مع ذَلك كلَّ نصب، مُستسيغًا في سبيل الله كلَّ تعب، وليس هذا الشعور الإيجابيُّ مختَصًّا بالفَردِ المسلِمِ دونَ المجتمعات المسلِمةِ برمّتها، كلاَّ، بَل إنّ عَليها جميعًا ما يجِب من استِحضارِ مثلِ تِلكُمُ المشاعِر على وَجهٍ آكَد مِن مجرّد حضورِه في صورةِ أشخاصٍ أو أَفرادٍ لا يَصِلون دَرجةَ المجموع؛ لأنَّ مِن سُنن الله في هَذِه الحياةِ الدنيا أنّ المجتمعاتِ المسلمةَ المؤمنَة بربِّها الراضيَةَ بدينها ونبيّها قد تتَفاوتُ في القدرات والملكاتِ والجهود والطاقات، قوّةً وضعفًا، وغنًى وفَقرًا، وصِحّةً ومرضًا، وسِلمًا وحَربًا، وإنّها بهذَا التّفاوتِ لتؤكِّد حاجةَ بعضِها لبعض في المنشَطِ والمكرَه والعسرِ واليُسر والحزنِ والفرَح، وكذا تؤكّد حاجَتَها إلى تقاربِ النفوس مهما تباعَدَتِ الديار، وإلى التّراحُم مهما كثُرتِ المظالم، وإلى التفاهُم مهما كثُر الخلاف، بل إنَّها في حاجةٍ ماسّة إلى إحساس بعضِها ببعض من خِلال أسمى معاني الشعور الإيجابيّ الذي حَضَّ عليه ديننا الحنيف؛ إذ ما المانع أن تسموَ معاني الإلفة والترابط بين المجتمعاتِ المسلمة إلى حدِّ ما لو عَطَس أحدٌ في مشرقِها شمّته أخوه في مغربها، وإذا شكَا من في شمالها توجّع له من في جنوبها؟!
فلا غروَ عبادَ الله؛ إذ لا بُدّ لكلّ مجتمعٍ مسلم أن يبثَّ آهاتِه وهمومَه لإخوانِه من المجتمعاتِ المسلِمَة، فلا أقَلَّ حينَها من أن يُلاقي من يواسِيه أو يُسليه أو يتَوجَّع له، وليس وَراءَ ذلكم مثقالُ حبّة من خردَل من تعاونٍ وتراحُم.
إنّه متى شوهِدَ مثلُ ذلكم الواقعِ الإيجابيّ بين المجتمَعات المسلِمة فلن تقعَ حينها فريسةً لما يسُوؤها، بل كلّما لاح في وجهِها عارضُ البلاء وكشَّر أمامَها عن أنياب التمزّق والتفرُّق والأزمات التي تعجمُ أعوادَها وتمتحِن عزائِمَها لم تمُت في نفسها روحُ المصابَرة المستنيرةُ بهديِ الوليّ القدير مهما ظلَّت كوابِسُ الظّلم والتسلّط جاثمةً على صدرِها.
ومِن هذا المنطلقِ يبقى الإسلامُ شامخًا أمامَها، ولا يموت المسلِمون جرّاءَهَا، بل إنّهم لا يَزالُون يردِّدون كتابَ ربّهم ويتلون قولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. إنّهم يستَلهِمون مِن آيات الصبرِ التي تجاوَزَت أَكثرَ مِن ثمانينَ مَوضعًا في كتاب الله جلّ وعلا الشِّعارَ والدِّثار؛ لأنّ الصبرَ من أكرم أنواعِ المغالبة والمدافعةِ بين الحقّ والباطل في شتّى صوَرِها، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]. ولم يكن الصبرُ أَكرمَ في ذلك إلاّ لشمولِه الواسعِ أنواعَ الحُسن فيه على مَرَاقي التوفيق، وذَلكم من خِلال حُسن الاستقبال للبلايا والمحَن والعداء وحسنِ الاحتمال لها وحُسن التصرّف معها وحُسن حملها بقوّة واقتدارٍ للزَّجّ بها بعيدًا عن طريقِ المسير الخالِد وحُسن تعاطُف المجتمعات المسلِمة مع بعضها لتصبحَ كالأعضاءِ لِلجَسَد الواحد؛ لينَالوا بذلك مَا وعَد الله به أولئك بقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. ولم يكن هَذا الأجر الممدودُ بغير حدٍّ إلاَّ لأنّ أولئك الصابِرين أوفَوا بعهدِ الله من بعد ميثاقه، وأوفوا للإسلامِ، وأوفوا للثباتِ والمدافعةِ، وأوفوا لبعضِهم البعض مهما امتدّ النفَس واشتدّتِ اللأواء.
عبادَ الله، لقد انطلَقَ نور الإسلامِ ليكونَ مما يهدِي إليه توثيقُ علاقةِ الفرد المؤمن بالفرد المؤمن والمجتَمَع المؤمن بالمجتَمَعِ المؤمن على أكرمِ أساسٍ وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياجِ الفضيلة والإيثار والرحمةِ والنُّصرة، فقد قال جلَّ شأنه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال سبحانَه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقال المصطَفَى صلوات الله وسلامه عليه: ((المؤمن للمؤمِنِ كالبنيانِ يشُدّ بعضه بعضًا)) رواه البخاريّ ومسلم، وقال أيضًا: ((مثَل المؤمنين في توادُّهم وتراحمِهِم وتعاطُفِهم كمَثل الجسد الواحد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسدِ بالسَّهر والحمّى)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) رواه البخاريّ ومسلم.
كلُّ هذِه النصوصِ ـ عباد الله ـ دالّةٌ بوضوحٍ على تحضيضِ الشارع الحكيمِ على التعاون والإلفة والتناصُر واتّحادِ الآمال والآلام بين المسلمين مجتمعَاتٍ وأفرادًا؛ لأنّ الربَّ واحِد، والدِّين واحد، والنبيَّ واحد.
إنّ هذه لحقيقةٌ شامخةُ البناء، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء؛ لذا كان لزامًا على المجتمعاتِ المسلمة أن تتوهّج في نفوسها المعاني الكَريمة للتماسُك والتراحم والتناصُر، وأن يتوهّج السُّموّ الروحيّ في الأخوّة والتضامنِ والمساواة والتخلّص من سلبيّة احتكارِ الشعور وفرديّة العواطِف والنشوز بين الأجناسِ المختلفة، فدينُ الإسلام لم يجعل للجِنسِ ولا للُّغة ولا للَّونِ معيارًا لتلك المعاني الجليلة؛ لأنّ الكلَّ عبادُ الله، والنبيُّ يقول: ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) رواه البخاري ومسلم.
إذًا كيفَ لا تحُضّ شِرعةُ الله ومنهاجُه على مِثلِ هذه المعاني وقد كرّم الله بني آدَمَ وحملهم في البَرّ والبحر ورزقهم من الطيِّبات؟! وقد كرَّمَ من بني آدم أمّةَ الإسلامِ، فأوجب عليهَا من التراحمِ والترابط والاجتماع والنُّصرة ما يحرِّم من خلاله كلَّ مَعنى من معاني الفُرقة والاختلاف والأثَرَة وحبّ الذات والخذلان والإسلام للغير. وإنّ مَن لديه أدنى إلمامٍ بعالَم بَعضِ الأحياء ليدرِكُ جيِّدًا أثرَ تِلكم المعاني في واقعها لأجلِ البقاء والسيادة والوقوفِ في وجهِ الظالم المعتَدِي، فالنَّملُ على سبيل المثال يتعاوَنُ في دأَب وصبر على الأعمالِ المتعدّدة والمحاولات المتكرِّرة، وقد ذكَر الله جلّ وعلا عن أمّة النمل موقفَها معَ سليمانَ عليه السلام: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل: 18]. ولِجُموعِ النحل مثلُ ذلكم الشّعور مع مملكته، تتعَاوَن في دقّةٍ وانتظامٍ في عمارة خلاياها وحمايَتِها. وقولوا مثلَ ذلكم في الطيور والحيوانات الأخرى؛ حيث نراها تسير جماعاتٍ وأسرابًا، وإذا عرض لها عارضُ خطرٍ تكتّلَت واجتَمَعت؛ لإدراكِها بالغريزة أنّها إذا انقَسَمَت هانت وذلّت.
فإذا كان ذلكم هو الشعورَ الجليّ في الحشراتِ والحيوانات العجمَاوَات غريزيًّا فكيف بالإنسان المسلم الذي استطاع أن يملِكَ ذلكم الشعورَ بالغريزةِ والشريعة معًا؟! حيث يقول الرَّسول : ((المسلِمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه، ولا يُسلِمه، من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربةً من كرَب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامَةِ، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) رواه البخاري بهذا اللّفظ.
إنَّ في أمَّتِنا الإسلاميّة مجتَمعاتٍ مسلمةً تمرّ عليها أيّام عِجافٌ، قُلِب فيها الباطلُ حقًّا والحقُّ باطلاً؛ لأنّ دَورةً من دوراتِ الزمن منَحَتِ المبطلَ القوّةَ في الأرضِ، فجعَلَته هو صَاحبَ الأرض، وجَعَلَت مالكَ الأرض الأصل إِرهابيًّا طرِيدًا لا حقَّ لَه، كلُّ ذَلك يستَدعي شَحذَ همَمِ المجتمَعَاتِ المسلمة شعوبًا وحُكَّامًا وأصحَابَ قَرار أن يحيطوا تِلكم المجتمَعاتِ بالرحمة والتّعاطفِ والإحساس بالواجِب تجاهَها والسَّعي الدَّؤوب لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل، فالحقُّ لا يمكِن أن يضيعَ جَوهرُه لأنَّ عِللاً عارضةً اجتَاحَت أهلَه؛ إذ لم تتحوّل جرائمُ فِرعَون إلى فضائل لأنّه مَلَك سلطةَ الأمر والنهي واستَطَاع قتلَ الأبناءِ واستحياء النساء. إنّنا إذا لم ندرِك ذلكم جيّدًا فلن نَستَبِين أغراضَ الغارةِ الشَّعواء الكامِنَة في جَعلِنا وإخوانَنا من المجتمعات المسلِمَة قِصّةً تُروَى وخبرًا كَان، أو تبقيَنا جملةً لا محلَّ لها من الإعراب، إلاّ أن تَلتَقيَ الأطماع على أنقاضِنا، وعزاؤنا أنّ اللهَ غالِبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ والسّنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وحدَه، والصّلاةُ والسّلامُ على من لا نبيَّ بَعدَه.
وبَعد: فيا أيّها الناسُ، إنّ الحَاجةَ إلى تلاحُمِ المجتَمَعات المسلِمَة وتوحيدِ شعورِها إيجابًا وسلبًا وفقَ ما شَرعَه الله لهم والدعوة إلى إذكاءِ ذلكم الشعور لم تكن بِدعًا مِنَ الحديث، وليسَت هي خَيالاً لا يُتصوَّر وجودُه، ولا هي مثاليّة يُهزَأ بها، بل هي واقعٌ منشودٌ في كلّ عصرٍ ومصر، وهي وإن خَبَت تارةً فإنها قد نَشطَت تاراتٍ، وإنّ ذلكم كلَّه ليسيرٌ على من يسّره الله له متى ما تحقَّقت معاني التعاون الصادق والإحساسِ المشترك والإِنمَاء الأصيل للدين الإسلاميّ؛ إذ القوّة وحدَها لا تكفي، والصَّبر وحدَه لا يَسُدّ الحاجَةَ، والشجاعةُ وحدَها لا تردّ الاعتداء، مَا لم تُحَط هذه الأمور جميعها بالتَّعاون المشتَرَك ووضعِ الأكفّ على الأكًفّ بين المجتمعات قياداتٍ وشعوبًا؛ ليكون تلاحُمُ الأمّة سياجًا مَنيعًا ضدَّ أيّ ثَارةٍ أو غارة، وضدَّ أيّ تحدٍّ وعُدوان غاشم يبيحُ كلأَها ويختلي خلاها، فإذا كانت القوّةُ وحدَها لا تكفي دون تعاونٍ وتضافُر فكيف إذا كان الضَّعف جاثمًا مكانَ القوّة؟! فقوّةُ القويّ لا يتِمّ لها الكمال إلاّ بتعاوُن الضعيف معه، فما ظنّكم بالضعيف إذا عاوَنَه القويّ؟! وأيّ قوّةٍ أسمى وأعلى من قوّة الدّين والملّة؟!
ولقد ضرَبَ الله لنا مثلاً ذا القرنَين على ما أوتي من قوّةٍ وشدّة، إذ مكّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سببًا، نراه مع قوّتِه وشدّته لم يستغنِ عن التعاون والاشتراكِ في مواجهةِ الشدّة، وذلك حينَمَا سألوه أن يجعل بينَهم وبين يأجوجَ ومأجوج سدًّا، فقال: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف: 95، 96]. فها هُوَ مَعَ قوَّتِه وشِدَّتِه قد طلب مِنهم الإعانةَ بقوّة، وطلب مِنهم أن يأتوه بزُبَر الحديد، وطلب منهم أن ينفُخُوا فيه، فقدّموا له هذه الأمورَ الثلاثة مع قدرته وتمكينه. وهذا كلُّه دليلٌ جليّ على إباءِ الرِّماح أن تنكسرَ إذا هي اجتمعت، ومعلومٌ أنّ القِدرَ عَلى ضَخامَتِه لن يَستَقرَّ دونَ الأثافي.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وصلّوا وسلّموا على خيرِ البريّة وأَزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمَّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد...
(1/5099)
آداب المساجد وأحكامها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المساجد
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
26/10/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل بيوت الله. 2- الأمر بصيانة المساجد وتطهيرها. 3- آداب ومستحبات لقاصد المسجد. 4- آداب دخول المسجد. 5- أحكام تحية المسجد. 6- إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. 7- النهي عن حجز مكان في المسجد. 8- من أحكام الصفوف. 9- التحذير من المرور بين يدي المصلي. 10- التحذير من أذية المسلمين في المسجد. 11- ما ينهى عنه في المسجد. 12- حكم دخول الحائض والجنب للمسجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه أفضلُ مكتسَب وطاعتَه أعلى نَسَبٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلِمون، المساجِدُ بيوتُ الله، بُنِيت جُدُرها ورفِعَت قواعدها على اسمه وحدَه لا شريك له، يُعبَد فيها ويوحَّد، ويعظم فيها ويمجَّد، ويركَعُ له فيها ويُسجَد، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18].
أذِنَ الله برَفعِها وعِمارتها، وأمَرَ ببنائها وصِيانَتِها، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور: 36]. بِناؤها من أعظم القُرَب لمن أخلص لله واحتَسَب، فعَن عثمانَ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن بَنَى لله مَسجدًا يَبتغِي به وجهَ الله بَنى الله له بيتًا في الجنة)) متفق عليه.
أمَرَ الشارع بتطهِيرِها وتنظيفِها وتنزيهِهَا وتطيِيبِها، فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أمَرَ رسول الله ببناء المساجِدِ في الدور ـ يعني: في القبائل ـ وأن تُنَظَّف وتُطَيَّب. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
هِي أحبُّ البقاع وأطهر الأصقاع، فعن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله قال: ((أحَبّ البلاد إلى الله تعالى مساجدُها، وأبغَضُ البلاد إلى الله أسواقُها)) أخرجه مسلم.
ولِعظيمِ فضلها وشريفِ مكانتها شُرِع لقاصدها من الآداب والسنَن والأحكام ما يحسُن التنبيهُ عليه؛ رعاية لحرمتها وتذكيرًا بحقِّها.
أيّها المسلمون، يُستَحَبُّ لقاصِدِ المسجد أن يتجمَّل لصلاتِه بما يستطيع من ثيابِه وطيبِه وسِواكه، قال جل في علاه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31]، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا صلَّى أحدُكم فليبَس ثوبَيه، فإنَّ الله أحقُّ مَن يُتزيَّن له)) أخرجه البيهقي.
ولا يجوز أن يصلِّيَ في ثوبٍ رقيق يَشفّ عنه أو ضيّقٍ يكشف عن عورته أو قصيرٍ ينحسر عن سَوأته، وتحرُم صلاته في ثوبٍ فيه صورة أو ثوبٍ مسبِل، فعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أسبل إزارَه في صلاتِه خُيلاءَ فليس مِنَ الله جلّ ذِكرُه في حلٍّ ولا حَرام)) أخرجه أبو داود.
وعلى المصلِّي اجتنابُ الروائحِ الكريهة في ملبسِه ومأكله، فلا يؤذِي إخوانه المصلين ببخَر فمِه وقَذَر أنفِه وطَفَسِ ريقِه وسهكِ عرقه ونَتَن رائحته، فعن جابر أنَّ رسول الله قال: ((مَن أكَلَ البصلَ والثومَ والكرّات فلا يقربنَّ مسجدنا؛ فإنَّ الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) أخرجه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس ينتابون الجمعةَ من منازلهم ومن العَوالي، فيأتون في العباء، ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح، فأتى رسولَ الله إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال رسول الله : ((لو أنكم تطهَّرتم ليومِكم هذا)) متفق عليه. فأكرِم بعبدٍ يأتي بيوتَ الله مُتطهِّرًا مُتنظِّفًا، تفوح رائحته طيبًا وقَطرًا وتسطَع أرجًا ونشرا وتتضوّع عُودًا وعَرفا.
ويخرج المسلم إلى المسلم للصلاة بسكينة ووقار، ويقارب خُطاه، ويقول ما وردَ، ولا يشبِّك أصابعَه، وإن سمع الإقامةَ لم يسعَ إليها، فعن أبي هريرَةَ قال: قال رسول الله : ((إذا سمعتمُ الإقامةَ فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقارِ، ولا تسرِعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتَكم فأتمّوا)) متفق عليه.
ويستَحَبّ التبكير والتهجير إليها، فعن أبي هريرةَ أن رسولَ الله قال: ((لو يعلَم الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأول ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستَهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمَة والصبح لأتوهما ولو حبوًا)) متفق عليه.
ويقدِّم رجلَه اليمنى عند دخولِ المسجد، ويسلِّم على النبيِّ محمَّد ، ويقول: اللّهمّ افتح لي أبوابَ رحمتك، وإذا خرَج سلَّم على النبيِّ وقال: اللّهمّ افتح لي أبواب فضلك، أو: اللّهمّ أجِرني من الشيطان الرجيم.
ولا يجلِسُ حتى يصّلِيَ تحيّةَ المسجد ركعتين، فعن أبي قتادةَ أنَّ رسولَ الله قال: ((إذا دخل أحدُكم المسجدَ فليركع ركعتين قبل أن يجلِس)) متفق عليه. ومَن دَخَل يومَ الجمعة والإمامُ يخطُب فلا يجلِس حتى يصّلِيَ ركعتين في أصحِّ قولي العلماء، يخفِّفهما ويتجوَّز فيهما، فعن جابرٍ قال: جاءَ سُليكٌ الغطفانيّ يومَ الجمعة ورسول الله يخطب فجلس، فقال له النبيّ : ((يا سُلَيك، قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما)) ، ثمّ قال : ((إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتَين وليتجوَّز فيهما)) أخرجه مسلم. ومَن دخَل يومَ الجمُعةِ والمؤذِّن يؤذن الأذانَ الثاني فليُبادر بصلاةِ تحية المسجد، ولا ينتظر المؤذّنَ حتى ينتهيَ؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى أن يشرَع في تحيّة المسجد والإمامُ يخطب والإنصاتُ للخطبة واجب.
وإذا أقيمَت الصّلاةُ فيحرُم على المصلّي أن يشرَعَ في نافلةٍ أو سنّة راتبة في أصحّ قولي العلماء؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أقِيمَت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبة)) أخرجه مسلم.
ومِن اختلافِ بعض المصلين على الإمامِ ومخالفَتِهم لجماعةِ المسلمين دخولُهم المسجدَ في صلاة الفجر خاصّة والإمام يصلّي فلا يلتحقون بالجماعةِ حتى [يصلّوا] سنّةَ الفجر خلفَ جماعة المسلمين، وهذا فعل محرَّم وبدعة محدَثَة لا أصلَ لها، وفاعلُها مخالفٌ لأمر النبيِّ محمد ، فعَن عبد الله بنِ سرجس قال: جاءَ رجل والنبيُّ يصلّي الصبحَ، فصلَّى الركعتَين ثمّ دخَل مع النبيِّ في الصلاة، فلما انصرَفَ قال له رسول الله : ((يا فلانُ، أيَّتهُما صلاتَُّك: التي صلَّيتَ وحدك أو التي صلَّيت معنا؟)) أخرجه أبو داود. قال ابن عبد البر: "كلُّ هذا إنكارٌ منه لذلكَ الفعل، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يصلِّيَ في المسجد شيئًا مِنَ النّوافل إذا قامَت المكتوبة".
ومَن فاتَته سنّةُ الفجر فيُستَحَبّ له قضاؤها بعدَ ارتفاع الشمس قيدَ رُمح؛ لما روى أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ قال: ((من لم يصلِّ ركعتي الفجر فَليصلِّهما بعدما تطلُع الشّمس)) أخرجه الترمذي. وإن قضاها بعد صلاةِ الفجر قبل أن تطلع الشمس جازَ؛ لحديث قيس بن عمرو قال: رأَى رسول الله رجلاً يصلِّي بعد صَلاةِ الصبح ركعتين، فقال رسول الله : ((صلاةُ الصبحِ [ركعتان])) ، فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتين اللّتين قبلهما فصلَّيتهما الآن، فسكت رسول الله. أخرجه أبو داود والترمذي.
أيّها المسلمون، المصلُّون في المسجدِ كلُّهم سواء، فمن سبَقَ إلى مكان في المسجدِ استحقَّه، ومن أقامه منه بغيرّ حقٍّ فهو مغتصِب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((لا يقيمَنَّ أحدكم الرجلَ من مجلسِه ثم يجلس فيه)) أخرجه مسلم. وليس لأحدٍ أن يتحجَّر من المسجد شيئًا، فيضَعَ سُجّادةً أو بساطًا أو عصا أو غير ذلك قبل حضورِه، أو يوكِّل من يحجز له، وليس لشيء مما وضَعَ حرمةٌ، بل يزال ويُصلَّى مكانَه. ومَن سبَق إلى مكانٍ في المسجدِ ثم فارَقَه لتجديدِ وضوء ونحوِه فلا يبطُلُ اختصاصُه به، وله أن يقيمَ من قعد فيه، ويجِب على القاعد طاعتُه، فعن أبي هريرةَ أن رسول الله قال: ((من قام من مجلسِه ثم رجَع إليه فهو أحقُّ به)) أخرجه مسلم.
ولا يَصُفّ في طرقات المجلس وأبوابه لئلاّ يمنع المصلين دخولَ المسجد، بل يتقدَّم إلى الصفوف المتقدِّمة، فعن أنس أن رسولَ الله قال: ((أتمُّوا الصفَّ المتقدِّم ثم الذي يليه، فما كان من نقصٍ فليكن في الصفِّ المؤخَّر)) أخرجه أبو داود والنسائي.
وإذا علِم المصلّي أنه إذا مشى إلى الصفّ المتقدِّم فاتته الركعة وإن صلَّى في الصفّ المؤخَّر لم تفُته فقد قال العلماء: إن كانت الركعةَ الأخيرة صلّى في الصفِّ المؤخَّر، وإذا كانت غيرها مشَى إلى الصف المتقدِّم. وقال في الإنصاف: "وقد يقال: يحافِظ على الركعة الأولى والأخيرة".
ولا يصلَّى بين السواري إلا إذا ضاقَ المسجِد فلا بأس بالصلاة بينها.
ويستَحَبّ صلاة المصلي إلى سترةٍ ودنوُّه منها ولو لم يخشَ مارًّا، وإن أراد أحدٌ المرور بين يديه فله منعُه، فإن أبى فلَه دفعُه، فإن أبي فلَه المبالغةُ في قهرِه عن المرور بما لا يفضِي إلى الفتنةِ وفسادِ الصلاة، فعن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله : ((إذا صلّى أحدُكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها، ولا يدع أحدًا يمرُّ بينه وبينها، فإذا جاء أحدٌ يمرّ فليقاتله فإنّه شيطان)) أخرجه أبو داود وابن ماجه.
ويحرُم المرور بين يدَيِ المصلّي حتى ولو لم يجِدِ المارّ مَساغًا وسبيلاً غيرَه، إلاّ لضرورة أو مشقّة عظيمة لا يمكِن دفعُها؛ لما روى أبو جهيم الأنصاريّ قال: قال رسول الله : ((لو يعلم المارّ بَين يديِ المصلّي ماذا عليه لكان أن يقفَ أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه)) ، قال أبو النضر: لا أدرِي قال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة.
أيّها المسلمون، وعلى قاصِد المسجد أن لاَ يؤذِيَ إخوانه المصلّين بتخطِّي رقابهم ومضايَقَتهم ومزاحمَتِهم ومحاولةِ اقتحام الصفّ عليهم مع تعذُّر ذلك بسبَبِ الضيق والازدحام الشديد، أو بالتشويشِ عليهم بالجهر بالقراءةِ والدعاء، فعن أبي سعيد الخدريّ قال: اعتكف رسول الله في المسجدِ، فسمعهم يجهرون بالقراءةِ، فكشف السترَ فقال: ((ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذِيَنَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفَع بعضكم على بَعضٍ في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ومن التشويشِ والإيذاء الذي عمَّ وطمَّ في مساجدِ المسلمين وقطَعَ عليهم خشوعَهم وسكونهم ما يصدُر من أجهزةِ الجوّال اليومَ من المقاطع الغنائيّة والنغمات الموسيقيّة والأصوات المطرِبَة التي آذت المسلمين أيّما إيذاء، فعَلى كل مسلم يخشى ربَّه ويخاف عقوبتَه أن لا يدنِّسَ بيوتَ الله التي بُنيَت للذكرِ والصلاة وقراءةِ القرآن بهذه النَّغَمات المحرمة والأجراس الشيطانيّة، وعليه أن يسارع في محوِها والتخلُّص من شرِّها وإثمها.
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتَّبعين لسنّة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب وخطيئَة، فاستغفِروه إنه كان للأوّابين غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمين، وممّا تُصان عنه المساجد إنشادُ الضالة والبيعُ والشراء، فعن أبي هريرةَ أنَّ رسول الله قال: ((إذا رَأَيتم من يبيعُ أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَك، وإذا رأيتم من ينشُد ضالّة فقولوا: لا ردَّ الله عَليك)) أخرجه الترمذيّ.
ويجب أن يُصان المسجد عن الأقوال الرذيلَة والأحاديثِ السيّئة واللَّغط والأصوات المرتفعة، قال سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى: "من جَلَس في المجلس فإنما يجالِس ربَّه، فما حقُّه أن يقولَ إلا خيرًا".
والحيضُ حدَث يمنَعُ اللّبثَ في المسجدِ على الصحيح من قولي العلَماء؛ لحديثِ أمِّ عطيّةَ رضي الله عنها أنها سمعت النبي يقول: ((ويعتَزِل الحُيَّضُ المصلّى)) أخرجه البخاري. ويباح لها العُبورُ للحَاجَة مِن أخذِ شيءٍ أو تركِه، فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله : ((ناولِيني الخمرةَ مِنَ المسجد)) ، فقلتُ: إني حائض! فقال: ((إنَّ حيضَتَك ليسَت في يدِك)) أخرجه مسلم.
والجنابةُ حدَث يمنع اللبثَ في المسجدِ أيضًا، ويُباح له العبور لحاجةٍ؛ لقولِه تعالى: وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43].
أيّها المسلمون، إنما شُرِعت الجماعة في المسجد لمقاصِدَ عظمى، منها التعارف والتآلف والتعاوُن والتكاتُف، فتصافَحوا يذهبِ الغِلّ، وتَسَامحوا تذَهب الشحناء، وخُذوا بأيدي بعضكم، وطهِّروا قلوبَكم مِن الأحقاد والضغَائِن، واستبدلوا القطيعةَ والجفاء بالصِّلة والمحبة والصَّفاء، وأدّوا حقوق بعضكم على بعض، وليعطِف غنيُّكم على فقيركم وقوِيّكم على ضعيفِكم، وكونوا عباد الله إخوانًا.
وصلّوا وسلِّموا على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة، فقد أمركم الله بذلِك فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد...
(1/5100)
فضل المسلم
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
30/12/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله في خلقه. 2- دعاء الملائكة والأنبياء للمسلمين الموحدين. 3- حب الله تعالى للمؤمنين وتأييده نصرته لهم. 4- فضل القرب من المؤمن. 5- أحوال المؤمن كلها خير. 6- حرمة المؤمن حيا وميتا. 7- التحذير من أذية المسلم والتعدي على ماله ودمه. 8- أحوال المسلمين في هذا الزمان. 9- الاستعداد للآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى في اتباعِ الهدى، والعمَى في اتِّباع الهوى.
أيّها المسلمون، خلقَ الله آدمَ بيديه وأمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلاّ إبليسَ أبى واستكبرَ ولم يكن من الساجدين، فاستحقَّ الإبعادَ من رحمة الله، فكانت سنّةُ الله في خلقه أن من أطاعَ ربَّه واتَّبع رسلَه فاز بالسعادة في الدارَين، ومن عصى واستكبرَ ولم يتَّبع المرسلين كان من الأشقِياء الهالكين، قَالَ سبحانه: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20].
وقد أعلى الله مكانَةَ المسلمين الموحِّدين، فأمر الملائكةَ بالدعاء لهم ولِذُرّيَّاتهم وزَوجَاتهم، قال عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر: 7، 8].
ودَعا الأنبياءُ لِكلِّ مؤمِنٍ ومؤمنةٍ بالمغفرةِ، فقال نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28]، وقال الله لنبِيِّنا محمّدٍ : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19].
وأحبَّ الله المؤمنَ وقرَّبه إليه، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4]، وأيَّدَه ونصره، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]. وهو سبحانه مع المؤمنين بالتّأيِيد والتّثبيت، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]، وأنزل جنودًا من السَّماء لنصرتهم، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، وقَلَب نعمًا في الأرض نِقمًا على أعداء المسلمين، فجعل نسيمَ الرياح ريحًا صَرصَرًا على من عاداهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9]. والله يرمِي سَهمَهم ويسدِّد نبلَهم، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17]، وهو الذي يكشِف كُربهم ويهدِيهم في الشدائد، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]، وهو الذي ينتصِر لهم على عدوِّهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحربِ)) رواه البخاري.
وجعَلَ لهم المودَّةَ والمحبّة والقبول في قلوب العباد، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، ويثبِّت أقدامهم ويسدِّد أقوالهم ويربِط على قلوبهم، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27].
والله يتولَّى حِفظ ذرّيّة المسلم ونسلِه ولو بعد قرون بِبَركة عملِه الصالح، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف: 82].
وقد وَعَدَه الله بالحياةِ الطيبة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97]. وجعل سبحانَه أعمالَ المسلم في حياته وبعد مماته مُباركة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يغرِسُ المسلم غرسًا ولا يزرَع زرعًا فيأكُلُ منه إنسانٌ ولا دابّة ولا شيء إلاّ كانت له صَدقةً إلى يوم القيامة)) رواه مسلم.
والقُرب من المؤمنِ خير، وزيارته من أجلِّ العبادات، قال المصطفى : ((إذا زَارَ المسلِم أخاه في الله أو عادَه قال الله عزّ وجلّ: طِبتَ وتبوَّأتَ من الجنّة منزلاً)) رواه أحمد.
وبياضُ لحيته ورأسِه ضياء، فنهى النبي عن نَتفِ الشيب وقال: ((إنه نورُ المسلم)) رواه الترمذي.
وجميعُ أحواله وتقلُّباته في الدنيا من الأحزانِ والأفراحِ خَيرٌ له، قال المصطفى : ((عَجبًا لأمرِ المؤمِن، إنَّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سراء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرّاء صَبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم. وأعمالُه الصالحة مُضاعَفةٌ، ومصائبه مكفِّرةٌ لسيئاته، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من مصيبةٍ تصيب المسلمَ إلا كفَّر الله بها عنها، حتى الشوكة يُشاكها)) متفق عليه. ومرضُه ذُخرٌ له عند ربِّه، يقول النبيُّ : ((مَرضُ المسلم يذهب الله به خطاياه كما تُذهِب النار خبَثَ الذهب والفضّة)) رواه أبو داود.
وعينَاه فادِيَةٌ له من النار إن فَقَدَهما، قال النبيُّ : ((قال الله عزّ وجلّ: مَن أذهبتُ حَبِيبَتَيه فصَبرَ واحتسَب لم أرضَ له ثوابًا دونَ الجنّة)) رواه الترمذي. وجَسدُه طاهرٌ حيًّا وميِّتًا، قال النبيُّ : ((إنَّ المسلمَ لا ينجس)) متفق عليه.
ولا يُغسَّل أحدٌ من ذرّيّة آدم بعد وفاتِه سِوى المسلِم، ومن تبِع جنازَتَه وكان معه حتى يصلَّى عليها ويفرَغَ من دفنِها رجع من الأجر بقيراطين. وكَسرُ عظمِه بعد موته ككسرِه وهو حيٌّ، ودِيتُه على الضِّعف من ديةِ غيره.
ولفضلِ الله عليه أنَّ أعماله الصالحة تجرِي أجورُها له وهو في قبره، ((إذا مات الإنسان انقَطَع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلم يُنتَفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) رواه مسلم. وجنّات النعيم أعِدَّت له، وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: 90]. والملائكةُ على أبوابِ الجِنان تسلِّم عليهم، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24].
وجماعُ الشّرِّ في احتقارِ المسلم وازدِرائِه، قال النبيُّ : ((بحسبِ امرِئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم)) رواه مسلم. ولحرمتِه عِندَ الله أمَرَ أن تَكونَ نفسُ المسلم مُطمئنِّةً في الحياةِ، فلا تُراعُ ولا تؤذى، بل كلُّ أمرٍ يخشى أن يناله أذى منه نهى الله عنه، قال النبيّ : ((من مرَّ في شيءٍ من مساجدنا أو أسواقِنا ومعه نبلٌ فليمسِكْه أو ليقبِضْ على نِصالها بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيءٍ)) متّفق عليه.
والملائكةُ تَلعَن من أشار على مسلمٍ بحديدة، قال الرسول : ((من أشارَ إلى أخيهِ بحديدةٍ فإنَّ الملائكةَ تلعنه حتى ينزع وإن كان أخاه لأبيه وأمِّه)) رواه مسلم. قال النوويّ رحمه الله: "ترويع المسلم حرام بكلِّ حالٍ".
ونهى النبيُّ عن كلِّ فعلٍ يحزنه فقال: ((إذا كنتُم ثلاثةً فلا يتناجَ اثنان دونَ الآخر حتى تختَلِطوا بالناس من أجلِ أنَّ ذلك يحزِنُه)) متّفق عليه.
وإن وَقَعَت منه هنّةٌ أو هَفوة فالسِّترُ عليه سِترٌ يومَ القيامة، قال المصطفى : ((ومَن سَتَر مسلمًا سَتَره الله يومَ القيامة)) متفق عليه. وإذا تكالَبَت عليه النوائِبُ فأزِيلَت عنه كُربةٌ انفَرَجَت على من أَعانَه كربةٌ يومَ القيامة، قال النبيُّ : ((ومن فرَّج عن مسلمٍ كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرَب يوم القيامة)) متفق عليه.
وأذِيَّتُه باللسانِ محرَّمة، قال عليه الصلاة والسلام: ((قتالُ المسلم كُفر وسِبابه فسوقٌ)) متفق عليه. ولَعنُه كقتلِه، قال النبيُّ : ((لَعنُ المؤمن كقَتلِه)) متفق عليه. ومَن قَذَفَه بغير بيِّنةٍ جُلِد ثمانين جلدة، وتوعَّد الله من آذاه بالنكال والعذاب فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا أي: عذبوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
ومالُ المسلم مصانٌ لا يُسلب ولا يُنهَب ولا يغتصب، ((كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه وماله وعرضه)) رواه مسلم. ومن حَلَفَ يمينًا بغيرِ حقٍّ ليأخُذَ مالَ أخيه المسلم أكبَّه الله في النارِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((من اقتطَع حقَّ امرئ مسلم بيمينِه فقد أوجب الله له النارَ وحرَّم عليه الجنّة)) ، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن قَضِيبًا من أراك)) رواه مسلم. ومالُه محترَمٌ بعد مماته، فلا يحِلّ ماله لأحدٍ إلا لورثته ممن كان على الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يرِث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)) متفق عليه.
وأمّا دِماء المسلمين فشأنها عندَ الله عظيمٌ، هي أوّلُ ما يفصَل فيها في الخصومات؛ لعظيم أمرِها وكثير خطَرِها، قال عليه الصلاة والسلام: ((أوَّلُ ما يقضى بين الناس يوم القيامةِ في الدماء)) متفق عليه. ودمُ المسلم أعزّ الدماء عند الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((لَزوالُ الدنيا أهون على الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) رواه الترمذي. قال الطيبيّ رحمه الله: "مَن حاول قتلَ من خُلقت الدنيا لأجلِه فقد حاول زَوالَ الدنيا". والتعدِّي على النفس المسلمة الواحدة تعدٍّ على الخلقِ كلِّهم، قال عزّ وجلّ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
ودمُ المسلِمِ لا يُستباح إلا بإحدَى ثلاثٍ، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلِم يشهد أن لا إلهَ إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النّفسُ بالنفس، والثيِّب الزاني، والتاركُ لدِينِه المفارق للجماعة)) متفق عليه.
وسَفكُ دمِ المسلم موجِبٌ لغضب الله ولعنتِه، قال جلّ وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. قال القرطبي رحمه الله: "ليس بعد الكفر أعظَم مِن قتل النفس بغير حقّ".
أيّها المسلمون، ومع علوِّ مكانة المسلمين الموحِّدين عند الله إلاّ أنَّ دماءهم تنزِف في بلدانٍ ليلاً ونهارًا سِرًّا وجهارًا، يُصبح الرّجلُ خائفًا ويمسِي جَريحًا، ويمسي حَزينًا ويصبِح قتيلاً، تُسلَب الأموال، وتُنتَهبُ الممتلكات، وتُتلَف الخيرات، وتغتَصَب المدَّخرات، وتقتَل الذَّراري، وترمَّل النساء، ويُيَتَّم الصبيان، ويُسقَم الصحيح، ويفقر الغنيّ، ويؤسَر الحرّ، ويُستَذَلّ العزيز، وتُبدَّل الشرائع، وتطمَس معالم الدّين.
أخبارٌ متوالِية مفجِعَة، وأحداثٌ متتالِيَة موجِعة، ألا فليكفَّ الجميعُ عن إراقةِ دِماء المسلمين، وليرجِعوا إلى رُشدهم، ولينبُذوا الظلمَ، ولينهَلوا من منبع العدل والإسلام، وليعمَلوا بوصيّة النبيّ : ((لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرِب بعضكم رقابَ بعض)) متفق عليه.
ولقد عاشَ غيرُ المسلمين أحقابًا مِن الزمان تحت رايَةِ المسلمين بأمنٍ وأمان واطمِئنان وحقٍّ محفوظ لهم من غير بخسٍ ولا ظلم ولا قتل، فلِمَ لا يُنشَر الأمنُ والرّغَد على الشعوبِ المسلمة لتعبدَ ربَّها كما أمر وتُسدِيَ الخيرَ للشعوب كافَّة؟! واللهُ مطَّلِع على من ظَلَم، وأخذُه أليمٌ شَديد، ونصرُه للمستضعفين إذا التَجَؤوا إليه قريبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانهِ، والشكر له على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشَأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأيّامُ والليالي يسافِر العبد فيها إلى ربِّه، وكلُّ يومٍ وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلةً بعد مرحلةٍ حتى ينتهيَ سَفرُه ويُطوَى عمره، والكيِّسُ الفَطِن هو الذي يجعَلُ كلَّ مرحلة نصبَ عينَيه، فيعطيها حقَّها من العِبادة والطاعة والبَذلِ والإحسان، ومن تيقَّن قِصَر الحياة وسرعة انقِضائها هانَ عليه العملُ، والطالبُ الصادق في طَلَبِه كلَّما نَقَص شيءٌ مِن دُنياه جعله زيادةً في آخرَتِه، وكلّما مُنِع شيئًا من لذّاتِ دُنياه جعَلَه زيادةً في لذّات آخرته، وكلّما نالَه همٌّ أو غَمّ جعَلَه في أفراحِ آخرته.
ثم اعلَموا أنَّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيِّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحكم وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ...
(1/5101)
تذكير الجماعة بأشراط الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
23/12/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر العقيدة الإسلامية في استقامة المسلم. 2- مصير العالم إلى الفناء. 3- قرب الساعة. 4- أشراط الساعة الصغرى. 5- علامات الساعة الكبرى. 6- تنبيهات مهمة حول أشراط الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللّهمّ لكَ الحمدُ ولَك الشّكرُ على نِعمِك العظيمة وآلائِك الجَسيمة، ولكَ الشّكرُ على مَا يسَّرتَ لحُجّاجِ بيتِك الحَرامِ مِن إتمامِ المناسِك بأمنٍ وأَمانٍ ورَاحةٍ واطمِئنان. اللّهمَّ وَأعِدهم سَالمين غَانمِين مَأجورِينَ غيرَ مَأزورِين، وجازِ بعظِيمِ الأجر والمثوبَةِ كلَّ من كان سببًا في إنجاحِ هَذا الموسِم العَظيم، وخُصَّ بالتَّوفيقِ والتَّسديدِ وُلاةَ أمرِنا ورجالَ أمنِنا وَكلَّ عَاملٍ مخلِصٍ في خِدمةِ الحَجيج، ومُنَّ عَلَى الجميعِ بالقَبولِ والتّوفيق، اللّهمّ آمين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ الدّنيا تجرِي إلى فنائِها في تعادِيهَا، وأنَّ الظَّفَر والفَلاحَ لمن يعاديها، وقد لاحَت ـ رحمكم الله ـ أمَارَات لدُنُوِّ بوارِها وتلاشِيها، فصونُوا النفوسَ عمّا يوبِقها ويُخزيها، وتجمَّلوا للسَّاعة بالتقوَى فنِعمتِ الزاد لملاقِيها، لا سيّما وأنتم تعيشون خِتامَ عامِكم المؤذِن بتصرُّم أعماركم؛ ممّا يدعو إلى الازدِلافِ إلى ربِّكم بصالحِ أعمالِكم.
أيّها المسلِمون، للعقيدةِ التي جاءَت بها شَريعتُنا الغرّاءُ فوطَّدتها وغرَسَتها في نفوسِ المسلِمين ودَبَّجَتها وأقامت علَيها أجلَى البراهينِ وأكَّدتها أثرٌ لاحِبٌ في استقامةِ المسلم وهُداه وبلوغِه من الرّضا عن ربِّه عُمقَه ومداه، من ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ عقيدةُ الإيمانِ باليوم الآخر وقضيّةُ الساعة وما يتقدَّمها من أمارات وعلاماتٍ، من أيقنَها وتدبَّرها غمَرته عظمتُها ورَهبَتها، وأذهَلَته سَطوَتها وهَيبَتُها، واستَحكَم في شغَافِه إيمانُه بصاحبِ الرسالة، وأسلَم مُنقادًا لكلِّ ما أخبر به منَ الغيوبِ وقالَه، صَلَوات ربي وسلامه عليه، ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 232].
إخوةَ العقيدة، وكَونُكم هذا بَديعُ النِّظام المخلُوقُ على أحكمِ دِقّةٍ وأبلغ تمامٍ بكواكبِه التي آتاهَا الله مِعراجَها وهَداها أَدراجَها وأفلاكَها التي أحلَّها أبراجَها وشموسِه التي أضرم وهَّاجَها وأراضيه السّبع التي شقَّ فِجاجها ومحيطاته التي أهدَر أمواجَها سيؤول بجبروتِ الله إلى الانفطارِ والانتثارِ والدّمارِ والاندِثار، ثمّ مصير البرايَا إلى جنّةٍ أو نار، جعَلَنا الله وإيّاكم في دار الأبرار.
وقد أخبر جلَّت حِكمته عن قربِ ذلك وبُدُوِّه ولَياحِه ودنوِّه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1]، وجعَل الملك الديّانُ لميقات ذلك أشراطًا سابِقَة ودلالات وفتنًا ممحِّصات ومحنًا مبتلِيَات، يقول تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد: 18]، ويقول : ((إنَّ بين يدَيِ الساعةِ فتَنًا كقِطَع الليل المظلِم؛ يصبِح الرجل فيها مؤمنًا ويمسِي كافرًا، ويمسِي مؤمنًا ويصبح كافرًا)) أخرجه الإمام أحمد وغيره.
إخوة الإيمان، وأشراطُ الساعة قسمان: صغرى وكبرى.
أمّا الصغرى فمنها ما مضى وانقضَى، كَبعثةِ الرسول لقوله عليه الصلاة والسّلام: ((بُعِثت أنا والساعة كهاتين)) يشير بأصبعَيه فيمدّهما. أخرجه البخاري. وفي رواية لأحمد: ((إن كادَت لتسبقني)). وفتح بيتِ المقدِس وظهورِ الخوارج وظهورِ مُدَّعي النبوّة، يقول : ((لا تقوم السّاعةُ حتى يُبعَثَ دجّالون كذّابون، قريب من ثلاثين، كلّهم يزعم أنّه رسول الله)) أخرجه البخاري. وقد ظهر على عهده وبَعدَه كثيرٌ منهم.
بعضُ الذي قاله خيْر الأنام جرى والبعض يأتي كما قد نُصَّ في الخبَر
وسوف تظهَر تصدِيقًا له فتنٌ كَقِطع ليلٍ خَلا مِن غُرّة القمر
أيها المؤمنون، وأشراط الساعة الصّغرى التي صحَّت بها الأحاديثُ ذرَّ قرَنُ كثيرٍ مِنها في هذه العصور، ولا تزال في ازديادٍ ونشور، مِن أعظمها ظهورُ الشرك في أمّة التوحيد، وهذه الرزيّة قد استَحَكمت في كثير مِن الأقطار الإسلامية؛ حيث بَنَى فِئامٌ منَ الناس المشاهدَ على القبور، وطافوا بها وتمسَّحوا بالسّتور، ونذروا لها من دونِ الله النُّذور، وأَمُّوها بالتبرُّك والرجاء وكشفِ الكرباتِ والالتِجاء، وفي هذهِ العلامةِ يقول : ((لا تقوم الساعةُ حتى تلحَق قبائل مِن أمّتي بالمشركين، وحتى تعبدَ قبائل من أمتي الأوثانَ)) أخرجه أبو داود والترمذي.
ومن أشراطِ الساعة الصُّغرى ظهورُ المعازف واستحلالها وفشوُّها واستِفحالها، عن سهل بن سعد أن رسولَ الله قال: ((سيكون في آخرِ الزمان خَسفٌ وقذف ومَسخ)) ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إذا ظهَرتِ المعازف والقيناتُ)) أخرجه الهيثميّ في مجمعهِ والطبرانيّ في معجمه. والقيناتُ المغنِّياتُ، وقد عظُم ظهور هذا الفسادِ وانتشر واستشرَى فحشه في الأرض وأضرّ.
ومِن العلامات التي ضجَّت منها كثيرٌ من الأفاق وعمَّ شرُّها وفاق فشوُّ الكاسِيات العاريات، يقول : ((صنفان من أهل النار لم أرهما)) ، وذكر منهما: ((ونساء كاسياتٌ عاريات مميلات مائلات، رؤوسهم كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخلن الجنةَ ولا يجدن ريحها)) خرجه مسلم. وهذه الأمارةُ ظهرت قبل عصرِنا، وهي فيه أكثر ظهورًا وأشدُّ حسورًا.
يزعُمنَ السفورَ تمدُّنًا ورُقيًّا وإن يأتينَ إلاّ شيئًا فرِيًّا
ويدخل في معاني الحديثِ الملابسُ الضيّقَة المخصَّرة التي تصِف وإن لم تُشِف. وإنك لسامعٌ وَراءٍ عَجبًا ممّا يُبَثّ عبر القنوات والفضائيات المعاصرة.
معاشر المسلمين، ومن الأشراطِ التي قطعت بظهورِها النياط ووقعُها أشدُّ من وقعِ السياط كثرةُ القتل وإراقةِ الدماء، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((بين يدَيِ الساعة أيّامُ الهرج، يزول العلم، ويظهَر فيها الجهل)) أخرجه البخاري، والهرجُ القتلُ، وعند أحمد: ((إنّه ليس بِقَتلكم المشركين، ولكن يقتل بعضُكم بعضًا، لا يدري القاتل فيم قَتل، والمقتول فيم قُتِل)) ، الله أكبر.
وهذه العلامةُ قد ظَهَرت بجلاءٍ وبانت، وسرَت في كثيرٍ من الأقطار ورانت، فلم يبقَ في العالم المتحارِب بلدٌ ـ إلا مَن رَحم الله ـ دونَ هرجٍ وبلبلة، ولا قُطرٌ دون سفكٍ وقَلقَلَة، ولا تسَل ـ حماك الباري ـ عن سائر الحروب، وما جرَّته وتجرُّه من هرجٍ ومرج ونَسفٍ واغتيال وتفجيرٍ وتَدمير واحتيالٍ وكَلَبٍ في الاحتلال.
ومن العلامات ظهورُ موتِ الفجأة، فعن أنس بن مالك قال: قالَ رَسول الله : ((مِن أماراتِ الساعة أن يظهَرَ موتُ الفجأة)) أخرجه الطبراني. وهذه الأمارة لم تعُد من ضروب القلّة الخافية، ولن تقيَ سطوتَها واقيةٌ، فكم من مصبّح في أهله معافى مدبجًا أمسى في لحده مدرجًا.
اغتنم فِي الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتُك بغتَة
كم من صحيح رأيتَ مِن غيرِ سُقمٍ ذهبَت نفسُه الصحيحة فلتَة
ومن الأمارات الصغرى التطاول في البنيانِ، يقول في حديثِ جبريل المشهورِ: ((وأن ترى الحفاةَ العراة العالةَ رعاءَ الشاء يتَطاوَلون في البُنيان)) ، الله المستعان، فكيف بعَصرنا الذي عمَّت فيه الشاهقات وكثُرت فيه الناطِحات وعجَّت الفَضَاءاتُ من المشمَخرَّاتِ.
وكذا تقارُب الزمان، صحَّ عند أحمد وغيره: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارَبَ الزمان، فتكون السنةُ كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم)) , علّق الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: "فإنّنا نجِد في سرعةِ الأيام ما لم نجِده في العصر الذي قبلنا"، الله المستعان، فكيف ـ يا عبادَ الله ـ بزماننا الذي طوَّحت فيه السنوات ونُزِعت البركات؟!
أمّةَ الإسلام، ومن الأمارات التي نجَمَت في هذه الأوقات وصحَّ خبرها عن خير البريات انتشارُ الربا والزلازل [وخَفضُ] الصالحين وارتفاعُ الأسافل وضياعُ الأمانةِ وتَوسِيد الأمرِ إلى غيرِ أهله والتِماس العلمِ عند الأصاغِر وتقارب الأسواقِ وكثرة النساء وظهور الفاحشة وما ساءَ وذيوعُ الكذِبِ والإشاعاتِ والتهاوُن بالسنن السَّنيّات، وصدق الصادق المصدوق : ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرَبَاء)).
أيّها الإخوة الأحبّةُ في الله، ويلي ظهورَ الأشراط الصغرى الأشراطُ الكبرى العِظام التي تَتزَلزَل لها الأركانُ، وتكون منذِرةً بدُنوِّ قيامِ الأنامِ للمَلِك العلاّم، وفي تتابُعِها إثرَ بعضها يقول : ((الآياتُ خَرَزات منظوماتٌ في سِلك، فإن يقطع السِّلك يتبَع بَعضُه بعضًا)) أخرجه أحمد بسند صحيح.
وما أتى في النصِّ من أشراط فكلُّها حقٌّ بلا شَطاط
فكلُّها صحَّت بها الأخبارُ وسطِّرت آثارها الأخيار
أولها: خروجُ المهديّ من قبل المشرق يبايَع له عند البيت، يملأُ الأرضَ عدلاً وقِسطاسًا بعد أن مُلِئَت جورًا وارتكاسًا، ولا تزال البركات على عهده نامِية والرحماتُ هانية، عَن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول الله : ((أبشِّركم بالمهديِّ، يُبعَث على اختلافٍ من الناسِ وزلازل، فيَملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملِئَت ظلمًا وجورًا، يرضَى عنه ساكن السماء وساكن الأرض)) أخرجه أحمد والهيثمي، وهو يحكم بالكتاب والسنة. وأمَّا من نَثَر الهُراء من كون خروجِه من سامُرّاء فهو من خرافات العقول ودعوى مَفتوأةٌ بصريح العقول وصحيحِ المنقول.
تَلي تلك الأمارةَ الكبرى ظهورُ المسيح الدَّجّال منبَع الكفر والإضلال بفتنَتِه العظمى للخلائق؛ لما أُوتِيَ مِن معجّباتٍ وخَوارِق، تحيلُ مَن كان من الإسلام على شفَا إلى ارتدادٍ وكفر ما لَه شفا، وقانا الله فِتنَتَه وكفانا محنَتَه، مسيحُ إحدى العينين، مكتوب بينهما: "كافر"، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله واصفًا خوارقَ الدجال: ((يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويمرّ بالخَرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزَك، فتتبعه كنوزها كيعاسيبِ النحل، ما من بلدٍ إلا سيدخلُه إلاّ مكّةَ والمدينة؛ فإنهما محرَّمَتان عليه)) ، وقد حذَّر النبيُّ المختار تلبِيسَه وتدليسه بأجلَى الأوصاف وأشدِّ الإنذار، يقول في التوقِّي من شرِّه: ((إذا تشهَّد أحدكم فليستعذ بالله من أربع)) ، وذكر منهن: ((وأعوذ بك من شرِّ فتنة المسيح الدجال)) ، وقال : ((من حفِظ عشرَ آيات من أوّل سورة الكَهف عصِمَ من الدجال)) أخرجه مسلم.
وثالث الأشراطِ العظام نزولُ عيسى ابنِ مريم عليه السلام من السماءِ نزولاً حقيقيًّا بروحِه وجسده، حَكَمًا عدلاً، ماكثًا في الأرض أربعين سنَة، يقتل الخنزيرَ، ويكسر الصليبَ، ويقتل الدّجّال، وتُمحَى عن الدنيا أعظمُ فتنة ومحنَة، ويبارِك الله في الأوقاتِ والأقواتِ.
ومِن الأماراتِ خروجُ يأجوجَ ومأجوج، وهم قومٌ أقوياء لا قِبَل لأحدٍ بقتالهم، كأنَّ وجوهَهم المجان المطرَقَة، لا يمرّون بماء إلا شرِبوه، ولا بشيءٍ إلا أفسدوه، وذلك على عهد عيسى عليه السلام، فيدعو اللهَ عزّ وجلّ فيمِيتُهم بنغَفٍ في أقفائهم، ثم يُنبَذون في البحر، كما في الحديث عند مسلمٍ وغيرِه.
وخامس الأشراطِ الكبرى التي يرسِلها الله ابتلاء واختبارًا ويظهِرُها تخويفًا وإنذارًا خُسوفاتٌ ثَلاثة تحلُّ دونما إِراثة، فتقدَح الخيفةَ من غضب الله وعقابه، وتُزلِف إلى مرضاته وثوابه، عن حذيفةَ قال: قال رسول الله : ((إنَّ الساعة لن تقومَ حتى ترَوا قبلَها عشرَ آيات)) ، وذكر منهن: ((خسفٌ بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسفٌ بجزيرة العرب)) أخرجه مسلم.
إخوةَ الإيمان، وسابعُ تلك الأماراتِ الكبريَات ظهورُ الدخان، دخانٌ يملأ الأرجاءَ، ما بين الثرى والسماء، تكونُ منه الدّنيَا كبيتٍ أُوقِد فيه، يقول سبحانه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان: 10].
وأمّا ثامِنُها فطلوعُ الشمس من مغربها، تلك الشمس التي عُلِّقت بين الكواكب ساعَة إلى قيام السّاعَة، يظنّ اللاّهون أنَّ في طلوعها للتوبة أسنَحَ الفرَص، وهي في لهواتهم أشدُّ الحُرَقِ والغُصَصِ، يقول : ((لا تقوم الساعة حتى تطلُع الشمس من مغربها، فإذا طلَعَت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفَع نفسًا إيمانها لم تكن آمنَت من قبل أو كسَبَت في إيمانها خيرًا)) أخرجاه.
أيّها الخاشون للساعة، يقول الحقُّ تبارك وتعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ الآية [النمل: 82]، تلكم هي الآيةُ الكبرى التاسِعَة، دابّةٌ تنطِق وتُدِين بين يدَي يومِ الدين، مخرجُها بَلدُ الله الأمين، تجلو تلك الدابّةُ وجهَ المؤمن، وتخطِم أنفَ الكافِر، فرُحماك ربَّنا رُحمَاك.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وادَّكِروا بهذه الأشراط في كلِّ الأحوال، وازدَلفوا إلى ربِّكم بصالح الأعمال ما دمتم إبَّان الفسحة والإمهال، والله المسؤولُ أن يوقِظَنا من رقدة الغفلة، وأن يتدارَكَنا بالتوبة والإنابةِ ما دُمنا في زمن المُهلة، إنّه جوادٌ كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وجعلنا وإياكم بعظاته معتبرين، ولآياته متدبِّرين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنَّ ربي قريبٌ مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ مَن كان تقيًّا، وأصلّي وأسلِّم على نبينا محمّدٍ من قرَّبه ربّه نجيًّا وكان به حفيًّا، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آلِه وصحبِه الذين كان كلٌّ منهم راضيًا مرضيًّا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فمن لزم التقوى أمِن غِيَر الفِتَن، ونجا بإذن الله في صروفِ المحن.
أيّتُها الحشودُ المباركة، وعاشرُ الأشراط وختامُها المؤذِنَة بوشيكِ ساعة القيامِ ظهورُ نارٍ مِن قَعر عَدَن، تسوقُ الناسَ إلى أرضِ المحشَر في الشّام، تَقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، كما صحّ بذلك الخبر عن سيِّد البشر عليه الصلاة والسلام.
وآخر الآياتِ حشرُ النارِ كما أتى في محكم الأخبار
يعقُب تلك الآياتِ القاهرات ـ ولله الأمر من قبلُ ومن بعد ـ أمرُ اللهِ للدّنيا بالزوال والأفُولِ، وللكَون بالتَّبَار والقُفول، فينفَخ في الصور، وتبعَث الخلائق من القبور لأهوالِ يومِ النشور.
هذا قضاءُ الله على الخلائقِ بالفَنا فجميعُنا عمّا قليلٍ يرحل
والحُكم للجبّار حقٌّ مثبَت وله يكون رجوعنا والموئِل
إلى عمل محسوبٍ وميزانٍ منصوب ومُجَازٍ عظيمٍ قادر وكتاب يحصِي ولا يغادِر، وكرباتٍ وكلٌّ مؤمِّلٌ راجي، وعقابٍ وقلَّ الناجي، فيا له من يومٍ هائل عصيب، يشتدّ فيه الهلعُ والوجل، فاللّهمّ سلّم سلّم.
أيّها الإخوة الأحبّةُ في الله، وممّا يجمُل التنبيهُ إليه كونُ ميعاد الساعة غيبًا لا أحدَ يعلم تأريخه ولا تحديده إلا الله، يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات: 42-44].
وكونُ ظهورِ بعضِ الحوادثِ العالميّة أو الكوارِثِ الكونيّة وتطبيقُها على أنها المقصودَة في الأشراط فباطلٌ لا يصحّ، فالحذر الحذَر من الجزمِ في تنزيل نصوصِ الوحي وأشراطِ الساعة على حوادثِ العصر وقضايا الواقِع ووقائعِ هذا الزمان، والتلبيس على الناس في ذلك، والقطع بتحديدها، كما يحصل من بعض المفتونِين على نوازِلَ بأعيانها وأشخاص بذواتهم، ومرَدّ بيان ذلك إلى أهلِ العلم الربّانيِّين، وتلك الإشاعاتُ ـ على ما سبقَ ـ من صُغرى العلامات.
كما يُستَلطَف بالإشارةِ إلى أنّ ذيوعَ بعضِ الأمارات لا يدلُّ على المنعِ أو التحريم أو النكير، إنما ظهورُها للوعظِ والاستعدادِ والتذكير، ولا يسريَنَّ بخَلَد مسلم أن الظهورَ بعمومه مدعاةٌ للانجِفَال عنِ التواصي بالبرِّ والخيرِ والإعراض عن التناهي عن المنكر والضَّير أو التَّوازُع عن الدعوة والهداية والتَّكاف والتقاعس والتَّنَاف أو العزلةِ واليأس والقنوطِ والإحباط، كلاّ، بل المؤمنُ مكلّفٌ في كلِّ زمان وحالٍ بالمُرَامَاةِ عن دينِه والذِيادَة عن حريمه في إبّانه وحينه. ومِنَ المبشِّراتِ في زمن التحدّيات وفي سياق الحديث عن الأشراط والعلامات قولُه فيما أخرجه الشيخان من حديثِ أبي هريرةَ : ((لا تقوم الساعةُ حتى تقاتِلُوا اليهودَ، حتى يقولَ الحجر: يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي فاقتله)).
اللّهمّ يا مولاَنا وخالِقَنا ورازِقَنا، انصرنا على أعدائنا، وارحمنا واغفِر لنا واعفُ عنّا فضلاً وجودًا ومنًّا لا باكتِسابٍ مِنَّا، واختِم لنا عامَنا بخير، واجعل عواقب أمورنا إلى خَير، ومُنَّ علينا في خِتام عامنا بالتوبة والإنابة، واجعَل حاضرنا خيرًا من ماضِينا، ومستقبلَنا أفضل من حاضِرنا، يا خيرَ مسؤول، ويا أكرمَ مأمور.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على إمامِ الأنبياء وسيِّد البريّات، المبعوثِ رحمةً بختامِ الرّسالات، والمُخبِر عن المغيَّبات بأصدَقِ البيِّنات، وعلى آلِه الطاهرين وزوجاته الطاهرات، وصحبه البرَرَة بدورِ الدُّجُنّاتِ، كما أمركم ربكم بذلك في محكمِ الآيات، فقال تعالى في أصدق قيلِه وأحسن تنزيله قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمَّد بن عبد الله، النّبيّ المصطفَى والرسول المجتَبى والحبيب المرتَضَى، وعلى آله وأصحابه ومن سارَ على نهجِهم واقتفى، يا خير من تجاوز وعفا.
اللَّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأَذِلّ الشركَ والمشركين، ودمّر أعداءَ الدين...
(1/5102)
وظيفة المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
3/2/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الإسلام للمرأة. 2- المرأة في الإسلام. 3- حفظ الإسلام لحقوق المرأة. 4- انخداع المسلمين بدعوات تحرير المرأة. 5- إهانة الحضارة الغربية للمرأة. 6- مفهوم الحرية في الإسلام. 7- إبطال دعوى المساواة. 8- عمل المرأة. 9- الإشادة بموقف الشورى من قيادة المرأة للسيارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكُم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، قالَ تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
نالَتِ المرأة في ظلِّ الإسلام كرامةً لا تُجارَى، وبلغت بشرائِعه شأوًا عظيمًا، أقرَّ لها الإسلام منزلةً عاليةً، فهي أمٌّ لها حَقّ البرّ والإحسان، وهي زَوجة لها حقُّ المعاشرة بالمعروفِ، وهي ابنةٌ لها حَقُّ التربية والنفَقَة، هي إنسانٌ كالرجل قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات: 13].
حَفِظ الإسلام عِرضَ المرأة وشرَّفها، وحذّر من المسَاسِ به بل من تدنِيسِه، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 4].
أعلَى الإسلام مقامَ وِلادة الأنثى ووعَد بالأجر الجزيل على من أحسن تربيتَهنّ، قال رسول الله : ((من عالَ جارِيَتَين حتى تبلُغا جاء يومَ القيامة أنا وهو)) وضمّ أصابعه. أخرجه مسلم. وفي حَجّة الوداع ذلك التجمُّع الإسلامي الكبير أرسى رسولُ الهدى في وصيَّتِه الخالدة حقوقُ المرأة فقال: ((اتَّقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله)) أخرجه أبو داود.
المرأةُ في الإسلام أوّل قلبٍ آمن بالرسول خديجةُ بنتُ خويلد، وهي أوّل شهيدةٍ قدَّمت دمَها وحياتها في سبيل الله سميّة أمّ عمار بن ياسر، وهي أسماءُ بنت أبي بكر ذات النطاقين، وهي أمّ سليم سَهلة عرضَ عليها زوجها قبل أن يسلِم ذهبًا وفضّة فقالت له: لا أريدُ صفراء ولا بيضاءَ، يكفيني إسلامُك مهرًا. والمرأة هي أمُّ سلمة التي أنقَذت الموقفَ في صلح الحديبية برأي سديدٍ ومشورة حكيمة. والمرأة في الإسلام هي الزاهِدَة العالمة المربّية للأجيال صانعةُ التأريخ رضي الله عنهنّ أجمعين.
أرسى الإسلام حقوقَ المرأة التي لا تخفَى على أساس الدين والفضيلة والخلُق القويم، فعزّ مقامها، وعلت منزلتها، وحُقَّ للمرأة المسلمة أن تشعرَ بالعزة لجلال التشريعِ الربانيّ الذي منحَها حقوقها منذ أربعةَ عشر قرنا، بلغَت به مرتبةَ عفافٍ وطهر لا تُبارى ولا تُجارى، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228].
غَفَتِ الأمّة الإسلامية دهرًا من الزمن، وغطّت في سباتٍ عميق، فلمّا أفاقت من رَقدتها بدأت تتلمّس الطريقَ، ما الذي جعلها تتأخّر عن ركبِ الحضارة؟!
خُدِعت بعضُ الأقلام بزخرف الحضارةِ المادية، فظُنَّ أنَّ محورَ التقدّم ومفتاحَ الحضارة تحريرُ المرأة، وقد تلحَظ في لحنِ القول من يزعم أنّ حقوقَ المرأة مرتبطة بتحرُّرها من الدين شأنَ الضعيف المغلوب.
الحضارة المادّيّة المعاصرة المزعومةُ أدخلتِ المرأة المجتمعَ بطريقةٍ مريبة، فبدلاً من أن تحصّن أنوثتها ضدّ العبث تعمّدَت إطلاقَ الجانب الحيوانيِّ في البشر، وجعَلَت من أنوثةِ المرأة فتنةً تُبعثرُ الإثم في كلّ مكان. أخرجوها من البيت باسم الحرية والتحرّر، خلعوا عنها حجابها، وكشَفوا عن موطن الزينة والفتنةِ فيها، تركوها تختلط، بل أرغَموها على الاختلاط بالرّجال والخَلوة بهم، فقضوا بذلك على عِفّتها وكرامتها وحيائِها باسم الحريّة والتحرّر، وقضَوا على رسالتِها الأساسيّة في المجتمع، وهي الزوجيّة والأمومة، أخذوا منها كلّ شيء باسم الحرية، ولم يعطوها إلاَّ أقلّ القليل.
المرأةُ في الحضارة المزعومة تتألمّ وتئِنّ، فمع تحمّلها ظُلمَ الرجل وصعوبةَ الحياة تحمل على أكتافها طفلاً حُرم حنانَ الأبوّة، ثمّ هي تُستغَلّ في الدِّعاية للسّلَع والمنتوجات، فهي تعيش حريّةً جوفاء، لا مضمونَ لها، ولا ضابط يحفظ حدودها، حريّةً يفسّرها كلّ قوم حسبَ أهوائهم.
أمّا الحرية في الإسلامِ فهي مستمَدَّة من العبودية المطلَقَة لله وحده، وإذا استشعَر الإنسان هذه العبوديةَ تحرّر من كلّ عبوديّةٍ سواها، حريّة قاعدتها طاعةُ الزوج والوليّ وإقرارٌ بمشروعيّة قَوامته، حرية تجعل المرأة تتدفّق حياء وتشرِقُ طُهرًا، حرّيّة ميدانها الفسيح اللّبنةُ الأساس في المجتمع الأسرة، ترعَى شؤونها، تربّي صغارَها، تفيض عليها سكينة ومودة ورحمة.
السياجُ الآمن للحرّيّة حجابٌ شرعيّ يستُر مفاتنَ المرأة ويقضِي على مسارِب الشيطان في النفس والمجتمع، أما التحريرُ المزعوم الذي ترسمه أهواءُ البشر للمرأة فهو مسخٌ لها ومسخ للرجل ومسخٌ للمجتَمَع ومسخ للأجيال، قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
ينادِي دُعاة تحريرِ المرأة بالمساواةِ بين الرجلِ والمرأة، يوهمون المرأةَ بأنَّ ذلك من حقوقِها وتكريمٌ لها، والحقيقة أنّه ظلم لها وعدوان على حقوقِها، وقد أثبتَتِ البحوث العلميّة أن المرأة تختلف عن الرجل في بنائها الجسديّ وتكوينها الجسمانيّ، هكذا أبدَعها بارئها بما يلائم وظيفَتَها الفطرية وطبيعتَها الأنثوية، قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران: 36].
وبمساواتهم المرأةَ بالرجل في الأعباءِ والحقوق حمَّلوها أكثر مما حمَّلوا الرجل، فمع ما خُصِّصت له المرأة من الحمل والولادةِ والإرضاع وتربيّة الأطفال، ومع ما تتعرَّض له في حياتها وما تعانِيه من آلام الحيضِ والحمل والولادة، ومع قيامِها على تنشئَةِ أطفالها ورعاية البَيت والأسرة، مع تحمُّلها لهذا كلِّه تحمّلونها زيادةً على ذلك مثلَ ما يحمل الرجل، فكيف تحمِل التِزاماتِها الفطريّة ثم تخرج من البيت كالرجل لتعانيَ مشقّةَ الكسب وتكون معه على قدَم المساواة في القيام بأعمال الصناعة والمِهَن والتجارة والأمن؟! وهل يُنتظر منها أن تساوِيَ الرجل في الإنتاج؟!
لقد أقحَمَت الحضارةُ المادية المزعومة المرأةَ بسبب هذه الدَّعاوى التي لم تُبنَ على أسُسٍ شرعية أو علميّة في مجالاتِ العَمَل المختَلِفة [المناقضة] لخصائصها، فقضَوا بذلك على أنوثتِها وعلى الأسرة والبيت.
للمرأةِ أن تعملَ في وظائفَ مناسبة وفي ظروفٍ خاصة، لكن على أساسِ أنَّ عملها الجليل العتيدَ أن تكونَ ربّةَ بيت وسيدةَ أسرة، وأن يكون جوّ العمل نقيًّا. وظيفةُ المرأة في الإسلام أكبرُ وأعظم وأجلّ وأسمى.
إنّ إقفارَ البيوت من النساء لِيزاحمن الرجال في أعمالهم هو إضرارٌ بالرجال وتقليصٌ لفُرَص عملهم، ولا ربحَ هناك إلا انهيار روابط الأسرة والسّماح بالفوضى الخُلُقيّة.
إنَّ بناء الإنسان الصّالح الذي يحمِل قيَمًا ومبادئَ وأخلاقا ومُثُلا لا يتحقّق إذا دُمِّرت الأسرة، إذًا لمن تكون وظيفة ربّة البيت؟! إنّ هذه الوظيفةَ مِن أرقى الأعمالِ لو عقَلنا. إنَّ المرأة التي تقدّم للمجتمع أبناء أقوياء متعلّمين على خُلُق ودينٍ خيرٌ من التي تدير آلةً وتحضِّر نتاجًا علميًّا، ولا تتمكّن الخادِمَة ولا مربّية الأولاد الموظّفَة في دور الحضانة أن تقومَ بالمهمات التربوية التي تقوم بها الأمُّ بحنانها وعطفِها وإخلاصها وصدقها.
يؤدّي عملُ المرأة في أعمالِ الرجال إلى انتشار البطالة بين صفوفِ الرجال ومزاحمِتهم في ميدانِ نشاطهم الخاصّ بهم، وهم يتطلّعون لتحمُّل مسؤولياتهم في الحياة، وقد ركّب الله في المرأةِ مِيزاتٍ فطريةً أخرى تؤهّلها للقيامِ بما خُلِقت من أجله، وهو الأمومةُ ورعاية البيت وشؤونِه الداخليّة، قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء: 34].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي منَّ علينا بمنّة الإسلام، أحمده سبحانَه وأشكره على نِعمٍ ترادفت على التَّمام، وأشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له مدبّر الأمرِ في الأرض والسّماء وللأنامِ، وأشهَد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله عرِج به حتى سمع صريفَ الأقلام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه عدَدَ حبات المطرِ التي تتساقط من الغمام.
أمّا بعد: فأوصيكُم ونفسي بتقوَى الله تبارك وتعالى، قالَ الله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
الشرعُ الحنيف حِصنٌ حَصين للمرأة وخيرٌ مكين لها، في ظلّه سَعادتُها، وفي نهجِه نجاتها. وقد أحسَنَ الشورى صنعًا في مسألة قيادةِ المرأةِ للسيّارة حين أذعَن لحكم الشرع واستجابَ لصَوت العقل المتجرّد من الهوى، في موقفٍ تاريخيٍّ يسجَّل لرجالِ هذه البلاد، أساسُه وأسُّه احترامُ قولِ العلماء الذين هم سِياجُ [الأمّة] وبهم حَياتها، العلماءُ أقدرُ على تقدير المصالح والفاسِد في النوازل والمستجدّات، وهذا من سماتِ المجتمع المسلم الذي لا يصادِم الشرعَ ويسير وفقَ فتوَى العلماء، قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رَسولِ الهدى، فقد أمَرَكم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/5103)
حقوق المصطفى
الإيمان
الإيمان بالرسل, خصال الإيمان
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
16/3/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اصطفاء الله تعالى لنبيه. 2- وجوب الإيمان بالنبي وتصديقه. 3- طاعة النبي واتباعه. 4- وجوب محبته. 5- حق التعظيم والتوقير والإجلال. 6- حق النصرة والدفاع عنه. 7- حفظ قرابته وأزواجه وأهل بيته. 8- توقير صحابته رضي الله عنهم ومحبتهم. 9- الصلاة والسلام عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33].
أيّها المسلمون، لقد خصَّ الله تعالى رَسولَه بالمقامَاتِ العالِيَة والكراماتِ السَامِيَة، وأنالَه من الكمالات البشريّة أعلاها، فقد كان علَى غايةٍ مِن كمال الخِلقة وجمال الصّورة وقوّة العقل وكمالِ الحواسّ واعتدال الطبع وشرفِ النسب والحسب، وكذا الكمالُ في الآداب والأخلاق من الدّين والعلم والحلمِ والصّبر والشكر والمروءَةِ والزهد والتواضُع والجودِ والشجاعة والحياءِ والرّحمة والوقارِ والمهابة وحُسن العِشرة، ويكفي في ذلك قولُ ربِّه عزّ وجلّ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
أضِف لذلك ما اختصَّه الله تعالى بِهِ مِنَ النبوّة والرسالة والخلَّة والمحبّة والاصطفاء وسائرِ الكرامات والفضائل ما لا تكفيهِ خطبُ المنابر، ولا تحيط به الأقلام والدفاتِر، وكلُّ هذا للمنزلةِ العظيمة والمهمَّة الجسيمة التي خلقَه الله تعالى لها، ألا وهي الرسالةُ والبلاغ عن ربِّ العالمين، فهو يدعُو إلى اللهِ لا إلى نفسِه كما قال الحقُّ سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
ومِن هذَا المنطلَقِ جعَل الله تعالى لنبيِّه حقوقًا على هذهِ الأمّة، يجب عليهم القيامُ بها، ومقصِدُ جميع هذه الحقوقِ هو تحقيق العبادةِ لله ربِّ العالمين وحدَه لا شريك له.
أيّها المسلمون، في غَمرةِ الحديث عن جنابِ النبيِّ وسيرَتِه وكراماتِه والدّفاع عنه فإنَّ مِن أولى ما ينبغي طرحُه هو القضايَا العملية والأطروحاتُ المنتِجَة كتنبيهِ الناس إلى القيام بحقوقِه.
وإنَّ مِن هذه الحقوقِ ما سبَق وجوده كالميثاقِ الذي أخذَه الله تعالى على الأنبياء أن يؤمِنوا به وأن يتبعوه إن هم أدركوه، قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81].
عبادَ الله، إنَّ أعظمَ حقوقِ النبيِّ الإيمانُ به وتصديقُه، ولا يمكِن أن يكونَ مسلِمًا من لم يقِرَّ بذلك جازمًا غيرَ متردِّد ولا شاكّ، قال الله عزّ وجلّ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن: 8]، وقال سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ [الأعراف: 158]، وقال عزّ اسمُه: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا [الفتح: 13]، وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((أمِرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهَدوا أن لا إله إلاّ الله ويؤمِنوا بي وبما جِئتُ به)) ، وفي الصحيح أنَّ النبيَّ قال: ((والّذي نفسي بيه، لا يسمعُ بي رجل من هذه الأمّة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلاّ كان من أهل النار)).
إنَّ الإيمان والتصديقَ يندرج تحته كلُّ ما يقتَضيه من تمامِ الطاعة والاتِّباع والقَبول والتصديقِ المقتضي للعَمَل، وإلاّ فإن دعاوى اللسان لا بدَّ لها من برهانٍ، وهو عمَل الأركان.
ومنه يُعلَم أنَّ من حقوق النبيِّ طاعته، والتي هي من خصائِصِه، أي: الطاعة المطلقَةُ ليست لأحد من البشر سوى النبيّ ، كما قال الله عزّ وجلّ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]. وقد قرَنَ الله تعالى طاعَةَ رسوله بطاعته سبحانه في آياتٍ كثيرة، كقوله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال: 20]، وقوله: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32].
ومنه ينبَثِق حقٌّ آخر، وهو كمالُ الاتِّباع، بل هو مقتَضَى شهادة أنّ محمّدًا رسول الله، أي: طاعته فيما أمر، وتصديقُه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزَجَر، وأن لاَ يُعبَد الله إلاَّ بما شَرَع، فما لم يشرَعْه رسولُ الله مبلِّغًا عن ربِّه فلا نتعبَّد الله به، بل هو مردودٌ كما في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) ، أي: مردود غيرُ مقبول، بل سمَّى النبيّ كلَّ أمر محدَث في الدين بدعةً، وجعلهَا ضلالاً في النّار، كَما كان يقول في خطبَتِه: ((إنَّ خير الحديث كتاب الله، وخيرَ الهُدى هدى محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة)) رواه مسلم.
قال الله عزّ وجلّ: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقال الحقُّ سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21]، وفي حديث العرباضِ بن سارية رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. قال بعض السلف: "من أمَّر السنّةَ على نفسِه قولا وفِعلا نطق بالحكمةِ، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة".
كما أنَّ أتباع النبيِّ هم من يرِد عليه الحوضَ، وغيرُهم يُطردون، ففي صحيح مسلمٍ أن النبيَّ حين وصَف أمّته قال: ((فليُذَادَنّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضال، فأناديهم: ألاَ هلمّ، فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سُحقًا سحقًا)) ، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((من أدخلَ في أمرنا ما ليسَ منه فهو ردّ)).
عبادَ الله، إنَّ اتباعَ النبيِّ يقتَضي وجوبَ التزام شرعِه والتزام هَديِه وسنّته والاكتفاء بهديِه وشريعته، وأن لا يُبتَغَى الفلاح إلاّ من طريقه، قال الله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وقال سبحانَه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ [المائدة: 48]، وقال سُبحانَه: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49].
ومِنه يُعلَم ضَلالُ الّذين يخلِطون أهواءَهم بآراءِ الفلاسفة، ويتخَوّضون في دينِ الله بالهوى والعَقل، ويكيِّفون الدينَ والشرع على المصالح المتوهَّمة ومسايَرَة الغالب ولو كان باطلا.
إنَّ الاتباعَ الحقيقيَّ للنبيِّ لا يكون إلا باطِّراح الهوى وتربيةِ النفس على لزوم السنّة واتِّباعها والرجوع إلى الحقّ وإخلاص القصد وصلاح النّية وصدق الإخلاص والتجرُّد لله رب العالمين، وصاحِبُ السنة مهديٌّ موفَّق.
ومِن حقوق النبيِّ محبّتُه، قال البخاري رحمه الله: "باب: حبُّ النبيِّ من الإيمان"، وساق حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمنُ أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولدِه والناس أجمعين)) ورواه مسلم أيضا، وفي الصحيحَين أن النبيَّ قال: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما)) الحديث، وقد قال النبيُّ لمن أخبره بحبِّه له: ((أنت مع من أحبَبتَ)) متفق عليه.
ولَقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم أشدَّ الناس حبًّا له، فعظَّموه ووقَّروه، وكان مِلءَ أسماعِهم وأبصارهم، وخالَطَ حبُّه شغافَ قلوبهم، فقدَّموه على أنفسهم وأهليهم، وفدَوه بأرواحهم، وقدَّموا صدورهم دِرعًا حاميا عنه ، وفي إحدَى الغزوات ينحني أحدُهم على النبيِّ حاميًا له حتى يكونَ ظهرُه كالقُنفذ من وَقعِ السهام، ويردُّ الآخرُ النبلَ وضربات السيوف بيدِه حتى شُلّت. إنَّ محبّتهم للنبيِّ لم تكن محبّة عِشقٍ ووَجد كما يظنّ المخرِّفون، بل هي محبّةُ مودّة وولاءٍ واتِّباع وطاعة، لقد كانت محبّةً سماويّة طاهرة، أثمرتِ اتِّباع السنّةِ والطاعَة وكمالَ الإيمان وتقديم أمر الله ورسولِه على شهوات النفسِ وحظوظها، وهي تطبيقٌ لقول الله عزّ وجلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31، 32].
وإنَّك لتأسَفُ ممّن يتاجِرُ بهذه المحبّةِ ليبتَدِع في دين الله باسم محبّةِ رسول الله ، فيصدَعُ السّنَن، وينشُرُ البدَعَ، ويلبِّس على العَوامِّ باسمِ المحبّة، كمن يتاجِرُ بمحبّةِ آلِ بيت النبيِّ ، كأنّ الدِّينَ انحصر في هذهِ المحبّةِ، فيقَع الشّركُ، وتُنتَهَك المحارم، تضيعُ الشرائع، لا يبقى من الدّين إلا هذه المحبة المزعومة، ولو كانت حقًّا وصدقًا لأثمرتِ الطاعةَ والاتِّباع، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المسلمون، ومن حقوق النبيِّ تعظيمُه وتعظيم أمرِه وتوقيره، ومنه عدَمُ التقدُّم بين يديه وعدم رفع الصوت فوقَ صوته، قال الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8، 9]، أي: تعظِّموه وتفخِّموه وتنصُروه وتطيعُوه وتجِلُّوه، وبهذا أخذَ الصحابَة رضي الله عنهم، فقد كانوا يجلّونه غايةَ الإجلال، ولقد كانوا يطرِقون بأبصارهم عنده من الأدب، ولم يكونوا يحدّون إليه النظرَ، حتى قال بعضهم: ما ملأت عيني مِن رسول الله مَهابةً له وإجلالاً واحترامًا وحياءً.
ومع كلِّ هذا الإجلالِ الّذي لم يبلُغه في الكمالِ أحدٌ من الأمّة غير الصحابة رضي الله عنهم فلم يؤثَر أبدًا عن أحدٍ منهم أنه أعطاه شيئًا من خصائص الألوهيّة، فلم يدعوه، ولم يستغِيثوا به حيًّا ولا ميّتًا، ولم ينسِبوا له علمَ الغيب ولا شيئًا من خصائصِ الرّبِّ سبحانه.
وفي سورةِ الحجُرات يقول الله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1]، وهذا من حقوقِه ، فلا يجوز التقدُّم عليه بأيِّ صورةٍ، كسوء الأدب بسَبقِه بالكلام أو تقديم الآراء والأقوالِ على رأيه أو قوله، وبعد ذلك قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]، ففيه تحريمُ رفعِ الصّوتِ فوقَ صوتِه، وتحريمُ مناداتِه باسمه المجرَّد كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63]، أي: لا تقولوا: يا محمّد، وإنما قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله. وإذا كان مجرّدُ رفع الصوتِ قد يحبِط العمل فما ظنُّك بالاستهزاء بسنّته والاستخفاف بشريعته وتقديم الآراء على قوله؟!
نسأل الله تعالى أن يرزقَنا محبّةَ رسوله واتّباعه وطاعته.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده.
وبعد: فإنَّ من حقوقِ النبيِّ نصرتَه والذبَّ عنه، وهذا مِن المسلَّمَاتِ، وممّا أجمع عليه المسلمون، وهو مقتَضَى قولِ الله عزّ وجلّ: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9]، وقرئ: وَتُعَزِّزُوهُ ، قال سبحانه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]، بل توعَّد الله تعالى بالعذابِ الأليم وبالاستبدال من لم ينصُر رسولَه ، وقال بعدَ ذلك: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40]، وفي غزوةِ أحُد جعَل النبيُّ الجنّةَ جزاءً لمن دافع عنه فقال: ((من يردُّهم عنّا وله الجنة؟)).
إنَّ نصرَ النبي واجب في حياته وبعد مماتِه، ويشمل نصرَ دينه وسنّته والدفاعَ عنه وعن سنّته، وقد أجمعتِ الأمة على أنَّ مَن سبَّ النبيَّ أو عابَه أو حقّره أو صغَّر من شأنه أو ذمَّه بأيِّ طريقٍ فأنَّه يُقتَل، وقد قال الله عزّ وجلّ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66].
ومِن حقوقِ النبيِّ حِفظُه في قَرابَتِه وأزواجِه وأهلِ بيته الّذين أكرَمَهم الله تعالى وأذهَبَ عنهم الرجسَ وطهَّرهم تطهيرًا، وقد قال النبيُّ : ((أنشدُكم اللهَ في أهلِ بَيتي)) ، وفي صحيح مسلم: ((أذكِّركم الله في أهلِ بيتي)) ، وفي صحيح البخاريّ أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال: (ارقُبُوا محمّدًا في أهل بيته). ولا شكَّ أنَّ حبَّ آل البيتِ مِن الإيمان، وأنَّ مودَّتهم قربةٌ وطاعة واتّباعَهم سنة.
ومن حقوق النبيِّ توقيرُ صحابته رضي الله عنهم ومحبّتُهم والثناءُ عليهم والإمساك عن الخوضِ فيما شجر بينهم، وقد بيَّن الله تعالى فضلَهم في آيات كثيرةٍ من كتابِه في سورة آل عمران والتوبةِ والأحزاب والفتحِ والحشرِ وغيرها، وفي صحيحِ مسلم أنّ النبيَّ قال: ((لا تسبّوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثلَ أحُدٍ ذهبًا ما بلَغ مُدّ أحدِهم ولا نَصيفَه)) ، وعند الترمذيّ بسندٍ حسن: ((اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتَّخذوهم غرضًا من بعدي، فمن أحبَّهم فبحبي أحبَّهم، ومن أبغضَهم فببُغضِي أبغضَهم، ومن آذاهُم فقد آذَاني)) الحديث.
ويكفي أن نعلَمَ عقلاً ونظرًا أنَّ الذي نقَل لنا الدين والشريعةَ والقرآن والسنّة هم الصحابةُ رضي الله عنهم، فلو أُسقِطَت عدالتُهم وقدِح فيهم فهذا يعني إبطالَ الدّينِ والتشكيكَ في الكتابِ والسنّة وفي ثبوتهما؛ ولهذا عدَّ العلماءُ مَن قصد إسقاطَ عدالة الصحابة فأنَّه منافقٌ زِندِيق يُريدُ إسقاطَ الدين أصلاً.
أيّها المسلمون، ومِن حقوق النبيِّ الصلاةُ والسلام عليه، كما قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. والصلاة هنا هي دعاء ورحمة وثناءٌ وتشريف، وهي واجِبَة في الجملة، ومستحبَّة ومرغَّب فيها في كلّ وقت، ويتأكّد ذلك في الصلاة وفي الدعاء وعند دخولِ المسجد وبعد الأذان وفي يومِ الجمعة وعندَ ذكره. وفي سنَنِ الترمذيّ بسند صحيحٍ أنَّ النبيَّ قال: ((من صلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشرا)).
وللمسلم أن يصلّي ويسلِّم بكل صيغةٍ مشروعة، كقوله: صلّى الله عليه وسلم، إلاَّ أنَّ أكملَ الصِّيَغ وأفضَلَها ما رواه مسلم في صحيحِه أنَّ النبيَّ قال: ((قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على آل إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد)) ، وفي روايةٍ عند مسلِم أيضا: ((اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى أزواجِه وذرّيّتِه)) الحديث.
وبما أنَّ الصلاةَ دعاء فإنَّ من حقوقه الدّعاء له بما ثَبَت في صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((إذا سمعتُم المؤذّنَ فقولوا مثلَ ما يقول، ثم صلّوا عليَّ؛ فإنه من صلّى عليَّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا، ثمّ سلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها منزلةٌ في الجنّة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمَن سأل الله ليَ الوسيلةَ حلَّت له الشفاعة)).
فاللّهمّ ارزُقنا شفاعَتَه، ووفِّقنا لاتِّباعه، وارزقنا مرافقَتَه في الجنّة، وأعِنّا على القيامِ بحقوقِه.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشّرك والمشركين...
(1/5104)
مقام الشكر بعد ركن الحج
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/12/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقام الشكر بعد فريضة الحج. 2- الحث على ذكر الله تعال وشكره بعد العبادات. 3- التحذير من سؤال الله تعالى ما يصرف عن العمل للآخرة. 4- سؤال الله تعالى الحسنة في الدنيا والآخرة والوقاية من النار. 5- حال الحاج بعد حجه. 6- الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات: 35]، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37].
أيها المسلمون، إنّ وقوفَ حاجِّ بيت الله في مقام الشكر لله ربّ العالمين على ما منّ به سبحانه من نِعمٍ جليلة، سيأتي في الطليعة منها بعد نعمة الإسلام التوفيقُ إلى قضاء المناسك والفراغ من أعمال الحجّ والعمرة في صحة وسلامةٍ وأمن وصَلاحِ حال، إنّ وقوفَ الحاجِّ في مقام الشكر لله حقٌّ واجب وفرض متعيّن عليه إذا أراد استبقاءَ النعمة واستدامة الفضل واتصالَ التكريم، ذلك أنّ الشكرَ موعود صاحبُه بالمزيد، كما قال عزّ من قائل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وقد وجّه سبحانه حجاجَ بيته إلى ذكره وشكره والتضرّع إليه وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة عقِب قضاء المناسك، فقال عزّ اسمه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200-202].
وفي هذا إفصاحٌ بيّن وإيضاح جليّ لتأكّد ذكر الله تعالى عقب الفراغ من الطاعات كلِّها والمناسك منها خاصّةً شكرًا لله تعالى واعترافًا بمننه السابغة وفواضِلِه الجزيلة وفِعاله الجميلة، حيث وفّق عبادَه إلى بلوغ محابّه ومراضيه وأسعدهم بطاعته ومنّ عليهم بإتمام ذلك والفراغ منه على أكمل أحوال الحاجّ وأجملها.
وفي الآية الكريمة أيضا تحذيرٌ وتوجيه، أمّا التحذير فمن دعاء الحجّاج ربَّهم أن يؤتيَهم من حظوظ الحياة الدنيا ما ينصرفون إليه ويقتصرون عليه نائين به عمّا هو أكمل وأجمل وأبقى من المنازل والمقامات في الدار الآخرة، وأما التوجيه فهو إلى دعائه سبحانه أن يؤتيهم في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وأن يقيَهم عذابَ النار؛ لأنّ هذه الدعوةَ القرآنية الطيبة المباركة جمعت ـ كما قال أهل العلم ـ كلّ خير في الدنيا وصرفت كلّ شرٍّ؛ فإنّ الحسنةَ في الدنيا تشمل كلَّ مطلوب دنيويٍّ من عافيةٍ ودار رحبة وزوجةٍ صالحة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركبٍ هنيّ وثناء جميل، وأمّا الحسنةُ في الآخرةِ فأعلاها النظرُ إلى وجه الربِّ الكريم الرحمن ودخولُ جنّاتِ النعيم والرِّضوان والأمنُ من الفزع الأكبر في العَرَصات وتيسيرُ الحساب وغيرُ ذلك من أمور الآخرة الصالحة التي يمنُّ الله بها على أهلِ جنّته ودار كرامته، وأمّا النجاةُ من النارِ فهو يقتضي تيسيرَ أسبابها في الدنيا من اجتنابِ المحارم والآثام وتركِ الشبهات والحرامِ.
ولهذا لم يكن عجبًا أن كانت هذه الدعوةُ الطيبة المبارَكة أكثرَ ما كان يدعو به النبيُّ ، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمد رحمه الله في مسنَده بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن سهيل أنّه قال: سألَ قتادةُ أنَسًا عن أكثرِ ما كان يدعو به النبيُّ فقال: يقول: ((اللّهمّ ربّنَا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار)) ، وكان أنسٌ إذا أراد أن يدعوَ بدعوةٍ دعا بها، وإذَا أراد أن يدعوَ بدعاءٍ دعا بها فيه.
ثم كيفَ سيكون حال الحاجِّ إلى بيت الله فيما يستقبِل من أيام عمُره بعد أن منَّ الله عليه بإتمامِ حجِّه؟! وهل سينكُص على عقِبَيه ويعودُ إلى الطوافِ بالأضرحةِ والقبورِ إن كان ممّن بُلِيَ بذلك، فيتردَّى في وهدَةِ الشركِ بالله تعالى بعد إذ أنار الله فؤادَه وأضاء جنَباتِ نفسِه وكشَفَ عنه غطاءَ الجهالاتِ الجاهلة والضلالاتِ الضالّة والدِّعايات المغرِضة الكاذبة، فوجهه سبحانه للطّواف ببيته الحرام، وحرَّم عليه الطوافَ بأيِّ شيءٍ آخر سواه؟! وهل سيخفض رأسَه ويحني جبهتَه ويقف مواقفَ الذلّ والهوان لينالَ لُعاعةً منَ الدنيا أو ليظفرَ بشيءٍ من عرضها الزائل وَمَتاعها القليل؟! كيف وقد أقبَلَ على ربِّه وحدَه عند بيتِه وحرمه رغبًا ورهبًا خوفًا وطمعًا تذلُّلا وعبوديّة ورِقًّا؟! ولطالما قرَأَ قولَ ربِّه الأعلى في كتابِه المبين: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]. وهل سَيعودُ إلى ارتِداءِ لِباسِ الفسوق والعصيانِ ومبارَزَة الملِك الديان بالخطايا والآثام بعدما كساه ربّه من لباس الإيمان والتقوى خيرَ اللباس وأثرَى الثِّياب؟! وهل سينسى أو يتَناسى موقفَه غدًا بين يديِ الله تعالى يومَ البعث والحشر والنّشور بعد إذ ذكّره به ربُّه يومَ وقف هناك على ثرَى عرفاتٍ داعيًا ضارِعًا خائفًا وجِلاً سائلاً إياهُ الجنّةَ مستعيذًا به من النار؟! وهل سيعود إلى انتِهاج نهجِ الجُحود والنّكران فيتركَ الشكر والحمدَ لربِّه قولاً وعملاً بعد إن لهجَ لسانه بهذا الشّكرِ لله تعالى بنحرِه الهديَ وذبحه ما تيسَّر له من بهيمَةِ الأنعام قُربى وازدِلافًا إليه سبحانه وتأسِّيًا بخير خلقِ الله محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟!
عباد الله، إنَّ عَلى الحاجّ أن يقفَ مع نفسِه وقفاتٍ محكمات؛ لتكون له منها عظاتٌ بالغات وعُهود موثَّقات، يأخُذُهنّ على نفسه، بدوام الإقبال على الخيرات، واستمرار المسارَعة إلى الباقيات الصالحاتِ، واتصالِ البراءةِ من الشرك والخطيئات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 98، 99].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّةِ نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ الظفرَ بالموعودِ لمن حجَّ البيتَ حجًّا مبرورًا، ذلك الموعودُ الذي جاءَ في حديثِ أبي هريرةَ أن رسولَ الله قالَ: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفّارة لما بينَهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما، إنَّ الظفرَ بهذا الموعود يقتضي أن يراقبَ الحاجّ سيرَ حياته بعد حجِّه، فيجهدَ كلَّ جهده في أن تكونَ حاله بعد الحجِّ خيرًا من حالِه قبلَه، فتلك هي علامةُ الحجّ المبرور يا عبادَ الله، والله تعالى يقولُ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
ألا فاعمَلوا ـ أيّها الحجّاج الكرام ـ على مجاهدةِ النفس والهوى والشيطان؛ تفوزوا برِضا الربِّ الكريم الرحمن، وتحظَوا بدخولِ جنّات النعيمِ والرّضوان.
ألا وصلّوا وسلِّموا على خير خلقِ الله محمد بنِ عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله سبحانَه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/5105)
ميرة رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
2/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التدبر والتبصر في انقضاء الأعمار. 2- مزادة رمضان. 3- ضرورة استصحاب آثار الصيام والقيام. 4- الثبات على الطاعة. 5- التحذير من النكوص. 6- فرحة العيد وحقيقته. 7- التذكير بحال المسلمين المبتلَين في شتى بقاع العالم. 8- استحباب صيام ستّ من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ على الدوامِ، اتقوه تقوَى من خاف ربَّه فاستَقَام، وصِلوا بالثباتِ على الطاعاتِ شهرَ الصيامِ والقيام؛ تظفَروا بخيرِ المرام مرضاةِ الملك العلاّم، وتحوزُوا الهدى والإنعامَ، وتزدلِفوا إلى الجنّة دارِ السلام.
إخوةَ الإيمان، ليس أحفلَ في مجَالِ العِبرة والادِّكار من التَّبصُّر في وشكِ انقضاءِ الشهور والأعمار، سيما إذا كانَت ميدانًا للتنافُس في الطاعات والإحسان وكانَت مِضمارًا للفوزِ أو الخُسران، شاهدُ ذلك ودَليله سرعةُ انسِلاخ شهر رمضان المبارَك الّذي تولَّى عنَّا وحالَ كوَمضةِ برقٍ أو كسَرَاب وآل، شَهرٍ رقَّت بحَفِيف الصيام والطّاعات جوانبُه، وصَفَت برحيقِ التهجّد والقيامِ مَشاربُه، وأضاءَت بالخير والبرِّ مَسَاربُه. هو نَفحةٌ ربّانيّة جلَّت لنا من عظيم ألطافِ الباري ورحمتِه وبرِّه، وأسفرت لنَا عن هدي الإسلام وحِكمتِه وسرِّه. فيه امتارَ الأبرار غذاءَ الأرواح، واستَبضَعوا ـ يا لَهنائهم ـ الحسناتِ بالغدوِّ والرَّواح، عيونُهم في ماءِ الندم والتوبة غارقةٌ، وأفئدتهم لله ما أفئِدتهم لروائِح الجنّة العبِقة تائِقةٌ، فلعمرُ الحقّ ما أطيَبَ عَيشَهم وهم على الطاعات ووارداتُ المناجاة لربِّهم ترِد عليهم بالرِّضا والنفحات، أولئك الذين صَامُوا شهرَهم إيمانًا واحتسابًا، وقاموه تقوًى ومتابًا، وها هُم الآن يدِّعونه غيرَ مَقلِيّ بالحسرات واللّوعات، ويشيِّعونه غيرَ مجفُوٍّ بالدّموع الممِضَّة الواكفات.
ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو شهرُ الأمّةِ الإسلاميّة ورِواءُ بيدَاء العام وقوتُ القلوب بالصّيام والقيام، فهل تعيش أمّتُنا المعنّاةُ التي أمضَت في مدرستِه ثلاثين يومًا على زَادٍ من تقوَاه وعُدّةٍ من قُواه وذَخيرةٍ لا تبلَى من حقيقته وفَحواه؟! تعصِمُهم طوالَ العام من المآثم والزّلَل، وتؤزّهم إلى معاقدِ العزّ وفسيح الأمل، وتذودُهم إلى دقّة الاستبصارِ في وَحدتنا المصيريّة وقضايانا المستقبليّة، دونَ وهَنٍ أو كسَل أو خوَر أو كلَل، بل علَلٍ بعد نهَل، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
نَعم، أَلا مَا أَحوجَ أمَّتَنا لاستِصحاب آثارِ القيام ومعَاني الصيام التي جُمِعَت في القول المكنون: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]. وإنّه لِزامًا عَلينا أن نُدركَ بعُمقٍ أوفر ووعيٍ أرحَب أنّ أمَّتَنا الإسلاميّة التي تناوَشَتها أَسَلاتُ الأعداءِ وحلّت بها من كُلِّ حدَب الأَدواء والأرزَاء وشُعَلُ الفتن والتحدّيات أن لا رَفوَ لها ولا إِبلالَ مِن سقامها إلا إذا تمثَّلت دروسَ الصيام واستَلهَمت حقائقَه ومآلاتِه التي يفيض بها الشهر الكريم من الصِّدق والصبر والقوَّة والهمة والرحمة والاتحاد ووقفَاتِ المحاسبة والمراجعة والتغيِير والإصلاح، وأن نعِيَ جيّدًا دورَنا على صعيد أنفسنا وأسَرِنا ومجتَمَعنا وأمَّتنا بل والإنسانيّة جمعاء، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. أمّا النّكوصُ والانبِتَات والإدبارُ ومُعاوَدَة الشّتَات فهاتِيك مِهادُ الذّلّة والضّعَة والهلاك، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليّ العظيم.
أمّةَ الاستقامة والاستجابةِ، أإِن ودَّعت الأمّة الإسلامية شهر رمضان الأغرّ فهَل تودِّع صالحَ الأعمال والقُرُبات والاحتِساب والعَزَمات والذّكر والتسبيح وعاطِر التّلاوات؟! كلاّ فكلاّ، ثمّ كلاّ وكلاّ. يجب علينا مواصلةُ المسير الجادّ والثبات على إعمارِ المساجد والازدِلافُ بالقُرُبات وترتيل الآياتِ آناءَ اللّيل وأطراف النهار دون قطيعةٍ أو هُجران أو سَأَم، بل صمودٌ لتحقيق مقاصدِ الصيام على الوجه الأكمل والأتمّ، فليس لنا غناءٌ عن الافتقارِ إلى الله ورَجاءِ مرضاته وتأييده ومَغفرته ورحمته طرفَةَ عين، ولكن الداءَ العياء الذي هوَى بكثير من الناس في الرّدى ما أترِعوا فيهِ مِنَ الازدواجيّة والثّنائية والعجز الظاهر والضّعف المُعِلِّ والمذِلِّ الخائِر، ترى بَعضَهم إذا أقبلَ رمضانُ صام واستقام وتعبَّد وتنسَّك، وإذا انقضى الشهرُ انثَنى ولَهَا وأبعَدَ وتهتَّك، وسَفَا صيامَه وقيامَه أدراجَ الغَفلَة والمعاصي، غَيرَ وجِلٍ ولا آسفٍ، فَغَدا كرمادٍ اشتدَّت به الريحُ في يومٍ عاصِف، فخبِّروا بربِّكم أيّها العقلاء: هل هذا من العقلِ في قبيلٍ أو دَبير، فضلاً عن شِرعةِ الحكيم الخبير؟! شتّان بين من حظُّه من شهرِ رمضان الغفران والعِتق من النيران، وبين من كان حظّه الخسران والخذلان، ألا ما أشدَّ ندامةَ المسِيء، وما أعظَمَ حَسرَةَ المفرِّط، وهل ينفَع المفرِّطَ فيه بكاؤُه أو يجدي في عظيمِ مصابهِ عزاؤه؟! في الحديث أنَّ رسول الله صعد المنبرَ فجاءه جبريل، فقال عليه الصلاة والسلام: ((رغِم أنفه، رغِم أنفه، رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرَكَ رمضان فلم يُغفَر له فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين)) خرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
ربّاه، ربّاه، كيف يرضَى بِذلِّ الأوزارِ والإضاعَة من ذاق حلاوةَ العبادة عِزّ الطاعة؟! أم كيف تُدَنَّس الجباه برغامِ المعاصِي والآثام بعد أن أشرَقَت بالسجودِ واستنارت بالصّيام للملك العلاّم؟! نعوذ بالله من الحورِ بعد الكور، يا لَضيعةِ العمل، ويا لخيبة الأمَل، يقول الإمام عليّ رضي الله عنه: (كونوا لقَبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألَم تسمَعوا إلى قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27])، وقل ولاَ غَضاضة: تَعِس الأقوام لا يعرِفون خالقهم ورازقَهم إلا في رمضان، والله عزّ وجلّ يقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل: 92]، ويقول سبحانه: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10].
فيا مَن نَكصتُم على أَعقابِكم بعد شهر القرآن، توبوا إلى الرّحيم الدّيّان، ولا تكونوا عقبةً كأدَاء في طريق أمَّتكم ومجتمَعاتكم، بادروا أيّامَكم فإنها مُغتَنَم، واستدرِكوا ما عَزَمتم عليه بالاستِغفَار والإقلاع والنّدَم.
فالبَس شعارَ الندم واسكُب شآبيبَ الدم
قبلَ زوال القدم وقبلَ سوء العدم
إلامَ تسهو وتَني ومُعظَم العمُر فني
فيا من شمّرتم لطلَبِ الخيراتِ قبل فواتها، جِدّوا وسابِقوا لاغتِنامِ الأعمال الصّالحات في أوقاتها، وادأَبوا عامَكم لا زِلتُم موفَّقين في تحصيلِها وملاقَاتها، ألا فسلامُ الله عليك يا شهر الرحمةِ والتعبّد، وآهًا عَلَيك يا شهرَ الصيامِ والغفران والتهجّد.
إن مَضَى بينَنا وبينَك عَهدٌ حِين شطَّت عنّا وعنك الدّيار
فالقلوب التِي تركتَ شظايا والدموعُ التي عهِدتَ غِزار
أيّها المؤمنون، وبعدَ أن نَعِمتم بأداءِ فريضة الصيام وإحياء لياليه الزُّهرِ بالقيام ـ نسأل اللهَ القبولَ ـ لم يكن جزاءُ الرحمن لكم إلاّ الإكرام والإنعام، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! يقول سبحانه: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185]. فها هو العيدُ السّعيد ـ وما أعظمَه من فضلٍ وما أوسَعَه من عطاء ـ قد غمَركم بغِبطَتِه وبهائه، وأظلَّكم بسروره وسنائه، شرَع المولى فيهِ الزينةَ وصلةَ الأرحام والابتهاج والتوسعةَ على العيال والمحتاجِين في أقومِ مِنهاج، ولكن مِن أسفٍ شديد أنَّ منَ الناس ـ هداهم الله ـ مَن يستقبل العيد باللّهوِ والمحرَّمات وعدمِ الاكتراثِ للثّوابِ والسيئات، قد أَطلَق عِذاره في البطالة والغفلة، لا يلوي على محبِطات الأعمال والطاعات، ومنهم من يلبَس أفخَرَ الشِّيَات والثياب، ويتأرَّج بزكيِّ الروائحِ والأطياب، لكنه ما خافَ ربَّه ولاَ تاب، وما صلّى ولا قام ولا أناب، نعوذ بالله من الخذلان والارتياب.
وهل ينفَع الفتيانَ حُسنُ ثيابهم إذا كانت الأفعالُ غيرَ حِسان؟!
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26].
معاشرَ المسلمين، إنّ حَقيقةَ العيد تُشرِق لمن عاوَدَه في شهرِ المتاجرة معَ الله صفاؤه واستُجيبَ دعاؤه وقوِيَ بالله رجاؤه وازدَادَ يقينُه وتمتَّن دينُه وعلَت همّتُه واشتدَّت على محارمِ الله غَيرتُه. إنَّ العيدَ في شِرعةِ الإسلام فرحٌ بفضل الله وإحسانه، وجَلَلٌ بتوفيقه وامتنانِه، واتحادٌ على الخَير والعَطاء، وشعور بالإخاءِ والمودّة والهناء والحبِّ والصفاء، وإشاعة للنَّعماء، ونشرٌ للسّراء، وطَمرٌ للضّرَاء، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
أمّةَ الإسلام، إنّه ليجدُر بِكم أن تتذكَّروا مع فَرحةِ العيد ـ أيها الأحبّة ـ وأنتم ترفُلون في مطارفِ الأمن والرخاء والزينة وتتقلَّبون في أعطافِ السرور والحبور والبُلهنيّة أنَّ لكم إخوانًا في العقيدة حلَّت بهم المحنُ والنكبات، لا سيّما في فلسطين السليبةِ الملتاعة، أرضِ القداسات ومهدِ الرسالات، وفي بلاد الرافدين الجريحة، وآخرين حلَّت بهم الكوارثُ والزلازلُ في باكستان وكَشمير، وقُل مثلَ ذلك فيمَن سِيموا مِن التنكيلِ والبلاءِ أسوأَ النّوازل، فهم مشرَّدون في الفيافي، وأجسادُهم للعراء والسّوافِي، يتجرَّعون حُرَق الحِرمان وتباريحَ الخصاصة ولأواءَ المسغَبَة ومَرارَة المترَبة، ينتظرون بذلَكم وعونَكم، فليكونوا منكم بحسبان كما قال الرحيم الرحمن: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71].
وإنَّ الذي يسلِي الفؤادَ بعد اغتِمامه والفِكرَ بعد اهتِمامِه تلك الحملاتُ الإغاثيّة المباركة والتبرّعات الخيرية الموفَّقة التي هبَّت إليها دِيارُ الحرمينِ الشريفين لا زالت مكلوءَة محروسة؛ لتكون بلسمًا ندِيًّا لإخوانهم المتضرِّرين والمنكوبين، وما تلك الوَثبَةُ النّجلاء والهِمّة السَّبوقُ واليَد المِعطاء إلاّ صفحة لألاَء وآية بَلجاء على حبِّ المعروف وإغاثةِ المرزوء والمَلهوف ونصرةِ قضايا المسلمين، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272].
ثبَّت الله ذلك في سجِلاَّت أعمالهم الصالحة، ووفَّق المسلمين لقَفوِ الخُطى وحُسن الاقتداء والاهتِداء، وأدام عليهم سوابغ النِّعَم ونَوابِغ القِسَم، ودَفَع بها عَنهم البلايَا والنِّقم بمنِّه وكرمه.
وذلك البرُّ ـ يا إخوة الإيمان ـ وجهٌ مِن وجوه الشّعورِ بالجسد الواحد أيامَ العيد، ومَعلَمٌ وضّاء من معالم شكرِ المنعم سبحانه.
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، ولتبقَ آثار الصيام مستمرّةً في حياتِكم إلى مماتكم، فدَيدَنُ المسلم ودِثارُه ومنهجه وشعارُه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
نفعني الله وإيّاكم بالذكر الحكيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي رحيم ودود.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتوحِّد بالعزة والجلال، أحمده تعالى وأشكره على سَوابِغ الفضل والنوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ نبينا وسيدنا محمّدًا عبد الله ورسوله سنيُّ السجايا شريف الخصال، ندَب أمّتَه إلى صيام الستِّ من شوال، صلى الله عليه وسلَّم وبارك وعلى آله وصحبه الذين طهروا العقول من الأوهامِ والضّلال، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقَب شروق وزَوال.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، وزُمّوا النفوسَ عن المعاصي قبلَ رَداها، وألجِموها بلجامِ التقوى عن تعدِّيها وطَغوَاها، ووالوا مواسمَ الغفران بالأعمال الصالحات، وضمِّخوا عيدَكم بالذكر والشكر والإحسانِ والصّدقات، ولا يستخِفَّنكم فرحُ العيد إلى مقارفَةِ الأوزارِ أو إسخاط الجبّار بالملاهي والأوضارِ، فتبوؤوا عياذًا بالله بالخزيِ والبوار، وليكن منكم على ذكرٍ ـ تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم وصالحَ أعمالكم ـ أنَّ المولى جلّ اسمه وقد تفضَّل عليكم بإتمام عِدّة الصيام ندَبَكم إلى صيام ستٍّ من شوال، وهن مخصوصاتٌ بالفضل والامتِنان ورفيعِ الشان، كما قال المصطفى من ولدِ عدنان عليه الصلاة والسلام: ((من صامَ رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهر)) أخرجه مسلم في صحيحه.
الله أكبر، أيّ عطاءٍ هذا غير ممنون لمن أناب إلى ربِّه واستعدَّ لريب المنون، ونقدَ لذلك التوبةَ الصادقة والدمعَ الهتون؟!
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وواصلوا مسيرةَ الأعمال الصالحة بعد رمضان؛ تكونوا من المفلحين.
ثم صلّوا وسلّموا على صاحب الحوض والشفاعَة ومن أوصى بلزوم السنّةِ والجماعَة، نبيِّنا محمّد بن عبد الله، أظهر الناس بِشرًا وأُنسًا، وأنداهم خلُقًا ونفسًا، كما أمركم ربُّكم بذلك جنًّا وإنسا، فقال عزّ من قائل كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك وأنعِم على سيّد الأوّلين والآخرين ورحمةِ الله للعالمين نبيِّنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغرِّ الميامين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5106)
العبر من وفاة سيد البشر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الموت والحشر
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
24/2/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة دراسة السيرة النبوية. 2- أعظم مصيبة نزلت بالمسلمين. 3- إشارة النبي إلى دنو أجله. 4- توديع النبي لأهل البقيع وشهداء أحد. 5- حرص النبي على الصلاة واهتمامه بها. 6- اشتداد المرض بالنبي. 7- تأكيده على التوحيد وسد أبواب الشرك. 8- وصاياه في آخر حياته. 9- ذهول الصحابة واضطرابهم لموت النبي. 10- ثبات أبي بكر رضي الله عنه. 11- مبايعة الصحابة لأبي بكر. 12- انتشار الإسلام في الآفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]
أيّها المسلمون، دِراسَةُ سِيرةِ النَّبيِّ حَتمٌ لاَزِم لِكلِّ مَن أَرادَ تَرميمَ أمّتِه والعودةَ بها إلى نَبعِها الأصيل والّذي لن تقومَ إلاّ بِهِ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164]. وإنَّ في كلِّ جانب من جوانب حياتِه عِلمًا وحِكمةً وهدًى ورحمة ودَرسًا وعبرة.
عبادَ الله، لما أشرَقَتِ الدَّنيا برسالة النبيِّ ضياءً وابتهاجًا ودَخَل الناس في دين الله أفواجًا وسَارَت دَعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار وليبلُغ دينه القويم ما بلَغ الليل والنهار، بعد أن بلَّغ رسول الله الرسالَةَ وأدَّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغمّةَ وأصبح الناس على المحجّة البيضاء ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك، بعد أن قضى ثلاثًا وعشرين سنَة في عبادة ربِّه وتلقّي وحيه والجهاد في سبيله وهداية الخلق، بعد أن أحبَّه الناس وخالَطَ حبُّه شغافَ قلوبهم، وقد كان لهم أشفَقَ مِنَ الوَالِدِ وأرحَمَ من الوالِدَة، عندها نزَلَت بالمسلمين أعظمُ مصيبة أكبر فَاجعة، وذلك حين أذِن الله تعالى لنبيِّه بفراقِ هذا العالَم وأنزَلَ عليه سورةَ النصر إشعارًا له بأنه فرَغ من مهَمَّتِه في الدّنيا، وأنّه سيودِّع أصحابَه قريبًا، وأنه مُفارق لهذا العالم الفاني وراجعٌ إلى الله ولاحِق بالرفيقِ الأعلى ليجزيَه الجزاء الأوفى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النّصر]. وهكذا الأعمالُ الكِبارُ تختَم بالتّسبيح والاستغفار.
عبادَ الله، إنَّ الحديث عن وفاة سيِّد البشر لأجل ما فيها من العظات والعبر، لا للتَّحزُّن واستدرارِ العواطف، وكما كانت حياته دعوةً وجهادًا، فكذلك وفاتُه كانت هدايةً وإرشادًا.
ولقد أشار النبيّ إلى اقتراب أجله بما أعلَمَه الله من قربه كما في صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ كان يقول في حجة الوداع: ((خذُوا عني مناسككم؛ لعلّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا)) ، وفي لفظ: ((فإني لا أَدري لعلّي لا أحجُّ بعد حجّتي هذه)) ، وطفِق يودّع الناس؛ لذا سميت حجّة الوداع. ولما نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3] بكَى عمر رضي الله عنه وقال: ليس بعد الكمالِ إلا النقص؛ مستشعرًا قُربَ أجل النبي بانتهاء مهمّته. وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها المخرَّج في الصحيحَين قالت: أقبلَت فاطمة رضي الله عنها تمشِي كأنَّ مشيتَها مشيُ النبيِّ فقال: ((مرحبًا بابنَتي)) الحديث، إلى أن قالت فاطمة رضي الله عنها: أَسرَّ لي : ((إنَّ جبريلَ كان يعارضني القرآن كلَّ سنة مرةً، وإنه عارَضني العامَ مرتين، ولا أُراه إلاّ حَضَر أجلي، وإنك أوّلُ أهل بيتي لحاقًا بي)) فبكيتُ، فقال: ((أمَا ترضين أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟!)) فضحكتُ لذلك.
أيّها المسلمون، في آخرِ شهر صفر خرج النبي إلى البقيع مِن جوف الليل فدعا لهم واستغفَر، وقال: ((ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه، أقبلتِ الفتن كقِطَع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوَّلَها، الآخرة شرٌّ من الأولى)) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم. كما دَعَا لشهداءِ أحُد كالمودِّع لهم. ثم أخذتِ النبيَّ حمّى شديدةٌ وصُداع شديد، وكان يطوف على نسائِه وقد ثقُل واشتدَّ به المرض، فدعاهنّ واستَأذنهمّ أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له. فانظر إلى عدلِه وحِرصه على جَبر الخواطر والعشرة الحسنة حتى في الحالِ التي يُعذر فيها.
ومع ما كان به من شدة المرض إلاّ أنه كان يصلّي بالناس، فلما عَجز يومًا عن الخروج ـ كما في الصحيحين ـ قال: ((أصَلَّى الناس؟)) قيل: لا؛ هم ينتظرونَك يا رسولَ الله، قال: ((ضَعوا لي ماءً في المخضب)) ، ففعلوا فاغتسل، ثم ذهب لينوب ـ أي: لينهض ـ فأغمِيَ عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قيل: لا؛ هم ينتظرُونك، فاغتسل ثانية ثم أغمِيَ عليه، وثالثة كذلك، وفي كلِّ مرّةٍ يسأل عن الصلاةِ، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يصلّيَ بالناس، فصلّى بهم أيّامًا، ثم إنَّ النبيَّ وجد في نفسِه خفّةً، فخرج يُهادى بين رجلين هما العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فلمَّا رآه أبو بكرٍ رضي لله عنه ذهَب ليتأخّر، فأومأ إليه النبي بأن لا يتأخّر، وأُجلِسَ إلى جنبه، وأُتِمَّت الصلاة. وفي هذا إشارةٌ إلى فضلِ أبي بكر رضي الله عنه وأحقّيَّته بالإمامة بعدَ النبيِّ ، وكذا حرصُ النبي على صلاة الجماعة، واهتمامُه بصلاة أصحابه واجتماعهم على إمام واحد.
وفي الصحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال: خرَج علينا رسولُ الله في مرضه الذي مَاتَ فيه ونحن في المسجِد عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عندَ الله)) ، فبكَى أبو بكر الصدّيق وقال: فدَيناك بآبائِنا وأمّهاتنا يا رسول الله، فقال النبيُّ : ((يا أبا بكر، لا تبكِ؛ إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متّخِذًا خليلاً من أمتي لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكن أخوّةُ الإسلام ومودَّته، لا يبقَى في المسجد بابٌ إلاّ سُدَّ إلا بابَ أبي بكر)).
وفي الصحيحين أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يُصلّي لهم في وجَع النبي الذي تُوفِّيَ فيه، حتى إذا كان يومُ الاثنين وهم صفوفٌ في الصلاة فكشَف النبيُّ سِترَ الحجرة ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأنَّ وجهَه ورَقَة محصَف، ثم تبسَّم يضحَك، فهَممنا أن نفتَتِن من الفرح برؤيةِ النبيِّ ، فنكَص أبو بكر على عقِبَيه ليصِلَ الصفّ، وظنَّ أن النبيَّ خارج إلى الصلاة، فأشارَ إلينا النبيُّ أن أتِمّوا صلاتَكم، وأرخى السّترَ، فتوفِّيَ من يومِه.
وقد كان فرَحُهم رضي الله عنهم ظنًّا أنّه شُفيَ ، وما علِموا أنها نظرةُ الوداع الأخيرة. لقد تبَسّم النبي حين اطمَأنّ عليهم ورآهم متراصِّين في الصلاة خلفَ إمامهم أبي بكرٍ رضي الله عنه، وملأَ عينَه وقلبه برؤيتهم.
هممتُّ بتوديع الْحبيب فلم أطِق فودّعتُه بالقلب والعينُ تدمع
وكانت هذه آخِرَ ابتسامةٍ له في الدنيا؛ حيث فرِح بحال أمّتِه المستقيمة المجتمِعة المتراصّة خلف إمامها. ولقد شاء الله تعالى أن تكونَ لحظةُ الوداع تلك في مشهدِ الصلاة.
وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشةُ، ما أزال أجِد ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السمّ)). وهكذا رُزِق النبيُّ الشهادةَ بسبب سُمّ اليهودِ الخوَنَة نقَضَةِ العهود قَتَلَةِ الأنبياء عليهم من الله مل يستحقون، فهم أخبثُ الأمَم طويَّةً، وأردَاهم سَجِيّة، وأبعدُهم من الرحمة، وأقربهم من النِّقمة، عادَتُهم البغضاء، وديدنهم العداوةُ والشحناء، بيتُ السّحر والكذب والحِيَل، لا يرونَ لنبيٍّ حرمةً، ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة.
ولما اشتدَّ الوجعُ على النبيِّ كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دَخلتُ على رسولِ الله وهو يوعَك، فحسَستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وَعكًا شديدًا! فقال : ((أجل، إني أوعُك كما يُوعَك رَجُلان منكم)) ، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال : ((أجل، ذلك كذَلك، ما مِن مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاتِه وحُطّت عنه ذنوبه كما تحطُّ الشجرةُ ورقها)). وفي هذا تعزية لأهل المصائب والابتلاءات والأسقامِ والأمراض.
أيّها المسلمون، ومع مقاساةِ النبي الشدائدَ ومعاناته آلامَ الموت إلاَّ أنه لم يَغفَل عن توجيهِ أمّتِه ولم يَتَوَقَّف عَن أداء رسالتِه، بل عاد يؤكّد على القضيِّة الكبرى والتي بدأ بها دعوتَه وسايَرته طولَ حياته، إنها قضيةُ التوحيد وسدِّ أبواب الشرك، عن عائشةَ وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزل برسول الله طفِق يطرَح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمّ كشَفَها عن وجهِه، وهو كذلك يقول: ((لعنَةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ)) ؛ يحذِّر ما صعنوا. رواه البخاري ومسلم.
إنَّ النبيَّ وهو في الكرب العظيم يعرِف مصائدَ الشيطان وما يُمكِن أن يسوِّل به للأمّةِ إذا جرّها إلى الجاهليةِ الأولى؛ إذ إنهم حين يصِلون إلى حالِ عبادتهم للقبور والطوافِ بها ودعائها فقد فقَدوا دينهم وهم لا يعلمون.
وفي الصحيحين أنَّ النبي أوصى عند موته بقوله: ((أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب)) ، وكان آخر ما أوصى به وكرَّره مرارًا الصلاة، ففي حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه قال: كانَت عامّة وصية رسول الله حين حضَرَه الموت: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)) ، حتى جعل يغَرغِر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانُه. رواه النسائيّ وابن ماجه بسند صحيح. وصدَقَ الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. فليس لمتهاون عذرٌ وهو يسمَع وصيّةَ النبيّ ، والتي جاد بها وهو يجود بنفسِه، ألا يسمَعُ مَن يَتَكَاسَل عَنِ الصَّلاةِ؟! ألا يَسمَع من يظلِمُ العاملَ والخادم والأجيرَ فينتَقِص أجرَه ويهضِم حقَّه ويؤذِيهم بالكلام وبالفِعال؟! فليتّق الله كلُّ من ولاّه الله أمرَ ضعيف.
وفي الصحيحَين أيضًا أنَّ النبيَّ رأى السواك وأخذه، واستنّ به أحسنَ ما يكون استنانًا، وبين يديه ركوةٌ فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهَه يقول: ((لا إلهَ إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ)) ، ثم نصب يدَه فجعل يقول: ((اللهم في الرفيق الأعلى)) ، يردِّدها حتى قبِض ومالت يده.
وتسرّب الخبرُ بين الصحابة في لحظاتٍ، فضجّوا بالبكاء، وأظلَمَت عليهم الدنيا، واشتدّت الرزيّة، وعظم الخطبُ، وأخذوا يبكون، لا يدرون ما يصنَعون، وحُقَّ لهم؛ لقد غابَ الحبيبُ المصطفى وماتَ، لقد افتقدوا مهجةَ قلوبهم ومن كانَ ملءَ أسماعهم وأبصارهم، ولكنّ قدَرَ الله نفذ وحكمه نزل، والله غالب على أمره.
بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ورزقنا مرافقةَ سيِّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولَكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين.
أيّها المسلمون، إنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكادوا أن يصدِّقوا خبَرَ الوفاة، ولم يستَوعِب بعضُهم هذه الفاجعةَ لِعِظَم المصيبة وهول الصدمة، حتى كان عمر رضي الله عنه يهدِّد من يقول: إنَّ رسولَ الله قد مات. يقول أنسٌ رضي الله عنه: لما ماتَ رسول الله كُنّا كالغَنَم المطيرةِ في الليلةِ الشاتِية، فما زالَ أبو بكر يشجِّعنا حتى كنّا كالأسودِ المتنمِّرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد خَرَج في الصَّباحِ إلى منزله بالسُّنح في طرف المدينة، فأقبل بفرسِه سريعًا حين سمِع الخبر، فنزل ودخَل المسجدَ، ولم يكلِّم أحدًا، حتى دخَل الحجرةَ الشريفة وعيناه تسيلان وزفراتُه تتردّد، فقَصَد النبيَّ وهو مُسَجّى ببردة حَبِرة، ثم أكبّ عليه قبّله وبكَى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميّتًا. وفي هذا درسٌ للتثبُّت من الأخبارِ ولو شاعَت قبل اتِّخاذ المواقف. وفيه أيضا جواز تقبيل الميت.
ثم خرج أبو بكر وعُمَر يكلّم الناس، فقال: اسكُت يا عمر، فأبى إلاّ أن يتكلّم، فأقبل الناسُ إلى أبي بكر وتركوا عمر رضي الله عنهم أجمعين، فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال: (أمّا بعد: فمَن كان منكم يعبد محمّدًا فإن محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت)، وتلا قولَ الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله، لكأنَّ الناسَ لم يعلموا أن الله أنزَل هذه الآيةَ حتى تلاها أبو بكر، فتلقّاها منه الناس، فما أسمعُ بشرًا من الناس إلا يتلوها، قال عمر: والله، ما هو إلاّ أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرت حتى ما تُقلّني رجلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمتُ أنَّ النبيَّ قد مات.
وفي هذا فضيلةُ العلم والعُلماء، وأنَّ العلمَ مقدّم على العواطفِ، وأنّ قول العالم بكتاب الله المطّلع على حقيقة الواقعة مقدّم على قول غيره.
ثم بايَع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه بالخلافةِ بالإجماع، بعدَ نقاشٍ وحوار لم يدُم طويلاً، فرضي المسلمون ما رضيَه لهم ربهم ورضيَه رسوله ، ولم يجِدِ الشيطان سبيلاً لتفريق الكلمةِ أو تمزيق الشّمل. لقد ردَّ أبو بكر رضي الله عنه الناسَ إلى دين الله، وأوضَحَ لهم المنهجَ الذي دلّ عليه القرآنُ، وأنَّ الارتباط يجب أن يكون بالمبادئ لا بالأشخَاص؛ لأن الأشخاصَ يموتون ومن سوى الأنبياء قد يتغيرون.
وكانت وفاةُ النبيِّ في يومِ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في السنةِ الحادية عشرة من الهجرة. وقد غُسِّل النبيُّ وعليه ثيابُه، فلم يُجَرّد كرامةً له، ثم دخَل الناس يصلّون عليه أفرادًا، ثم دُفن في موضِعِه الذي قبض فيه ليلة الأربعاء.
وراحوا بحزنٍ ليس فيهم نبيُّهم وقد وهنَت منهم ظهور وأعضد
عن أنس رضي الله عنه قال: لما كانَ اليومُ الذي قدِم فيه النبي المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلّ شيء، وما نفَضنا أيديَنا من الترابِ وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
أيها المسلمون، لقد تَرَك النبيُّ الدنيا وهو أكرمُ مخلوق على اللهِ، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا مالاً إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وتوفي ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديّ في شعير، توفّي وما شبِع ثلاثةَ أيام تِباعًا، ذاق اليتم، وتحملّ أعباء الرسالة، وواجه التكذيب والأذى والمطاردةَ وفراق الأوطان في سبيل الله، صبَرَ وصابر، وعفا وسامح، وربَّى أمّة خالدة، فيها الهدايةُ والإيمان والشريعةُ الباقية، تركَ أمّةً هي خير الأمم وأوسَطُها، ترك سيرة عطرةً لتكون منهاجا للأمة إلى يوم القيامة.
إنَّ محبّةَ النبيِّ من أصول الإيمان، والشوقَ إلى لقائه من دلائلِ الإيمان، ومن أحبَّ لقاءه فليتبَع سنّتَه حتى يوافِيَه على الحوض، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
وأخيرًا، فبالرّغم مِن عِظَم المصيبة بموتِ النبيِ إلا أنها لم توهِن الإسلام، ولم تُضعِفِ المسلمين، بل انطلق الدين الحقّ يتخطّى الحدود والسدود، ويعلو الوِهاد، ويطوي الأرض، حتى بلغَ مشارقَ الأرض ومغاربها، وأظهَره الله على الدينِ كلّه، ولئن ضعُف حال المسلمين في يومٍ فإن الجولةَ الأخيرة للإسلام، والنصرَ آت لا محالة.
عبادَ الله، صلّوا وسلّموا على الهادي البشير والسراج المنير.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، اللهم ارزقنا شفاعته، واحشرنا في زمرتِه، وأورِدنا حوضَه، واسقنا من يده الشريفةِ شربةً لا نظمأ بعدها أبدا.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين...
(1/5107)
جريمة القتل
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فرق منتسبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
12/2/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس. 2- صفات الأخيار وصفات الأشرار. 3- أعظم الإفساد في الأرض. 4- تحريم قتل الأنفس المعصومة. 5- استنكار جريمة قتل الفرنسيين الأربعة. 6- التحذير من الخوارج المارقين. 7- دعوة لشكر النعم ومحاسبة النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التَّقوى بفعل مرضاتِه والبُعد عن محرَّماتِه، تكونوا من عبادِه المتَّقين الّذين وفَّقهم وأسعَدَهم ربُّهم في الدَّنيا، وآتاهم حُسنَ الثواب في الأخرَى.
عبادَ الله، إنّ مِن النَّاس مَن هُوَ مِن مفاتيحِ الخير، ومنهم من هوَ مِن مفاتيح الشَّرّ، وكلاهما يَلقَى جزاءَه في الدّارَين، قال النبيُّ : ((طُوبى لمن كان مِفتَاحًا للخير مِغلاقًا للشرّ، وويلٌ لمن كان مِغلاقًا للخير مفتاحًا للشرّ)) [1]. والخيرُ كلُّه ما دعا إليه الدِّين الإسلاميّ وأمر به، والشّرّ كلُّه ما نهى عنه الدّين الإسلاميّ وحذَّر منه.
وقد ذَكَر الله صفاتِ الأخيار لنعملَ بها، وصِفَاتِ الأشرارِ لنَتَجَنّبها، قَالَ اللهُ تعالى: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـ?مًا وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 63-69]، كما ذكَر الله تعالى صفاتِ المجرمين المفسدين لنَحذَر أعمالَهم ونتجنَّبَ طرائقَهم، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12]، وقال تعالى: وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142].
وأَعظمُ الإفسادِ في الأرض الشِّركُ بالله تعالى في عِبادتِه، واتِّباعُ الهوى لأنّه يَصُدُّ عن الحقّ، وقتلُ النفس التي حرّم الله عزّ وجل قتلَها وعصَم دمَها وعظَّم خَطرَ قتلها في كلّ شَريعَةٍ، قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وجاءَ في الوَصايَا العشرِ لموسَى في التوراة: "لا تتَّخذ إلهًا غيري في السّماء أو في الأرض، أكرِم أباك وأمَّك، لا تَقتُل، لا تَزنِ، لا تَسرِق، لا تَشهَد على قريبِك شهادةَ زورٍ، ولا تَشتَهِ حقلَه ولا ثورَه ولا حِماره" أي: لا تحسد. وجاءَ عيسى عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ إلى بني إسرائيلَ وَكَلمتُه التي ألقاها إلى مريمَ العابدة وروح من الله تعالى، جاء يُؤكِّد هذه الوصايا العَشر، وأكَّدها داودُ وغيرُه من أنبياءِ بَني إسرائيلَ عليهم الصَّلاة والسّلام.
وأنزل الله تعالى على سيِّدِ المرسَلين محمّد عشرَ وَصَايَا عظيمة في شريعَتِه الغرّاء التي اتَّفَقَت مع شرائِع الأنبياءِ قبلَه في أصولِ الشَّريعة، ونسخَتِ الشرائعَ التي قبلَها، وحفظَ الله كتابَ هذه الشريعةِ مِنَ الزيادة والنقصان إلى يومِ القيامة، قال الله تعالى في هذه الوصايَا العَشر العظيمةِ: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ?لْيَتِيمِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى? يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ?لْكَيْلَ وَ?لْمِيزَانَ بِ?لْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? وَبِعَهْدِ ?للَّهِ أَوْفُواْ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 151-153].
ففي هذه الوصايا العشرِ العظيمة حرَّم الله قتلَ النّفس، وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وفي الحديثِ عن النّبيِّ : ((لا يَزالُ المرءُ في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [2] ، وفي الحديث عن النبيِّ أنه قال: ((من قَتَل معاهدًا أو ذِمِّيًا لم يَرح رائحةَ الجنَّة)) [3] ، والمعاهد المستأمَن في هذا العصر هو الذي أُعطِيَ إقامةً من الإمام أو نُوَّابه وموظَّفيه وهو غيرُ مسلم، فإنّ هذا الوعيدَ الشديدَ على قتله يمنَع المسلِمَ أن يتعرَّض له في دمه أو ماله أو عِرضه.
وإنَّ ما وَقع في هذه الأيّامِ مِن حَدَثٍ إِجرَاميٍّ في صحراءِ بُواط من قتلٍ وعدوان وظلم وبَغي على نفوسٍ لا ذنبَ لها ومن عملٍ إرهابيّ سُفِكت فيه الدماء وأزهقت فيه النفوس وأُستحل به المحرم، هذا فعلٌ أثيم، إنَّ هذا عمل إجراميّ شنيع وفساد عظيم، ينبذه الإسلام، ويحاربه ويتبرَّأ منه، ويعاقب عليه أبلَغَ العقوبةَ. وقد جمع هذا الحدثُ الشِّرير والإثم الكبير كبائرَ من الذنوب العظام ومفاسدَ من الآثام، فأقدم هؤلاء المفسدون المجرِمون على قتل النفس التي حرَّم الله قتلَها، فعَصَوا الرحمن، وأسلَموا قِيادَهم للشَّيطان، وعَصَوا وليَّ أمر المسلمين، وخَرَجوا على جماعةِ المسلمين، وقد أمر الله تعالى بطاعة وليِّ الأمر في قوله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]. فخَرَجوا على جماعةِ المسلمين، وشَذّوا عن سياجِ حَوزَة الدين، وشوَّهوا صورةَ الإسلام الكريمة وأساؤوا إلى تعاليمه المستقيمة، وقطعوا الطريقَ، وروَّعُوا الآمنين، وقاطعوا الوالِدين والإخوانَ والأقرباء والجيران، وصَمّوا آذانهم عن النصائح والإرشاد، وعزَلوا عقولهم عن الاعتبار، وأغمَضوا أعيُنَهم عن الإبصار، فوقعوا في الهاوية التي وقع فيها من هُم على فِكرِهم الغدّار.
أيّها الناس، إن هذا النوعَ من الناس عدوٌّ لنفسه وعدوٌ للمجتمع وعدوٌّ للأمن والاستقرار، يبدِّل نعمة الله من بعدما جاءته والله شديد العقاب.
إنَّ قاتلَ النفس لو سكَن في السحاب لأنزَله الله بسِلسِلَة الغَدر التي طوَّقَت عنقَه إلى ساحة العدلِ حتى يشرَب من الكأسِ الذي سقى به المقتولَ المظلوم. قال الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء: 123].
وإنَّ مما توجِبه علينا شريعة الإسلام التصدّيَ لهذا الفكر الذي أحدثه الخوارج في تاريخ الإسلام، فكفَّروا به ولاة أمور المسلمين، وكفروا به المسلمين، وحدث بهذا الفكر فسادٌ كبير في الأمة، وحذّر من هذا الفكرِ رسول الله أمّتَه؛ لئلا تتفرَّق، ولئلا يطوِّقَها الفسادُ، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي أمامة : ((الخوارج كلابُ أهل النار)) ، وفي صَحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((يمرُقون من الدّين كما يمرق السّهمُ من الرّميّة)) [4].
وأكد النبي طاعةَ ولي الأمر بعد طاعةِ الله ورسوله، فقال : ((من أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عَصاني فقد عصى الله، ومَن يَعصِ الأميرَ فقد عصاني، ومن يُطِعِ الأميرَ فقد أطاعني)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [5] ، وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أهانَ السُّلطانَ أهانَه الله)) رواه الترمذي [6].
وهذه النصوصُ ألم يَسمَعها الخوارج؟! ألم يتَّعظوا؟! ألم يعتبروا؟! ألم يراجعوا أنفسهم؟! وإذا لزم المسلم جماعةَ المسلمين ولم يخرج عن الإمام وأطاعَ في غير معصية ونصح لإمامه فقد برئ من مذهبِ الخوارج.
أيّها الناس، إنه لا يجوز التستُّر على هؤلاء المفسِدين المجرمين، بل على من علِم منهم شيئًا أن يرفعَ أمرَهم للسلطان؛ ليأخذوا جزاءهم الذي قرَّرته شريعة الإسلام، فالشريعةُ ضمِنَت حقوقَ الناس كلّهم بالعدل والحقّ، وردعت كلَّ معتدٍ أثيم وكلّ مفسد شرير.
أيّها الناس، احذَروا نِقَم الله والجرأةَ عَلى مَعاصي الله، ولا تتَّبعوا خطواتِ الشيطان، كونوا مع جماعة المسلمين، والزموا الطاعة، واحذَروا الفرقةَ فإنها تهدم الدين وتضيِّع مصالحَ الدنيا، وانظروا في تاريخِ طائفةِ الخوارج؛ ماذا حصَدوا مِن أفعالهم، وكيف كان عاقبةُ أمرهم، فاحذَروا ما أصابهم، فإنَّ الله لهم بالمرصاد. ولو مكَّن الله لأهل البدَع في الأرض لغيَّروا دينَ الإسلام، ومحوا آثاره، ولقادوا الناسَ إلى الظلمات والشهواتِ والشُّبُهات والضلالِ والدمار والمحرَّمات، قالَ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 102-105].
بَارَكَ الله لي ولَكُم في القرآنِ العَظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحكيم ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر اللهَ العظيم لي ولكم ولسائِرِ المسلمين مِن كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغَفور الرَّحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه في المقدمة (238)، وابن أبي عاصم في السنة (298)، وأبو يعلى (7526)، والروياني (1049)، وأبو نعيم في الحلية (8/329-330) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سهل، لم يروه عنه إلا أبو حازم، تفرد به عنه عبد الرحمن فيما أعلم"، وعبد الرحمن بن زيد شديد الضعف. وفي الباب عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (237) وإسناده ضعيف أيضا.
[2] صحيح البخاري: كتاب الديات (6862).
[3] أخرجه البخاري في الديات، باب: إثم من قتل ذميا بغير جرم (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وليس فيه: ((أو ذميا)).
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2957)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1835).
[6] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2224) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وأخرجه أيضا الطيالسي (887)، وأحمد (5/42، 48)، وابن أبي عاصم في السنة (1017، 1018)، والبزار (3670)، والبيهقي في الكبرى (8/163)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1812).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ ذِي المجدِ والكَرَم، الَّذي خَلَق الإنسانَ وعَلّمَه القَلَم، أحمدُه سبحانَه عَلَى عَظيم نَعمَائِه، وأَشكره على عَطَائه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله الأعزّ الأكرَم، وأشهَد أنَّ نبيّنا وسيّدنا محمَّدًا عبده ورسولُه المبعوث رحمة للعالمين، اللَّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آلِه وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التَّقوى، وتمَسَّكوا منَ الإسلام بالعروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعَمَ الله الظاهرةَ والباطِنة التي أسبَغَها عليكم، فقد أنعمَ عليكم لتَعبدوه، وأعطاكم لتُسلِموا له الوُجوه، ومنَّ عَلَيكم لتطلبوا مرضاته وتَبتَعِدُوا عَن محرَّماته، قالَ الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81].
حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، ولا تحتَقِروا أيَّ نعمَة من نِعَم ربِّكم، فليس في نِعَم الله حقير، وليسَ في آلائِه صَغير، فالنّعَم تحتاج إلى شكرٍ وإلى صَبر. ولا تحقِروا المعاصيَ ولو كانت في أعينكم صغيرةً، فإنّ لها من الله طالبًا.
واعلَمُوا أَنَّ عَلَيكم مِنَ الله حافظًا، لاَ يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم ونِيّاتكم ومَقاصِدكم وإِراداتِكم، يُحصي الله ذلك في كِتابٍ، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14]، ويقول الله تعالى في الحديثِ القدسيِّ: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيّاها، فمَن وجَد خيرًا فليحمَدِ الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يَلومنَّ إلا نفسَه)) [1].
واعلَموا أنّه لا ينفَع أحدًا دَخَل النَّارَ نَعيمٌ تمتَّع بهِ في الدُّنيا، ولا يَضُرّ أحدًا من أهلِ الجنّة بؤسٌ وشِدّة أَتَت عليه في هذهِ الحياةِ الدّنيا، كما في صحيحِ مسلمٍ أنّ النبيَّ قَالَ: ((يُؤتَى بأنعَمِ أهلِ الدّنيا وقد غُمس في النار غَمسةً فيُقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ نعيمًا قطّ؟ فيقول: وعزّةِ الله، ما رأيتُ نعيمًا قطّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا فيغمَس في الجنّة غمسةً فيُقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطّ؟ فيقول: وعزّة الله، ما رأيتُ بؤسًا قطّ)) [2].
أيها الناس، احفَظُوا أيديَكم وألسنَتكم عن دماء الناس أموالهم وأعراضهم، فطوبى لمن عبد الله لا يشرك به شيئًا وقدم على ربّه وقد عافاه الله من دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فذلك هو الفائز المفلِحُ الذي رفَعَه الله في الآخرة دَرَجاتٍ، ففي الحديث عن النبي أنه قال: ((أوّل ما يقضي الله بين الناس يومَ القيامة في الدماءِ)) رواه البخاري ومسلم.
عبادَ الله، إنَّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِهِ، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرِين وإمامِ المرسَلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
[1] جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
[2] صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه.
(1/5108)
شهر صفر والاعتقادات الباطلة
التوحيد
الشرك ووسائله
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
9/2/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد أوجب الواجبات. 2- عظم أمر التوحيد وخطورة الشرك. 3- تسمية شهر صفر. 4- منكران للعرب في الجاهلية في شهر صفر. 5- معتقدات باطلة عن شهر صفر. 6- النهي عن التشاؤم والطيرة. 7- إنجازات عظيمة وقعت في صفر. 8- الزمن المبارك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، إنه سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
عباد الله، إن أوجب الواجبات على العباد معرفة توحيد الله عز وجل ومعرفة ما يناقضه من الشرك والخرافات والبدع، ذاك أن التوحيد هو القاعدة والأساس في دين الإسلام الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، التوحيد هو أصل الأصول الذي خلقنا لأجله، والأعمال كلها متوقف قبولها واعتبارها على تحقيق هذا الأصل العظيم.
عباد الله، إنه لا يستقيم توحيد عبد إلا بمعرفة الحق وما يضاد ذلك الحق ثم الحذر منه، وهذا القرآن الكريم كله آمر بالتوحيد ومحذر من الشرك: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
عباد الله، لقد تنادت الأدلة المتكاثرة والحجج المتضافرة والبراهين المتوافرة على عظم أمر التوحيد وخطر ما يضاده وشدّة الخوف على الناس من الانحراف والزيغ، ولماذا لا يخاف عليهم والشياطين ما فتئت تترصّد لبني آدم تجتالهم وتغويهم؟! وفي الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) أخرجه الإمام مسلم.
عباد الله، ومما يضاد التوحيد ما يعتقده بعض أهل الجاهلية وأتباعهم في هذا الزمان من اعتقادات وبدع في بعض الأيام وبعض الشهور من العام، ومن ذلك ما يعتقده بعضهم في هذا الشهر من العام ألا وهو شهر صفر.
عباد الله، إنَّ شهركم هذا هو أحد الشهور الهجرية، وهو الشهر الذي يلي شهر الله المحرم، ولقد سمي بهذا الاسم (صفر) لإصفار مكة من أهلها أي: خلوها من أهلها إذا سافروا، وقيل: بل سمَّوا الشهر صفر لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع.
عباد الله، لقد كان للعرب في الجاهلية في شهر صفر منكران عظيمان:
الأول: التلاعب فيه تقديمًا وتأخيرًا حيث كانوا في الأشهر الحرم يقدمون ويؤخرون حسب أهوائهم، وذلك لأن الله سبحانه جعل في العام أربعة أشهر حرم، حرم فيها القتال تعظيمًا لشأنها، وهذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ومصداق ذلك في كتاب الله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36]. فكان المشركون إذا أرادوا أن ينتهكوا حرمة شهر المحرّم قدّموا شهر صفر وجعلوه مكانه حتى لا تحول الأزمنة الفاضلة بينهم وبين ما يشتهون.
أما المنكر الثاني الذي كان يرتكبه العرب في مثل هذا الشهر فهو التشاؤم منه، حيث كانوا يعتقدون أنه شهر حلول المكاره ونزول المصائب، فلا يتزوج من أراد الزواج في هذا الشهر لاعتقاده أن لا يوفَّق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر خشية أن لا يربح.
ولهذا ـ عباد الله ـ أبطل هذا الاعتقاد الزائف، فشهر صفر شهر من أشهر الله، وزمان من أزمنة الله، لا يحصل فيه إلا ما قضاه الله وقدره، ولم يختص سبحانه هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بحصول مصائب، فالأزمنة لا دخل لها في التأثير ولا فيما يقدره الله سبحانه، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر.
عباد الله، إن كان أهل الجاهلية يعتقدون في بعض الأشهر الاعتقادات الباطلة بسبب جهلهم وبعدهم عن الهدي النبوي فما بال فئام من أمة محمد تأبى إلا التشبه بأهل الجاهلية والحذو حذوهم؟! فنجد البعض يتشاءم من زيارة المرضى في بعض أيام هذا الشهر، وطائفة تمنع الزيجات وإحياء بعض السنن في هذا الشهر تمسكًا بما عليه أهل الجاهلية.
ومما يعتقده البعض وخاصة في بعض الأقطار الإسلامية أنه في آخر يوم أربعاء من هذا الشهر ينزل الله سبحانه آلاف البليات والكوارث حتى يكون ذلك اليوم أصعب أيام السنة وأشدها، وعلى من أراد الخلاص من شرور ذلك اليوم أن يصلي أربع ركعات بصيغة معيّنة ثم يختم صلاته بالدعاء المعين وفيه: "اللهم اكفني شر هذا اليوم وما ينزل فيه يا كافي المهمات ويا دافع البليات".
عباد الله، لقد سئلت اللجنة الدائمة عن هذه الصلاة وتوابعها فأجابت: "إنّ هذه النافلة المذكورة في السؤال لا نعلم لها أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولم يثبت أن أحدًا من سلف هذه الأمة وصالحي خلفها عمل بهذه النافلة، بل هي بدعة منكرة، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، ومن نسب هذه الصلاة وما ذكر معها إلى النبي أو إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فقد أعظم الفرية، وعليه من الله ما يستحق من عقوبة الكذابين".
وثقتُ بربي وفوّضت أمري إليه وحسبي به من معين
فلا تبتئس لصروف الزمان ودعنِي فإنّ يقينِي يقينِي
عباد الله، ومن الاعتقادات الباطلة في هذا الشهر اجتماع بعض الناس في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشاءين في بعض المساجد، ويتحلّقون إلى كتاب الله، يكتب لهم على أوراق آيات السلام السبعة على الأنبياء كقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]... إلخ، ثم يضعونها في الأواني ويشربون من مائها ويعتقدون أن سر كتابتها كان في هذا الوقت، ثم يتهادونها إلى البيوت لاعتقادهم أن هذا يذهب الشرور، وهذا لا شك أنه اعتقاد فاسد وتشاؤم مذموم وابتداع قبيح يجب أن ينكره كل من يراه على فاعله.
عباد الله، إن التشاؤم بالأزمنة والتشاؤم بالأشهر وببعض الأيام أمر يبطله الإسلام لما فيه من الظن السيئ بالرب سبحانه، ومن الاعتقاد الباطل الذي لا ينبني على دليل أو برهان، وهذا التشاؤم هو جنس الطيرة التي نهى عنها فقال: ((لا عدوى ولا طيرة)) ، وفي الحديث الآخر: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك)).
عباد الله، لا يفتأ أهل الجاهلية وأتباعهم أن يوجدوا لمعتقداتهم ما يثبت صحتها ويشهد لها، حيث ابتدعوا أحاديث ونصوصا نسبوها إلى النبي وهو منها براء، كل ذلك لأجل البرهنة على أعمالهم والاستشهاد لها، ومن ذلك ما يروى عن النبي أنه قال: ((من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة)) ، ذكره الإمام الشوكاني وغيره في الأحاديث الموضوعة. وكذلك من الأحاديث الموضوعة عن هذا الشهر حديث: ((يكون صوت في صفر، ثم تتنازع القبائل في شهر ربيع، ثم العجب العجاب بين جمادي ورجب)).
عباد الله، إن بعض الناس من باب مخالفة أهل الجاهلية وتشاؤمهم بشهر صفر يؤرّخ ويقول: "شهر صفر الخير"، وهذا الفعل منه هو من باب مدافعة البدعة بالبدعة كما يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله؛ لأن هذا الشهر ليس شهر خير ولا شر، ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرًا إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
عباد الله، إن هذا الشهر الذي يتشاءم به البعض قد حوى أحداثًا عظامًا وتواريخ جليلة، ففي هذا الشهر كانت أول غزوة غزاها رسول الله بنفسه، وهي غزوة الأبواء، حيث خرج يعترض عيرًا لقريش، لكنه لم يلق كيدًا، وفي مثل هذا الشهر كان فتح خيبر على يدي المصطفى ، وفي مثل هذا الشهر كانت الوقعة التي قتل فيها خبيب بن عدي رضي الله عن الجميع.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله إنما يجلب بعبادته، وأن المكاره والحوادث تدفع بالدعاء وبالطاعة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
طيرة الناس لا ترد قضاء فاعذر الدهر لا تشُبه بِلَوم
أي يوم تَخصه بسعود الْمنايا ينزلن في كل يوم
ليس يوم إلا وفيه سعود ونُحوس تَجري لقوم وقوم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وعد الموحدين بالجنة، وتوعد المشركين بالنار، أحمده سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حمى جناب التوحيد من كل ما يخلّ به ويشينه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا له العبادة، واعلموا أن أفضل أعمال أهلِ الجنة توحيد الله سبحانه وتعالى، وأن أشنع أعمال أهل النار الإشراك مع الله غيره وإحداث ما لم يأذن به الله، قال : ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئًا دخل النار)) رواه مسلم.
عباد الله، إن الشركَ والخرافات والبدع لا تقع في الأرض جملة واحدة، بل تقع شيئًا فشيئًا، حتى تعمّ وتُستَمرَأ، وما حال قوم نوح عنا ببعيد، ولقد امتُدِح حذيفة رضي الله عنه لأنه كان يسأل النبي عن الشر مخافة أن يقع فيه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يوشِك أن ينقض الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).
عباد الله، إنَّ كل زمان شغله المؤمن بطاعة الله تعالى فهو زمان مبارك عليه، وكلّ زمان شغله العبد بمعصية الله تعالى فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو في معصية الله تعالى.
وهذا شهر ـ يا عباد الله ـ من عامكم الجديد قد مضى، فاغتنموا العمر فيما بقي، وتداركوا ما سبق بالأوبة والتوبة والرجوع إلى مولاكم رب العزة.
كم ذا التمادي فهَا قد جاءنا صفر شهر به الفوز والتوفيق والظفَر
فابدأ بِما شئت من فعل تسرّ به يوم المصار ففيه الْخير ينتظر
توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم من قبل يبلغ فيكم حده العمر
(1/5109)
تحذير المؤمنين من السحر والسحرة والمشعوذين
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
12/2/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية قضايا التوحيد. 2- حقيقة التوحيد. 3- الانحراف إلى الشرك. 4- مفاسد السحر وبيان حقيقته. 5- ذم الساحر وبيان حاله. 6- حكم الساحر. 7- ظاهرة تعلق الناس بالسحر والسحرة. 8- النهي عن إتيان الكهنة والعرافين وعن تصديقهم. 9- الوصية باللجوء إلى الله وحده. 10- سلامة المؤمن من تسلط الشياطين عليه. 11- التحصين من السحرة والشياطين. 12- استنكار حادث قتل الفرنسيين الأربعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلَّكم تفلِحون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]. فتشبَّثوا بالتوحيد، وتزوَّدوا ليوم الوعيد، فعمّا قليل سيبلَى الجديد ويشيب الوليد، وما أقربَ القاصي من الداني، ورحِم الله عبدًا تزوَّد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
أيُّها المسلِمون، القضايا التي يجب تردادُها والمسائل التي ينبغي تعدادُها هي قضايا التوحيدِ وإسلام الأمر لله العزيز الحميد. التوحيد ـ أيها المسلمون ـ هو الحقيقة الكبرى والقُطب الأقوى والذي تدور عليه رَحَى الدينِ، بَل هُوَ أَسَاسُ كلِّ النبوّات ومعقِد لِواء الرِّسالات، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وحقيقةُ التوحيد هي إفرادُ الله تعالى بالعبادةِ والتوجّهُ له في كلِّ شيء. ومِن أعظم أبوابِ التوحيد الخوف والرجاء والرغبة والرهبة واليقينُ والتوكّل، وهي مسائل عظيمة يغفَل عنها بعضُ الخلق، حتى إنَّ الشرك ليدخل عليهم من بابها وهم لا يشعرون.
ذلكم ـ أيّها المسلمون ـ حين ينحَدِر العبد إلى الخوفِ من المخلوق ورهبتِه ورجائه والرغبةِ إليه والتوكّل عليه، في إعراضٍ عن الخالق وبُعدٍ عنه، وفي القرآن العظيمِ: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. إنَّ الخوفَ من غيرِ الله هو شركُ الجاهليّة الأولى والمشارُ إليه في الآيةِ السالِفَة.
عبادَ الله، إنَّ هذا الخلَلَ القلبيَّ يؤدِّي إلى فعلٍ شركيّ، بل أفعالٍ كثيرة، وذلك حين يصرِف العبد شيئًا من حقوقِ الخالق إلى المخلوق لجلبِ نفعٍ أو دفع ضرّ، بل يصِل الأمر إلى الشِّركِ في توحيدِ الربوبيّة حين يعتَقِد الجهولُ النفعَ والضّرَّ عند غير الله، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنَّ الشِّركَ في هذا الباب من المسائلِ الخطيرةِ، والتي قد يغفَل عنها بعضُ الموحِّدين، والله تعالى يَقُول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48].
أيّها المسلِمون، إنَّ المزالِقَ في هذه الأبوابِ وفي غيرها من البلايا المهلِكَة والرَّزايا المردِيَة متحقِّقَة في كبيرة من كبائرِ الذنوب وناقضٍ مِن نواقِضِ الإسلام، ألا وهو السّحرُ، وقانا الله وإيّاكم شرَّه ودفع عنّا وعنكم ضرّه.
السِّحر ـ أيّها المسلمون ـ داءٌ خطير وشرّ مستطير، له حقيقة خفيّةٌ وضرَرٌ محقَّق، يهدِم الدينَ، ويتلِف الجسدَ، ويخرب البيوتَ، ويقطَع الأرحام، ويورد النار؛ لذا فقد اتَّفقتِ الشرائع السماويّة على تحرميه، وسماه الله كفرًا، وحذَّر منه في القرآنِ، ولم يجعل لصاحبة في الآخرةِ نصيبًا ولا حظًّا.
السّحرُ عزائمُ ورُقى وعُقَدٌ ونَفث وعَمَل يؤثَّر به في القلوب والأبدان والمشاعِرِ والطبائع، هو بضاعة الشيطان، يلجأ إليه ضِعاف النفوس وضِعاف الإيمان؛ جلبًا لحظٍّ أو دفعًا لنَحس، طمعًا في مالٍ أو طردًا لأوهامٍ أو بَغيًا على عباد الله.
أمَّا الساحر فمُفسِد فاجِرٌ، قد نزِعَت من قلبه الرحمة، واستَأثَر للذِّلَّة، وباع نفسَه للشيطان، وأوبَقَ دنياه وآخرِتَه، لا تجِد ساحِرًا سعيدًا وإن أوهَمَ الناسَ بجلب السعادةِ لهم، ولا تجِد ساحرًا غنيًّا وإن خدَعَهم بدفع الفقر عنهم، سيّئُ الحال، خبيثُ الفِعال، دائِم الذّلَّة، ملازمٌ للفَقر والقِلَّة، قَبيحُ الخِصال.
السِّحرُ والسَّحَرة والعرَّافون والكهَنَة عالم موبوءٌ بالخُرافات والدَّجَل، مطمورٌ بالبَغيِ والظُّلم، تُعشعِشُ في أكنافِهِ الشَّياطين، ويُظلِّلُه الشركُ والكفر المبين، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69]، قَالَ الله عزَّ وجلَّ مؤكِّدًا كفرَ الساحر: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
فهَل يجرُؤ بعدَ هذه الآياتِ مَن في قلبِه مثالُ حبّةٍ من خردَل من إيمانٍ أن يتعلَّمَ السحرَ أو يتَعَاطاه، أو يَلجَأ للسَّحَرَة ليَشتَريَ ما يوبِق دينَه وأُخراه، وقد قَالَ النَّبيُّ : ((اجتنِبوا السَّبعَ الموبِقات)) ، قالوا: يا رسولَ الله، وما هنّ؟ قال: ((الشّركُ بالله، والسّحر)) الحديث. متفق عليه.
ولأجلِ عظيمِ فسادِ السّاحر وكبيرِ جُرمِه وتعَدِّ شرِّه كان حكمُه القتل؛ لأنَّه من أعظم المفسدين في الأرض، وقد كتبَ عمر بن الخطاب إلى ولاتِه أن اقتُلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة. وفي الترمذيِّ عن جندُب : ((حدُّ السِّاحِرِ ضربَةٌ بالسيف)) أو ((ضَربُه بالسّيف)) رُوِي مرفوعًا وموقوفًا.
وقد نصَّ الأئمّة على كفرِه، خاصّةً إذا ظهَرت استعانتُه بالشياطين والتقرّب إليهم. ونصَّ بعضُهم على عدم قبولِ توبتِه. إنّه شأن ليس باليسير، يقول الذهبيّ رحمه الله: "فترى خلقًا كثيرًا من الضُلاَّل يدخلون في السحر، ويظنّون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر".
عبادَ الله، إنّه ومع انتشار الوعيِ وتطوُّر العلم فإنّك لتعجَب من تعلّق بعض الناس بهذه الأوهام واستشراءِ هذا الداء بين العَوام، فكيف يكون من المسلمِينَ مَن يذهب إلى السحرة ويستعين بهم؟! سبحان الله! أين الدينُ؟! أينَ الإيمان؟! بل أينَ العَقل؟!
يا زمانَ العِلم والمعرفةِ، ماذا تُغني الخيوطُ والخُرَز والحِلَق والحُجُب؟! أيّ نفعٍ تُجدِيه التعاويذُ الشركيّة والتمائم والحُروف والخطوط والطَّلاسِم؟! إنها سخريّة بالعقل وانحطاطٌ في التفكير وانحراف في الدّيانة والسلوك.
قال الشيخُ المجدِّد إمام الدعوة رحمه الله: بابٌ: من الشرك لبسُ الحلقةِ والخيط ونحوهما لرفع البلاء ودَفعِه، قال الله عزّ وجلّ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]، وعن عمرانَ بنِ حصين أنَّ النبيَّ رأى رجلاً في يدِه حلقة من صُفر فقال: ((ما هذه الحلقة؟)) قال: هذه منَ الواهنة، قال: ((انزِعها فإنها لا تزيدُك إلا وهنًا)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه، زاد أحمد: ((فإنك لو متَّ وهي عليك لم تفلح أبدًا)). قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية: "الواهنةُ عِرقٌ يأخذ في المنكب أو في اليدِ كلها، وقيل: وهنٌ في الجسم". وروى الإمامُ أحمد والحاكم عن عُقبةَ بنِ عامر مرفوعًا: ((مَن علَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودعةً فلا ودَع الله له)) ، وفي رواية: ((من علَّق تميمَةً فقد أشرَكَ)).
وبعد: أيها المؤمنون، فإنَّ على المسلِمِ أن يَربَأ بنفسِه ودينِه وعقلِه عن هذه الخرافاتِ المضلِّلَة والشِّركيَّات الموبِقة، وكذا عن كلِّ طرائق المشعوِذين والدجالين، والتي فيها ادِّعاء بعلم المغيَّبات أو القدرة على المعجزات مما انتشَر بلاؤه حتى في الفضائيّات؛ كقراءةِ الكفِّ وقراءةِ الفنجان والاستدلالِ بالطوالِعِ والبروجِ على السَّعد والنحس والخيرِ والشرِّ، فكلّ ذلك رجمٌ بالغيب، يتعيَّش به الدجّالون والكهَنَة، ويغرُّون به البُلهَ والجَهَلة، وأكثرُ من ذلك خسارًا ووبالاً ضَياعُ الدين وفقدان الإيمان.
روى مسلم في صحيحِه أنَّ النبيَّ قال: ((من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة)) ، هذا لمجرد إتيانِ العرّاف، أما من صدَّقه فإنه أعظمُ خسارًا، يقول النبيّ : ((من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أهل السنن بسند صحيحٍ على شرط الشيخين. وعن عِمرانَ بن حصين مرفوعًا: ((ليس منّا من تطيَّر أو تُطُيِّر له، أو تكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومَن أتى كاهِنًا فصدَّقه بما يقول فقَد كفر بما أنزِلَ على محمّد)) رواه البزار بإسناد جيد. والعرَّافُ هو الذي يدَّعي معرفةَ الأمور بمقدِّمات يستدلّ بها، كطلبه معرفةَ اسمِ الأمّ ونحو ذلك، ويدَّعي معرفة الأشياء الغائبة، وقيل: هو الكاهن، والكاهنُ هو الذي يخبِر عن المغيَّبات في المستقبل. ومن هؤلاء المنجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممَّن يدَّعي معرفةَ الأشياء الغائبة أو معرفةَ المستقبل.
ألا فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، وأخلِصوا دينكم لله، وحاذِروا مزالقَ الشيطان والمردِيَات من الشركِ والعصيان، واصرِفوا هممَكم للخالق الديّان، واقصدوه في حاجاتِكم، فما خاب عبدٌ رجاه، وأخلِصوا له التوحيد في باب التوكّل والرجاء، فلا حول ولا قوة أبدًا إلا بالله، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] أي: كافيه، بل إنَّ التوكّلَ شرط الإيمان كما قال موسى عليه السلام لقومه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]. فإذا بُلِيتَ فثِق باللهِ، وارضَ بِه، فإنَّ الذي يكشف البلوَى هو الله.
أيّها المريض، أيها المبتَلَى، إنَّ ثِقَتَك بالسَّاحر والمشعوِذ أشدُّ بلاءً من مَرَضِك، وإخلادُك إليه أوهى لقلبِك وأوهن لبدنك، فإن رُمتَ الشفاء وطلبتَ الدواءَ وقد استعزَّ بِك الوصب واستفزّك النَّصب فارفَع يديك إلى من يداويك، واقصد الله فهو الذي يعافيك، وإنما يشفيك التَّحنِّي لَه والخشوعُ والتذلّلُ له سبحانه والخضوع، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولَكُم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عالمِ الخفيّات، كاشِفِ الكربات، لا يعزب عن علمه شيءٌ في الأرض ولا في السّماوات، ولا يخرُج عن سلطانِه شيء من الكائِنات، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فإنَّ الله تعالى حين أقدَر الشياطين على التسلّط والتلبُّس فإنه سبحانه لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانًا، قال الله عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99، 100]. بل حين أقسَمَ إبليسُ الرَّجيم على إغواءِ بني آدم اعتَرَفَ بعجزه عن المؤمنينَ فقال: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، وقال الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
وقد بيَّن الله تعالى ما نتَّقي به كيدَ الشياطين وأوليائهم من السّحَرة والمفسدين، فأوَّلُ ذلك ـ يا رعاكم الله ـ التوكّلُ على الله تعالى واليقينُ والإيمان الصادق بالله العظيم، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11]. والمؤمِنُ مهما عصَفَت به الآلاَم وتكالبت عليه ضغوط الحياة والأسقامِ فهو دائمُ التعلّق بالله، مستسلمٌ لمولاه، صابِر على بَلوَاه، لا يستسلِمُ للخرافات والأوهام.
أيّها المسلمون، عظِّموا الإيمان بالله في قلوبكم وفي قلوب أهلِيكم وأولادكم، ارفَعوا الهمَمَ للتعلّق بالله وحده واليأسِ ممّا سِواه.
عبادَ الله، مما يسلِّط الشياطينَ على الإنسان ويجلب أذَاهم المعاصي والمنكراتُ والأغاني والمزامِير والسّوَر، فإن ذلك يجعَل البيوتَ مأوى للشياطين، وفي الحديث: ((إنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة)) ، وهذا يفسِّر لك سرَّ شكوى البيوتِ مِنِ انتشار العُقَد النفسيّة والوساوِس القهريّة والأسقامِ والأوهام، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30].
عبادَ الله، العملُ بالتوجِيهَات النبويّة حِرزٌ من الشيطان، وقد ورد في صحيح التوجيه النبويِّ الأمرُ بإمساك الأولاد حين الغروبِ حين تنتشر الشياطين، كما ثبت في الصحيحين الأمر بكظم التثاؤب ووضعِ اليد على الفم عند التثاؤب لئلا يدخُلَ الشيطان، وكذا الأمرُ بالتسمِية عند نزولِ المنزل ودخول البيتِ ودخولِ بيتِ الخلاء والتسمية عند كشفِ العورة، فإن ذلك سترُ ما بين الجنِّ وعورات بني آدم. كما يحذَر المسلم من الغضب الشديد أو الفرح والطّرب الشديد أو الخوف الشديد، فكل تلك المواطن من حالاتِ الضعف البشريّ، والتي قد يتسلَّط فيها الجانّ على الإنسان ما لم يتحرَّز.
أمَّا ذكرُ الله تعالى فهو الحصن المنيع والسّدُّ العظيم الرفيع، ومَن داوَم على ذكر الله في كلِّ حال والتزَم الأورادَ الشرعيّة والأذكار النبويّة خاصّةً في طرَفي الليلِ والنهار وعند المنام فقد بات في حِفظِ الله وأمسَى في كَنَفِه وأصبح في ستره وحماه، يرعاه الله ويحفظه ويحميه ويكلؤُه.
ومن أعظمِ الأوراد الإكثارُ من قراءة القرآن الكريم عمومًا، وما وَرَد به الأمرُ خصوصًا، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبيِّ : ((إنَّ الشيطان ينفِر من البيت الذي تقرَأ فيه سورة البقرة)) ، وقوله: ((من قرأ بالآيتَين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) ، وقوله: ((من قرأ آيةَ الكرسيِّ حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافِظٌ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)) ، كما أنَّ قراءة سورةِ الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوِّذتين قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثلاث مرات في الصباح وثلاث مرّات في المساء تكفي من كل شيء كما صحَّ بذلك الخبر عن الصادِق المصدوقِ.
وكذلك الأخذُ بالتعاوِيذِ والأدعِيَة الثابِتَة عَنِ النَّبيِّ كقولِه: ((أعوذ بكلماتِ الله التّامَّات مِن شرِّ ما خلق)) و((بسم الله الذي لا يضرّ معَ اسمِه شيءٌ في الأرض ولا السَّماء وهو السّميع العليم)). وغيرُ ذلك كثير من الوارد الثابت.
وإنّك لتعجب منِ انشغال الناس عن الثابتِ الصحيح بالمبتدع المخترَع مما لم يثبت، وهذا خذلانٌ من الشيطان وصدٌّ عن السنة بالمحدثات.
وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((من صلَّى الفجرَ فهو في ذمّةِ الله)) ، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((من تصبَّح بسبعِ تمرات من تمر العجوة لم يصِبْه سمّ ولا سحر)). فاحفَظوا ما علَّمكم نبيُّكم، وعلِّموه أهلَكم وأولادَكم، وحافِظوا عليه تكونوا من المحفوظِين.
وفي الختامِ هاكَ مِن نفيسِ الكلام لابنِ القيّم رحمه الله حيث يقول: "فالقلبُ إذا كان ممتَلئًا من الله مَعمورًا بذكرِه وله من التوجهات والدّعوات والأذكار والتعوُّذات وردٌ لا يخِلّ به يطابِق فيه قلبه لسانَه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنَع إصابةَ السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعدما يصيبه. والسحرُ إنما يتمّ التأثير به في القلوب الضعيفة، ومن ضعُفَ إيمانه وتوكُّله، ومن لا نصيبَ له في الأوراد الإلهية والتعوُّذات النبويّة" انتهى كلامه رحمه الله.
فمن بُلِي بشيءٍ من السحر أو العَين فليجأ إلى الله، وليصبر على بلواه، وليفزَع إليه لا إلى مَا سِواه، وله في الرُّقى الشرعيّة الكفاء، وفي كتاب الله الشفاء، وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82].
اللّهمّ لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفَرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا مريضًا إلى شَفَيتَه، ولا مبتلًى إلا عافَيتَه، ولا مسحورًا إلا فكَكتَه وشفَيتَه وعافيته، ولا ساحرًا إلا كبتَّه وأخزيتَه يا ربَّ العالمين.
وأخيرًا أيّها المسلمون، فإنه يتلُو الشّركَ في الجرمِ والخطيئة قتلُ النفوس البريئَة وسفك الدمِ الحرام، قال الله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69].
ولقد ساءَنا وساءَ كلَّ مسلم ما أقدَم عليه بعض المجرِمين من قتلٍ للمسلمين وإراقةٍ لدماء الآمنين قُربَ المدينة المنوّرة، إنه بغيٌ وفساد وقتلٌ لمجرَّد القتل، ويعلم كلُّ عاقِل أنه ظلمٌ وبَغي لا يخدِم هدفًا ولا قضيّة، فاللّهمّ ارحَمِ الشهداء، واكبِتِ الأعداء، واحفَظنا في دينِنا وأنفسِنا.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، وارضَ اللّهمّ عن الأئمة الخلفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الآل والصحب والكرام...
(1/5110)
الثبات والمصابرة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, حقيقة الإيمان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
5/2/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض ما تعرض له آل ياسر من البلاء في صدر الإسلام. 2- لا مساومة على العقيدة. 3- تفاوت الناس في الإيمان. 4- سنة الابتلاء. 5- الإنكار على استمرار عمليات الحفر في منطقة باب المغاربة. 6- توضيح هام حول ما يحدث في منطقة باب المغاربة من حفريات.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله عز وجل في محكم كتابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة النحل وهي مكية، ولها مناسبة نزول ذكرتها كتب السيرة والتفسير، ومفادها أن مشركي مكة كانوا يعذبون كل من يسلم في بدء الدعوة الإسلامية، وممن تعرضوا للعذاب آل ياسر رضوان الله عليهم، الذين ثبتوا على الإيمان وضحوا من أجل هذا الدين، وكان عدد المسلمين حينئذ قليلا، حتى إن رسولنا الأكرم كان يمر على آل ياسر وهم يعذبون، ولم يستطيع رفع التعذيب عنهم، وإنما كان يدعوهم إلى الصبر والثبات قائلا لهم: ((صبرا آل ياسر، إن موعدكم الجنة)).
ومن صور التعذيب أن ربطت سمية زوجة ياسر أم عمار بين بعيرين، وكانت تتلقى ضربات الحقد والتجبر والغطرسة لإجبارها على ترك دينها، وهي ترفض ذلك بثبات وإيمان، إلى أن ضربها أبو جهل بحربته ضربة قاتلة في منحرها، ففاضت روحها الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية، تشكو ظلم الظالمين وتجبر المتغطرسين. فكانت سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، ثم استشهد زوجها ياسر رضي الله عنه ولحقها في عليين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد رأى ابنهما عمار رضي الله عنه ما حل بأمه وأبيه وهو في العذاب، فاضطر أن يعطي المشركين بلسانه ما أكرهوه عليه، لقد نطق بكلمة الكفر نجاة لروحه من هلاك محقق وقلبه ثابت على الإيمان مطمئن وعامر به، فأخذ بعض الصحابة يقولون بأن عمارا قد ارتد عن الإسلام، فأجابهم الرسول عليه السلام: ((كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه)) ، أي: إن الإيمان اختلط بجميع جسمه من مقدمة رأسه إلى أخمص قدميه، ثم أتى عمار رسول الله وهو يبكي، فجعل عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه وقال: ((ما لك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت)) ، أي: إن عذبوك وأكرهوك مرة أخرى فعد لهم بما قلت، ولا خيار في ذلك، فهذه رخصة شرعية لمن يشرف على الهلاك، فنزل قوله سبحانه وتعالى بحقه: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ.
أيها المسلمون، منذ فجر الدعوة الإسلامية وحتى يومنا هذا وحتى قيام الساعة والمسلمون واجهوا ويواجهون وسيواجهون حربا شرسة من أعداء الإسلام؛ لأن الحرب بين الإسلام وغيرهم قائمة إلى يوم الدين، وما تشاهدونه في هذه الأيام لأقرب دليل على ذلك، فالعقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة، وليست صفقة تجارية دنيوية، فالعقيدة أغلى وأعلى من هذا وأعز وأسمى، فمتى آمن القلب بالله العلي القدير فلا يتأثر المسلم بأي مؤثر من مغريات هذه الأرض الدنيا الفانية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لكن هذا لا يعني أن المسلمين على درجة واحدة في الإيمان، فعلى مدار خمسة عشر قرنا لا بد أن يتأثر عدد من المسلمين بمفاتن الدنيا وبإغراءات الحياة الزائلة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة الحج وهي مدنية، سبب نزولها وملخصها: كان الرجل يأتي المدينة المنورة فيسلم، فإن ولدت زوجته غلاما وأنتجت خيله مهرا قال عن الإسلام: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته غلاما ولم تنتج خيله مهرا قال: هذا دين سوء. وهناك سبب آخر في نزلها ومفاده: أن رجلا يهوديا قد أسلم، فصادف أن فقد بصره وخسر ماله وتوفي له ولد، فتشاءم من الإسلام.
أيها المسلمون، توضح هذه الآية الكريمة بأن العقيدة الإسلامية لا توزن بميزان الربح والخسارة الدنيوية، وليست صفقة تجارية ولا مصالح نفعية، وأن الشخص الذي ينظر إلى العقيدة بهذا المنظار يكون مهزوز الإيمان، وتقوم عبادته على الشك وعدم الثبات، وبالتالي فإنه يخسر الدنيا والآخرة؛ إنه يخسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه من خسارة المال أو الولد أو الصحة أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية، فلم يصبر على البلاء ولم يرجع إلى الله العلي القدير، فيبقى مضطربا مزعزعا قلقا، كما أنه يخسر الآخرة بانقلابه على وجهه وانكفائه عن عقيدته وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له.
أيها المسلمون، إن كل إنسان معرض للابتلاء والاختبار في الأموال والأنفس، كما أن المسلمين معرضون للأذى والاعتداء من قبل أعداء الإسلام والمستعمرين والمحتلين والمغتصبين، فلا بد أن نحصن أنفسنا بتقوى الله رب العالمين، وأن نلجأ إليه، أن نثبت على مواقفنا الإيمانية، وأن نصبر ونصابر ونرابط، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة آل عمران: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186]، ويقول عز وجل في آخر سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. حينئذ ـ أيها المسلمون ـ يأخذ الله بأيدينا إلى الوحدة والعزة والنصر والتحرير وإقامة شرع الله في الأرض، وليس ذلك على الله بعزيز.
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، ويقول تعالى في سورة الأنفال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا تزال الحفريات الإسرائيلية في منطقة باب المغاربة قائمة غير قاعدة طيلة سبعة عشر يوما السالفة، وهذا يدل على أن الاحتلال الإسرائيلي ممعن في تعديه على الممتلكات الوقفية والآثار الإسلامية، وأن ما أعلن عن اكتشاف أحد المساجد أثناء الحفريات فإنه يعود للعهد الأيوبي، كيف لا؟! فإن المغاربة الذين رابطوا في مدينة القدس هم من الجند الذين استعان بهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله حين حرر بيت المقدس.
أيها المسلمون، إن التلة الترابية المراد إزالتها من قبل السلطات المحتلة تحوي كنوزا أثرية إسلامية تعود إلى العهد الأموي، وحتى العهد التركي العثماني، كيف لا وهي أوقاف إسلامية؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إزاء هذا نوضح ما يلي:
1- يجب أن تتوقف الحفريات، والتي تمثل عدوانا على المسجد الأقصى وعلى الأوقاف الإسلامية.
2- يجب إعادة وضع التلة الترابية إلى وضعها السابق.
3- يجب أن تتولى دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس صيانة وترميم هذه التلة؛ باعتبار أن دائرة الأوقاف هي صاحبة الصلاحية والاختصاص.
4- أما بالنسبة للجان الفنية التي قيل: إنها ستأتي للاطّلاع على ما يجري في منطقة باب المغاربة، فإنَّ الهيئة الإسلاميّة العليا بالقدس تؤكّد أنه ينبغي على أيّ لجنة فنية ستأتي إلى القدس أن تتّصل مباشرة بدائرة الأوقاف الإسلامية، وأن تنسّق مع المسؤولين فيها، فهم أهل الاختصاص والصلاحية، وأن يطّلع مسؤولو الأوقاف على النتائج التي توصلت إليها اللجنة الفنية قبل نشرها والإعلان عنها. ولن نسمح أن تكون اللجان الفنية هي ملهاة أو بمثابة امتصاص لغضب الشارع الفلسطيني وغضب الشارع العربي والإسلامي.
فموقفنا واضح؛ بأنه لا تنازل عن أي شبر من الأراضي الوقفية؛ لأن أي تنازل عن أي شبر منها هو تنازل عن المسجد الأقصى لا سمح الله، وسيبقى الأقصى شامخا بأهله وزواره وعباده، وسيبقى المسلمون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس مرابطين إلى يوم القيامة، برعاية الله وعنايته وحمايته، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد: 17]، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
(1/5111)
إنها صلاة الجماعة
فقه
الصلاة, المساجد
ياسر بن عياش الفداوي
الحسينية
28/1/1428
مسجد ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل صلاة الجماعة. 2- الترهيب من ترك الجماعة. 3- فضل المشي إلى المسجد لأداء الصلاة فيه مع الجماعة. 4- حرصه على صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فنظرًا لعزوف كثير من الناس عن صلاة الجماعة وتكاسلهم عنها أحببنا أن نُذَكِّر أنفسنا وإياهم ببعض فضائل صلاة الجماعة، والله الموفق إلى كل خير.
1- من فضائل صلاة الجماعة مضاعفة الأجر، قال النبي : ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) متفق عليه.
2- ومن فضائلها رفع الدرجات وحطّ الخطيئات، قال : ((صلاة الرجل في جماعة تَضْعفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يُخْرِجُه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفِعَت له بها درجة، وحُطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تُصلِّي عليه ما دام في مُصَلاّه ما لم يُحْدِث: اللهم صلّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)) متفق عليه.
3- ومن فضائلها غُفران الذُّنوب، قال : ((من توضّأ فأَسْبَغ الوضوء ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاّها مع الإمام غُفِرَ له ذنبه)) رواه ابن خزيمة وصحَّحه الألباني.
4- صلاة الجماعة من سنن الهدى، عن ابن مسعود قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بِهِن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سُنن الهدى، وإنهن من سُنن الهدى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنَّة نبيّكم، ولو تركتم سُنّة نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النِّفاق، ولقد كان الرَّجُل يُؤْتى به يُهَادَى بين الرَّجُلَين حتى يُقام في الصَّف) رواه مسلم.
5- أن من حافَظ على الجماعة عاش بخير ومات بخير، وقال : ((أتاني الليلة آتٍ من ربي قال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم؛ في الكفّارات والدرجات ونقل الأقدام للجماعات وإسباغ الوضوء في السَّبَرات وانتظار الصلاة، ومَن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه أحمد والترمذي وصحَّحه الألباني.
6- أنها مأمور بها حتى على الأعمى؛ فقد أتى النبي رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخَّص له رسول الله أن يصلي في بيته، فلمَّا وَلَّى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)) رواه مسلم.
عباد الله، ولقد ورد الترهيب من ترك الجماعة، قال : ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلِق معي برجال معهم حِزَمٌ من حَطَب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار)) متفق عليه.
ألا وإن مما يدل على فضلها أن من كان شديد الحب للمساجد لأداء الصلاة مع الجماعة فيها فإن الله تبارك وتعالى سيظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)) ، يقول الإمام النووي في شرح قوله: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)) : "معناه شديد المحبة لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه القعود في المسجد".
عباد الله، بين الرسول أن الخطوات التي يخطوها المرء المسلم إلى المسجد أنها تكتب له، فقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم)) ، فقالوا: ما كان يسرنا أن كنا تحولنا. يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: "أي: الزموا دياركم؛ فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد".
ومما يدل على فضل المشي إلى المسجد لأداء الصلاة فيه مع الجماعة أن الله تعالى قد رفع منزلة آثار قاصد المسجد، حتى إن الملائكة المقرَّبين يختصمون في إثباتها والصعود بها إلى السماء، ودليل ذلك عندما سأل الله تبارك وتعالى محمدا في نهاية الحديث بقوله: ((يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت ـ أي: الرسول ـ: نعم، في الكفارات، والكفارات المكث في المساجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء على المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)) حديث صحيح.
ولو لم يكن المشي على الأقدام إلى الجماعات من الأعمال الجليلة ما كانت الملائكة المقربون يتخاصمون في إثباتها والصعود بها إلى السماء.
كما أن المشي إلى الجماعات من أسباب ضمان العيش بخير والموت بخير، فقد جاء في الحديث السابق أنه من فعل ذلك ـ أي: الأعمال الثلاث المذكورة في الحديث ومنها: المشي على الأقدام إلى الجماعات ـ فقد عاش بخير ومات بخير. فما أعظم هذا الضمان! العيش بخير والموت بخير، ومن تعهَّد بذلك؟ هو الله الواحد الذي لا أحد أوفى بعهده منه.
وليس هذا فحسب، بل جعل الله المشي إلى الجماعات أيضا من أسباب تطهير العبد من الذنوب، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) ، وذكر منها: ((وكثرة الخُطى إلى المساجد)) حديث صحيح. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "كل خطوة واحدة يرفع الله بها درجة، وتحطّ عنه خطيئة، وتكتب له حسنة، وهذه الزيادة الأخيرة (حسنة) في صحيح مسلم".
كما أن أجر الخارج إلى الصلاة المكتوبة من بيته لأداءها مع الجماعة متطهرا كأجر الحاج المحرم، فقد روى الإمام أحمد والإمام أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)) حديث حسن.
الله أكبر! ما أعظم أجر الخارج إلى المسجد، وإذا كان هذا الأجر العظيم على الخروج لأداء الصلاة مع الجماعة، فكيف يكون الأجر عند أدائها مع الجماعة؟!
ومما يدل على فضل الذهاب إلى المسجد ما بينه النبي من أن الخارج إلى الصلاة ضامن على الله تعالى، فقد روى الإمام أبو داود عن أبي أمامة عن رسول الله قال: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل)) ، وذكر منهم: ((ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة)) حديث صحيح. ما أوثق هذا الضمان وأعظمه! وأي ضمان يمكن أن يكون أوثق أو مثل ضمان الخالق القادر سبحانه وتعالى؟!
وروى الإمام ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بنور تام يوم القيامة)) حديث صحيح. قال الطيبي في شرح الحديث: "في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة، في قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8]".
وأختم في هذه النقطة بحديث في فضل المشي إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة، وهو ما رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) حديث صحيح.
ومما يدل على فضل صلاة الجماعة في المسجد ما قاله الرسول : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر)).
ومما يدل على فضل الصلاة مع الجماعة في المسجد ما قاله الرسول : ((لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته)). والبش كما يقول الإمام ابن الأثير: "هو فرح الصديق بالصديق".
عباد الله، إن لصلاة الجماعة ولا سيما في الصف الأول فضلا عظيما، وقد بين الرسول في عدة أحاديث هذا الفضل، ومنها قوله: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) حديث صحيح. وروى الإمام أبو داود عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله : ((وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه)).
يقول الشيخ أحمد البنا في شرح قوله: ((على مثل صف الملائكة)) : "أي: في القرب من الله عز وجل ونزول الرحمة وإتمامه واعتداله".
كما أن الله تعالى وملائكته يصلّون على الصفوف الأولى وميامن الصفوف، فقد قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأولى)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي كان من وصيته لأمته قبل وفاته: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، صلوات الله وسلامه عليه.
عباد الله، روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي يقول: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)) حديث صحيح. وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله قال: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)).
وقد جمع بين هذه الروايات بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في جماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبع والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة، والفضل بينهما، فصار المجموع سبعا وعشرين.
وقال الإمام النووي رحمه الله: "والجمع بينها من ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه لا منافاة بينها، فذكرُ القليل لا ينفي الكثير، والثاني: أن يكون قد أخبر أولا بالقليل ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها، والثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون؛ بحسب كمال الصلاة".
وقال الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: "وأما التفاوت فهذا ـ والله أعلم ـ كان لعدم نزول فضل الزائد إلا بعد الناقص، فأخبر بخمس وعشرين، ثم أخبر بسبع وعشرين، والله أعلم".
وقد استدل القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث، وأن صيغة أفضل تدل على الاشتراك في أصل الفضل، ورد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على هؤلاء بقوله: "هذه الأحاديث تدل على فضل الجماعة، وهذا التفضيل لا يلزم منه عدم الوجوب، فصلاة الجماعة واجبة ومفضلة، فلا منافاة بين التفضيل والوجوب، ومن لم يصلها مع جماعة فصلاته صحيحة على الراجح مع الإثم".
عباد الله، الصلاة في الجماعة تعصم العبد من الشيطان، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل ، أن النبي قال: ((إن الشيطان ذئب للإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)) ، ومعنى: ((ذئب الغنم)) أن الشيطان مفسد للإنسان بإغوائه كإفساد الذئب إذا أطلق في قطيع من الغنم.
عباد الله، انظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وحرصه على صلاة الجماعة حتى وهو مريض مثقل، فقد روى الإمام البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلتُ: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله ؟ قالت: بلى، ثَقُلَ النبي فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ، قالت: ففعلنا، فاغتسل عليه الصلاة والسلام فذهب لينوء ـ أي: ليقوم ـ فأغمي عليه، ثم أفاق عليه الصلاة والسلام فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ، قالت: فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ((أصلى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ـ أي: مجتمعون ـ ينتظرون النبي لصلاة العشاء، فأرسل النبيّ إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول الذي بعثه الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي الناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر، صل بالناس، فقال له عمر : أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام... الحديث.
الله أكبر! كم كان صلوات الله وسلامه عليه حريصا على حضور صلاة الجماعة، يشتد مرضه فيغتسل ثم يغمى عليه فيفيق، فيغتسل للمرة الثانية، ثم يغمى عليه فيفيق، فيغتسل للمرة التالية، كل ذلك لعله يكسب نشاطا يمكنه بفضل الله تعالى من حضور صلاة الجماعة في المسجد.
فالله الله ـ عباد الله ـ في صلاة الجماعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 4-7].
هذا وصلوا وسلّموا على خير البرية...
(1/5112)
من هو الله؟
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, الله عز وجل, فضائل الإيمان
محمد بن عبد الله الهداف
الخبر
جامع الحسين بن علي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من هو الله؟ 2- فضل لفظ الجلالة: الله. 3- اهتمام القرآن الكريم بقضية الإيمان بالله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في بداية الحديث نتكلم عن حق الله تعالى، فها هو نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبين لنا هذا الحق الكبير في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي يوما على حمار، فقال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك بالله شيئا)) ، فقال معاذ: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس بذلك؟ فقال المصطفى : ((لا تبشرهم فيتكلوا)) ، وفي رواية: فأخبر بها معاذ تأثما، أي: خوفا من الوقوع في الإثم.
عباد الله، دائما نسمع: اتقوا الله، أطيعوا الله، اعبدوا الله، وكل هذه عبادة لله. فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولكن وقبل أن نتكلم في حق الله تعالى أطرح هذا السؤال المهم: هل نعرف الله؟ والجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذه الخطبة.
فإن هذا الموضوع مما يجدد الإيمان في القلب، ويعرف المخلوق بخالقة، ومحال أن أُعرِّف بحقٍّ لله تعالى قبل أن نتعرف على الله، ومن ثم فإننا سنتعرف هذا اليوم على الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
أولاً: من هو الله؟ والجواب من القرآن والسنة، فإن أول من شهد بالوحدانية لله هو الله، قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. فإن أول من شهد بالوحدانية لله هو الله، وإن أعرف الناس بالله هو حبيبنا رسول الله، لذا فلن تسمع مني جوابا لهذا السؤال الجميل إلا بآية من كتاب ربنا الجليل أو حديث من كلام البشير النذير.
من هو الله؟ يرد ربنا جل وعلا: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255].
من هو الله؟ الله يجيب ويقول: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22-24].
من هو الله؟ الله سبحانه يجيب: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي موسى الشعري أن الحبيب قال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قال: نهينا إن نسأل رسول الله ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من البادية ـ أي: من الصحراء ـ ليسأل رسول الله ونحن نسمع، فجاءه أعرابي ذات يوم، فقال الأعرابي لنبينا محمد : يا محمد، لقد أتانا رسولك فزعم أن الله أرسلك، فقال المصطفى: ((صدق رسولي)) ، فقال الأعرابي الفقيه: يا محمد، من الذي رفع السماء؟ فقال المصطفى: ((الله)) ، فقال الأعرابي: فمن الذي خلق الأرض؟ فقال المصطفى: ((الله)) ، فقال الأعرابي: فمن الذي نصب الجبال وجعل فيها ما جعل؟ فقال المصطفى: ((الله)) ، فقال الأعرابي: فأسألك بمن رفع السماء وخلق الأرض ونصب الجبال وجعل فيها ما جعل آلله أرسلك؟ فقال: ((اللهم نعم)). والشاهد هو إجابة الرسول على جميع الأسئلة، وهي إجابة واحدة: الله، الله.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن حبرا من أحبار اليهود جاء يوما إلى الرسول فقال: يا محمد، إنا نجد عندنا في التوراة أن الله تعالى يجعل السماوات على أصبع ويجعل الأرضين على أصبع ويجعل الماء والثرى على أصبع ويجعل الشجر على أصبع ويجعل سائر الخلائق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي من كلام الحبر حتى بدت نواجذه، ثم قرأ النبي قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].
اسم الله جل وعلا هو الاسم المفرد العلم، العلم على ذاته القدسية، الجامع لكل أسماء الجلال وصفات الكمال، لذا جعله الله تعالى الاسم الدال على جميع الأسماء، فقال سبحانه: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]، وقال سبحانه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 23، 24].
فالرحمن والملك والقدوس والسلام من أسماء الله، ولا نقول: الله من أسماء الرحمن، ولا نقول: الله من أسماء العزيز، ولكن نقول: العزيز من أسماء الله، والرحمن من أسماء الله، والقدوس من أسماء الله، والجبار من أسماء الله.
الله هو الاسم الجامع لكل أسماء الجلال وصفات الجمال لله الكبير المتعال، وهو الاسم الوحيد الذي تكرر في القرآن ما يقارب من ألف مرة. الله هو الاسم الوحيد في الأسماء كلها الذي ورد ذكره في القرآن ما يقارب من ألف مرة بحسب الإحصاء؛ إحصاء المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، تسعمائة وثمانون مرة على وجه التحديد؛ لذا يرى الإمام ابن القيم والإمام الطحاوي في مشكل الآثار وغيرهما أن اسم الله هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، فهو الاسم الذي ما ذكر في قليل إلا كثره، وهو الاسم الذي ما ذكر عند خائف إلا أمنه، وهو الاسم الذي ما ذكر عند همّ إلا كشفه، وهو الاسم الذي ما ذكر عند كرب إلا فرجه، وهو الاسم الذي ما ذكر عند فقر إلا تحول إلى غنى، وهو الاسم الذي ما تعلق به ذليل إلا أعزه، وهو الاسم الذي ما تعلق به فقير إلا أغناه، وهو الاسم الذي ما تعلق به مكروب إلا قواه، وهو الاسم الذي تستدفع به الكربات، وهو الاسم الذي تستنزَل به البركات، وهو الاسم الذي تقال به العثرات، وهو الاسم الذي تستدفع به النقم، وهو الاسم الذي يستنزل به المطر، وهو الاسم الذي يستنصر به من السماء، وهو الاسم الذي من أجله قامت الأرض والسماء.
الله اسم تستنزل به البركات، الله اسم تستمطر به الرحمات، الله اسم تزال به الكرب، الله اسم تزال به الهموم والغموم، الله اسم لصاحبه كل جلال، الله اسم لصاحبه كل جمال، الله اسم لصاحبه كل جمال وجلال وكمال، هو الاسم المفرد العلم على ذاته القدسية وأسمائه الحسنى وصفاته العلية، لذا تكرر هذا الاسم في القرآن قرابة ألف مرة، فلا يمكن أن تطالع في صفحة من قرآن الله تعالى إلا ويتردد على لسانك اسم الله تعالى ما يزيد على عشر مرات وهذا في الغالب.
أيها الأحبة الكرام، هذا الاسم الجليل العظيم الكريم الإيمان به أصل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، لذا لا أكون مبالغا إن قلت لكم: إن القرآن الكريم كله من أوله إلى آخره لا يتحدث إلا عن قضية الإيمان بالله جل وعلا، لست مبالغا والدليل على ذلك في الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، أقول: لست مبالغا إن قلت: إن القرآن الكريم كله يتحدث عن قضية الإيمان بالله، وإليكم الدليل؛ القرآن كله من أوله إلى آخره إما حديث مباشر عن الله تعالى؛ عن ذاته أو عن صفاته وأفعاله، وإما دعوة إلى عبادة الله جل وعلا وترك عبادة ما سواه، وهذا من لوازم الإيمان بالله، بل هو الإيمان بالله، وإما حديث عن الكفار المعاندين الذين كفروا برب العالمين وبيان جزائهم في الدنيا وجزائهم في الآخرة، وهذا جزاء المعرضين عن الإيمان، وإما حديث عن المؤمنين الصادقين وما أعد الله لهم في الدنيا والآخرة من النعيم، وهذا جزاء من امتثل الإيمان وحقق الإيمان، وإما حديث يأمر بطاعة الله ويأمر بامتثال أمره واجتناب نهيه والوقوف عند حدوده، وهذا كله من لوازم الإيمان.
فلست مبالغا إن قلت: إن القرآن الكريم يتحدّث عن قضية الإيمان بالله، إذ إن الإيمان هو أصل الأصول، وهو أصل الاعتقاد، وعليه مدار الإسلام ولبّ القرآن، بل من أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله خلق الله الجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الله الرسل وعلى رأسهم المصطفى.
ثم إن أعظم منهج للتعريف بالله هو منهج القرآن، وينبغي أن نعلم يقينا أن القرآن يخاطب الناس في كل مكان، يخاطب القرآن ساكن البادية وساكن الصحراء ورائد الفضاء، ويخاطب الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ويخاطب عالم الذرة وعِلم المجرة، ويخاطب الأطباء، ويخاطب كل أجناس الأرض، وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يربطه بهذا الكون العظيم وما يعرفه بخالقه الكريم. فكل واحد من هؤلاء يجد ما يملأ قلبه من الإيمان بخالقه.
فالقرآن الكريم له أسلوب فريد لا نظير له البته، أسلوب يستنطق الفطر السليمة بوحدانية الملك، يستجيش القرآن الوجدان، ويحرك القرآن القلوب، ويخاطب القرآن العقول السوية والفطر النقية؛ ليعرفها بخالق الكون سبحانه وتعالى، تارة بالحوار وتارة بالوصف وتارة بالاستفهام وتارة بالترغيب وتارة بالترهيب وتارة بالمثل وتارة بالقصص، إلى آخر هذا الأسلوب الرائع الذي جاء به القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يعرفنا بالله الرحيم الرحمن من خلال تنقلاته الجميلة في آفاق السماء وفي جنبات الأرض، وفي ضروب النفس البشرية العميقة، كل هذا ليعرف القرآن الإنسان بربه سبحانه.
إنَّ اللهَ قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وثلَّث بكم أيها المؤمنون، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
(1/5113)
غدا الامتحان
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله الحمودي
جدة
مسجد الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وظيفة المنبر. 2- انشغال البيوت بقضية الامتحانات. 3- التذكير بامتحان الآخرة. 4- الهدف من الدراسة. 5- التحذير من الغش. 6- وقفات مع قضية الامتحانات. 7- ضرورة الاهتمام بما ينجي ذريتنا في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المؤمنين، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، أسال الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المتقين ومن حزبه المفلحين.
أيها الكرام، المنبر جعل لتعليم الناس، لتعليم المسلمين وتثقيفهم وزيادة إيمانهم والدفاع عن قضياهم، وسوف يمرّ بنا غدا حدث أُثير إعلاميا، ولسنا بصدد بيان هل أعطي هذا الحدث حجمه أم لا، لكنه حدث يهتم له بعض الناس، بل كثير من البيوتات المسلمة ممّن نصَعت وتلألأت بيوتاتهم بالبنين والبنات.
إنه وباختصار الامتحانات وما أدراك ما الامتحانات، قد يقول البعض: الأمة الآن تغرق في أحداث عصيبة مهيبة وخطيبنا اليوم يتحدّث عن الامتحانات! فأقول: نعم، ستعلمون أهمّية هذا الموضوع في ثنايا هذا الحديث، وأنه ليس يختصّ بطالب أو طالبة، وإنما يعني الأمة بكاملها.
سأتحدث عن الامتحانات، لكن ليس من باب تشجيع الأبناء على المذاكرة لأنهم بدون تذكير قد فعلوا، وليس من باب أيّ المواد أصعب: الرياضيات أو الكيمياء أو المواد الإنجليزية أو غيرها، كلا، لكنني في هذا اليوم سأتحدث عن الامتحانات من زاوية أخرى قد تسمى واقعية أو منطقية أو إيمانية، أترك الاختيار لكم، ولكن قبل أن أبدأ عِدوني ـ أيها الأحباب ـ أن توسِّعوا صدوركم عليّ وأن تحتَملوني، فإني والله أحبّكم في الله وأحبّ لكم الخير والتذكير، وقد أمر الله به فقال سبحانه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، ما قال: تنفع الناس، وإنما قال: تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، وقال سبحانه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى: 9].
غدا يكون الامتحان، غدا يكرم فيه المرء أو يهان، يوم يعلم فيه المجتهد نتيجة جهده، كما يعلم الكسول نتيجة كسله، وهذه سنة كونية قضاها الله؛ أن العامل يجد نتيجة عمله، وكما قيل: من جدّ وجد ومن زرع حصد، سنقف مع الامتحانات في وقفات أربع، أسال الله التوفيق والسداد لي ولكم.
الوقفة الأولى: أبناؤنا غدا تفتح لهم أبواب قاعات الامتحانات، ويجلس الواحد منهم يُسأل وحيدا فريدا، لا معين له ولا مسدِّد إلا الله، ثم ما بذله من جهد في الاستذكار. غدا يوم الامتحان، يسأل فيه التلميذ عمّا حصله في العام الدراسي، وحاله في وجل واضطراب عمّا تخفيه له ورقة النتيجة من مفاجآت ربما لم يكن متوقعا لها، يخاف من عدم النجاح، يخاف من الفضيحة بين أقاربه وأهله، يخاف من العقوبة لو لم ينجح في الامتحان، يخاف من ذلّ الخسارة، وليس بملام في كل ذلك، لكنني من هذا المكان أبشر كلّ طالب اجتهد وثابر وترك الراحة والكسل والدّعة، أبشره بالنجاح، وأقول: أبشر أخي المبارك، أبشر أيها الابن البار، أبشر بالسرور في يوم إعلان النتائج واستلام صحائف الدرجات.
أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بالغد! أترون أيّ غد أعني؟ إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغيرة والكبيرة، السائل ربّ العزة سبحانه، والمسؤول أنت يا عبد الله، ومحل السؤال وهو كل أنت ما عليك في حياتك من صغير وكبير. يا له من امتحان! ويا له من سؤال! يا له من يوم يجعل الولدان شيبا. عند مسلم في الصحيح عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال : ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقّ تمره)). نعم، إنه امتحان مهول، يدخله كل الخلائق في يوم مهول.
عباد الله، تذكروا وأبناؤكم في قاعات الامتحانات الفسيحة، تذكروا عرصَات يوم القيامة والناس شاخصة أبصارهم، قد ألجمهم العرق من هول يوم السؤال ورعب يوم الحساب، قال : ((إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس)) أو قال: ((غالى أنافهم)) أو قال: ((إلى مناخرهم)).
تذكروا عند إلقاء السؤال في الامتحان سؤال الملكين في تلك الحفرة الضيقة، تذكروا إذا وضع الواحد منا في قبره وتولى وذهب عنه أصحابه حتى وإنه ليسمع قرع نعالهم، ثم بعد ذلك جاء الممتحنون وما أدراك ما الممتحنون، من هما؟ هما الملكان، يقعدانه فيقولان له من ضمن الأسئلة: من هذا الرجل محمد ؟ فيقول ذلك الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان له: انظر يا عبد الله، انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا في الجنة. وهذا حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يستعدّ للامتحان فيقول: ها ها ها لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة من بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين الإنس والجن.
تذكر ـ يا عبد الله ـ عند إلقاء السؤال في قاعة الامتحان سؤالَ الله يوم القيامة يوم يدنيك ربّ العزة فيقرّرك بذنوبك ويقول: عبدي، أتذكر ذنبَ كذا في يوم كذا؟ تذكر ـ يا عبد الله ـ يوم توزيع الشهادات على الطلاب، تذكر ذلك اليوم العظيم الذي توزّع فيه الصحف، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ [الحاقة: 19-27]. نسألك ـ يا رب ـ أن تعاملنا بعفوك لا بعدلك، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
الوقفة الثانية: سؤال مهم: لماذا ندرس؟ ولماذا يمتحن هذا الطالب؟ لماذا كل هذا العناء؟ أليس الذي الشوارعُ نزهتُه والأرصفة مَسمَرُه والطرَب منتهى أحلامه، أليس في راحة من هذا الامتحان؟! إذًا فلِمَ كل هذا العناء؟! دراسة وجهد وسهر، ثم امتحان، ثم نتيجة، ثم ماذا؟ هل الهدف من الدراسة هي مجرد تلك الشهادة لتعلّق على الجدار، أم أن الهدف أن يفخر المرء بأنه درَس وتفوّق، أم أن الأمر مجرّد ملء للفراغ وإشغال للوقت، أم أن الهدف وظيفة مرموقة وكرسي دوار، أم أنّ الهدف منصب نسعى له فنلبس تلك العباءة المزركشة بالذهب المعروفة بالبشت؟ ما الهدف؟ ما هذا الهدف؟ إني لأتساءل: ما تلك الأهداف التي يبتغيها أبناؤنا من هذه الدراسة والتي نزرعها في أفئدتهم طيلة سنواتهم الدراسية؟
أيها المسلمون، إن الواجب على كل أب أن يزرع في ابنه حب التفوق؛ لأنها لبنة بإذن الله صالحة في بناء مجد الأمة، لأنه مصدر الإنتاج في الأمة الإسلامية، لأنه مشعل نستضيء به وتستضيء به الأمة في هذا الظلام الدامس الذي طال ليله الذي نسأل الله أن ينيره بصبح قريب.
أيّها الكرام، نتعلّم لنعلم كيف نبني وكيف نصنع وكيف نعلّم ونطبّب ونهندِس وكيف نخطط وننتج، نتعلم لكي نعلَم كيف نستغني عن الاستعانة بالخبير الأجنبي الذي ليس همّه إسلام ولا أمّة بل همّه تدمير الأمة ورجالاتها، إذا لم يتربَّ أبناؤنا على حمل هذا الهمّ فكأننا لم نصنع شيئا.
ثم علينا ـ أيها الكرام ـ أن نحيي في نفوس أبنائنا أنهم بناة المجد، ثم بعد ذلك نغرس فيهم أنهم هم الشباب الذين ينتظر منهم هذا الدين الكثير والكثير، ليس الهدف مجرّد شهادة ووظيفة وراتب ومنصب أشد رفعة من سموّ الجبال الراسيات. إذًا ندرس ـ أيها الطالب وأيها الابن المبارك وأيها الأب الكريم ـ من أجل الإنتاج، من أجل أن يكون الواحد منا بنّاء لمجد أمة الإسلام، لا يكن هم الواحد من الآباء والطلاب مجرّد تحصيل الدنيا ونيل نعيمها وأجرها، فإن الله قد تكفّل بالرزق، نعم أيها الأب وأيها الابن المبارك، إن اللقمة التي ترفعها إلى فيك قد كتبها الله لك قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة، عند الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)).
الوقفة الثالثة: عند مسلم في الصحيح قال : ((من غشنا فليس منا)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((من خادع الله يخدعه الله)).
نعم، إن الغش في الامتحان تزوير ممقوت وخلق سمج، بل إن الغش جريمة في حقّ المجتمع كلّه؛ لأننا نخرج طلابا زورا وبهتانا، لأننا سنخرج أطباء مزوّرين ومهندسين مزوّرين بل ومعلمين مزورين، فيموت الإبداع في كلّ مجال، ويؤول الأمر إلى غير أهله، فتشيع الخيانة وينتشر الضعف في كلّ مجال، فيُعلَى علينا ولا نعلو، ونُهزَم ولا ننتصر؛ لأن مراكز العلوّ ومراكز الإبداع قد تولاّها غشّاشون ومزوّرون لا كفاءةَ لديهم ولا إبداعَ. نعم، هذا هو مآل التزوير، ولا تقل: إنك تبالغ في ذلك، فإن نتيجة هذا الطالب أن ينجح ثم يوظَّف ثم يولَّى منصبا قد تولاّه بغش وتزوير، فنقول: إن هذا الغاشّ سيكون لبنة سيّئة في بناء هذا المجتمع والأمة المجيدة.
الوقفة الرابعة الأخيرة، لكني أرجئها في الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، وقفتنا الأخيرة نقف فيها مع ذلك الأب الكريم ومع تلك الأم الرؤوم الرحيمة، اللذين أجهدا أنفسهما من أجل هذا الابن، فكأن كلّ واحد منهما هو الذي سيمتحن، نعم كأنه هو الذي سيمتحن غدا وليس هذا الابن، فلا يرتاح له بال حتى يغادِر ابنه إلى قاعة الامتحان، ويا للهول يا للهول لو نام الابن عن الامتحان، مصيبة عظيمة وذنب لا يمكن اغتفاره، وقد يكون ذلك، ولكن السؤال هنا: هل عملت أيها الأب، وهل عملت أيتها الأم، هل عملتما مع هذا الابن لامتحان الآخرة ما تعمَلونه الآن لامتحان الدنيا؟ هل سعيتما لإنقاذه من فشل امتحان الآخرة كما تسعيان الآن لإنقاذه من فشل امتحان الدنيا؟ هل بذلتم جهدكم المتواصل في تعليمِه وتفهيمه ما يعينه على امتحان الآخرة كما تفعلون ذلك الآن لامتحان الدنيا؟ اسألوا أنفسكم بصدق وإخلاص وبجد، اسألوا أنفسكم: هل توقظون أبناءكم لصلاة الفجر؟ وهذا الابن شاب بالغ عاقل، هل يكون هذا الحرص بنفس الحرص الذي توقظ به ابنك لحضور الامتحان؟ هل تعتني ـ بالله عليك ـ لتوجيهه وإرشاده إذا أخطأ في أمر شرعي كما تعتني بتوجيهه وتصحيح خطئه في مذاكرته؟ بل اسأل نفسك: هل أنت حريص على أن ينال الفوز في الآخرة بنفس الحرص والحماس الذي تسعى له في نجاح ابنك في الامتحانات الدراسية بتفوّق؟
أيها الأب الكريم، أيها الأب المبارك، وأيتها الأم الحنون، تذكروا جميعا أنكم مسؤولون عن هؤلاء الأبناء، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت والله مسؤول عنهم في امتحان الآخرة، اسمع إلى قول حبيبك ونبيك في الحديث المتفق على صحته قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، إلى أن قال: ((والرجل راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية ومسؤولة في بيت زوجها)). إذًا اعلم ـ بارك الله فيك ـ أنّ الفوز الحقيقيّ الذي تبحث عنه لابنك هو والله فوز الآخرة، فاحرص عليه، يقول الله جل جلاله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ، هذا هو الفوز، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/5114)
تحريم قتل المسلمين والمعاهدين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
19/2/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى لبني آدم. 2- حفظ الضرورات الخمس. 3- ظاهرة الاستهانة بالدماء المعصومة. 4- جريمة قتل المسلمين والمعاهدين. 5- عظم أمر الدماء في الإسلام. 6- سبب انتشار القتل. 7- تجريم قتل الفرنسيين الأربعة وبيان ما في ذلك من المفاسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ الذي أَنتُم بِهِ مُؤمِنُونَ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، ممَّا لا يَجهَلُهُ امرُؤٌ عَاقِلٌ حَصِيفٌ ـ فَضلاً عَن مُؤمِنٍ تَقِيٍّ يَقرَأُ القُرآنَ وَيُؤمِنُ بِمَا جَاءَ فيه ـ تَكرِيمُ اللهِ لِلجِنسِ البَشَرِيِّ وَتَفضِيلُهُ لِلنَّوعِ الإِنسَانيِّ، قال سُبحَانَهُ: وَلَقَدْ كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم في البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً.
وَإِنَّ مِن تَكرِيمِ اللهِ لَهَذَا الإِنسَانِ وَتَفضِيلِهِ إِيَّاهُ على سَائِرِ المَخلُوقَاتِ مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ مِن حِفظِ ضَرُورَاتٍ خمسٍ أَمَرَت بِرِعَايَتِهَا وَحَرَّمَتِ الاعتِدَاءَ عَلَيهَا، تِلكُم هِيَ الدِّينُ وَالنَّفسُ وَالعَقلُ وَالعِرضُ وَالمَالُ. وَكُلَّمَا قَوِيَ تَمَسُّكُ النَّاسِ بِدِينِهِمُ القَوِيمِ وَاستَقَامُوا على الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَطَبَّقُوا الشَّرِيعَةَ الغَرَّاءَ وَالتَزَمُوا أَوَامِرَ رَبِّهِم كَانُوا لِهَذِهِ الخَمسِ أَشَدَّ حِفظًا وَأَكثَرَ تَقدِيرًا، وَكُلَّمَا اشتَدَّت غُربَةُ الدِّينِ وَانتَشَرَ الجَهلُ وَقَلَّ العِلمُ كَانَ أَسهَلَ مَا عَلَى النَّاسِ الاستِهَانَةُ بِمَا حَرَّمَهُ اللهُ وَالوُقُوعُ فِيمَا نهى عنه.
وَإِنَّ ممَّا قَلَّ لَدَى الأُمَّةِ تَقدِيرُهُ في هذِهِ الأَزمِنَةِ وَنَقَصُوهُ قَدرَهُ وَهَيبَتَهُ وَلا سِيَّمَا مَعَ انتِشَارِ الفِتَنِ وَذَهَابِ أَهلِ العِلمِ الرَّاسِخِينَ الاستِهَانَةَ بِالدِّمَاءِ المُحَرَّمَةِ وَالأَنفُسِ المَعصُومَةِ، حَيثُ عَادَ المَرءُ لا يُبَالي بِمَن قَتَلَ وَلا بِعَدَدِ مَا مِن الأَروَاحِ أَزهَقَ، وَظَهَرَ مَن لا يَرعَى لِمُؤمِنٍ حُرمَةً، وَلا يَحفَظُ لِمُعَاهَدٍ عَهدًا، وَلا يَفِي بِعَهدِ إِمامٍ وَلا بِجِوَارِ مُسلِمِينَ.
وَلا يَخفَى ـ أَيُّها المُسلِمُونَ ـ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الاعتِدَاءَ على الأَنفُسِ المَعصُومَةِ وَنهى عَن قَتلِهَا بِغَيرِ حَقٍّ، وَجَاءَ في الأَدِلَّةِ تَحرِيمُ قَتلِ المُسلِمِينَ أَوِ المُعَاهَدِينَ، وَالتَّأكِيدُ عَلَى حِفظِ ذِمَّةِ المُسلِمِينَ وَالتَّحذِيرُ مِنَ الغَدرِ وَنَقضِ العَهدِ الذي أَبرَمُوهُ، وَبَيَانُ أَنَّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ ارتَكَبَ كَبِيرَةً مِن كَبَائِرِ الآثَامِ، وَأَنَّ مَن قَارَفَ شَيئًا مِنهُ فَقَد وَقَعَ في مُوبِقَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ العِظَامِ وَالمُهلِكَاتِ الجِسَامِ، قَالَ تعالى: وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، وقال تعالى: مِنْ أَجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ في الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزنُونَ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُدْ فِيهِ مُهَانًا.
وَصَحَّ عنه عليه الصلاةُ والسلامُ أنه قال: ((لَنْ يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ في خُطبةِ الوَدَاعِ: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم وَأَعرَاضَكُم عَلَيكُم حَرَامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، وَسَتَلقَونَ رَبَّكُم فَيَسأَلُكُم عَن أَعمَالِكُم، أَلا فَلا تَرجِعُوا بَعدِي ضُلالاً يَضرِبُ بَعضُكُم رِقَابَ بَعضٍ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلا بِإِحدَى ثَلاثٍ: النَّفسُ بِالنَّفسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّاني، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلجَمَاعَةِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّ الإِسلامِ، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسَّلامُ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِن قَتلِ رَجُلٍ مُسلِمٍ)).
وَنَظَرَ ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما يَومًا إلى الكَعبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعظَمَكِ وَأَعظَمَ حُرمَتَكِ! وَالمُؤمِنُ أَعظَمُ حُرمَةً عِندَ اللهِ مِنكِ)، وعن أُسَامَةَ بنَ زَيدٍ رَضِي اللهُ عَنهما قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ إِلى الحُرَقَةِ مِن جُهَينَةَ، فَصَبَّحنَا القَومَ فَهَزَمنَاهُم، وَلَحِقتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ رَجُلاً مِنهُم، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَكَفَّ عَنهُ الأَنصَارِيُّ، فَطَعَنتُهُ بِرُمحِي حَتَّى قَتَلتُهُ، فَلَمَّا قَدِمنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ فَقَالَ لي: ((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلتَهُ بَعدَمَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟!)) قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا أَيْ: قَالَهَا لِيَتَّقِيَ سُيُوفَنَا، فقَالَ النَّبِيُّ : ((أَقَتَلتَهُ بَعدَمَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟!)).
فَانظُرْ يَا رَعَاكَ اللهُ وَتَأَمَّلْ، هَذَا رَجُلٌ كَافِرٌ مُشرِكٌ مُحَارِبٌ، وَهُم مُجَاهِدُونَ في سَاحَةِ القِتَالِ، وَلَمَّا ظَفِرُوا بِهِ وَتَمَكَّنُوا مِنه نَطَقَ بِالتَّوحِيدِ، فَتَأَوَّلَ أُسَامَةُ قَتلَهُ عَلَى أَنَّهُ مَا قَالها إِلاَّ لِيَكُفُّوا عَن قَتلِهِ، وَمَعَ هَذَا لم يَقبَلِ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ عُذرَ أُسَامَةَ وَتَأوِيلَهُ، فَكَيفَ بِمَن يَقتُلُونَ المُؤمِنِينَ لِشُبَهٍ وَقَعَت في قُلُوبِهِم أَو تَأَوُّلاتٍ بَاطِلَةٍ رَأَوها عَن قِلَّةِ عِلمٍ وَضِيقٍ أُفُقٍ؟! وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَلا مَن قَتَلَ نَفسًا مُعَاهَدَةً لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَد أَخفَرَ بِذِمَّةِ اللهِ، فَلا يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ سَبعِينَ خَرِيفًا)) ، وقال : ((ذِمَّةُ المُسلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسعَى بها أَدنَاهُم، فَمَن أَخفَرَ مُسلِمًا فَعَلَيهِ لَعنَةُ اللهِ وَالملائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ، لا يَقبَلُ اللهُ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرفًا وَلا عَدلاً)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَمرَ الدِّمَاءِ عَظِيمٌ وَشَأنَهَا خَطِيرٌ، وَلِهَذَا كَانت هِيَ أَوَّلَ مَا يُقضَى فِيهِ بَينَ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ. قال شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تِيمِيَّةَ رحمه اللهُ: "أمرُ الدِّمَاءِ أَعظَمُ وَأَخطَرُ مِن أَمرِ الأَموَالِ"، وقال رحمه اللهُ: "الفَسَادُ إِمَّا في الدِّينِ وَإِمَّا في الدُّنيا، فَأَعظَمُ فَسَادِ الدُّنيا قَتلُ النُّفُوسِ بِغَيرِ الحَقِّ، وَلِهَذَا كَان أَكبرَ الكَبَائِرِ بَعدَ أَعظَمِ فَسَادِ الدِّينِ الذِي هُوَ الكُفرُ" انتهى كلامُهُ.
وَإِنَّ مَا نُشَاهِدُهُ في هَذِهِ السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ مِن كَثرَةِ القَتلِ وَإِخفَارِ الذِّمَّةِ وَنَقضِ العَهدِ لَهُوَ نِتَاجُ قِلَّةِ العِلمِ وَرَوَاجِ الجَهلِ، وَأَثَرٌ مِن آثَارِ ضَعفِ الدِّينِ وَالتَّقوَى في القُلُوبِ، وَدَلِيلٌ على استِيلاءِ الشَّيطَانِ عَلَيهَا، قال : ((بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامُ الهَرْجِ، يَزُولُ فيها العِلمُ، وَيَظهَرُ فِيهَا الجَهلُ)) ، وَقَالَ: ((إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ الهَرْجَ)) ، قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قال: ((القَتلُ)) ، قَالُوا: أَكثَرُ ممَّا نَقتُلُ؟! إِنَّا نَقتُلُ في العَامِ الوَاحِدِ أَكثَرَ مِن سَبعِينَ أَلفًا، قَالَ: ((إَنَّهُ لَيسَ بِقَتلِكُمُ المُشرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتلُ بَعضِكُم بَعضًا)) ، قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَومَئِذٍ؟! قال: ((إِنَّهُ لَيُنزَعُ عُقُولُ أَكثَرِ أَهلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخلَفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ يَحسَبُ أَكثَرُهُم أَنَّهُ عَلَى شَيءٍ وَلَيسُوا عَلَى شَيءٍ)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحذَرُوا الفِتَنَ، وَابتَعِدُوا عَن مَوَاطِنِهَا، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ مِن ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَتَمَسَّكُوا بِالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالزَمُوا الرَّاسِخِينَ مِن أَهلِ العِلمِ، وَإِيَّاكُم وَآرَاءَ المُتَسَرِّعِينَ المُتَخَبِّطِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلْ تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلاَّ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسَانًا وَلاَ تَقتُلُوا أَولادَكُم مِن إملاقٍ نحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلاَ تَقرَبُوا الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقتُلُوا النَّفسَ التى حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ وَلاَ تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالتي هِيَ أَحسَنُ حَتَّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا ذلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقوا اللهَ تَعالى حَقَّ التَّقوَى، وَتمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى.
أَيُّها المُسلِمُونَ، يَقُولُ : ((مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ)). وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَتَهدِيدٌ أَكِيدٌ لِمَن قَتَلَ مُعَاهَدًا مُستَأمَنًا، وَلَقَد زَيَّنَ الشَّيطَانُ لِبَعضِ الجَهَلَةِ تَجَاهُلَ هَذَا الوَعِيدِ بِحجَجٍ وَاهِيَةٍ وَذَرَائِعَ ضَعِيفَةٍ، فَعَمَدُوا إلى قَتلِ بَعضِ المُعَاهَدِينَ في دِيَارِ المُسلِمِينَ، وَأَخفَرُوا ذِمَمَ إِخوَانِهِم وَنَقَضُوا عَهدَ إِمَامِهِم، وَمِن هُنَا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يُعلَمَ أَنَّ كُلَّ مَن أُعطِيَ إقامةً مِنَ الإِمَامِ أَو نُوَّابِهِ أَو مُوَظَّفِيهِ وَهُوَ غَيرُ مُسلِمٍ فَإِنَّهُ مُعَاهَدٌ مُستَأمَنٌ، لا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لَهُ في دَمِهِ أَو مَالِهِ أَو عِرضِهِ بِحُجَّةِ أَنَّهُ كَافِرٌ، أَو أَنَّ بَلَدَهُ مُحَارِبٌ لِلمُسلِمِينَ، فَإِنَّهُ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى، وَلَيسَ مِنَ العَدلِ أَوِ الشَّجَاعَةِ أَن يَظلِمَكَ إِنسانٌ مُحَارِبٌ ظالمٌ فَتَنتَقِمَ وَتَعتَدِيَ عَلَى آخَرَ، وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُعَاهَدًا مُستَأمَنًا، واللهُ جل وعلا يقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلاَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ.
وَإِنَّ مَا وَقَعَ في أَيَّامٍِ خَلَت في هَذِهِ البِلادِ مِن قَتلٍ وَعُدوَانٍ وَظُلمٍ وَبَغيٍ عَلى نُفُوسٍ لا ذَنبَ لها لَهُوَ عَمَلٌ إجرَامِيٌّ شَنِيعٌ وَفَسَادٌ عَظِيمٌ، جَمَعَ مُنَفِّذُوهُ بَينَ ارتِكَابِ كَبِيرَةٍ مَن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالوُقُوعِ في مَفَاسِدَ لا تُحمَدُ عَوَاقِبُهَا، قَتَلُوا النَّفسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتلَهَا، وَعَصَوا وَليَّ أَمرِ المُسلِمِينَ، وَخَرَجُوا عَلَى الجَمَاعَةِ، وَأَخفَرُوا الذِّمَّةَ، وَنَقَضُوا العَهدَ، وَغَدَرُوا، وَشَوَّهُوا صُورَةَ الإِسلامِ الكَرِيمَةَ، وَأَسَاؤُوا إِلى تَعَالِيمِهِ المُستَقِيمَةِ، في صُورَةٍ بَشِعَةٍ مِن صُوَرِ قَطعِ الطَّرِيقِ وَتَروِيعِ الآمِنِينَ وَعَدَمِ الوَفَاءِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاحفَظُوا النِّعَمَ، وَاحذَرُوا الجُرأةَ عَلى المَعاصِي، فَإِنَّهَا تَجلِبُ النِّقَمَ، أَوفُوا بِالعُهُودِ وَاعدِلُوا وَأَحسِنُوا، وَاحذَرُوا الغَدرَ وَالفُجُورَ ولا تَبغُوا ولا تَظلِمُوا، كُونُوا مَعَ الجَمَاعَةِ وَالزَمُوا الطَّاعَةِ، وَاحذَرُوا الاختِلافَ وَالفُرقَةَ، وَأَعطُوا صُورَةً حَسَنَةً عَن دِينِكُم وَبِلادِكُم بِلادِ الحَرَمَينِ، وَكُونُوا دُعَاةً بِأَخلاقِكُم وَحُسنِ تَعَامُلِكُم، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ وَلتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ.
(1/5115)
جريمة الحفريات الإسرائيلية
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
12/2/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التنديد باستمرار العدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى والطرق المؤدية إليه. 2- الآثار المترتبة على ما يقوم به العدوان الإسرائيلي من أعمال الحفر والتدمير. 3- التنديد بالعدوان اليهودي على مدينة نابلس. 4- نداء وصرخة للعالم الإسلامي. 5- فضل الشهداء. 6- الوصية بالتعاون ووحدة الصف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ويستمر العدوان الإسرائيلي على طريق المسجد الأقصى وبوابة المغاربة المؤدية إلى المسجد الأقصى للأسبوع الرابع على التوالي، لتعيث يد الفساد والدمار والخراب، هدما وطمسا لمعالم الحضارة الإسلامية والآثار التاريخية، للحقبات الإسلامية المتعاقبة منذ الفترات الأولى للوجود الإسلامي في هذه الديار، مرورا بسائر الحقب الإسلامية للوجود العباسي والأيوبي والمملوكي والعثماني في هذه الديار المباركة, وقد تركت تلك الفترات الإسلامية بصمات واضحة في إعمار المسجد الأقصى وطرقه وبواباته ومرافقه، شهد بذلك المعماريون والمختصون من علماء المسلمين من فن العمارة وعلم الآثار.
كما لم تستطع أن تخفي سلطات الاحتلال التي تقوم بالحفر والتدمير لهذه الآثار والحضارة ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية من وجود مساجد ومحاريب تحت هذه التلّة التي تشكل طريقا للمسجد الأقصى، وهي تلة تحوي من كنوز الحضارة والعمارة الإسلامية المتعقلة بالمسجد الأقصى ومسجد البراق الشريف ما يدعم الحقيقة الساحقة التي أعلنتها إدارة الأوقاف الإسلامية دائما بأن هذه الطريق التي تشكل مرفقا من مرافق المسجد الأقصى المبارك هي عقار ووقف إسلامي يتبع المسجد الأقصى، ويعتبر المساس به مسا بالمسجد الأقصى وجدرانه وطرقه وبواباته.
كما يشكل هذا الاعتداء الآثم على مرافق المسجد الأقصى تغيرا لطبيعة المكان الإسلامية الوقفية لصالح مخططات الأسرلة والتهويد وطمس الحقائق وتغيير المعالم لخدمة أهداف احتلالية، يسعى أصحابها لخلط الأوراق في المنطقة؛ لخدمة أهدافهم التوسعية والحزبية، والتي يكون فيها المسجد الورقة الرئيسية التي يسخرونها لكسب جمهورهم وإثبات صهيونيتهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد حذرنا وما زلنا نحذر ونبهنا وما زلنا ننبه إلى الأخطار الحقيقية المحدقة بالمسجد الأقصى، ليسمع القريب والبعيد، وليكون المسجد في سلّم أولويات أمته العربية والإسلامية، للذود عنه وحمايته من هذه الأخطار، فقد آن الأوان لينهض الجميع بمسؤولياتهم ويصونوا أماناتهم استجابة لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27، 28].
وقد تنادى أبناء القدس وفلسطين للتوقيع على ميثاق عهد مع الله تعالى، لرعاية وحماية المسجد الأقصى ومقدسات القدس، بما أوتوا من إمكانيات، داعين إخوانهم في عالم الإسلام والمسلمين إلى مؤازرتهم والنهوض بهذه الأمانة التي جعلها الله جزءا من عقيدة الأمة وآية في كتاب الله العزيز ووديعة السلف الصالح في رقاب الخلف، فماذا أنتم فاعلون؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه المسجد الأقصى يناديكم ويستغيث بكم، ويذكركم بأمجاد أسلافكم من الفاتحين الكرام والمحررين العظماء الذين سطر التاريخ أمجادهم بأحرف من نور.
إنها القدس بقداستها ومقدساتها وبركتها وطهارتها، تضج إلى السماء من أرجاس لا تستطيع السكوت عليها، وكأنها تحن إلى أذان بلال يرفع فوق مناراتها، معلنا حريتها وإسلاميتها، وأن مسجدها الأقصى مشرع لأهل الإيمان، يشدون إليه الرحال، ولعل مدى ندائها وافق أذانا واعية، ترد بلسان العزة والنخوة.
فهل تكونون بشارة نبيكم وهو يجيب الصحابي السائل: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بالبقاء بعدك؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعله ينشأ لك بها ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي باعتدائه على المسجد الأقصى المبارك ومحاصرة القدس ومنع المصلين من الوصول إلى المسجد، في اعتداء على حرية العبادة وحرية الوصول إلى أماكنها، بل وسع عدوانه باجتياح مدينة نابلس وترويع أطفالها ونسائها وإطلاق يد جيشه في تدمير أسواقها ومنازلها والعبث بممتلكات أبنائها واعتقال أمهات المطلوبين له كما يزعم، في ممارسة يندى لها جبين الإنسانية، وذلك للضغط على معنويات أبناء شعبنا وتحطيمها، وإضعاف إرادة الصمود والتحدي لدى أبناء شعبنا. هذا الشعب الصابر المرابط الذي كلما ازداد العدوان غطرسة ازداد شعبنا عزة وعنفوانا وتحديا للاحتلال وإجراءاته القمعية.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وترتقي إلى العلا أرواح الشهداء في جنين ونابلس والقدس، حيث شهيدة المسجد الأقصى التي عاجلها جندي غادر بضربة على رأسها، وهي تدافع عن شبل من أشبال المسجد الأقصى المبارك، حينما اجتاح جنود الاحتلال ساحة المسجد، واعتدوا على المصلين بالضرب وإطلاق الرصاص وقنابل الصوت والغاز.
إن شعبنا الذي ودع ويودّع مواكب الشهداء ليتضرع إلى الله أن يتقبلهم عنده مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وحسب الشهداء أجرا أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران: 169، 170]، ويقول رسول الله : ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشرات مرات لما يرى من فضل الشهادة)).
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، أمام هذا العدوان الغاشم الذي يستهدف المقدسات والإنسان والحجر والشجر وتجرف الأراضي لإتمام جدار العزل العنصري، كما جرى ويجري في قرى محافظة بيت لحم، ومحاولة توسيع الاستيطان في مدينة الخليل، وبناء حي استيطاني عند مدخل القدس الشمالي في أراضي المطار، أمام هذا كله لا بد من الصبر والثبات والعزيمة على الرباط والتعاون والتكاتف بين جميع أبناء الشعب وتمتين الوحدة ورص الصفوف.
فقد راهن الاحتلال كثيرا على شق صف شعبنا وإذكاء روح الفتنة التي كادت تقضي بالوطن والمواطن، ولما توصل أبناء شعبنا إلى اتفاق الصف ها هو الاحتلال يشن عدوانه لصرف شعبنا عن الاستمرار في إنجاز استحقاقات هذا الاتفاق الذي يعزز صمود شعبنا، ويجمع قواه الفاعلة وأحزابه وفصائله على غاية واحدة، هدفها خدمة المصلحة العليا لأبناء شعبنا، للوصول إلى الحرية وإنهاء الاحتلال وتحرير الأسرى الأبطال من سجون القهر، هؤلاء الرواد لحرية الوطن والمواطن لهم منا كل التقدير والعز والاعتزاز، فقد كانوا دائما البوصلة التي توجه صمود ونضال هذا الشعب الأبي، أما التضحيات الجسام التي يقدمها شعبنا فهي طريق العزة الموصلة إلى النصر بإذن الله، فالله يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
(1/5116)
شناعة الغدر
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
19/2/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات المؤمن. 2- ذم صفة الغدر. 3- استنكار جريمة قتل الفرنسيين الأربعة. 4- وعيد الغادرين. 5- حرمة دم المعاهد. 6- عظم جرم قتل المسلم بغير حق. 7- ضرورة تضافر الجهود للقبض على المجرمين. 8- أهمية العناية بالمعتقد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
أيّها المسلمون، إنَّ من كريم صفات المؤمن وجميلِ سَجَاياه وحُلوِ شمائله كمالَ الحرص على التزامِ أخلاقِ المتَّقين من عباد الرحمن، ودوامَ النُّفرة من خصال أهل الخِسَّة والفُجورِ الذينَ صغُرت نفوسُهم ولؤُمَت طِباعُهم وقَسَت قلوبهم وعتَوا عن أمرِ رَبهم وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم، فحسَّن لهم ما قبَّحه الله ورسولُه، وأغراهم به، وجرَّأهم عليه، فخفَّ على قلوبهم، وسهُل على نفوسِهم، فتردَّوا بتسوِيلِه في وَهدةِ الباطِل، وتلوَّثوا بأرجاسِ الكبائر، وأصبحوا من حزبِ الشّيطان وجندِه.
ألا وإنَّ من أقبح صفاتِ هذا الفريق وأشدِّها نكرًا صفةَ الغدر التي تدلّ على أنّ صاحبَها قد بَلَغ الدّركَ الأسفَلَ من الخِسَّة واللُّؤم وانحرافِ الفِكر وفسادِ القلب وموتِ الشعور الذي يُفضي به إلى الإعراضِ التامّ عن الأوامر والنواهي، وإلى أن يُصِمّ أذنيه عن كلّ داعٍ إلى الحق وعن كلِّ محذِّرٍ من الباطل.
ولا ريبَ أنَّ ما وقع هذه الأيام من اعتداءٍ على بعض المقيمينَ في هذه البلاد وما ترتَّب عليه من سفكِ الدماءِ المحرَّمة وترويعٍ وفساد في الأرض، لا ريبَ أنه فعلُ من لم يخَفِ الله تعالى من أهلِ الغدر الذين لا يرجونَ لله وقارًا، ولا يحرِّمون ما حرَّمه الله سبحانه، ولا يعظِّمون ما عَظَّمه.
عبادَ الله، إنَّ حقَّ مَن ضلَّ الطريق في مفازةٍ أو خفي عليه السبيلُ في فلاةٍ أو في غيرها أن يُوجَّه ويرشَدَ إلى الجادّة حتى لا يهلِكَ جوعًا أو عطَشًا؛ لأنَّ هذا من المعروفِ الذي يتصدَّق به الإنسانُ ازدِلافًا إلى ربِّه ورجاءَ القربى عنده، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما أن رسولَ الله قال: ((كلُّ معروفٍ صدقة)) ، ولأنّه من صنائع المعروف، وهي تقي مصارعَ السوء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح عن أنسِ بن مالك أنّ رسولَ الله قال: ((صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السوء والآفاتِ والهَلَكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)).
أمَّا أن يُفاجَأ بإطلاقِ النارِ عليهِ ممّن كان يظنُّ أنه سيُرشِدُه ويستنقذه فهذا غدرٌ يأباه الله ورسوله، ويبرأ منه كلُّ مؤمن يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربه.
ألم يطرُق سمعَ مَن فعل هذه الفعلةَ النكراء ما جاءَ من الوعيد الصارِخ على لسان نبيِّ الرحمة والهدى صلوات الله وسلامه عليه لكلِّ مَن قتل نَفسًا أو قتل رجلاً غدرًا، وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام في مسنده وابن ماجه في سننه واللّفظ لهما وابن حبان في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن عمرو بن الحمِق أنه سمعَ رسول الله يقول: ((من أمَّن رجلاً على دمِه فقتله فإنّه يحمل لواءَ غدرٍ يومَ القيامة)) ، ولفظ ابن حبان: ((أيما رجل أمَّن رجلاً على دمه ثم قتَلَه فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتولُ كافرًا)) ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: قال رسولُ الله : ((يُنصَب لكلِّ غادرٍ لواء يومَ القيامة، يقال: هذه غَدرَةُ فلان بن فلان)). وفي هذا من الفضيحةِ لصاحبِ الغَدر والتَّشهير به على رؤوسِ الأشهادِ يومَ القيامة ما لاَ مَزيدَ عليه مع ما أُعِدّ له من شديدِ العقابِ.
ثمّ هؤلاءِ الذِين قُتِلوا غدرًا مِنهم معاهَدون دخلوا دارَ الإسلام بإذن وليِّ الأمر أو نوّابِه وموظَّفيه، فهم في أمانِ وليِّ الأمر ابتداءً، وفي أمان المسلمين تبعًا، فكيف يصِحّ خَرق هذا الأمان والتعدّي على هذه الحرمة وانتهاكُ هذا الحِمى وقد زجَرَ النبيّ عن ذلك أشدَّ الزَّجر ونهى عنه بقوله في الحديث الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسولُ الله : ((من قتَلَ معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما)) ، وفي الحديث الذي أخرجه البخاريّ أيضًا في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسولُ الله : ((لا يزال المؤمِنُ في فسحةٍ من دينِه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) ، أي: فإذا أصابَ دمًا حرامًا ضاقت عليه أعمالُه، فلم تَسَع جِنايَتَه، ولم تفِ بما عليه، فعوقِب بها في نارِ جهنّم يوم القيامة، عِياذًا بالله من ذلك.
ومن هؤلاء الذين قتِلُوا غدرًا مسلمون أيضًا، فكيفَ يصِحّ الاعتداءُ عليهم وسفكُ دمِهم والله قد توعَّد بأشدِّ العذاب من قتل مؤمنًا متعمِّدًا فقال عزَّ من قائل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وفي الحديثِ الذي أخرَجَه مسلِم في صحيحه عن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ قال: ((لزوالُ الدنيا أهوَنُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) ، وبيَّن رسولُ الهدى عِظَم ذَنبِ مَن قتَل مؤمِنًا متعمِّدًا، فقرَنَه بالشّرك في عدمِ رَجاء الغفرانِ لمن مات عليه، فقال صلوات الله وسلامُه عليه في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه وابن حبّان في صحيحه والحاكم في مستدرَكِه بإسنادٍ صحيح من حديث أبي الدَّردَاء قال: ((كلُّ ذنبٍ عسى أن يغفِرَه الله إلاّ الرجل يموت مشرِكًا أو يقتل مؤمنًا متعمّدا)).
فأين من هذا الوعيدِ أولئك المعتَدون الظالمون؟! وإلى أين المفرُّ؟! وكيف يهنَأ لهم عيشٌ أو يطيب لهم حالٌ أو يستقرّ بهم مُقام وقَد فعَلوا مَا فعَلوا واقتَرَفوا ما اقتَرَفوا مِنَ الإثم والبغيِ والعدوان؟!
عبادَ الله، إنَّ تضَافُر الجهود وتكاثُف المساعي ووقوفَ الأمّة كلِّها صفًّا واحدًا في وجه هذا البغيِ والإجرام الذي لا يرقُب مقتَرِفُه في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمّة وإنَّ تحصينَ الشباب من صولةِ هذا الباطل وحراسَتَهم من هذا الانحراف وذَودَ هذا الخطر عن ساحتِهم وتطهيرَ كلِّ القنواتِ والرّوافد التي تغذِّي هذا الفكرَ الضالّ وتمدّه بأسباب البقاء والنّماء وإنّ قطعَ الشرايين التي تضمَن له الحياةَ، إنَّ كلَّ أولئك حقٌّ واجب على كلِّ أهل الإسلام، ومن أظهر ذلك لزومُ الإنكارِ لهذا المنكر العظيمِ برفع الصوتِ عاليًا دون تَلجلُج أو توقّفٍ أو تردّد، فهو ـ والله ـ جديرٌ بالإنكار، حقيق على أن يُكشَف عَوارُه وتهتَكَ أستاره ويبيَّن للناس خطرُه وضررُه على المسلمين قاطبةً في كلِّ الديار وفي جميع الأمصار.
ومن لوازمِ ذلك الإنكارِ ـ يا عباد الله ـ كمالُ البراءة إلى الله تعالى من هذا الضلالِ وأهله، وتمامُ المجافاة لهم، وعدمُ إعانَتهم بأيِّ لونٍ من ألوانِ الإعانة، ورفعُ أمر من يبدُر منه شيءٌ من هذا الظلال إلى وليِّ الأمر لينظرَ في أمره ويذود عن المسلمين شرَّه، فإنَّ هذا من التعاونِ على البرِّ والتقوى الذي أمرَنا الله به وحثَّنا عليه ورغَّبنا فيه.
فاتقوا الله عبادَ الله، وحذارِ من مقاربَةِ الغدر أو الاتِّصاف بصفاتِ أهله، فإنَّ في قبحِ شأنه وعِظَم ضرَرِه في الدنيا وفي سوءِ عاقبته وعِظَم الجزاء عليه في الآخرَة لمزدَجَرًا لقومٍ يعقلون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 17، 18].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيِّه محمّدٍ ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستَعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ العنايةَ بالمعتقَد الصحيح دراسةً لأصوله وفهمًا لقواعده ووقوفًا على أدلَّته ومعرفة لنواقِضِه، كلُّ أولئك من أظهرِ أسباب السلامة من آثارِ كلِّ فكرٍ نُنكره، ومن أعظمِ عوامل الحصانةِ من نزَغَات كلِّ معتقد نرفُضه؛ لمنابَذَتِه الأدلّةَ من كتاب ربِّنا وسنَّة نبينا محمدٍ وفهمِ سلفِنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فإنَّ هذا مِن أعظم ما يُستعَان به على تحقيقِ التوحيد، وبتحقيقه توصَد الأبواب دونَ كلِّ مبتغٍ فتنةً أو مبتدعٍ بدعة أو مثير فرقةً أو متَّبعٍ غيرَ سبيل المؤمنين، فتكونَ العاقبة خيرًا ظاهرًا، تنعكِس آثارُه بالاتحادِ على الخير والتآزُرِ على الحقّ والاجتماعِ على التوحيدِ والعملِ بالسنّة والتواصي بالحقِّ والتواصِي بالصّبر والتعاوُن على البرّ والتَّقوى.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واذكروا أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خيرِ الورى، فقال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائرِ الآل والصحابةِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرَمِك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمَّر أعداء الدين وسائرَ الطغاة والمفسدين...
(1/5117)
أهمية التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
19/2/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النقص والخطأ من طبيعة البشر. 2- كتابة الله تعالى للحسنات والسيئات. 3- كثرة سبل الخير. 4- سدّ طرق الشرّ. 5- التوبة هي جماع الخير. 6- حقيقة التوبة. 7- فضل التوبة. 8- وجوب التوبة على كل مسلم. 9- سعة رحمة الله تعالى. 10- شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده. 11- التوبة من صفات النبيين وعباد الله الصالحين. 12- حاجة المسلمين الماسة إلى التوبة. 13- شروط التوبة. 14- الاعتبار بقصص التائبين. 15- الحث على الاستعداد للموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ معشَرَ المسلِمِين ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله الجليلِ عدّةٌ لكلِّ شِدّة، وحصنٌ أمين لمَن دخَلَه، وجُنّة من عذابِ الله.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ رَبَّكم خَلَق بني آدمَ معرَّضًا للخطِيئَات، مُعرَّضًا للتَّقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليهِ السَّيِّئات، قال الله تَعَالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، وعَنِ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رسولُ الله : ((إنَّ اللهَ كتَبَ الحسناتِ والسيِّئات، فمَن همَّ بحسنةٍ فلَم يعمَلْها كتبَها الله عندَه حسنةً كَامِلة، فإن عمِلَها كتبها الله عندَه عَشرَ حسنات، إلى سَبعِمائة ضِعف، إلى أضعَافٍ كثيرة، فإن هَمَّ بسيّئة فلم يعملْها كتبَها الله حسَنةً كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عندَه سيِّئة واحدَة)) رواه البخاريّ [1].
فَشَرَع الله لكَسبِ الحَسَنات طُرُقًا للخَيرَات وفَرَائِضَ مكفِّراتٍ لِلسَّيِّئاتِ رَافِعةً للدّرَجات، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عَن رَسول الله قَالَ: ((الصَّلواتُ الخمسُ والجُمعة إِلى الجُمعة ورَمَضَانُ إلى رَمَضَان مكفِّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم [2] ، وعن عبدِ الله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسول الله : ((أَربعونَ خَصلةً أعلاها مَنيحَةُ العَنز، مَا مِن عَاملٍ يعمَل بخَصلةٍ مِنها رَجاءَ ثوابِها وتَصدِيقَ مَوعودِهَا إلاّ أدخَلَه الله بها الجنّةَ)) رواه البخاريّ [3] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ قالَ: ((الإيمانُ بضعٌ وسَبعونَ ـ أو بضعٌ وستّون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إلهَ إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذَى عن الطّريق، والحياءُ شُعبَةٌ من الإيمان)) رواه البخاريّ ومسلِم [4] ، وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ العملِ أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ باللهِ والجِهادُ في سبيلِه)) ، قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضَل؟ قال: ((أنفَسُها عندَ أهلِها وأكثَرُها ثمَنًا)) ، قُلتُ: فإن لم أفعَل؟! قال: ((تُعينُ صَانعًا أو تَصنَع لأَخرَق)) ، قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن ضَعُفتُ عن بعضِ العمَل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاسِ، فإنّها صَدقةٌ مِنك على نفسِك)) رواه البخاريّ ومسلم [5] ، وعنه رضيَ الله عنه قالَ: قال رسول اللهِ : ((لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تَلقَى أخاك بوجهٍ طَلِيق)) رواه مسلم [6] ، وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رَسول الله : ((إنَّ اللهَ لَيرضَى عَنِ العبدِ أن يَأكُل الأكلةَ فَيَحمَده عليها، أو يشربَ الشَّربة فيحمَده عليها)) رواه مسلِم [7].
وكما شَرَع اللهُ كثرةَ أبوابِ الخَير وأسباب الحَسَنات سَدَّ أَبوابَ الشرورِ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المَعاصي والسيِّئات؛ ليثقلَ ميزانُ البرِّ والخَير، ويخِفَّ ميزانُ الإثمِ والشرِّ، فيكون العبدُ من الفائزين المفلِحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?نًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، وعَن أَبي هريرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ يَقولُ: ((مَا نهَيتُكم عنه فاجتَنِبوه، وما أَمرتُكم به فأتُوا منه ما استَطَعتم)) رواه البخاريّ ومسلم [8].
وجِماعُ الخير ومِلاكُ الأمرِ وسَبَبُ السعادةِ التوبةُ إلى اللهِ تَعَالى، قال اللهُ تَعَالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
ومَعنَى التّوبةِ هي الرُّجوعُ إلى الله والإنابةُ إِليه مِن فعلِ المحرّم والإثم، أَو مِن ترك واجبٍ أو تقصيرٍ فيه، بصدقِ قَلبٍ ونَدمٍ عَلَى مَا كَانَ.
والتَّوبةُ النّصوحُ يحفَظ اللهُ بها الأعمَالَ الصّالحةَ التي فعَلها العبدُ، فلاَ تَفسدُ، ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعَت، ويدفعُ الله بها العقُوباتِ النّازِلةَ والآتيَة، قال اللهُ تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس: 98]. رَوَى ابن جريرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادةَ قال: "لم ينفَع قرية كفَرَت ثمّ آمنَت حينَ حضرها العذابُ فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقَدوا نبِيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بَين كلّ بهيمة وولَدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثمّ عجّوا إلى الله أَربعين ليلةً، فلمّا عرَفَ الله الصّدقَ من قلوبِهم والتّوبةَ والنّدامةَ على ما مَضَى منهم كشفَ الله عَنهم العَذَابَ بَعد أن تَدَلَّى عَلَيهم" انتهى [9].
وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3].
والتَّوبةُ واجِبَةٌ على كلِّ أَحَدٍ مِن المسلِمِين، فالوَاقِعُ فِي كبيرةٍ تجِب عليه التّوبةُ لئلاّ يَبغَتَه الموتُ وهو على المعصيةِ، والوَاقِعُ في صغيرةٍ تجِبُ عليه التّوبة لأنّ الإِصرَارَ على الصَّغيرةِ يكون من كبائرِ الذّنوب، والمؤَدِّي للواجِبَاتِ التَّاركُ للمحرّمات تجِب عليه التّوبة أيضًا لما يَلحَق العَمَلَ مِن الشّروطِ وانتفاءِ موانعِ قبولِه، وما يُخشَى على العامِل مِنَ الشّوائب التي تردُّ العملَ، عن الأغرِّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله : ((يَا أيّها النّاس، توبوا إلى اللهِ واستغفِروه، فإنّي أتوبُ في اليَومِ مائَةَ مَرَّة)) رواه مسلم [10].
والتّوبةُ بابٌ عَظيم يَتَحقّق بهِ الحسناتُ الكَثِيرةُ العَظِيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العَبدَ إذا أَحدَث لكلّ ذَنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرَت حسناتُه ونَقَصَت سيّئاتُه، قالَ الله تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 68-70].
أيّها المسلمون، تَذَكَّرُوا سَعَةَ رَحمةِ اللهِ وَعَظيمَ فَضلِه وَحِلمِه وَجودِه وكَرَمِه، حَيثُ قَبِل تَوبَةَ التَّائبين، وأقالَ عَثرةَ المذنِبين، ورَحِم ضَعفَ هذَا الإنسانِ المِسكين، وأثابَه على التَّوبةِ، وَفَتَحَ له أَبوَابَ الطّهارةِ والخيرات، عن أبي موسَى الأشعريِّ رضي الله عنه عنِ النَّبيّ قال: ((إنَّ الله تَعَالى يَبسُط يدَه باللَّيلِ ليتوبَ مُسيء النّهار، ويبسُط يدَه بالنّهار ليتُوبَ مسيءُ اللّيل)) رواه مسلم [11].
والتّوبةُ من أعظمِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله تعالى، مَن اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمورِ نجاحُه، قال اللهُ تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص: 67]، وعسى من الله واجب، قد أوجبَ ذلك على نفسِه.
وكفى بفضلِ التّوبةِ شرَفًا فرحُ الرّبِّ بها فرَحًا شديدًا، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سَقَط على بعيرِه وقد أضَلَّه في أرضِ فلاة)) رواه البخاريّ ومسلم [12].
والتّوبة من صفاتِ النبِيّين عليهم الصلاةُ والسلام ومِن صفاتِ المؤمنين، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117]، وقَالَ تَعَالى عَن موسَى عَلَيه الصَّلاة والسَّلام: قَالَ سُبْحَـ?نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143]، وقال تعالى عن داودَ عليه الصَّلاة والسَّلام: وَ?ذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ?لأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17]، رجَّاعٌ إلى الله تعالى، وقال تعالى: ?لتَّـ?ئِبُونَ ?لْعَـ?بِدُونَ ?لْحَـ?مِدُونَ ?لسَّـ?ئِحُونَ ?لركِعُونَ ?لسَّـ?جِدونَ ?لآمِرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?لنَّاهُونَ عَنِ ?لْمُنكَرِ وَ?لْحَـ?فِظُونَ لِحُدُودِ ?للَّهِ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]. ألاَ ما أَجَلّ صِفَةَ التّوبة التي بَدَأ الله بِها هَذِه الصِّفاتِ المُثلَى مِن صفاتِ الإيمانِ.
والتّوبةُ عبادةٌ للهِ بالجَوَارِح والقلبِ، واليومُ الذي يَتُوبُ الله فيه على العَبدِ خيرُ أيّامِ العُمُر، والسّاعة التي يفتَح فيها الربُّ لعَبدِه بابَ التّوبة ويَرحمُه بها أفضلُ ساعاتِ العُمر؛ لأنّه قد سَعِد سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا، عن كعبِ بنِ مالك رضي الله عنه في قصّةِ توبَة الله عليهِ في تخلّفه عَن غَزوَة تبوك أنّه قال: فلمّا سلّمتُ على رسولِ الله قال وهوَ يَبرُق وجهُه من السُّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مَرَّ عَلَيكَ مُنذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاريّ ومسلم [13].
معشرَ المسلِمِين، إنّها تُحِيطُ بِكم أَخطَارٌ عظيمة، وتُنذِرُكم خطوبٌ جَسيمة، وقد نزَل بِالمسلِمِين نَوازِلُ وزلازِل، وأصابَتهُم الفتَنُ والمِحن، وإنّه لا مخرَجَ لهم من هذِهِ المضايِق وهذهِ الكُرُبَات إلاّ بالتّوبةِ إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبةُ واجبةٌ على كلِّ مسلِم على وجهِ الأرض من الذّنوبِ صِغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله في الدّنيا والآخرةِ، ويكشِفَ الشرورَ والكرُبات، ويَقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد.
قال أهلُ العِلم: إذا كانَتِ المعصيةُ بينَ العبدِ وربِّه لا حقَّ لآدميٍّ فيها فشروطُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ وأن يندَمَ على فعلِها وأن يعزمَ أن لا يَعودَ إليها، وإن كانتِ المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يَستَحِلّه منه بالعَفو.
والتّوبة من جميعِ الذّنوب واجبَة، وإن تَابَ مِن بَعضِ الذّنوبِ صَحّت توبتُه من ذلك الذّنبِ، وبقيَ عليه ما لم يتُب مِنه.
فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كَريم، أسبَغَ عليكم نِعَمَه الظاهرةَ والباطِنَة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومَدَّ في آجالِكم، وتَذَكّروا دائِمًا وتَذَاكَروا قصَصَ التَّائِبين الذين مَنّ الله عليهم بالتّوبة النّصوح بعد أن غَرقوا في بحارِ الشَّهوات والشّبُهات، فانجَلت غِشاوةُ بصائِرهم، وحيِِيَت قلوبُهم، واستَنَارَت نفوسُهم، وأيقَظَهم اللهُ من مَوتِ الغفلةِ، وبَصّرَهم مِن عمَى الغَيّ وظُلُماتِ المعاصي، وأسعدَهم مِن شَقَاءِ الموبِقات، فصارُوا مَولودِين مِن جَديد، مستبشرين بنعمةٍ من اللهِ وفَضل، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 174].
قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم: 8].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، ونفعنا بهَديِ سيّد المرسَلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة (6491) بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة (131).
[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس... (233).
[3] صحيح البخاري: كتاب الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة (2631).
[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (35) واللفظ له.
[5] صحيح البخاري: كتاب العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ (2518)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (84) واللفظ له.
[6] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).
[7] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734).
[8] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله (7288)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
[9] جامع البيان (11/171).
[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[12] صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب: التوبة (6309) واللفظ له، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747).
[13] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجبروتِ والملَكوت، الحيّ الذي لا يموتُ، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حقَّ جهاده، ففازوا في دنياهم بالخَيرات، وفي آخِرَتهم برفيعِ الدّرجات.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بلزومِ طاعته، واخشَوا عذابَه وعقوبتَه بالبُعد عن محرَّماته.
عبادَ الله، لقد وهب الله لكم الآجالَ، ومكَّنكم من صالح الأعمال؛ لتجعلوها وسيلةً إلى مرضاةِ ربِّكم ذي العزّة والجلال، فبالعمل الصالح يتقرَّب العباد، وبه تتطهَّر القلوب من الزّيغ والفساد، قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].
واعلَموا أنَّ وراءَكم طالبًا حثيثًا لن تفوتوه، فلا تدرونَ متى يَفجَأ أحدَكم الموتُ، عندئذ يتمنَّى المرء لو فسِحَ له في أجله وأصلح من عمله، فلا يُؤخَّر في الأجل، ولا يتمكَّن من صالح العمل، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100]، وفي الحديثِ عن النبيِّ أنّه قال: ((الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيّ)).
تذكَّر ـ أيّها الإنسان ـ مَن بينكَ وبين أبينا آدَم عليه الصلاة والسلام من الآباءِ والأمَّهات الذين قدِموا على أعمالهم، فأنتم على آثارِهم سائرون وبهم لاحقون، فهل ترونَ من الأجيالِ الخالية أحدًا أو تسمعون لأصواتهِم صدى؟!، يقول النبي : ((أكثِروا [ذكرَ] هاذم اللّذات)) يعني الموت، واستعِدّوا له بالتوبةِ الصّادِقَة في كلِّ وقت؛ لئلاّ يُحَال بين أحدكم وبين الدنيا بعملٍ سيِّئ يشقى به أبدًا.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخِرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، اللّهمّ وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/5118)
خطوات الشيطان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الفتن
عابد بن عبد الله الثبيتي
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة فتنة إبليس وكيده. 2- تحذير الله تعالى عباده من الشيطان الرجيم. 3- من الخطوات الشيطانية. 4- العقبات الشيطانية في طريق السائرين إلى الله تعالى. 5- تبرؤ الشيطان من أتباعه يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: (إن راهبا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال: فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعتُ هذا بك، فأطعني أنجك مما صنعتُ بك، فاسجد لي سجدة فسجَد، فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين).
إنه الشيطان الذي حذّر منه الله تعالى الناس جميعا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 168]، وحذر منه المؤمنين خاصة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208]. وفي كلتا الآيتين ينهى الله تبارك وتعالى عباده عن اتباع خطوات الشيطان. فما خطوات الشيطان هذه لنحذرها ونحذّر منها الناس؟
عباد الله، إن أكمل بيان لذلك ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبتتبع آيات القرآن العظيم نجد أن الله تعالى حذّر من أفعال وأقوال وبيّن أنها من فعل الشيطان، ذلك ليحذر المؤمنون من حبائل الشيطان وطرقه، وسوف أذكر هذه المواضع وبعض الأدلة عليها حتى لا يطول بنا المقام.
فمنها: الأمر بالأفعال السيئة والزنا والقول على الله بغير علم، وذلك بالفتوى بغير علم وأن يتكلم في الشريعة والتحليل والتحريم من لا يفقه في ذلك شيئا، قال تعالى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169].
ومنها: تخويف الناس من الفقر وتضخيم جانب السعي في طلب الرزق، حتى يغفلوا عن العبادة، ثمّ لا يبالوا أن يجمعوا المال من حلال أم من حرام، فصدق فيهم قول الرسول : ((يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل ما أخذ أمن حلالا أم من حرام)) ، قال الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
ومنها: أمر الناس بالإعراض عن شريعة الله والتحاكم إلى الأعراف والقوانين الوضعية، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 60].
ومنها: إضلال الناس عن الحق بكل طريق، بدعوى التطور والتقدم والسياحة والحرية الفكرية والحوار والتعبير عن الرأي، أو بدعوى التجديد ونقد الذات وما أشبه ذلك من الدعاوى اللامعة البراقة.
ومنها: التزيين لهم بترك التوبة، وأمرهم بالتسويف والتأخير فيها.
ومنها: أمر الناس بإحياء عادات الجاهلية والاهتمام بتراث الأقدمين وتقليدهم في أعمالهم وعاداتهم والفخر بأمجادهم.
ومنها: أمرهم بتغيير خلق الله، ومن ذلك إزالة الشعور التي أمر الله بإبقائها، وإبقاء ما أمر الله بإزالته، ونتف الشيب، وإجراء العمليات التجميلية لتغيير الخلقة،كل ذلك ذكره الله في العهد الذي أخذه الشيطان على نفسه، قال الله تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء: 118، 119]، ثم قال الله بعد ذلك: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء: 120].
ومنها: أمر الناس بالتبذير والإسراف في المآكل والمشارب، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
ومنها: التزيين للعصاة أعمالهم وما هم فيه من ضلال، حتى لا يقدموا على التوبة والإنابة، قال الله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63]، وقال عن تزيينه لملِكة سبأ وقومِها عبادة الشمس من دون الله: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل: 24]، وقال عن تزيينه للأمم السابقة ما هم فيه من الضلال: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38]. ولا يزال يزين لأمم الأرض اليوم ما هم فيه من الكفر والظلم والطغيان، ويزين لكثير من المسلمين اليوم ما هم فيه من تقصير في طاعة الله وولوغ في المعاصي والمنكرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومنها: إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، كما قال الله تعالى بعد ذكره للخمر والميسر: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 91].
ومنها: دعوة الناس إلى نبذ الحياء وكشف العورات بدعوى الرجولة أو الرياضة أو سهولة الحركة أو غيرها، كما فعل مع آدم وزوجه في الجنة، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].
ومنها: تحريض القوي من الناس على الضعيف، وتحريض الكفار على استئصال شأفة المؤمنين، قال الله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48].
ومنها: إيقاع الحسد بين المؤمنين لتختلف قلوبهم وتفسد المودة بينهم فيتمكن منهم، قال تعالى عن يوسف عليه السلام وإخوتِه: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100].
عباد الله، هذه بعض خطوات الشيطان التي يدعو لها الناس حتى يخرجهم من العبادة والطاعة والأنس بالله إلى عبادته وطاعته والشقاء بالبعد عن الله، قال ابن القيم رحمه الله وهو يبين العقبات التي يجعلها الشيطان في طريق السائرين إلى الله، فينصب شراكه للإيقاع بهم فيها، ولننظر جميعا في أنفسنا لنعلم في أيها قد ظفر الشيطان بنا، قال رحمه الله: "فإنه يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح، فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على العقبة الثانية.
العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتابة، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا، فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان طلبه على العقبة الثالثة.
العقبة الثالثة: وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوّف به وفتح له باب الإرجاء، فإن قطع هذه العقبة بعصمة الله أو بتوبة تنجيه منها طلبه على العقبة الرابعة.
العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر، فكال له منها بالقفزان، وقال: ما عليك ذا اجتنبت الكبائر ما غشِيت من اللمم، ولا يزال يهوّن عليه أمرها حتى يُصرّ عليها، فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ وداوم التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه على الخامسة.
العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمِع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، وأقلُ ما ينال منه تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة، فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات فبخِل بأوقاته وضنّ بأنفاسه أن تذهب في غير ربح طلبه على السادسة.
العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح؛ ليشغله عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحا، ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟! فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل والتمييز بين عاليها وسافِلها ومفضولها وفاضلها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبِس لأمة الحرب وأخذ في محاربة العدو، فهو في عبودية تسمى عبودية المراغمة، ولا يتنبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليِّه لعدوه" اهـ.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى المليارات من الناس الذين اتبعوا خطوات الشيطان، ثم يقول لهم الشيطان يوم القيامة ليزيدهم حسرة إلى حسرتهم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
ثم يكون ختام هذا الصراع الطويل بالتبكيت من الله القوي العزيز الرحيم بعبادة لأولئك الذين أعرضوا عن المواعظ والآيات واتبعوا الشهوات والمغريات، حتى فاجأهم الموت وهم على ذلك: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 60، 65].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5119)
علم الغيب
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
19/2/1428
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء الله على نفسه بكونه يعلم الغيب. 2- الأدلة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله. 3- شبهات والرد عليها. 4- حكم الذهاب للكهان والعرافين. 5- التحذير من فضائيات الشرك والزندقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أثنى الله تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم في كثير من آي القرآن الكريم، فقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]. ومدح نفسه سبحانه بعلم الغيب فقال: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8، 9]، وقال: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة: 6]، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 92]، وقال: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [التغابن: 18]، وقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر: 22].
عباد الله، مما يجب علينا أن نعقد عليه قلوبنا أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فلا يشارك اللهَ فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي صالح، قال سبحانه وتعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]. الحصر في لغة العرب له طرق عديدة، أقواها ما كان بالنفي والإثبات، وهذه الآية أعلمتنا أن علم الغيب مختص بالله سبحانه، لا يعلم الغيب إلا الله.
وقال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26، 27]، فلا يعلم الرسول من الغيب إلا القدرَ الذي أذن فيه الله تعالى.
وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 77، 78]. ثبت عَنْ خَبَّابٍ بن الأرت قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا ـ أي: حدادًا ـ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ، فَقُلْتُ: لا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالاً وَوَلَدًا، فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال نبينا : ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) رواه البخاري.
إنّ الأنبياء لا يعلمون الغيب؛ وسأذكر بعض الأدلة على ذلك.
من هم أفضل الأنبياء أيها المؤمنون؟ هم أولو العزم من الرسل، وهم من ورد ذكرهم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7]، وأبدأ بسيدنا ونبينا محمد ، وهو أفضلهم.
قال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]. قال السعدي رحمه الله: "لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه؛ لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه".
وعليك ـ يا عبد الله ـ إذا خالط قلبَك شكٌّ في هذا أن ترجع بهذا السؤال إلى نفسك: لو كان نبينا يعلم الغيب فلماذا ترك أم المؤمنين عائشة في حادثة الإفك ولم يعلم بتخلُّفها؟! وكان سبب فرض التيمم أنّ عائشة رضي الله عنها أخّرت النبي وأصحابه في طلب عِقدٍ لها، فتأخروا ونفد ماؤهم وشُرع التيمم، ولم يجدوا العقد، فلما بعثوا بعيرها كان العقد تحته، ألا يدل هذا على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى؟!
وإبراهيم عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما استحقّ مدحًا لمّا أُمر بذبح ابنه، قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ [الصافات: 104-106].
ونوح عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما سأل ما لا علم له به، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 45-47].
وموسى عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما ضرب البحر بعصاه بعد أن نجّاه الله وقومه، قال تعالى: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ [الدخان: 24].
وعيسى عليه السلام قال الله في شأنه: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116-118].
والملائكة لا يعلمون الغيب، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 30-33].
وأعلمنا الله أنّ الجن كسائر المخلوقات لا يعلمون الغيب، فقال: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14].
ولا الأولياء يعلمونه، فهذا جبريل يأتي إلى النبي في صورة رجل ويسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فلما ولى قال: ((أتدرون من السائل؟)) قال الصحابة وهم سادات الأولياء وفيهم عمر: الله ورسوله أعلم.
عباد الله، هذه بعض الإشكالات المتعلقة بهذا الموضوع نوردها والإجابة عليها:
أولا: قلنا: لا يعلم الغيب إلا الله، فكيف قال عمر بن الخطاب : (يا سارية الجبلَ) مخاطبًا أمير جيشه على جهة فارس، ولما قدِم الجيش بعد شهر من هذه الخطبة أخبر سارية بأنه سمع صوت عمر ينادي: (يا سارية الجبلَ)، فانحاز إلى جبل وظهروا على عدوهم بسبب ذلك.
الجواب: القصة صحيحة، أخرجها البيهقي في دلائل النبوة، وحسّن إسنادها الألباني وابن حجر رحمهما الله. ولا إشكال فيها لحديث صحّ عن النبي قال فيه: ((إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)) متفق عليه. والمحدَّث: من يُجري الله الحقَّ على لسانه بلا قصد، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح. فهذه كلمة أجراها الله على لسان عمر وهو محدث، وأسمعها ساريةَ كرامةً لعمر ، ولسنا ننكر الكرامات، وإنما ننكر أن يعلمَ الغيب غيرُ الله، وفي بعض طرق هذه القصة أنّ عليًا أنكر على عمر فِعله، فنفى عمر أن يكون قد قال هذا الكلام، فأشهَد عليٌّ المصلين. وهذا يدل على أنها كلمة أجراها الله على لسانه كرامةً له.
واسمحوا لي أن أسأل سؤالاً: لو كان عمر يعلم الغيب كيف يصلّي وخلفه قاتِلُه أبو لؤلؤة المجوسيّ ولا يفعل شيئًا؟!
ثانيًا: ومن الإشكالات: إذا كان لا يعلم ما في الأرحام إلا الله فكيف توصّل الأطباء للتعرف على نوعية الجنين في بطن أمه؟!
والجواب: لسنا ننكر أنّ الأطباء توصلوا إلى ذلك، والتعرف على نوعية الجنين يكون بطريقين: عن طريق الموجات الصوتية، وهذا يكون في الشهر الرابع، وعن طريق عيّنة من السائل الأمنيوسي، وهذا يكون من الشهر الأول. ولكن ما يهمّنا أنّ هذا لا يعارض ما في القرآن الكريم؛ فالواقع لا يمكن أن يناقض القرآن الكريم أبدًا.
والجواب: أنّ المراد: لا يعلم بجميع أحوال الجنين الغيبيَّة إلا الله، ومن الأحوال الغيبيّة نوعه قبل أن يخلق، فإذا وُجد ما يدلّ على نوعه فليس هذا من باب علم الغيب، فأمور الجنين الغيبية كثيرة لا يمكن أن يعلمها إلا الله: ذكر أو أنثى، وشقي أم سعيد، وعمله، وفي أي وقت على وجه التحديد سيخرج، ومدّة بقائه إذا خرج... وغير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها فضلاً عن الإحاطة بحقيقتها.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/435) لهذه الآية: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ [لقمان: 34]: "أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]"، وقال أيضًا (6/352): "وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه". تأمل: "مما يريد أن يخلقه"، فإن خَلَقه لم يكن غيبًا، وإنما استتر بظلمات ثلاث، فإن انقشعت عُلِم حالهُ ونوعُه.
ثالثا: هؤلاء الكهان والعرافون أحيانًا يَصْدُقون.
والجواب: وفي الغالب يكذبون، وهذا الصدق الذي يكون أحيانًا يُعزى لواحدٍ من ثلاثة أمور:
1- إما أن يكون من وحي الشياطين، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223]، وقال : ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ ـ وَهُوَ السَّحَابُ ـ ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)) رواه البخاري. فإذا استرق السمع فربما أدركه الشهاب قبل أن يُلقي بالخبر إلى من تحته، وربما أدركه بعد ذلك، فيُوحى إلى الكاهن ومعه مائة كذبة، فقوله : ((فيكذبون معها)) أي: الشياطين.
وعن عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ)) رواه البخاري.
ولو كذب عليك شخصٌ مرة واحدة لكان العقل أن لا تصدّقه أبدًا، فكيف يُصدَّق سفيه كافر يتلقّى الخبر ومعه مائة كذبة؟!
وقد حَدَّث ساحرٌ تائب [1] أن من الحيل التي كانوا يستخدمونها لإضلال الناس أن يأتي إلى الساحر رجل فيطلب قرين الساحر ـ أي: شيطانه ـ من قرين الرجل أن يوسوس إليه بأمر، فيتفق القرينان على أمر معين يُخبر به الساحر، فيفكر فيه الرجل، فيقول له الساحر: أنت تفكر في كذا، فيتعجّب الرجل وما يدري أن الساحر والقرينين تلاعبوا به.
2- قد يكون مصادفةً محضة، يُسأل العراف عن شيء، ولا يوجد غير احتمالين، فيخمِّن ويصدق.
3- قد يخبر العراف عن شيء ويصدق باستنتاج منطقي سليم، أي: يقرأ الواقع الدال على ما أخبر به. مثلاً: يأتيه طالب يعرفه الكاهن، والطالب متميّز في دراسته، لم يرسب قط، فيسأله عن امتحانات هذا العام، فيخبره بنجاحه.
واسمع هذه القصة مع أنها ليست مع كاهن، وإنما حدثت مع إمام عظيم، ولكنها تدلّ على ما سبق تقريره:
كان الإمام الشافعي والمُزَني والربيع بمسجد، فجاء رجل يدور على النِّيام، فقال الشافعي للربيع: قل له: هرب لك عبد أسود مصاب في إحدى عينيه؟ فذهب إليه وسأله، قال الرجل: نعم، أين هو؟ قال: هيا إلى الشافعي، فسأله الرجل، قال: في الحبس، فوجدوه في الحبس، فقال له المزني: أخبرنا فقد حيّرتنا! قال: رأيته يدور على النيام فقلت: يطلب هاربًا، ورأيته يجيء إلى السُّودان دون البِيضان فقلت: يطلب عبدًا أسود، ورأيته يجيء إلى ما يلي العين اليسرى فقلت: مصاب في إحدى عينيه، فقالوا له: وكيف عرفت أنه في الحبس؟! قال: هذا هو الغالب، فإن العبيد إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا.
أيها المؤمنون، من جاء إلى كاهن أو عراف أو منجم أو دجال [2] يسأله عن أمر غيبي فلا يخلو حاله مما يلي:
1- أن يسأل ولا يصدق، وهذا لا تقبل صلاته أربعين يومًا، ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).
2- أن يصدقهم، وهذا كافر، قال : ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ )) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بحال المسؤول؟!
3- أن يأتيهم ليسمع فقط، وهذا فسق، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، وقال : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ)) رواه الترمذي.
4- أن يسأل لبيان عجزه للناس، وهذا سنة. قال النبي لابن صياد: ((إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا))، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)) رواه البخاري ومسلم.
فليحذر المسلم، وليجعل نصب عينه قول النبي : ((من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه)) رواه أحمد والترمذي، فمن تعلق بهم وكل إليهم، ومن وُكل إلى غير الله فأي خير ينتظر؟! وقال : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلا تُطُيِّرَ لَهُ، أو تَكَهَّنَ وَلا تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ)) رواه الطبراني في الكبير.
ولا يشترط أن تقفَ على باب الكاهن والمشعوذ, بل إن الإتيان يتحقق بقراءة برج الحظِّ في مجلة أو الجلوس عند قارئة الكفّ والفنجان أو مشاهدة بعض القنوات كما سيأتي. والتصديق يُتصوّر حصوله ولو لم يقع ما أخبر به العراف أو الكاهن؛ لأن مداره على القلب.
عباد الله، لقد خلق الله النجوم لثلاثة أمور، قال قتادة رحمه الله: "خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا. فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ" رواه البخاري.
قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6-10]، وقال: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 12]، وقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5]، وقال: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16].
فلا يُستدل بها على حوادث الأرض، قال : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. فالنجوم علامات يُستدلّ بها على الأمكنة والأزمنة، يستدل بها على دخول فصل الخريف أو غيره، ولكن لا يستدلّ بها على نزول المطر، ألسنا نجد هذا النوء بعينه سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر، ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرًا ما يكون في زمنها الأمطار؟! فالنوء لا تأثير له، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)) رواه البخاري ومسلم. ومنه نعرف خطأ الذين يقولون: إذا طلع النجم الفلاني ازداد هبوب الرياح؛ لأن النجوم لا صلة لها بالرياح.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين.
[1] هو حامد آدم موسى وفقه الله وثبته.
[2] الكاهن: الذي يتكهن بما في المستقبل، والعراف: الذي يدعي معرفة الماضي، والمنجم: من يستدل بالنجوم على أمور الغيب، والدجَل يشمل ذلك كله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن إتيان الكهان مشاهدة بعض الفضائيات، وأقف اليوم محذرًا من فضائية (كنوز)، وما شابهها في مادتها وبرامجها.
عباد الله، هذه القناة مليئة بالمحظورات والمخالفات العقدية، وهذه المحظورات وقفتُ عليها بنفسي، لم يخبرني بها زيد أو عمرو، ومنها:
1- التعامل مع الجانّ، فمن عباراتهم: (حدثني السر)، (حدثني سِرِّي)، (قال الروحاني).
2- ادعاء علم الغيب، ومن مظاهر ذلك: الإخبار بمشكلة المُتصِل بمجرد إخبارهم باسم والدة المتصل. ومما قالوه مرارًا: (سترزق طفلا)، (يأتيك رزق كبير)، وغير ذلك من الأباطيل. ولا ريب أنّ من يفعل ذلك يتعامل مع الجن.
3- التدليس على الناس بنصحهم بقراءة آيات معينة، وينصحون بتكرارها إلى حدٍّ معين؛ خداعًا ومكرًا، فإن السذَّجَ من المشاهدين يصدقونهم بحجة أنهم يرشدون إلى القرآن الكريم ويعالجون به وهم قد كفروا به، فعلينا أن لا ننخدع بمثل هذا. ما معنى أن يرشدوا إلى قراءة آيات معينة من القرآن وفي القرآن: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وهم يدعون علم الغيب ويخبرون عن أمور غيبية؟!
4- زرع الفتنة بين الناس. سمعت أحدهم يقول: (هذا العمل عمله أحد أقربائك)، (هذا العمل عمله أحد أقربائك يبدأ اسمه بحرف الخاء، أخبرني السرُّ بذلك). وهذا دأب الدجالين، يحبون إيقاع الفتن بين الناس.
ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأقول بناءً على ما سبق تقريره: من جلس أمام هذه القناة ومثيلاتها وصدَّق ما فيها فهو كافر بالله العظيم، لست أنا من يكفِّره، كفّره رسول الله ، وكما أنّ من الخطر العظيم تكفير المؤمنين فمن الخطر كذلك أن تشهد لكافرٍ كفَّره رسولُ الله بالإيمان. ومن اتصل عليهم وسأل ولم يصدق لم تقبل له صلاة أربعين ليلة. ومن شاهد ولم يصدق ولم يسأل لمجرد المشاهدة وقضاء الوقت فهو آثم كما سبق بيانه.
نسأل الله أن يجنبا الفتن، وأن يحفظ لنا ديننا، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه...
(1/5120)
الاعتداءات الإسرائيلية على حارة المغاربة وتكريم الإسلام للمرأة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المرأة, المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
يوسف جمعة سلامة
غزة
19/2/1428
المغازي الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاولات تهويد مدينة القدس. 2- تواصل عمليات الحفر والهدم. 3- تاريخ أوقاف المغاربة. 4- انتفاضة الأقصى. 5- نداء لأمة الإسلام. 6- وضع المرأة قبل الإسلام. 7- رعاية الإسلام لحقوق المرأة. 8- المرأة الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، تتعرض مدينة القدس بصفة عامة والبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة إلى سلسلة من الأعمال الإجرامية لتهويد هذه المدينة المقدسة، فبعد أن تم محاصرتها بجدار الفصل العنصري وفصلها عن جسدها وعمقها عن طريق المستوطنات المحيطة بها بدأ الإسرائيليون يركزون أعمالهم للسيطرة على البلدة القديمة ودرتها المسجد الأقصى المبارك، فقاموا بالسيطرة على باب المغاربة بعد حرب سنة 1967م مباشرة، ثم قاموا بعد ذلك بأيام بهدم حارة المغاربة وإزالتها عن الوجود، وطردوا مئات الأسر العربية، كما قاموا بعد ذلك بإحراق المسجد الأقصى المبارك، وبارتكاب مذبحة الأقصى الشهيرة، وبحرق باب الغوانمة، وبحادثة النفق سنة 1996م، وزيارة شارون للأقصى والتي كانت سببًا مباشرًا لاندلاع انتفاضة الأقصى المباركة استنكارًا لهذه الزيارة الإجرامية.
وقد شهدت الأيام الماضية أعمال تجريف إسرائيلية لهدم الممر والجسر الموصل لباب المغاربة وإزالة التلة الترابية وهدم غرفتين مضت قرون طويلة على إنشائهما، إنها تتحدث عن التاريخ والحضارة والأصالة، وهذا العمل يمس بجزء أصيل من المسجد الأقصى المبارك؛ لأن حائط البراق جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك، والذي تبلغ مساحته مائة وأربعة وأربعين دونما، وقبل أيام تم كشف النقاب عن اكتشاف بقايا غرفة صلاة إسلامية قديمة في التلة الترابية في باب المغاربة، اكتشفت في عام 2004م عندما انهار جزء من التلة في ساحة حائط البراق، وبقي الموضوع سريًا حتى الآن لدى المسؤولين الإسرائيليين، والحديث يجري عن مصلى هو جزء من مدرسة لتعليم الدين الإسلامي عملت من فترة صلاح الدين الأيوبي الفترة الأيوبية في القرن الحادي عشر قرب باب المغاربة.
أيها المسلمون، إن كل الدراسات تشير إلى أن الغرفة التي كان فيها محراب تعلوها قبة هي من المدرسة الأفضلية التي بناها الأفضل علي بن صلاح الدين الأيوبي الذي كان يشغل منصب حاكم القدس، وتولى الحكم بعد أبيه عن ولاية الشام.
إن وقف الأراضي والمساكن المحيطة بموضع البراق الشريف على طائفة المغاربة كان يهدف إلى مساعدة المغاربة من جهة وإلى المحافظة على منطقة البراق الشريف لأهميتها الدينية وارتباطها بإسراء النبي من جهة أخرى.
أيها المسلمون، عند دراستنا للسجلات الشرعية فإننا نجد أن أقدم وقفية للمغاربة في مدينة القدس هي وقفية الملك الأفضل نور الدين على بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وعليٌّ هذا هو الابن البكر للقائد صلاح الدين الأيوبي، حيث وقف للمغاربة المجاورين في القدس حارة لهم سنة 588هـ الموافقة لسنة 1192م، وهي ما يحيط ويتصل بموضع البراق الشريف من أراضي وغيرها على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم، كما أقام لهم مدرسة عرفت باسمه المدرسة الأفضلية نسبةً إليه في حي المغاربة، ووقفها على فقهاء المالكية، وحولت إلى سكن للمغاربة الفقراء في أواخر الحكم العثماني، وقد دمرها المحتلون بعد سنة 1967م. وقد سجلت هذه الوقفية في المحكمة الشرعية بالقدس بعد وفاة الموقف وذلك في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة 666هـ الموافقة لسنة 1267م، كما أعيد تسجيلها بمحكمة القدس الشرعية في 26 شعبان 1004هـ الموافق 25/4/1596م.
أيها المسلمون، لقد هبّ أبناء الشعب الفلسطيني للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، حيث شرفهم الله بأن يكونوا رأس الحربة في الذود عن أقدس مقدسات المسلمين في فلسطين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء ـ أي: من أذي ـ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
لقد قامت سلطات الاحتلال بمنع الفلسطينيين وخاصة سكان مدينة القدس وأهلنا داخل الخط الأخضر من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك لتكتحل عيونهم بالصلاة فيه، حيث بلغ عدد المصلين في الجمعة الماضية ما يقرب من ثلاثة آلاف مصلي، مع العلم بأن عدد جنود الاحتلال زاد عن عدد المصلين. لقد قامت الدنيا ولم تقعد عندما هدم معبد بوذا، وعقدت الاجتماعات على أعلى المستويات ومجلس الأمن، فأين هذه المؤسَّسات اليوم مما يحدث للأقصى الأسير من محاولات لهدمه وتصديع بنيانه ومنع أهله من الوصول إليه؟! أين هي حرية العبادة؟! وأين أدعياء حضارة القرن الحادي والعشرين؟!
فمن جوار المسجد الأقصى المبارك نوجّه نداء إلى المليار ونصف المليار مسلم الذين نحبهم ونفتخر بهم، فهم عمقنا الحضاري والعقدي، هذا العدد الكبير، فالقوة العددية نعمة وليست نقمة كما يتوهّم البعض، يقول الله تعالى: وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف: 86]، نناشدهم باسم القدس والأقصى الأسير وأهله المحاصرين ومؤسساته التي تحتاج إلى العون والمساعدة وتجّاره الذي يحتاجون إلى من يقف معهم ويدعم صمودهم أن يعمَلوا من أجل تحريرِ الأقصى والمحافظة على عروبة وإسلامية القدس، فإن الأقصى يخاطبهم كما خاطب صلاح الدين:
يا أيها الْملك الذي لِمعالِم الطغيان نكّس
جاءت إليك ظلامة تشكو من البيت الْمقدّس
كل الْمساجد طهرت وأنا على شرفي مدنس
أيها المسلمون، مهما تدلهم الخطوب وتتوالى الكروب وتتلبد الغيوم فهذه الغيوم لا بد أن تنقشع يومًا بإذن الله، فما بعد الضيق إلا الفرج، وما بعد العسر إلا اليسر، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آت بإذن الله رغم المشككين، فالله تعالى يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6]، فالعسر جاء معرَّفًا، والمعرفة إذا كرّرت كانت عين الأولى، واليسر جاء منكرًا، والنكرة إذا كررت كانت غير الأولى، فقد جاء في الحديث: ((لن يغلب عسر يسرين)) أخرجه الطبراني، وعنه أنه قال: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يحتفل الكثيرون في الثامن من آذار من كل عام بذكرى ما يسمّى بيوم المرأة العالمي، ونحن في كل مناسبة نبيّن وجهة نظر الإسلام كي يكون المؤمن على بينة من أمره، فالإسلام يوجد به عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى فقط، وما عدا ذلك فهي مناسبات وذكريات.
إن وضع المرأة قبل الإسلام كان سيئًا، فالبعض لا يعتبرها من البشر، والبعض الآخر يحرمها من أعز حقوقها وهو حق الحياة، وهناك الأنكحة الفاسدة التي تقلّل من شأن المرأة بل تهدد كرامتها، فالحقيقة التي يسجّلها التاريخ أن الإسلام أعطى المرأة من الحقوق ما لم تعطها لها القوانين والتشريعات الحديثة، فمع بزوغ فجر الإسلام عادت للمرأة كرامتها وحقوقها.
إن الشريعة الإسلامية قد أنصفت المرأة، ووضعتها في المكانة اللائقة بها كإنسان كرمه الله، وجعل بقاء النوع الإنساني مرتبطًا بوجودها مع الرجل، ولا يمكن أن تقوم الحياة على أساس وجود أحدهما دون الآخر؛ لأن هذا يعني فناء العالم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
وأعطى الإسلام المرأة حقوقها السياسية في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 12].
كما منحها الإسلام حقوقها الاجتماعية، وأعلن وجوب مشاركة المرأة للرجل في بناء المجتمع، فقرر لها حق ولاية الأعمال التي تأمر فيها بالمعروف وتنهى عن المنكر، وذلك صراحة بالآية الكريمة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
وقد بين القرآن الكريم كما بينت السنة المطهرة من الأحكام والآداب ما يقضي بأن النساء والرجاء سواء في العمل والجزاء، حيث إن جملة العقائد والعبادات والأخلاق والأحكام التي شرعها الله للإنسان يستوي في التكليف بها والجزاء عليها الرجال والنساء.
أيها المسلمون، لقد كانت المرأة منذ فجر الدعوة جنبًا إلى جنب مع الرجل، آمنت وتعرضت للتعذيب والإيذاء مثل الرجل، وهاجرت إلى الحبشة فرارًا بدينها، وهاجرت إلى المدينة دار الإسلام وحصنه، وجاهدت بكل ما أوتيت من قوة لإقامة الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة المنورة، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 159].
وقد كانت النساء على عهده يغشين المسجد فيشهدن الجماعة مع الرجال، يقول : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) أخرجه البخاري.
إن المرأة الفلسطينية قد سطرت صفحات مضيئة في تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينية، فهي أم الشهيد، وزوجة الأسير، وشقيقة الجريح، وابنة المبعد عن وطنه، فهنّ يصبرن على البلاء، ويرضَين بالقضاء، ويشكرن في الرخاء.
إن المرأة الفلسطينية امرأة صابرة على فراق زوجها ووالدها وشقيقها وابنها، ولفظ المرأة يطلق على البنت البكر، وكذلك على المرأة المتزوجة، قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص: 23]، ثم تواصلت الآيات إلى قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص: 27].
فألف تحية للمرأة الفلسطينية وكل النساء المخلصات العاملات لخدمة الوطن والعقيدة، ألف تحية إلى كل أم وزوجة وبنت وأخت، ألف تحية إلى الرجال والنساء العاملين، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة: 71].
نسأل الله أن يحفظ رجالنا ونساءنا وأبناءنا وبناتنا وشعبنا وأمتنا ومقدساتنا من كل سوء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5121)
تخلف الناس عن صلاة الاستسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
4/7/1414
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- قلة عدد الحاضرين لصلاة الاستسقاء. 3- الترغيب في حضور الاستسقاء. 4- الافتقار إلى الله تعالى. 5- خروج النبي للاستسقاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله حق تقواه، واعلموا أن الله سبحانه وبحمده يبتلي عباده بأسباب الابتلاء؛ ليميز الخبيث من الطيب، ولكي يزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويزداد الذين في قلوبهم مرضٌ رجسًا على رجسهم، يقول جلا وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
وأنتم ـ يا عباد الله ـ قد علمتم أنّ ولي الأمر حفظه الله قد أمر الأمّة في هذه البلاد المباركة بإقامة صلاة الاستسقاء طلبًا للرحمة من الله واستغاثة به سبحانه، كي يرحم البلاد والعباد، فيسقيها غيثًا مغيثًا، ولا يبلُوَها بالقحط فتشقَى وتنكد، ولكننا فوجئنا أن الحضورَ كان مؤلمًا ومخزِيًا؛ لأنّ الناس عن الحضور أحجموا، فكم من شخص قد نام كأنهم لا يريدون الرحمة، ولا يريدون الخير، كأنهم قد استغنوا عن رحمة الله، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24]، فالعذاب ـ نعوذ بالله من العذاب ـ إذا كان العذاب لا يجبرنا على الرجوع إلى الله فمتى يكون ذلك؟! وكيف تكون هذه الغفلة ونحن نرى آثار الجدب والقحط في دول ليست عنا ببعيد؟! هي الآن دولٌ منكوبة، يموت فيها الناس جماعات وأفرادًا جوعًا، ويتلقّفون الحسنات من دول غيرهم، حتى تعرّضوا لفتنة في دينهم، نعوذ بالله من ذلك، فنصل إلى أن يبتلينا الله ببعض ذلك فلا يتضرع الناس لربهم ولا يتذللون بين يديه، وهذه مصيبة عظيمة عمّت بها البلوى.
فأكثر النّاس اليوم لا يحضرون الصّلوات العارضة، مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف والكسوف، كأنهم لا يخافون الله، ولا يخشون ولا يرجون رحمته، ولا يخافون عذابه، ولا يطمعون بثوابه، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة: 42]، فأكثرهم ينتظر المباراة على التلفاز ولو كانت في وقت مبكّر جدًا، ولا يحرص على أن يسجد بين يدي ربه يتضرع إليه، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
صحيح أن الاستسقاء ليس فرض عين، وصحيح أيضًا أنها ليست واجبة، ولكن الأمر محزِن أن نرى ونعلم أن الذين لا يحضرون صلاة الاستسقاء في أتمّ صحة وعافية، وفي فرشهم يتقلبون، وعلى مواعيد الدوام يحرِصون، وإذا كان تشجيعًا لكرة تراهم في الشوارع يفحّطون، والمساجد تفتقر إلى ذلك الكمّ الهائل منهم إذا أصبح الأمر تضرّعًا لله ورغبة ورهبة وخشوعًا له، إذ الناس يحجبون كأنهم لا يريدون فضل الله ولا رضوانه، فالرب ينادينا: ((يا عبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)) ، ونقول له: لا نريد منك هداية! هذه هي الحال تنطِق بذلك فعلاً، والفعل أبلغ من القول، أين نحن وربنا الله الذي ليس لنا ربٌ سواه، الغني الحميد، الفعال لما يريد، كلٌ إليه مفتقر، وهو عن كل شيء غني سبحانه وبحمده، ومع ذلك يدعونا ويتقرب إلينا، يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، فنشحّ على أنفسنا حتى بالدعاء بحجّة النوم أو العمل أو غير ذلك، ومع أنها قد تكون النومة الأخيرة فلا نصحو بعدها، وقد يكون ذهابنا إلى العمل لا رجعة بعده.
وما يحزّ في النفس أن العذاب كان يعيد المشركين إلى ربهم فيدعونه مخلصين له الدين، ونحن أصبحنا حتى بالعذاب قليلٌ منا من يرجع، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف: 100].
فالبعض من الذين يتخلفون عن حضور صلاة الاستسقاء يظنون أن المياه موجودة في منازلهم في علوها وأسفلها، والماء متيسر على كلّ حالة، فلا يشعر بمزيد حاجة إلى نزول القطر من السماء، وأن المياه تصله باستمرار في بيته بكل يسر وسهولة بحمد الله ومنته، ولكن هل يعني هذا أن ننشغل أو نلتفت عن صلاة الاستسقاء؟! هل استغنى البعض عن رحمة ربه؟! إن أولئك الذين يظنون أن المياه متوفرة في كل لحظة ومن ثم لا يشعرون بمسيس الحاجة ومدى الحاجة إلى الغيث من السماء قد يجهلون قول الله جل وعلا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30]. والله، لو غارت المياه لعجزت قوى الجن والإنس وقوى البشرية بآلاتها ومخترعاتها ومحطاتها أن تجذب ولو قطرة واحدة من باطن الأرض؛ لأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الماء، وهو الذي أنزله، وهو القادر على أن يجعله جمادًا لا يخرج عبر هذه الأنابيب، وهو القادر على أن يجعله صلبًا لا يسيل فيها، وهو القادر على أن يحبسه عن العباد، ليعرفوا مدى ضعفهم، وليدركوا حقيقة ذلهم وفقرهم إلى خالقهم، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، فاشكروا الله على ما رزقكم وأن يسر لكم هذه النعم، واعلموا أن الله إذا أراد بقوم سوءا فلا مردّ له، قال سبحانه: وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11]، ولا تعتمدوا على ما عندكم من خزانات وصنابير للمياه وتظنون أنكم قد استغنيتم، فإن الله هو الملك، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فكان حريًا بالمسلمين إذا سمعوا نداء ولي أمرهم أن يلبوا ويستجيبوا؛ عسى الله أن يغيثهم ويرفع بلاءهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا لأمره ولا تعصوه.
أيها المسلمون، الاستسقاء سنة يلجأ إليها المسلمون كلما قلت الأمطار ووقع الجدب على بلدانهم، فيسألون الله غيثه، فلقد شكيَ القحط في زمن النبي كما جاء ذلك في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكذلك في غيرها من الأحاديث، قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع في المصلى، أي: مصلى العيد، فوعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر فحمد الله عز وجل، ثم قال: ((إنكم شكوتم جذب دياركم واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم، فقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم)) ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، واجعل ما أنزلته لنا قوة وبلاغًا إلى حين)) ، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلّى ركعتين، فأنشأ الله سبحانه وتعالى سحابة، فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى إلكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله)). فهذا فعل نبيّكم في صلاة الاستسقاء، فلنا في رسول الله أسوة حسنة.
فيا أيها المسلمون، احرصوا على حضور هذه الشعيرة حين يأمر ولي الأمر بإقامتها، فالتخلف عن صلاة الاستسقاء من غير عذر نفور وجفوة وإعراض عن ذكر الله وعن مسألته وإظهار الحاجة إليه، كما أن في إقامتها تلبيةً لدعوة وليّ الأمر لإقامتها، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، فإن كانوا في تأخّرهم هذا يظنّون أنهم في غنى عن المطر النازل من السماء فهم واهمون، قال الله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، والسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإنما ينزل منها المطر بإذن الله، ثم تنبت الأرض وتخضر وتورق الأشجار وتجري الأنهار في باطن الأرض وخارجها، ويتكون من ذلك أرزاق العباد والدواب بقدر الله، كما قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وقد سمى الله المطر النازل من السماء رزقًا في أكثر من آية، أضف إلى ذلك صحاري شاسعة وقرى واسعة وحاضرة وبادية في كل مصرٍ بحاجة ماسّة لريّ زروعهم ورعي مواشيهم، وقد روي عنه أنه قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
ولنعلم أن طلب المطر ليس خاصًا ببلد معين، وإنما هو لكل بلدان المسلمين المجدبة، فهلمّ ـ يا أخي ـ إلى المصلّى كلما دعا داعي الاستسقاء؛ عسى أن تنال من الله الخير والقبول والمغفرة، كما قال عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55، 56].
نسأل الله أن يغيثنا وأن يرحمنا وأن يردّنا الله وإياكم إلى دينه ردًا جميلاً.
ألا وصلوا على الرسول الكريم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الحوض المورود والمقام المحمود، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأربعة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون...
(1/5122)
مقتل المقيمين الفرنسيين على أيدي المفسدين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
12/2/1428
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تواصل مسلسل الأعمال التخريبية. 2- بشاعة جريمة قتل الفرنسيين المقيمين. 3- مخطّط الكيد لبلاد الحرمين الشريفين حرسها الله. 4- حرمة الأنفس المعصومة ووعيد الاعتداء عليها. 5- مفاسد هذا العمل الإجرامي. 6- التحذير من مسلك الخوارج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، حقيقة أن الفكر ليقف حائرًا أمام هذه الأحداث المؤلمة التي تتعرض لها هذه البلاد المباركة بين الفينة والأخرى، ولا أدري بماذا أبدأ وكيف أبدأ للحديث عن الاعتداء الأثيم هذا الأسبوع في المدينة المنوّرة، فكلما توقعنا واستبشرنا أن الفتنة خمدت وإذا بها تنبعث من جديد، ويبدأ معها مسلسل جديد من القتلى من المقيمين الفرنسيين في حادث إرهابي، نعم ضحيتها نفوس معصومة من المسلمين والمعاهدين الفرنسيين. إنه لحدث تحزن له القلوب المؤمنة، وتبكي عليه الأنفس الزكية؛ لما يحمله هذا الحدث من الغدر المشين والحقد الدفين والفكر المنتِن الأثيم.
لقد آلمنا وأقضَّ مضاجعنا ما حصل بالقرب من المدينة النبوية خلال هذا الأسبوع، والذي قامت به شرذمة باغية ـ عليها من الله ما تستحقه ـ من أعمال إجرامية وقتل نفوس معصومة من المسلمين والمعاهدين الفرنسيين، أعمالٍ لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ولا ترضي الله سبحانه وتعالى ولا رسوله ، ولا ترضي أمة الإسلام، ولا يعمل هذه الأعمال الإجرامية إلاّ أناس تجرّدوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، بل وتجردوا من إيمانهم وانتكست عقولهم. إن من يقوم بهذه الأعمال الإجرامية المشينة قوم طبع الله على قلوبهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم البشعة، حتى تنكروا لهذه البلاد المباركة وما تقوم به من جهود خيّرة وأعمال مشكورة لخدمة الإسلام ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، وهذا ينم في الواقع عن حقد دفين وسم زعاف يُكاد لهذا الدين وهذه البلاد الطاهرة التي تنعم بنعم لا توجد في غيرها؛ مما أثار حفيظة أعدائها وغاظهم ما تنعم به من سلامة العقيدة وتحكيم الشريعة ووفاق ووئام وأمن واستقرار ورغد عيش واتحاد وجمع كلمة وتوحيد صف والتحام بين الراعي والرعية، الأمر الذي أغاظ الأعداء وجعلهم يخططون لإزالة ما تنعم به هذه البلاد، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل إيجاد الفرقة والخلاف بين صفوف الأمة، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ونعمته على هذه البلاد ولو كره الكافرون ولو كره الحاقدون ولو كره المغرضون.
وما علموا أن هذه الأحداث وهذه الجرائم مهما كانت جسامتها فلن تزيد المجتمع ولله الحمد إلاّ تماسكًا وترابطًا وتلاحمًا، ولكن هذه الطغمة الفاسدة ومن وراءها من أعداء الإسلام والمسلمين لا يريدون للأمة أن تعيش في أمن وأمان وعيش رغيد، إنهم يريدون زعزعة أمنها وانتهاك حرماتها وإتلاف ممتلكاتها وإزهاق الأنفس البريئة، ضاربين بأحكام الشريعة الإسلامية وآي القرآن الكريم خلف ظهورهم، وقد كشفوا وأفصحوا بهذا العمل المشين عن شعاراتهم المزيفة، وأظهروا خزيهم، وبينوا عوارهم. فما حجة هؤلاء المجرمين يوم يقفون بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين حينما سفكوا دماء الأبرياء وروعوا الآمنين؟! وبأي دليل وبرهان يواجهون به رب الأرض والسموات حين دمروا البناء وأراقوا الدماء؟! إنها لمصيبة عظمى على مجتمع المسلمين أن يجترئ بعضهم على بعض، وأن يتجاوز بعضهم الخطوط الحمراء في الاعتداء على ولاية المسلمين. يا لها من جريمة! ويا لها من مصيبة! ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلط قذر يقع فيه أولئك المجرمون المفسدون الذين يقتلون الآمنين والمطمئنين ويعتدون على الناس بغير وجه حق.
ولا شك ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن كثرة قتل الأنفس في هذا الزمن إنما هو من علامات الساعة، روى الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويتقاربَ الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) ، قيل: ما الهرج؟ قال: ((القتل القتل)).
ولما رأى أعداء الله من اليهود والنصارى والحاقدين من أهل البدع والضلال هذا الخير الذي تنعم به بلادنا وما حباها الله من النعم وما هي عليه من تحكيم للشريعة وإقامة للحدود وحماية للتوحيد ونشر للعقيدة السلفية التي كان عليها رسول الله وحماية للحرمين وميل المسلمين إليها من كل العالم، لما رأوا كل ذلك كادوا لها المكائد، ودسوا لها الدسائس، يريدون إزالة هذه النعمة وتغيير هذا الخير وهدم آخر معقل من معاقل الدين الحق في هذا البلد، فأصبحوا يثيرون الشبه حولها، ويرمونها بما هي منه بريئة، ويؤيّدون من يطعن فيها ظلمًا وعدوانًا، وينشرون مقالاتهم، ويمدونهم بالإذاعات والقنوات، ويدعون إلى نشر الفوضى فيها، وكلما أرادوا فتنة بها أطفأها الله، واستعان اليهود والنصارى ببعض المسلمين الذين انحرفوا عن الدين الحقّ وخاصة من الشباب من أهل البدع والضلال من حيث يشعرون أو لا يشعرون ليتعاونوا جميعًا على الإثم والعدوان، وليفسدوا في هذا البلد الطاهر بشتى أنواع الإفساد.
عباد الله، لقد حصلت في بلادنا هذه أمور عظيمة من سفك للدماء المعصومة من مسلمين وغيرهم بغير حق وانتهاك للحرمات وإرهاب لعباد الله المؤمنين وترويع للآمنين وإتلاف للأموال العامة والخاصة، من قِبَل أناس غلوا في دين الله، فحصل منهم من الشرور العظيمة والمخازي المؤلمة ما يندى له جبين أهل الحق وأهل السنة. وإنه قد اتفقت كلمة علماء أهل السنة في هذا البلد وفي غيره على حرمة هذه الأعمال لما فيها من اعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر وهتك لحرمات الدين في الأنفس والأموال والأمن والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الإجرام وأمثاله كثيرة معلومة.
ولا شك أن هذا العمل إجرامي مقيت وعدوان فاحش وظلم عظيم ولون من ألوان الفساد والإفساد في الأرض وصورة من صور المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأفٍّ لنفس تتوق لقتل الأبرياء وتستمرئ إراقة الدماء المعصومة وتفرح بتناثر الأشلاء، ذلكم أن قتل النفس المعصومة من أعظم الذنوب، وقد عده النبي من أكبر الكبائر، فلقد حرم الإسلام قتل النفس المعصومة بغير حق، وشدّد فيها تشديدًا قطعيًا، فنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، لقد أعد الله لقاتل النفس المؤمنة بغير حقّ أربع عقوبات عظيمة يستحقها من الله صاحب الجريمة: جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام: 151]، وقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم، فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ عظمة الإسلام، وانظروا ـ حفظكم الله ـ عظمة التشريع، قتل نفس واحدة يعادل قتل الناس من أول خلق آدم إلى قيام الساعة، فإنّ من قتل نفسًا واحدة ظلمًا فكأنما قتل هؤلاء العالم جميعا، ويقول النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق عن الدين التارك للجماعة)) متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((لا يزال المؤمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حراما)) ، ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) ، وقال رسول الله قال: ((لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق)) ، ومما جاء في خطبة الوداع تشديد النبي على حرمة هذه الأشياء حين سأل الناس: ((أتدرون في أيّ يوم أنتم، وفي أي شهر، وفي أي بلد؟)) فقالوا: في يوم حرام، وفي شهر حرام، وفي بلد حرام، فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
يا لها من جريمة! ويا لها من مصيبة! ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلّط قذر يقع فيه أولئك المجرمون المفسدون في الأرض الذين تسلطوا على الآمنين المطمئنين من المسلمين والمعاهدين وروعوهم، بل وسفكوا دماءهم ظلمًا وعدوانًا، وأفسدوا في الأرض، وشوهوا صورة الإسلام الناصعة وسمعة التديّن وسمعة الدعوة بأعمالهم الإجرامية وموبقات ارتكبوها، وأتاحوا الفرصة لأعداء الإسلام باتهامه مما هو بريء منه من الإرهاب وإزهاق الأنفس البريئة بغير حق، وليس لهم أيّ مبرر أو أي حجة في ذلك، إن جميع التأويلات التي يستند إليها من يرتكب هذه الأعمال الإجرامية الإرهابية باطلة؛ لأنها تخالف نصوصًا ثابتة وقطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
أيها المسلمون، إن الجرأة على الدماء والتساهل في أمرها إنما هو جرأة على محارم الله واعتداء على حدود الله وتلاعب بشرع الله وخروج على ولي الأمر في هذه البلاد المباركة، وهذا في الحقيقة يعتبر جرمًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا، وهو محرم في شرع الله تبارك وتعالى؛ لما يترتب من الخروج على ولي الأمر من فساد كبير وشر عظيم، ومن مقتضى البيعة النصح لولي الأمر لا الخروج عليه، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، بل إنها من إخفار الذمة الذي جاء الوعيد بالتحذير منه، ورتّب على ذلك الطرد والإبعاد عن رحمة الله، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا)) متفق عليه. فكيف بمن أخفر ذمة ولي أمر المسلمين؟! وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ألا من قتل نفسا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا)) صحيح لغيره.
نسأل الله تعالى أن يقوي رجال أمننا على تعقّب المجرمين والمفسدين, كما نسأله أن يصلح الأحوال، وأن يبصرنا وإياكم بالحق، وأن يهدينا لاتباعه، وأن يريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، المعظمين لحرمات الله، المحافظين على أمن المسلمين في أوطانهم وفي ديارهم، القائمين بحق الله تبارك وتعالى، المجتمعين على طاعته، إنه تعالى سميعٌ مجيب الدعوات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أنقذنا بالوحي من درك الضلالة، أحمده سبحانه وأشكره، أكرمنا بنور العلم المبدّد لظلمات الجهالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أكرمه بالنبوة وشرفه بالرسالة، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن تعجب ـ أيها المبارك ـ فإن لكل قوم وارث، وإن سلف هؤلاء طائفة يقال لها: النجدات؛ أتباع نجدة بن عامر الخارجي، قال عنه الشهرستاني في كتاب الملل والنحل: "واستحلَّ نجدة بن عامر دماء أهل العهد والذمّة وأموالهم في حال التقية، وحكم بالبراءة ممن حرمها".
أيها المسلمون، إن مثل هذه العمليات الإجرامية إنما يراد منها إرسال رسائل ـ ولكن إشارتها ضعيفة ـ أننا ما زلنا موجودين، وهي في حقيقتها رفسة من رفسات الشاة المذبوحة وهي تلفظ أنفاسها.
نعم، إن مما ينبغي التفطن له ويخشى منه أن تشوّه سمعة هذا البلد الطيب وتلطخ بما هي منه براء على أيدي غوغائية لا يرقبون في مؤمن أو معاهد إلاًّ ولا ذمّة، كيف لا وقد قدِم هؤلاء الأبرياء إلى هذه البلاد أحياء ولكن مع الأسف عادوا في توابيت فضلا عن ترمّل زوجاتهم وتيتّم أبنائهم وبناتهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد وصف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء مقتل الفرنسيين على أيدي مجهولين بأنّه كبيرة من كبائر الذنوب وعمل إجرامي شنيع، لا يمكن تبريره إطلاقا، وقال سماحته: إن حقن الدماء واجب في حقّ غير المسلمين، فكيف إذا كانوا مسلمين قاصدين بيت الله عز وجل لأداء العبادة؟! مؤكدا أنه عدوان وضلال كبير، وحذر سماحة المفتي العام الشباب من الانسياق والانجرار وراء ما يكتب من ضلالات وأباطيل وشبهات في منديات الإنترنت التي يتزعّمها أناس مجهولون، لا يعرفون العلم الشرعي الصحيح ويتستّرون بأسماء وهميّة.
أيها الإخوة الكرام، إن هؤلاء الجناة، إن هؤلاء المجرمين الذين أجرموا في حقّ بلدهم وفي حق إخوانهم المسلمين وفي حقّ دينهم وفي حق ولايتهم ينفّذون ما يريده أعداء الإسلام ببلاد المسلمين، إذا كان أعداء المسلمين يقتلون إخواننا في فلسطين ويقتلون إخواننا في العراق أو في غيرها من بلاد الإسلام ونحن نتألم ونضجّ ونرفع أيدينا إلى الله داعين لإخواننا بالنصر وداعين على أعداء المسلمين بالذلّ فماذا نفعل بمن يعتدون علينا في بلادنا؟! ماذا نقول لمن يحقّقون ما يريده أعداؤنا؟! إن ما يريده أعداء هذه البلاد أن تقوّض من داخلها، وأن يهدمها أبناؤها، وأن يضطرب الأمن فيها على أيدي بعض سفهائها، فهؤلاء لا يرضون بأفعالهم إلا أعداء الإسلام، ولا يحققون إلا مراد أعداء الدين، كأنهم يقومون بنفس الفعل الذي يقوم به اليهود وأعداء الإسلام في بلاد الإسلام الأخرى، لقد قامت هذه الشرذمة الضالة وهذه الفئة المخطِئة بما يريده أعداء الإسلام من زعزعة أمن بلاد المسلمين وبلاد الحرمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ألا فليخسأ المفسدون في الأرض، وليرتدوا على أدبارهم، فلن يصلوا إلى ما يريدون، ولن يهزّوا من هذه البلاد أيّ قناة، وإنها بلاد عرفت وجرّبت مواثيقها، فبلادنا تمدّ الخير إلى بلاد الدنيا بالإنقاذ والإغاثة والإعانة وتوزيع كتاب الله وتوزيع الكتب الإسلامية ونشر الدعاة، إنها بلاد تصدر الأمن والأمان للعالم، ومع ذلك يريد الحاقدون أن يثنوها عن مسيرتها، فلن يستطيعوا ذلك أبدا.
نسأل الله تعالى أن يحمي بلاد الحرمين من شرور المعتدين ونيل المجرمين، وأن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ في بقيتهم حكم شريعة الله المطهرة، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صالح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين.
ألا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله سيدنا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام...
(1/5123)
قتل غير المسلم في ميزان الإسلام
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الولاء والبراء, قضايا دعوية
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب البراءة من الكفار والنهي عن ولائهم ومحبتهم. 2- أقسام الكفار والموقف الشرعي من كل قسم. 3- سعة رحمة الإسلام. 4- الإحسان للكفار غير المحاربين. 5- استنكار قتل الفرنسيين المقيمين. 6- جريمة قتل المسلمين والمعاهدين. 7- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. 8- تحريم الظلم والعدوان. 9- احترام النفس البشرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إنَّ وجوب معاداة الكفار وبغضهم وتحريم موالاتهم ومحبتهم جاءت في كتاب الله صريحة ومتنوّعة، ومن الآيات الدالة على هذا الأمر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ [الممتحنة: 1]. وموالاة الكفار ومحبتهم منكر عظيم قد يخرج الإنسان من دين الإسلام بالكلية، إلا أن الكافر لا يخلو إما أن يكون حربيًا، فهذا ليس بيننا وبينه إلا إظهار العداوة والبغضاء له، وإما أن يكون ليس بمحارب كالذمي والمستأمن والذي بيننا وبينه عهد، فهذا يجب مراعاة العهد الذي بيننا وبينه، فيحقن دمه، ولا يجوز التعدي عليه، وتُؤدَّى حقوقه إن كان جارًا، ويزار إن كان مريضًا، وتجاب دعوته، بشرط دعوته للإسلام في كلّ هذه الحالات، وهذه هي رحمة الإسلام بكل الخلائق مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]، قال الألوسي رحمه الله في روح المعاني (9/76): "أي: شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، وما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في رحمة الله"، وقال السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (1/305): " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي: من العالم العلوي والسفلي والبر والفاجر والمؤمن والكافر، فما من مخلوق إلا قد وصلت إليه رحمة الله وغمره فضله وإحسانه، لكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها سبحانه: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: يتقون المعاصي صغارها وكبارها".
عباد الله، إنَّ الإسلام دين الرحمة، وإن المسلمين أمّة الرحمه، قال رسول الله : ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) رواه الترمذي (1924) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وقوله : ((ارحموا من في الأرض)) شامل للإنسان مسلما أو كافرا، وللحيوان كذلك، وعلى هذا حمله العلماء. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (10/440): "قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم".
وقد وردت أدلة أخرى يدل عمومها على أن هذا الشمول مقصود، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بالتراحم بينهم، فقال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ، والكفار الذين يكون المؤمنون أشداء عليهم هم المحاربون لهم المعتدون عليهم، الذين يقاتلونهم ويخرجونهم من ديارهم أو يظاهرون عليهم، أما غير هؤلاء فيجب رحمتهم وعدم إيذائهم بقول أو فعل امتثالا لقول الله تعالى: لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8، 9].
وهذا نداء رباني نوجهه لأولئك الذين قاموا بقتل الرعايا الفرنسيين، فوقعوا بجهلهم في شرّ أعمالهم، ولم يعلموا أن ممَّن قتِل كان مسلما، يحرم قتله أو إيذاؤه، لقد قتلوا النفس المسلمة بغير حقّ ولا وجه، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ومن قتل معاهدا أو ذميا بغير حق لم يرح رائحة الجنة، قال : ((من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)) رواه البخاري (3166)، والله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وجاء في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قَال: قال رسول الله : ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) رواه البخاري (6941) ومسلم (2319)، وهو نفي عام يدخل فيه كل الناس، والنفي هنا للوعيد والتحذير والتنفير من العدوان على الناس.
عباد الله، إن الواجب والأصل أن يقوم المسلمون بدعوة غيرهم إلى هذا الدين؛ ليتمتعوا برحمة الله في منهج حياتهم الدنيا، ولينالوا رضاه ورحمته في الآخرة، تحقيقا لقول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وليكن أساس دعوتهم اللّين والحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله تعالى بذلك نبيه، وأمرُه أمرٌ لأمته، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]، وجاء في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله قال لعلي رضي الله عنه عندما أرسله إلى يهود خيبر: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) رواه البخاري ومسلم، فالمسلمون هداة رحماء، يجاهدون في سبيل الله من اعتدى عليهم وعلى دينهم، ليحفظوا بجهادهم ضرورات حياة البشر من الدين والنفس والنسل والعقل والعرض والمال، يجاهدون دفعا لعدوان المعتدين على المسلمين، ودحرا لمن يقف أمام دعوة الله في أرض الله، ولمن يقف ضد تطهير الأرض من براثن الشرك والفساد، وعين الرحمة مجاهدة كل من يأبى الإسلام ليدخل الإسلام رحمة به وخشية عليه أن يموت على الكفر فيدخل نارا خالدا مخلدا فيها أبدا، وهذه مرحلة تأتي بعد مرحلة الدعوة باللين والرفق والحكمة، والرفقُ ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وجهاد الطلب يكون بإذن إمام المسلمين إذا توفرت فيه القدرة والاستطاعة، فمتى ما تحقق الشرطان جاهدنا باللسان والسنان، فمن أبى إلا البقاء على دينه ألزمناه بدفع الجزية مقابل حماية نفسه وعرضه وماله طالما يعيش بيننا، وله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين من أمور الدنيا، هذا هو عدل الإسلام الذي لا يُكرِه على الإسلام أحدا، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256]، ويقول سبحانه: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29].
عباد الله، لقد حرّم الله تعالى الظلم، وحرّمه على ذاته المقدسة، فقال سبحانه في الحديث القدسيّ: ((يا عبادي، إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّما، فلا تظالموا)) رواه مسلم. وإنَّ ما علَّمنا إيَّاه ديننا وأمرنا به ربُّنا هو العدل والقسط حتى مع من نبغض ونكره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، وفي القصاص والعقاب أمرنا ربُّنا سبحانه بالعدل فقال سبحانه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ فكيف بمن لم يؤذِنا؟! أليس من الظلم الاعتداء عليه؟! يقول الإمام القرطبيُّ في قوله تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الآية: ودلَّت الآية أيضًا على أنَّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، فالعدل هو منطق ديننا وأساسه، ولا يقوم ديننا بغيره، ولا نكون مسلمين إن لم نعدل، قال : ((ما من مسلمٍ يدعو الله عزَّ وجلَّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال)) الحديث، رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح. فلا يجوز الدعاء بإثم، وهدي نبينا الدعاء للغير بالهداية، ومن ذلك قوله : ((اللهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون)) ، بل رفض عليه الصلاة والسلام حين آذاه قومه ما عرضه عليه ملَك الجبال حين قال له: يا محمد، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي: الجبلين ـ، فقال النبيُّ : ((لا، بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) ، وروى البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إنَّ دوسا قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقال: ((اللهمَّ اهدِ دوسًا وائت بهم)) ، فدعا لهم بالهداية ولم يدع عليهم، وروي عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أحرقَتْنا نبال ثقيفٍ فادع الله عليهم، فقال: ((اللهمَّ اهد ثقيفًا)) رواه أحمد والترمذيُّ بسندٍ صحيح.
عباد الله، ما كان ديننا ليظلم، وما كان المسلمون بظلمة، ولا تجتمع رسالة الهداية مع منطق العدوان العامِّ الشامل. قواعد ديننا تأمرنا أن لا نظلم، وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام في دعائه أن لا ندعو بإثم، فالعدل مطلوبنا ومركوبنا امتثالا لكتاب ربنا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
كان رسول الله يوما جالسا فمرت جنازة من أمامه فقام لها فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفسًا)) أخرجه الإمام البخاري. وهذا يدل على عظمة حرمة النفس التي خلقها الله. وفي عدل عمر يتجلى لنا الإسلام، رأى الفاروق رضي الله عنه شيخًا متوكئًا على عصاه يسأل الناس، فسأل الفاروق عنه، فقيل: إنه كتابي، وفي رواية: نصراني، فقال: خذوه إلى بيت المال، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته وتركناه عند شيبه. وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذبحت في بيته شاة فقال: أهديتم لجارنا اليهودي منها؟ قالوا: لا، قال: أهدوا إليه، فإني سمعت رسول الله يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) أخرجه الإمام البخاري.
فهذا ديننا، وهذه شريعتنا، فلنتمسك بها دونما عاطفة أو هوى، امتثالا لقول ربنا جل وعلا: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43]، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5124)
أسباب حسن الخاتمة وسوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
26/2/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الله تعالى. 2- فضل الأعمال الصالحة. 3- ذم الأعمال السيئة. 4- الحرص على حسن الخاتمة. 5- عناية الصالحين بحسن الخاتمة. 6- أسباب التوفيق لحسن الخاتمة. 7- خوف السلف من سوء الخاتمة. 8- صور لسوء الخاتمة. 9- أسباب سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ ـ عِبادَ الله ـ حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه.
عبادَ الله، إنَّ ربَّكم غَنيٌّ عَنكم، لاَ تَضرُّه مَعصيةُ من عَصَاه، ولا تَنفعُه طاعةُ مَن أطاعَه، كما قال الله تعالى في الحديثِ القدسيّ: ((يا عِبادِي، إنّكُم لن تَبلغوا ضرِّي فتَضرُّوني، ولَن تبلغُوا نفعِي فتنفَعوني)) رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه [1] ، وكما قالَ تعالى: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176].
فالأعمَالُ الصَّالحَاتُ سَبَبُ كلِّ خَيرٍ في الدّنيَا والآخِرة، وأفضلُ الأَعمَالِ وأَعظَمُها أَعمَالُ القُلوبِ كالإخلاصِ وكَالإيمَانِ والتوكُّل والخَوفِ والرَّجَاءِ والرَّغبَةِ والرَّهبةِ وَحُبِّ مَا يحِبُّ الله وبُغضِ ما يُبغِض الله وتَعلُّق القَلبِ باللهِ وَحدَه في جَلبِ كُلِّ نَفعٍ ودفعِ كلِّ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17].
وَأَعمَالُ الجَوارِحِ الصّالحةُ تَابِعةٌ لأَعمالِ القُلُوبِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ : ((إنَّمَا الأعمَالُ بالنّياتِ، وإنمَا لِكُلِّ امرِئٍ ما نَوَى)) رواه البخاريّ ومسلم من حديث عُمرَ رضي الله عنه [2].
والأعمَالُ السَّيِّئة الشِّرِّيرَة سَبَبٌ لِكُلِّ شرٍّ في الدّنيَا والآخِرة، كما قَالَ تَعَالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشّورَى: 30]، وقَالَ تَعَالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وَالعَبدُ مَأمُورٌ بالطّاعاتِ وَمَنهِيٌّ عن المحرَّمَاتِ في جمِيعِ الأوقاتِ، ولكنَّه يَتَأَكَّد الأَمرُ بالعَمَلِ الصَّالحِ في آخِرِ العُمر وفي آخِرِ ساعةٍ مِنَ الأجَل، ويَتَأَكَّد النَّهيُ عَنِ الذّنوبِ في آخرِ العمرِ وفي آخر ساعةٍ من الأجَل؛ لقَولِ النبيِّ : ((إنما الأعمَالُ بالخَواتِيمِ)) رواه البخَاريّ من حديث سَهل بنِ سعدٍ رضي الله عنه [3].
فمَن وفَّقَه الله للعَمَلِ الصَّالحِ في آخر عمرِه وفي آخرِ ساعةٍ من الأجَل فقَد كتَب الله له حُسنَ الخاتمة، ومَن خذَله الله فَخَتَم ساعَةَ أجلِه بعَمَل شرٍّ وذَنبٍ يُغضِب الربَّ فقد خُتِمَ له بخاتمةِ سُوءٍ والعياذُ بالله.
وَقَد حثَّنَا اللهُ تَعَالى وأمَرَنَا بالحِرصِ عَلَى نَيلِ الخاتمةِ الحسَنةِ، فقَالَ تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
والسَّعيُ لحُسنِ الخَاتمَةِ غَايَةُ الصَّالحِينَ وهِمّةُ العِبادِ المتَّقِين ورَجاءُ الأبرارِ الخائفِينَ، قالَ تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 132]، وَقَالَ تَعَالى في وَصفِ أُولي الأَلبَابِ: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران: 193]، وَقَالَ تَعَالى عَنِ التَّائِبِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126]، وعن عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يَقولُ: ((إنّ قلوبَ بني آدَمَ كلَّها بين أصبعَين من أصابعِ الرحمنِ عزَّ وجلّ كقَلبٍ واحد يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ)) ، ثم قال رسولُ اللهِ : ((اللَّهُمّ مصرِّفَ القلوب، صرّف قلوبَنا على طاعتك)) رواه مسلم [4].
فمن وفَّقه الله لحُسنِ الخاتمةِ فقَد سعِد سعادةً لا يَشقَى بَعدَها أبدًا، ولاَ كَربَ عليه بعد ذلكَ التّوفيقِ، ومَن خُتِمَ لَه بسوءِ خاتمةٍ فقَد خسِرَ في دنياه وأُخرَاه.
وَالصّالحونَ تَعظُم عِنايَتُهم بالأعمَالِ الصالحةِ السّوابِقِ للخَاتمَة، كمَا أنَّهم يجتَهِدُونَ في طَلَبِ التَّوفِيقِ للخَاتمةِ الحَسَنَةِ، فيُحسِنون الأعمالَ، ويحسِنونَ الرَّجاءَ والظنَّ بالله تَعالى، ويُسيئُون الظنَّ بأنفسِهِم، كمَا قَالَ تَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218].
وَمَن صَدَق اللهَ في نِيّتِه وعَمِل بِسُنّةِ رَسولِ اللهِ واتَّبعَ هَديَ أَصحَابِه فقَد جَرَت سُنّةُ الله تَعالى أَن يختمَ له بخَيرٍ، وأَن يجعَلَ اللهُ عواقبَ أمورِه إلى خَيرٍ، قَالَ تَعَالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف: 30]، وقال تَعَالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 112]، وَقَالَ تَعَالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143].
وَأَسبَابُ التَّوفِيقِ إلى حُسنِ الخاتمةِ النِّيةُ الصَّالحةُ والإخلاَصُ لله تعالى؛ لأنَّ النيةَ الصَّالحةَ والإخلاصَ شُرطُ الأعمالِ المقبولةِ عندَ الله عز وجلّ.
ومِن أَسبابِ الخَاتمةِ الحَسَنَةِ المحَافَظَةُ عَلَى الصَّلواتِ جمَاعَةً، ففِي الحدِيثِ عن النبيِّ : ((من صلّى البَردَين دَخَل الجنة)) رواه البخاريّ ومسلم من حَديث أبي مُوسَى رضي الله عنه [5]. والبردَان الفجرُ والعَصر، وصلاةُ المرءِ لهما دَليلٌ على أنه يحافَظ علَى غَيرهما مِن بابِ أولى.
وَمِن أَسبابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمةِ الإيمَانُ والإِصلاحُ، قال الله تَعَالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [الأنعام: 48].
وَمِن أسبَابِِِ تَوفيق الله لحسنِِ الخاتمة تقوَى الله في السّرِّ والعَلَن بامتِثالِ أَمرِه واجتِنابِ نهيِه والدَّوامِ عَلَى ذلك، قَالَ اللهُ عز وجلّ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
ومِن أَسبَابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمَةِ اجتِنَابُ الكبائِرِ وعَظائِمِ الذّنوبِ، قال عز وجلّ: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31].
ومِن أَسبَابِ التّوفِيقِ لحسنِ الخاتمَة لُزومُ هَديِ النَّبيِّ وَاتِّبَاعُ طَرِيقِ المهَاجِرِينَ والأنصَارِ والتّابعينَ لهُم رَضي الله عنهم بإحسانٍ، قال اللهُ تَعَالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، وَقَالَ تَعَالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة: 100].
ومِن أَسبَابِ التَّوفِيقِ لحسنِ الخَاتمَة البُعدُ عَن ظُلمِ النَّاسِ وعَدَمُ البَغيِ والعُدوانِ عليهم في نفسٍ أو مالٍ أو عِرضٍ، قال : ((المُسلِمُ مَن سَلِم المسلِمون من لِسانِه ويَدِه، والمهَاجِر من هجَر ما حرَّم الله)) [6] ، وعن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قالَ رَسول اللهِ : ((واتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنّه لَيسَ بَينَها وبينَ الله حِجَابٌ)) رواه البخاريّ [7] ، وفي الحديثِ: ((مَا مِن ذَنبٍ أسرَع مِن أَن يُعَجِّل اللهُ عُقوبتَه من البَغيِ وقطيعةِ الرَّحِم)) [8].
ومِن أسبَابِ التَّوفِيقِ لحسنِ الخَاتمةِ الإحسانُ إلى الخلقِ، قال الله تَعَالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].
وصِفَةُ السَّخَاءِ وسمَاحَةُ النَّفسِ مَعَ الإسلاَمِ سَببٌ للتَّوفيق لحُسنِ الخاتمَةِ، قَالَ : ((صَنَائِعُ المعروفِ تقِي مصارعَ السّوء)) [9].
ومِن أَسبابِ حُسنِ الخاتمَة العَافِيةُ مِنَ البِدَعِ، فإنَّ ضَرَرَها كبِير وفَسادَها خَطيرٌ، والبِدعُ هي التي تفسِدُ القلوبَ وتهدِم الدّينَ وتنقُضُ الإسلامَ عُروةً عروةً، قال تَعَالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، وَهَؤلاءِ المنعَمُ عَلَيهم مُبرَّؤونَ مِنَ البدَع كُلِّها.
ومِن أسبَابِ حُسنِ الخاتمَة الدُّعاءُ بذَلِك للنَّفسِ، قال اللهُ تَعَالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وفي الحَدِيثِ: ((لاَ يُنجِي حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، والدُّعاءُ يَنفَع ممّا نزَلَ ومما لم ينزِل)) [10]. ودُعاء المسلِمِ لأخيهِ المسلِمِ بحُسنِ الخاتمةِ مُستَجَابٌ، وفي الحديث: ((ما مِن مسلمٍ يَدعو لأخيه بالغَيبِ إلاَّ قال الملك: آمين، وَلَك بمثله)) [11].
فاسْعَوا ـ رحمكم الله ـ إلى تحصِيلِ أَسبابِ حُسنِ الخاتمةِ ليوفِّقَكم الله إلى ذَلِك، واحذَروا أَسبابَ سوءِ الخاتمة؛ فإنَّ الخَاتمةَ السيِّئةَ هي المصِيبةُ العظمَى والدَّاهيَةُ الكبرى والكَسرُ الَّذي لا ينجَبِر والخُسران المبين والعياذُ بالله، فقَد كانَ السَّلَفُ الصالح يخافونَ مِن سوءِ الخاتمَةِ أشدَّ الخَوفِ، قال البخاريّ في صحيحِه: "قال ابنُ أبي ملَيكة: أدرَكتُ ثلاثين من الصّحابةِ كلُّهم يخافُ النّفاقَ على نفسِه" [12] ، وقال ابنُ رجب: "وكان سفيانُ الثّوريّ يَشتَدّ قلقُه منَ السَّوابِقِ والخَواتمِ، فكان يبكِي ويقولُ: أخافُ أن أكونَ في أمِّ الكتاب شَقيًّا، ويَبكِي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمانَ عندَ المَوتِ" [13] ، وقال بَعضُ السلَف: "ما أبكَى العُيونَ ما أبكاها الكِتابُ السّابِقُ"، وقد قيل: "إنَّ قُلوبَ الأبرارِ معلّقَةٌ بالخَواتِيم يقولون: بماذا يُختَم لنَا؟ وقلوب المقرَّبين معلّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبَق لنا؟"، وكان مَالِك بنُ دينار رحمه الله يقوم طولَ ليلِه ويقول: "يا رَبِّ، قد عَلمتَ سَاكنَ الجنة والنار، ففي أيِّ منزلٍ مَالِكٌ؟" [14]. وكلامُ السّلَفِ في الخاتمةِ والخَوفِ منها كثيرٌ.
ومَن وقَف عَلَى أخبَارِ المحتَضَرِينَ عِندَ الموتِ وَشَاهَدَ بَعضًا مِنهم اشتدَّت رَغبةُ المسلِم في تحصيلِ أسبابِ حُسن الخاتمة؛ ليَكونَ مع هَؤلاءِ الموفَّقين لحسنِ الخاتمةِ، فقد شُوهِدَ بعضُهم وهو يَقولُ: مَرحَبًا بهذهِ الوُجوهِ التي لَيسَت بوجُوهِ إنسٍ ولا جَانّ، وشُوهِد مِنَ المحتضَرينَ من يَلهَج بِلا إلهَ إلا الله، ومَن كان آخرُ كلامِه من الدنيا لا إله إلا الله دَخلَ الجنّةَ، وشوهِد بعضُهم يتلو القرآنَ، وشُوهِدَ بَعضُ المحتَضَرين وهو يُقَسِّم مسائلَ الفرائِض ويتكلَّم في مسائلِ العِلمِ، وقال بعضُهم: لا تخَافُوا عليَّ فقد بُشِّرتُ بالجنّة السَّاعَةَ، قال بَعضُ أهلِ العِلم: "الخواتيمُ ميراثُ السَّوابِق".
فَكونوا ـ عبادَ الله ـ مِنَ الموفَّقين، فمَن سَلَكَ سبيلَهم حُشِر مَعَهم، ولا تسلُكوا سبُلَ الهالِكين المخذُولِين الذين خُتِم لهم بخَاتمةِ سُوءٍ والعياذُ بالله، قال عَبدُ العزيز بن أبي رَوّادٍ: "حَضَرتُ رجلاً عندَ الموتِ يلقَّن: لا إلهَ إلا الله، فقالَ في آخر مَا قَالَ: هُو كافِرٌ بهَا، وَمَاتَ عَلَى ذلك، قالَ: فسألتُ عنه فإذا هُوَ مُدمِنُ خمرٍ، وقيل لآخر عند الموت: قل: لا إلهَ إلا الله، فقال: عشَرةٌ بأحَدَ عشَر، وكان مُرابيًا، وقيل لآخر: اذكُرِ اللهَ وقل: لا إله إلاّ الله، فقال: رِضا الغُلامِ فلان أحبُّ إليَّ مِن رِضَا الله، وكان يميلُ إلى الفَاحِشَة اللّوطيّة، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قائِلةٍ يَومًا وقَد تَعِبت: أينَ الطريقُ إلى حمّام منجَابِ؟
وكان قد خَدَع جَارِيةً تُريدُ حمّامَ مِنجاب فأدخَلَها دارَه؛ لأنها تشبِهُ ذلك الحمّامَ؛ يريدُ بها الفَاحِشةَ، فهَامَ بهَا إِلى آخِرِ سَاعَةٍ مِن سَاعَاتِ عمره. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: سِيجارَة سيجَارَة؛ لأنّه كان يَشرَب الدّخَان.
وأَسبابُ سوءِ الخاتمَة كثيرةٌ، مِنها تركُ الفرائضِ وارتِكاب المحرَّمات وتَركُ الجُمَع والجمَاعات، فإنَّ الذنوبَ ربما غلَبَت عَلَى الإنسانِ واستَولَت علَى قَلبِه بحبِّها، فَيَأتي المَوتُ وهو مُصِرٌّ على المعصيةِ، فيستَولي عليهِ الشيطانُ عند الموتِ وهو في حالةِ ضَعفٍ ودَهشَةٍ وحَيرة، فينطِق بما ألِفَه وغَلَب عَلَى حالِهِ، فيُختَم له بِسُوءِ خاتمةٍ والعياذُ بالله.
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمةِ البِدَعُ التي لم يَشرَعها الرَّسولُ ، فالبِدعَة شُؤمٌ وشرٌّ عَلَى صَاحِبها، وهي أعظَمُ من الكَبائرِ، وفي الحديثِ عنِ النَّبيّ أنّه قالَ: ((يَرِد عليَّ أناسٌ من أمّتي الحَوضَ أعرِفهم، فتطردُهم الملائكةُ وتقول: إنّك لا تَدرِي مَاذَا أحدَثوا بَعدَك، فأقول: سُحقًا سحقًا لمن غَيَّرَ بَعدِي)) [15].
ومِن أسبَابِ سوءِ الخاتمةِ ظُلمُ النّاسِ والعُدوانُ عليهِم في الدّمِ أو المَالِ أو العِرضِ، وظُلمُ النفسِ بنوعٍ من أنواع الشِّركِ بالله تَعَالى، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمةِ الزّهدُ في بذلِ المعروف، وعدَمُ نفعِ المسلِمين، والزّهدُ في الدُّعَاءِ فلَم يَطلُبِ الخيرَ، قال اللهُ تَعَالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم [التوبة: 67]، وَقَالَ تَعَالى: أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب: 19].
ومِن أسبَاب سوءِ الخاتمةِ الرّكونُ إلى الدُّنيا وشَهَواتها وزُخرُفِها، وعَدمُ المبالاةِ بالآخِرَة، وتقديمُ محبّتِها على محبّة الآخِرَةِ، قالَ اللهُ تَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].
ومِن أَسبَابِ سُوءِ الخَاتمَةِ أَمرَاضُ القُلُوبِ مِنَ الكِبرِ والحَسَدِ والحِقدِ والغِلِّ والعُجبِ والغِشّ واحتقارِ المسلمين والغَدرِ والخِيَانةِ والمَكرِ والخِدَاع وبُغضِ ما يحبُّ الله وحُبِّ ما يبغِض اللهُ تَعَالى، قالَ اللهُ تَعَالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87-89].
ومِن أسبابِ سُوءِ الخاتمةِ عُقُوقُ الوالدَين وقطيعةُ الأرحَامِ، قال اللهُ تَعَالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمّد: 22، 23]، وفي الحديثِ عَنِ النبيِّ : ((لا يدخلُ الجنّةَ قاطعُ رحمٍ)) ، وعنه أنَّه قَالَ: ((رَغِمَ أنفُ من أدرك أبوَيه أو أحدَهما فلم يُدخِلاه الجنّة)).
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة الوصِيّةُ الظالمةُ المخالِفَةُ للشَّرع الحنيفِ.
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
بَارَكَ الله لي ولَكُم في القُرآنِ العَظِيمِ، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ مِنَ الآيات والذِّكر الحَكِيم، ونَفَعَنَا بهَديِ سيِّدِ المرسَلِين وقولِه القَويم، أقول قَولي هَذَا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولِسائِر المسلِمين من كلِّ ذَنبٍ، فاستَغفِروه إنّه هوَ الغَفورُ الرَّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[2] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (1)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1907).
[3] صحيح البخاري: كتاب القدر (6607).
[4] صحيح مسلم: كتاب القدر (2654).
[5] صحيح البخاري: كتاب الصلاة (574)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (635).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2448)، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الإيمان (19).
[8] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/124) من طريق الحسن عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795). وفي الباب عن عدد من الصحابة منهم: أبو أمامة ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وأم سلمة رضي الله عنهم. انظر: مسند الشهاب (100، 101، 102)، ومجمع الزوائد (3/155، 8/193-194).
[10] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201) من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وشاهد ثان من حديث ابن عمر عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخرى في سند كلٍّ منها مقال.
[11] أخرجه مسلم في الذكر (2732) عن أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه.
[12] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[13] جامع العلوم والحكم (ص57).
[14] أخرجه أحمد في الزهد (ص321)، وانظر: صفة الصفوة (3/285)، وجامع العلوم والحكم (ص57).
[15] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6585) ، ومسلم في الفضائل (2291) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله مُعِزِّ مَن أَطَاعَه واتَّقَاه، ومُذِلِّ مَن خالَف أمرَه وعَصَاه، أحمدُ رَبِّي وَأشكُرُه عَلَى مَا أسبَغ من نعَمِه وأولاهُ، وأَشهَد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ لَه، لا إِلهَ ولا ربَّ سِوَاهُ، وأشهَد أنَّ نَبِيَّنا وَسَيِّدَنا محمّدًا عَبدُه ورَسُوله اصطَفاه مَولاه، اللّهُمّ صَلّ وسلِّم وبَارِك على عَبدِك ورسولك محمّد، وعلى آلِهِ وصَحبِه ومَن والاه.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بلزومِ طاعاته ومجانبةِ محرَّمَاته؛ تنجُوا من عذابه، وتفوزوا بجنَّاتِه، قال اللهُ تَعَالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33]، وعَن ابنِ مَسعُودٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ : ((والَّذي نفسِي بيدِه، إنَّ أَحدَكم لَيَعمَل بعمَلِ أهلِ الجنّة حتى مَا يَكونُ بينَه وبينها إلاّ ذِراع، فيسبِق عليه الكِتابُ، فيعمل بعمَل أهل النّارِ فيدخُلها، وإنَّ أحدَكم ليَعمَل بعمل أهلِ النّار حتى ما يكون بينَه وبينها إلا ذِراعٌ، فيسبِق عليه الكِتابُ، فيعمَل بعمل أهلِ الجنّة فيَدخُلها)) رواه البخاريّ ومُسلم [1].
فاطلُبُوا حُسنَ الخاتمةِ بالمدَاوَمَة على طاعةِ ربّكم والبُعدِ عن مَعصِيَتِه، فمَا أَعظمَهَا مِن غَايةٍ، وما أَجَلََّ حُسنَ الخاتمةِ مِن مَطلبٍ، فالاستقامةُ على الدِّين ضَامِنةٌ لحسن الخِتامِ، قالَ اللهُ تَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13].
عِبادَ اللهِ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قَالَ : ((مَن صَلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليهِ بها عشرًا)).
فصَلّوا وسلّموا على سيِّد الأوَّلِينَ والآخرين وإِمامِ المرسَلِين.
اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كمَا صلّيتَ عَلَى إِبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنّكَ حَميدٌ مجِيدٌ...
[1] صحيح البخاري: كتاب القدر (6594)، صحيح مسلم: كتاب القدر (2643).
(1/5125)
عناية الإسلام بالأولاد ومقترحات لعطلتهم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
26/2/1428
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حق الطفل قبل الحَمْل. 2- حق الطفل أثناء الحمل. 3- حق الطفل بعد الولادة. 4- ضرورة العناية بالأطفال في العطلة الدراسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد اعتنى الإسلام بالطفل عناية كبرى، وأوجب له كثيرًا من الحقوق، فمن ذلك:
أولا: حق الطفل قبل الحَمْل:
ويكمن في حسن اختيار الزوج لزوجه والعكس، فالرجل عليه أن يختار لصحبته التقيةَ النقية التي تحفظه في نفسها وماله، والمرأة يجب أن تحسن الاختيار، وإذا طرق بابها ذو دين وخلق فلا ترده. ويحسن التذكير بقول العليم الخبير الدال على أهمية حسن الاختيار: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آل عمران: 34 ]. فشجرة العنب لن يكون ثمرها إلا عنبًا، والشيء إلى أصله ينزع.
وهل يُرجى لأطفالٍ كمالٌ إذا رضعوا ثدي الناقصات؟!
ثانيًا: حق الطفل أثناء الحمل:
هنا يتعين على الأب أن يرعى زوجه حفاظًا على حياتها وحياة طفلها، ويجب عليه أن ينفق عليها ولو فارقها، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [ الطلاق: 6 ]. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (8/153) : "قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن، إن كانت حاملاً أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملاً أو حائلاً. وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية لأن الحمل تطول مدته غالبًا، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة". وعلى كلا القولين فالآية دالة على إثبات حق النفقة رعايةً للجنين.
ثالثًا: حق الطفل بعد الولادة:
1- حقُّ الحياة:
ومن أعظم ما ضمنه الله تعالى للطفل وهو في بطن أمه وبعد ولادته حقّ الحياة، فمنذ أن يبدأ الحمل به فلا يجوز لأحد أن يحاول إسقاطه، ومما بايع عليه الرسول النساء عدم الاعتداء على حياة أطفالهن، قال تعالى في ذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [ الممتحنة: 12 ].
ويحرم على الوالدين قتل أولادهما ولو كانا فقيرين، فالفقرُ لو كانَ واقعًا أو كان متوقَّعًا فلا يجوز الإقدام على مثل هذا الفعل، ففي الفقر المتوقَّع جاءت الآية: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [ الإسراء: 31 ]، وفي الفقر الواقع جاء قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [ الأنعام: 151 ].
ومن العادات التي جاء النبي لاجتثاثها ومحو أثرها وقطع دابرها وأدُ البنات، قال الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [ التكوير: 8، 9 ].
ويبقى هذا الحقُّ ولو كان الجنين ابنَ زنى، فعن بريدة بن الحصيب أنَّ امرأة مِنْ غَامِدٍ مِنْ الأَزْدِ جاءت إلى النبي فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: ((وَيْحَكِ، ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ)) ، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: ((وَمَا ذَاكِ؟)) قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ الزِّنَى، فَقَالَ: ((آنْتِ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: ((حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ)) ، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: ((إِذًا لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ)) ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَرَجَمَهَا. رواه مسلم.
ويحتفظ الطفل بهذا الحق ولو كان أبوه كافرًا محاربًا، فعن بريدة بن الحصيب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)) رواه مسلم. فقتل الأطفال في الحرب من الاعتداء الذي يدخل في قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [ البقرة: 190 ].
2- حق الاعتبار والكرامة:
فيفرح به عند ولادته سواء كان ذكرًا أم أنثى، فكلٌّ نعمة من عند الله، ولا يدري الإنسان أين يكون الخير في ولده؛ مخالفًا المشركين الذين قال عنهم رب العالمين: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [ النحل: 58، 59 ].
3- حقُّ الرَّضاع:
قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ البقرة: 233 ]. قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص104): "هذا خبر بمعنى الأمر، تنزيلا له منزلة المتقرِّر الذي لا يحتاج إلى أمر بأن يرضعن أولادهن حولين كاملين". ويأبى النبي أن يرجم زانية وليس لابنها من يرضعه كما مرّ معنا.
4- حقّ الاسم الحسن:
فقد كان من هدي النبي تغيير الأسماء القبيحة إلى أسماء جميلة مستحسنة، فعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقَالَ: ((أَنْتِ جَمِيلَةُ)) رواه مسلم.
ومما دلت عليه السنة أنَّه يُشرع التسمي بأسماء الأنبياء، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)) أخرجه مسلم ، وقال: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ)) رواه أبو داود ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي)) رواه البخاري ومسلم.
5- حق الإنفاق:
وخيرُ نفقةٍ يدَّخر الله تعالى ثوابها للعبد النفقة على الأهل والولد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ)) ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ)) ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ)) ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ)) ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: ((أَنْتَ أَبْصَرُ)) رواه أبو داود والنسائي.
ورغّب النبي في ترك ما يكفي للأهل والولد لئلا يذهب ماء وجههم بسؤال الناس، فلا يوصي بإخراج شيء كثير من ماله، فعن سعد قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلا يَرِثُنِي إِلاّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: ((لا)) ، قَالَ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: ((لا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ)) رواه البخاري ومسلم.
6- حقهم في الملاعبة والمداعبة والرحمة واللطف:
ألا ترى كيف أنَّ نبينا مع كثرة مسؤولياته، فهو الرسول والقاضي والمعلم والموجِّه المرشد والمفتي والزوج والأب وقائد الجيش الأعلى والمجاهد والإمام والخطيب ورئيس الدولة... إلخ، فسبحان من هيَّأه وكمَّله، كان مع ذلك يلاعب أطفاله وأطفال المسلمين ويمازِحهم، ويدخل بذلك السرور في قلوبهم. وهذه جملة مباركة من الأحاديث التي تبين ذلك:
فعن شداد بن الهاد قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي إِحْدَى صَلاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ! قَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ)) رواه النسائي.
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَرَآهُ قَالَ: ((أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟)) رواه البخاري ومسلم.
وعن أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ؟)) رواه البخاري ومسلم.
وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((سَنَهْ سَنَهْ)) ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي ـ أي: نهرني ـ أَبِي، قالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((دَعْهَا)) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي)) ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ ـ أي: ذكر الراوي زمنًا طويلاً ـ يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا.
وحدَّث يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ وَالأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: ((حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الأَسْبَاطِ)) رواه الترمذي وابن ماجه.
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ ـ وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ ـ عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ أَعَادَهَا. رواه البخاري ومسلم.
وعن بُرَيْدَةَ بن الحصيب قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا)) رواه الأربعة إلا ابن ماجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وأما في العطلة فالواجب علينا أن نزيد من اهتمامنا بأولادنا، ولذا آثرت أن تكون الخطبة الثانية حول مقترحات للاستفادة من العطلة الصيفية، وآثرت أن أكتبها لئلا تتفلّت مني بعض النقاط المهمة.
وقبل أن أتحدث عن هذا أطلعكم على استطلاع للرّأي نشر في موقع صيد الفوائد، شارك فيه الناس بـ(2563) صوتا: هل وضعت برنامجًا لاستغلال الإجازة الصيفية؟ وكانت الأجوبة: "نعم" 32 في المائة، "لا" 44 في المائة، "لم أفكر" 24 في المائة. وهذا يدل على أن الكثير منا يتعامل بسَلبية مفرطة حيال العطلة الصيفية ولا يهتم فيها بأولاده.
وقد أكدت دراسات مختلفة لكثير من التربويين على أنّ الانحراف السلوكي للطفل تكون بداياته في مثل هذه العطلات التي يكثر فيها الفراغ، ويكثر الاختلاط بأصدقاء السوء. فالواجب علينا الاهتمام بأولادنا فيها، لا سيما وأنه لن يكون فيها بعد ذلك ابتداءً من هذا العام (كورسات) صيفية أكاديمية.
وهذه مقترحات مهمة تتعلق بالعطلة الصيفية:
1- الإشراك في حلقات التحفيظ بالمساجد بصورة يومية. وتذكَّر أنّ الوالد إذا ماتَ انقطع عمله إلا من ثلاث، منها ولد صالح يدعو له. وهل يُرجى صلاحٌ بدون كتاب الله؟!
2- لا بد من أن تقيم لأبناك درسًا في البيت، في السيرة، في شمائل النبي ، في الأخلاق، في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح، أو أبواب من رياض الصالحين، أو في التجويد. وهذا الدرس الذي يقدمه الأب فيه كثير من الفوائد، منها: أنه يزيد من ثقافة المدرِّس والمدرَّس، يخلق جوًا إيمانيًا في البيت، يقرب بين أفراد الأسرة.
فجرِّب ـ أيها الأب المبارك ـ هذا المقترح، وداوم عليه، وستجد خيرًا عظيمًا إن شاء الله. والأفضل إذا كان الدرس يوميًا أن تقِلَّ مدّته، وإذا كان ثلاثة أيّام في الأسبوع أن يُزاد في زمنه.
3- أدِم اصطحاب ابنك للصلاة معك بعد أن تعلّمه آداب المسجد لئلا يؤذي المصلين؛ حتى يتعلق قلبه بالمسجد.
4- أشركه في الذهاب إلى المحاضرات الدينية التي تُقام في المساجد بين الفينة والأخرى؛ ومن فوائد هذا أنه يتعلم التأدب مع المشايخ، ويعتاد على إطالة الجلوس لطلب العلم، ويعتاد على إعمار بيت الله.
5- لا بد من تحفيظ أبنائنا في هذه العطلة حصن المسلم، فوالله لو حافظنا وحافظ أبناؤنا على قراءة أذكار اليوم والليلة لما عرفت العين ولا السحر طريقًا إلى بيوتنا، ونحن في زمان كثر فيه الحاسدون، وكثرت الإصابة بالعين والسحر.
6- العطلة الصيفية استراحة بين فترتين أكاديميتين، والذهن مشحون بالمواد العلمية، ولذا لا بد من التركيز في هذه العطلة على الترفيه واللعب، وهذا له مجالات واسعة، منها إشراكه في نادي لتعلم السباحة، لكن لا بد أن يتم اختيار الأماكن المحتشمة التي تتقيد بضوابط الشرع، إشراكه في نادي للتدرب على الألعاب القتالية: كالتايكندو والكراتيه والجودو والكونكفو، إشراكه في أندية الرماية والفروسية، توفير القصص الهادفة لهم وحثّهم على مطالعتها، السفر إلى الخارج لمن تيسّر له ذلك لما فيه من الترفيه والتغيير المطلوب، زيارة الأقارب والمقابر؛ ليتذكر الموت، فهذا مما يقوم سلوكه، وزيارة المستشفى؛ ليشكر الله على نعمة الصحة والعافية.
ولا أنصح أن يمكّن الطفل من ارتياد المحلات الخارجية لألعاب (البلاي استيشن)؛ لما فيها من الفساد والإفساد والانحراف الأخلاقي، وفي ذلك قصص يندى لها الجبين.
وأما اللعب بما يُسمى بـ(البلي)، هذه الكرات الزجاجية، فيجوز إذا ردّ كل طفل نصيب الطفل الآخر ولو خسر، أما إذا قامت اللعبة على أخذ نصيب الخاسر فهذا نوع من الميسر المحرم، ولا بد أن يفهم أطفالنا هذا.
التنزه معهم في حدائق الأطفال، وهنا كلمة أوجهها لكل مسؤول عن هذه الحدائق، لقد أصبحت حدائق الأطفال حدائق حب وغرام، تجد في كل زاوية من زواياها شابًا وفتاة. ولا أدري أين ذهبت غيرة الرجال والآباء، وهذا له أثره السيئ على العملية التربوية للطفل. ومن العجب العجاب في هذا المجتمع السوداني أن بعض الأسر عندنا يسمحون للخاطب أن يتنزه مع خطيبته بمفردها، ولا يسمحون للزوج العاقد أن ينفرد بزوجته ولله في خلقه شؤون!
7- ولا بأس من تقويته في بعض المواد التي تعيق مسيرته الأكاديمية. ويُراعى في ذلك كله أن لا يتسرب الملل إليهم.
8- لا بد من مضاعفة مراقبة أولادنا في العطلة؛ لئلا يستحوذ عليهم أصدقاء السوء ونحن غافلون، فالفراغ غير المرشد يفسد ما لا يفسده الذئب الجائع الذي يخلو بقطيع الغنم. وقد أصبح مجتمعنا من المجتمعات التي بدأت تظهر فيه ظاهرة اغتصاب الأطفال والعياذ بالله، فالعاقل الحازم من حافظ على ولده، واسمع هذا الكلام: قال الوليد بن عبد الملك: "لولا أنَّ الله ذكر قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرًا يفعل هذا بذكرٍ"، قال ابن كثير معلقًا على هذا الأثر في البداية والنهاية (9/184) : "فنفى عن نفسه هذه الخصلة القبيحة الشنيعة والفاحشة المذمومة التي عذب الله أهلها بأنواع العقوبات، وأحل بهم أنواعًا من المَثُلات، التي لم يعاقب بها أحدًا من الأمم السالفات، وهي فاحشة اللواط التي قد ابتلي بها غالب الملوك والأمراء والتجار والعوام والكتاب ونحوهم، إلا من عصم الله منهم، فإنَّ في اللّواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتّعداد؛ ولهذا تنوّعت عقوبات فاعليه، ولأن يُقتل المفعول به خير من أن يُؤتَى في دبره، فإنه يَفسد فسادًا لا يُرجى له بَعدَه صلاحٌ أبدًا، إلا أن يشاء الله. فعلى الرجل حفظ ولده في حال صِغَره، وبعد بلوغه، وأن يجنّبه مخالطةَ هؤلاء الملاعين الذين لعنهم رسول الله ".
أخيرًا لا بد من إعداد برنامج لهذه العطلة يقوم على تنفيذ هذه المقترحات أو غيرها؛ لتكون العطلة الصيفية لبنة بناء مباركةً لأطفالنا.
أسأل الله أن يبارك في ذريتنا، وأن يحفظ عرضنا...
(1/5126)
آداب التجارة وتحريم الغش
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكفل الله عز وجل بتقدير أرزاق العباد. 2- الترغيب في الكسب الحلال والترهيب من الكسب الحرام. 3- آداب وصفات يجب على المسلم التاجر أن يتحلى بها. 4- عظائم وذنوب ترتكب في التجارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله عز وجل قد تكفل بأرزاق العباد وحدّدها من قبل أن يظهروا في هذه الدنيا، قال : ((إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يستبطئنّ أحد منكم رزقه؛ فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته)).
فلا يحملنكم حب المال والطمع فيه أن تطلبوه من غير حله؛ بالتعامل المحرم والطرق غير المشروعة، فإن في الحلال كفاية عن الحرام، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وكفاه بفضله عمن سواه، والكسب الحلال يبارك الله فيه وإن كان قليلا، فينمو ويكون عونا لصاحبه على طاعة الله، والمال الحرام يمحق الله بركته وإن كان كثيرا، فلا ينتفع به صاحبه وإن بقي في يده، وقد يسلط الله عليه من يتلفه فيتحسر عليه صاحبه.
وقد رغب نبينا صلوات الله وسلامه عليه في اكتساب الحلال، ورهب وحذر من اكتساب الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] )) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).
ومن طرق كسب الحلال التي أباحها الإسلام التجارة، وقد بين الله في كتابه ونبينا صلوات الله وسلامه عليه في سنته أحكام البيع والشراء وأحكام الإيجار والكفالات والرهن وغير ذلك مما يتعلق بالتجارة، وجعل لها آدابا كان لزاما على المسلم التاجر أن يتحلى بها، فمِن ذلك التحلي بالأخلاق الفاضلة في البيع والشراء، فالصدق والأمانة في التعامل صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، ولكنهما من الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، قال : ((التاجر الأمين الصدُوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي، وفي الصحيحين: ((فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا مُحقت بركة بيعهما)).
والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين؛ لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات الكافرة في الإسلام أفواجًا، حتى انقلبت بالكامل مجتمعات إسلامية.
والأمانة كذلك خير مطلب، يجب أن يتمسك بها المسلم، قال : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) حديث صحيح.
ومن الأخلاق التي تتميز بها المعاملات التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، قال : ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)).
ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكلِّ ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280]. وروى مسلم عن رسول الله أنه قال: ((أُتي بعبد من عباد الله آتاه الله مالاً، فقال له الله: ماذا عملت به في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسِّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق به منك، تجاوزوا عن عبدي)).
ومن ذلك إقالة البيع، أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك؛ لظهور عدم احتياجه للمعقود عليه، قال : ((من أقال مسلمًا أقال الله عثرته)) رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلم ـ أخي المسلم وفقني الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه ـ أن مما يتأكد اجتنابه والتحذير منه وإنكاره الغش والخداع في التجارة، فإن الإسلام يحرم ذلك بكل صوره في بيع وشراء وفي سائر أنواع معاملات الإنسان، فالمسلم مطالب بالتزام الصدق في كل شؤونه، والنصيحة في الدين أغلى من كل مكسب، كما قال : ((الدين النصيحة)) ، وقال : ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)). ومرّ رسول الله برجل يبيع طعامًا فأعجبه ظاهرُه، فأدخل يده فيه فرأى بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله ـ أي: المطر ـ، فقال : ((فهلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشنا فليس منا)). فانظر بماذا حكم على من غش في الطعام، والطعام مادة ينتهي أثرها بسرعة، فكيف بما هو أعظم وأعظم من ذلك؟!
فالإيمان الصحيح الكامل يلزمنا الصدق والإخلاص والتقوى والنصح، وفي الحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)).
وعلى التاجر الصدوق أن يبين للمشتري العيب في السلعة إن كان بها عيبٌ، قال : ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه)). فإذا أردت أن تبيع سيارة أو طعاما كالفواكه وما شابهها فيجب عليك أن تبين ما بها من عيب، وإلا محقت بركة هذا البيع وصار إلى خسران. وإننا لنشاهد بعض التجار يضعون الفاكهة الجيدة في الأعلى والرديئة أو الصغيرة غير المرغوب بها في الأسفل، وهذا من الغش المحرم.
ومن عظائم الذنوب التي ترتكب في التجارة الحلف الكاذب من أجل بيع السلع، فيحلف للمشتري بأنها سليمة أو طازجة أو أنه اشتراها بمبلغ كذا وهو كاذب، قال : ((اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) ، وعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن التجار هم الفجار))، قالوا: يا رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟! قال: ((بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون)).
ومن ذلك أيضا التلاعب في الموازين والكيل، قال تعالى محذرا من ذلك: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف: 85]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن)) ، وذكر منها: ((ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم)).
ألا فاتقوا الله في أنفسكم، وتحروا الحلال واجتنبوا الحرام، فإنكم مسؤولون يوم القيامة عن المال سؤالين: من أين حصلت عليه؟ وفيم أنفقته؟ فأعدوا للسؤال جوابا.
واعلموا أن المال الحرام لا ينتفع به صاحبه أبدا، قال : ((من اكتسب مالا من مأثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك كله جميعا فقذف به في جهنم)).
(1/5127)
الشريعة قوام الحضارات
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إتمام الدين. 2- المستقبل للإسلام. 3- الإسلام حفظ للبشرية كل ما تحتاج إلى حفظه. 4- كيف السبيل إلى عز الإسلام والمسلمين؟
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. قال المفسر ابن كثير في تفسيره: "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
ولقد علمت اليهود فضل هذه الآية في إكمال الدين، فروى البخاري ومسلم من حديث طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
أيها المسلم، اعلم ـ هدِيتَ للحق ـ أن شريعة الإسلام الكاملة هي النهج الأسمى الذي إن تمسك به المسلمون نجوا وعلوا وسادوا الدنيا شرقها وغربها، فالدين عزيز، وقد وعد الله بنصره وبنصر أهله، قال : ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي: الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل دليل، عِزا يُعِزُ الله به الإسلام، وذلا يُذِلُ به الكفر)).
وقد قال ربنا عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]. قال المحدث محمد بن ناصر الألباني رحمه الله تعالى: "تبشّرنا هذه الآية الكريمة بأن المستقبل للإسلام، بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده وعهد الخلفاء الراشدين من بعده والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق، كما أشار إلى ذلك النبي بقوله: ((لا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللاتُ وَالْعُزَّى)) ، فقالت عائشة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا، قَالَ: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ)) ".
أيها المسلمون، إن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن الذي شرعها هو الله العليم بأحوال الناس الخبير بشؤونهم، فقد احتوت على كل مقومات إقامة الحضارة المبنية على أسس صحيحة وقوية، لا تهزها الرياح والزلازل والتيارات.
لقد جاءت شريعتنا الإسلامية بالحفاظ على المجتمع المسلم وعلى أفراده، فحفظت له حقوقه وبينت واجباته، فمن ذلك أن الإسلام حفظ للبشرية ما يسميه الفقهاء بـ"الكليات الخمس"، فأمر الله بالحفاظ على الدين بتطبيق أحكامه واجتناب نواهيه. كما حرم الإسلام كل وسيلة تغتال العقل أو تفقده وعيه، فحرم كل مسكر للحفاظ على العقل. ثم شرع الله من الأحكام ما حفظت به النفوس، وليس في الدنيا نظام يحترم النفس البشرية المعصومة مثل شريعة الإسلام، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179]، وقال جل ذكره: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]. فلما استقام أمر الدين والعقل والنفس أمر الله بالحفاظ على الأعراض والنسب، فوضع من الشرائع ما يؤدي إلى حفظها، وبالتالي تماسك المجتمع وعدم وقوعه في الرذيلة والفاحشة، فحرم الزنا، وحرم كل ما يؤدي إليه، فقال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32]، فحرم النظر إلى النساء غير المحارم، وحرم الخلوة بهن، وحرم سفر المرأة بغير محرم ولو كان ذلك لأداء عبادة كالحج أو التعليم، وأمر الشباب بالزواج؛ لأنه كفيل بحفظ النسل والغريزة التي أودعها الله في البشر. كما قد حفظت شريعتنا الغراء المال من الضياع ومن اللهو، فأمرت بأن يكسب المسلم ماله من حلال، وأن ينفقه في الحلال دون إسراف أو بخل، بل باعتدال، وأمر بإخراج الزكاة والصدقة للمحتاجين، وحرم السرقة وجعل لها حدا يقام على من ارتكبها، وحرم الغش بجميع أنواعه والاحتكار والربا، ورغب في العمل والاستثمار بالطرق الشرعية السليمة.
أيها المسلم، هذه الكليات الخمس: الدين والعقل والنفس والعرض والمال من حافظ عليها كما شرعها الله في هذا الدين استقامت له أمور دينه ودنياه، ومن أهملها وضيعها فقد ضيع دنياه وآخرته، وإنكم لتعلمون حال الأمم السابقة من سلفنا الصالح لما طبقوا شرع الله في أنفسهم أولا ثم في أسرهم ومجتمعاتهم ثانيا كيف دانت لهم العرب والعجم، وأقاموا حضارة علمية قد استفاد منها الغرب الكافر، وبنوا ما يسمّى بحضارتهم التي هي في الحقيقة حقارة؛ لأنها لم تبن على قواعد الشريعة. فلما ضيع المسلمون أمر ربهم وانشغلوا بلذات الدنيا عن الآخرة ضاعت قوتهم وحضارتهم، وغزاهم الكفر في عقر دارهم، وهم في ذلّ وهوان ولا يقدرون على فعل شيء، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)). والرجوع إلى الدين ليس فقط بالجهاد مع الكفار، بل أولا بجهاد النفس والهوى، بتطبيق شرع الله في أنفسنا وبيوتنا وأهلينا، بعد ذلك يرفع الله عنا ذلك الذل والهوان.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يردنا إلى ديننا ردا جميلا، إنه على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، كيف السبيل إلى عز الإسلام والمسلمين؟ قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلى ما أصلح أولها". فما الشيء الذي صلحت به الأمة في أول أمرها؟ إنه التمسك الصحيح بكتاب الله وسنة رسوله ، ولن يستقيم لنا الأمر كما استقام لهم إلا بالرجوع إلى هذا السبيل، وهو التمسك بما تمسكوا به، وهو الكتاب والسنة على ما فهمه سلف هذه الأمة من خير القرون، كالخلفاء الراشدين والصحابة الكرام والتابعين لهم، فهم أعلم الناس بكتاب الله وبسنة رسوله.
أيها المسلم، إن عزك ونصرك على عدوك إنما يتم لك بتحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بأن تصلح من عقيدتك فتوحد الله عز وجل بأفعالك، فتعبده وحده وتستعين به وحده، وتتوكل عليه وحده وتدعوه وحده. فـ"لا إله إلا الله" كلمة من قالها عالما بمعناها مطبقا لمقتضاها عز في الحياة الدنيا والآخرة، فقد ورد في بعض الآثار أن كفار قريش لما جادلوا النبي في الدين الذي جاء به قال لهم : ((إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية)) ، فقال الكفار: بل لك عشر كلمات، فقال قولوا: ((لا إله إلا الله)) الحديث.
فلا عز للمسلمين إلا بتوحيد ربهم عز وجل، التوحيد الخالص الذي يكون فيه الله هو المقصود بالعبادة كلها دون سواه، وأما والحال كما هو مشاهد اليوم، حيث تنتشر وسائل الشرك بين المسلمين من دون استنكار لها حتى ولو كان بالقلب، فيوجد من بيننا من غالى في رسول الله حتى أوصله إلى الأولهية، وفينا من يذهب إلى السحرة والكهنة والعرافين، وفينا من يدعو الأولياء والصالحين، وفينا من يحلف بغير الله معظِّما للمحلوف به أكثر من تعظيمه لله، وفينا من يعلق التمائم والحروز بحجة كشف البلاء، وفينا من يبتدع في الدين باسم الدين والدين منه براء، فأجيزت الموالد باسم حبِّ النبي ، وانتشرت البدع بين المسلمين كأنها هي السنن. يقول الشاطبي رحمه الله: "لما كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها ودام الإكباب على العمل بها والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها وخلف بعدهم خلوف ذهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها صارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشريعة محررات، فاختلط المشروع بغيره، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير، وفصح عليه العجمي وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره".
قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41].
(1/5128)
الوسطية في الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, محاسن الشريعة
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وسطية هذه الأمة. 2- بم تكون الوسطية؟ 3- صور من وسطية الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، يقول ربنا عز وجل في محكم التنزيل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تأويل هذه الآية: "إن الله إنما وصفهم ـ أي: هذه الأمة ـ بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، ولا هم أهل تقصير، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها".
وفي صحيح البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ : ((يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ))، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ، قَالَ: ((عَدْلا))، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
فهذه الأمة ـ عباد الله ـ هي خير أمة أخرجت للناس، كما أخبر بذلك الله تبارك وتعالى فقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110]. يقول السعدي في تفسير هذه الآية: "هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب التي تميزوا بها، وفاقوا بها سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس نصحا ومحبة للخير ودعوة وتعليما وإرشادا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وجمعا بين تكميل الخلق والسعي في منافعهم بحسب الإمكان، وبين تكميل النفس بالإيمان والقيام بحقوق الإيمان".
عباد الله، إن وسطية هذه الأمة لا تكون ولا يتّصف بها إلا من كان على نهج النبي محمد وأصحابه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله حيث قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) ".
ومما يدلك ـ أخي المسلم ـ على أن طريق النجاة التمسكُ بما عليه الرسول وصحبه، قال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. فقرن الله مشاقة سبيل المؤمنين ـ وهم الصحابة رضوان الله عليهم ـ بمشاقة الرسول ، ثم بين العقاب لمن خالف هذه الطريق وهو النار.
عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِي اللَّه عَنْه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) رواه البخاري. فهذه الأمة هي خير أمة، هي أوسط أمة، هي أعدل أمة، إن سارت على درب الرعيل الأول من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من وسطية الإسلام محاربة الغلو والتشدد في الدين، والغلو هو مجاوزة الحد ومجاوزة المشروع من العبادة. والغلو ـ عباد الله ـ كان سببا لهلاك الأمم من قبلنا، قال محذرا أمته: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) أي: من قبلكم من الأمم كاليهود والنصارى، وقد نهاهم الله وحذرهم من الغلو والتشدد في الدين، فقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) رواه البخاري.
ومما يضاد الوسطية في الإسلام الغلو في الأشخاص، سواء كانوا أنبياء أو أولياء صالحين، فكل هؤلاء بشر لا يملكون نفعا ولا ضرا، فمن الغلو المفضي إلى الشرك التوجه بالدعاء والسؤال إلى النبي وهو في قبره، أو التوجه بالعبادة والدعاء إلى من يظن أنه من أولياء الله الصالحين، فيتمسح بالقبر ويحيون عنده الموالد البدعية المحرمة، ويسألونهم قضاء الحوائج، كما هو مشاهد وللأسف في بقاع من بلاد المسلمين.
فإذا علمنا أن النبيّ محمدا لا ينفع ولا يضر، فمن باب أولى أن يكون غيره كذلك، يقول تعالى عن محمد : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]. ووصف الله رسوله بأنه عبد له، فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء: 1]. ثم تأمل معي ـ أخي المسلم ـ نهي النبي عن الغلو فيه فقال: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)).
_________
الخطبة الثانية
_________
جماعة المسلمين، اعلموا أن النفع والضر بيد الله وحده دون سواه، فلا يملك النفع والضر للإنسان ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا وليّ من الصالحين، والدليل قوله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107]، وفي الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)).
ومن الغلو المذموم الذي ينافي الوسطية في الإسلام الغلو في العبادة، وذلك بأن يزيد العبد في الطاعة والعبادة مما لم يفعله الرسول ولم يأمر به الله، والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. فقدوتنا في العبادة هو محمد ، فما لم يفعله لا نتعبد الله بفعله، بل قد حذر من مخالفة هديه في العبادة، قَالَ النَّبِيُّ : ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
وفي صحيح البخاري عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قال: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)). فمع كون هؤلاء القوم أرادوا الخير بفعلهم الذي هو في أصله عبادة، فأحدهم يقوم يصلي الليل، والثاني يصوم النهار طول السنة، والثالث لا يتزوج النساء ليتفرغ للعبادة، ولكن النبيّ قد أنكر عليهم هذه الطريقة في العبادة، ثم قال لهم: ((فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) أي: من انحرف وأبى عن طريقتي في العبادة فليس من أمتي أمة الوسطية.
ومن ذلك أيضا عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: ((مَا بَالُ هَذَا؟)) قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ)) ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ.
ومن الوسطية في الإسلام ما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا)) ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا.
فإياكم ـ عباد الله ـ والغلو، وإياكم كذلك والتفريط وعدم المبالاة بحجة أن الدين يسر، فكثير من الناس يترك شعائر الإسلام أو يختار من فتاوى العلماء ما يناسب هواه، من دون النظر إلى الدليل من القرآن والسنة، ثم يحتج بأن الدين يسر، وهذه النظرة خاطئة، فالنبي يختار أيسر الأمور المشروعة التي لا إثم فيها، فإن كان فيها إثم فالابتعاد عنها هو النجاة.
(1/5129)
شرح حديث: قل آمنت بالله ثم استقم
الإيمان, التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أهمية التوحيد, حقيقة الإيمان
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح مختصر لحديث: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)). 2- عِظم الشرك في الإسلام. 3- من صور الشرك. 4- حقيقة الإيمان. 5- الوصية بالتوبة والإنابة قبل حلول الأجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، روى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)).
وصية من نبينا لجميع أمته، وصية جامعة حوت خيري الدنيا والآخرة، فهذا الصحابي قد طلب من النبي أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا، حتى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال له الرسول وهو من جوامع كلمه : ((قل: آمنت بالله ثم استقم)). وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، فقوله في الآية جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا هو كقوله عليه الصلاة والسلام هنا: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)).
يقول السعدي في تفسير هذه الآية: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ تعالى وحده لا شريك له، ثُمَّ اسْتَقَامُوا على شريعته، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت قائلين لهم: لا تخافوا من الموت وما بعده، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من أمور الدنيا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ".
جماعة المسلمين، أول أمر أوصى به نبينا محمد في الحديث هو الإيمان بالله، ومعناه توحيده سبحانه وتعالى بالعبادة وعدم الشرك به، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا. عن أبي بكر الصديق في تفسير هذه الآية قال: (لم يشركوا بالله شيئا).
فالشرك ـ عباد الله ـ من أعظم الذنوب التي يقترفها العبد في حق ربه الذي خلقه ورزقه، وهو أن تجعل مع الله ندا في العبادة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) ، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ)) رواه البخاري.
ومن عِظَمِ ذنب الشرك أن الله لا يغفره مطلقا، قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
ومن الشرك ـ عباد الله ـ دعاء غير الله والنذر للأولياء والصالحين والتقرب إليهم؛ بحجة أنهم شفعاء عند الله. ومن الشرك الذهاب للسحرة والاستغاثة بهم من دون الله لرفع ضر أو جلب نفع. ومن الشرك تعليق التمائم، وهي حبل يربط في عنق المريض أو يده، وفي نهايته عقدة خضراء أو سوداء فيها طلاسم أو تراب أو نحو ذلك. فإن اعتقد أن هذه هي سبب شفائه من دون الله فقد وقع في الشرك والعياذ بالله.
وأعظم ما يحققه العبد هو توحيد الله عز وجل، بأن تؤمن بأن الله هو وحده المستحق للعبادة، وهو معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق في السماوات والأرض إلا الله، فيجب أن توجه أقوالك وأفعالك لوجه الله تعالى، وأن تعتقد أن الله هو الذي بيده الخير والشر، وهو كاشف الضر وجالب النفع، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
جماعة المسلمين، من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح واعتقاد باللسان، والدليل ما رواه النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدناها إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)). فالحديث صريح على أن القول كقول: "لا إله إلا الله" والعمل كإماطة الأذى عن الطريق والاعتقاد كالحياء من الإيمان.
ولذلك من الخطأ ما يتانقله البعض من أنه يكفي من الإيمان الاعتقاد القلبي دون العمل، فهذا ليس بصحيح مطلقا؛ بل العمل من الإيمان، بدليل قوله للصحابي الذي سأله فقال له الرسول : ((قل: آمنت بالله ثم استقم)). فالقول هو قوله: ((آمنت بالله)) ، وهي كلمة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقوله: ((ثم استقم)) أي: بالعمل الصالح.
قال تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75]، فمن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله متبعا لكتابه وقد عمل الصالحات الواجبة والمستحبة فلهم بذلك خير الجزاء، درجات عالية في الجنة، فجعل الله هذا الجزاء لمن آمن بقلبه وعمل بجوارحه ولسانه.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالاستقامة على الدين، قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112]. فهذا أمر من الله لنبيه ومن معه من المؤمنين أن يستقيموا كما أمرهم الله، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة.
والاستقامة ـ عباد الله ـ هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم الذي يشمل فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنكم مأمورون بالمسارعة في فعل العبادات قبل نهاية المطاف، قبل أن لا ينفع ندم، قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. لا يدري أحدنا متى ينتهي أجله وتحل ساعته، فيفاجئه هادم اللذات ملك الموت، حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100].
الموت حقيقة تناساه الناس جميعا؛ بسبب الانكباب على الدنيا ولذاتها، كلنا يؤمن بحقيقة الموت، كلنا يؤمن بحقيقة الحساب في القبر ويوم القيامة، فماذا أعددنا؟! عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ؛ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ)) ، وقال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
فسارعوا إلى الله بالتوبة والإنابة، فإن الله كريم جواد يقبل التوبة من عباده، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82].
لماذا يصر الناس على المعاصي مع علمهم بأنها حرام، قد حرمها الله ورسوله؟! لماذا تصرّ ـ أخي المسلم ـ على أكل الربا والاقتراض من البنوك بالربا لحجج واهية، كشراء سيارة أو بناء بيت والله قد حرم عليك هذا؟!
(1/5130)
الدروس والعبر المستفادة من حادثة السخرية بخير البشر
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
سعود بن عابد الحربي
المدينة المنورة
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد الأزمات. 2- تأذي المسلمين بسخرية الغرب الكافر بالنبي. 3- الدروس والعبر المستفادة من هذا الحدث. 4- فضل المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، إن الله سبحانه ربى عباده المؤمنين على أن يستمنحوا المنحَ من المحن، وأن يتعلموا الصبر من الشدائد، فلا يقفوا عند بدايات الحوادث والأقدار، وإنما عليهم أن يسبروا أغوار الأمور ويغوصوا في أعماق الأحداث، ليصلوا إلى أسرار الحكم وخفيات المقادير، فيسلّموا لله بما قدر، ويذعنوا له بما قضى، ولا يكون منهم إلا الرضا والتسليم لما قدر الله وقضى.
هذا هو المنهج الذي رسمه الله لنا في كتابه، وتمثله رسوله في سنته تطبيقًا عمليًا ونهجًا إيمانيًا، يقول سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]، ويقول سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
عباد الله، ظهرت الأحداث الأخيرة من السخرية برسولنا من قِبَل الغرب الكافر، فاغتم المسلمون لذلك الحدث غمًا عظيمًا، وحق لهم ذلك، كيف لا يغتمون وقد نيل ممن سكن مهج النفوس وشغاف القلوب ومن هو أحب عندهم من أنفسهم التي بين جنبيهم؟!
ولكن ما لبثنا أن تكشفت لنا خبيئات الأقدار وخفيات الأسرار بما جعله الله سلوة للقلوب وطمأنة للنفوس، فاللهم لك الحمد على قضائك، ولك الشكر على عطائك.
وإن مما جناه المسلمون من الدروس والعبر من هذه الأحداث أمورًا ظاهرة للعيان واضحة البرهان، لمسناها ببصائرنا قبل أن تراها أبصارنا، والشمس لا تخفى إلا على العميان.
الدرس الأول:
أن المسلمين مهما بلغ بهم من الفرقة والشتات والنزاع والخلاف إلا أن هناك من المسلَّمات الكلية والركائز القوية ما تجمعهم وتوحّد صفوفهم، ومن ذلك محبتهم للنبي والدفاع عنه عند النيل من عرضه الشريف، فقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في الدفاع عن النبي بالنفس والنفيس، وهذه كتب التاريخ استنطقوها تجِبكم بما يعجز المحبون أن يصنعوا مثله. ولو سردنا نماذج من ذلك لطال بنا المقام ولما أحصينا.
وهكذا الأمة اليوم لو أتيح لها أن تبرهن على صدق انتمائها لدينها ومحبتها لنبيها لفعلت، ولرأينا ما تقر به الأعين وتطيب به النفوس، وما هذه الأحداث الأخيرة إلا خير شاهد على ذلك، فقد هبت الأمة الإسلامية في شرق الأرض وغربها لنصرة نبيها كلٌّ بما يستطيع، على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعوب، كل يتمنى لو يفدِي رسول الله بنفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين.
فالأمة بأسرها لم تتفق على أمر من الأمور ما اتفقت على إنكار هذا الفعل، فقد مرت بها أحداث عظام تباينت فيها وجهات النظر واختلفت فيها الاجتهادات وتنازعتها فيها الأهواء والرغبات، لكنها في هذا الحدث أجمعت أمرها ووحّدت صفها، وهذا مكسب عظيم طالما تمناه المسلمون، وهاجس مزعج طالما خافه أعداء المسلمين.
ففي الوقت الذي يحرصون فيه على بث الفرقة بينهم يأتي هذا الحدث ليوحدهم، فهي زلة عظيمة لن يعود الغرب إلى مثلها، خاصة وقد ترنحوا تحت ضربات المقاطعة المباركة وتلقنوا درسًا بليغًا.
واعلم ـ يا عبد الله ـ أن مجرَّدَ تركك شيئًا مما جلب من تلك البلاد محبةً في نبيك وانتصارًا له وغيرة على عرضه الشريف هو قربة إلى الله، تنال بها الأجر والثواب من الله جل وعلا.
ولنعلم ـ يا عباد الله ـ أن المسلمين لو توحّدوا فلا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تقف أمامهم، ولكن إنما سلط علينا أعداؤنا بسبب تفرقنا وتنازعنا، ولذلك حذرنا الله من ذلك فقال سبحانه: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. ولعل الله أراد بنا خيرًا بما كشف من خبايا نفوس القوم؛ لتتفق كلمة المسلمين، ولعل هذا من إرهاصات النصر والتمكين.
فهذه الأحداث عززت كثيرًا من مبدأ الولاء لهذا الدين، فمن كان من المسلمين حميته لدينه ضعيفة بدأت تقوى عنده الحمية الدينية والغيرة لنبيه ، وكم سمعنا عن أناس كان سبب عودتهم إلى دينهم واستقامتهم عليه ما يرون من عداوة الكفار له، فهذا مكسَب عظيم تحقّق للأمة من خلال هذه الأحداث الأخيرة، وكما قال الله سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
الدرس الثاني:
عظم عداوة اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر لهذا الدين، يقول الله عنهم ربنا جل وعلا: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]، وقال تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2]، ويقول سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]. والقرآن والسنة مليئان بالنصوص الدالة على تعمق عداوة الكفار للمؤمنين والتحذير من الانخداع بهم أو اتخاذهم أولياء.
وهذه الأحداث الأخيرة خير شاهد على ذلك، ففي ظل المناداة بالسلام وحقوق الإنسان والتعايش والديمقراطية وغيرها من الشعارات الزائفة التي يرفعونها تجدهم أول من يكفر بها ويخالفها، فقد أثبت التاريخ الحاضر بما لا يدع مجالاً للشك أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وأنهم لا يتورّعون عن قتل المسلمين أو النيل منهم، ولا يجدون في ذلك أدنى حرج، ولا يعجزهم بعد ذلك ما يتحجّجون به من الحجج والأكاذيب لتبرير أفاعليهم.
وهذه رسالة موجهه لأولئك المخدوعين من المسلمين بالغرب، الذين ينادون بين الحين والآخر بالتقارب بين الأديان وبالارتماء في أحضان الغرب وبالإشادة بهم وأنهم أهل التقدم والرقي والحاضرة وبالمنادة بالتأسي بهم في كل شيء، فتجد الواحد منهم يتقمّص شخصية الغرب في شتى نواحي الحياة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي كل صغيرة وكبيرة، فهؤلاء همُ الغربُ: قتلةُ الأبرياء من الشعوب المغلوب على أمرها، ومغتصِبو ثرواتها ومقدّراتها، والعابِثون بحرياتها وكرامتها، والنائلون من أنبياءِ الله ورسله، والممتهنون والمحرّفون لكتبه.
الدرس الثالث:
إن المحك الحقيقي لإثبات المحبة الصادقة والبرهنة على صدق الانتماء لهذا الدين واتباع سيد المرسلين هي الأزمات والمواقف التي بها يثبت المحب الصادق من الدعيّ الكاذب، لا الدعاوى والأكاذيب، فكم سمعنا ممن يتشدق بمحبة النبيّ ويرمي غيره بالجفاء والبعد عن حبّ النبي ، ثم لما ظهرت هذه الأحداث الأخيرة لم نسمع لهم شيئًا يذكر، ولما نر منهم فعلاً يشكر، بينما في المقابل عندما سخِرت إحدى القنوات الفضائية من أحد مراجع بعض الطوائف أقامت هذه الطائفة الدّنيا ولم تقعدها احتجاجًا على هذا الفعل وتنديدًا بهذه القناة. فأين هذه الغيرة على جناب المصطفى ؟! وأين ادعاء المحبة؟!
الدرس الرابع:
المسلمون يملكون أقوى الأسلحة في الضغط على القوى الكبرى في العالم، إنه السلاح الاقتصادي، المقاطعة الاقتصادية التي تؤثر في الغرب الكافر، الذي يعيش على المادية الصرفة، الذي يعبد الدرهم والدينار، فقد أثبتت المقاطعة المباركة التي تواصى بها المسلمون في البلاد الإسلامية وخاصة البلاد الغنية التي هي أسواق استهلاكية لمنتجات الغرب، أثبتت جدواها ونفعها، فقد أدت إلى خسائر عظيمة في الشركات الكبرى وإغلاق لبعضها، فقد تراجعت مبيعاتها بشكل كبير جدًا، وتسببت المقاطعة في تكدّس البضائع في المستودعات، فلم يعد عليها طلب يذكر، وعادت بعضها إلى بلادها خائبة خاسرة، حيث لم تستقبل من التجار المسلمين، وألغِيت كثير من العقود مع بعض الشركات العظمى من بعض التجار الكبار؛ مما أدى إلى قلق عظيم لدى ملاكها؛ مما يؤثر سلبًا على اقتصاد دولتهم.
وقد تحدث العالم بأسره عن هذه المقاطعة، وأقضت مضاجعهم، مما يعني أنها ألحقت نكاية عظيمة بهم، مما جعل الاتحاد الأوربي يقف على قدميه.
وهكذا فإن إرادة الشعوب لا يقف في وجهها شيء إذا توحّدت، ولذلك من الحكمة أن تستنهض الشعوب النائمة، ويذكى في نفوسها الحمية للدين، بالكلمة النافعة والمقال والمحاضرة والخطب والدروس، ولو حتى برسالة قصيرة بالجوال، فقد أثبتت جدواها ـ ولله الحمد ـ على غير كلفة فيها.
فالمقاطعة عمل مبارك مشروع، يثاب عليه الإنسان إذا احتسب عمله لله جل وعلا، فلا نلتفت إلى ما يشيعه بعض المرجفين من عدم مشروعيتها أو عدم جدواها، فوالله إنها آلمتهم كثيرًا، وأدّت إلى ثمار نافعة مباركة بإذن الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، يقول ربنا جل في علاه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص: 68]. فالله خلق الخلق ويختار منه ويصطفي ما يشاء، ويفضل بعض خلقه على بعض لحكمة يعلمها سبحانه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
إخوة الإيمان، لقد فضّل الله سبحانه في هذه الدنيا بعض الأيام، فبارك فيها وجعل أجر الأعمال الصالحة فيها مضاعفا؛ لكي نتخذها وسيلة إلى مضاعفة الثواب ووسيلة إلى رضا رب الأرباب.
وإن من الشهور التي فضلها الله على غيرها واختصَّها بمزيد تشريف وتكريم شهر الله المحرم، فهو شهر عظيم من الأشهر الحرم، ورد في فضله الكثير من الآيات والأحاديث، فالله سبحانه خصَّ الأشهر الحرم بالذكر، وشدد فيها على عدم الظلم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة: 2]، ويقول سبحانه: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97]، كما ذكر رسول الله هذه الأشهر وخص شهر المحرم بالذكر، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل)).
في هذا الشهر ـ عباد الله ـ يوم عظيم هو يوم عاشوراء، وهو يوم من أيام الله سبحانه، نجَّى فيه نبيه موسى عليه السلام وقومه من عدوه فرعون وقومه. فيوم عاشوراء هو اليوم الذي نصر الله فيه أولياءه وقهر أعداءه، واليوم الذي ارتفعت فيه كلمة الحق وأزهقت كلمة الباطل، اليوم الذي قال فيه موسى لقومه لما قالوا له وهم يرون فرعون وجنوده خلفهم: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، قال موسى بلغة المؤمن الواثق من وعد الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]، اليوم الذي قال فيه فرعون المتجبر المتكبر المتألّه، قال فيه صاغرا لما أيقن بالهلاك: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90]، فردّ الله عليه هذا الإيمان الاضطراري وهذه الدعوى الكاذبة فقال عز من قائل: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: 91، 92]
هذا اليوم حُق لكل مؤمن أن يعرف قدره، وأن يتيقن فيه من سنة الله الكونية في نصرة أوليائه الذين ينافحون عن دينه ودحر أعدائه الذين يعارضون شرعه في كل زمان ومكان.
هذا اليوم ـ أيها المسلمون ـ شرع لنا فيه الصيام تقربا إلى الله سبحانه وشكرا على نجاة موسى عليه السلام، لهذا صامه رسول الله وصامه أصحابه رضي الله عنهم، ولا زالت الأمة تصوم هذا اليوم وتتأسى بنبيها في صيامه.
ولقد سن لنا نبينا أيضا صيام اليوم التاسع من هذا الشهر، يقول في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) أي: إن عشت إلى العام المقبل لأصومن التاسع أيضا، ولكنه مات قبل أن يصومه، لهذا يسنّ صيام هذين اليومين اللّذين رتب الله سبحانه على صيامهما أجرا عظيما، لا ينبغي لمسلم أن يزهد فيه أو يفرط، فقد ذكر أن صيام عاشوراء يُكفِّر السنة التي قبله، فيا له من فضل عظيم، ويا لها من بشرى طيبة، عن أبي قتادة أن رسول الله قال عن صيام يوم عاشوراء: ((إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) أخرجه مسلم.
يصوم الإنسان هذا اليوم مؤمنا مخلصا محتسبا، فيكفر الله عنه خطايا عامه المنصرم، ويستقبل عامه الآتي بنفس منشرحة وقلب عامر بالإيمان، فهذه نعمة يتفضل بها الله سبحانه على عباده، وهذا ميدان للتنافس والتسابق على إحراز الحسنات، ينبغي لكل حازم أن يضرب فيه بسهم، وأن يزاحم عليه ما دام في العمر فرصة وفي الجسد قوة.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله...
(1/5131)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
خالد بن عبد الله الحمودي
جدة
مسجد الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأخلاق الحميدة. 2- فضل خلق الحياء. 3- الحياء من صفات الله تعالى. 4- أسمى صور الحياء. 5- من آداب الإسلام. 6- الحياء المذموم. 7- خطورة انعدام الحياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المؤمنين، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى عز وشرف، وأهلها هم الفائزون، أسال الله أن يجعلنا جميعا من عباده المتقين.
معاشر المؤمنين، أيها الكرام، إن للأخلاق الحميدة في ديننا منزلة كبيرة، فقد أولى الشرع المطهر الأخلاق الحسنة اهتماما كبيرا، ورفع مكانتها. ومن تلكم الأخلاق خلق عظيم وخلق فاضل، هذا الخلق جميل في حق الرجال، وهو في حق النساء أجمل، اتصف به أشرف الخلق نبينا وحبيبنا ، عندما أراد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن يصف هذا الخلق في النبي ، عندما أراد ذلك الصحابي الجليل أن يصف هذا الخلق الجليل في النبي قال: كان رسول الله أشدَّ حياء من العذراء في خدرها. رواه البخاري.
أيها الكرام، الحياء دليل على المروءة وعنوان على الشهامة وآية على حسن الخلق. الحياء ـ أيها الكرام ـ انكسار للعظيم وخجَل من الكريم واحترام للكبير. الحياء عزة في ثوب التذلّل، وشموخ في زيّ الانكسار، وهمة في رداء التواضع. الحياء من الحبيب يكسر حدّة البصر ويطأطئ عنفوان الرأس. الحياء ـ يا عباد الله ـ أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه.
إن خلق الحياء ـ يا عباد الله ـ من الأخلاق الحميدة التي حثَّ عليها ديننا، بل عدّها نبينا من شعب الإيمان، فقال بأبي هو وأمي : ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) رواه البخاري.
وإن مما يرفع الحياء ويعلي من شأنه أنه صفة من صفات الله جل في علاه، فهو سبحانه حيي، يقول النبي : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه يدعوه أن يردّهما صفرا ليس فيهما شيء)) رواه الترمذي وصححه الألباني. إن حياءَه سبحانه من عبده هو حياء يليق بجلاله وعظيم سلطانه، لا تدرِكه ولا تكيّفه العقول، وهو حياء كرم وبرّ وجود وعطاء، قال بعض العلماء: وأما حياء الرب تبارك وتعالى من عبده فنوع آخر لا تدركه ولا تكيّفه العقول، فإنه حياء برّ وكرم وجود، فإنه سبحانه وبحمده كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا، ويستحي جلّ جلاله أن يعذّب شيبة شابة في الإسلام، فهنيئًا لمن شاب في الإسلام وخاف الله واتقاه واشتاق إلى لقاء مولاه الله جل في علاه، يستحي أن يعذّب من شاب في الإسلام، فيا ربّ يا ربّ لا تعذّبنا جميعا فإنّا نحبك.
عباد الله، إن الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحق، كل من له حق عليك تستحي أن تقصر في حقه، وقد مرّ النبي على رجل يعاتب أخاه في الحياء يقول له: إنك لتستحي حتى كأنّه قد أضرّ بك، فقال النبي : ((دعه، فإنّ الحياء من الإيمان)) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)).
أيها الكرام، إن أسمى صور الحياء تتجلّى ـ يا عباد الله ـ في الحياء من الخالق جل جلاله، فالحياء استشعار لعظمة الله واستحضار لهيبته ومراقبة لجلاله، وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم هم أكثر الناس بعد النبي حياء من الله وأشدّهم خجلا منه وخشية له ومراقبة لجلاله ومع ذلك يقول لهم النبي : ((استحيوا من الله حق الحياء)) فما بالنا نحن الضعفاء؟! فما بالنا نحن الفقراء؟! يقول لهم: ((استحيوا من الله حقّ الحياء)) ، فقال رجل من الصحابة: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد الله، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) رواه الترمذي.
وهذا الحديث ـ يا عباد الله ـ يحوي كثيرا من آداب الإسلام ومناهج الفضيلة، فإن على المسلم تنزيه لسانه أن يخوض في باطل، وعلى المسلم تنزيه بصره أن ينظر إلى عورة أو يرمق شهوة، وعلى المسلم تنزيه أذنه من أن تسرق سرّا أو تسمع منكرًا وحراما، وعلى المسلم أيضا أن يفطم بطنه عن الحرام ويقنعه بالطيب الميسور، اقنع ـ يا عبد الله ـ بالطيب الميسور، واسأل ربك أن يبارك في القليل، ثم على المسلم أن يصرف أوقاته في طاعة الله وإيثار ما لديه من ثواب، فلا تستخفّنّه نزوات العيش ومتعُه الخادعة. جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أوصني، واسمع وصية حبيبك ونبيك ، وهي وصية لهذا الرجل ولنا وللأمة حتى تقوم الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: ((أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من رجل من صالح قومك)) ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة.
عجيب أمر بعض الناس الذين يتجرّؤون على انتهاك الحرمات ويهتكون ستر الحياء، ثم يمضي الواحد منهم دون خجل من ربّه أو حياة لقلبه أو وخز لضميره، قال تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 7-10]، يقول ابن القيم رحمه الله: "إن العبد متى علِم أنّ الرب ناظر إليه أورثه هذا العلم حياء من الله، فيجتذبه إلى احتمال الطاعة، وذلك كمثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده، فإنه يكون نشيطا فيه محتملا لأعبائه، ولا سيما مع الإحسان لسيده، والله عز وجل لا يغيب نظره عن عبده، فإذا ما غاب نظر العبد عن كون المولى ناظرا إليه تولد من ذلك قلة الحياء". والمقصود ـ يا عباد الله ـ أن الذنوب تضعف الحياء، وخلق الحياء ـ أيها الكرام ـ هو خلق يميّز أتباع هذا الدين كما قال النبي الكريم عليه من الله الصلاة والتسليم: ((إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)).
أيها الكرام، ليس من الحياء في شيء حياء يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس من الحياء في شيء حياء يمنع من المطالبة بالحقوق، ليس من الحياء في شيء حياء يمنع من التفقه في الدين، بل هذا يسمى عجزًا وضعفا، فقد كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها ومع ذلك في نفسه إذا انتهكت محارم الله احمر وجهه وعلا صوته واشتدّ غضبه لله جل في علاه.
نسأل الله جل جلاله أن يجملنا بهذا الخلق العظيم، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيّئها، لا يصرف عنا سيئها إلا هو.
القول قولي هذا، وأستغفر الله، إن قلت صوابا فمن الله، وإن قلت خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، فاستغفروا الله عباد الله، وتوبوا إليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، إذا انعدم الحياء في نفس الإنسان فلا تسل عن أفعاله، ولا تتعجب من تصرفاته، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: قال : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.
أين خلق الحياء ـ يا عباد الله ـ من رجل أو امرأة يعصي الله تبارك وتعالى في الخلوة وينسى أن الله مطلع عليه؟! أين خلق الحياء من شباب أو رجال يتبادلون الصور الخليعة في أجهزة الجوال عبر البلوتوث أو غيره لا يستحون من الله ولا يستحي أحد منهم من الآخر؟! أين خلق الحياء من فتاة تتكلم مع شاب أجنبي مكالمات مشبوهة؟! بل أين خلق الحياء من ذلك الشاب الذي يؤذي بيوت المسلمين بالتصيد لبناتهم ونسي ذلك المسكين أن ذلك سلف ودين وكما تدين تدان؟! أين خلق الحياء من شباب يجلس بعضهم إلى بعض فتصدر منهم الكلمات النابية والعبارات السفيهة والسباب القبيح؟! أين خلق الحياء من رجل بعد أن بلغ والداه الكبر واحتاجا إليه فإذا به يقابل تلك المعاملة الحسنة بالسنين الطوال بالنكران للجميل والعقوق؟! سبحان الله! أين خلق الحياء من امرأة تخرج من بيتها متعطرة متجملة تخالف بذلك أمر الله؟! بل أين خلق الحياء من امرأة تسافر بحجابها وما إن يعلن قائد الطائرة وصولهم إلى البلد الفلاني حتى تخلع حياءها وحجابها وتخالف بذلك أمر ربها؟! أين خلق الحياء من رجل يؤذي جاره ويتسلط عليه ويضايقه؟! بل أين خلق الحياء من رجل قاطع ذوي رحمه ولم يصلهم بسبب تافه وبعضهم بغير سبب والعذر في ذلك أنه مشغول؟!
أيها الكرام، إن خلق الحياء شامل لجميع جوانب الحياء، في التعامل مع الله جل في علاه، في التعامل مع الوالدين، في التعامل مع الزملاء، في التعامل مع الأقارب والجيران، في التعامل مع كبار السن، ولله در من قال:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا فِي الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه)، وأيّ خير ترجوه ممن مات قلبه؟! كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14].
أيها المسلم، أيتها المسلمة، أيها المسلمون جميعا، ربوا في أنفسكم خلق الحياء، فمن الحياء ما يكون غريزة في العبد، ومنه ما يحتاج المرء إلى اكتسابه وتهذيب نفسه عليه، فاحرص عليه أيها المبارك، واتصف به كما اتصف نبيك وحبيبك ، وتذكر دائما واجعل ذلك نصب عينيك: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
(1/5132)
احرص على ما ينفعك
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الأبناء
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
23/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- احرص على ما ينفعك. 2- وصايا للطلاب بمناسبة بدء السنة الدراسية. 3- التذكير بشأن تعلم القرآن. 4- حض الآباء على تعليم أبنائهم القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن الليل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تضعون فيهما، قال المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام: (أَعْمِلوا الليلَ لما خلق له، وأَعْمِلوا النهار لما خلق له)، وقال الحسن: "اليومُ ضيفك، والضيف مرتحل، يحمدك أو يذمك"، وقال نبيكم : ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)).
أيها المسلمون، روى مسلم في صحيحه وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
قال القرطبي صاحب المفهم في شرح صحيح مسلم فيما نقله عن الأبي المالكي: "معنى قوله : ((احرص على ما ينفعك)) أي: اجتهد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دنياك الذي تصون به دينك وعيالك ومروءتك، ولا تعجز في تحصيل ذلك وتتكل على القدر، فتنسب إلى التفريط شرعًا وعادةً، ومع الاجتهاد فلا بد من الاستعانة بالله تعالى واللجأ إليه، وبسلوك هاتين الطريقتين يحصل خير الدارين".
أيها المسلم، تدبر حال السابقين، ماذا نفعهم الحماس لفكرةٍ ما ضد الشرع؟! وماذا يستفيدون في نصرتهم لمبدأ معين أو لصديق معين وهم يعلمون أنه مخالف للحق والعقل؟! تأمل حال أشخاص تعرفهم أو تقرأ عنهم أو تسمع، ماذا جلب لهم الإصرار على رأي معين وهو يعرف تمام المعرفة أنه مجانب للحق ومخالف للشرع؟! وتذكر حال بعض من تعرف وقد كان له موقف فيه ظلم، ماذا استفاد؟! وبماذا خرج؟! وهل عمله ذاك بعد الممات يكون له أو عليه؟!
إنك ستصير مثلهم، فاحرص على ما ينفعك، ولا يستهوينك الشيطان وتغلبك نفسك، فتأتي بأعمال تحسَّر عليها غدًا. لا تلتفت إلى مقال فلان وفلان، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، كن حازمًا وجادًا في تناولك للأمور، وبمقياس المصلحة والمفسدة الحقيقي الذي يحفظك في الدنيا، وينفعك في الآخرة، وينجيك من عذاب الله وغضبه.
أيها الطالب، غدًا تفتح المدارس أبوابها، وتستقبل طلابها، فاستعن بالله تعالى، وكن جادًا من بداية الدراسة، ولا تسوف أو تكسل أو تتهاون وتتساهل، فالأيام تمضي وتنفرط، كما مضت وانتهت الإجازة الصيفية، وسرعان ما تدق أجراس الامتحانات أبوابك، فخذ حذرك واحرص على ما ينفعك، وخذ من سعتك لضيقك، ومن صحتك لسقمك.
احذر ـ أيها الشاب ـ من ارتياد الأماكن التي تعرض فيها من خلال القنوات الفضائية أفلامُ العهر والخلاعة، وتزيين أعمال الكفار ولبسهم ولغاتِهم وحركاتِهم وثقافاتِهم، فتأخذ بلبِّ الشاب الذي قتله الفراغ وعبث به بسبب إعراضه وفتوره عما ينفعه، وراح يجري لاهثًا وراء ما تعرضه الشاشات، ولو علم ذلك الشاب أن ما يعرض من مفاتن الدنيا ليس له منها شيء إنما هي لأهلها، فلماذا يضيع وقته بالنظر إليها والانبهار بها وإشغال قلبه بالتعلق بها؟! كان الأجدر بالشاب وغيره أن يحرص على ما ينفعه.
أيها الشاب، لا تتجمل للناس في مظهرك، وأنت أول من يكذب نفسه، وتظهره للآخرين بحال السعادة والانبساط والمرح، فإذا عدت إلى منزلك تناولت أقراص الاكتئاب. لا يغلبن جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك، واحرص على ما ينفعك في شأن دينك ودنياك.
إن التفريط وجعل الفرص تمر من بين يديك دون استثمار لها حتى إذا أسلمتك الأيام فيما بعد إلى مرحلة الشباب المتقدمة أو مرحلة الكهولة والشيخوخة عضضت أصابع الندم؛ لِمَ لَمْ تَبْنِ نفسك وتحرص على ما ينفعك وتعرض عما لا فائدة فيه؟!
إنها متعٌ مؤقته تلوح للشباب في عالم سراب الموضات، سرعان ما تنقشع مخلفة وراءها الفشل والبطالة والجهل والأمراض النفسية والفقر.
فجدِّوا ـ أيها الشباب والطلاب ـ في التحصيل الدراسي، وأقبلوا على تلاوة كتاب ربكم وحفظه وتأمله، وجددوا العهد مع الله، ووثقوا الصلة به؛ تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
اللهم خذ بنواصيهم إلى الخير، ودلهم إليه، وثبتهم عليه.
اللهم صل على نبينا وسيدنا محمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فيقول الباري جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30].
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده)) رواه مسلم في صحيحه.
عباد الله، إن تعليم كتاب الله تعالى وتلاوته والعمل به هو المخرج من الفتن، وإن حض الأولاد على تعلمه وتنشئتهم عليه يطهر أخلاقهم ويزكي نفوسهم ويفصّح ألسنتهم ويثري لغة الخطاب والكتابة لديهم ويُليِّن المعلومات لهم، وهذا يتطلب من الآباء طول التفكير وكثرة التأمل في طريقة دفعهم إلى ذلك والشعور بأهميته ووضع الحوافز والتشجيعات لهم كلما أتموا جزءًا معينًا من القرآن.
إن أمواج الفتن وشدة اغتراب الدين وكثرة دواعي الفساد جعلت الأب الغيور مع الأولاد بمثابة راعي الغنم في أرض السباع الضارية، إن غَفَل عنها أكلتها الذئاب. إن توجيه الأبناء لحفظ القرآن الكريم وتلاوته منذ الصغر أبلغ وأنفع، ذلك أن علوقه بالذاكرة في مرحلة الصِّبا أشد ورسوخه أثبت.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من وقت الشباب والطلاب يضيع في الشوارع والملاعب وغيرها من أماكن اللهو واللعب، فلديهم وقت متسع بعد الخروج من المدرسة، يجب صرفهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وخير مكان لذلك لزوم حلق التحفيظ في المساجد التي تتواجد في كثير من المساجد في هذا البلد والحمد لله على نعمه، ويبذل القائمون على جمعية التحفيظ جهدًا ووقتًا مشكورًا، محتسبين الأجر عند الله تعالى، فجزاهم وكل من أسهم في قيامها بمال أو رأي ومشورة أو جاه أو دعاء، جزاهم الله خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبة، وأقر أعينهم بصلاح ذرياتهم، وبلغهم مأمولهم في صلاح أبناء المسلمين وحفظِهم لكتاب الله تعالى.
عباد الله، إنه ليحز في النفس ويوجع القلبَ أن نرى أحيانًا بعض خريجي الثانوية العامة بل والجامعيين لا يحسن تلاوة آية من كتاب الله تعالى على الوجه الصحيح، تُرى مَن يتحمل هذا الخطأ؟! وعلى من يقع اللوم؟! إن الأب إذا استفرغ جهده في دفع ابنه إلى حلق التحفيظ أصبح معذورًا عند الله تعالى وعند الناس وعند ابنه نفسه الذي سوف يتوجه باللوم فيما بعد لوالده: لِمَ لَمْ تعلمني وتحضني على حفظ القرآن وتلاوته؟ سيقع الشاب فيما بعد في مواقف حرجة، وسيلقي باللوم على نفسه وعلى والده؛ لأنهما فرطا في صباه وأول شبابه، لكن الوالد سيخرج من اللوم إذا كان قد بذل جهده واستفرغ طاقته في محاولة تعليم ابنه وتربيته.
أيها الأب المشفق، أذكرك بأن جهدك وتعبك خلف ابنك في سبيل تعليمه لكتاب الله تعالى لن يضيع سدى، وستجني ثماره في الدنيا، كما تجني ثماره في الآخرة أيضًا، فعن سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي قال: ((من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والديه تاجًا يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟!)) رواه أبو داود.
أسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يقرَّ أعيننا بصلاح ذرياتنا وحفظهم لكتابه وسنة رسوله والعمل بهما، اللهم احفظ ذراري المسلمين جميعًا، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان...
(1/5133)
المخدرات وأضرارها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
21/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأكل من الطيبات قضية أصلية في دين الإسلام. 2- الأدلة على تحريم الخمر. 3- الأدلة على تحريم المخدرات بجميع أنواعها. 4- المضار والمفاسد في تعاطي المخدرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فإنّ الله تعالى خاطب جميع رسله وكأنما هم متجمعون في صعيد واحد، وفي وقت واحد، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار لها أمام الحقيقة التي تربطهم جميعًا، خاطبهم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 51، 52].
إن الأكل من مقتضيات البشرية عامة وطبيعتها ولوازم حياتها، غير أن الأكل من الطيبات خاصة هو مما يرفع الإنسان ويزكيه ويصله بربه. وإن الأكل من الطيبات قضية أصلية في دين الإسلام، فليس فقط قضية تشريع، إنه أمر عقيدة أيضًا؛ ولهذا خوطب به جميع الرسل؛ لأن الجسم يبنَى ويحيا ويقوم إذا أكل، فكان لزامًا أن يكون ما يأكله طيبًا حتى ينبت جسمه على الحلال الطيب، وإلا قام على ضد ذلك، فاستحق العذاب وعرض نفسه للفح النار.
عباد الله، وإن على رأس الأشربة المحرمة الخمر، فشربه من الكبائر والموبقات والمهلكات التي ثبتت حرمتها بنص القرآن العظيم وعلى لسان الصادق الأمين ، وعلى ضوئهما أجمع فقهاء الإسلام على حرمة شربها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90]، وقال : ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات ولم يتب منها وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة)) رواه مسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر أن يسقيه الله من طينة الخبال)) ، قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) ، أو: ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم. والأحاديث في تحريم الخمر وتوعد من يشربها كثيرة.
وعودًا على الآية السابقة؛ فإنها قد تضمنت جملة من أساليب التحريم القويمة، ومنها:
1- نظمت الخمرةَ مع مظاهر الشرك في توحيد الله تعالى وعبادته، وهي الأنصاب والأزلام في سلك واحد.
2- وصفت الجميع بأنه رجس.
3- وصفت الآية الخمر بأنها من أعمال الشيطان لقبحها ومفاسدها.
4- أمرت الآية باجتناب الخمر: فَاجْتَنِبُوهُ ، ومعناه أن تكون الخمر في جانب والمؤمن في جانب منها بحيث لا يقربها، فضلاً عن أن يتناولها.
5- قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في آخر الآية، علق رجاء الفلاح والسلامة من الخسران باجتناب الخمر.
6- أن تعاطي تلكم المحرمات أو أحدها الواردة في الآية ومنها الخمر له أثر سيئ في قطع العلاقات بين الناس والصِّلات، وواعد بسفك الدماء وانتهاك الحرمات، قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 91].
7- أنها تؤثر سلبًا في صلة الإنسان بربه حيث تصد عن ذكر الله تعالى.
أيها المسلمون، وإنما جاء الحديث عن الخمر لقلة طَرق هذا الموضوع بسبب ما ابتليت به المجتمعات الإسلامية من وجود المخدّرات، فجاءت فتنةً رقّقت فتنةَ الخمر، لكن هذا لا يعني التقليل من شأن الخمر أو إضعاف حرمتها ويقين ضررها. روى أبو داود أن رسول الله قال: ((لُعنت الخمر بعينها وشاربُها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكلُ ثمنها)) ، وروى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله يقول: ((أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها ومستقيها)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن من المحسوس والمشاهد للناس جميعًا أن المواد المعروفة الآن بالمخدرات على اختلاف أنواعها ومسمياتها لها من المضار الصحية والعقلية والروحية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية فوق ما للخمر، فاقتضى الدليل الشرعي ثبوت حرمتها، وأنها داخلة فيما حرم الله تعالى ورسوله من الخمر المسكر لفظًا ومعنى.
وقد صدر بهذا الشأن فتوى هيئة كبار العلماء بهذا البلد ـ حرسه الله وسائر بلاد المسلمين ـ متضمنة عقوبة مروجيها، وأنهم من صنف المفسدين في الأرض، قال الله تعالى في حقهم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33]. قال الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى: "ويدخل في الخمر كل مسكر مائعًا كان أو جامدًا، عصيرًا أو مطبوخًا، واللقمة الملعونة لقمة الفسق والفجور التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن".
والمسلم ـ عباد الله ـ ليس ملك نفسه، وحياتهُ وصحته وماله وسائرُ نعم الله عليه إنما هي وديعة عنده، لا يحل له التفريط فيها، قال الحق جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].
هذا وإن من مضار المخدرات من حيث العموم ما يلي:
1- فساد المزاج والعقل وفتح باب الشهوات.
2- تورث صاحبها الدياثة على عرضه؛ فكم من متعاطيها أرخصوا أعراضهم وباعوها بثمن بخس مقابل الحصول على شيء من المخدرات.
3- ثبت بالتجارب أن تناول بعض أنواعها ينشِّق الدماغ، ويحدث لصاحبه الخبل أحيانًا، وأنه يتولد عن أكلها إفرازات غير طبيعية تسبب الغثيان والدوار وتضاعف ضربات القلب.
4- أن إدمان تعاطي أنواع منها يسبب تقرّح الطحال بنقط سوداء وصفراء، تفرز مادة خبيثة تكون في مجموعها قروحًا منتنة تزداد سوءًا، إلى أن تتعطل عنده وظيفة الطحال، فتأخذ طريقها إلى التضخم والتعفن والسيلان، مع ما يصاحبه من إفرازات غريبة، هي المرض الذي يوهن قوى المصاب، فلا يزال في هبوط وانحراف في صحته حتى يلقى الله تعالى قاتلاً نفسه، فما هو عذره عند ربه وقد حرم عليه الخبائث وأنذره منها؟!
5- سريان أمراضه وتعديها لتشمل ذرية متعاطيها ونسله وتفكك أسرته.
6- يتوهم مروجوها أنها باب واسع للثراء، ولعل ذلك الوهم يأتي نتيجة المغامرات التي يؤدّونها فيكسبون في الظاهر، لكنهم نسوا أنهم موعودون بمحق البركة؛ ذلك أن عملهم إفساد، والله تعالى توعد المفسدين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك...
(1/5134)
احتفالات الألفية
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
أديان, البدع والمحدثات, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
23/9/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دين عيسى ابن مريم عليه السلام هو التوحيد. 2- سبب تحريف دين النصارى. 3- السر في الدعم الغربي لليهود. 4- سبب الاحتفال بالألفية الثالثة. 5- الآثار المترتبة على هذه الاحتفالات. 6- حكم الاحتفال بالألفية. 7- أسباب لصدّ تلك الهجمة أو تعويقها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنه نظرًا للجدل الدائر حول الألفية وحلول عام 2000 لميلاد عيسى ابن مريم عليه السلام وتأثر كثير من المسلمين بهذا الحدث تأثرًا ساقهم ليظهروا فرحتهم به وتبادل التهاني بينهم أو مع النصارى وبروز مظاهر عدة ترجمت هذا التفاعل، مما يعكس صورة قاتمة لقطاع كبير من المسلمين، ولأن الأمر يمس العقيدة آثرت أن تكون خطبة هذه الجمعة عن هذا الموضوع.
أيها المسلمون، الأصل في دين عيسى ابن مريم عليه السلام هو التوحيد وهو الإسلام، وأن لا إله بحقّ إلا الله وحده سبحانه، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116-118]، وقال جل شأنه بعد سرد قصة ولادته في سورة مريم، قال: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم: 34-36]، وقال جل ذكره مخاطبًا نبيه محمدًا : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وعيسى عليه الصلاة والسلام من أولئك المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل لا تزال نصوص إلى الآن في الإنجيل المحرف الذي يتداوله النصارى اليوم تثبت ألوهية الله سبحانه وبشرية المسيح، وتنكر ألوهية عيسى ابن مريم عليه السلام.
غير أن أحد اليهود اعتنق النصرانية بعد رفع المسيح ابن مريم، واستطاع أن يغير اتجاه هذه الديانة ويسير بها إلى التثليث بدلاً من التوحيد، واستطاع بحيله ومكره معززًا بغباء النصارى أن يُدخل نصوصًا محرفة في الإنجيل تثبت ألوهية المسيح.
ثم تداول النصارى بعده أناجيل عدة، فيها الصحيح وفيها السقيم من ناحية انقطاع السند ونكارة اللفظ أو كليهما، كما وجد تعارض بينهما في بعض المسائل، وإلى الآن هي بين أيديهم أربعة أناجيل، بينما الذي نزل على عيسى ابن مريم إنجيل واحد، فاعجب لضلالهم وخفة عقولهم.
أيها المسلمون، وظل العبث اليهودي في الديانة النصرانية يواصل مسيرته طيلة القرون الماضية بعد أن نفذ إلى أخطر موقع، وهو التحريف للإنجيل، حتى إن أحد علماء النصارى من شدة تأثره باليهودية ألف كتابًا قبل خمسمائة سنة من الآن سماه: "عيسى ولد يهوديًا".
واستمر هذا العبث يمضي بمكر ودراسة وتخطيط، حتى تشكلت لدى قطاع كبير من النصارى قناعات بوجوب النظر إلى اليهود، وأنهم شعب مميز، بل هم شعب الله المختار! وأن هناك ميثاقا وعهدا بينهم وبين الله تعالى بوجوب عودتهم إلى فلسطين وتجمعهم فيها، وأن المسيح لا ينزل حتى تتمّ عودة اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين)، وتشبعت أذهان النصارى بهذه العقيدة أكثر من اليهود أنفسهم، فسعوا جادين منذ ثلاثة قرون لتوطين اليهود في فلسطين، ولعل هذا هو السر في الدعم الغربي لليهود، وإذ يرون إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة أمرا ليس لهم خيار فيه، فليس هي إذًا نظرة عاطفية، أو موقف سياسي أملته ظروف مرحلية، أو مصلحة دعت إليها الحاجة، بل جاء ذلك من عقيدة راسخة لا تقبل التبديل ولا التغيير.
هذه العقيدة عند النصارى تأكدت بعد احتلال اليهود لفلسطين قبل خمسين عامًا من الآن، وبدأ ينمو في حسهم الشعور بأن عودة المسيح بدأت تقترب، ولما احتلوا القدس قبل ثلاثين عامًا من الآن تأكد ذلك أكثر، وخاصة أن الألفية الثانية لميلاد المسيح ابن مريم قربت من نهايتها.
غير أنه بقي شيئان في نظر النصارى لا بد من تمامهما قبل عودة المسيح:
الأول: بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وقد وضع اليهود خريطة الهيكل الجديد، فيما تواصل حفرياتهم تحت المسجد الأقصى بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة، وفي الوقت نفسه يتم إعداد وتدريب كهان الهيكل في معهد خاص بالقدس، أما الأموال اللازمة لذلك فقد جُمع معظمها، وأودع في حساب خاص باسم مشروع بناء الهيكل.
الثاني: وبعد اكتمال المشروع السابق (بناء الهيكل) ستقع معركة عظيمة وتكون حاسمة، وقد ورد اسمها في كتابهم المقدس والمحرف، هذه المعركة كما يقول عنها علماؤهم المعاصرون أنها نووية وتقع في فلسطين، وأن قوات الكفار من المسلمين والملحدين سوف تدمر فيها، إلى أن يظهر المسيح فوق المعركة، ويعلن نهايتها ثم يحكم العالم مدة ألف عام حتى تقوم الساعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالي بأوصافه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وصلى الله على عبده ورسوله أفضل الخلق وخاتم الرسل، من لقي الله تعالى لا يؤمن به لقيه على غير دين الإسلام، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فلعله من خلال العرض السابق يتضح لنا الامتزاج بين العقيدتين: النصرانية واليهودية، وهذا حصل بفعل اليهود حتى يسخروا النصارى لأغراضهم وخدمتهم، وذلك لم يحصل إلا بعد جهد شاق استغرق وقتًا طويلاً واستمر قرونًا، حصل ذلك مع أن النصارى يرون أن الذي يقف وراء صلب المسيح ـ كما يعتقدون ـ هم اليهود، وهذا سبب العداء التاريخي الشديد بين أهل الملتين، استطاع اليهود عبر القرون الماضية تذويب ثلجه، حتى استصدروا صكًا من النصارى بتبرئة اليهود من دم المسيح، وذلك لأجل أن يقف الفريقان في خندق واحد ضدًا وخصمًا أمام عدوهم المشترك المسلمون؛ ولذلك فهم يحتفلون هذه الأيام بكل الإنجازات الماضي ذكرها، والتي احتاجت منهم إلى جهد وعنت شديد، واستغرقت وقتًا طويلاً، وكلفتهم باهظ الأثمان.
نعم إنهم يحتفلون، ولكن بتاريخهم، ويحيون ذكرى انتصاراتهم، وما انتصروا إلا علينا، ويعددون مآثرهم وصور تقدمهم، وقد مرت عجلاته فوق رؤوسنا.
فقد بدأ القرن الميلادي الذي يحتفلون في نهايته، بدأ بسقوط الخلافة الإسلامية، وتقسيم العالم الإسلامي إلى مستعمرات، وانتصف باغتصاب فلسطين وإحياء القوميات الجاهلية على أنقاض الوحدة الإسلامية، ثم ينتهي الآن بمذابح المسلمين في كشمير والفلبين وأفغانستان ولبنان والشيشان والصومال وغيرها.
لقد أعلن من يسمونه الحبر الأعظم بابا الفاتكان قبل أربعة أيام عن فتح باب الجنة، إيذانًا بانطلاقة الألفية الثالثة؛ مما يعطي هذه الاحتفالات اعتبارًا دينيًا، فليست مواقع القرار السياسي هي التي تحدد أو تعلن وقته، وإنما يتم ذلك من الكنيسة، وعلى لسان البابا.
إذًا عمّاذا تتحدث وسائل الإعلام في الدول الإسلامية؟! وبماذا تحتفل وزارة السياحة في إحدى أكبر الدول الإسلامية احتفالاً تزيد تكلفته على خمسين مليون جنيه، ويشترك فيه أكثر من ألف فنان من جميع أنحاء العالم، ويتخلل الاحتفال عروض مسرحية يقوم فيها ألف راقص؟! كل هذا سيجري في غضون هذه الأيام والذي يوافق العشر الأواخر من رمضان المبارك. والشيء المضحك المبكي أن قائد تلك العروض الموسيقية والمسرحية في الدولة المشار إليها رجل فرنسي طمأن المسلمين بأنه سوف يراعي في الاحتفال الاعتبارات الخاصة بشهر رمضان. أمَا علم أولئك المغفلون أو المتغافلون أن دور أمتهم في تلك الانتصارات هو دور المغلوب والمهزوم؟! فبماذا يحتفلون إذًا؟! هذا فضلاً عن أن الاحتفال بهذا التاريخ من أساسه مرفوض في ديننا وعقيدتنا.
أيها المسلمون، الدول النصرانية الكبرى تتنافس في الاستعداد لإحياء ليلة لا تتكرر في ألف عام إلا مرة واحدة، فتنفق المليارات وتهدر الأوقات في تحصيل وتحقيق أهداف يستحي السفهاء من السعي إليها، ناهيك عن العقلاء، وإلا فماذا يعني أن تنظّم البرامج السياحية التي تنقل سائحي الطرف الشرقي من الكرة الأرضية إلى الطرف الغربي والعكس، سعيًا في أن يقضي السائح ساعات الاحتفال في أفضل وأجمل بقعة، وغير هذا كثير من صور الهوس الذي يموج في ورش الاستعداد للاحتفالات.
إن هناك مخططات بعيدة المدى تم إعدادها، وهي تنفذ الآن تحت مظلة الاحتفالات بقدوم الألفية الثالثة، أقل ما توصف به هذه المؤامرة هو أنها أكبر حملة تنصيرية تغزو بلاد المسلمين، بعد أن أخفقت الحروب الصليبية الأولى والمعاصرة، وبعد أن أضحى احتمال عودة المسيح ونزوله الآن ضعيفًا؛ لأنه لم يصل بعد في الموعد المنتظر، فاستبدلوا قدومه الحسي بقدوم دينه والتبشير به في العالم كله، ونشر مبادئه التي يرونها، واعتناق أكبر عدد ممكن للنصرانية، كما استبدل اليهود احتلالهم لما بين الفرات والنيل حسيًا بأن يكون ذلك معنويًا؛ وذلك بنشر الثقافة اليهودية هناك، وأن لا يفعل إلا ما يريدون، وكل ما يعارض أو من يعارض مصالحهم ومشاريعهم يجب الإطاحة به؛ لأن الحسابات التي يعدونها في رأس هذا القرن الميلادي لم يقدر لها النجاح المطلوب، ولذا فإن ما يفعله أهل الديانتين هو خطوة مرحلية تمليها الظروف غير المواتية لهم الآن، ومتى ما سنحت لهم الفرصة قفزوا إلى مآربهم.
إن ملايين النصارى الذين سيتدفقون على دوَل الشام وخاصة الأردن وفلسطين تحت مظلة الاحتفال بالألفية، إن تلك الجموع تحمل معها حملات تنصيرية، إضافة إلى أنها تظاهرة لاستعراض القوة والكثرة العددية، والتفوق في كل شيء، وتوسيع الوجود المسيحي هناك، فقد اعتمد الفاتيكان قبل عدة أشهر خمسة مواقع مسيحية جديدة في الأردن، يستطيع المسيحيون من جميع أنحاء العالم زيارتها باستمرار، وهذا يجعلنا ندق ناقوس الخطر خوفًا من احتمال الدعوة إلى أرض ميعاد جديدة للمسيحيين، فلديهم شوق ممِضّ أن يروا بلاد الشام ترفع الصليب في كل مواقعها؛ لأن سنابك خيل المسلمين في معركة اليرموك التي قادها أصحاب رسول الله وسقط فيها من نصارى الروم والعرب عشرات الآلاف من القتلى لا يزال صداها يرن في آذانهم ويتردد.
أيها المسلمون، لو كانت تلك الاحتفالات مجرد صخب سياحي أو ضجيج إعلامي أو لغط سياسي حول عدد من القضايا لهان الأمر، ولكن الظاهر أن تفاعلات الاحتفال لن يجري تمريرها دون توظيفها في تدشين هجمة تبشيرية نصرانية واسعة النطاق، تهدف إلى غرس أشواك شجرة الميلاد الألفي الشركية في قلوب الملايين من البشر التائهين، لإلحاقهم بركب المغضوب عليهم أو الضالين.
إنهم لا يحتفلون بميلاد عيسى ابن مريم على أنه رسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، مع أن إقامة الموالد جملة وتفصيلاً بدعة ضلالة يأثم المسلم على فعلها، إنهم لا يحتفلون على أن عيسى رسول، بل يحتفلون بعيسى الإله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، كبيرٌ على مسلم موحّد أن يحتفل أو يتفاعل مع احتفالات يُدَّعى أنها احتفالات ميلاد الرب، قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17]، وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73].
وتعني احتفالاتهم أن الإسلام ليس دين الحق؛ لأنه لو كان كذلك لحكم المسيح الآتي بشريعته، كما تعني أن القرآن ليس مهيمنًا على ما سبق من الكتب السماوية.
وقد يعترض أناس ويقولون: إن هذه عقائد خاصة بهم، ونحن لا نؤمن بها، ونعرف قبل الألفية وبعدها أنهم كفار. وهنا نبادر هؤلاء المعترضين قائلين: إذن فلندَع لهم احتفالاتِهم، كما تركنا لهم عقائدهم، وإلا فنحن مشاركون لهم لا محالة في ترسيخها بتعظيمها أو الاحتفال بها.
أو يعترض آخرون قائلين: تلك الاحتفالات تجري خارج المملكة فشرها بعيد عنا. لكنا نقول: القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت لا تعترف بالحدود الجغرافية، فكثير من أبنائكم يرونها وأنتم نائمون، ولعل قطاعًا كبيرًا منهم يتابعونها فينبهرون ببهرجة ما يعرض وأنتم ضحى تلعبون، فلزم التنبيه.
عباد الله، أيها الشباب خاصة، الجدير بالمسلم المتأثر بتلك الاحتفالات أن يتبرأ منها كما تبرأ المسيح منها ومن أمثالها إذ أعلن ذلك، كما جاء في القرآن قول الله تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
أيها المسلمون، ماذا نقول للتحذير من خطر الاحتفالات بالألفية؟
علينا أولاً أن نَعِيَ أنها تبشيرية في المقام الأول؛ ولذا فمن الطبيعي أن تُسخَّر لها الآلة الإعلامية الضخمة في دول الغرب، وهم هناك إذا أرادوا إلقاء الأضواء على قضية ما أبرزوها حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها من سحرهم تسعى، وكثير من شباب المسلمين اليوم يعكفون خلف الشاشات المرئية قنوات فضائية أو إنترنت، وهي موكلة بنفث السموم.
ومن أجل صد تلك الهجمة أو تعويقها علينا:
أولاً: التحذير من الانبهار ببهرج الألفية التي قد تخطف أبصار وقلوب ضعفاء الإيمان، ولنركز على روح الاستعلاء على الشرك ومظاهره الخادعة، اهتداء بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [الأنفال: 36، 37].
ثانيًا: إبراز النظرة الإسلامية لعيسى عليه السلام، وهي النظرة الوسط بين غلو النصارى الذين يؤلهونه، ونظرة اليهود الذين يجافونه، ويعدونه ابن بغيٍ، ويصفونه بأقبح وأشنع الأوصاف، قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75].
ثالثًا: أن نعتز بتوحيدنا، ونعتد بشريعتنا، ونفتخر بهويتنا الإسلامية، بما فيها الأعياد والعادات والتقاليد المستمدة منها، ونحن نملك حضارة التوحيد القائمة على القيم النبيلة والاحترام الحقيقي لحقوق الناس كلهم والمتميزة بالصبغة التي أرادها الله، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].
إن حضارة الغرب قائمة على: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7]. إن الهزيمة النفسية التي ترى في مظاهر الشرك والعصيان تقدمًا وحضارة وتخجل من قيم الإيمان والتوحيد هي شخصية ضائعة، ليس لها مكان ولا في الهامش.
وأخيرًا: لنحذر ونُحذِّر من الدعوى التي يطرحها أهل الكتاب بأسلوب أو بآخر، من أن الزمان أصبح زمانهم، والمستقبل مستقبلهم، وأن الله يؤيدهم بالانتصارات والمعجزات والكرامات وخوارق العادات، فهذا كله من كيد الشيطان، إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. ولنفضح الخلفيات الدينية والخرافية القابعة وراء مشاريع أهل الكتاب الإجرامية في مناطق المسلمين، ولنثق أنهم يكيدون بكيد الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف.
ومن مظاهر ذلك أنه في ظروف احتفالاتهم هذه تهبّ الآن على بعض دول أوربا رياح وعواصف عاتية، ففي جنوب فرنسا وحدها خلّفت مئات الجرحى وعشرات القتلى، وهرب الكثيرون من منازلهم خوفًا من سقوطها حيث تصدع كثير منها، بل هدم البعض، وأصبحت بلا ماء ولا كهرباء، حتى استنفروا 3200 عاملاً للطوارئ يعملون فقط على إعادة تيار الكهرباء، وقدرت الخسائر المادية في فرنسا فقط بمليارات الدولارات، وفي أمريكا أصيبت السلطات هناك بأشبه ما يكون بحالة هستيريا، تخوفًا من هجمات إرهابية تستهدف موقع الاحتفالات والتجمعات، وانعكس ذلك الشعور والاهتمام على الناس هناك، حيث تهافتوا على اقتناء الأسلحة استعدادً للدفاع عن أنفسهم من هجمات إرهابية.
وختامًا نقول:
والليالي من الأيام حبالَى مثقلات يلِدن كلَّ جديد
اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/5135)
النهي عن الربا والحض على الكسب الطيب
الأسرة والمجتمع, فقه
البيوع, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
21/10/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قبح التعامل بالربا. 2- صور الربا في الجاهلية. 3- حكم الفوائد البنكية. 4- الأدلة على حرمة الربا. 5- فضل السعي في طلب الرزق بالطرق الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحضه على تقوى الله عز وجل، ثم أحذركم مما حذركم الله ورسوله من أمر الربا الذي هو كبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات، فكم خرب من ديار عامرة، وكم صير غنيًا فقيرًا، وكم أصبحت عائلات وتجار بل دول بكاملها أصبحت في أصفاد الفقر والفاقة والأنهار تجري من تحتهم، ذلكم بسبب الربا، ولعل الحال الاقتصادي للعالم اليوم كافٍ لترجمة المعاني التي ذكرت، وكافٍ للدلالة على ما قلت.
عباد الله، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، ويقول جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279].
عباد الله، في هذه الآيات وغيرها جاء التحذير من أكل الربا وتعاطيه والتغليظ الشديد على من يتعامل به وخسارتُه، كيف لا وهو في حرب مع الله ذي القوة المتين؟!
واعلموا أنه لم يبلغ التهديد في القرآن الكريم سواءً في اللفظ أو المعنى ما بلغه في أمر الربا، ولله الحكمة البالغة، فلقد كان للربا في الجاهلية الأولى مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائهة والقبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية الأولى كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفةً كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث، وكثيرًا ما نسمع أن دولاً مدينة لدول أخرى ديونًا أثقلت كاهل حكوماتها وشعوبها، وأضحت تئن تحت وطأة الديون، كل هذا بسبب التعامل الربوي ونظمه الاقتصادية التي وقفت في حرب مع الله، ثم انهزمت في آخر أمرها أمام جنود الله، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر: 26].
أيها المسلمون، إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية والذي نزلت الآيات السابقة وغيرها لإبطاله ابتداءً كانت له صورتان رئيسيتان هما: ربا النسيئة وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة رحمه الله تعالى: "إن ربا أهل الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجلٍ مسمى، فإذا حلّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخَّر عنه"، وقال مجاهد: "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه"، وقال الرازي رحمه الله في تفسيره: "إنّ ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا، ورأس المال باقٍ على حاله، فإذا حل الأجل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل".
وأما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح، وهكذا. وقد ألحق هذا بالربا لما فيه من شبَه به، ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) متفق عليه، وعنه أيضًا قال: جاء بلال إلى النبي بتمر برني، فقال له النبي : ((من أين هذا؟)) قال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال: ((أوَّه! عين الربا، عينُ الربا، لا تفعل؛ ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به)) متفق عليه.
ومعنى هذا أن هناك فروقًا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة، وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعًا من التمر الجيد، ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يحدث شبهةَ أن هناك عملية ربوية إذ يلد التمرُ التمر فقد وصفه النبي بالربا المنهي عنه، وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد، ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضًا؛ إبعادا لشبح الربا من العملية تمامًا.
فاللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمدٍ، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، ولكن هل نفيق من غفلتنا ونستيقظ من نومنا ونصحو من سكرتنا؟! فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه.
أيها المسلمون، يقول الحق تبارك وتعالى محذرًا عن أكل الربا والتعامل به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279]. يا لفظاعة الأمر وهوله! حرب من الله ورسوله، حرب تواجهها البشرية، حرب رهيبة معروفة المصير مقررة العاقبة، فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟!
لقد أمر الرسول عامله على مكّة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي، ولقد أمر كذلك في خطبة يوم فتح مكة بوضع كلّ ربا كان في الجاهلية وأوله ربا عمه العباس عن كاهل المدينين الذين ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، وقال في خطبته : ((وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس)).
إن هذه الحرب معلنةٌ وليست خفية، إنها معلنةٌ في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة، وهي حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، حربٌ يسلط الله تعالى فيها العصاة لنظامه ومنهجه بعضهم على بعض، إنها حرب المطاردة، حرب الغبن والظلم، حرب القلق والخوف، حرب الأمراض المزمنة والأوبئة الفتاكة، حرب البطالة، وأخيرًا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول.
إنها الحرب المشبوبة دائمًا، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا، وهي مستعرة الآن، تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة، وهي غافلة، تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.
عباد الله، إن استرداد رأس المال مجردًا عدالةٌ لا يظلم فيها دائن ولا مدين، فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة، لها وسيلة الجهد الفردي والعمل اليدوي، ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة؛ وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ومقاسمته الربح والخسارة، ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق بدون سنداتِ تأسيس تستأثر بمعظم الربح.
أما وسيلة إيداعها بالبنوك القائمة الآن التي تأخذ الربا وتعطيه وهي ما يسمونه بغير اسمه فيسمونه فائدة فهذا حرام لا يجوز أكله، وقد عرَّض المتعامل به نفسَه لحرب الله ورسوله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
نسألك اللهم أن تقينا شح أنفسنا، وأن تعيذنا من نزغات الشيطان ووساوسه وتوهيماته، وأن تحقق لنا ما وعدتنا بقولك وقولك الحق: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
استغفروا الله، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أحل الطيبات من الرزق ونهى عن الخبائث، وحرم الربا بكل صوره وأشكاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وبارك، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه، واعلموا أنه لا يغني عن بركة الله ولا من رحمته شيءٌ، والعبد لا يدري ما الذي خبِّئ له في الغيب، فقد يكون أجله إلى شهر أو يوم أو ساعة أو أقل، ثم ينتقل إلى الآخرة، ويترك كل شيءٍ وراءه للوارث خيره ونفعِه وعليه حسابه وعقابه.
والربا عظيم جرمه شديد عقابه أليم عذابه في الدنيا والآخرة، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي، وفي رواية للإمام أحمد بسند صحيح عن النبي قال: ((درهم ربًا يأكله الرجل وهو يعلم أشدّ من ستّ وثلاثين زنية)) ، وقال : ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإنَّ أربى الربا عرض الرجل المسلم)) رواه الحاكم وصححه، وفي الحديث المتفق عليه قال : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله: وما هي؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) ، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فردَّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، إن آثار أكل الربا والتعامل به والتي تظهر تداعياتها في كل المجتمعات الآن دعت كثيرًا من الناس والدول يلجؤون إلى حل مشاكلهم الاقتصادية والمالية عن طريق الربا ثانية؛ من الاقتراض من البنوك، ومن إعادة جدولة الديون، ومن القروض المشروطة، فصارت أحوالهم كالذي يشرب من البحر، كلما شرب زاد ظمؤه وهيامه بالماء، فأحوالهم الآن مكبلة بالديون.
إن الإسلام في الوقت الذي يحذر فيه من الربا والتعامل به فتح أبواب العمل والكسب الطيب على مصاريعها، ورغب الله تعالى ورسوله في ذلك، وأثنى على العاملين، بل إن الله تعالى وتقدس ذكر فضل السعي في الرزق وابتغائه، حتى لو اضطر الإنسان إلى السفر، قال تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ أي: يسافرون يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو، وكسر النفس بذلك، والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير".
إن توكيد قيمة العمل وإبرازه والحض عليه فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الشرع المطهر، وضحها الرسول القدوة في الحديث الذي قال فيه: ((إن قامت الساعة وفي بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها، فله بذلك أجر)).
ما أجدر المسلمين ـ أيها الإخوة ـ وهو يشكون من البطالة الآن وتمتلئ الشوارع في كثير من البلدان الإسلامية بالرجال العاطلين بالرجوع إلى مثل هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي تؤكد أصالة العمل في كل ميدان مشروع.
أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه. ويشير رضي الله عنه إلى أنه كان كسوبًا لمؤنته ومؤنة عياله بالتجارة من غير عجز، ولم تصده الخلافة عن الاحتراف والعمل، وقوله هذا تمهيد على سبيل الاعتذار عما يأخذه من مال المسلمين إذا احتاج إليه.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟! قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة، أي: نصفها.
فانظروا دأبَ وعمل أصحاب رسول الله الذين اقتدوا به حقّ الاقتداء، وانظروا إلى سيرة الحاكم العامل الزاهد الورع رضي الله عنه الذي لا يأخذ من بيت المال إلا ما يطعم نفسه وعياله، وهكذا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، فبمثل هؤلاء ينتشر الصلاح، وتنتصر الجيوش، ويعم العدل أرجاء المعمورة، وتفتح البلدان، وتحمى الأعراض، وتحفظ الحقوق.
وفي الصحيح كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أصحاب رسول الله عُمالَ أنفسهم، فكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم، أي: أنهم كانوا يعملون ويجهدون في ذلك حتى تنبعث منهم روائح العرق.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك...
(1/5136)
الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
28/10/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كراهية النفس واستثقالها للقتال. 2- حِكَم مشروعية الجهاد في سبيل الله. 3- فضائل الجهاد في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الله سبحانه وتعالى علم مدى كراهية النفس واستثقالها للقتال ولو كان في سبيل الله؛ نظرًا لما فيه من مشقة وآلام وتضحيات جسام وأهوال، لكنه سبحانه قد علم أيضًا ـ وهو ما لا يعلمه كثير من الناس ـ أن الخير الكثير مرتبط به ومتحقّق فيه، ولذا فقد فرضه فرضًا مؤكّدًا وأوجبه إيجابًا قاطعًا، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].
نعم، إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة، ولكنها فريضة واجبة الأداء؛ لأن فيها خيرًا كثيرًا للفرد المسلم وللأمة الإسلامية بل للبشرية جمعاء، فالقرآن الذي يحسب حساب الفطرة لا ينكر مشقة هذه الفريضة وإحساس الناس بثقلها وكراهيتها، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر؛ فيقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير ولكن وراءه حكمة تهوِّن مشقته وتسيغ مرارته وتحقق به خيرًا مخبوءًا قد لا يراه النظر الإنساني القصير.
إن صلاح الأرض وإقامة العدل فيها ورفع الظلم عنها منوط بالجهاد، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].
إن من أشد أنواع الفساد أن تتعرض أماكن العبادة ـ رغم قداستها وتخصيصها لذكر الله تعالى ـ للهدم والخراب، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج: 40]. فهذه الأماكن المقدسة لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي: دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها، فالباطل متبجح لا يكفّ عن العدوان إلا أن يدفع بقوة مثله، ولا يكفي للحق أنه الحق ليقف عدوانُ الباطل عليه، بل لا بد من قوة تحميه وتدفع عنه.
ومن هنا شرع القتال في سبيل الله، شرع لتحقيق غايات كبرى وأهداف عليا، تسمو بالنفوس الكريمة، وتتطلع إليها الفطر القويمة، شرع لتقرير وحدانية الله تعالى في الأرض، وتمكين الإنسان أن يعبد الله وحده بحرية، وتحقيق الكرامة الإنسانية بإقامة شرع الله وحكمه، وعمارة الأرض وفقًا لذلك. ولهذه الأغراض جاء التأكيد على شرع الجهاد وفرضه ووجوبه ولزومه: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]، وقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193].
عباد الله، شاء الله جل وعلا أيضًا أن يفرض الجهاد على المسلمين لحكمة أخرى غير ما ذكر؛ وهي ابتلاؤه لعباده بعضهم ببعض، وتربية أتباعه على الإخلاص والثبات ومواجهة الموت والصعاب، وتيسير الأسباب لدخول الجنة بغير حساب، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد: 4-6].
إن المجاهد في قتاله الكفار يكتسب حياة الأبد؛ لأنه إن قَتل فقد أعلى دين الله تعالى، وإن قُتل فقد أحيا نفسه، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169-171].
أيها المسلمون، لتلكُم الأسباب شرع الله الجهاد، وندب المسلمين أن يخرجوا له خفافًا وثقالاً، أي: شبابًا وشيوخًا، أو أن المعنى نشاطًا أو راغبين عنه لكثرة العدو وقوته وقلة المال وكثرة العيال أو غير ذلك.
فالجهاد حياة، وهو مع ما وعد الله المجاهدين من الخير اللامحدود في الآخرة فهو أفضل طريق للكسب والمعيشة، قال : ((وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)).
عباد الله، لقد حفلت نصوص الوحيين الكتاب والسنة في الترغيب بالجهاد وتعداد فضائله، وما يناله المجاهدون من المنزلة عند الله يوم القيامة، وما تعقبه حركة الجهاد من ظلال العزة والهيبة للمسلمين في قلوب أعدائهم، وما تفجر من طاقات شبابها وتسابقهم إلى ميادين المجد والانشغال بما يثبت شرفهم في الدنيا ويقربهم من مولاهم في الآخرة ويزهدهم في متاع الدنيا الفانية، قال : ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف: 10-12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما جاء في السنة مما يرغب في الجهاد ما جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها)) متفق عليه، وعن سلمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) رواه مسلم. ومعنى الحديث: أن ثواب عمل المرابط لا ينقطع بالموت، وأن رزقه لا ينقطع أيضًا؛ لأن الله سيرزقه من الجنة كما يرزق الشهداء، فهم عند ربهم يرزقون رزقًا الله أعلم به. واستدل بعض العلماء بهذا الحديث أن المرابط في سبيل الله لا يسأل في قبره. وإنما كان رباط يوم خيرًا من صيام شهر وقيامه لأن نفع الرباط متعدٍ؛ إذ فيه حفظ الأديان والأوطان، بينما نفع الصوم قاصر على صاحبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه.
عباد الله، إنما جاء الحديث عن الجهاد والترغيب فيه لما تعلمون من حال الأمة حين تخلّت عنه واستبدلت به متعَ الدنيا، فخسرت الدنيا وعرضت نفسها لعقوبة الله في الآخرة. كما جاء الحديث عن الجهاد ـ وإن كان مختصرًا ـ لِمَا ألقاه الترفُ في مجتمعاتنا من ظلال سيّئة على حال الناس، فركنوا إلى ملذات الدنيا، وظنوا أن الانشغال بها والتفنّن في صناعتها غاية الحكمة وقمة المعرفة وأفضل متعة، ونسوا تلكم المعاني والملذات التي وردت فيما سبق مما أعده الله للمجاهدين.
عباد الله، في هذه الأثناء وتحديدًا صباح هذا اليوم سمعت من إحدى الإذاعات العالمية أن دخول الروس لعاصمة الشيشان وبعض القرى المجاورة لها صاحبه إرهاب عظيم؛ وذلك أنهم أعطوا بعض الأهالي وسكان القرى مهلة ساعة ونصف فقط لمغادرة البلدات حتى يحرقوا بيوتهم. أليست هذه إشارة بسيطة جدًا لأهمية شرع الجهاد في الإسلام؟! وما تعلمون وتسمعون من تخريب الكفار عمومًا وألوان تعذيبهم وإيذائهم ومضارتهم للمسلمين غني عن الذكر.
اللهم ارفع علم الجهاد...
(1/5137)
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
26/11/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفسير قول الله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). 2- استحالة رضا اليهود والنصارى عن المسلمين مهما بذلوا وقدموا. 3- العداوة بين أمم الكفر والمسلمين عقائدية. 4- تفرق أهل الكتاب فيما بينهم واتحادهم على الإسلام والمسلمين. 5- اللعب بالمصطلحات. 6- تفسير قول الله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى). 7- اعتراف الغرب بأن حرب الصرب لم تكن أهلية وإنما تطهيرية. 8- دور المسلمين في مواجهة الكفر وأهله. 9- شواهد عصرية تفسر قول الله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). 10- ضرورة استبانة سبيل المجرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فيقول الله تعال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "يعني: وليست اليهود ـ يا محمد ـ ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدعْ طلبَ ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعوتهم إلى ما بعثك الله به من الحق". ونقل ابن كثير عند تفسير هذه الآية عن قتادة رحمهما الله تعالى، قال قتادة: بلغنا أن رسول الله كان يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) والحديث مخرج في الصحيح. ثم يقول ابن كثير عن معنى الآية: وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120]: "فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته"، ثم يقول رحمه الله: "وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حيث أفرد الملة مع أنهم جمع، يعني ذلك أن الكفر ملة واحدة".
أيها المسلمون، إن العِلّةَ الأصليّة في عدم رِضا اليهود والنصارى عنا هي أننا لم ندخل في دينهم، ليس الذي ينقصهم هو البرهان، ولا الاقتناع بأننا على حق، فهم يعرفون محمدًا كما يعرفون أبناءهم، ويعلمون أنّ ما جاء به من عند الله تعالى هو الحق، لكنهم لن يرضوا ولو قدّمنا إليهم ما قدّمنا، ولو تودّدنا إليهم ما تودّدنا، لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن نتبع ملتهم ونترك ما معنا من الحق. وهذه الحقيقة ثابتة في زمن الرسول ومن بعده، فـ(لن) هنا تأبيدية.
وهذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت على المسلمين، ولن تهدأ، ولن تتوقف على الإطلاق، فليخْتَرِ المسلمون لأنفسهم ما يرونه مناسبًا.
إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، بل قد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها كما وقع في كوسوفا من قريب بين طوائف البروتستانت والكاثوليك من جهة وهم يشكلون معظم حلف الأطلسي، وبين طائفة الأرثوذكس وهم الصرب، مع أن الطرفين يجمعهم دين النصرانية، ومع ذلك تقاتلوا، إلا أنهم يلتقون دائمًا في المعركة ضد المسلمين، كما هي الآن تدور رحاها في الشيشان، حيث اجتمع اليهود مع الأرثوذكس النصارى، وبمباركة وتأييد ومعونة النصارى البروتستانت والكاثوليك في أوربا وأمريكا، وكما هي قائمة منذ أكثر من خمسين سنة في فلسطين حيث يحتلها اليهود بدعم من شتى طوائف النصارى في العالم. فهي معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين: اليهود والنصارى يُلونانها بألوانٍ شتى، ويرفعان عليها أعلامًا شتى في خبثٍ ومكرٍ وتورية.
إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، فولّى اليهود والنصارى على أدبارهم منهزمين، ولذا استداروا فغيروا أعلام المعركة، ولم يعلنوا، ولم يعلونها حربًا باسم العقيدة على حقيقتها خوفًا من حماسة العقيدة وجيشانها، إنما أعلنوها باسم مكافحة التطرف أو الإرهاب، وباسم الحق الموروث لهم تاريخيًا، وباسم مطاردة قطّاع الطرق، وباسم الاقتصاد، وباسم السياسة، وباسم المراكز العسكرية، وباسم فرض الديمقراطية، وباسم الدفاع عن حقوق الإنسان، وما إلى ذلك، وربما تسمعون فيما بعد باسم فرض العولمة وإحقاق الشرعية الدولية. وألْقَوا في رَوْع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها، ولا يجوز رفع رايتها وخوض المعركة باسمها، بينما هم يخوضون المعركة أولاً وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العظيمة العاتية صخرة الإسلام، والتي نطحوها طويلاً، فأدمتهم جميعًا.
ثم يقول سبحانه: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71] على سبيل الحصر والقصر، هدى الله هو الهدى، وما عداه ليس بهدى، فلا براح منه، ولا فِكاك عنه، ولا محاولة فيه، ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شيء منه قليل أو كثير، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وحذار ـ يا محمد ويا أمة محمد ـ أن تميل بكم الرغبة في هدايتهم وإيمانهم أو صداقتهم ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق، وإِن مِلتم عن الهدى فهي الأهواء، وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120]، تهديد مفزع، وقطع جازم بأن مصيرهم إلى الضعف والفرقة والخلاف، وليس لهم من الله ولاية، ولن ينصرهم الله. وحالنا في هذا العصر تفسير عملي لآخر الآية.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا وسيدنا محمد رسول الله وعلى من والاه، واتبع هديه حتى يلقى الله.
أما بعد: أيها المسلمون، فلو قلنا نحن المسلمين: إن حرب البوسنة وكوسوفا وكشمير والفلبين والآن في الشيشان وغيرها، لو قلنا: إنها ليست حربًا أهلية البتة، بل عُدوان وحشيّ على المسلمين ولأنهم مسلمين لرُفض قولنا، واتُهمْنا بالتمييز الطائفي. لكن ما بالكم إذا ورد مثل هذا القول في تقرير سري لإحدى أكبر وكالات استخبارات عالمية نشر في إحدى أكبر الصحف العالمية، قالت الصحيفة: "إن الزعم أن ما حدث في البوسنة حرب أهلية هو كذبة كبيرة، فما اقترف الصربُ مختلفٌ تمامًا، وأكثر من ذلك فهناك أدلة ثابتة لدى الأمريكيين على وجود سياسة صربية واعية ومتماسكةٍ ومستمرةٍ للتخلص من المسلمين بالقتل والتعذيب والسجن" اهـ.
ويؤكد هذا محاولة الغرب الآن التعامل مع الرئيس الصربي كداعية سلام، يقدم بين حين وآخر أحد كبارِ ضباطه الضالعين في الحرب قربانًا للغرب، ليؤكّد لهم حسن نيته وأن قصده القضاء على المسلمين وليس تحدي الغرب. ونحن المسلمين ندرك أن الغرب لو أرادوا رأس الرئيس الصربي وأمثاله لأتوا به حيًا أو ميتًا، إلا ما شاء الله.
أيها المسلمون، إن قضية الشيشان أوضح كثيرًا من قضية البوسنة، ولو من زاوية أنها لا يمكن أن توصف بأنها حرب أهلية، فالشيشان شعب مستَعمر منذ مائتي سنة، وقد ثار على روسيا القيصرية، كما ثار على الاتحاد السوفيتي، ونال منهما أشد أنواع الاضطهاد؛ لكن الشيشان أقلّ حظًا من البوسنة لاعتبارات أخرى، فهم يموتون الآن من دون جنازة ولا تعزيةَ كما حدث في البوسنة وكوسوفا. ولعل البعض يقولون: نحن نعلم كل هذه الحقائق وربما أكثر، ولم يعد اليوم شيء خافيًا، فما يقصر فيه الإعلام المحلي تكمّله القنوات الفضائية، وما تخفيه القنوات الفضائية وتتعامى عنه تسارع إليه مواقع الإنترنت لتعرضه على من يبحث عنه ويريدهُ، لكن ما الحل؟ وما العمل؟ وما دورنا نحن المطالبين به ويمكن القيام به؟ وماذا عساه أن نفعله بعجزنا المعلوم لدى كل أحد؟ والجواب على ذلك:
أولاً: أن ندرك أن الكفار مهما كانوا هم أعداءٌ لنا، وخاصةً منهم من ظهرت عداوته جهارًا نهارًا للمسلمين، سواءً باشر العدوان بنفسه أو حرّض أو عاون وبارك وأيّد وأعطى مساعدات على شكل قروض، ومهما أظهر الغرب من دعاوى حيادية فهو كاذب، كيف يصدّق ودعم البنك الدولي قائم لروسيا في أشد أوقات المعارك الدائرة وأحلكها، ويتم ذلك بموافقة هيئة الأمم وحلف الأطلسي؟!
وكيف يصدق وتقارير حقوق الإنسان التي يدعيها لا يظهرها، ولا يعلن عن الانتهاكات الفاضحة لها إلا بعد التأكد من أن روسيا أجهزت على كل من تستطيع إبادته؟! ثم إذا أعلنت تقريرًا يندّد بروسيا فهو مسلوب الفاعلية، ولا يترتب عليه كبير عمل!
وكيف نصدق وعدد من مدن الشيشان وقُراها أصبحت أطلالاً نتيجة القصف الروسي المتواصل بكافة أنواع الأسلحة وأفتكها، ويقيم الروس معسكرات اعتقال للمدنيين وللمجاهدين يصبّ عليهم فيها ألوان العذاب، أم أن هذا شأن روسي داخلي كما يزعم الكافر، وليس لأحد حق التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى؟!
أين هذا المنطق الغربي من قضية تيمور الشرقية وجنوب السودان؟! أين عويلهم وصراخهم الذي غصت به حناجرهم يوم أحداث تيمور الشرقية قبل أشهر، فلم يتمالكوا أنفسهم حتى استصدروا قرارًا يخولهم تسيير جيوش إليها حتى نالت استقلالها وانفصالها عن أندونيسيا؟! ولماذا يسمح لجورجيا وأرمينيا النصرانيتين بالاستقلال عن موسكو ويمنع هذا الحق عندما يكون طرفه مسلمًا؟! كل هذه الشواهد تصديق لقول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وهو كلام الله تعالى يجب الإيمان به واليقين. وجلاء هذا المفهوم مطلب شرعي يستطيعه كل أحد، وهو من الدور الذي تستطيع القيام به أيها المسلم.
ثانيًا: أن استبانة سبيل المجرمين واتضاح طريقهم بحيث لا يعود خافيًا على أحد هدفٌ شرعي، المسلمون مكلفون بفهمه ووعيه، حتى لا يذوب الشعور الإسلامي، وتنمحي الهوية الإسلامية، ويذوب تديّن المسلمين بين ثنايا ودعاوى تقارب الأديان والشرعية الدولية ومحاربة التطرف والإرهاب والعولمة وما إلى ذلك من مصطلحات.
واتضاح هذا المفهوم وتقريره في قلوب المسلمين مطلب شرعي وضرورة عقدية يجب الدعوة إليها وتنحية ما يخالفها، وهذا يمكن أن يناله من يريده. وهو من الدور الذي أنت مطالب به أيها المسلم، ومن هنا نعلم كم يخطئ الذين يقرّبون الكفار، ويختارونهم عمالاً وموظفين في مؤسساتهم، ويقدمونهم على المسلمين؛ بحجة أنهم أتقن عملاً وأحرص على الإنجاز والإنتاج، ويتناسى أولئك الكفلاء ماذا يبيّت أمثال أولئك للأيام السوداء لو سنحت لهم الفرصة، واختيار المسلمين وتقريبهم أمرٌ يستطيعه الجميع، وهو دور مؤثر.
اللهم أعز المسلمين والإسلام، ودمّر المشركين وأعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء في دينهم ودنياهم وأوطانهم فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره في تدميره...
(1/5138)
حفلات الموالد: حقيقتها، من أحدثها، حكمها
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
16/7/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معرفة هدي النبي من أهم لوازم العبادة الصحيحة. 2- الإخلال بجانب الاقتداء بالنبي من أسباب هوان المسلمين. 3- حقيقة الاحتفال بالمولد النبوي وتاريخه. 4- معظم قصائد المديح تحتوي على الشركيات وألفاظ الغلو. 5- القواسم المشتركة في احتفالات المولد النبوي. 6- لمحة عن فرقة العبيديين. 7- حكم إقامة الاحتفال بذكرى المولد النبوي. 8- شبه المحتفلين بالمولد والجواب عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن رسول الله هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الله ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه، لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش وحده، ولا غاب عن الناس يومًا واحدًا، ولا سافر وحده، وقد لاقى أنواع الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له. بُعث على فترةٍ من الرسل وضلال من البشر وانحرافٍ في الفطر، وواجه ركامًا هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله والإغراق في الوثنية، فاستطاع بعون الله أن يُخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبُّوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم وأولادهم وأوطانهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراسًا لهم يستضيئون بنوره ويهتدون بهديه، فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
هل تطلبون من الْمختار معجزةً يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحّد العُرْب حتى كان واترهم إذا رأى ولد الموتور آخاه
وما نقل الشرع إلى منَ بعدهم ولا وصل إلينا إلا عن طريقهم، فما لم يفعلوه أو لم ينقلوه فليس شرعًا، وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به والأخذ بهديه واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته بقراءتها في المنتديات والاحتفالات، ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق، وبعضهم اكتفى بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو لحفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
معاشر المسلمين، ماذا تمثل احتفالات الموالد في حقيقتها؟ ومتى بدأت؟ ومن أول من قام بها؟ وماذا يجري فيها؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يسلمنا إلى معرفة حكم الاحتفال بالموالد، هل هو واجب أو سنة أو مباح أو حرام؟
الموالد ـ عباد الله ـ جمع مولِد، وهو من حيث المدلول والمعنى والحقيقة لا يختلف بين إقليم إسلامي وآخر وإن اختلفت التسمية، فتسمى في بلاد المغرب الأقصى: المواسم، وأهل المغرب الأوسط يسمونها: الزرد جمع زردة، فيقال: زردة سيدي أبي الحسن الشاذلي مثلاً، وأهل مصر والشام وبلدان الجزيرة العربية يسمونها: الموالد، فأهل مصر يقولون مثلاً: مولد السيدة زينب أو مولد السيد البدوي، ونحو ذلك، وربما سميت الحضرة لاعتقاد من يقيمها بحضور روح الولي فيها ولو بالعناية والبركة، أما أهل الباكستان وفي الهند فيسمونه: ميلاد.
وأما ما يجري فيها من أعمال فتختلف كيفًا وكما، بحسب وعي أهل الإقليم وفقرهم وغناهم، فالمولد النبوي الشريف عبارة عن اجتماعات في المساجد أو في بيوت الأغنياء، وربما استأجر القائمون عليه موقعًا عامًا كالفنادق وقصور الأفراح والاستراحات، وهي تبتدئ غالبًا من هلال ربيع الأول إلى اليوم الثاني عشر منه، وربما توسعوا في الزمان ليشمل شهر ربيع الأول كله، تُتْلى فيها جوانب من السيرة النبوية؛ كالنسب الشريف، وقصة المولد، وبعض الشمائل المحمدية الطاهرة الخَلْقية والخُلُقية، مع جعل اليوم الثاني عشر من ربيع يوم عيد يوسع فيه على العيال وتعطل فيه المدارس والكتاتيب ويلعب فيه الأطفال ويلهون.
وربما توسّع بعض الجهات فأقاموا حفلة المولد عند وجود أية مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال؛ فتذبح الذبائح وتعد الأطعمة ويدعى الأقارب والأصدقاء وقليل من الفقراء، ثم يجلس الكل للاستماع، ويتقدم شاب حسن الصوت فينشد الأشعار ويترنم بالمدائح، وهم يرددون معه بعض الصلوات على النبي ، وتقرأ قصة المولد، إلى آخر ما هنالك من المظاهر، حتى إذا بلغ القارئ عبارة: "وولدته آمنة مختونًا" قام الجميع إجلالاً وتعظيمًا، ووقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيُّلاً منهم وضعَ آمنة لرسول الله ، ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل، ثم تُدار كؤوس المشروبات فيشربون، وتقدّم قصاع الطعام فيأكلون ثم ينصرفون، وهم بهذا يعتقدون فعل قربةٍ حسنة يؤجرون عليها، بل ربما ظنَّ بعضهم واعتقد أنه غُفِر له ذنبه بحضور هذا الاحتفال حتى ولو كان يتخلف عن الصلاة ويقصِّر في أداء الفرائض والمكتوبات.
عباد الله، مما يجدر التنبيه إليه هنا أن جُلَّ القصائد والمدائح التي يتغنى بها في الموالد لا تخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو الذي نهى الرسول عنه بقوله: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسولُه، فقولوا: عبد الله ورسوله)) رواه البخاري ومسلم.
كما يُختم الحفل بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة والكلمات الشركية المحرمة؛ لأن جُلَّ الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها الشرع، كالسؤال بجاه فلان وحق فلان. والشيء الذي يجب أن يقال في هذا الصدد أن هناك قاسمًا مشتركًا بين المتحمسين لإقامة الموالد والساعين في الدعوة إليها، في الغالب يتمثل فيما يلي:
1- ذبح النذور والقرابين للسيد أو الولي المقام له الاحتفال، سواء كان الرسول أو غيره.
2- اختلاط الرجال الأجانب والنساء الأجنبيات.
3- الرقص وضرب الدفوف والتزمير بالمزامير المختلفة.
4- إقامة الأسواق للبيع والشراء، وهذه الأسواق غير مقصودة لهذا الشيء نفسه، غير أن التجار يستغلون التجمعات الكبرى ويجلبون إليها بضائعهم لعرضها وبيعها.
5- دعاء الولي أو السيد والاستغاثةُ به والاستشفاع وطلبُ المدد، مما يتعذر الحصول عليه من رغائب وحاجات، وهو شرك أكبر.
6- سعي بعض الحكومات في الدول الإسلامية وغيرها على إقامة هذه المواسم وإعطائها التسهيلات التي تكفل لها القيام بها وإتمامها، وقد تسهم بشيء من المال واللحم والطعام ونحوها، حتى إن فرنسا النصرانية أيام استعمارها لبلدان المغرب العربي كانت تخفض تذاكر الإركاب بالقطارات أيام الموالد تشجيعًا منها لذلك، هذا في الوقت الذي يجد فيه المسلمون عنتًا ومشقة عند ممارستهم لشعائرهم الدينية.
هذه هي الموالد في عرف الناس اليوم، ومنذ ابتداعها وإحداثها على يد العُبيديين الذين يسمون أنفسهم الفاطميين، وكانت بدايتها في منتصف القرن الرابع الهجري، أحدثوها في القاهرة سنة 362هـ أيام حكمهم لمصر. وقد نقل المقريزي في كتابه "الخطط المقريزية" (2/384) أنه كان للعبيديين طوال السنة أعياد ومواسم، هي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي ، ومولد علي بن أبي طالب ، ومولد الحسن، ومولد الحسين رضي الله عنهما، ومولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات. اهـ كلامه.
كما قد صرح مفتي الديار المصرية الأسبق محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه المتوفى سنة 1354هـ ـ أي: قبل سبعين عامًا ـ بأن أول من ابتدع الموالد وأحدثها هم العبيديون، وذكر ذلك أيضًا من علماء مصر الشيخ علي محفوظ والسيد علي فكري. والعبيديون هؤلاء هم فرقة من الفرق الإسماعيلية الباطنية التي قال عنها الإمام القاضي الباقلاني الشافعي رحمه الله: "قوم ظاهرهم الرفض، وحقيقتهم الكفر المحض". والفرق الباطنية على اختلافها يجمعها الكفر بالله تعالى وإنكار وجوده والقول بتعدد الآلهة والطعن في الرسل والاستهتار بالشرائع وإنكار البعث والجزاء وإباحة المحرمات. وقوم هذا شأنهم ليس غريبًا أن يسعوا جادين في هدم شرائع الإسلام وشعائره.
أيها المسلمون، بعد هذا البيان لعله من المناسب الآن ذكر حكم إقامة احتفالات الموالد، سواء كانت لميلاد الرسول أم لغيره، فقد عرفتم أنها أُحدثت في القرن الرابع الهجري، إذ القرون المفضلة الأولى مضت ولم تعرف فيها هذه الموالد، ومن المعلوم أنّ كل ما لم يكن على عهد رسول الله وأصحابه دينًا لم يكن لمن بعدهم دينًا إذا كان بإمكان الرسول وصحابته فعله. وحفلات الموالد المستحدثة لم تكن موجودة على عهد رسول الله ولا أصحابه ولا في عهود التابعين وتابعيهم، فكيف تكون دينًا يؤجر عليها صاحبها؟! وإنما هي بدعة، وبدعة ضلالة بقول رسول الله : ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) رواه أصحاب السنن بسند صحيح. فإذا كان الرسول قد حذرنا من محدثات الأمور وأخبرنا أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وأن الإمام مالك رحمه الله قال لتلميذه الإمام الشافعي رحمه الله: "إنّ كل ما لم يكن على عهد رسول الله وأصحابه دينًا لم يكن اليوم دينًا" وقال: "من ابتدع في الإسلام بدعة فرآها حسنة فقد زعم أن محمدًا قد خان الرسالة؛ وذلك لأن الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا " [المائدة: 3] فهل يكون ـ أيها المؤمنون ـ المولد النبوي بالمعنى العرفي غير بدعة وهو لم يكن سنة من سنن الرسول ولا من سنن الخلفاء الراشدين ولا من عمل السلف الصالح، وإنما أحدثته في الإسلام فرقة يجمع علماء الإسلام على أنها كافرة وإن تسمّت بالإسلام وادعته؟!
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علمًا نافعًا، وبصرنا بعيوب أنفسنا، ووفقنا للهدى وسددنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا بني بعده.
وبعد: معاشر المسلمين، إن مما يدل على أن مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد اتُّبِع فيها الهوى ولم يتبع فيها الشرع تبرير أهلها لها بالعلل الآتية:
أولاً: كونها ذكرى سنوية يتذكر فيها المسلمون نبيهم ، فيزداد حبهم وتعظيمهم له. هذه شبهة.
والجواب عليها: أن هذا التعليل باطل، فالنبي يذكر في اليوم عشرات المرات ليس مرة واحدة في السنة، فالمسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسول الله ، ولا يدخل وقت صلاة ولا يقام لها إلا ويذكر الرسول ويصلي عليه، واسمه يذكر كل حين على المنابر والمنائر.
ثانيًا: من الشبه التي يروج لها أصحاب حفلات الموالد أنه يسمع فيها بعض الشمائل المحمدية، ويتلى فيها النسب النبوي الشريف.
والجواب عليها: أن معرفة الشمائل المحمدية والنسب الشريف لا يكفي فيها أن تسمع مرة في العام، وماذا يغني سماعها مرة وهي جزء من العقيدة الإسلامية؟! فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف نسب نبيه وصفاته، وهذا لا بد له من تعليم، فلا يكفي فيه مجرد سماع تلاوة قصة المولد مرة في كل عام.
ثالثًا: ومن الشبه: أن الاحتفال يرمز إلى إظهار الفرح بولادة الرسول ؛ لما يدل ذلك على حب الرسول وكمال الإيمان به.
والجواب عليها: أن الفرح إما أن يكون بالرسول أو بيوم وُلد فيه، فإن كان بالرسول فليكن دائمًا كلما ذكر ، ولا يختص بوقت دون وقت، وإن كان باليوم الذي ولد فيه فإنه أيضًا هو اليوم الذي مات فيه، ولا يُظن أن عاقلاً يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه ، وموت الرسول أعظم مصيبة أصابت المسلمين، والفطرة البشرية تقتضي أن الإنسان يفرح بالمولود يوم ولادته ويحزن عليه يوم موته، فسبحان الله كيف يحاول الإنسان غرورًا تغيير الطبيعة؟!
رابعًا: ومن الشبه أن مما يتم في الاحتفال إطعام الطعام وهو مأمور به، وفيه أجر كبير، لا سيما بنية الشكر لله تعالى.
والجواب عليها: أن إطعام الطعام مندوب إليه مرغب فيه كلما دعت الحاجة إليه، فالمسلم يقري الضيف ويطعم الجائع ويتصدق طوال العام، ولم يكن في حاجة إلى يوم خاص من السنة يطعم فيه الطعام.
خامسًا: يقول أصحاب الموالد إن الاجتماع يتم على ذكر الله تعالى من قراءة القرآن والصلاة على النبي.
والجواب: أن الاجتماع على الذكر بصوت واحد لم يفعله الرسول مع صحابته، ولم يكن معروفًا عن السلف، ولو كان فيه أجرٌ لما تأخر عنه أصحاب محمد ورغبوا عنه، فهو في حد ذاته بدعة وليس سنة. وأما المدائح والقصائد بالأصوات المطربة الشجية فهي بدعة أقبح، ولا يفعلها إلا المتهوكون في دينهم، مع أن المسلمين يجتمعون كل يوم وليلة خمس مرات على مدار العام في المساجد، كما يجتمعون في حلق العلم، فليسوا بحاجة إلى جلسة سنوية الدافع إليها في الغالب الحظوظ النفسية من سماع الطرب والأكل والشرب.
سادسًا: ومن الشبه في هذا الشأن أنهم يقولون: صح عن النبي صيامُ عاشوراء، كما أمر بصيامه، ولما سئل عن ذلك قال: ((إنه يوم صالح أنجى الله تعالى فيه موسى وبني إسرائيل)) ، فصامه موسى شكرًا لله على ذلك، وصامه محمد أيضًا شكرًا، وأمر أمته بصيامه شكرًا لله، فلماذا لا نفرح بذكرى مولده شكرًا لله على ذلك؟!
والجواب: أولاً: إن النبي أظهر شكره لربه صومًا وليس أكلاً وشربًا وغناءً ورقصًا واختلاطًا.
وثانيًا: ليس لنا حق أن نشرع لأنفسنا صيامًا ولا غيره، وإنما واجبنا الاتباع فقط، فالرسول صام يوم عاشوراء وحض على صيامه، وسكت عن يوم ولادته فلم يشرع فيه شيئًا، فوجب أن نسكت كذلك.
(1/5139)
جذور الصراع الإسلامي اليهودي (1)
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
30/7/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عرض سريع لتاريخ اليهود. 2- بيان أن إسرائيل الوارد في القرآن الكريم هو يعقوب عليه السلام. 3- سبب ما يراه اليهود في أنفسهم من القداسة والأفضلية المطلقة على من سواهم من البشر. 4- بيان حقيقة الموقف اليهودي من هذا الدين وأهله، وموقفهم من فلسطين، ونظرتهم لاحتلالهم إياها. 5- أسباب التعاون والتنسيق والتناصر بين اليهود والنصارى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فيظن البعض أن جذور المشكلة بين المسلمين وأهل الكتاب قريبةُ العهد زمانيًا، ومحدودةُ المساحة مكانيًا، لكن آخرين ربما تعمقوا أكثر ليقولوا: إن المشكلة مع اليهود بدأت منذ عام 1917م، أي: منذ ثلاثة وثمانين عامًا، أو زاد بعضهم فقال: إن أحلام اليهود في استيطان فلسطين تراودهم منذ أكثر من مائة سنة، أي: من عام 1897م، وهو العام الذي عقد فيه مؤتمر ضمّ قيادات اليهود الفكرية حينذاك، وصدر بوثيقة ملزمة لهم في السعي لإقامة وطن قوميّ لهم في فلسطين، فمن أين جاءت هذه الأرقام التاريخية؟
الحقيقة ـ معاشر المسلمين ـ أن المشكلة ضاربة أعماقها في التاريخ، وقديمة أكثر من ذلك بكثير، وهي مزيج من اختلاف في التاريخ والحضارة، واختلاف في الجنس البشري، وفوق ذلك كله اختلاف في العقيدة والدين، واليهود يعتقدون ذلك تمامًا ويعونه ويعرفونه، وهم يتغنون بأمجادهم التليدة، ويتطلعون إليها، ويحنون إليها بشوق ممضّ، ويرقبون تحقّق الوعود الواردة لهم في التوراة حسب زعمهم. ولبيان هذه المعاني فقد يستغرق الأمر أكثر من خطبة.
أيها المسلمون، إسرائيل الوارد في القرآن هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وهو والد يوسف عليه السلام، وكلهم أنبياء، وإليه ينسب بنو إسرائيل. وكان يسكن فلسطين متنقّلاً في مناطقها، يعيش فيها حياة البداوة بعد الخليل عليه السلام. وهذا ما أشار إليه الحق جل وعلا في معرض ذكر مننه سبحانه وتعالى على يوسف عليه السلام، بقوله على لسانه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ [يوسف: 100]. قال المفسرون: مِنْ الْبَدْوِ أي: من البادية.
ثم انتقل يعقوب بأولاده من فلسطين إلى أرض مصر بعد أن مكن الله سبحانه ليوسف عليه السلام، ويذكر اليهود في كتابهم أن عدد أنفس بني إسرائيل حين دخلوا مصر كانوا سبعين نفسًا، وكانوا شعبًا مؤمنًا بين وثنيين، فاستقلوا بناحية من أرض مصر منحهم إياها فرعون مصر، وعاشوا عيشة هنية.
لكن الحال تغير بعد وفاة يوسف عليه الصلاة والسلام، فانقلب الفراعنة على بني إسرائيل طغيانًا واستضعافًا؛ يقتلون الأبناء ويستحيون النساء، ولما اشتد العذاب وبلغ ذروته في زمن موسى عليه السلام ـ وموسى من نسل إسرائيل ـ أوحى الله تعالى إليه أن اخرج ببني إسرائيل من مصر، فخرجوا ليلاً: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان: 23]، وفي سفر الخروج ـ وهو من أسفار التوراة ـ أن مدة مكث بني إسرائيل في مصر كانت أربعمائة وثلاثين سنة، وصل عدد الرجال فقط حينما خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل عدا بني لاوي، غير أن هذا العدد ربما يكون مبالغا فيه، خاصة وأنه ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى على لسان فرعون يصف قلة بني إسرائيل: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء: 54]. وأثناء خروجهم من مصر تقدموا بمطالب تدل على الضعف وأثر الهوان والذل والاستعباد عليهم وتأثرهم بالمكث بين وثنيي مصر، ومن مطالب بني إسرائيل من نبيهم موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهًا، ثم وقعوا في عبادة العجل، وأخيرًا نكالهم عن قتال الجبابرة سكان فلسطين؛ مما كان سببًا في التيه المعروف تاريخيًا. وبعد انقضاء مدة التيه وفتح الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون عليه السلام أقاموا في فلسطين. فهم إذًا من الناحية التاريخية قدموا إلى فلسطين أولاً من العراق، ثم غادروها إلى مصر، وعادوا مرة ثانية إليها.
ويقسم المؤرخون تاريخهم القديم في فلسطين إلى ثلاثة عهود:
الأول: يسمى عهد القضاة؛ لما فتح يوشع بن نون الأرض المقدسة قسمها على أسباط بني إسرائيل، وجعل على جميع الأسباط قاضيًا واحدًا. واستمر هذا الحال أربعمائة عام.
الثاني: عهد الملوك، وهو ما أشيِر إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إسرائيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 264]. فكان عهد شاؤل ثم داود وسليمان عليهما السلام، ويعتبر عهدهما أزهى عهود بني إسرائيل. وفيها ملك سليمان عليه السلام معظم الأرض وسخر الله له الدواب والجن والرياح والشياطين، وجمع بين النبوة والملك، وذلك المجد العظيم مما يتغنى به اليهود الآن وكل آن، ويسعون لإعادة بناء هيكل سليمان وهو كرسيه ومكانه في المسجد الأقصى، وقد أعدوا لذلك كل ما يلزم، وهم بين فترة وأخرى يجسون نبض المسلمين في ردود أفعالهم لو أقدم اليهود على هدم المسجد وإعادة بناء الهيكل. وقد فعلوا عدة مرات من إحراق المسجد الأقصى عام 1969م، وبعدها مرة ثانية، وهم الآن يصعدون الأمر في أعنف مواجهة تتم حتى الآن، فمنطلقاتهم إذًا تاريخية ودينية منذ آلاف السنين.
الثالث: عهد الانقسام؛ وكان هذا بعد عهد سليمان عليه السلام، إذ نشب نزاع بينهم أدى إلى انقسام الدولة إلى دولتين: دولة في الجنوب عاصمتها بيت المقدس وسميت دولة يهوذا، ودولة في الشمال سميت دولة إسرائيل، عاصمتها نابلس، وهؤلاء يسمون بالسامريين نسبة إلى جبل شامر.
استمرت دولة السامريين (إسرائيل) مستقلة قرابة مائتين وأربعة وأربعين عامًا، حيث سقطت بعدها في يد الأشوريين بالعراق عام سبعمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد على يد الملك الأشوري سرجون الذي سبى اليهود وأسكنهم في العراق. أما دولة يهوذا التي عاصمتها بيت المقدس فاستمرت ثلاثمائة واثنين وستين عامًا، ثم سقطت بيد الفراعنة المصريين سنة ستمائة وثلاث قبل الميلاد.
ثم سيطر الرومان الوثنيون على فلسطين فيما بعد ذلك، وأثناء حكم الرومان بُعث المسيح ابن مريم رسولاً إلى بني إسرائيل، ولما رفع عليه السلام وقع بلاء شديد على اليهود، حيث كانوا يقومون بثورات عدة ضد الرومان، دفعت القائد الروماني عام 70 للميلاد إلى استئصالهم والفتك بهم، وهجَّر بعضهم وسبى آخرين، ودمر بيت المقدس ومعبد اليهود، وكان هذا التدمير الثاني للهيكل، وبهذا تشتت اليهود في سائر أقطار الأرض، واستمر هذا التشتت إلى عصرنا الحاضر، حيث عادوا تجمعهم مرة ثانية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: 167]، ولقد بعث الله على اليهود ـ كما مر بيانه مجملاً ـ من يسومهم سوء العذاب، وسيظل هذا السوم نافذًا في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة الناكثة العاصية التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية، ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف. ووعد الله صادق لا محالة، وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة. وإذا بدا لنا نحن الآن أنهم يستعلون ويطغون ويملكون سلطان المال والإعلام ويستذلون غيرهم فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم، ولا لما كتبه عليهم، وهم بأفعالهم هذه يضيفون إلى رصيدهم مزيد غضب ونقمة عليهم في قلوب البشر، ولن يرفعه إلا سلاح التوحيد والعقيدة الإسلامية والتجمع عليها، أما غير ذلك فلم يجد ولن يجدي كذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، أمرٌ بالغ الأهمية في شأن بيان حقيقة الموقف اليهودي من هذا الدين وأهله، وموقفهم من فلسطين، ونظرتهم لاحتلالهم إياها، ذلك الأمر هو: ما موقف النصارى منهم؟ وقد عُلم يقينًا العداء التاريخي بينهم، حتى إن النصارى يتهمون اليهود بأنهم وراء صلب المسيح على حسب اعتقادهم. فما هو التفسير لتعاون أهل الملتين الآن وعملهم جميعًا على تثبيت أقدام اليهود ووقوف الدول النصرانية ضد أي عملٍ عسكري أو سياسي أو اقتصادي يضر بالدولة العبرية؟!
وليبان ذلك نقول: إن الأصل في دين المسيحية أو النصرانية هو التوحيد، وهو الدين الذي جاء به الأنبياء جميعًا عليهم الصلاة والسلام، وما جاء عيسى عليه السلام إلا به، قال الله تعالى في ذلك: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117].
ومع ما دخل كلاً من التوراة والإنجيل من تحريف عبر التاريخ إلا أنه لا يزال يوجد فيهما الآن نصوصٌ تدل على توحيد الله سبحانه. والشيء العجيب جدًا في ذلك أن بولس اليهودي الذي اعتنق النصرانية عام 38 للميلاد، أي: بعد رفع المسيح عليه السلام بخمس سنوات استطاع أن يغير اتجاهها ويحدث فيها ما ليس من أصلها، حيث كان من أشد وألدِّ أعدائها. ولم يقتصر دور بولس على كونه معتنقًا للديانة المسيحية الجديدة فقط، بل أصبح داعيةً ومعلمًا للمسيحيين، واستطاع بمكره ودهائه ثم بتغفيل النصارى وغبائهم، استطاع أن يدخل نصوصًا كثيرة في الإنجيل منسوبة إليه، وكأن الإنجيل نزل على بولس ولم ينزل على عيسى ابن مريم.
ولقد راجت عقيدة التثليث في النصرانية على حساب التوحيد، وانتشرت حينما دخل الوثنيون من الرومان واليونان فيها، حيث كان أكثر من يحضر المجامع الكنسية من الرومان واليونان ولهم السيطرة، فقرر الرومان وبسلطة وقوة قسطنطين ملكهم، قرروا عقيدة التثليث رسميًا في الديانة المسيحية، وكان ذلك عام 325 للميلاد. وعمم هذا القرار في كل مكان ليعُمل به، ويُنبذ التوحيد، كل ذلك تمَّ بفعل جهود اليهودي بولس ومدرسته التي عبثت في الديانة النصرانية؛ لتقوضها من داخلها، ولتدخل نصوصًا في الإنجيل تحتم على النصارى وجوب احترام اليهود وكتابهم التوراة، وتلزمهم بالسعي لخدمة اليهود وهم لا يشعرون.
واستمرّ حكم الرومان لفلسطين بما فيه من وثنيات محسوبة على المسيحية إلى القرن السادس الميلادي، حيث جاء الإسلام فاضطرهم بفتوحاته وانتصاراته إلى الانحصار في أوربا ورحيلهم من فلسطين. وهناك في أوربا سيطرت الكنيسة ورجالها على جوانب الحياة كلها، حتى كان البابا هو الذي يعين الحكام، واحتكروا حقَّ قراءة وفهم نصوص الإنجيل عليهم، وحرّموا على عامة الناس قراءتها فضلاً عن فهمها أو تفسيرها. ولكن أين اليهود حينذاك؟
إنهم منذ تشتّتهم عام 70 للميلاد وهم في ذلة ومهانة، ليس لهم دور في الحياة، ولا كيان يوحِّدهم، كل مجموعة منهم منغلقة على نفسها، جراحات السبي والشتات والطرد تحتقن حقدًا في قلوبهم، مقت البشر لهم وكرههم يطاردهم أينما حلوا. غير أنهم عاشوا في ظلّ الدولة الإسلامية قرونًا عديدة، مكفولة لهم حقوقهم التي منحتها لهم الشريعة الإسلامية، وظلوا كذلك إلى أن استولى النصارى على الأندلس وأخرجوا المسلمين منها عام 1492م، فلقي اليهود من النصارى أسوأ معاملة وذاقوا منهم صنوف التعذيب فيما سمي بمحاكم التفتيش التي أقامها نصارى الأندلس لتعذيب المسلمين واليهود، فاضطر اليهود حينها إلى الهجرة بحثًا عن موطن جديد، واستقروا في شمال أوربا (ألمانيا وما حولها)، وبعض منهم استوطن شمال أفريقيا، ولما اكتشف الأوربيون أمريكا هاجر بعض اليهود إليها، وعمل اليهود الأوربيون سندًا للثورات ضد الكنيسة إن لم يكونوا هم المدبرون لها، وفي موطنهم الجديد نشروا ثقافتهم، وتغلغل الأدب اليهودي والعقيدة اليهودية في قلوب بعض النصارى، وتمازج مع أفكارهم، حتى صنف أحد النصارى الثائرين على جمود الكنيسة، ألف كتابًا بعنوان: "عيسى ولد يهوديًا"، وذلك من شدة تأثره بالعقيدة اليهودية التي لقيت عطفًا وحنانًا من نصارى شمال أوربا، وأخذ الفكر اليهودي يسري بين النصارى هناك في أوربا، وكذلك في أمريكا حيث هاجر عددٌ منهم بعد اكتشافها، ونفذ إلى صميم العقيدة المسيحية ليركز على ثلاثة جوانب:
الأول: أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكوِّنون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم، ويستندون في هذه الدعوى إلى نصٍ أو نصوص مثبتة في التوراة التي في أيديهم.
ثانيًا: وأن ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين أعطاه الله لإبراهيم حتى قيام الساعة، ويستندون في هذه الدعوى أيضًا إلى نصٍ في التوراة، فإذا كانوا كذلك فهل من السهولة أن يقبلوا بمن يشاركهم في هذا الحق ويسكن معهم في فلسطين ويتنازلون عما سعوا في تحصيله قرونًا طويلة؟!
ثالثًا: مما يركز عليه اليهود أن المسيحيين يؤمنون بعودة المسيح ثانية، واستطاع اليهود من خلال عبثهم في العقيدة المسيحية أن يربطوا هذا الإيمان بقيام دولة صهيون في فلسطين، أي: بتجميع اليهود حتى يظهر المسيح فيه مرة ثانية.
هذه الأمور الثلاثة ألَّفت في الماضي وهي تؤلف اليوم قاعدة متينة وصلبة في وجوب أن يسعى النصارى لتوطين اليهود في فلسطين، ومدِّهم بكل ما يحتاجونه من أجل ذلك واستمراره، ويرون ـ أي: النصارى ـ أن ذلك دينٌ يفرضه عليهم إيمانهم بالمسيح.
كل هذا حدث قبل خمسمائة عام من الآن، ولا زال معمولاً به، ولقد جاء في كتاب دائرة المعارف البريطانية: "إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقي حيًا في الأذهان بفعل النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا أكثر من فعل اليهود أنفسهم". ويؤكد هذا المعنى الزعيم الصهيوني وايزمن بقوله: "إن من الأسباب الرئيسية لفوز اليهود بوعد بلفور هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة وتغنِّيه بالشوق الممض لأرض الميعاد".
لم يقف العبث اليهودي بالمسيحية واختراق اليهود للنصارى عند ذلك، بل تغلغل الفكر اليهودي إلى العمق؛ فعندما ترجم الكتاب المقدس ـ وهو ما يعنون به التوراة والإنجيل ـ ترجم إلى اللغات القومية الأوربية أصبح ما ورد منه في التوراة من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين أمورًا مألوفة في أفكار النصارى الأوربيين، وأضحى كثير من النصارى البروتستانت يرددونها عن ظهر قلب، وأصبح المسيح نفسه معروفًا، لكنهم لم يعتقدوا أنه ابن مريم فقط كما كانوا يعتقدون، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين، وحل أبطال العهد القديم ـ أي: التوراة ـ كإبراهيم وإسحاق ويعقوب محل القديسين والكاثوليك. كل هذه ونحوها لم تُنسِ الناس هناك الأرض المقدسة، حيث ارتبطت بدلالات يهودية.
وهكذا أصبحت فلسطين أرضًا يهودية في الفكر المسيحي في أوربا البروتستانتية، وغدا النصارى يعتقدون أنه من المتحتم عليهم السعي في توطين اليهود بفلسطين، وأن ذلك عقيدة لا تقبل الجدل، والتكاسلُ عنه خطيئةٌ لا تغتفر.
(1/5140)
جذور الصراع الإسلامي اليهودي (2)
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
7/8/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ البعث اليهودي في فلسطين. 2- أسباب التسارع المحموم في تبني النصارى لقضية اليهود. 3- مواقف الغرب النصراني وخاصة أمريكا من إسرائيل. 4- عزم اليهود على هدم الأقصى وإعادة بناء الهيكل. 5- الدروس والعبر التي نستخلصها من الأحداث الراهنة في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فقد كانت الخطبة الماضية في مجملها عرضا سريعا لتاريخ اليهود وبيان أن إسرائيل الوارد في القرآن الكريم كثيرًا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومنه جاء بنو إسرائيل، ومن مشاهير أنبيائهم موسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
ومن أجل هذا التراث الضخم من الأنبياء فإن اليهود يرون في أنفسهم القداسة والأفضلية المطلقة على من سواهم من البشر، كما أنهم في الوقت نفسه ينظرون إلى المسلمين عامة والعرب منهم خاصة نظرة حقد وكره؛ لأن عقد النبوة انفرط من كونه منظومًا من بني إسرائيل ليختم بمحمد وهو من العرب من ذرية إسماعيل، وتناسى اليهود مواقفهم من أنبيائهم، تلك المواقف التي عُبِّر عنها في القرآن العزيز بقول الحق تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87]. ولم يكن حظ النبي الخاتم محمد منهم إلا مثل من سبقوه من إخوانه الأنبياء، مع يقين اليهود بأنه نبي وعلمهم المسبق بأنه سيبعث نبي في أرض الحجاز؛ ولذا تجمعوا في خيبر والمدينة انتظارًا له، لكنهم ظنوا أنه من بني إسرائيل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89].
وقد بينت فيما مضى طرفًا مهما عن أسباب التعاون والتنسيق والتناصر الذي تم ـ ولا زال قائمًا ـ بين اليهود والنصارى، ولا يزال الحديث متصلاً في هذه المسألة، حتى يعلم أن مواقف أولئك الأقوام سواء في استيطان اليهود فلسطين أو دعم النصارى لهم وخاصة أمريكا ليس ناتجًا عن عواطف، ولم تفرضه المصالح المادية ولا الإستراتيجية أو العسكرية ولا المنافع الاقتصادية؛ لأن مصالح الغرب الاقتصادية في المنطقة لا توجد في فلسطين، وإنما توجد في غيرها كما يعلم الجميع، حيث النفط والتجمع البشري، بل إن مواقف النصارى تجاه اليهود لم تمليه مواقف سياسية، إنما هي عقيدة راسخة، لا يملك النصارى التفلت منها وتجاهلها أو التهاون بها، عمل من أجلها اليهود قرونًا عدة حتى سخّروا النصارى لخدمتهم والدفاع عن قضاياهم طوعًا وتدينًا.
معاشر المسلمين، أول من دعا إلى البعث اليهودي في فلسطين وأثار هذه المسألة هو رجل نصراني لاهوتي قبل أربعمائة سنة، وتبعه نصراني آخر تلميذٌ له؛ كتب أن اليهود سوف يعودون إلى بلادهم ـ يعني فلسطين ـ ويعيشون بسلام هناك إلى الأبد. وعلل ذلك قائلاً: "إنه تحقيق للديانة المسيحية". ثم تداعت الأصوات النصرانية المتعاطفةُ مع اليهود، حتى قامت حركة تنادي بوجوب عودة اليهود إلى فلسطين، واستخدمت هذه الحركة النصرانية اللغة العبرية وهي لغة اليهود، استخدمتها في صلواتها وفي تلاوتها للكتاب المقدس، وشددت هذه الحركة على أن العهد القديم ـ أي: التوراة وهو كتاب اليهود ـ يعد مثالاً للحاكمية الإلهية، وتنامى هذا الشعور لدى النصارى إلى أن وصل إلى الخجل تجاه آلام اليهود المشتتين في الأرض، ثم تطور الأمر، وبعد أربعين سنة من جهود تلك المنظمة رفعت مذكرة إلى الحكومة البريطانية آنذاك يطالبون فيها أن لبريطانيا شرفَ حملِ أولاد إسرائيل إلى الأرض التي وُعِد إياها أجدادُهم. وهذه الوثيقة تعبر عن مدى تحوّل النظرة لدى قطاع عريض من النصارى، تحول نظرتهم لفلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة إلى كونها وطنًا لليهود، مما يعطي دلالة قوية على الجهد الخفيّ الذي يبذله اليهود لتسخير النصارى لخدمتهم وتوظيفهم للدفاع عنهم، بدافع ينبع من عقيدة داخل ضمائر النصارى أنفسهم، وهذا تفسيرُ تمكُّنِ ما يسمى باللوبي اليهودي داخل أمريكا، سواءً على الصعيد الرسمي أو الشعبي وقوة تأثيره.
فحقيقة الأمر إذًا أن اليهود استطاعوا أن يزرعوا في قلوب النصارى نبتةً لا تذبل، وهي وجوب خدمة اليهود، والسعي لتجميعهم في فلسطين، وتذليل كل صعب لنيل ذاك الهدف، والوقوف بقوة أمام أي محاولة لتعريض اليهود للخطر.
يجد النصارى ذلك التأكيد ليس فقط عن طريق وسائل الإعلام المتصهين، وإنما أيضًا من خلال نصوص مدسوسة في الإنجيل المقدس لدى النصارى. ولقد عبَّرت الوثيقة الآنفة الذكر التي رفعها علماء اللاهوت الإنجليز فيما عبرت عنه عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح للأرض ثانية تسبقها عودة اليهود لأرض الميعاد فلسطين، وإن ذلك يتم بفعل البشر. ثم توالى فتح مؤسسات ومكاتب، مهمتها الدفاع عن حقوق اليهود المسلوبة، ووجوب عودتهم للأرض المقدسة، وحتى لا يفتر هذا الحماس، فإن جرعات منشطة تعطى لهذا الجانب من خلال اعتناق بعض رهبان اليهود للمسيحية، ليجددوا دور سلفهم بولس اليهودي، ولعل من يتابع مجريات الأحداث يسمع بين حين وآخر عن اعتناق راهب يهودي للمسيحية، وذلك ليزيد من تصدعها من جهة، ولتطويعها أكثر لخدمة اليهود من جهة ثانية.
ولقد وصف صاحب كتاب (تاريخ البشرية) وهو نصراني هذا التحول بقوله: "إن تحول فريق يهودي إلى كنيسة مسيحية مسكونية أمر يدعو إلى الدهشة".
أيها المسلمون، إن التسارع المحموم في تبني النصارى لقضية اليهود يعود إلى أمرين:
الأول: اعتقاد النصارى حتمية عودة المسيح للأرض ثانية، وأن ذلك لا بد أن يسبقه تجمع اليهود في الأرض المقدسة، وهم الآن تجمعوا، لكن هل اكتمل التجمع؟
وثانيًا: للاختراق اليهودي لعقيدة النصارى بوجه عام، حتى وظفوا مشاعرهم خدمةً للمشروع اليهودي، ولقد تجسد هذا المعتقد بصورة جلية حينما أصدر رجلُ أعمالٍ مسيحي عام 1878م ـ أي: قبل مائة وعشرين سنة ـ أصدر كتابًا بعنوان (يسوع آت) أي: المسيح سيأتي، ووزع منه أكثر من مليون نسخة في أمريكا، وتُرجم إلى 48 لغة. وفي ذلك العام نفسه جَمعت إحدى المنظمات النصرانية المتعاطفة مع اليهود وتدعى: (البعثة العبرية من أجل إسرائيل) جمعت توقيعات 413 شخصية أمريكية بارزة من أعضاء الكونغرس الأمريكي والقضاة هناك ورجال الأعمال والصحافة، ورفعتها المنظمة ضمن عريضة للرئيس الأمريكي يومها سنة 1891م، يطلبون فيها تجمع اليهود في وطنهم فلسطين.
معاشر المسلمين، إنما أطلت عليكم في هذه المسألة لتعلموا أن مواقف الغرب النصراني وخاصة أمريكا، موقفهم من إسرائيل ليس ماديًا ولا سياسيًا، وإنما دينيٌ، صادر عن عقيدة، لذا فلا تنتظروا الحل من أمريكا، ولا أوربا، ولا ترتجوا خيرًا من مواقف فرنسا وروسيا والصين المتظاهرة بدعمها للحق العربي، إن حل القضية يكمن في إحياء الجهاد وتصعيده وتوسيع دائرته ودعمه، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]، آخرين من دونهم لا تعلمونهم، لأنهم مندسون بين المسلمين، وهم العلمانيون الذين يمثلون صف النفاق، لا يرضيهم المشروع الإسلامي ولا يريدونه، بل يعادونه، ولهذا حينما تفجرت الانتفاضة الأولى عام 1406هـ وكان التيار الإسلامي فاعلاً فيها وموجهًا تنادى القوم لمؤتمرات أوسلو وما تبعها؛ قطعًا للطريق من أن تتنامى حركة الجهاد، وإلا لماذا كان من شروط الاتفاقيات التي عقدت مؤخرًا في شرم الشيخ إعادة العناصر الجهادية إلى السجون مرة ثانية؟! وما ذاك إلا لتغييب الإسلام وإبعاده عن الساحة والاقتصار على أن المشكلة مشكلةُ أرضٍ سلبت تعاد لأهلها، فقط هكذا تلبس القضية.
إن اليهود عازمون بدافع عقدي على هدم الأقصى وإعادة بناء الهيكل، وقد رُصد لذلك مبالغ في بنوك غربية، كما أن الرسم الهندسي والمخطط اللازم للهيكل انتهي منه منذ سنوات، والفريق الفني الذي سينفذ ذلك مُعدّ ومستعد، وهم مدربون ومتخرجون من معهد خاص بالهيكل وينتظرون الأوامر. ولقد جسَّ اليهود نبض المسلمين عدة مرات للإقدام على ذلك، لكنهم يتراجعون، ويبدو أنهم في هذه المرة وجدوا الوقت غير مناسب أيضًا، فيحتاج الأمر حسب تقديرهم إلى إخراج جديد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4].
اللهم بارك لنا في القرآن الكريم، وانفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحميد في وصفه وفعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنه، المحمود في خفضه ورفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل مُرسل من عنده، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وصحبه وجنده.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن من العبر التي نستخلصها من الأحداث الراهنة في فلسطين:
أولاً: أن فيها بشارة للمؤمنين والدعاة الصابرين، انظروا إلى جهدكم الذي كنتم تؤدونه على أنه واجب عليكم فقط، مع ما يداخله من اليأس إنه سيثمر، انظروا إلى الرايات العلمانية تتهاوى رغم محاولاتها المستميتة في سبيل تحقيق السلام وتنازلاتها اللامحدودة، ومع ذلك تفشل وتخفق، ويتصاعد الرأي الإسلامي، وتتحقق مصداقيته وتوقعاته، لأنها مبنية على تأمل سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، غير أن الناس يستعجلون.
ثانيًا: أن مما يؤكد جدوى الحل الإسلامي بل وضرورته وأنه الوحيد الذي يكفل الحقوق ويعيدها لأصحابها تجديد الاتفاقيات بين حين وآخر، وكأنها مهدئات لمرض مستفحل يسري في الجسم سريعًا، فماذا عساه أن يفيد المهدئ إلا ساعات أو أيام؟! لو كانت الاتفاقيات جادة لما نُقضت، وإذا نقضت عوقب الناقض، لكنها عبث واستهتار، وقطع للطريق أمام التيار الإسلامي والحل الإسلامي، وهو الجهاد.
إن فلسطين لم يحررها عمر بن الخطاب من الرومان النصارى إلا بالجهاد، ولم يحررها صلاح الدين من الصليبيين إلا بالجهاد، كما أنها لم تفلت من يد المسلمين إلا حينما ضيعوا الجهاد وخلدوا للدنيا واطمأنوا بها ورفعوا رايات القومية بديلاً عن الإسلام، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227]، شماتة الأعداء في الدنيا والخسران يوم القيامة.
(1/5141)
جذور الصراع الإسلامي اليهودي (3)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
14/8/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاطف الدول النصرانية مع اليهود. 2- اليهود والنصارى أعداءٌ منذ قام هذا الدين العظيم. 3- المعركة بين المعسكر الإسلامي ومعسكري اليهود والنصارى معركة عقيدة. 4- اللاهثون وراء السلام. 5- ماذا عساه أن يفعل المسلمون وهم في حالة ضعف؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فقد سبق بيان أن أصوات النصارى في أوربا وأمريكا بدأت منذ مئات السنين تنادي بوجوب توطين اليهود في فلسطين، ثم بدأ هذا الشعور يتنامى ويزداد ويرتقي من مستوى أفرادٍ إلى مستوى منظمات وحركات ومؤسسات تبنت هذا الأمر، ورأت أنه دينٌ يجب المصير إليه والسعي فيه. واستمر الأمر يأخذ مجراه التصاعدي حتى قبلت معظم الكنائس النصرانية الغربية ذلك، نتيجةً لذلك احتل اليهود فلسطين، وكان الاحتلال قبل خمسين عامًا من الآن.
لم يقف تعاطف الدول النصرانية مع اليهود عند هذا الحد، بل إن مجلس الكنائس العالمي وهو أعلى سلطة ومرجعية دينية في أوربا الغربية وأمريكا، وهو الذي يرعى شؤون النصارى البروتستانت، في حين أن الفاتكان يرعى شؤون النصارى الكاثوليك، ذلك المجلس أصدر وثيقة عام 1961م، أي: بعد احتلال اليهود لفسلطين بثلاث عشرة سنة، تلكم الوثيقة تبرئ اليهود من دم المسيح كما يعتقد النصارى، وفيها بنود أخرى أيضًا غير هذه، كلها دعمٌ للموقف اليهودي وتعاطف معه، الأمر الذي جعل دعم اليهود ليس فقط على المستويات الرسمية التي تمتلك القرار، وإنما توسع ليشمل كافة أفراد شعوب تلك الدول.
معاشر المسلمين، إن اليهود والنصارى أعداءٌ تقليديون منذ قام هذا الدين، وهم كذلك أعداءٌ إلى يوم الدين، إلى أن ينزل المسيح عيسى ابنُ مريم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، وهي أبرز رموز النصارى وشعاراتهم، وفي هذا دليل قاطع على براءة ابن مريم عليه السلام من دين النصارى المحرف الآن. ومن يظن أن هذا العداء يمكن أن يزول أو يذوب بتأثير دعاوى تقارب الأديان السماوية أو تحت مظلات الأمم المتحدة أو غير ذلك فهو يغالط نفسه ويصادم السنن ويجدف ضد التيار ويكذب التاريخ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51].
إذا كانوا ينادون بتقارب الأديان السماوية التقارب فقط فعقيدتنا نحن وحدة الأديان السماوية، لكن دينها الإسلام وتوحيد الله بالعبادة، قال الله جل وعز: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67]، وقال سبحانه عن الأنبياء كلهم من آدم إلى محمد : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، فكل رسول إنما أتى بـ"لا إله إلا الله"، وقال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، اعبدوا الله لا عزيرًا ولا المسيح ولا الملائكة ولا غيرهم، فإبراهيم عليه السلام إنما جاء بالإسلام، وكل الأنبياء قبله وبعده كذلك بما فيهم موسى وعيسى، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأنعام: 85]. أما ما أحدثه اليهود والنصارى بعد أنبيائهم فهو شركٌ لم يأت به الأنبياء، ووثنياتٌ حاشا لأنبياء الله ورسله أن يأتوا به، ويدعوا الناس إليه.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون بالله ورسله وكتبه، إن الحديث عن اليهود والنصارى شغل مساحة كبيرة من القرآن، وعليه فالواجب أن نهتم بما اهتم به القرآن، ولا نستكثر أو نستوحش من ذلك ولا نستغرب، خاصة في هذا الزمن الذي أصبح الحل والعقد والغلبة لهم في نواحي الدنيا.
وأختتم هذا الموضوع بقراءة تصريحات في هذا الشأن لبعض النصارى المعاصرين، ويحتلون مواقع مؤثرة في المجتمع الغربي، لتعلموا أن الفكرة والمعتقد الذي كان قبل مئات السنين هو اليوم نفسُه، ولتتبينوا أن القرار السياسي أو العسكري الصادر من مؤتمراتهم أو منظماتهم وسائر دوائرهم الرسمية إنما يعبر عن إيمانهم بعقيدتهم، وأنهم لن يتخلوا عنها، وهم مصرون على الدفاع عنها، لكن الشيء الذي يجب عدم إغفاله أنهم أساطين السياسة، فيصوغون قناعاتهم الدينية ومبادئهم العقدية على شكل مواقف سياسية، يخدعون بها الدهماء من الناس، ويضحكون على الشعوب المغلوبة على أمرها، وعلى رأس أولئك أول رئيس لأمريكا سنة 1789م، أي: قبل أكثر من مائتي سنة، كان يوصف بأنه شديد التدين، وكان إذا أقسم أقسم بالذي خلص العبرانيين من مضطهديهم وزرعهم في أرض الميعاد. واستمر كل من جاء بعده على هذا المنهج حتى الرئيس الحالي، أقسم في حملته الانتخابية الأولى أنه لن يخيب أمل إسرائيل أبدًا، و55 في المائة من مستشاريه يهود، وعدد من وزرائه كذلك، أبرزهم وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، والسلسة في هذا طويلة لا تنتهي، وما بين أول رئيس إلى آخر رئيس كلهم كذلك، والورقة الرابحة التي يلوحون بها وينالون بها أكبر كسب انتخابي هي دعم اليهود والدفاع عنهم.
وكنت ناويًا ـ أيها الإخوة ـ أثناء إعداد هذه الخطبة نقل عدد من التصريحات لعددٍ من المفكرين والسياسيين الغرب، لتوثيق هذا الكلام أكثر، ولما رجعت إلى المصادر المعنية بهذا الشأن وبمثل هذه القضايا وجدتني أمام كم هائل يؤلف كتبًا بكاملها، فاكتفيت بالمثالين السابقين.
والحقيقة أنا نحن المسلمين لسنا بحاجة إلى مثل هذه التوثيقات، فكلام ربنا أوثق مصدر عندنا، وهو يغنينا عن غيره، والله عز وجل يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]. ليس الذي ينقصهم هو البرهنة على أن الفلسطينيين وهم الكنعانيون هم أهل فلسطين وسكانُها قبل أن يدخلها بنو إسرائيل، فهذا يثبته التاريخ وهم يعلمونه، وليس الذي ينقصهم الاقتناع بأنك يا محمد وأمتك على الحق، لأنهم يعلمون أن الذي جاءك من ربك الحق، كل هذا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن لو قدمتَ إليهم ما قدمت ولو توددت إليهم ما توددت لن يرضيهم من هذا كله شيء إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق. هذه عقيدتهم، وهي حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت على المسلمين، إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي ومعسكري اليهود والنصارى اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائمًا ضد الإسلام والمسلمين.
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلامًا شتى، في خبث ومكر وتورية.
إن اليهود والنصارى جربوا المسلمين، وجسوا نبضهم في الانتفاضة الأولى، وهم الآن كذلك، ويبدو أن تقديراتهم وتقييمهم للوضع الإسلامي لا يزال فيه تخوف من الإقدام عليهم، لذا تلحظون مما تنقله وسائل الإعلام أن مواقفهم في الأيام الأخيرة فيها شيء من التراجع؛ المتمثل مرة في لغة الخطاب الأقل حِدَّةً من سابقه، وأحيانًا يظهر تراجعهم في فتح مطار غزة وبعض الممرات، وهم يراوغون في كل ذلك، وهذا طبعهم لم يغيروه، فيتقدمون خطوات، ثم لا مانع لديهم أن يرجعوا خطوة واحدة أو خطوتين، للتظاهر بحسن النية، وليُلقوا في روع المخدوعين الغافلين أنهم يريدون السلام، وليس لديهم نوايا توسيع العدوان ليأمنوا جيشان العقيدة وحماستها، والتي ظهرت في مدن العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب، بينما هم في قرارة نفوسهم لا تزال الحرب قائمة؛ لتحطيم صخرة الإسلام العاتية التي طالما نطحوها فأدمتهم جميعًا.
إن الثمن الوحيد الذي يرتضونه اتباعُ ملتهم، وما سواه فمرفوضٌ ومردود، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الحكيم العليم، القوي العزيز وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن من المؤسف أن قطاعًا كبيرًا من المسلمين لا يدرك عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وينخدع بالشعارات التي تطرح وجمعيات الصداقة التي تقام ومؤتمرات السلام ونحو ذلك، ولقد وقفت على تصريحات كثيرة جدًا لأبرز علمائهم ومفكريهم وساستهم، خلاصتها تجتمع في كلمة ألقاها الواعظ السياسي النصراني جيمي سويغارت من أمريكا، وكان يتحدث عن مؤتمرات السلام حينما بدأت بين اليهود وبعض العرب، يقول: "كنت أتمنى أن أستطيع القول: إننا سنحصل على السلام، ولكنني أؤمن بأن معركةً فاصلة مقبلة". ثم يؤكد على ذلك ويقول: "إنها قادمة وسيخاض غمارها في أحد أودية فلسطين". ويضيف قائلاً: "إنهم يستطيعون أن يوقِّعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، لكن ذلك لن يحقق شيئًا، هناك أيام سوداء قادمة، لكن تلك المعركة تنعش روحي". يقول هذا الكلام ونحوه عبر شبكات التلفزة، ويسمع لكلماته الوعظية الأسبوعية أو اليومية الملايينُ من البشر داخل أمريكا وخارجها.
أيها المسلمون، اليهود ما دخلوا فلسطين واحتلوها من خلال بوابات مؤتمرات السلام، ولا بواسطة ما يسمى بالشرعية الدولية أو قرارات الأمم المتحدة، كما لم يدخلوها رجاءً وأماني، وإنما عن طريق التخطيط والقوة، ولن يخرجهم منها إلا القوة، ولا قوة لنا إلا بالإسلام.
عشر سنوات يلهث اللاهثون وراء السلام، ينتقلون من عاصمة لأخرى، ومن كامب لآخر، ويتقاطرون أفرادًا وجماعات في زيارات متتالية لدولة اليهود، وسفارات تفتح ومكاتب رعاية مصالح، ومعارض مشتركة ومؤتمرات تعقد، تضم الفرقاء كافةً باسم معالجة مشكلة المياه مرةً، ومحاربة الإرهاب أخرى، ونحو ذلك، وكأن ملف الحرب بين العرب واليهود طُوي، وفُتحت صفحةٌ جديدة من التعاون المشترك والبناء، إلى غير ذلك من العبارات الاستهلاكية المخدِّرة.
قد يقول قائل: وماذا عساه أن يفعل العرب وهم في حالة ضعف إلا الموافقة مكرهين على الجلوس مع اليهود على طاولة المفاوضات حتى يتقووا؟!
والجواب على ذلك: إن العرب والمسلمين أيام الحروب الصليبية كانوا في منتهى الضعف والتمزق والانحطاط كما يسميه المؤرخون، وبقيت الكيانات الصليبية داخل جسم الأمة الإسلامية مائتي سنة؛ من عام 491هـ حتى عام 690هـ، لكنها بقيت جزرًا معزولة في المنطقة، تستمد قوتها من أوربا، كما لم يقلل ذلك من محاولات الجهاد المتواصل ضدهم، ولم يثن عزم المصلحين، وظَل الرفض للصليبيين الغرباء حيًا في نفوس المسلمين.
وهكذا يجب أن يبقى الوعي في أذهان الشعوب الإسلامية حيًا؛ أن اليهود غرباء على المنطقة، ويجب علينا إزالتهم وجهادهم حتى ولو بالحجارة؛ لأنا لا نملك حيلةً غيرها الآن، وإذا علم الله سبحانه صدق النوايا وحسن العمل رمى بها الله وهو القوي العزيز، وإذا رمى بها الله أصابت المقتل، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17].
إن واقع المسلمين اليوم والعرب منهم خاصة بما فيه من الضعف والتفكك ليس مبررًا أن توقف عملية الجهاد أو تؤجل، بل يجب أن تستمر إذ بدأت، وعلى المخلصين والمعنيين بها مباشرة أن يحذروا من أن تُسرق كما سرق غيرها، أو أن تباع كما بيعت الانتفاضة الأولى.
(1/5142)
المؤتمرات الدولية حول المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
24/10/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محطات تاريخية للمؤتمرات الدولية حول المرأة. 2- من مقررات هذه المؤتمرات. 3- الأهداف التي تسعى لتحقيقها مؤتمرات السكان أو مؤتمرات المرأة. 4- واجب عموم المسلمين نحو هذه المؤتمرات. 5- مَن المتحمسون وراء قيادة المرأة للسيارة؟ وما هدفهم من ذلك؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد توالت في العشر السنوات الأخيرة المؤتمرات الدولية حول المرأة والسكان، وأحدثت صخبًا كبيرًا، فهل هي تمثل نساء العالم حقيقة؟ ولماذا تحاط بكثير من الجدية ومتابعة مقرراتها؟ هل التزمت الدول المشاركة ببنود اتفاقياتها؟ تقويم دوري لما يتم إنجازه فيها على خلاف الحال في غيرها من الاتفاقيات الدولية. لماذا هذا كله؟ وما السرُّ فيه؟ وما خلفيات الاهتمام بقضايا المرأة؟ وإلى أي شيء تهدف؟ وما النجاحات التي حققتها؟ وما انعكاساتها على المجتمعات الإسلامية؟
وللإجابة على هذه الأسئلة أو الحكم على تلكم المؤتمرات نقف في محطات تاريخية مهدت لهذه المؤتمرات.
أول اجتماع عقد في العصر الحديث من أجل المرأة كان في الدنمرك عام 1908م، وهو ما يقابل 1328هـ، وستكون التواريخ بالميلاد لأنها كانت تعقد وفقًا للتاريخ الميلادي، وتعقد في بلادٍ التاريخ المعتمد فيها هو الميلادي. وهذا المؤتمر الأول من حينها أصبح ذلك اليوم يومًا عالميًا للمرأة.
وفي عام 1946م أنشأت لجنة مركز المرأة في منظمة الأمم المتحدة، تتألف من خمس وأربعين دولة، تجتمع سنويًا بهدف عمل مسودات وتوصيات وتقارير خاصة بالمرأة. ولا تسأل عن أعضاء هذه اللجنة وما هي مؤهلاتهم.
وفي عام 1952م صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة، وذلك بناء على توصية اللجنة الخاصة بالمرأة في المنظمة المشار إليها سابقًا.
وفي عام 1966م صدر عهد دولي ينص على التساوي بين الرجل والمرأة في حق التمتع في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسة. وأُكد هذا الحق في عام 1979م في مؤتمر عقد، كان من أعجب مقرراته: تمنح الدول الأطراف في الاتفاقية المرأة أهلية قانونية في الشؤون الدينية مماثلة لأهلية الرجل، ولها نفس ممارسة تلك الأهلية.
ومن المعلوم أهلية الرجل من حيث العموم للإمامة في الصلاة والآذان وأن يكون قاضيًا، وعليه فيمنح المؤتمر المرأة أن تكون إمامًا في الصلاة ومؤذنة وقاضية.
ومن مقررات هذا المؤتمر أيضًا: للمرأة أن تقرر بنفسها عدد أطفالها، والفترة بين إنجاب طفل وآخر. كما أن لها الحقوق والمسؤوليات نفسها فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، وحتى عام 1995م أي: قبل خمس سنوات وقعت مائة وثلاثون دولة على هذه الاتفاقية، ومنها دول عربية.
وفي عام 1984م عقد المؤتمر العالمي الثاني للسكان في المكسيك.
وفي عام 1985م عقد المؤتمر الدولي عن المرأة بكينيا، وفيه تأكيد على المقررات السابقة.
وفي عام 1994م عقد المؤتمر الدولي الثالث للسكان والتنمية في القاهرة، وحصل فيه جدل كبير لما طرح فيه، كالدعوة إلى حرية الجنس للمرأة، يعني مشروعية الزنا، وقانونية الإجهاض، ولم يعد المسلمون بعيدين عن مقررات هذا المؤتمر لحضور وفود من الدول العربية والإسلامية، ولأن عقد المؤتمر كان في عقر دارهم.
وفي عام 1995م عقد المؤتمر العالمي للمرأة في الصين، وحظي بتغطية إعلامية هائلة على مستوى العالم، ومن مقرراته: التأكد على التعليم المختلط وتشريع الزنا، وغير ذلك من هذا القبيل.
ثم توالت بعد ذلك أربع مؤتمرات سنوية، وفي العام المنصرم عقد المؤتمر الخامس في عاصمة الكفر والعهر ومصدر الشر في أمريكا، إلا أنه هذه المرة أحيط بنوع من التكتم، نظرًا للمعارضات التي سجلت على مؤتمر القاهرة، فاقتصرت قراراته على التأكيد على ما سبق دون إحداث قرارات جديدة. وللإنصاف فقد لقيت تلكم المؤتمرات معارضةً حتى من داخل المجتمعات الغربية، وهذا يؤكد تنكرها لكل فضيلة، واعتماد وإقرار كل رذيلة، ومحاولة صبغها صبغة شرعية، لكن تلك الأصوات المعارضة لا زالت لم ترتق إلى المستوى الذي يعيق حركة المؤتمرات ومضيَّها في تدميرها للأخلاق.
أيها المسلمون، ما الهدف الذي تسعى إليه تلكم المؤتمرات المعنونة بمؤتمرات السكان أو مؤتمرات المرأة؟
والجواب: إنها آليات لفرض النموذج الاجتماعي الذي يريد الغرب إقراره في العالم؛ بمعنى أن الغرب استطاع السيطرة على العالم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإعلاميًا، ولم يبق إلا الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية، فجاءت تلكم المؤتمرات لتكمل الناقص حتى لا يتضايق الرجل الأبيض حينما يذهب للسياحة أو العمل في أي بلد، لا يتضايق من النظم الاجتماعية والقيم الدينية والعرقية والعرفية التي لم يألفها في بلاده، بل يريد أن تكون الأجواء الاجتماعية تناسبه وكأنه في بلده، وهذا هو الترجمة العملية لمعنى العولمة.
ولكن هل نجحوا فيما يهدفون إليه من خلال ما سبق؟
والجواب: نعم، فهم ماضون في تحقيق توصيات مؤتمراتهم، وهي وإن لم تكن شرًا محضًا؛ لأنها تعالج مشاكل تعاني منها المرأة في كثير من البلدان الكافرة أيضًا، إلا أن أبرز أهدافها كان الترويج للغرب وقيمه الاجتماعية، وهم يستخدمون في ذلك سياسة النفس الطويل الهادئ، ففي كل مرحلة يتقدمون نحو الهدف المنشود، وقد بدأت مؤتمراتهم منذ عشرات السنين، وعقب كل مؤتمر تعلن نتائج محدودة، لكن الراصد لها منذ أول مؤتمر وحتى الآن يدرك مدى التقدم في تحقيقهم ما يريدون. وهم الآن قد تخطوا مرحلة الدعاية بقيمهم إلى محاولات فرضها والالتزام بها، وقد لا يكون بعيدًا أن يصدر عن أحد مؤتمراتهم القادمة فرض عقوباتٍ ومقاطعةٍ لكل دولة تتحفظ أو ترفض الانصياع لمقرراتهم.
وكان المتعين على الدول الإسلامية أن يكون لها رأي وموقف متميز، وتشكل ضغطًا معاكسًا ولا تكتفي بالتحفظات.
والحاصل ـ أيها المسلمون ـ أن تلك المؤتمرات ماضيةٌ بإصرار على تحقيق غايتها وهدفها في تغريب المرأة بصبرٍ وأناة، وهي بين فترة وأخرى تنجز اختراقًا للقيم والمبادئ المحافظة، وما صرخات أدعياء تحرير المرأة في صحفنا والمنادين بقيادة المرأة للسيارة ومشاركتها في كل جوانب الحياة، ما كل ذلك إلا استجابة لمقررات مؤتمرات المرأة ومؤتمرات السكان الدولية.
أيها المسلمون، هذه الحملة ليست جديدة، إنما الجديد طريقةُ العرض فقط، فهي قديمة، وحاولوا مرات وكرات الانقضاض على قيمنا، ولكن المُصلحين والغيورين يقفون لهم بالمرصاد. وعلى المجتمع كافة الآن أن يعي دوره ويعرف ماذا يكاد به، فيقوم بواجبه في التصدي لتلك الدعاوى، وأن يفضح خططهم ونواياهم، ويعلن رفضه لها. ولا يهولنك ـ أيها المسلم ـ مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، فإن الله خير الماكرين، وهو القوي المتين.
وإن على المصلحين من علماء ومدرسين ووعاظ ومدرسات وجمعيات خيرية أن يقوموا بدورهم في صد الهجمات. وعلى أصحاب الأقلام الغيورة الأمينة أن يدلوا بدلوهم في الكتابة عبر الصحف ومواقع الإنترنت، مترجمين رفض المجتمعات الإسلامية لكل ما يخالف مجدها وشرفها دين الاسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وإننا ـ معاشر المسلمين ـ لعَلى ثقة بنصر الله لنا، لكن ذلك ليس بالأماني، وإنما هو مشروط بنصرتنا لدينه والغيرة عليه والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل حسب استطاعته، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وقال جل شأنه: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكيم العليم، خلق الخلق وهو اللطيف الخبير، وجعل الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد: تبين لنا ـ معاشر المسلمين ـ أن مؤتمرات المرأة والسكان الدولية تهدف فيما تهدف إليه إلى فرض السلوكيات الاجتماعية الغربية على كل بلاد العالم، وهي تعلم أن النظم الإسلامية تقف أقوى عقبة كأداء أمامها، ولذا فهي تحاول تذويب جليدها من خلال محاولات لاختراق المجتمعات الإسلامية، كما أنها تعلم أن هذه البلاد ـ حرسها الله ـ أقوى صخرة تنطحها، لذا تحاول عبر أقلام رخيصة وأفواه مقلدة بين حين وآخر طرح قضية نسائية للمناقشة، لا تعبر إلا عن وجهة نظر كتابها وقليل من المعجبين بهم، لكن إتاحة الفرصة أمامهم بالكتابة في الصحف ونحوها يُظهر الأمر وكأن كثيرًا من أفراد المجتمع يتبناه. ومن تلكم الأطروحات قيادة المرأة للسيارة.
ونحن هنا لا نطرح الموضوع طرحًا فقهيًا يتناول الحكم هل هو محرم أو مكروه أو مباح؟ لكن هناك تساؤلات تفرض نفسها في هذا الجو: مَن المتحمسون وراء قيادة المرأة للسيارة والمطالبون بذلك؟ وهل دافعهم الحقيقي السعي في مصلحة المرأة والمجتمع؟ وما خلفيتهم في ذلك؟
إن الأنثى بطباعها وطموحاتها وتفكيرها وهمها تختلف عن الرجل، ولكل جنس مهمة في هذه الحياة، وإقحام جنس بممارسة اختصاصات الآخر تكليفٌ ترفضه الطباع السوية حتى الكافرة، لولا أن الهدف الذي يرمي إليه أدعياء تحرير المرأة هدف مبطن، هو انحلال المجتمع وإغراقه في دوامة الشهوات. بلاد الغرب منذ متى وهي واقعة في مستنقع الانحلال، ومع ذلك كم تسمعون من امرأة اعتلت مناصب في الجيش هناك، بل ما دون ذلك من أعمال مدنية تكون هي في موقع متقدم من المسؤولية كالوزارات مثلاً، رغم أن عدد النساء لا يقل عن عدد الرجال إن لم يزد عليه.
نعم يوجد عدد لكنه قليل جدًا قياسًا إلى الرجال، مع أنه لم يمنعهم دين ولم يردعهم خلق ولا مروءة، وإنما طبيعة المرأة الضعيفة لا تتحمل تلك المسؤوليات، وقديما قال الشاعر:
كتِب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
إنّ سَوقَ المرأة إلى أعمال لا تناسب أنوثتها بحجة مساواتها بالرجل جريمة في حق المجتمع والأجيال المقبلة، وفي حق المرأة نفسها، وسنةٌ سيئة يكون على الساعي فيها إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، مصداقًا لحديث الرسول.
وأدعياء تحرير المرأة ـ أيها المسلمون ـ يدركون هذه المعاني تمام الإدراك، وليس هدفهم الذي يسعون إليه البحث الجاد عن مصلحة المرأة وإصلاح المجتمع، وإنما هدفهم الأول الفوضى الجنسية وإشاعة الفاحشة في المجتمع وتمزيق الفضيلة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27]، ليس فقط ميلا، وإنما ميل عظيم؛ لأن كل منهج سوى دين الله وشرعه فهو الضلال والبوار والاضطراب واللهث وراء الشهوة وإطلاق الغرائز من كل عقال ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يطلقونها باسم الحرية، ولكنها الشهوة الفالتة والنزوة البهيمية بلا ضابط.
أيها المسلمون، وفي هذا الصدد أجرت إحدى الصحف المحلية ـ جريدة الرياض العدد (11891) ـ حوارًا مع أحد الأطباء المختصين، تحدث فيه عن اكتشاف ثلاثة ذكور من عائلة سعودية لديهم أعضاءٌ أنثوية، ولم يعرف هذا إلا بعد بلوغ الكبير منهم، وعمره ستة عشر عامًا، وأجريت له عملية جراحية تحول بعدها إلى أنثى، وذلك بعد أن تأكد الأطباء من وجود الأعضاء الأنثوية الداخلية، وبعد موافقة المريض نفسه. والعجب في الأمر ـ وهو ما له صلة بموضوعنا ـ أن الذي تحول إلى أنثى كان منذ طفولته يميل إلى كونه أنثى، فلا يحبّ أن يلعب أو يختلط مع أقرانه من الذكور ـ انظروا نداء الفطرة كيف يرفض الانسجام مع حركات الأولاد الذكور وألعابهم ـ، فيلعب مع الفتيات، ويلبس ملابس الفتيات، ويتحدث مع الفتيات ـ كل هذا قبل إجراء العملية ـ، ويضيف قائلاً: إنه لم يجد الانسجام في الدراسة مع الأولاد، وكان يرغب دائمًا أن يكون فتاة، وإنه سعيدٌ عند ظهور علامات الأنوثة لديه، ويحاول الآن تغيير اسمه إلى اسم أنثى، ويرغب في متابعة دراسته في مدارس البنات، وحساب السنوات الدراسية التي درسها في مدارس وزارة المعارف.
إن هاجس الأنوثة داخل جسم الأنثى صبغة صبغها الله تعالى في المرأة لا ينفك عنها، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138]. ولقد سافرت فتاة من إحدى الدول العربية الأكثر سفورًا، سافرت لأمريكا للتدريب على السباحة، فعادت وقد اعتزلت السباحة وارتدت الحجاب، وقالت: لن يستفزني أحد للرجوع عن قراري في العودة إلى الحشمة والحياء. وتضرب الفتاة الفلسطينية مثلاً رائعًا حينما أوقفها الجنود وطلبوا منها خلع خمارها عن وجهها، فرفضت، فمد أحدهم يده لنزع الخمار فبصقت في وجهه، فانهال عليها هو وزملاؤه ضربًا على رأسها حتى فقدت وعيها وبصرها.
تلكم مشاعر ومواقف هي ترجمة حقيقية وواقعية لإرادة وخيار المرأة المسلمة، فالأُولى في بلد يعد الحجاب نوعًا من الإرهاب، والثانية في بلد يحكمه يهود، ومع ذلك رفضتا إلا الحجاب، فهل يعي ذلك أدعياء تحرير المرأة المتسترون بالمناداة بقيادتها للسيارة ونزع الخمار عن وجهها بدعوى أنها مسألة خلافية [1] ؟!
[1] المرجع الرئيسي في هذه الخطبة: مجلة الأسرة، العدد (91)، شوال 1421هـ.
(1/5143)
من مفاسد الزنا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
17/2/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شناعة جريمة الزنا. 2- من مفاسد الزنا أن فيه جناية على الولد والنسب والشرف. 3- من مفاسد الزنا إثارة العداوات وإشعال نار الانتقام والقتل. 4- الأضرار الصحية للزنا. 5- خصائص عقوبة الزنا شرعا. 6- تفاوت مفاسد الزنا بحسب المزني بها وبحسب الزمان والمكان والأحوال والفاعل. 7- توبة الزاني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فإن من أعظم المشاكل التي تعترض الشباب هي مشكلة الزواج، وتلكم المشكلة إن هي لم تُحلَّ حلاً شرعيًا فهشِيمها لا يتوقف ضرره ومخاطره على مرتكبه، بل تتسع دائرته ليدخل فيها عدد من الأسر الآمنة البريئة، إنها الزنا أعاذنا الله جميعًا وحمانا منه. الزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وفساد المروءة وقلة الغَيرة، يقتل الحياء، وجه صاحبه مظلم وقلبه أظلم، الفقر يلازم الزاني ويتهدده.
ولئن كان الأُنس يصاحب العفيف ومن جالسه يستأنس به فإن الزاني تعلو وجهه وحشة، فلا يأنس لأحد؛ لأن الناس ينظرون إليه بعين الريبة والخيانة، ولا يأمنه أحد على حُرمته ولا ولده. ينشد الزاني باقترافه الجريمة لذة العيش وطيبه، لكن الله تعالى يعاقبه بنقيض قصده؛ لأن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل سبحانه معصيته سببًا إلى خير قط.
عباد الله، من مفاسد الزنا أنه يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وكسب الحرام وإضاعة الأهل والعيال، بل ربما قاد صاحبه إلى سفك الدم الحرام، أو استعان عليه بالسحر والشرك، فهذه المعصية محفوفة بجندٍ من المعاصي بعدها وقبلها، وهي أجلب شيءٍ لشرِّ الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.
وإن من مفاسد الزنا أنه يُذهب بكرامة الفتاة ويكسوها عارًا لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها وأقاربها، وتنكِّس به رؤوسهم بين الخلائق، أجارنا الله وإياكم والمسلمين منه، لذا كانت عقوبته شديدة.
إن العار الذي يلحق الزاني أعلق من العار الذي ينجرّ على من رُمي بالكفر وأبقى، فإن التوبة من الكفر تُذهب رجسه شرعًا وتغسل عاره عادة ولا تبقي له في قلوب الناس حظّ تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا فإن التوبة من ارتكاب فاحشةٍ وإن طهَّرت صاحبها تطهيرًا ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة يبقى لها أثر في النفوس، يُنقِص قدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم. أما المرأة الزانية فإن حالها أشد، ألا ترون كيف يتجنب الكثير الزواجَ منها حتى وإن ظهرت توبتها؟! وما ذاك إلا تحسسًا من الوصمة التي ألصقت بعرضها سابقًا، يرغب الرجل أن يتزوج بالمشركة إذا أسلمت أكثر من رغبته في نكاح الناشئة في الإسلام ممن وقعت في تلك الجريمة.
أيها المسلمون، إن المرأة إذا حملت من الزنا فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا نسبته إلى الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبيًا ليس منهم، فورثهم وانتسب إليهم وهو ليس منهم.
ومن مفاسد الزنا ـ أجارنا الله منه ـ أنه جناية على الولد؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلَّقة منها مقطوعةً عن النسب إلى الآباء، والنسبُ معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد، فكان الزنا سببًا لوجود الولد خاليًا من العواطف التي تربطه بأقاربه ليأخذوا بساعده ويتقوى بهم ويعتصب عند الحاجة، وهو كذلك جناية على الولد وتعريض به؛ لأنه يعيش وضيعًا في الأمة، فإن الناس يستخِفّون بولد الزنا، وتنكره طباعهم، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتبارًا. فما ذنب هذا المسكين؟! وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟!
هل ترضى ـ أيها المسلم ـ أن يُفسد أحد عليك أنثاك من زوجة أو أختٍ أو بنت؟! كلا وألف كلا، لا ترضى ذلك ولا تقبله، فلماذا إذًا أنت تُفسد على الآخرين نساءهم إذ الزنا إفساد للمرأة المصونة؟!
الزنا ـ عباد الله ـ يهيج العداوات ويذكي نار الانتقام بين أهل المرأة والزاني؛ ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته إياها مما يتسبب عنه خصومات وخلافات ومضاربات تصل إلى القتل لما يجلبه هتك الحرمة للزوج أو الولي أو القريب من العار والفضيحة الكبرى، ولو بلغ الرجلَ أن إحدى محارمه قُتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت، قال سعد بن عبادة : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفَح، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((أتعجبون من غَيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومن مفاسد الزنا أيضًا أنه يؤثِّر على محارم الزاني، فشعور محارمه بإتيانه هذه الفاحشة يسقط جانبًا من مهابتهن له، ويُسهّل عليهن بذل أعراضهن إن لم يكنْ ثوب عفافهن منسوجًا من تربية دينية صادقة، بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه ولا يرضاه لغيره، فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه وتعينه على أن يكون بيته بيتًا طاهرًا عفيفًا.
أيها المؤمنون، لم تقتصر مفاسد الزنا على الجوانب الشرعية والمعنوية والقيم والأخلاق فحسب، بل إن لها أضرارًا صحية كذلك يصعب علاجها والسيطرة عليها، بل ربما أودت بحياة الزاني كمرض الإيدز والهربس والزهري والسيلان ونحوها، ولا تسأل عن حال شخص تكون نهايته وخروجه من هذه الدنيا مع إحدى تلك البوّابات المشينة، فرحماك اللهم وحمايتك. أما إذا انتشر الزنا في مكان فهو علامة الهلاك، قال ابن مسعود : (ما ظهر الزنا والربا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها). أما الربا فهو ظاهر، ونسأل الله أن يرفعه ويعصم المسلمين منه، فقد تساهلوا فيه، وتجاسروا عليه، وتقاطروا عند أبواب بنوكه، وأما الزنا فنسأل الله أن يتم ستره ويديمه، ويعافي من ابتلي به ويهديه للتوبة النصوح.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "خصَّ الله سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص:
إحداها: القتل فيه بأشنع القتلات، وأما ما دون القتل فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
والثانية: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد على الزاني والزانية، فإنه سبحانه من رأفته بهم شرع هذه العقوبة، وهو أرحم منكم بهم، ولم تمنعه رحمته بهم أن يأمر بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره. والتأكيد على إقامة الحدود وإن كان عامًا في سائرها، إلا أنه خُصَّ بالزنا لشدة الحاجة إلى ذِكره، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر ومروج المخدرات، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، فَنُهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حَدِّ الله تعالى. وسبب هذه الرحمة أن جريمة الزنا تقع من الأشراف والأوساط والأرذال، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق، والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس من أشباه الأنعام ربما عَدَّ مساعدته طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه، كما أن هذا الذنب غالبًا ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له يجعل ضعيف العلم والإيمان يود ألا يُقام على الزاني حَدٌّ. وكمال الإيمان أن تقوم في قلب المسلم قوة يقيم بها أمر الله، ورحمة يرحم بها المحدود، فيكون موافقًا لربه سبحانه في أمره ورحمته.
والثالث: من خصوصيات حدِّ الزناة عن غيره من الحدود أن الله جل شأنه أمر أن يكون حَدُّهما بمشهد من المؤمنين، وذلك أبلغ في مصلحة الحدّ وحكمة الزجر مما لو كان تنفيذه في مكان خَفيٍّ لا يراه أحد".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكيم، الرؤوف الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين وخاتم النبيين، نبينا وسيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن مما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن أنّ فاحشة الزنا تتفاوت بحسب مفاسدها، فالزاني والزانية مع كل أحد أشد من الزنا بواحدة أو مع واحد، والمجاهر بما يرتكب أشد من الكاتم له، والزنا بالمرأة المتزوجة أشد من الزنا بالتي لا زوج لها لما فيه من الظلم والعدوان على زوجها وإفساد فراشه قد يكون هذا أشد من مجرد الزنا، كما أن الزنا بحليلة الجار أعظم منه ببعيدة الدار؛ لما يقترن بذلك من أذى الجار وعدم حفظ وصية الله ورسوله ، وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثمًا من الزنا بغيرها، ولهذا يقال للغازي يوم القيامة: خذ من حسنات الزاني ما شئت، والزنا بذوات المحارم كالأخت والعمة والخالة أعظم جرمًا وأشنع وأفظع.
وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهارًا أعظم إثمًا منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة المقدسة أعظم منه فيما سواها. أما تفاوته بحسب الفاعل فالزنا من المحصن أقبح من البكر، ومن الشيخ والكهل أقبح من الشباب، ومن العالم أقبح من الجاهل، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز.
كما قد يقترن بالفاحشة من العشق والحبّ الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق وتأليهه وتعظيمه والخضوع والذل له وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله ومعاداة من يعاديه وموالاة من يواليه ما قد يكون أعظم ضررًا وأشدَّ جرمًا وخطرًا من الفاحشة نفسها.
أيها المسلمون، وهل للزاني توبة مع كل تلك المفاسد التي يجرّها على نفسه وأهله وأهل المرأة الزانية والمجتمع؟ الجواب: نعم، فحتى الشرك له توبة مقبولة. يجب على من وقع في الزنا أو تسبب فيه أو أعان عليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، ويندم على ما مضى، وأن لا يرجع إليه لو تمكن منه.
كما لا يلزم من وقع في الزنا رجلاً كان أو امرأة أن يُسلِّم نفسه، بل يكفي في ذلك أن يتوب إلى ربه، وأن يستتر بستره عز وجل، وليبكِ على خطيئته ويفزع إلى ربه، وإن كان عند الزاني صورٌ لمن يفجر بها أو تسجيلٌ لصوتها فليبادر إلى التخلص منها، وإن كان قد أعطى تلك الصور أو ذلك التسجيل أحدًا من الناس فليسترده منه وليتخلص منه. وإن كانت المرأة قد وقع لها تسجيل صوت أو أُخذ لها صورة جامدة أو متحركة وخافت أن ينتشر أمرها فعليها أن تبادر إلى التوبة وأن لا يكون ذلك معوقًا ومانعًا لها عن الإقبال على ربها، بل يجب عليها أن تتوب، وأن لا تستسلم للتهديد والترهيب ممن فجر بها، فإن الله كافيها ومتوليها، ولتعلم أن من يهددها جبان رعديد، وأنه سوف يفضح نفسه إن هو أقدم على نشر ما بيده من صور وأصوات، وحتى لو نفّذ ما يهدد به فأيهما أسهل: فضيحة يسيرة في الدنيا ويعقبها توبة نصوح أو فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ويعقبها دخول النار وبئس القرار؟!
ومما ينفع ويفيد في هذا الصدد إن هي خافت من نشر أمرها أن تستعين برجل رشيد من محارمها؛ ليعينها على التخلّص مما وقعت فيه، فربما كان ذلك الحلّ ناجعًا ومفيدًا إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فإن على من وقع في ذلك الجرم أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يقبل على ربه بكليته، وأن يقطع علاقته بكل ما يذكِّره بتلك الفعلة، وأن ينكسر بين يديه مخبتًا منيبًا، عسى أن يقبله ويغفر سيئاته ويبدلها حسنات، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 68-70].
اللهم ادفع عنا الربا والزنا، اللهم طهر مجتمعات المسلمين من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم دمر أوكار الرذيلة ومناشط الفواحش ودواعيها من أفلام وقنوات فضائية ومقالات وكتب وصحف وأشعار وغيرها ما علمنا منه وما لم نعلم...
(1/5144)
انتشار السحر (1)
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
2/3/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الأمراض. 2- أسباب انتشار السحر بين الناس: الإعلام المهترئ والصحافة المشوشة، ضعف الإيمان بالله وقلة اليقين بقدرته، الجهل بشرع الله تعالى، ظلم بعض الناس لزوجاتهم ومن تحت أيديهم من العمال والخدم، الخلافات الزوجية، طغيان المادة على مناحي الحياة. 9- الفرق بين السحر والشعوذة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، إن الأمراض التي تُصيب الإنسان إما عضوية وإما نفسية، والنفسية يكون لها تأثير وانعكاسات بحيث يتألم المريض عُضويًا، فإذا زال السبب النفسي سكن المرض تلقائيًا. والأمراض النفسية أنواع، منها ما يكون بسبب الحسد، ومنها بسبب السحر، ومنها بسبب العين، ومنها ما يُسمى في عيادات الطب الحديث بالأمراض النفسية، وهذه الأخيرة معناها أن الإنسان يتألم ويتضايق من وضعٍ من الأوضاع أو المواقف والمصائب التي تنزل في نفسه أو في أهله أو ولده أو ماله، فيُصاب بصدمة تظهر أعراض آلامها على أحد أعضائه، ويكون نتيجتُه أَرَقًا وقلقًا وضيقَ صدر واكتئاب، فيتوهم أن مرضه عضوي، وليس كذلك، وإنما الذي فيه ما يُصطلح عليه بالمرض النفسي، فإذا زال ذلك المؤثر شُفِي من مرضه بإذن الله تعالى.
أيها المسلمون، خطبة هذا اليوم تدور حول السحر: ما أسباب انتشاره؟ ولماذا هو بازدياد الآن؟ وما الفرق بينه وبين الشعوذة؟ وما أنواع السحر باعتبار نتائجه؟ ولماذا يعمد بعض العُمّال والخادمات في البيوت إلى سحر كفلائهم؟ وما أضرار السحر؟ وهل هناك جهودٌ على الصعيد الرسمي في مكافحته ومكافحة المشعوذين؟ وهل من مَخْرجٍ لمن ابتلي به؟ وكيف يُقاوم ويُتوقَّى؟ وأخيرًا ما حكم الساحر؟
عباد الله، لئن كان السحر في السنين الماضية لا يُذكر إلا قليلاً والحالاتُ المسحورة تكاد تُعدُّ بالأصابع، إلا أن أعداده أخذت تتزايد مؤخرًا، ولم يعد ضررُه قاصرًا على فئةٍ من الناس، بل تجاوز ذلك ليشمل أعدادًا أكبر. وصار السحر مع العين والحسد ومع الشعوذة تشكل ثالوثًا يهدد خطرها أغلب شرائح مجتمعنا الآمن المطمئن.
إن الإعلام المهترئ والصحافة المشوّشة والإلحاد المنتشر من خلال قنوات السحر سببٌ مباشر وقويٌ من أسباب رواج سوق السحرة، كما أن ضعف الإيمان بالله وقلة اليقين بقدرته ثم الإعراض عن ذكره وقلة الدعاء والتضرع وكثرة الصور والتماثيل في البيوت وضجيج الموسيقى والغناء وأكل الربا فتحت الباب على مصراعيه لدخول الشياطين، فجملة من البيوت متلبّسة بالمعاصي من كل جانب؛ مأكلاً ومشربًا وملبسًا ومركبًا، ليلاً ونهارًا، وهذه الفئة من الناس غدت بيوتهم مسرحًا للشياطين، وهم زبائن السحرة والمشعوذين؛ لأن الساحر لا يمكن أن يكون ساحرًا ويؤثّر سحره إلا إذا قرّب قُربانًا للشيطان وخرج عن ملة الإسلام، فإذا انصاع لأمر الشيطان تمامًا دلَّه الشيطان على المواقع الملائمة لممارسة نشاطه السحري، وهي تلك البيوت الخرِبة الغافلة اللاّهية، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن أسباب ازدهار سوق السحر ـ عباد الله ـ الجهل بشرع الله، فإذا مرض ذلك الإنسان التمس العلاج من أي جهة كانت ولو بالوسائل المحرمة؛ لأنه لا يعلم الآثار المترتبة عليه، لم يعلم قول النبي : ((من أتى عرّافًا فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) رواه مسلم، والعراف من يدعي معرفة الأحوال في المستقبل، وهذا الوعيد من الرسول فيمن أتى العرّاف وسأله، وأما إن صدقه بما يقول فهو كافرٌ بدين محمد لما ثبت في الصحيح قال : ((من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أهل السنن. والكاهن من يدّعي معرفة الأحوال الماضية. وفي مسند البزار بسند صحيح قال : ((من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )) ، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه قال: ((ليس منّا من تَطيرَّ أو تُطيرِّ له، أو تكهن أو تُكهّن له، أو سحَرَ أو سُحِر له، ومن أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول لم تُقبل له صلاةٌ أربعين يومًا)) أخرجه البزار بإسناد جيد.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن من أوسع القنوات التي تنقل السحر وتروجه في مجتمعنا قناة العمالة الأجنبية، وخاصة الخادمات داخل البيوت، ليسوا كلهم، وإنما أعني منهم الكفار أو فسقة المسلمين ممن لا يشهدون الصلاة ولا يذكرون الله إلا قليلاً، يأوي الواحد منهم إلى منزله بعد كَدِّ النهار كاملاً من أجل لقمة العيش، وبراتب متواضع وفيه ما فيه، فيستفتح ليله ويختتمه بالعكوف أمام شاشات القنوات الفضائية، لا يخرج إلى الصلاة مع الجماعة، بل إن بعضهم يجمع الصلوات الخمس في وقت واحد، أو ربما أخّر ذلك أيضًا إلى يوم الجمعة، وصنفٌ رابع يتركون بعض الفروض أو لا يصلون أبدًا، فماذا يُظنُّ بمثل هؤلاء؟!
بعض الخدم أو الخادمات كافر، وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]، انطوت نفسه على كره المسلمين وحبِّ الإضرار بهم حتى لو أُحسن إليه. وقد حذر النبي من إبقاء الكفّار في جزيرة العرب، فكيف بمن يجلبهم ويستقدمهم بمحض إرادته؟! قال وهو يودع هذه الدنيا ويلفظ أنفاسه الأخيرة: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)).
وثمة سببٌ بليغٌ من أسباب وقوع السحر من العمال والخادمات، المظالم التي تقع عليهم من عنف الكفيل أو ربة البيت والقسوة التي يلاقونها، والنظرُ إليهم وكأنهم ليسوا من بني البشر، وعدم رحمة غربتهم وبُعدهم عن أوطانهم وأهلهم وأولادهم، وتأخير رواتبهم أو إنقاصها، وتكليفهم من الأعمال فوق ما يطيقون، والسخرية بهم واحتقارهم. هذا اللون من المعاملة لا يوجِد حقدًا واحدًا فقط لديهم، بل خزّانًا من الأحقاد ومشاعرِ الكُره وحب الانتقام، يلجأ حينها إلى أسهل وسيلة لإيقاع الضرر بكفيله أو ربة البيت أو أحد الأولاد، فلا يجد أمامه إلا السحر، فإما أن يسحر هو بنفسه، أو يذهب إلى سوق السحرة ليجد تجَّاره فاتحين دكاكينهم على مدار الساعة.
والسبب الثالث من أسباب وقوع السحر من خادمات البيوت ما يقوم من الصِّلات الحميمة بين ربة المنزل وبين الخادمة، فتقوم الخادمة بعمل السحر بغية الإبقاء على هذه العلاقة واستمرارها، أو أن يقع من خادمة أخرى غيرة من زميلتها لتُوقِع الخلاف بين المرأة وخادمتها ونحو ذلك.
وسببٌ هامّ أيضًا من أسباب كثرة السحر والسحرة الخلافات الزوجية، وظلم الزوج لزوجته أو إحدى زوجاته، فمع ضعف إيمانها بالله تعمد إلى الانتقام منه عن طريق السحر. أو أن يتزوج أحدهم زوجة ثانية، فيلعب الشيطان بالأولى ويوغِر صدرها على ضرّتها الجديدة، فتقصد أحد السحرة ليصرف محبته عن الثانية، أو ليتعلق بالأولى، وربما وقع العكس بأن يأتي السحرُ من الجديدة لتستأثر بمحبة زوجها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، والشكر له على نعمه الظاهرة والباطنة وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير صحب ومعشر.
أما بعد: أيها المسلمون، إنّ طغيان المادة على حياة الأكثر من الناس اليوم فتحت أمام السحرة آفاقًا رحبة لتوسيع نشاطهم. يظنّ بعض التجار أن السحرة يملكون القدرة على جلب الزبائن وكسب العملاء وازدهار الاقتصاد، بل إن بعضًا من أرباب الأموال الطائلة من له ساحر متخصص يجلبه من مجالس السحر العالمية المتخصصة ليخبره ماذا يحدث الآن في الأسواق العالمية، أو ماذا سيحدث للاقتصاد العالمي مستقبلاً، ليتخذ التدابير اللازمة التي يغتنم بها الفرص، أو يتوقى بها حدوث كساد سيحل في السوق. هكذا يعتقد البعض من التُجار ويظنون أنهم يحسنون صنعًا، فليس للشرع في تجارتهم مكان، لهذا لا تسأل عما يعانون من الأمراض النفسية أو العصرية المزمنة أو كليهما، نسوا الله فنسيهم، كما لا تسأل عن محق بركة تجارتهم وكثرة تعرضها للكوارث، يملك الشخص منهم الملايين أو المليارات لكنه يحس بالحاجة، وتتوق نفسه إلى المزيد، ويتخوف من شبح الفقر الذي يطارده. فماذا استفاد من تجارته؟! ينفق الأموال الطائلة في العلاج، وخاصة عيادات السحرة التي تستنزف أمواله ولا تزيده إلا رهقًا.
ليس الأمر ـ عباد الله ـ قاصرًا على بعض كبار التجار، بل إن بعضًا من عامة الناس ممن أعمى الطمع بصيرته حينما يعرض عليه أحد السحرة إمكانية مضاعفة المال مقابل أجرٍ يدفعه للساحر يسارع إلى ذلك، حتى وجد عدد من هذا النوع كما صرح بذلك أحد كبار المسؤولين الأمنيين في هذا البلد، وجد عدد من أولئك الناس باعوا بيوتهم، أو استدانوا لغرض مضاعفة المال بواسطة السحرة، وكان نتيجة ذلك هروب الساحر وإفلاس ذلك المسكين الطماع، ولو كان الساحر صادقًا لضاعف أمواله هو شخصيًا دون اللجوء إلى أمثال أولئك.
تلكم ـ أيها المسلمون ـ أبرز أسباب فشو السحر في أوساط المسلمين الذين يؤدون الصلاة ويؤتون الزكاة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أما الشعوذة ـ عباد الله ـ فضررها لا يقل خطرًا عن السحر. والمشعوذ هو من يتمتم بكلمات غير مفهومة، ويطلب من المريض قطعةً من ملابس أو خصلةً من شعره أو أي شيء آخر من المريض، فإما أن يكون ذلك مجردَّ دجل، ويتظاهر بهذه المطالب ليُوهم المريض أن لديه ـ أي: المشعوذ ـ علمًا ومعرفةً، وبإمكانه علاجُ الأمراض، وإما أن يكون المشعوذ هو أصلاً من السحرة، ولكن بإخراج آخر مقنَّع.
وإما أن يزعم ويدعي أنه ساحر مع أنه ليس كذلك، لكن لأنه وجد بضاعةَ السحر رائجة وسوقها قائمة، فتظاهر بأنه يفك السحر ويحله عمن ابتلي به، أو أنه هو نفسه يعمل السحر؛ ونظرًا لأن مجتمعاتنا هنا تغلب عليها المحافظة والبساطة من حيث العموم فكثير من المشعوذين لمح هذا، فامتطى صهوة الرقية، وأعلن عن نفسه أنه يرقي المرضى أي: يقرأ عليهم. ويؤكد هذا أن معظمهم لم يُعرف عنهم سَبْقٌ في علم، كما لم يشتهر ورعهم بين الناس، وإنما هم من عوام الناس علمًا وتدينًا، أو من في حكمهم.
ومما يؤكد شعوذتهم أيضًا شَرَههم ونهَمهم في أخذ المال والأُجرة مقابل رقياهم.
فليتق الله أولئك الراقون، وليستحوا من ربهم ومجتمعهم، وليخافوا على أنفسهم أن يبتليهم الله تعالى بمرض أو أمراض تأتي على صحتهم وراحتهم وكل ما جمعوا من أموال.
ولا زال للحديث بقية نأتي عليه الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
اللهم منزل الكتاب...
(1/5145)
انتشار السحر (2)
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
9/3/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لمحة عن أسباب انتشار السحر. 2- للوقاية من السحر جانبان: وقائي وعلاجي. 3- أهمية المحافظة على الأذكار المشروعة وأذكار الصباح والمساء. 4- التصبح بسبع تمرات. 5- حسن المعاملة مع الخدم والعمال والمستخدمين. 6- الرقية الشرعية واستخراج السحر. 7- حكم النشرة. 8- مفاسد السحر والسحرة العامة والخاصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فقد مضى في الخطبة السابقة الحديث عن أسباب السحر، وأنها من حيث الجملة هي: ضعف الإيمان بالله والتوكل عليه، وإهمال أوراد الصباح والمساء المأثورة عن المصطفى ، وكثرة الصور والتماثيل في البيوت، والغناءُ والموسيقى، وأكل الربا الذي قال الله تعالى ذكره فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279]، والذي يقدر لون الحرب وحجمها والمساحة التي تشملُها ثم الخسارة الناجمة عنها هو الله العزيز الجبار، وهو الذي يحدد وقتها، قد تكون حربًا على الأعصاب والقلوب، أو حربًا على البركة والنماء والرخاء، أو حربًا على السعادة والطمأنينة، ولعل تنامي أثر السحرة نوع من الحرب المقدرة بسبب تساهل المسلمين اليوم في أكل الربا وإصرار الكثيرين عليه.
ومضى أن من أسباب انتشار السحر الجهل بالشرع، وكثرة العمال والخادمات من غير المسلمين أو ممن ينتسبون إلى الإسلام لكن حظهم منه قليل، كما أن من أسبابه الرغبة العمياء لدى بعض التجار أو من دونهم في تطوير اقتصادهم وزيادة دخلهم، فيستعينون بالسحرة لجلب الزبائن والعملاء، وأشرتُ فيما مضى إلى المشعوذين، وأن خطرهم لا يقل عن خطر السحرة خاصة، وأن بعضهم يتقمّص لباس التدين، فهو يهدم الدين باسم الدين وإن كان يصلي مع المسلمين، فالعبث في عقول الناس بتمتمات بعضها يُفهم وبعضها لا يفهم ثم ابتزاز أموال المرضى أمرٌ مرفوض في شرعنا.
معاشر المسلمين، إن توقي ضررِ السحر ودفعَه ينظر إليه من جانبين: وقائي وعلاجي.
أما الوقائي: فإنه يتعين على الجهات الرسمية أن تُعلّم الناس العقيدة الصحيحة، وبيان حكم السحر وتعلمِه، وما يتعلق به، وتُعِدَّ برامج إعلاميةً جذابة تحذر من السحر.
وثانيًا من الجانب الوقائي: تعميق الصلة وتوثيقها بالله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يكون شيء ولا ينفذ إلا بقدره، ولو شاء سبحانه لأمسكه. وتوثيق الصلة بالخالق سبحانه بكثرة دعائه ودوام ذِكره والتضرع إليه، فمن لا يسأل الله يغضب عليه. وسنة نبيكم زاخرة بالأذكار المشروعة، وعلى المسلم الأخذ بها وتعاهدها في كل وقت. ومن ذلكم وصيته لعبد الله بن خبيب رضي الله عنه وهي عامة لكل أفراد الأمة أن يقرأ المعوذتين وقل هو الله أحد حين يصبح ثلاث مرات، وحين يمسي كذلك، وقال: ((تكفيك من كل شيء)) ، وقال في حديث آخر: ((ما من عبدِ يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء)).
إن المحافظة على الأذكار المأثورة الثابتة عن النبي صباحًا ومساء وقراءةَ آيةِ الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص دبر كل صلاة وعند النوم لهي أبلغ الأسباب وأقوى الوسائل الوقائية من كل شر ومكروه بما فيها السحر.
إن السحر ـ أيها المسلمون ـ إنما يقع تأثيره في القلوب الضعيفة والنفوس الشهوانية المعلقة بالسُّفليات؛ ولهذا فإن غالب ما يؤثر السحر ـ كما يقول ابن القيم رحمه الله ـ في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي وكلِّ من ضعف حظه من الدين والتوكل على الله ومن لا نصيب له في الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية.
فالمسحور هو الذي أعان على نفسه بتعليق قلبه بشيءٍ كثيرًا ما يلتفت إليه وينشغل به، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تجدها فارغةً من القوة الإلهية وخاليةً من سلاح الأوراد والأذكار والتوكل على الله والثقة به، وحينها يتمكن السحر منها.
وثالثًا: من العوامل الوقائية من السحر التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعيد رضي الله عنه أن النبي قال: ((من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يصبه سُمٌّ ولا سحر)). وقد ذهب جمعٌ من أهل العلم أن لفظ العُجْوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبّح بأي تمر نفع وإن كان تمر العجوة أكثر نفعًا وأقوى تأثيرًا وبركةً.
الرابع: تجنب سماع الأغاني والموسيقى، لأنها باب واسع من أبواب الشيطان يدخل معه، والسحرة إنما هم من حاشية إبليس يمشون وراءه، ويتلمسون رضاءه ويتقربون إليه. ولا تلتفت ـ أيها المؤمن ـ إلى ما تنشره القنوات الفضائية من فتاوى تبيح الغناء، فهذا الرأي مردود بالأدلة التي تحرم الغناء، والعبرة بما قام عليه الدليل لا بما خالفه. ومن أدلة تحريم الغناء قول الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان: 6]. وقد أقسم الصحابي عبد الله بن مسعود أن المراد به الغناء، وقال: (إنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل). وجاء في المعنى أحاديث كثيرة كلها تدل على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، وأنها وسيلة إلى شرور كثيرة وعواقب وخيمة. وجاء في صحيح البخاري وغيره أن النبي قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) ، والمراد بالمعازف: الغناء وجميعُ آلاته.
والخامس: من الوسائل الوقائية من السحر المعاملة الحسنة مع العمال والخدم والمستأجرين، فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تعامل من تحت يدك من عمال وخدم معاملة حسنة، فأنت مأمور شرعًا بذلك، بل الدين المعاملة، وحُبَّ لأخيك ما تحب لنفسك، وتأكد أنّ هذه العمالة ما تركوا أطفالهم وأوطانهم إلا لحاجة يرجون سدادها، وقَدِموا إلى هذه البلاد ينظرون إليها على أنها أفضل البلدان تطبيقًا لشرع الله، فلا تكن سببًا في صدهم وإحباطهم بمعاملتك المبنية على الجشع والطمع وقلة الرحمة، ولا تستعديهم على نفسك وتثير نقمتهم على هذا المجتمع.
معاشر المسلمين، الجانب الثاني من توقي السحر هو الجانب العلاجي؛ وهو علاج المسحور بعد أن يقع عليه السحر، ويكون ذلك بالرقى الشرعية من كلام الله وكلام رسوله وبالأدوية المعروفة، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]، فالقرآن كله شفاء ودواء لكل داءٍ. أما النُشْرة وهي حلُّ السحر عن المسحور بسحرٍ مثله فهي محرمة، وقد استفتي فيها إمام المفتين محمدٌ كما في حديث جابر فقال: ((هي من عمل الشيطان)) أخرجه أبو داود بسند حسن. فالحديث هنا صريح بالمنع، ويعضده قول النبي : ((تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام)). وعلى المسحورين الفزع إلى الله سبحانه، والتضرعُ إليه، وملازمة الدعاء، وتحري أوقات الإجابة؛ كثلث الليل الآخر وفي السجود وبين الآذان والإقامة، وكذلك اختيارُ الألفاظ المناسبة لوصف حاله، وعرضها على اللطيف الخبير الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، كأن تقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، وقول: يا رب العرش العظيم، وقول: يا منان يا ذا الجلال والإكرام، وقول: يا حييُّ يا كريم، يا رحيم يا ودود، يا عليم يا حكيم، ونحوها. ولا يملُّ من كثر تردادها، فقد يبتلي الله عبده ليستخرج الدعاء منه، وهو سبحانه أهلُ الثناء والمجد.
ومن علاج السحر ـ أيها المسلمون ـ استخراج السحر وإبطاله كما صح عن النبي أنه سأل ربه سبحانه أن يدله على السحر حينما سحره اليهودي كما ثبت في الصحيحين، فاستخرجه من بئر، فوُجد في مشط ومشاطة وجُفِّ طلعة ذكر، فلما استخرجه ذهب ما به كأنما نشط من عقال. والمشط: ما يمشط به الشعر، والمشاطة: الشعر المتساقط بعد المشط، والجف: وعاء طلع النخل، وهو ما نسميه بالكافور.
علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نثق ونؤمن ونوقن بأنه لا يُفلح الظالمون، وأن الله سيبطل عمل المفسدين، والسحرةُ إنما هم ظالمون ومفسدون، وسيلقون جزاءهم في الدنيا نكدًا وخسارة، وفي الآخرة عذابا شديدا.
بارك الله لنا في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن من الوسائل الناجعة في مكافحة السحر والتصدي للسحرة أن يقوم بهذا الأمر الصالحون ممن وفقهم الله للعمل الصالح وشهد لهم بالورع والتقى والعفة، وهذا الصنف من الناس تخشاهم السحرة أيما خشية، وقد ذكر أحد العلماء الأفاضل وهو قاضٍ في محكمة الرياض أنه أُلقي القبض على أحد السحرة، واحتاجوا أثناء محاكمته إلى شهادة رجلٍ من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرياض، وكان ذلك الرجل المحتسب ممن شهد لهم بالصلاح والخير، فلما جاء للمكان ورآه الساحر بُهت الساحر وقال: ما يقول هذا الرجل فهو صحيح ومعترفٌ به، مع أن الرجل لم يُدْلِ بشيء بَعْد.
عباد الله، إن أضرار السحر لا تقف على الجانب الحسي وإيذاء المسحور، بل تتعدى ذلك لتصل إلى عقائد المسلمين، فانتشار ثقافة السحر في أوساط الناس إنما تكون على حساب العلم بالله ومعرفته واليقين به والتوكل عليه، وما يحدثه الساحر من تفريق بين المرء وزوجه إنما يصيب المجتمع كله في ضعضعة الصلةِ والترابط بين أُسره القائمةِ بسبب الرحم فيما بينهم، كما أن السحرة يسهمون في نشر الفساد الخلقي من فعل الفواحش بالمسحورين أو عكس ذلك.
عباد الله، إذا كان ضرر السحر ما قد علمتم وسمعتم من تفريق بين المرء وزوجه وربط للأزواج أو الزوجات وأكل أموال الناس بالباطل وخلخلة عقيدة المسلمين بما يدعيه السحرة من معرفة الأحوال في الماضي والمستقبل فيصدقهم السذج من الناس وما ينشأ عن السحر من أمراض عضوية كتليّف الكبد وأمراض الكلى والأورام السرطانية والجلطات ثم إن الساحر لا تطيعه الشياطين ولا يخدمونه ولا يوفرون له المعلومات حتى يكفر بالله، فما حكم الساحر إذًا؟
شياطين الجن لا تخدم الساحر أو تلبي طلبه حتى ينفّذ شروطها من الكفر بالله. ومنهم من يشترط على الساحر أن يزني بإحدى محارمه، ومنهم من يشترط عليه أن يلقي المصحف في الزبالات أجلَّ الله كتابه. وذكر أحد المشايخ الفضلاء ممن يتصدّون للسحرة أنه سافر إلى إحدى الدول الإفريقية، وجاءه رجل تائب من السحر، يقول: كنت أتعامل بالسحر، ومن ضمن ما عملته أني سحبت دم كلبٍ أسود بإبرة وكتبت به (قل هو الله أحد) ثلاث مرات. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ من السحرة من يكتب كلام الله بدم الحيض ونحو ذلك من هذا القبيل وغيره من ألوان الكفر كثيرة جدًا؛ لهذا ذهب جماهير العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الساحر كافرٌ خارج عن الملة، ومرتد لا تقبل توبته. واتفق الصحابة على قتله، وفي سنن أبي داود بسند صحيح من طريق سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن بجالة بن عبدة قال: جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: (اقتلوا كل ساحر)، وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، كما صح قتل الساحر أيضًا عن جندب رضي الله عنه. ولم يعلم لهؤلاء مخالف، فكان قتل الساحر كالإجماع بين الصحابة، فحكمه إذًا كافر، وحدُّه ضربه بالسيف، والحمد لله.
(1/5146)
البيوع: بيع النخل والتمر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الزكاة والصدقة, الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
22/4/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسائل في بيع النخل والتمر. 2- زكاة الثمر. 3- حكم مسألة المصالحة عن المؤجل ببعضه حالاً. 4- فضل يوم الجمعة. 5- حكم الاستماع لخطبة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، في هذه الأيام يقترب موسم بيع ثمر النخل، ومن شكر نعمة الله علينا أن نسير في بيعها وشرائها وفق شرعنا المطهر؛ امتثالاً لأمر الله تعالى واتباعًا لسنة رسوله وطلبًا لثواب الله ورجاءً للخير والبركة وشفقة من عقاب الله وعذابه.
لقد بين رسول الله متى تباع هذه الثمار وكيف تباع، فقال: ((لا تتبايعوا هذه الثمار حتى يبدو صلاحها، ولا تبيعوا التمر بالتمر)). فنهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها؛ لأنها قبل صلاحها تكون أكثر عرضة للآفات وأزيد نموًا. ونهى عن بيع التمر بالتمر؛ لأن ذلك ربًا أو سيلة إليه. وعلامة صلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر.
ولا يجوز إبدال ثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى، سواء كانت من نوعها أو لا، وسواء كانت أقل منها أم أكثر، وسواء كان مع أحدهما زيادة دراهم أم لا؛ لأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر خرصًا.
وإذا حدث عيب في الثمرة بعد بيعها؛ فإن كان بسبب من المشتري فلا ضمان على البائع، مثل أن يكون المشتري غير عارفٍ بالخرف، فيخرفها فتموت ثمرتها، أو يؤخر جَدَّها عن وقته فيصيبها مطر أو غيره، فلا ضمان على البائع. فإن كان العيب مجرد قضاء وقدر لا يد ولا سبب للعبد فيه كالغبير والموت الحاصل من شدة الحر فضمان نقصها على البائع؛ لقوله : ((إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟!)). فيقوم النقص على البائع ويسقط من الثمن.
وإذا حدث العيب في الثمرة وأحب المشتري أن يردها ويأخذ الثمن فله ذلك، إلا أن يكون قد شُرط عليه عند العقد أنه إن حدث بها عيب تثمّن بدون ردٍّ، فحينئذٍ يثمن له ولا يردها؛ لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. وإذا كان العيب موجودًا عند البيع ورضي به المشتري فلا شيء له على البائع، ولو زاد العيب فيما بعد؛ لأن المشتري دخل على بصيرة، وإذا كانت الثمرة سليمة عند البيع فشرطَ على المشتري أنه إن حدث بها عيب فالبائع بريء منه فالشرط باطل ولا تبرأ ذمة البائع به؛ لأن هذا الشرط غرر وجهالة، ومصادم للنص الشرعي.
معاشر المسلمين، اعملوا أن لله سبحانه حقًا في ثمرتكم، أوجب عليكم إخراجه لمستحقيه حين جذاذ الثمرة؛ فمن كان عنده نخل في بيته أو استراحته أو مزرعته وبلغ النصاب وجب عليه إخراج الزكاة، والنصاب ما يعادل ستمائة كليو جرام، فمن كان مجموع ثمرة نخلة ستمائة كليو جرام فأكثر وجبت عليه الزكاة، حتى لو كان ثمره للادخار ولاستهلاك البيت. ومقدار الزكاة نصف العشر في مثل حالنا بهذه البلاد التي تسقى الزراعة فيها بمؤنة وليست من المطر. ولا يجزي إخراج الزكاة من الرديء ولا من الرخيص، بل من أوسطه وصفًا وثمنًا.
أيها الإخوة، مسألة من مسائل المعاملات المالية اختلف أهل العلم فيها، والصحيح جوازها كما قرر ذلك العلماء المحققون؛ وهي المصالحة عن المؤجل ببعضه حالاً، كما لو كان لرجل عند آخر ألف ريالٍ مؤجلة بعد سنة، وبعد مضي ستة أشهر قال: أعطني تسعمائة الآن وأُسقط عنك الباقي، فلا بأس في ذلك.
واستمعوا إلى ما قاله الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الصحيح جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً؛ لأنه لا دليل على المنع، ولا محذور في هذا، بل في ذلك مصلحة للقاضي والمقتضي؛ فقد يحتاج من عليه الحق إلى الوفاء قبل حلوله، وقد يحتاج صاحب الحق إلى حقه لعذر من الأعذار، وفي جواز هذا مصلحة ظاهرة. وقد ورد أن يهود بني النضير في المدينة لما أراد النبي أن يجليهم عنها ذكر له الصحابة أن بين اليهود وبين الناس ديونًا، فأمرهم النبي أن يضعوا ويتعجلوا. وأما قياس المانعين لهذه المسألة بمسألة قلب الدين بالربا فهذا القياس بعيد، وبين الأمرين من الفرق كما بين الظلم المحض والعدل الصريح".
وقال ابن قاسم رحمه الله: "قال بهذا ـ أي: بالمصالحة عن المؤجل ببعضه حالاً ـ ابن عباس، ورواية عن أحمد وأحد قولي الشافعي، وقال به الإمام ابن تيمية وابن القيم رحم الله الجميع".
ومعلوم أن ديننا مبني على اليسر والسهولة، والأصل في المعاملات الحلّ، وفي هذا العمل تيسير للناس وإبراء لذمة الغريم وتعجيل بالمال لصاحبه، وكل هذه مصالح يسعى الشرع إليها، وليس ثمة دليل يحرم هذا أو يمنع منه.
أيها الإخوة، وملحظ مهم يتعين التنبيه عليه في هذا الأمر؛ وهو أن النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يقتصر على التمر والعنب فقط، بل يشمل كافة الثمار من فواكه وخضار ونحوها.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي رسول الله.
ومن هديه تعظيم يوم الجمعة وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، ومن ذلك الإكثار من الصلاة فيها وفي ليلتها على النبي ، ومن فضائل الجمعة وخصوصياته استحباب التبكير بالذهاب لصلاة الجمعة ماشيًا إن أمكن، فإن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر صيام سنة وقيامها؛ لما رواه الإمام أحمد بسند صحيح وابن خزيمة وصححه عن رسول قال: ((من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها)) ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7]، فما أعظم هذا الأجر أخي المسلم، وما أعظم خسارتنا حين فرطنا فيه.
وإضافة إلى ما سبق ذكره من الآجر الجزيل فإن المبكر للجمعة إذا دخل المسجد فاشتغل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن حصل على خيرات كثيرة، ولا تزال الملائكة تستغفر له طيلة بقائه في المسجد، ويكتب له أجر المصلي ما دام ينتظر الصلاة. فبادروا ـ رحمكم الله ـ إلى اغتنام الخيرات، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه يحرم الكلام والتشاغل أثناء الخطبة، نص على ذلك الشافعي، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد في أرجح الروايتين عنه؛ لقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]. قال كثير من المفسرين: نزلت في الخطبة، وسميت الخطبة قرآنًا لاشتمالها على القرآن الذي يتلى فيها، ولحديث: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت)). فالكلام أثناء الخطبة محرم لكل من حضر الجمعة، سواء كان يسمعها أم لا، وسواءً كان يفهمها أم لا. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول قال: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت لا جمعة له)) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار والطبراني. والنهي عن الكلام عام يشمل كل كلام، فلا يُشمت عاطس ولا يردُّ السلام.
عباد الله، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "أفضل العبادة العمل على مرضاة الله عز وجل في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فمثلاً أفضل العبادات في وقت الجهاد هو الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام الصلاة المفروضة مع الإمام، والأفضل وقت الأذان تركُ ما هو فيه من الأوراد ومتابعة المؤذن بما يقول"، وهكذا فالأفضل إذًا في حال الجمعة والإمام يخطب الاسمتاع إلى الخطبة، فعلى الداخل للمسجد والمؤذن يؤذّن الأذان الثاني الأفضل له أن يشرع في أداء ركعتي تحية المسجد، ولا يقف ينتظر حتى ينتهي المؤذّن؛ لأن المؤذن إذا انتهى بدأ الإمام يخطب، والأفضل للمصلي في هذه الحالة الاستماع للخطبة، فتعين إذًا أداء تحية المسجد خفيفة أثناء الأذان إذا دخل والمؤذن قد شرع فيه حتى يتفرغ المصلي لاستماع الخطبة.
ابن آدم، اعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبد الله رسول الله.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والنفاق، وانشر رحمتك وعافيتك على كل المسلمين، اللهم انصر المجاهدين...
(1/5147)
الرؤى والأحلام
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
5/6/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة سؤال العرافين والمنجمين وبيان الوعيد لمن سأل. 2- الرؤيا الحسنة من مبشرات النبوة. 3- مكانة الرؤيا قبل الإسلام وفي الإسلام. 4- أقسام الناس في الرؤيا. 5- الفرق بين الرؤيا والحلم وعلامات كل منها. 6- آداب الرؤيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتعلموا من أحكام دينكم ما تتعبدون به ربكم على بصيرة.
معاشر المسلمين، من طبيعة النفس البشرية أنها تتوق إلى معرفة مستقبلها وما أُخفي عنها، وذلك غيب، والغيب أمره إلى الله جل في علاه، حجبه عن خلقه، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل: 65]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]. ومع أنَّ أمر الغيب مطويٌ عن الخلق إلا أن بعض أصحاب النفوس المريضة لم يقف عند حده، بل ذهب يدّعي لنفسه القدرة على معرفة الغيب، فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم فضلوا وأضلوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السبيل.
وفي عصرنا هذا عصر الانفتاح عهد الاتصالات أصبحنا للأسف نستورد كلّ لقيطٍ من القول وساقطٍ من الفكر، كم ينقل هؤلاء الهابطون عبر القنوات الفضائية والجرائد والمجلات، كم ينقلون إلى بلاد المسلمين من ألوان الشرور عن طريق من يُسمّون بالعرّافين والمنجّمين وقرّاء الكف والفنجان واللاعبين بالوَدَع والصدف، وقل مثل ذلك في أبراج الحظ التي لا يكاد تخلو منها مجلة.
عباد الله، إن الاطلاع على ما يُنشر مما سمعتم مجرد الاطلاع حرام لا يجوز، يدل على ذلكم قول الرسول : ((من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)). تأمل أيها المسلم؛ مجرد الإتيان والسؤال فقط يوقع صاحبه بردِّ صلاته أربعين يومًا، أما إذا صدّقه فالأمر أعظم، واسمع في هذا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)).
إن العاقل ليعجب أشدَّ العجب كيف يذهب من ينتسب إلى الإسلام إلى من يخبره بالغيب وهو يعلم أن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه دون أحدٍ سواء. يذهب ذلك الجاهل فيتابع بشغف ونهم ما يسمى بأبراج الحظ، فيبحث عما يوافق ميلاده مثلاً، فيقرأ برغبة ورهبة، فيفرح أو يحزن على ضوء أو على ظلام ما كتبه أولئك الدجالون.
فاحذر ـ أخي المسلم ـ هذا الدجل أن ينطلي عليك، ولا تدّعي الكمال وقوة الإيمان فتقول: سأقرأ ما يكتبون لمجرد الاطلاع؛ لأنه يُخشى عليك حينئذ أن تدخل في الوعيد الوارد في حديث الرسول السابق ذِكره.
أيها المسلمون، ومقابل ذلكم فثمة أمرٌ طيب كم نفع الله به الصالحين، هو جزء من النبوة؛ إنه الرؤيا، تلك التي قال فيها الرسول : ((لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح أو تُرى له)) رواه مسلم، ويقول في حديث أنس: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)) رواه البخاري.
ولكون الرؤيا من الغيب، لكنه غيب يُطلع ربنا من شاء من عباده عليه، ولأنها جزءٌ من النبوة سنتناول بعضًا من أحكامها وآدابها في هذه الجمعة، ونرجئ الآخر إلى الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
إن للرؤيا مكانةً عظيمة رفيعة قبل الإسلام وبعده؛ فبالرؤيا خرج نبي الله يوسف عليه السلام من السجن، وبتعبيرها تبوأ مكانة عالية، وبالرؤيا وقع ما قص علينا المولى جل شأنه في خبر الخليل في ذبح ابنه إسماعيل: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102].
ونبينا محمد قال عنه ربه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [الفتح: 27]، قال ابن كثير حول هذه الآية: "كان رسول الله قد أُرِي في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر الصحابة بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن رؤيا النبي ستفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجوع الرسول ومن معه عامهم ذلك دون أن يدخلوا مكة على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة شيء، حتى سأل عمر رضي الله عنه النبي في ذلك فقال فيما قال من سؤاله: أفلم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال: ((بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟)) قال عمر: لا. قال النبي : ((فإنك آتيه ومطوف به)) ".
عباد الله، الناس يتفاوتون في الرؤيا على أقسام عدّها بعض أهل العلم خمسة أقسام:
الأول: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق، وفي الحديث: ((إن رؤيا الأنبياء حق)) ، وفي رواية: ((إن رؤيا الأنبياء وحي)).
الثاني: الصالحون، وهؤلاء الأغلب في رؤياهم الصدق.
الثالث: المستورون من المسلمين، ويستوي في رؤياهم الصدق والأضغاث.
الرابع: الفساق، ويقل في رؤياهم الصدق.
الخامس: الكفار، ويندر في رؤياهم الصدق، وغالب ما يرون من الشيطان.
ولكن عباد الله، هل كل ما يرى الإنسان من منامه رؤيا؟
هناك فرقٌ بين الرّؤيا والحلم، فالنّائم يرَى الرؤيا في منامه كما أنّه يرى ما يسمى بالأحلام والأضغاث، فأما الرؤيا فهي ما يراه من الخير والشيء الحسن، قال : ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)).
من علامات الحلم الذي هو من الشيطان أن يرى النائم مناظر متناقضة متداخلة لا يعرف أولها من آخرها. ومن علاماته أن يكون الإنسان مريضًا فيرى في منامه ما يوافق مرضه، فإذا كان مصابًا بالبرد مثلاً رأى في منامه وديانًا وثلوجًا وبحارًا، وإذا أصيب بالحمى رأى شمسًا ونيرانًا وجمرًا، وهكذا. ومن علامات الحلم أيضًا أن يرى ما لا يمكن أن يكون كالأشياء المستحيلة؛ فيرى مثلاً أن رأسه انقطع وهو يلعب به، وقد جاء رجل إلى النبي وذكر له شيئًا من ذلك فقال له النبي: ((ما تريد أن أفعل بلعب الشيطان بك؟)). ومن علامات الحلم أن يرى في المنام ما حدثته به نفسه في اليقظة وما كان يفكر به. ومثل هذه الأحلام لا ينبغي للمسلم أن يشتغل بها أو يشغل غيره بها.
أما الرؤيا الصادقة فمن علاماتها انتفاء جميع ما تقدّم من علامات الأحلام، ومن علاماتها أيضًا أن يكون الرائي معروفًا بالصدق في كلامه، وفي هذا قال النبي : ((أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا)) رواه مسلم. وهذا في الغالب وليس دائمًا، فقد يرى غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظًا لغفلته، فينتفع بها. ومن علامات الرؤيا الصادقة أن يعرف أولها وآخرها، وتكون مترابطة لا تقطُّع فيها. ومن علاماتها أن تكون ذات معانٍ مرتبة، ويكون فيها خير؛ كتبشير بالثواب على الطاعة، أو تحذيرٍ من العقوبة على المعصية. ورؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، قال رسول الله : ((أصدق الرؤيا بالأسحار)) رواه أحمد.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، ولأهمية شأن الرؤيا فقد جاء الشرع المطهر بآداب تضبطها وتستثمر نفعها وتقِي ضررها، فيشرع لمن رأى ما يكره في منامه أن يقول ما قاله الرسول : ((إذا رأى أحدكم ما يكره ـ يعني في النوم ـ فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وليتفل عن يساره ثلاثًا، ولا يحدث بها أحدًا؛ فإنها لا تضره)) أخرجه الشيخان، وفي حديث جابر قال: قال رسول الله : ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)) رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا تسوؤه فلا يذكرها ولا يفسرها)) ، وقال : ((إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليصلّ، ولا يحدث بها الناس)) رواه مسلم.
فتحصَّل لنا من هذه الأحاديث تسعة آداب نبوية تتعلق بالرؤيا التي يراها مزعجةً له: أن يتعوذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات، أن يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات، أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر، أن يسأل الله من خيرها، أن يعتقد أنها لا تضره، أن يصلي عقبها، أن لا يحدث بها أحدًا، أن لا يطلب تفسيرها.
أما إذا رأى رؤيا صالحة فقد قال النبي بشأنها: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها)) رواه البخاري، وعند مسلم بزيادة: ((ولا يخبر بها إلا من يحب)). فتحصّل لنا من هذه الأحاديث في الرؤيا الصالحة آداب أربعة: أن يعتقد أنها من الله، وأن يحمد الله عليها، وأن يطلب تفسيرها، وأن لا يحدث بها إلا من يحب.
معاشر الإخوة الفضلاء، يحرم الكذب في الرؤيا، وقد ورد تحذير شديد على لسان المصطفى من الكذب فيها أو الزيادة أو النقص المتعمد، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من تحلّم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ـ أي: حبتي شعير ـ ولن يفعل)) ، وفي رواية أخرى: ((من تحلّم كاذبًا دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد)). وروى البخاري أيضًا: ((من أفرى الفِرى أن يريَ الرجل عينيه ما لم تريا)).
قال الطبري: "إنما اشتد الوعيد فيه مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشدّ مفسدة منه؛ لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أَراه ما لم يُرِه، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين".
وأخيرًا عباد الله، فإنه إذا تواطأت رؤيا عددٍ من الناس الصالحين على أمرٍ معين فإن ذلك غالبًا ما يكون صدقًا مطابقًا شريطة أن لا يخالف ما نص عليه الشرع، وقد عمل النبي برؤيا الصحابة حين تواطأت رؤاهم في ليلة القدر، فقال : ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرّها في السبع الأواخر)). وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على عظيم قدر الرؤيا في ديننا.
اللهم ألهمنا رشدنا، واكفنا شر أنفسنا، واجعلنا ممن سبقت لهم البشرى في الآخرة والدنيا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1]، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وخير الخلق أجمعين الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه كافة والتابعين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله، واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد.
يا سعادة من بحث عن الحق والهدى، وسار على سنة المصطفى، ومات عليها، جعلنا الله منهم بمنة وكرمه.
معاشر الإخوة، جاء شرعنا المطهر بآدابٍ تكون سببًا في صلاح الرؤيا ووسيلة لدفع الشيطان، من ذلكم أن يحرص المسلم أن لا ينام إلا على طهارة، وأن ينام على جنبه الأيمن، وأن يقرأ الأوراد المشروعة عند النوم من نصوص الكتاب والسنة، فمن نام على هذه الحال وُقي كل شرٍ بإذن الله.
وإن مما يتعين أن يعلم أن يحذر صاحب الرؤيا من الاغترار بها أو دخول العُجْب إلى نفسه، فإن ذلك مما يفرح الشيطان ويتصيد به ضعاف القلوب، قال الإمام أحمد: "الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره"، وقال الذهبي عن الرؤيا بأنها جندٌ من جند الله تسر المؤمن ولا سيما إذا تواترت.
هذه ـ أيها المسلمون ـ بعض أحكام وآداب الرؤى، وبقي تعبيرها وآدابُ ذلك، ونماذجُ من رؤى النبي ، يكون الحديث عنها لاحقًا إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة.
ابن آدم اعمل ما شئت فإنك محاسب، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه.
اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/5148)
تعبير الرؤى
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
19/6/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آداب تفسير الرؤيا أن لا يقص الرائي رؤيته إلا على الناصح التقي. 2- أهمية التثبت عند تأويل الرؤيا. 3- الرؤيا جزء من النبوة ولا يفسرها أي أحد. 4- هدي النبي في الرؤى. 5- ذكر بعض الرؤى التي رآها النبي وبعض ما أوّله. 6- استحالة أن تكون رؤى آحاد الناس مصدرًا للتشريع. 7- التحذير من اعتقاد أو توزيع النشرة المنسوبة لخادم الحجرة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تقدم في الجمعة قبل الماضية الحديث حول حقيقة الرؤيا، والفرق بين الرؤيا والحلم، وبعض الآداب التي ينبغي فعلها لمن رأى رؤيا، وسمعتم أنّ من رأى رؤيا سيئة فالسنة في حقه أن يتعوذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات، ويتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، وأن يتفُل عن يساره، وأن يتحوّل عن الجانب الذي هو عليه، وأن يسأل الله من خيرها، وأن يعتقد أنها لا تضرّه، وألا يخبر بها أحدًا، ويصلي عقبها، ومن رأى رؤيا صالحة شرع له أن يعتقد أن تلك الرؤيا من الله، وأن يحمد الله عليها، ويطلب تفسيرها، ولا يحدّث بها إلا من يحب.
أيها الإخوة، من آداب الرؤيا أنّ على صاحب الرؤيا إذا أراد أن تُعبّر أو تُفسّر أن يتحرى من كان عالمًا ناصحًا تقيًا عالمًا بكتاب الله، فيقصّها عليه، ولا يقصّها على جاهل أو سفيه أو حاسد كما هو حال بعض الناس، تجده يقص رؤياه على كل من قابله عرفه أو لم يعرفه، والرسول قال عن الرؤيا: ((لا يقصُّها إلا على وادٍ أو ذي رأي)) رواه أحمد، وقال : ((إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحًا أو عالمًا)). واسمع إلى يعقوب عليه السلام حين يقول لابنه يوسف: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5]. وتعبير الرؤى علم فلا يتكلم فيه من لا يعرفه، والخوضُ في تأويلاتها بمجرد الظن خلاف الشرع.
واعلم ـ أخي المسلم ـ أن النبي قال: ((إن الرؤيا تقع على ما تعبر به، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينظر متى يضعها)) ، وجاء عنه أنه قال: ((الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت)).
ويتعين على المعبر أن يتثبت فيما يقوله لصاحب الرؤيا، وأن يسمع الرؤيا كاملة، ويتمهل ولا يتعجل في تعبيرها، ولا يعبرها حتى يعرف لمن هي له. ويلزمه أن يكتم عورات الناس، وينبغي له أن يعبر الرؤيا المسؤول عنها على مقادير الناس ومراتبهم ومذاهبهم وأعرافهم وبلدانهم.
روت عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج يسافر للتجارة، فأتت رسول الله فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أن ساريةَ بيتي انكسرت، وأني ولدت غلامًا أعور، فقال: ((خير، يرجع زوجك إن شاء الله، وتلدين غلامًا برًا)) ، فجاءت مرة أخرى ورسول الله غائب، فسألتها فأخبرتني برؤياها فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلامًا فاجرًا، فقعدت تبكي فجاء رسول الله فقال: ((مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فعبّروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها)) ، فمات والله زوجها، ولا أراها ولدت إلا غلامًا فاجرًا.
أيها المسلمون، كان رسول الله إذا قصّت عليه رؤيا يقول: ((خيرًا رأيت، وخيرًا تلقاه، وشرًا تتوقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك)).
وكان ابن قتيبة يقول: "يجب على العابر التثبت فيما يرد إليه وترك التعسّف، ولا يأنف أن يقول لما يشكل عليه: لا أعرفه". وقد كان محمد بن سرين إمامًا في هذا الفن، ومع ذلك كان يُمسِك عن التعبير أكثر مما يفسر.
وليعلم المسلم أن تعبير الرؤيا أمرٌ ليس بالهين، فليتق الله من تصدى للناس يفسر لهم رؤياهم، فهو غير ملزم العمل إن لم يكن أهلاً له. وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: أيعبّر الرؤيا كل أحد؟ قال: أبالنبوة يُلعب؟! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يلعب بالنبوة.
معاشر المسلمين، مما يحذر منه ما تمتلئ به المكتبات من معاجم لتفسير الأحلام، وتجد البعض يقتني مجموعة منها، وكلما رأى حلمًا فتحها وعبّر لنفسه، وهذا لا ينضبط ولا يستقيم، وإنما الذي يعبّرها المعبّر الحاذق الذي يدرك ويحيط بشروط التعبير. ومن اشتهروا بالتعبير ذكروا أن التعبير يختلف باختلاف حال الرائي وظروفه وملابساته. واسمع إلى هذا المثال ليتضح لك ما أعني:
أتى رجلان إلى ابن سيرين، كل واحد منهما قال: إني رأيت في المنام أني أُأَذن، فقال لأحدهما: تحج إن شاء الله، وقال للآخر: تسرق وتُقْطع يدك، فقيل له: كيف ذلك؟! فقال: رأيت على الأول علامات الصلاح فأولت قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: 27]، ورأيت على الثاني علامات الخبث والفجور فأوّلت قوله تعالى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف: 70]. فالتعبير يحتاج إذًا مع الفطنة والموهبة إلى علم بالكتاب والسنة، وإلا جهل وتخبط.
ثم اعلم ـ أيها المسلم ـ أنه ليس أحدٌ مُجبرا على تفسير رؤياه، ولن يخرج عما كتب الله له، فلا يلقي باله للأضغاث ويشتغل بها ويُشغل الناس، ولو ترك السؤال عن الرؤيا فلا حرج عليه في ذلك، أما هدي الرسول فقد كان إذا صلّى الفجر وأقبل على الناس بوجهه قال: ((هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟)) وفي حديث ابن عباس: ((من رأى منكم رؤيا فليقصها؛ أُعبرها له)).
وقد نقلت لنا كتب السنة من الرؤى التي رآها الرسول الكثير، ومنها ما رواه ابن عمر قال: قال رسول : ((بينا أنا نائم أُتيت بقدحِ لبنٍ فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَ يخرج من أطرافي، فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب)) ، فقال من حوله: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)). وروى ابن عمر أيضًا قال: قال رسول الله : ((رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة ـ وهي الجحفة ـ، فأولت أن وباء المدينة نقل إليها)). ومما حدّث به رسول الله من الرؤى ما رواه ابن عباس عند البخاري أن رجلاً أتى رسول الله فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظُلّة تنطف ـ أي: تقطر وتصب ـ السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء ـ والسبب: الحبل ـ فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجلٌ فعلا، ثم أخذ به آخر فانقطع، ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي والله لتدعني فأعبّرها، فقال النبي : ((اعبرها)) ، فقال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف السمن والعسل فالقرآن؛ حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به آخر فينقطع له، ثم يوصل فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي : ((أصبتَ بعضًا وأخطأت بعضًا)) ، قال: فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت به، قال : ((لا تقسِم)).
اللهم انفعنا بالقرآن الكريم وبهدي وسنة سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، بشيرًا للمتقين، ونذيرًا للمجرمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: الرؤيا منزلتها في ديننا عظيمة، لكن لا تثبت بها الأحكام الشرعية، وشرعنا قد كمل في عهد النبوة. والرؤى ليست مصدرًا للتشريع كما يزعم بعض أصحاب الطرق المخالفة للسنة، ويدعون أنهم رأوا الرسول فأمرهم ونهاهم، فيأخذون بذلك الأمر أو النهي ويتركون أحكام الشرع.
معاشر المسلمين، بين حين وآخر توزع نشرة منسوبة إلى من يسمي نفسه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، وتروج بين الجهلة والعوام، يزعم فيها أنه رأى النبي في المنام وأخبره بكثرة الفساد في الناس وأنه يموت من أمته كل جمعة مائة وستون ألفًا على غير الإسلام، وأخبره ببعض علامات الساعة وقرب قيامها، وأمره أن يعلن الوصية للناس، ويعد بالجميل لمن يصدقها ويجتهد في نشرها، ويتهدد بالوعيد لمن يكذبها ويكتمها ولا يبلغها الناس. وقد عرض ذلك على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لتعرض وتبين موقف الشرع من مثل هذه الدعاوى، فأجابت عليه مشكورة، وإليكم نص الفتوى:
أيها الإخوة، من رأى الرسول بصورته المعروفة الواردة في كتب السنة فإنه قد رآه حقًا للحديث السابق، وقد ورد وصف النبي فيها أنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير البائن، وليس بالأبيض الشديد البياض، بل كان أبيض مشربًا بحمرة، وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار، وكان وجهه كالقمر من النور والبهاء وجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم. فمن رآه إذًا على صورة تخالف تلك الأوصاف كأن يرى رجلاً طويلاً جدًا أو قصيرًا جدًا أو يرى رجلاً حليقًا أو لابسًا بنطلونًا أو عقالاً وغترة أو شماغًا ونحو ذلك مما لم يرد في وصفه فليس ذاك بشخص الرسول ، وإنما تمثيل من الشيطان حتى لو قيل له في المنام أو ظهر على أنه النبي.
(1/5149)
أهمية الدعاء في الشدائد
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
25/7/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الدعاء وعظم شأنه عند الله. 2- حال الأنبياء مع البلاء والدعاء. 3- من أدعية النبي حال الأزمات. 4- قصص تفريج الكربات بالدعاء. 5- شدة وطأة الكفار على المسلمين. 6- تهافت دعوات التقارب بين الأديان. 7- أهمية الدعاء للمسلمين في الأزمات خاصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتعرضوا لنفحات المولى في جميع الأوقات بالدعاء والرجاء، واعلموا أن الدعاء يجلب الخيرات ويُستدفع به البلاء، وأنه ما دَعا الله داعٍ إلا أعطاه ما سأله معجلاً، أو ادّخر له خيرًا منه ثوابًا مؤجلاً، أو صرف عنه من السوء أعظم منه كرمًا منه وإحسانًا وتفضلاً. ولعِظَم شأن الدعاء عند الله ومحبتِه سبحانه أن يُدعى قال : ((من فتح الله له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) ، بل قال : ((من لا يسأل الله يغضب عليه)) ، ومن أجل هذا قال ابن عيينة: "لأنا مِن أن أمنع الدعاء أخوف مني أن أمنع الإجابة"، يعني: أنه ليس كل أحد يوفق للدعاء.
معاشر المسلمين، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، ولهذا كان دأب الأنبياء وأدبُهم كثرةَ الدعاء؛ فآدم عليه السلام بعد أن امتحنه الله سبحانه بإهباطه من الجنة إلى الأرض وامتحنه بقتل أحد ابنيه الآخرَ وكانا أول أولاده فطال حزنه وبكاؤه، لكن مع ذلك اتصل استغفاره ودعاؤه، فرحم الله تذلُّلَه وخشوعَه واستكانَته ودموعه، وكشف ما به ونجاه، فكان عليه الصلاة والسلام أول من دعا فأجيب، وامتُحن فأثيب، وأيقن بتجديد الله النعم ورفعه النقم، وأنه جل ثناؤه إذا استُرحم رحم، فنسي عليه السلام تلك الشدائد، وسكن همه، وزال غمه، وأكرمه الله تعالى بنبوة بعض عقبه، وجعل ذريته هم الباقين.
ومن ذريته نبي الله نوح عليه السلام، قال عنه مولاه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 75-80]، وفي موضع آخر قال سبحانه عنه: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76]. ولما امتحن الله نبيه أيوب عليه السلام بالأسقام وعِظَم اللأْوَاء والدود والأدواء نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83، 84]. ويونس عليه الصلاة والسلام حين امتحنه الله بأن ألقاه في بطن الحوت فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 87، 88]، وهذا وعد من الله جل وعز وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغمّ أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف إذا دعاه وتضرع إليه وأخبت.
أيها المؤمنون بالله، ابتلى الله تعالى نبيه يعقوب عليه السلام بفقد أعزّ أبنائه إليه يوسف عليه الصلاة والسلام، وبكاه بكاءً مرًّا حتى ابيضت عيناه من الحزن عليه، ثم ابتلاه بفقد أخيه أيضًا، لكنه مع ذلك لم ييأس أو يقنط، بل ظلّ يدعو ربه أن يأتيه بابنيه جميعًا، فاستجاب الله دعاءه، وأكرمه بنجاة يوسف من البئر الذي أُلقي فيه، ونجاه من الاستعباد حين بِيع واشتري، كما نجّاه من مراودة امرأة العزيز إياه عن نفسه، فعصمه الله منها، وجعل عاقبته بعد الحبس والسجن إلى مُلك مصر، وردَّ الله عليه أبويه، وجمع شمله بهم وبأخويه، وردَّ الله على يعقوب بصره بعد أن عمي من فرط بكائه على يوسف، والعاقبة للمتقين.
عباد الله، وأما دعاء نبيّنا محمدٍ فكثير وعجيب، منه ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، فأمده الله بالملائكة، وقد خرج من العريش الذي نُصِب له وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45].
معاشر المسلمين، وفي إحدى المعارك التي قاد المسلمين فيها محمد بن القاسم الثقفيّ رحمه الله في أواخر القرن الأول الهجري كادت أن تنفضَّ صفوف المسلمين وخيولهم أمام فِيَلة أعدائهم، وحاول رحمه الله تعالى أن يستنهض جنده فما استطاعوا، فنادى مرارًا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكفَّ الله الفيلة وسلّط عليها الحرّ فأنضجها، فنزعت إلى الماء فما استطاع سُوَّاقها ولا أصحابها حبسها، ثم حملت الخيل عليهم، فكان الفتح للمسلمين والحمد لله رب العالمين.
ولما حج الخليفة العباسي المنصور رحمه الله تعالى قدم المدينة فطلب أحد خصومه المقيمين بها، فجيء به، ولما دخل خصمه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: لا سلم الله عليك يا عدوَّ الله، تلحد في سلطاني وتبغي الغوائل في ملكي؟! قتلني الله إن لم أقتلك، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنَّ سليمان أُعطِي فشكر، وإن أيّوب ابتُلي فصبر، وإنّ يوسف ظُلم فغفر، وأنت من ذلك السِنخ ـ أي: الأصل ـ، فسكت الخليفة المنصور طويلاً، ثم رفع رأسه وقال: أنت عندي ـ يا أبا عبد الله ـ البريء الساحة السليم الناحية القليل الغائلة، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما يجزى به ذوو الأرحام عن أرحامهم ـ وكان من أولاد عمّه من بني هاشم ـ، ثم تناول يده فأجلسه على مفرشه وأكرمه، ثم قال: في حفظ الله وكلاءته يا ربيع، الْحَق أعط أبا عبد الله جائزته وكسوته وانصرف، فلحقه ربيع وقال له: إني قد رأيت ما لم يُرَ، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، وقد رأيتك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟ فقال: نعم، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ لا أهلك، وأنت رجائي يا ربّ، كم من نعمة أنعمتَ بها عليَّ، قلَّ لك عندي شكرها فلم تحرِمني، فيا من قلَّ عند بليّته صبري فلم تخذلني، ويا من رآني علَى المعاصي فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضِي أبدًا، ويا ذا النعم التي لا تحصى عددًا، أسألك أن تصلّي على محمد وعلى آل محمّد، بك أَدرأُ في نحرِه، وأعوذ بك من شرّه، اللهم أعنّي على ديني بدنياي، يا من لا تضرّه الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرّك، وأعطني ما لا ينفعك، إنّك أنت الوهاب، أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلاً ورزقًا واسعًا والعافيةَ من جميع البلايا وشكرَ العافية.
وأخيرًا أيها المسلمون، موقف النعمان بن مقرن رضي الله عنه في معركة نهاوند التي كانت بين المسلمين والفرس سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وكان عدد الفُرس مائة وخمسين ألفًا، ولما تقابل الجيشان واصطفّا للقتال عزم المسلمون على قتالهم فنهاهم النعمان حتى يكبر، لكن سهام الكفار أخذت تنال منهم، فألحّوا على قائدهم رضي الله عنه أن يأذن بالقتال فقال: لا أفعل وكان اليوم جمعة حتى تزول الشمس وتبدأ دعوات المسلمين على المنابر، وحينها نشبت المعركة وأسفرت عن انتصار المسلمين، وقتل من الفرس أكثر من مائة ألف مقاتل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
فالحمد لله، اللهم وفقنا لدعائك، وأكرمنا بالإجابة، ومنَّ علينا بالقبول، ولا تجعلنا من القانطين يا خير الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كاشف الضُرّ والبلوى، والحمد لله الذي لا يحمد غيره على الضراء والسراء، أحمده سبحانه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة بعد أن نبذل أسبابها من الإيمان به والاستجابة لأوامره، فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
وبعد: في هذا الزمان يتكالب الأعداء على المسلمين، وتشتد وطأتهم عليهم، ويرمونهم عن قوس واحدة في كافة المجالات: الاقتصادية والإعلامية والسياسية والعسكرية، وهي سنة ثابتة من سنن الله تعالى أن الكفار لن يوافقوا أن يرضوا أو يوحّد المسلمون ربهم ويعبدوه ويدعوا إليه، لكن للأسف أن كثيرًا من الناس لا يعون هذه الحقيقة ويغفلون عنها أو ينسونها رغم بيانها بيانًا شافيًا كافيًا في نصوص القرآن والسنة.
قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون]، وقال جل شأنه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وقال سبحانه: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ، وقوله سبحانه: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ، وبين سبحانه أنهم ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله مع حبهم للمال وعبادتهم له.
وحذرنا سبحانه من الجري وراء تشريعاتهم فقال: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]، وما يطرح من دعوات تقارب وتعاون مهما حملت من شعارات فهي ساقطة لا معنى لها عندنا نحن المسلمين، كم نسمع بين حين وآخر من شعارات ترفع من دعوات لتقارب الأديان إلى عولمة وإلى شرعية دولية وغيرها مما تعلمون وهي بشكل أو آخر قيمتها عندنا نحن المسلمين صرخة في واد أو نفخ في رماد؛ لأن ما نملكه من تشريعات ربانية هي أغلى وأعلى وأقدس عندنا، ونحن بها في غُنية عن غيرها، ولأن أعدائنا عودونا أن تلك الشعارات لا يستفيد منها ولا ينتفع بها إلا هم، وأما المسلمون فإن حظهم منها حفظُها وترديدها وكثرة العكوف والوقوف وراء أبواب منظماتهم؛ نستجديهم العطف والرحمة، ونناشدهم العدل والمساواة، نسينا الله فنسينا، واتكلنا على غيره فخذلنا، فاللهم توبة إليك ولا حول ولا قوة إلا بك.
عباد الله، يتعين علينا دائمًا وخاصة حين الفتن والمحن كثرة الدعاء والإلحاح عليه أن ينصر الله دينه وعباده المؤمنين، وأن يقيم علم الجهاد وينصر المجاهدين في سبيله، ويحفظ للمسلمين دينهم، وكذلك الدعاء على الكفار من يهود ونصارى ومنافقين ووثنيين، وأن لا نملَّ من ذلك، ونتخير أوقات الإجابة، فالدعاء سلاح المؤمن، وهو أقل ما نقدمه من النصرة الواجبة لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو في الوقت نفسه أيضًا خط دفاع لنا؛ لأن من تغدى بأخيك فسيتعشى بك، ولن يردعه حياء ولا رحمة، فالكافرون هم الظالمون.
معاشر المسلمين، إن ما يجرى من الأحداث الآن أمر كبير له تبعاته، خاصة على المسلمين؛ لأن من يديرون الحملة العسكرية صرحوا كما نقلته وسائل الإعلام المحلية أو غيرها أن ميدان المعارك لن يقتصر على موقعه الحالي، بل سيطال بلدانًا إسلامية أخرى عربية وغير عربية، وربما تكون الخاتمة حروبًا أهلية تمزق بعض الخرائط ليحل ذلك بديلاً عندهم عن صدام الحضارات، ويقوم المسلمون فيما بينهم بالوكالة عن الغرب، كل هذا يتم التحضير له في دوائر الغرب، وبدأت فصول تنفيذه تحت مسمى مكافحة الإرهاب.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العرش العظيم، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم...
(1/5150)
تحالف الأحزاب في غزوة الأحزاب
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
3/8/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحالف قريش مع اليهود ضد المسلمين لحربهم وإبادتهم. 2- استعداد المسلمين في المدينة لمواجهة الخطر المحدق بهم وحفر الخندق. 3- دور المنافقين في المعركة. 4- وصف حال المسلمين بالمدينة ومقالات المنافقين المحبطة. 5- نصر الله لا يأتي إلا بشرطه وهو اتباع الوحي عقيدة وشريعة. 6- درسٌ للمعنيين بأمر الإصلاح والدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن غزوة الأحزاب كان وقوعها في شوال سنة خمس من الهجرة، وهي حلقة من حلقات الصراع العسكري بين المسلمين والكفار؛ لأن الحرب بين المعسكرين معلنة ولا تهدأ ولن تقف أبدًا، وإن كان ثمة عواملُ مباشرةٌ أثارتها ودعت إليها جعلت قريش منها مبررًا للحرب، وهو أن طريق تجارة قريش من مكة إلى الشام باتت دائما مهددة من قبل المسلمين.
ولهذا وذاك فكرت قريش جديًا بالقضاء على المسلمين قضاءً مبرمًا ومطاردتِهم وملاحقةِ فلُولهم وتعقُبهم في كل مكان، لكن قريش رأت أنها وحدها قد لا تقوم بهذا الدور، فسعت جاهدة إلى إقامة تحالف مع غيرها لحرب المسلمين ظانةً أنها ستُطفئ نور الله، وجاءت الفرصة مواتية عندما أجلى الرسول يهود بني النضير من المدينة، وذلك الإجلاء إيذانٌ بأفول نجم اليهود ومحاصرةٌ لتحركاتهم وتجفيفٌ لموارد شرهم، وهو ما لا يرضاه اليهود؛ لذا ذهب عدد من زعمائهم وبدؤوا باتصالاتٍ مع قريش وقبائل أخرى للثأر لأنفسهم ومحاولة العودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة، وهذا ديدنهم عبر التاريخ حينما يُنبذون ويُطردون يعمدون إلى إيقاد نيران الحرب بالوكالة، فيُحرّكون أطرافًا أخرى بعد أن يفتعلوا بعض الحوادث المثيرة.
خرج وفدٌ من اليهود إلى مكة، فيهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحُيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين، ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزل في ذلك قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء: 51]. ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطَفَان على حرب المسلمين، وهكذا تمكن اليهود من تشكيل تحالف همه حرب المسلمين والقضاء عليهم. وتذكر بعض كتاب السير أن وفد اليهود المكلف بتأليب الأحزاب وعد غطفان بنصف ثمر خيبر لإغرائها بالمشاركة في التحالف نظرًا لأهمية دورها الذي ستضطلع به.
تجمع جيش قريش وحلفائها في مرِّ الظهران التي تبعد عن مكة أربعين كيلاً، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم وكنانة وأهل تهامة والأحابيش، ثم عزموا على المسير، وفور معرفة المسلمين بزحفهم صوب المدينة بدؤوا يتحركون لمواجهة الطوفان المحدق بهم، وبمشورة من سلمان الفارسي حفروا الخندق ليربط بين طرفي حرتين، لأنها كانت منطقة مكشوفة أمام الغزاة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع أي: بما يعادل كيلوين ونصف الكيلو، وعرضه أربعة أمتار ونصف، وعمقه يتراوح ما بين ثلاثة أمتار ونصف إلى خمسة أمتار، وكلف الرسول أن يحفر كل عشرة من المسلمين أربعين ذراعًا. وأما الجهات الأخرى فتضاريسها الصعبة شكلت حصنًا طبيعيًا يصعب على العدو اختراقه. وتم حفر الخندق بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المسلمين؛ فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يُخلط بدهن متغير الرائحة لِقدَمه ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحيانًا لا يجدون سوى التمر، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، لكنها حرارة الإيمان تطغى على البرد والجوع، فأتموا حفر الخندق في ستة أيام فقط.
أيها المسلمون، ويبرز في هذه الغزوة موقف المنافقين أيضًا كشأنهم في كل شدة ونازلة تحل في ديار الإسلام، موقفهم المتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وَرَدَ ذلك في القرآن الكريم بأفصح عبارة وأدق تفصيل، قال الحق جل وعز: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا الآيات.
وظل زعيم اليهود حيي بن أخطب يواصل اتصالاته المكثفة لتعزيز قوة التحالف حتى أتى كعب بن أسد القرظي اليهودي، وكان بين بني قريظة والمسلمين عهد، فلم يزل به حيي بن أخطب حتى أعلن كعبٌ نقضه للعهد والانضمام إلى التحالف.
وبدأ الحصار، وعظُم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف والبرد والجوع حتى ظن المؤمنون كل ظن. قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارًا، وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا، ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفًا شديدًا. هجومات تشن في كل وقت، وضربات موجعة متتالية، وحصار مضروبٌ عليهم، وتوهين المنافين وتخذيلهم، وبثُّ الشكوك والرِّيب في وعد الله ووعد رسوله ، وهروب مستمر في الجبهة، وتحريض غيرهم على الهروب أيضًا، لكن أشد كرب كان على المسلمين نقضُ بني قريظة عهدهم ليفتحوا ثغرةً واسعة تمكّن العدو من ضربهم من الخلف.
لقد نجم النفاق حتى قال أحد المنافقين وهو معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقال أوس بن قيظي نيابة عن قومه: يا رسول الله، إن بيوتنا عورةٌ من العدو، فأذن لنا نرجع إليها فإنها خارج المدينة.
معاشر المسلمين، في هذه الأثناء وفي هذا الجو المشحون وبعد مرور عشرين ليلة أو أكثر على هذه الحالة المكروبة ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه وبيده ملكوت السماوات والأرض وله جنود لا يعلمها إلا هو سبحانه، خذل الله الأحزاب، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد حتى تكفَّأت قدورهم، وسقطت خيامهم، وانسحبوا يجرون ذيول الهزيمة والعار دون أن يحققوا أي شيء من أهدافهم المعلنة والمبطنة. وتُوِّج هذا النصر للمسلمين بنزول سورةٍ تحمل اسم هذه المعركة سورةُ الأحزاب، كشفت جوانب لم يدركها المسلمون مع أنهم أصحابها وأبطالها، وألقت الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبّآت الضمائر، وأظهرت للنور أسرارًا ونوايا وخوالج مستكنة في أعماق الصدور.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن نصوص القرآن مُعدَّةٌ للعمل لا في وسط الذين عاصروا الحوادث وشاهدوها فحسب، ولكنها معدَّة للعمل وصالحة للتطبيق في كل مكان وتاريخ، كلما واجهت المسلمين مثل تلك الحوادث وأشباهها. وأمرٌ وثيق الصلة بهذا الشأن وشرط من شروط النصر والتأييد من الله تعالى افتتح الله به سورة الأحزاب حين قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب: 1-3]، فالشرط إذًا هو اتباع الوحي عقيدة وشريعة والتوكل على الله وحده وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وإن العمل بهذا الشرط هو الذي يحمي القائمين على الإسلام من عدوان الكافرين والمنافقين، ويُجهض مخططات الأعداء ويحبط مكرهم ويرد كيدهم.
اللهم أشغلهم بأنفسهم واجعل بأسهم بينهم شديدا وأتهم من حيث لم يحتسبوا.
اللهم انفعنا بالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، في سورة الأحزاب عرْضٌ للمشاعر النفسية التي كان عليها الناس في المدينة حين تكالبت الأحزاب عليهم من كل جهة، عرضٌ للمشاعر الظاهرة والباطنة، وكشفٌ لخبايا الكثير منها الصحيحة والزائفة، كشفٌ من لدن حكيم عليم خبير، لا يعزُب عن علمه شيء، ولا يستتر مكنونٌ عن اطلاع الله عليه مهما دقَّ واختفى.
ومن الملاحظ أن المجتمع المسلم وهو يضطلع بمهمة إنقاذ البشر ودعوتهم أن يتركوا أديانهم ويدخلوا في الإسلام هذا الأمر كبير جدًا، فلا بد له من نفوس كبيرة تقوده وتشغِّله، وحتى تتأهل لنشر رسالة الإسلام والتصدي لخصومه، فلا بد من أحداث تتربى عليها النفوس، تكون تلك الأحداث والوقائع قاسيةً، تبلغ أحيانًا درجة الفتنة كفتنة الذهب لينفصل عن المعادن الأخرى، ويذهب الزبد والزائف، ويبقى الذهب خالصًا، فتتكشف حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطًا مجهولَ القيم.
وثمة درسٌ ـ أيها الناس ـ نخرج به من ذلك: أنه على المسلمين عامةً وعلى المعنيين بأمر الإصلاح والدعوة خاصة أن يوطنوا أنفسهم حالَ الأحداث وتكالب الأعداء ونشوءِ الفتن، وأن لا ينزلقوا فيها، كما لا ينصدموا ويصابوا بإحباط، فلعل ما يقع هو كما قال الله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ [النور: 11]، وليتيقظوا للمهمة التي يحملون والأمر الذي به يضطلعون. وباختصار فإنه امتحان سينجح فيه أناس، ويرسب فيه آخرون. ولا ينسى الفضلاء والأخيار والموفّقون أنهم ينافسون على جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه تحتاج لعمل متميز.
وفقني الله وإياكم للعمل بما يرضيه، وجنبنا الوقوع في سخطه ومعاصيه...
(1/5151)
وذكرهم بأيام الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
17/8/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعريف بالسنن الإلهية وأهميتها في قراءة الواقع وبعض مسمياتها في القرآن. 2- تجدد الحملات الصليبية الموجهة للبلاد الإسلامية. 3- توارد الفتن وتصاعدها في آخر الزمن. 4- العزة والغلبة للمؤمنين وبقدر الاستقامة يكون النصر والظفر. 5- الظلم نذير هلاك وبداية المحق والخسارة. 6- لمحة عن الطائفة المنصورة وذكر صفاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فإن حاجة المسلمين إلى بيان سنن الله تعالى تتأكد أكثر في أزمنة الشدائد، ليقيسوا عليها أمرهم، ويعتبروا بها في التغيير. وما يحدث الآن في أفغانستان ليس هو أول حدث كبير في التاريخ، ولن يكون الأخير؛ إذ التاريخ حافل بأقدار من الخير والشر، دارت بشأنها سنن، وجرت بسببها ابتلاءات، وحصلت بعدها تغيرات في أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم.
والأيام لا تزال تتوالى بجديد بين خير وشر، ونفع وضر، ومحن ومنح، يُختبر بها العالمون، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94]؛ لأن مخافة الله بالغيب تعني الالتزام بطاعته؛ طمعًا في ثوابه وخوفًا من عقابه، وهذا لا يكون إلا بالإذعان لأحكام الشرع والتسليم لها والإيمان بالقدر.
أيها المسلمون، إن أحكام الله القدرية تجري بحسب مواقف الناس من الشرع، وذلكم ما يسمى بالسنن الإلهية، وهي لا تقبل التخلف ولا التبدل، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً [الإسراء: 77]، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح: 23]. وهي المسماة في القرآن أيضًا أيام الله التي أمر سبحانه المصلحين أن يذكرِّوا الناس بها: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم: 5]. ومعنى أيام الله هنا: وقائع الله في الأمم السالفة، والأيامُ التي انتقم فيها من الأمم الخالية الماضية، وهي أيضًا حاضرة ومستقبلة، فكما جرت لأقوام مضوا فهي تجري لنا حاضرًا، وستجري لمن يأتي بعدنا مستقبلاً. وهذه أعظم فائدة من تدبر سنن الله في الناس، فلئن كان العصاة يمكنهم أن يخالفوا حكم الله وشرعه فإن أحدًا من الخلق لا يستطيع الخروج قيد أنملة عن حكمه القدري.
عباد الله، إن الأحداث الكبرى قد تطيش بها العقول، وتذهل فيها الأفئدة، وتزل بها أقدام أناس، ويضل بها آخرون، ولا يثبت إلا من ثبته الله، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
والأحداث لا تزال تتجدد؛ لأن الحملة الصليبية الموجهة الآن على أفغانستان بداية، والله أعلم أين تنتهي، يصرح أهلها دائمًا أنها:
أولاً: ستستغرق سنوات طويلة، وأنها لا زالت في بداية مراحلها، ولن تتوقف في رمضان.
ثانيًا: لن تقتصر على أفغانستان فقط.
ثالثًا: لا تزال الحشود العسكرية تتزايد لها؛ مئات الطائرات الحديثة الفتاكة، وعشرات الآلاف من أفضل الجنود المدربين غاية التدريب. فهل يُظن أن حملة بهذا الحجم مهمتها فقط ضربُ أفغانستان بذريعة إيوائها للإرهاب أم أن لها مآرب أخرى خاصةً إذا أكد أهلها ذلك؟!
معاشر المسلمين، إن الزمان كلما تقارب كان فعل الفتن في الناس عجبًا؛ لأنها تتوارد وتتكاثر حتى يرقق بعضها بعضًا، وتتابع بالهلاك على أناس ما كان يُظن أنهم يفتنون، حتى تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء أخرى، فيقول: هذه هذه، ولا يزال الأمر في تصاعد وتزايد حتى يجيء زمن يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا لشدة الأهوال، أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ولكن معاشر المسلمين، علينا أن نؤمن ونوقن بأن العزة لله جميعًا، وبقدر استقامة الشخص أو الطائفة أو الدولة على أمر الله تكون لهم العزة والحفظ والأمان والأمن، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]. كما أن على المسلم أن يعلم أن الذين يريدون أن يستمدوا عزتهم من عند غير الله فهم خاسرون، قال الله تعالى: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء: 138، 139]، وسيذل كل من حاد الله ورسوله.
ولنعلم ـ ثالثًا ـ أن الظلم مؤذن بالخراب والعذاب، ونذيرُ أخذ ومحق وهلاك، والأخذُ والعذاب يقع على الكافرين حين يظلمون غيرهم، ويشمل أيضًا من يظلم من المسلمين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس: 13]، وقال سبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45]، وقال جل شأنه: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف: 59].
وإن من الظلم موالاة الظالم وعونُه وتأييده ومباركة ظلمه، وأظلم الظلم أن تعينه وتظاهره وتواليه على حساب إخوانك المؤمنين، ومن يفعل ذلك فهو داخل في عداد الظالمين المتوعَّدين بالأخذ والعذاب، قال الحق جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وتولي اليهود والنصارى يكون غالبًا حين غلبتهم وظهور دولتهم أو دولهم، والمتولي يحتج بتوليه لهم أنه يخشى الدوائر، فيذهب يلتمس لنفسه الأعذار والمبررات، وربما المسوغات التي يراها شرعية، وهذا عين الظلم المتوعَّد صاحبه بالأخذ والخذلان.
عباد الله، والوجه الآخر لذلكم الماضون على دربهم، الثابتون على دينهم، لا تغيِّر ثوابتَهم شدّة، ولا يهزُّ دينهم فِتَن، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)) رواه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله: "يحتمل أن هذه الطائفة مفرَّقة بين أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدِّثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض" اهـ كلامه رحمه الله.
فكن عبد الله من أولئك، وعُضَّ على دينك بالنواجذ، ولا تزال صابرًا جاهدًا مجاهدًا ساعيًا في تبليغ دين الله تعالى ورفعة شأنه؛ لعلك تدخل في تلك الطائفة.
إن دين الله تعالى منصور بوعد الله ووعد رسوله، ونصرُه يكون بأناس كما وردت صفاتهم في الحديث السابق، وهي:
أولاً: أنهم على الحق والسنة.
ثانيًا: أن تلك الطائفة ظاهرة بذلك الحقّ معلنة به لا تخشى أحدًا.
ثالثًا: أنها منصورة بالحق مُقاتِلة عليه.
رابعًا: أنها محفوفة بمن يخذلونها ويسلمونها إلى العدو.
خامسًا: أنها محاطة بالمخالفين.
سادسًا: من صفات الطائفة المنصورة أنه لا يضرها ذلك الخذلان ولا تلك المخالفة.
سابعًا: أنها جامعة لشرائع مختلفة من الأمة.
ثامنًا: أن الله يبعث منها المجدّدين للدين.
تاسعًا: أنها لا تنحصر بمكان واحد، ولكن تتنقل عبر الزمان في أكثر من مكان.
عاشرًا: أنها باقية إلى يوم القيامة، قال رسول الله : ((لا تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).
فاللهم وفقنا لما اختلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء.
بارك الله لنا بما نقول ونسمع، وتقبل منا، إنه هو السميع العليم [1].
[1] العنوان والخطبة من مجلة البيان - العدد: 168 - شعبان 1422هـ بتصرف.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5152)
نحن أمة الجهاد
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القتال والجهاد, غزوات
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
24/8/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الإعلام الغربي في تغيير مفاهيم المسلمين عن الجهاد. 2- أمة الإسلام أمة جهاد ولا عزة لها بدونه. 3- ذكر غزواته منذ هجرته إلى المدينة. 4- تفسير معنى التهلكة. 5- المبادئ والأديان لا تحيا ولا تنهض إلا بالمغالبة والمدافعة. 6- ترك الجهاد من أسباب عذاب الله وبطشه. 7- سبب نزول قول الله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأنَتمُ ُالأَعْلَوْنَ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، في الوقت الذي تتزايد فيه الأوضاع حرجًا على المسلمين في فلسطين متمثلة في القتل والتجويع والحصار والإغلاق وتدمير المحاصيل وهدم البيوت والانسحاب من مدينة لاحتلال أخرى ورعبٍ يقضّ مضاجع السكان نتيجة هدير أصوات الدبّابات وقصف المدافع وأزيز الطائرات، وقل مثل ذلك أو أشد ما يحدث الآن في أفغانستان في ظل الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، في هذه الأجواء تختلط الأوراق عند بعض المسلمين لأن الإعلام الغربي يُظهر مقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان والدفاع عن النفس إرهابًا، لا تعرف الرحمة والحياء إلى قلوبهم سبيلاً، هذه الضغوط جعلت بعض المسلمين يصدق مقولاتهم فيخجل من ذكر الجهاد، أو ربما ظنّ فيه تعديًا على الحريات لأنه يُلزم أعداء المسلمين بالدخول في الإسلام.
والذي يتعين بيانه في مثل هذه الظروف التي يعيشها المسلمون هذه الأيام أن نعلم أن المسلمين أمةُ جهاد، فتاريخهم حافل بالمعارك، لا تكاد تمرّ سنة في الصدر الأول إلا معركة فاصلة خاضها المسلمون مع أعدائهم، فالرسول عاش بالمدينة عشر سنوات، قاد المسلمين خلالها في عشر غزوات أو أكثر، وتوفي وهو يجهّز جيش أسامة بن زيد لغزو الروم وفتح الشام، هذا عدا السرايا والطلائع التي يبعثها بين كل وقت وآخر.
وإليكم ـ معاشر المسلمين ـ تفصيل شيء مما سبق: وصل الرسول المدينة مهاجرًا في اليوم الثاني عشر في شهر ربيع الأول في السنة التي سميت فيما بعد بالسنة الأولى للهجرة، وفي شهر رمضان من السنة نفسها عقد أول لواء في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب يعترض عِيرًا لقريش آتية من الشام، وفي شوال من السنة نفسها بعث عبيدة بن الحارث في سرية إلى بطن رابغ، ثم في شهر ذي القعدة الذي يليه بعث سعدًا إلى الخرّار، كلهم يعترضون عيرًا لقريش، وتلا ذلك على الفور غزوة الأبواء بقيادته ، وهي أول غزوة غزاها الرسول.
وبعد مُضِي سنةٍ واحدةٍ فقط على الهجرة أي: في شهر ربيع الأول من السنة الثانية سجلت العملية العسكرية الخامسة، وهي غزوة بواط، وبعدها تعقُّب كرزِ بن جابر لما أغار على سرح المدينة، لكن كرزًا فاته، وفي جمادى الثانية كانت غزوة العشيرة، ثم كانت غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من السنة الثانية، وبعدها سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ثم بعد سبعة أيام فقط من غزوة بدر نهض رسول الله إلى بني سليم.
ولما رجعت فلُول المشركين ووصلت مكة نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماءٌ حتى يغزو رسول الله انتقامًا ليوم بدر، فخرج في مائتي راكب حتى بلغ طرف المدينة، فخرج الرسول في طلبه، لكنه هرب وفاته. ثم غزا الرسول نجدًا يريد غطفان، فأقام شهر صفر كله هناك، وكانت بعد بدر بأربعة أشهر فقط. ثم تجدد النشاط بتعقب قريش في ربيع الآخر وجمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة. ثم وقعت غزوة بني قينقاع، ثم عملية اغتيال كعب بن الأشرف اليهودي لنقضه العهد.
وفي شوال من السنة الثالثة دارت غزوة أحد، وفور انتهائها والفرح لا زال يغمر قلوب المشركين بنشوة الانتصار هذه المرة وإذا بهم يتنادون ثانية للإجهاز على المسلمين، فعلم الرسول بذلك فندب المسلمين إلى المسير إليهم، وقال: ((لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)) يعني: قتال أحد، فاستجاب له المسلمون رغم أنهم مثخنون بجراح أحد، فتبع المسلمون المشركين حتى بلغوا حمراء الأسد خارج المدينة، ولما رأى المشركون قوة المسلمين وقد أعادوا تنظيم صفوفهم بهذه السرعة خافوا أن تقطف زهور نصرهم فولوا الأدبار إلى مكة.
وبقي الرسول بقية السنة الثالثة، فلما كان المحرم من السنة الرابعة بعث سرية لتأديب بني خويلد حينما علم أنهم يهمّون بغزو المدينة، فأصابوا منهم إبلاً وشاءً دون قتال. وبعدها بأيام قلائل وفي نفس الشهر بعث سرية أخرى.
والحاصل ـ أيها الإخوة ـ أن الغزوات والسرايا طيلة حياة الرسول وهي تتلاحق وتتابع، وحركة الجهاد لا تهدأ، ورايات الجهاد تُعقد، وطوابير المجاهدين تتقاطر من المدينة متجهة شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وآيات القرآن تتنزل من السماء دفعًا لهم وحضًا على القتال معاتِبَةً القاعدين وذمًا للكسالى وفضحًا للمخذّلين عنه.
إن الجهاد ذِروة سنام هذا الدين؛ لأن الصراع بين الحق والباطل سنة ثابتة، والرسول نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة أيضًا، قال عن نفسه: ((وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي)).
فنحن ـ أيها المسلمون ـ أمةُ قتال، ولا حياة لنا ولا عزّة إلا بالجهاد، وهو مجدنا الذي نتفاخر به. وإنَّ الإثخان بالكفار هدف إسلاميّ ومطلب شرعيّ، مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 67].
وهي ليست تهمة نتبرأ منها، بل هو شرف نفتخر به، ونعتز به، لا شهوةً في الانتقام وحبًا لسفك الدماء، ولكن لأن الله أمرنا به فنمتثل، قال الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ الآية [التوبة: 38].
ولما همَّ بعض المسلمين في المدينة أن يتفرغ لحرثه ودنياه بعد خوض معارك كثيرة مع الرسول جاء العتاب من الله تعالى، أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أسلم بن عمر أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صفّ العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشرَ الأنصار نجيًّا ـ أي: يتناجون ـ، فقلنا: قد أكرمنا بصحبة نبيه ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
أيها المؤمنون بالله تعالى، إن المبادئ والأديان أيًا كانت على حق أو على باطل لا تحيا ولا تنهض إلا بالمغالبة والمدافعة، ولقد فهم هذا المعنى أحد رؤساء الوزارة في دولة اليهود وصنف كتابًا سمّاه التمرّد، يحكي فيه فصولاً من المواقف التي مرَّ بها أيام كان يسعى ويقاتل من أجل إيجاد دولتهم، وعقد بابًا في كتابه سماه: "نريد أن نحيا فلنقاتل إذًا"، فاعتبر القتال هو طريق الحياة.
وإن أمة أو شعبًا يتهرب أو يتبرأ من ذلك لن يقوم ولن ينهض، فإما أن يتقدم بالجهاد ويعلو، وإلا فالتأخر والذل والهوان ويذبح كما تذبح الخرفان، ومصداق ذلكم قول الرسول : ((إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه أحمد ورجاله ثقات وصححه ابن القطان، وقال : ((من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارمي وسنده قوي.
وترك الجهاد ـ عباد الله ـ سبب لعذاب الله وبطشه، قال تعالى: إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 39]. وهنا نجد أن العذاب الذي يتهدد من يتركون الجهاد ليس عذاب الآخرة وحده، وإنما معه أيضًا عذاب الدنيا؛ عذاب الذلة والهوان والخسران، فيخسرون من الأموال والأنفس أضعاف ما يخسرون فيما لو أقاموا علم الجهاد.
وتأملوا حال البلاد الإسلامية كافة، كم تخسر من الأموال والأنفس الآن، ومن مظاهر ذلك الجهود الطائلة في ضبط الأمن ومكافحة الإرهاب والضرائب الباهظة والديون والديون المجدولة عليها للدول الغربية، ولا تنسوا حوادث السيارات والحروب الأهلية والتهديدات من الدول المجاورة وحركات التمرد وعصابات المخدرات... إلخ، كلّ ذلكم أعباءٌ ثقيلة تنوء بحملها ميزانيات الدول الإسلامية، فما يقدمونه على مذابح الذلّ أَضعاف ما يتطلّبه الجهاد لو أخذوا به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف: 10، 11].
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فضل أمة محمد على سائر الأمم، وجعل ذروة سنام دينها الجهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالملك والعزة والقهر إلى يوم التناد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قاتل في سبيل الله فما كلَّ ولا ملّ وأقسم قائلاً: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل ثم أحيا ثم أُقتل)) رواه البخاري، أربع مرات تمنى أن يقتل في سبيل الله.
أما بعد: أيها المسلمون، يقول ربكم جل شأنه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]؛ لأنكم تسجدون لله الواحد الأحد، وغيركم يسجد لمخلوق، وأنتم ـ أيها المسلمون ـ تسيرون وفق نهجٍ وضعه الله العليم الحكيم، وغيركم يعيش على زبالات أفكار البشر. إنكم ـ أيها المسلمون ـ أوصياء الله على البشرية كافّة، وأنتم هداتها تقودونهم إلى الجنة وتنقذونهم من النار، كل هذا إذا كنتم مؤمنين، فإذا أنتم كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا، وإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون العقبى لكم بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
ولقد نزلت هذه الآية ـ معاشر المسلمين ـ عقيب غزوة أحد، حين هُزم المسلمون ومسهم القرح، فطمأنهم الله تعالى أنهم وإن هزموا في هذه المعركة وهذه الجولة إلا أنهم الأعلون، لكن نهاهم أن يهنوا أي: يضعفوا، بل عليهم أن يبقوا شامخةً قلوبهم واثقةً بنصر الله ووعده.
ونحن المسلمين مأمورون بجهاد الكفار وقتالهم والإثخان فيهم، ولْيُسمّوا ذلك ما شاؤوا: صراع حضارات أو وحشية وهمجية، فلسنا بحاجة أن نتلقى قيمنا وأخلاقنا من مجلس الأمن أو منظمات حقوق الإنسان أو من أمريكا أو غيرها من قلاع الكفر والشرك وحصونه.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ الأعداء لا يفتؤون يعلنون ويصرحون بذلك، ففي إعلان الحرب القائمة الآن قال الرئيس الأمريكي: "اليوم نركز أنظارنا على أفغانستان، ولكن المعركة أوسع، هناك خيار أمام كل أمّة، ليس هناك منظمة محايدة في هذا النزاع"، وتبعه وزير دفاعه قائلاً: "في حين أن غاراتنا تركز على أفغانستان فإن هدفنا أوسع بكثير"، وقال: "وهذه لن تكون حربًا نظيفة، وآسف بأن أقول ذلك، وستكون حربًا عسيرة محفوفة بالمخاطر، وهناك ترجيح بأن عددًا أكبر من الناس سيفقدون" اهـ.
اللهم ارفع البأس والضراء عن المسلمين، وردهم إليك ردًا جميلاً، اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه...
(1/5153)
المسح على الخفين
فقه
الطهارة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
8/9/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التيسير في شريعة الإسلام من نعم الله وفضله على عباده. 2- أعضاء الوضوء وبيان فضل إسباغ الوضوء على المكاره. 3- جواز المسح على الخفين والجوربين. 4- تعريف الخفين وما يلحق بهما ومدة المسح عليهما في السفر والحضر. 5- بعض أحكام المسح على الخفين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم، واعرفوا نعمته عليكم بتيسيره وتسهيله، فإن الله تعالى لم يجعل عليكم في الدين حرجًا ولا مشقة ولا تضييقًا ولا عسرا، وإنما بُعِث النبي بالحنيفية السمحة، ولقد أنعم الله علينا مع التيسير والتسهيل بكثرة الأجور والثواب الجزيل؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ثم وعدنا الجنة بعد ذلك، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
معاشر المسلمين، الطهارة للصلاة فرضها الله تعالى على وجهٍ سهلٍ يسير، يطهّر الإنسانُ في الوضوء لها أربعة أعضاء فقط؛ هي غَسل الوجه واليدين ومسح الرأس ومعه الأذنان وغسل الرجلين.
وهذه الأعضاء هي أعضاء العمل غالبًا، ففي الوجه الشمّ والنظر والكلام، وفي الرأس السمع والتفكير، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين المشْي، وتطهيرها تكفير للأعمال التي عملها العبد أثناء يومه قبل التطهر، قال : ((إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء، وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه، فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه، حتى يخرج نقيًا من الذنوب)) ، وقال : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره ـ يعني إكماله بمشقة مثل أيام البرد والشتاء التي نحن فيها الآن ـ وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
أيها المسلمون، إن من تيسير الله الرحيم عليكم في هذا الدين أن أباح المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، ويدخل في حكم الخفين الجوربان أو الشرَّاب، وقد أجمع أهل السنة على جواز المسح، وفيه أربعون حديثًا عن النبي ، رواها سبعة وثلاثون صحابيًا. وقال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب النبي أنه مسح على الخفين، وذكره الترمذي عن عشرين صحابيًا، وفي نصب الراية للزيلعي سرد ثمانية وأربعين حديثًا تدل على ذلك، غالبها صحيح ثابت.
والخُفّان: ما يُلبس على الرجلين من الجلود، ويلحق بهما ما يُلبس من الكتان والصوف ونحوها من كل ما يلبس على الرجل مما تستفيد منه الرِّجلان بالتسخين، ولهذا بعث النبي سرية وأمرهم أن يمسحوا على التساخين. رواه الحاكم وغيره وقال: "صحيح على شرط الشيخين". والمراد بالتساخين أي: الخفاف، وسميت تساخين لأنها تسخّن الرِّجل.
عباد الله، مدة المسح المشروعة إن كان المسلم مقيمًا فيوم وليلة، وإن كان مسافرًا فثلاثة أيام بلياليها. تبتدئ مدة المسح من أول مسحة، فإذا لبس الإنسان لصلاة الفجر ولم يمسح عليها أوّل مرة إلا لصلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد، وإذا تمت المدة وهو على طهارة فطهارته باقية حتى تنتقض، فالمدة يومٌ وليلة هي مدةٌ للمسح وليس مدة للبس على طهارة، فإذا انتقضت طهارته بعد تمام المدة وجب على المسلم غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد.
ومن تمّت مدته فنسي ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يُعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة، ومن لبس كنادر أو شرابًا فهو مخيّر في أول الأمر؛ إن شاء مسح الكنادر وإن شاء مسح الشراب، فإذا مسح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به؛ فإذا قُدِّر أنه مسح الكنادر فليستمر على مسحهما ولا يخلعهما حتى تتم المدة، فإن خلعها قبل تمام المدة فإنه لا يعيدهما إذا توضأ حتى يغسل رجليه؛ لأن الممسوح إذا خُلع لا يعود المسح عليه إلا بعد غَسل الرجلين، أما إذا مسح المسلم على الشرَّاب من أول مرة فإنه لا يضر خلع الكنادر، فله أن يستمر على مسح الشراب حتى تنتهي المدة.
وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء، ثم يُمرهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة.
معاشر الصائمين، ومن رحمة الله بالعبد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر أو جُرح أو لزقة فإنه يمسح عليها كلها بدلاً عن غسلها في الوضوء والغسل حتى تبرأ، ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيرًا من الله، وتسهيلاً على عباده، فله الحمد والمنة.
عباد الله، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الشأن أن الجورب أو الشُرّاب الذي يمسح عليه يجوز المسح عليه حتى لو كان به خروق إذا كانت صغيرة؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وحشرنا معهم أغلبهم فقراء، وحال الفقير لا يخلو خُفُّه أو شُرَّابه من الخروق، ولم ينقل عن النبي أن نبه على ذلك أو نهى عنه، بل النصوص في المسح مطلقة، فلا سبيل لتقييد شيء لم يُقيَّد بدليل شرعي.
وأمر آخر ينبه عليه أن المسح يكون على أعلى الخف أو الجوارب أو الشراب، لحديث عليٍ قال: لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله يمسح أعلى الخف. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، والحديث صححه جمع من أهل العلم وحسنة آخرون. وهو يفيد أن المسح يكون في أعلى الخُف أو الجوارب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28].
بارك الله لنا في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5154)
الانتحار: أسبابه وحكمه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
القضاء والقدر, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
6/10/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الانتحار. 2- خطأ من يظن أن الانتحار راحة وتخلصٌ من الآلام. 3- حكم الانتحار في الإسلام. 4- ذكر معنى ((خالدًا مخلَّدًا فيها)) الوارد في حديث قتل النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فقد برزت في السنين الأخيرة ظاهرة الانتحار؛ وهو أن يتعمد الإنسان قتل نفسه. وكنا نسمع عن هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية الشاردة عن الله تعالى، والتي طغت عليها المادة في كل نواحي الحياة، وحينما تُسجَّل أرقامٌ في هذا الشأن تكون الدول الأكثر ترفًا وارتفاعًا في مستوى دخل الفرد هي الأعلى نصيبًا في الانتحار. غير أننا الآن نسمع كثيرًا عن ذلك في بلد التوحيد ومنطلق الدعوة ومبعث الرسالة، فماذا دهانا؟!
عباد الله، ليس بين الله تعالى وأحدٍ من خلقه حسبٌ ولا نسب، وسنن الله سبحانه لا تجامِل أحدًا، والمحسوبيات ليس لها ميزان في الشرع، فمن اتقى الله وأطاعه سعِد ونجا، ومن عصاه شقِي وهلك.
أيها المسلمون، ما أسباب الانتحار؟ وما حكمه؟ وما الوسائل المناسبة للحد منه أو منعه؟
إن على المسلم ـ عباد الله ـ أن يُدرك أنّ الله جل وعلا قدّر أن تكون هذه الحياة مجبولة على كبد ومنطويةً على تعب، والتعامل معها يكون بإدراك ذلك يقينًا، فلا يُفاجأ بعد الفرح بترح، وبعد السعادة بألم ونكد، لكن على المؤمن أن يوطِّن نفسه على تحمل كل ما يصيبه، ويتذكر قول الرسول لأبي بكر رضي الله عنه: ((يا أبا بكر، ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! أليس يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تُجزون به)) ، وقوله : ((وإن الفَرَجَ مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا)) ، وقول الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6]، وفي هذا بشارة أنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، ولن يغلب عسرٌ يسرين. فالحمد لله.
فمن أسباب الانتحار ـ عباد الله ـ أن علاقة البعض مع ربه أشبه ما تكون علاقة نفعية، فيظل يدعو ربه لضرٍ نزل به أو حاجة يرجوها، فإذا نال مطلوبه توقف وفترت صلته بالله، وكان المتعين عليه أن يواصل ويستمر في كثرة تضرعه لربه في السراء والضراء، فليس لأحد غنى عن الله تعالى، ومن تعرّف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة. ومن التضرع المداومة على الأذكار اليومية الثابتة عن الرسول في كل مناسبة والحرصُ عليها، ومنها قراءة سور المعوذات وغيرها مما أثبته العلماء في الكتب والكتيبات الخاصة بالأذكار.
السبب الثاني من أسباب الانتحار: كثرة الأمراض النفسية وفشوها، بدليل كثرة العيادات النفسية والأطباء النفسيين، بل وامتهان القراءة على المرضى حتى لو لم يكن القارئ مؤهلاً لذلك، الأمر الذي أضاف إلى قوائم المرضى النفسيين نوعيتين من الناس هما: المُقرَئ عليه، والقارئ نفسه الذي كثيرًا ما هو بحاجة إلى من يقرأ عليه، نسأل الله العافية.
والسبب الثالث: اشتغال النفس بحال الآخرين ومراقبتهم والغفلةُ عن نفسه، وانشغالهُ بالآخرين يوقعه في محاذير ومخاطر كثيرة، منها تركه نفع نفسه والوقوع فيما لا يعنيه، والصواب والسنة والخير والراحة في تركه ما لا يعنيه، و((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) كما صح عن الصادق المصدوق ، وصح عنه أيضًا: ((احرص على ما ينفعك)).
والسبب الرابع: أن بعض العمال الذين تغرَّبوا عن أهلهم وأوطانهم يظنّ أحدهم أنه سيجمع ثروةً عظيمة عما قريب، فإذا هو مرهقٌ بالديون، إما لقلة راتبه، أو ظلم كفيله له بتأخيره صرف راتبه، أو أن كفيله يسيبه حرًا ويفرض عليه مبلغًا شهريًا، فيعجز عنه، مما يسبب له إحباطًا، قد يلجأ بعضهم إلى الانتحار هروبًا من بحر الهموم الذي يسبح فيه.
والسبب الخامس: أن بعض الشباب له طموحاتٌ تعانق السحاب؛ لكنه في الوقت نفسه لا يقدّم عملاً، أو أنه يكدّ ويكدح ويلهث ولكن دون المستوى الذي يؤمله، فيصاب هو الآخر بإحباط، فيوحي إليه الشيطان أن الحل الأفضل له التخلص وسرعة الخروج من هذه الدنيا.
والسبب السادس: أن بعض الناس يتوسع في مصاريفه المعيشية، فيُثْقَل بالديون مقابل عدم وجود دخل يغطي ويقضي ديونه، فإذا اجتمع مع ذلك غلبة شيطان وزوجةُ السوء ضاقت عليه الدنيا بما رحبت.
والسبب السابع: سوء العشرة الزوجية وتمكّن الخلافات وكثرة الخصومات بين الزوجين، بحيث تفرز جوًا لا يطاق من القلق، يرى أحدهما أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو الانتحار.
والسبب الثامن وهو من الأهمية بمكان: ذلكم أن يقترف شخص ذكرًا أو أنثى ذنوبًا كبيرة كالزنا، ثم يحرقه ألم المعصية ولا يجرؤ أن يسلّم نفسه للقضاء الشرعي لإقامة الحد عليه، كما أنه يضعف عن إحداث توبة صادقة بينه وبين الله تعالى، فيعمد إلى إقامة الحد على نفسه بالانتحار.
والسبب التاسع: وهو طغيان المادة على أذهان الكثيرين، يدفعهم أن تكون حساباته مادية بحتة، فإذا هو يسعى ليلاً ونهارًا في سبيل رفع مستواه المعيشي، ثم يجد نفسه في نهاية الأمر أنه لم ينل أربه، فييْأَس ويظن أن كل جهد يقدمه عبثٌ لا فائدة فيه.
هذه ـ أيها المسلمون ـ بعض أسباب الانتحار، وهناك غيرها أيضًا.
يظن المنتحر أنه ترك الشقاء والتعب، ويظن أنه سيجد الراحة بعد قتل نفسه، ولم يدرِ ماذا وراء القبر، والمرحلةَ التي هو مقبلٌ عليها، إنها الشقاء الطويل والعذابُ الأليم الذي يهون أمامه كَبَدُ الدنيا ونصبها. فما حكم الانتحار؟
من المعلوم أن نفس الإنسان ليست ملكًا له على وجه الحقيقة، وإنما هي بمثابة الوديعة أو العارية عنده، لأنها ملك خالقها وهو الله جل جلاله، وليس من حق الإنسان وهو بمثابة الوديع أو المستعير إتلاف ما استودعه الله إلا إذا أذِن له الله تعالى بذلك كما في الجهاد.
وقد دلَّ على تحريم الانتحار قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء: 29]، وما جاء في السنة من رواية الإمام مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً أبلى بلاءً حسنًا في قتال المشركين، فقال بعض المسلمين: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله : ((أما إنه من أهل النار)) ، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك؟)) قال الرجل: الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك، وذكر قصته معه، وأنه قتل نفسه نهاية الأمر.
بارك الله لنا في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الرؤوف الرحيم الرحمن، الكريم الحكيم المنان، ذي الجلال والإكرام، لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يتركهم سدى، وإنما ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في خلقه وحكمه وتدبيره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الانتحار حرام في شرع الإسلام؛ لأنه إتلاف للنفس ممن لا يملكها، وبغير إذن من مالكها، وفي الانتحار جبنٌ وفرارٌ من مسؤولية المسلم في الحياة؛ وهي الإسهام في إقامة دين الله تعالى في الأرض.
روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((من قتل نفسه بشيء عُذب به في نار جهنم)). قال الحافظ ابن حجر: "جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه ـ أي: يطعن بها بطنه ـ في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه ـ أي: يشربه في تمهل ويتجرعه ـ في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)).
والخلود الوارد في الحديث إما أنه محمولٌ على من فعل ذلك مستحلاً مع علمه بالتحريم، فهذا استحل شيئًا حرمه الله تعالى، فهو إذًا كافر، وعقوبة الكافر الخلود في النار، أو أن المراد بالخلود طولُ المكث في نار جهنم لا الإقامة الدائمة فيها، أجارنا الله منها. ومن يستطيع تحَمُّل لسعة من لسعاتها؟! فكيف بالمكث فيها ولو لحظات؟! وما بالكم بالمكث فيها طويلاً؟! فولله، إنه لشرٌ وعذابٌ كافٍ. أو أن المراد بالخلود الوارد في الحديث أن جزاء قاتل نفسِه الخلودُ، ولكن تكرم الله تعالى فأخبر أنه لا يخلد فيها مسلم. وكل الأقوال الثلاثة أقل ما فيها المكث والبقاء في النار طويلاً الله أعلم بمدَّته.
وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((خرج برجلٍ فيمن كان قبلكم قرحة، فلما آذته انتزع سهمًا من كنانته فنكأها ـ أي: قشرها وخرقها وفتحها استعجالاً للموت ـ فلم يرقأ الدم ـ أي: لم ينقطع ـ حتى مات، قال ربكم: قد حرمت عليه الجنة)).
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله...
(1/5155)
أصول لا بد منها للثبات في المحن والفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
4/11/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الفتن في آخر الزمان. 2- ظهور الدين وغلبة الإسلام. 3- الطائفة المنصورة. 4- إهلاك الله تعالى لمكذبي الرسل قبل نبينا محمد. 5- الثقة بنصر الله في الشدة والرخاء. 6- لن يرضى أهل الكتاب عنا حتى نتبع ملتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، أخبرنا نبينا محمد وهو الصادق المصدوق أن في آخر الزمان فتنًا كقطع الليل المظلم، فتنٌ يفتتن بها العالم والصالح والحليم، فما بالك بمن دونهم؟! فتن لا عاصم منها بعد الله عز وجل إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية ومعرفةُ أصول ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
وإليكم أصولاً خمسة ينبغي أن لا تغيب عن ذهن المؤمن ولا عن قلبه، لعله يتسلى بها، وتكونُ عونا له على الثبات في الفتن والمحن، عصمنا الله وإياكم جميعًا من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن:
الأصل الأول: أن الله عز وجل إنما أرسل محمدًا بهذا الدين الإسلام ليظهره على كل الأديان، قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9]، ولن يقبل الله أحدًا يوم القيامة أو ينجيه من العذاب إلا إذا جاءه مسلمًا.
فأول ما يجب عليك أن تعلمه ويتيقنه قلبك ـ أيها المسلم ـ أن هذا الدين سيظهره الله على كل دين، وأن الله تبارك وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وليبلغ ما بلغ الليل والنهار، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان أن النبي قال: ((إن الله قد زوى لي الأرض ـ أي: جمعها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها)) ، وفي حديث آخر يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي: دين الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار)) ، وهل هناك مكان في الأرض لا يبلغه الليل والنهار؟! ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ـ أي: بادية وحاضرة ـ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الاسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
والمعنى: أن هذا الدين سيبلغ وينتشر ويدخل كل بيت في المدن وغيرها وفي الحاضرة والبادية، بأحد خيارين: إما بعزٍ فيُسْلم أهل ذلك البلد ويؤمنون بالله واليوم الآخر فيعزهم الله سبحانه، وإما بذل فيُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أذلاء. يقول تميم الداري وهو من صحابة رسول الله وقد كان نصرانيًا، يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية.
إذًا فلتعلم ـ أيها المؤمن ـ أن الله ما أنزل هذا الدين ولا أرسل رسوله إلا ليظهره على الدين كله، وأنه بالغ ما بلغ الليل والنهار، فاحرص على أن تتشرف بالإسهام والمساهمة في ذلك المشروع الذي لا بد أن يتم ويقوم، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 6]، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21].
وأما الأصل الثاني: فلتعلم ـ أيها المسلم ـ أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة مهما كثرت الفتن، ومهما قل الخير ونعق النفاق وقام سوقه، فإن الله عز وجل قضى وهو الحكيم الرحيم أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، طائفة على ما كان عليه النبي وأصحابه في العقيدة والشرع والسلوك. ومعرفة هذا الأصل كفيل أن يؤمن للمؤمن انشراح صدره، ويدفعه إلى الحرص والسعي لأن يكون من هذه الطائفة طائفة الغرباء، الذين يُصلحون ما أفسد الناس، أو يَصلحون إذا فسد الناس.
وأما الأصل الثالث: فهو أن الله عز وجل وهو الحكيم العليم قضى أن يعذب من يكذب أنبياءه ورسله، فما من نبي كذبه قومه وآذوه إلا عذبهم الله عز وجل، فأرسل على قوم ريحًا، وخسف بآخرين، وأمطر حجارة من السماء على أقوام، يعذب الله كل أمة تكذب رسله إلا أمة محمد ، فقد قضى تبارك وتعالى وشرع أن يكون هلاكُ أعدائنا بعد أن نقوم بما أوجب علينا سبحانه بقوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14]، فبين جل وعز أنه يتعين على أمة محمد أن تقاتل أعداءها، فإن هي فعلت فإن الله يعذب أعداءها، ولكن بأيدي المؤمنين.
وهذه سنة ينبغي للعبد أن يضعها نصب عينيه، فلا يمكن هلاك الأعداء ودحرهم وكف بأسهم دون جهد وعناء وتضحية من المؤمنين، ولا ينتظر المؤمنون صاعقة تنزل من السماء دون أن يأخذوا بالأسباب ويُعدوا ما استطاعوا من قوة ويقاتلوا أعداء الله عز وجل، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ. ولتتذكروا ما وقع في غزوة الأحزاب، إذ كان النبي وأصحابه في ضعف وعوز، وكان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه من الجوع، فتألبت عليه الأحزاب، وجاءته قريش بعشرة آلاف مقاتل يريدون أن يقتلوا تلك العصابة المؤمنة، فلما أخذ المؤمنون بالأسباب فحفروا الخندق وحصنوا المدينة وأعدوا السلاح نصرهم الله عز وجل، وسلط على أعدائهم ريحًا لا يستقر معها قِدْر على نار ولا يستضيئون بنار، حتى قال قائد المشركين لمن معه: لا مقام لكم، فأخزاهم الله عز وجل وردهم بعد أن قام المؤمنون بكل ما يستطيعونه من جهد.
وثمةَ ملمح مهم في الإعداد قد يغيب عن بال الكثيرين؛ ألا وهو معرفة ما لدى العدو من قوة، وعزمه على المواجهة، ومدى إمكانية استخدام ما لديه من سلاح، وهل العدو على معرفة وعلم بما لدى المسمين من قوة، إلى آخر ما هنالك بما هو داخل في هذا المعنى. وأيضًا الاستعداد النفسي والتربوي والعسكري لكافة الجنود المسلمين.
الأصل الرابع: أن تعلم ـ أيها المسلم ـ أن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء، فهذا أمرٌ يستطيعه كل أحد، من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وأمان ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن المحك الحقيقي للإيمان بوعد الله أن تؤمن وتستشعر بأن النصر قادم لا محالة وأنت في الشدة بل وفي قمة الشدة، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
ومن تأمل سيرة المصطفى وجد أمرًا عجبًا؛ فهذا سراقة بن مالك وهو يطارد النبي والنبي طريد لا يملك شيئًا يَعِدُ سراقة بسواري كسرى، ولما جاءه عدي بن حاتم قال له: ((ما منعك أن تسلم؟)) أو قال له: ((أما إني أعلم ما يمنعك من الإسلام، تقول: اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب)) أي: تخشى ـ يا عدي ـ أن تنضم إلى فئة ضعيفة، فبشره النبي وقال: ((أتعرف الحيرة؟)) قال: سمعت بها وما رأيتها، فأخبره أن المرأة تسافر من الحيرة إلى مكة تطوف بالبيت لا تخاف أحدًا، وقال له: ((تعرف كسرى بن هرمز؟ ستفتح مدائنه وينال أمتي كنوزه)) أو كما قال.
ويوم الأحزاب ـ معاشر المؤمنين ـ لما أمر النبي أصحابه بحفر الخندق، فعرض للصحابة رضي الله عنهم صخرة في أثناء الحفر، عجزت عنها معاولهم، قال البراء بن عازب: فشكونا إلى رسول الله ، وجاء رسول الله ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: ((بسم الله)) ، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا)) ، ثم قال: ((بسم الله)) ، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا)) ، ثم قال: ((بسم الله)) ، وضرب الثالثة فقلع بقية الحجر فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)). فبشر النبي أصحابه والأحزابُ يحيطون بهم وهم ضعفاء مستضعفون واليهود من حولهم، بشرهم بفتوحات ثلاث.
ولما قال سحرة فرعون: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف: 121-124]، ولما أوذي بنو إسرائيل واضطهد من اتبع موسى وآمن بالله رب العالمين قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]. ففي ذروة الشدة وغاية الضعف المادي لوح لهم موسى بوراثَة الأرض.
وهذا هدي المؤمن، ينبغي أن يثق بنصر الله عز وجل وفتحه، وأنه آت لا محالة وقت الشدة ووقت العسرة، لا وقت الرخاء واليسر والأمن، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فالأصل الخامس: الذي يستأنس به العبد المؤمن في زمن الفتن والمحن أن يتذكر دائمًا أمرًا نصّ عليه المولى جل وعلا، وهو أنه مهما فعل المؤمن ومهما قدم من تنازلات فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله عز وجل إلا في حالة واحدة بينها ربنا لنبيه بقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120].
فتلك هي العلة الأصلية، ليس الذي ينقص اليهود والنصارى هو البرهان، وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأن دين الإسلام هو الحق، فلو قدّمت إليهم يا محمد ويا أيها المسلمون من بعده، لو قدمتم إليهم ما قدمتم ولو توددتم إليهم ما توددتم لن يرضيهم من هذا كله شيء؛ إلا أن تتبعوا ملتهم وتتركوا ما معكم من الحق، وحقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وكل زمان ضد المسلمين هي معركة العقيدة مهما أُلبست من قناع أو لُونت بلون أو رفعت لها أعلامٌ وشعارات، فهي معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، والثمن الوحيد الذي يرتضونه ويقبلونه هو اتباع ملتهم، وما سواه فمرفوض ومردود عندهم.
ولكن هل يتم لهم ذلك؟ والجواب: قد ينجرف معهم من ينجرف، وينحرف من ينحرف، ويسارع فيهم من يسارع، دين محمد سيبقى ويعلو، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].
سيتم هذا النور، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وافق مجلس الأمن وهيئة الأمم أم لم يوافقوا، رضيت أمريكا وأوربا أو غضبوا، سيبلغ دين محمد كل مكان في الأرض، وسيصل إلى كل بيت، فيدخل فيه من سبقت لهم السعادة، ويعرض عنه من قُدر عليه الشقاء.
إن الدافع ـ معاشر المؤمنين ـ إلى تذكيركم بما سبق هو حالة العالم اليوم وتعالي الحملة الصليبية اليهودية على المسلمين واشتداد وطأتها تحت مسمى محاربة الإرهاب وغطرسةُ النصارى واليهود، فأمريكا تسرح وتمرح في العالم برًا وبحرًا وجوًا كيف تشاء، وبدون إذن مسبق ولا تنسيق مع البلد الذي تريد أن تتعقب فيه ما يسمى بالإرهابيين. لقد أعلنوا في بداية حملتهم النصرانية اليهودية أن ستين بلدًا في العالم مستهدفون بحملتهم، ثم بين كل فترة وأخرى يعلنون عن اسم جمعية من الجمعيات الخيرية الإغاثية أو الدعوية أنها تدعم الإرهاب لِتُجمد أرصدتها وتغلق مكاتبها في كل مكان، بل ربما سعوا في القبض على أفرادها أو بعضهم للتحقيق معهم! هل يريد اليهود والنصارى أن لا يدعو أحد إلى دين الإسلام أو يعمل أحد في هيئات الإغاثة والجمعيات الخيرية أو يغيث مناطق المسلمين المنكوبة إلا بعد إذن رسمي منهم والحصول على ترخيص منهم؟! وإن كان لا بدّ من دعاة فليكن دعوة إلى إسلام على الطريقة الأمريكية! هكذا يظنون، ولهذا العِوَج يخطّطون، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]، وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 122، 123].
اللهم يا حيّ يا قيوم برحمتك نستغيث، لا إله إلا الله العظيم الحليم...
(1/5156)
كره الحق سبب صارف عن قبوله
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
15/1/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موافقة الفطر السليمة لما جاء به النبي. 2- طبيعة المكذبين والمنافقين واحدة في اتهامهم للأنبياء والمصلحين. 3- كراهية الحق وبغض أهله من أبرز صفات المنافقين في كل عصر ومصر. 4- حال النبي مع اتهامات كفار قريش. 5- الوصية بالصبر على الأذى. 6- ثمار التمرد على الشرائع ومحاربة الفضيلة. 7- لمحة لما يجري في فلسطين وواجبنا تجاه ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن ما جاء به محمد لا يملك من يتدبره أن يظلّ معرضًا عنه؛ لأن فيه من الجمال والكمال وفيه من التناسق والجاذبية وفيه من موافقة الفطرة وغذاء القلب وزاد الفكر وفيه من قويم المناهج ومحكم التشريع ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها.
وإنما شبهة من أعرض عنه إنما هي كراهية أكثرهم للحق، ومرض قلوبهم التي لا تستروح إلا النتن من الأفكار والأنظمة، قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70]، والمعنى: أنه ليس بمجنون بل هو رسولٌ كريم، جاء بالحق الواضح المؤيد بالمعجزات، الذي يعرف كل عاقل أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق. ونفْيُ الجنون عنه تأكّد في مواضع أخرى: في قوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22]، وفي قوله: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2].
ومحاولة صرف الناس عن الأنبياء باتهامهم بالجنون لم يكن محمدٌ أولَ من اتهم بذلك، بل سبقه إخوانه من الأنبياء، فقال قوم نوح عنه: إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 25]، بل بينّ الله تعالى أنه لم يرسل رسولاً إلا قال قومه: إنه ساحر أو مجنون، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52، 53]، فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين على مرّ الدهور وكرّ العصور، طبيعة واحدة في استقبالهم للحق وأهله، فمشابهة بعضهم لبعض في الطغيان هو الذي جمعهم، وكأنهم تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون، ويؤكد هذا المعنى أيضًا ما جاء في سورة البقرة في قوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118]، فتشابه مقالات الكفار لرسلهم جاء من تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان وكراهيةِ الحق، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78]، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج: 72]، وذلك نتيجة شدة كراهيتهم للحق.
معاشر المسلمين، إنّ كراهيةٍَ الحق وبغضَ أهله والتنفير منهم والسعي في إلصاق التهم بهم عبر وسائل الإعلام كافة ودون حياء ولا خجل أمرٌ ليس جديدًا، بل هو عقيدة الكافرين والمنافقين ومن في قلوبهم مرض، لكن الذي يتعين على المسلم أن لا يهوله الأمر أو يُقعده ويسلِمه، وأن لا يحفل بالمعاندين وعنادهم، ولا يترددَ أو يشكَ بصحة ما هو عليه، بل يثبتُ ويوقنُ ويصبر ويصابر، ويمضي في التذكير والدعوة مهما أعرض المعرضون وكذّب المكذبون، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وما أكثرهم ولله الحمد والمنة، وهم في ازدياد.
وشراسة الحملة الصليبية على المسلمين الآن وما يحشد لها من حشود على كافة الأصعدة العسكرية منها والسياسية والتعليمية والإعلامية تعكس قوة تنامي الإسلام وانتشارِه، فهو وإن كان على الأصعدة الرسمية عالميًا يتراجع وينحسر ويتنازل أهله، إلا أنه يسري ويتوسع ويتنامى في صفوف شعوب العالم قاطبة، فاصبر أيها المؤمن، وثق بما أنت عليه من الحق.
ويا أيها الداعية، واصل مسيرك في الإصلاح، واعلم أيضًا أن الهدى والضلال خارجان عن وظيفة الدعوة، فوظيفتك الدعوة، أما الهدى والضلال فأمرهما إلى الله ليس إليك، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22].
أيها المؤمنون، إن السخرية والاستهزاء مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول، ويزيد ذلك إيلامًا إذا كان المستهدف ضعيفًا.
وإن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا عن محمد : إنه مجنون وكذاب وإنما يُعلّمه بشر، ويقولون عنه: ساحر وكاهن وشاعر، ويصبّون عليه ألوان الشتائم الغليظة، يقولون هذا عنه مع أنهم أعرف الناس برجاحة عقله حتى حكَّموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام، وهم الذين لقبوه بالأمين، وظلّوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته، ولم يعرفوا أن يسجلوا عليه كِذبةً واحدة قبل البعثة، فكيف يكذب على الله تعالى؟!
ولشدة أثر هذه الاتهامات على نفس الرسول وعلى المؤمنين به ثبّت الله نبيه والمؤمنين به إلى يوم القيامة بقسم أقسم به سبحانه في كتابه الكريم بقوله: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 1، 2]، فلا تعجب ـ أيها المؤمن ـ حين تسمع الاتهامات في هذا العصر موجهةً إلى المصلحين والدعاة والعلماء عبر وسائل الإعلام واصفةً إياهم أنهم متخلفون ورجعيّون وظلاميون وإرهابيون ومزعزعو أمن وتجّار مخدّرات وسفَكَة دماء ولا يعرفون فن السياسية والحوار، وربما اتهموا أيضًا في أعراضهم، في الوقت الذي يعلم العدو قبل الصديق أن المسلم الداعية أبعد النّاس عن كل تلك الاتهامات وأمثالها، لكن العجب يزول حينما نعلم أن محمدًا وإخوانه من الأنبياء لقوا ذلك وذاقوه، وحين اشتد أثر تلك الاتهامات على نفسه سلاَّه ربه وواساه، وأثنى عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، وهذه الآية نزلت في مكة والنبي ملاحق مطارد لا يملك من الوسائل المادية شيئًا يدفع بها تلك التهم، فجاءت هذه الشهادة له من ربه لتكسر كل قلم تعوَّد على تسطير السب والشتائم والتهم له ، فيا عجبًا منه كيف ظلت نفسه متوازنة ومتماسكة تحت ضغط ذلك المدح الذي جاءها من الله سبحانه العليِّ الكبير وسُطِّرت بشأنها آيات تتلى إلى يوم القيامة! ويا عجبًا منه حين لا يتكبر ولا يتعالى على الخلق ولا ينتفخ أو يتعاظم وقد سمع ما سمع من الثناء! لكنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع أعداء الدعوة الذين رموه بذلك البهت اللئيم، ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين بقوله سبحانه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم: 5، 6]، وهو وعدٌ من الله تعالى بالطمأنينة لرسوله والمؤمنين به، ووعيد وتهديد للمناوئين المفترين عليه، يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44، 45].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وجزيل نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وفي ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها المؤمن الواثق المطمئن، قل للشامتين بالمؤمنين، وقل للمنافقين أيًا كان شكل نفاقهم، وقل للكافرين أيًا كانوا: مهلاً، فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومن يكون المفتون، وسيعلم الكفار لمن تكون له عاقبة الدار.
لقد كان من مقتضيات حقيقةِ أن الله خلق الخلق وعلّمهم ورزقهم وأكرمهم أن يعرفوا نعمة ربهم ويشكروه عليها، خاصة أنهم راجعون إليه، ومحاسِبهم عليها، غير أن الأشقياء من بني آدم يطغون ويفجرون ويتكبرون ويبغون في الأرض، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة: 205]. يفسد ابن آدم حين ينحي شرع الله عن الحكم، وحين يظلم الضعفاء، إنه يفسد حين يسعى بنهمٍ وحرصٍ إلى التمرّد ونزع الحياء وفوضوية الجنس، ويظن أن هذا سينفعه ويجلب له السعادة والراحة وطمأنينة البال والأمن، يسعى إلى ذلك، ويظل يسعى وهو يعلم أن البشرية جرّبت تلك الفوضى فخسِرت، ويعلم أنَّ كلّ من بنى حضارته على العهر وخلع الحياء فمآله إلى الضعف والانهيار، ثم يوم القيامة يُدعى إلى النار، فَلْيَدْعُ نَادِيَه [العلق: 17]، وليستفزع حينها بصحبه وحزبه ليرى أنهم سبقوه إلى جهنم، فماذا كسب؟! وماذا نفعه كدُّه وحرصه؟!
أيها المسلمون، فجرَ هذا اليوم، بل من الأمس واليهود في فلسطين يحشدون حشودهم على المدن الفلسطينية بما لم يسبق له مثيل، وألغوا الإجازات الرسمية لجميع العسكريين، واستدعوا قوات الاحتياط، وأعلنوا أن العملية العسكرية هذه ستطال المدن الفلسطينية كلها، وتطول مدتها، ولذلك ألغوا إجازة عيد الفصح الذي يبدأ بعد أسبوعين رغم قداسته عندهم؛ مما يؤكد عزمهم على دموية هذه الحملة، ومع أن الإخوة الفلسطينيين يقومون بجهود مشكورة في مقاومة العدو والتصدي له وعدم الاستسلام ويوقعون فيه إصابات بالغة الأثر إلا أن ذلك لا يسقط واجب المسلمين نحوهم بكافة أنواع الدعم، ثبت الله أقدام المجاهدين في سبيله وأعلى كلمته.
(1/5157)
من صفات المنافقين حمقهم في تقديرهم قوة المسلمين (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
أمراض القلوب, السيرة النبوية, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
20/2/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان معنى النفاق لغة. 2- فضح القرآن الكريم للمنافقين وكشف دسائسهم. 3- استمرار عداء المنافقين للإسلام والمسلمين. 4- من أبرز صفات المنافقين تخبطهم في تقدير قوة المسلمين. 5- دين الله تعالى ليس مربوطا بشخص معين أو جهة معينة. 6- قصة عبد الله بن أبي حينما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. 7- قصة بناء مسجد الضرار. 8- قوة حركات النفاق مع قوة الدعوة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، فإنه لا تكاد تخلو سورةٌ مدنية من ذكر المنافقين؛ تلميحًا أو تصريحًا وصفًا لأحوالهم وفضحًا لمكائدهم، بل نزلت سورةٌ تحمل اسمهم، ويكاد الحديث فيها يقتصر عليهم، وما ذاك إلا لعِظَم خطرِهم وشدّة ضررهم على المسلمين، إذ هم العدوُّ الأول للمسلمين وللدعوة الإسلامية، هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: 4].
والنفاق من النَفَق، وهو السِّرب في الأرض له مَخْلص إلى موضع آخر كجُحر اليربوع. واليربوع يحفر حُفيرة ثم يسدُّ بابها بترابها، ويقال لها: القاصعاء، ثم يحفر حُفَرًا أخرى يقال لها: النافقاء، فإذا هُو جم وطُلب في نافقائه خرج من قاصعائه. والمنافق كذلك سُمِّي منافقًا لأنه يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من الوجه الذي دخل فيه، فيُلبِّسُ على الناس ويغترّون به، لذا جعل الله تعالى عقوبته وعذابه يوم القيامة أشد أنواع العذاب، فهو في الدرك الأسفل من النار، أجارنا الله منها.
عباد الله، الآيات التي وردت عن المنافقين في القرآن الكريم تتضمن حملة عنيفة عليهم، كاشفةً أكاذيبهم ودسائسهم ومؤامراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب. والمنافقون الذين كانوا بالمدينة زمن الرسول ليسوا من أجناس أخرى، بل هم من قبائل العرب الخلَّص، وكذا من جاء بعدهم. وحملوا أسماء أخرى أطلقها عليهم علماء المسلمين، كالفِرَق الباطنية التي تظهر الإسلام لكنها تسعى جاهدة للانقضاض على المسلمين، كان كثير من أولئك عربًا أيضًا؛ لكن هل توقفت حركة النفاق في هذا العصر؟ سؤالٌ ربما يرد في أذهان البعض.
والجواب: لم تتوقف، بل ازدادت ضراوة؛ لأنها من جانب سَخَّرت إمكانيات هذا العصر لخدمة أهدافهم في هدم الإسلام وتقويض أركانه، الأمر الذي يجعل الكفار الصرحاء يسعون جاهدين في مدِّهم ودعمهم وتزويدهم بكل ما يحتاجون. والعامل الثاني الذي يُذكي حركة النفاق ما يراه المنافقون من علو هذا الدين وسعة وسرعة انتشاره وكثرة الداخلين فيه رغم كل ما يُكاد له، وهذا يغيظهم ويضرم نار العداوة والحقد والكراهية في نفوسهم.
وإن كل تجمع أو تيار فكري أو حزب مهما رفع من راية وحمل من اسم يعرض برامج إصلاحية تحارب الإسلام أو تقصيه وتبعده وتهمشه ولا توافق على حضوره في الخطط والتنفيذ هي في حقيقة أمرها وجهٌ من أوجه النفاق وإن تظاهر أصحابها بالإسلام، وكانت أسماؤهم إسلامية، وتضمّنت برامجهم بعض النتف والمظاهر الإسلامية التي أشبه ما تكون بالطقوس في الديانات الأخرى، لا تقدم شيئًا ولا تؤخر، ولا يعتمد عليها تقويم، ولا يعاقب تاركها ولا يثاب فاعلها، غاية تأثيرها إن أثرت على استحياء وامتعاض التذكير بأنهم من أصول إسلامية! وسرعان ما ينقشع ذلك الأثر. ترى المنافق الذي يتظاهر بالإسلام والكافرَ فلا تفرق بينهما في المظهر ولا المشاعر ولا في المحبة والبغض، ولا في العلاقات ولا التفكير والاهتمام ولا في التربية، ولا فرق بينهما إلا في الاسم فقط.
معاشر المؤمنين، من أبرز صفات المنافقين خلطهم وتخبطهم في تقدير وتقييم قوة المسلمين، يرصدون الدعوة ويراقبون في ظنهم تحركات أهلها وما يجري من نشاط دعوي وإصلاحي، ويحسبون أن الأمر بعد رحيل بعض رموز أهل العلم والدعوة والفضل قد خلا للمنافقين يبيضون ويفرخون كما يشاؤون، والحق أن الأمر خلاف ما يظنّون ويحسبون، فهذه الأمة ولود، ودين الله ليس مربوطًا بشخص ولا معلقًا مصيره برجل أو جهةٍ رسميةٍ كانت أو غيرها، ولو كان معلقًا مصيره برجل لانمحى وزال برحيل محمد المبلِّغ الأول عن ربه، لكنه مات وظل الدين حيًا، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144]، وتمت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. والمنافقون يُخطئون التقدير كثيرًا، ورصدهم فيه تخبط ويفتقد الدقة؛ لأن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، فيرون أشباحًا ويتوهمونها أجسامًا، وربما رأوا أجسامًا فيظنونها أشباحً؛ لأنّ الله جعل على بصرهم غشاوة.
يُعمِيهم الحقد ويَصمّهم، ولا يملكون الشجاعة التي يجرؤون بها على مقابلة الدين بالإنكار الصريح، فيضطرهم الجبن إلى إظهار وإعلان خلاف حقيقتهم، وإلى الحذلقة بإيقاع الدس حينًا، والتشكيك حينًا، وتنقص علماء المسلمين حينًا، والسعي المحموم في تنحية الشرع وإفساد العقيدة والسلوك والأخلاق باسم الإصلاح والتطوير، وشاهدًا على تخبطهم وسوء تقديرهم وتقييمهم للساحة الإسلامية وقوة أهلها.
أسوق نموذجًا من الصدر الأول من عهد النبوة، والرسول لا زال حيًا، والوحي لا زال يتدفق، ومع ذلك تسوِّل لهم نفوسهم المريضة وطبيعتهم الحمقاء ويزين لهم الشيطان أنهم قادرون على الانقضاض على الدعوة وأهلها، وما هي إلا عمليات وإلقاءات يقذفون بها في المجتمع المسلم؛ ليقع فريسة بين أيديهم، هكذا يظنون ويحلمون.
روى ابن إسحاق في السيرة ـ وأصل الخبر أورده البخاري في الصحيح ـ في حديثه عن غزوة بني المصطلق في ماء المريسيع سنة ستٍ من الهجرة، قال: فبينا رسول على ذلك الماء ـ أي: بعد الغزوة ـ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غِفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدَث، فقال: أوَقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتوهم أموالكم، وأما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله ، وذلك عند فراغ رسول الله من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب؛ فقال: مُر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله : ((فكيف ـ يا عمر ـ إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟! لا ولكن أذِّن بالرحيل)) ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان ابن أبي في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول الله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على ابن أبيّ بن سلول ودفعًا عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله وسار لقيه أُسيد بن حضير من الأنصار، فحيّاه بتحية النبوة وسلّم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رُحتَ في ساعة مبكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال رسول الله : ((أوما بلغك ما قال صاحبكم؟)) قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: ((عبد الله بن أبيّ)) ، قال: وما قال؟ قال: ((زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)) ، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليُتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكه. انتهى كلام ابن إسحاق رحمه الله.
كل إناءٍ بما فيه ينضح، تمكّن داء العظمة من زعيم المنافقين، فلم يتمالك كتمان ما كان يخفيه ويكنه من بغضٍ للإسلام ورسوله وأهله، فقذف لسانُه حِممًا كانت تعتلج في صدره طالما أخفاها، لكنه أخطأ التقدير، وظن أتباعه الأقلية النفعيين يغنون عنه شيئًا، فإذا به يفاجأ بانخناس صحبه وانقلاب المجتمع ضده، حتى إن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول حين علم بمقولة أبيه سارع إلى رسول قائلاً: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. يقول الابن رضي الله عنه هذا الكلام وهو المعروف بشدة بِرِّه بأبيه واحترامه البالغ له، لكن دين الله مقدم على الأب والأم والعشيرة وكل شيء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيز المنان، القوي العظيم الشان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما يكون وما كان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: شاهد آخر على تخبط المنافقين وحمقهم وخلطهم في تقييم وقياس ما لدى الصف المسلم من القوة: ما وقع في غزوة تبوك والرسول أيضًا لا زال حيًا، ونزول القرآن كذلك لم ينقطع، فقد ابتنى المنافقون مسجدًا بالمدينة قبيل غزوة تبوك ليجتمعوا فيه؛ مكايدَة للمسلمين ومضرَّةً بهم، وزعموا أنهم بنوه للمنفعة والتوسعة على المسلمين، وقد أرادوا أن يفرقوا اجتماع المؤمنين في مسجد الرسول بالمدينة بصرف بعضهم للصلاة فيه، وليتسنى لهم نفث سمومهم ومحاولة استمالة غيرهم إلى صفهم، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107] أي: إعدادًا وإعانة للمحاربين الله ورسوله ممن شرقوا بهذا الدين الإسلامي ورفضوا الدخول فيه كبرًا وشقاءً، عياذًا بالله من الشقاء. وظنوا أنهم قادرون على إنفاذ مخططهم، فحين فشل أبو عامر الراهب ـ وكان من الخزرج ـ في هزيمة الرسول يوم أحد وحاول قتله التفت من طريق آخر، فكتب إلى منافقين من أهل المدينة يَعِدهم ويُمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول ويغلبه، وأمر قومه أن يتخذوا له معقلاً يكون بمثابة المكتب يستقبلون فيه رسائله وتوجيهاته ومخططاته، وليكون مقرًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فبنوا المسجد بجوار قباء في المدينة، وأحكموا بناءه وفرغوا منه، ولإخفاء نواياهم ومقاصدهم والغرض الذي بنوه من أجله طلبوا من الرسول أن يقدم عليهم ليفتتحه ويصلي فيه، فيحتجوا بصلاته فيه على أنه أقرّ عملهم وبارك جهدهم.
هكذا يفكّرون، ويظنون بالمسلمين من الغباء الشيء الكثير، فاعتذر الرسول عن ذلك لأنه تجهّز للسفر إلى تبوك لغزو الروم هناك، لكنه لما رجع قافلاً من تبوك وكان عازمًا على الذهاب إلى ذلك المسجد نزل الوحي يمنعه من الذهاب إليه والصلاة فيه وأنه بُني حربًا لله ورسوله، فبعث الرسول من فوره جمعًا من الصحابة ليهدموه ويحرقوه؛ لأنه لم يُرد أهله إلا الإضرار والكفر، وليكون مركزًا للتعاون مع أعداء الإسلام تحت ستار الدين.
وفي الآيات بشارة عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مساجد التقوى، وأنه سينكشف ويُفضح أهله، وتطمين للمؤمنين المتطهرين العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن كل كيد يراد بهم وبدينهم مصيره الفشل والهزيمة؛ لأن مساجد التقوى أُسّست على حق وأساس راسخ، ومساجد الضرار قائمة على شفا جرف هار، على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار.
أيها المسلمون، حركة النفاق تقوى وتنشط كلما قويت الدعوة، لكنها ـ أي: حركة النفاق ـ تعمل في سراديب ودهاليز وأنفاق وفي الظلام، ولعل هذا سِرُّ قساوة ضرباتها وأذيتها، ولولا أن المؤمنين يأخذون علاجهم بوصفة نبوية ومن وحي السماء لتأخر وتفاقم جرحهم الذي أحدثه المنافقون فيهم.
فيا أيها العاملون والناصحون والدعاة وطلبة العلم، ويا أيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، سيروا وأمّلوا خيرًا وأبشروا، فليس من كان بناؤه مؤسسًا على التقوى كمن أسس بنيانه على حافة منهارة.
ثبت الله الناصحين العاملين، ورزقهم اليقين، وأبطل كيد الكائدين، إنه نعم المولى ونعم النصير...
(1/5158)
من صفات المنافقين حمقهم في تقدير قوة المسلمين (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
أمراض القلوب, الطهارة, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
5/3/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة بلية الإسلام بالمنافقين لاختلاطهم بالمسلمين واندساسهم بينهم. 2- كذب المنافقين في دعواهم ودعوتهم إلى الإسلام ظاهراً. 3- قصة عبد الله بن أبي وخطبته كل جمعة. 4- الغباء والاستغباء والحلف كذبا من صفات المنافقين حتى مع الله سبحانه. 5- فضل الوضوء وإطالة الغرة. 6- مزية هذه الأمة بخروجهم محجلين يوم القيامة من أثر الوضوء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً عن صور الخلط والتخبط وسوء التقييم الذي هو سمة من سمات المنافقين تجاه أهل الدعوة والعلم والدين، لكن قبل ذلك أحبّ أن أذكّر وأنبّه إلى أن عدد السور المدنية ثلاثون سورة، منها سبع عشرة سورة فيها ذكر المنافقين، استغرق الحديث عنهم ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية، بل إن ابن القيم رحمه الله قال: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم" اهـ.
وبلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدًا، لأنهم منسوبون إليه أي: إلى الإسلام، وهم أعداؤه في الحقيقة، بل هم العدو الأول، وإن كان كل كافر عدوًا للمسلمين. وكون المنافقين يتبوؤون المركز الأول في العداوة للمؤمنين لأن غيرهم يجاهر بكفره وعداوته، وله منهجه وعقيدته وشريعته المعلنة، وأما المنافقون فمُندسّون مع المسلمين في الديار والمنازل، ليلاً ونهارًا، يدلُّون على العورات، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر.
كان لعبد الله بن أبي مقام يقومه في مسجد رسول الله كل جمعة نظرًا لشرفه وسيادته ووجاهته في أهل المدينة، فإذا قام النبي يخطب في الناس يوم الجمعة قام ابن أبي بعد الخطبة فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا. ولما جاءت غزوة أحد وصنع رأس النفاق ما صنع من رجوعه بثلث الجيش عن القتال تخذيلاً للمسلمين لم يتخلَّ عن عمله السابق يوم الجمعة في مسجد الرسول من التظاهر بنصرته ودعوة الناس إلى السمع والطاعة لولي الأمر، لكن المسلمين هذه المرة أخذوا بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج من المسجد يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله، لكأنما قلت بُجْرًا، أي: أمرًا عظيمًا.
سجية من سجايا المنافقين لا تنفك عنهم، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7]، وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف: 198]. يظنون أهل الإيمان مثلهم غفلاً لا يفقهون ولا يدركون، ولعل هذه الصفة فيهم هي التي تدفعهم دائمًا إلى تجديد أذيتهم للمسلمين، وسعيهم الدؤوب في النيل منهم، خاصة وأن المنافقين محسوبون على المسلمين، ويعيشون بينهم ومعهم.
ولا تعجب ـ أيها المسلم ـ من حمق المنافقين، ولا تستغرب وتقول: إلى هذه الدرجة يظنون أنهم يضحكون على المسلمين؟! أو إلى هذه الدرجة هم أغبياء ويظنون غيرهم أغبياء؟! أقول لك: لا تعجب، فالأمر أكبر من ذلك؛ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18]. تعوَّدوا في الدنيا الحلف كذبًا لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال ووشايات لتَأَصِّل النفاق في كيانهم، فسرى هذا الحمق معهم ليصاحبهم إلى يوم القيامة في حضرة الله الخبير، فيحلفون له كما يحلفون للمخلوقين ظنًا منهم أنه يصدقهم! أتراهم لا يوقنون أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أم أن فيروس النفاق نخر في قلوبهم فسلبها خاصة الفهم والإدراك والتمييز؟! أمرٌ عجيب حقًا.
أيها المؤمنون، ورغم قوة كيد المنافقين إلا أن الذلة والهزيمة كتبت عليهم، وكتبت العزة والغلبة والتمكين لله ولرسوله وللمؤمنين، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21]. وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق. ولعل غلبة النفاق وأهله حينًا استجاشةٌ للإيمان، وتهييج له عند أهله؛ لتحقيق وعد الله في وقته الذي لا يتخلف، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 6]. فليطمئن المؤمنون والدعاة والمصلحون والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان عفوًا غفورا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العظيم المنان، ذي الجلال والإكرام، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فعن نُعيم المُجْمِر عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن أمتي يُدعون يوم القيامة ـ أي: ينادون للحساب ـ غُرًا محجّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرته فليفعل)) متفق عليه. يعني أن أمة محمد يأتون يوم القيامة تلمع وجوههم بياضًا ونورًا من آثار الوضوء. والمراد أن الله تعالى خصّ هذه الأمة بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيرهم؛ منّةً من الله، فله الحمد والثناء والمجد، تلك المنة أنهم يأتون يوم القيامة ووجوههم وأيديهم وأرجلهم تتلألأ نورًا وبياضًا، وذلك من آثار الوضوء الذي يفعلونه في الدنيا تعبُدًا لله عز وجل وتعظيمًا لشأن الصلاة، فهنيئًا للمصلين، ويا فوز المتوضئين، ويا لعظم خسارة المفرطين في الوضوء.
عباد الله، نبيكم يقول: من قدر على أن يطيل غُرته أي: يطيل محلَّ ذلك النور في وجهه ويديه ورجليه بالزيادة في محل التطهير فليفعل، ليزداد نوره يوم القيامة، وحليته في الجنة تبلغ حيث يبلغ الوضوء كما ورد في صحيح مسلم، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ـ وهو راوي الحديث ـ يفعل ذلك.
وكيفية إطالة الغرة أن يغسل يديه حتى يقارب المنكبين، ورجليه حتى يرفع إلى الساقين؛ استشعارًا لأهمية الوضوء، واستحضارًا لعظم أجره. لكن ليعلم المسلم أن الواجب هو غسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين فقط، وما زاد فهو سنة يفعلها أحيانًا طمعًا أن يأتي يوم القيامة غرًا محجلاً، جعلنا الله منهم. وليحذر من الوسوسة الموقعة في الإسراف المنهي عنه شرعًا وتخرجه من السنة.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5159)
إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
أحاديث مشروحة, آفات اللسان, الطهارة, الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
9/5/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح حديث ابن عباس في عذاب القبر. 2-الوعيد الشديد لمن يتهاون بأمر البول بترك الاستنزاه أو الاستبراء. 3- الوعيد لمن يمشي بالنميمة بين الناس. 4- عظم ذنب من يغتاب العلماء والمصلحين. 5- حكم وضع الجريدتين على القبر. 6- مناسبة جمع الخصلتين في حديث واحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي : ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) ، ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)) ، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلتَ هذا؟ قال: ((لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)) ، أو قال: ((إلى أن ييبسا)) رواه البخاري.
ومعنى الحديث ـ معاشر المسلمين ـ أن النبي كان يمشي ذات يومٍ بالمدينة ومعه بعض أصحابه رضي الله عنهم، فمرُّوا بقبرين، فأسمع الله تعالى نبيه صوتَ من في القبرين يعذبان، وأطلعَ سبحانه نبيَّه على سبب العذاب الذي يجري عليهما، فقال : إنهما ليعذبان بسبب أمرٍ كبير، لكنّ جملةً من الناس لا ينظرون إليه، ولا يعدُّونه كبيرًا، لأنه خفيٌ وحقير، فأراد النبي أن يوضح حقيقة الأمر بأنه كبير، نحو قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، ويؤيد هذا المعنى ما روي في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: ((يعذبان عذابًا شديدًا في ذنب هيِّن)) ، أي: هينٌ في عيون المتساهلين به. وقال بعض أهل العلم في معنى ((وما يعذبان في كبير)) أي: إن الاحتراز منه ليس كبيرًا ولا شاقًا.
عباد الله، ما المراد بقول النبي : ((لا يستتر من بوله)) ؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى: لا يستبرئ ولا يتنزه ولا يتوقّى ولا يتحفّظ من البول، فيراه يقع على جسمه أو على ملابسه ولا يهتم ولا يلتفت إليه، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم.
وذهب آخرون إلى أن معنى ((لا يستتر من بوله)) يعني: لا يستر عورته حين يتبول، لكن القول الأول أرجح كما أسلفت. وقد ورد في صحيح ابن خزيمة ما يؤكد المعنى الأول من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((أكثر عذاب القبر من البول)) ، وفي السنن من حديث أبي هريرة أيضًا: ((استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)).
أيها المؤمنون، الشق الثاني من الحديث فيه وعيد شديد أيضًا لمن يمشي بالنميمة أو لا يتورع عن الغيبة. والنميمة: نقل كلام الغير بقصد الإضرار، أما إذا اقتضى نقل الكلام فِعْلُ مصلحة أو ترك مفسدة فمندوب إليه، وربما كان واجبًا في بعض الأحيان والمواقف؛ كمن رأى شخصًا يفعل منكرًا ويجاهر به أو يسعى في نشره وإشاعته ولو خفية، فهنا يجب على من رآه أو علمه نقلُ ما يفعل ذلك الفاسق إلى من يعنيه الأمر؛ منعًا لفشوّ المنكرات بين المسلمين. وقد ورد في بعض طرق الحديث التي أخرجها البخاري في الأدب المفرد قال : ((أمّا أحدهما فكان يغتاب الناس)) ، وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح قال: مرّ النبي بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) ، وبكى، وفيه: ((وما يعذبان إلا في الغيبة والبول)). وفي المسند والطبراني أنّ النبي مرّ على قبر يُعذّب صاحبه فقال: ((إن هذا كان يأكل لحوم الناس)) ، وأكْلُ لحوم الناس يصدُق على الغيبة والنميمة، وهما محرّمتان بإجماع المسلمين، كما حكاه النووي في الأذكار، وتظاهرت الأدلة على ذلك. لكن من اغتاب صاحب فضلٍ كعالمٍ أو محتسب أو داعية أو مصلحٍ بين الناس أو متصدق ومتبرّع لمشاريع الخير ليس كمن اغتاب مجهول الحال مثلاً، وإن كانت الغيبة محرمة على كلّ أحد إلا ما استثناه الشرع.
ولشناعة وبشاعة الغيبة صورها النبي ومثلها أحسن تمثيل وأبلغه فيما رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا، وأن رجلاً قال لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه ـ يعني ماعزًا ـ فلم يدع نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب، فقال لهما النبي : ((كُلا من جيفة هذا الحمار ـ لحمار ميت ـ، فما نلتما من عِرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة)).
ويلاحظ ـ معاشر الإخوة ـ من هذا الحديث أن النبي أمر المتكلم بالغيبة والسامعَ له كليهما بالأكل من جيفة الحمار، مما يدل على تحريم سماع الغيبة، وأن الواجب في حق من سمع أحدًا يغتاب آخر أن ينكر عليه، ويذكِّره بحرمة الغيبة.
وقد عرَّف النبي الغيبة بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، وسواءٌ كان ذلك فيه أو لم يكن فيه. ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء قوله: وسواءٌ كان ذكرك له أن تعيبه في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقِه أو خَلقه أو مالهِ أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، وسواءٌ ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تبطلوا أعمالكم، وغالبوها وقاهروها في إبعادها عما يضر ولا ينفع.
اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد والغنيمة من كل برّ...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: بعد أن بيّن النبي حال صاحبي القبرين وأنهما يعذبان ثم بيّن سبب عذابهما دفعته رحمته بأمته محاولاً جهدَه أن يخفف عنهما من العذاب، فدعا بجريدة وهو العسيب الرطب كما في بعض الروايات، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، ولما سأله الصحابة رضي الله عنهم: لِمَ فعلت هذا؟ أجاب : لعله أن يُخفف عنهما العذاب ما لم تيبس الجريدتان.
وهذا الفعل أي: وضع جريدتين رطبتين على القبر من خواصه ، فشفع لهما هذه المدّة، وفَعَله فقط على قبور مخصوصَة أُطلِع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعًا على إطلاقه لفعله في كل القبور. كما أن كبار الصحابة لم يفعلوا ذلك وهم أعلم بالسنة، وعليه فلا يجوز لأحد أن يأتي بغصنين رطبين ويضعهما على قبرِ قريب له أو حبيب أو صديق رجاء أن يخفف عنه العذاب، ولا أن يغرس عليه شجرة، ولا يبني عليه قُبة تظله ونحو ذلك مما ابتدعه من لا علم لهم بالشرع، فالأمر ليس عواطف، وإنما ليس للإنسان إلا ما سعى. وقد مرَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعليه فسطاط مضروب، أي: بيت من الشعر يظلل القبر، فقال ابن عمر: يا غلام انزعه فإنما يظله عمله. رواه البخاري.
عباد الله، جانب مهمٌ في هذا الموضوع هو محل استفسار كثيرٍ ممن يسمعه، وهو هل أصحاب القبرين مسلمان أم كافران؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الظاهر من مجموع طرق الحديث أنهما كانا مسلمين، وساق أدلة كثيرة على ذلك، منها رواية عن ابن ماجة: مرَّ بقبرين جديدين، وفي المسند أنه مرَّ بالبقيع، فقال: ((من دفنتم اليوم هنا؟)) فهذه وغيرها من المرجّحات تدلّ على أنهما كانا مسلمين.
أيها المسلمون، إن أجسادنا على النار لا تقوى، فاتقوا الله تعالى وراقبوه، ولا تدعوا للشيطان فرصة يعبث في دينكم، فالأمر كما سمعتم، أمرٌ قد لا يبدو في نظر البعض أنه ذو شأن، فإذا به سبب من أسباب عذاب القبر.
ذلكم الوعيد فيمن ارتكب واحدًا من الذنبين، فما بالكم بمن وقع فيهما معًا، أي: لا يتنزه من البول ولا يتورع عن الغيبة، ومات ولم يتب من ذلك، كم سيلاقي؟! وكم سيندم؟!
وأخيرًا معاشر المؤمنين، قد يتساءل مسلم: لماذا جمع النبي بين هاتين الخصلتين في حديث واحد؟ هل هناك حكمة أو مناسبة؟ أجاب بعض أهل العلم قائلاً: إن البرزخ ـ والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو المدة التي يقضيها الميت في قبره ـ مقدمة للآخرة، وأولُ ما يُقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهّر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.
اللهم استعملنا في طاعتك، وأعنا على ذكرك وشكرك...
(1/5160)
بعض البيوع المحرمة
فقه
البيوع, قضايا فقهية معاصرة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
26/8/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم الله تعالى بمصالح العباد. 2- حرمة بيع الغرر وبيان بعض صوره. 3- بعض البيوع المحرمة بسبب اختلال تحقق الرضا والملكية. 4- تحري الحلال واجب على كل مسلم. 5- من ورع الصحابة رضي الله عنهم في الكسب والمطعم. 6- مسائل معاصرة في البيع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لا أحد أعلم بما ينفع الناس من ربهم، ولا أعرف بما يُصلح الخلق من خالقهم، فهو العليم الحكيم واللطيف الخبير، خلق الخلق لعبادته، ودلهم على هدايته وما يسعدهم، وحذَّرهم مما يضرهم، شرع من الأخلاق أكملها، وقضى من الأحكام أعدلها.
أيها المسلمون، من البيوع المنهي عنها كل بيع يتضمن غَرَرًا وجهالة، لما ورد في صحيح مسلم أن النبي نهى عن بيع الغرر. وأجمع العلماء على تحريمه، والحكمة من النهي عنه أن الله تعالى حرَّم أكلَ أموال الناس بالباطل، وهذا منها، إذ من شروط البيع معرفةُ المبيع، وبيع الغَرَر لا يتحقق فيه هذا الشرط، فجاء بطلانه لهذا السبب.
من صور بيع الغرر ـ عباد الله ـ ما يذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى في مصنفاتهم من بيع الحمل في بطن أُمّه واللبن في الضرع، وبيع الحصاة، كأن يقول: أي شاة وقعت عليها هذه الحصاة فهي لك بكذا، أو بعتك هذه الأرض إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة حين أرميها.
وبيع الملامسة من الغرر، ومنه كذلكم بيع الجمل الشارد والطير في الهواء والسمك في الماء ونحو ذلك مما يمثّل به العلماء أو لم يذكروه مما فيه غرر وجهالة.
والحاصل أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلومًا والثمنُ معلومًا، فمتى جهل أحدهما لم يصح البيع.
أيها المسلمون، من قواعد البيع تحقق الرضا والملك، فمتى اختل أحدهما لم يصح البيع، فالرضا متعين لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، وهذه الآية نص في النهي عن تعاطي الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، وأما المتاجرة المشروعة فمباحة، ولكن بشرط الرضا من الطرفين: البائع والمشتري، فمن أُكره على بيع ملكه بغير حق فالبيع باطل، ولا يحل للمشتري أن ينتفع بالمبيع، بل الواجب عليه رده إلى صاحبه حتى تطيب نفسه ببيعه، ومن أُكره على إجارة ملكه بغير حقٍ فالإجارة باطلة ولا يحل للمستأجِر أن ينتفع بالمستأجَر، بل الواجب عليه أن يتخلى عنه ويردّه لصاحبه، ولا يجوز أن يبيع المسلم شيئًا لم يملكه بعد، لما روى حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال للنبي : إن الرجل يأتيني يريد مني البيع ليس عندي، أفأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه عليه؟ فقال النبي : ((لا تبع ما ليس عندك)). وإذا اشترى شيئًا لا يجوز أن يبيعه حتى يستلمه ويقبضه؛ لأن بذلك يتحقق الملك، ولقوله : ((إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه)). وعليه فإنه يحرم ما تفعله شركات التقسيط حين تُبرم العقد مع المشتري ويوقع على سيارة معنية مثلاً قبل أن تشتريها الشركة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستقيموا في عباداتكم ومعاملاتكم على شرع الله، واعلموا أن أقلَّ الحرام يُعمي البصيرة ويضعف الدين ويقسّي القلب ويثبط الجوارح عن الطاعة ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن طلب الحلال وتحريه واجب على كل مسلم، فلن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
جاء غلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه إليه بشيءٍ فأكله، فقال له الغلام: أتدري ما هو؟ تكهّنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة، ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني ذلك، فهذا الذي أكلت، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه، ثم قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، ثم قال رحمه الله: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء. وشرب عمر لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهي على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده في فمه فاستقاء.
كل هذا وهو داخل عليهم من غير علمهم ولا اختيارهم، فيا عجبًا لحال من تعمّد أكل الحرام، أو تساهل به، والتقط الفتاوى الشاذة في تحليل ما حرم الله ليملأ به جوفه وجوف أهله وأولاده.
معاشر المسلمين، كلنا نحفظ حديث الأشعث الأغبر الذي يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك)). لقد اجتمع في هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة والسفر ما يدعو إلى رثاء حاله، تقطعت به السبل، وطال عليه السفر، واغبرت قدماه، ثم رفع يدَ الذل والخشوع إلى مولاه يناجيه ويدعو، بعد أن قطع كل العلائق الأخرى بغيره، ولكنه غَذَّى جسده على الحرام، فحيل بين دعائه والقبول، وردت يداه خائبتين.
ماذا يبقى للعبد إذا رده مولاه ورفضه وحيل بينه وبين الرحمة؟! وهذا ما حدا ببعض السلف أن يقول: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعتك حتى تنظر ما يدخل بطنك". وإن العجب كل العجب ـ أيها الإخوة ـ ممن يحتمي عن بعض الأطعمة الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار!
أيها المسلمون، مسائل في البيع يحسن التنبيه عليها، من ذلكم ما يحصل من بيع السيارات بالأجل، المسمّى بالإيجار المنتهي بالتمليك، فقد درسته هيئة كبار العلماء في المملكة وأصدرت فيه قرارًا برقم 198، ورأوا أنه غير جائز لعلل ذكروها في الفتوى لمن شاء أن يراجعها.
المسألة الثانية: إذا استدان شخص سيارةً إلى أجل فيجب الانتباه إلى خمسة أمور:
أولاً: أن تكون السيارة مملوكة للبائع قبل الاتفاق على شرائها؛ لأن النبي قال: ((لا تبع ما ليس عندك))
ثانيًا: أن يُعلم السعر والقسط الشهريّ واضحًا لا لبس فيه.
ثالثًا: أن يستلم المشتري السيارةَ وينقلَها قبل أن يبيعها لأن النبي نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
رابعًا: أن لا يبيعها على من اشتراها منه، وهذه مسألة العِينة التي حذر منها رسول الله.
خامسًا: لو عجز المستدين عن السداد فلا يجوز لصاحب الدين أن يزيد في المال ريالاً واحدًا مقابل التأخير وإلا يكون قد وقع في الربا.
المسألة الثالثة ـ أيها المؤمنون ـ هي التأمين، وقد قسمه العلماء إلى نوعين هما:
النوع الأوّل: التأمين التجاري، وهو عقد يلتزم المؤمِّن ـ أي: شركة التأمين ـ بمقتضاه أن يدفع إلى المؤمَّن له مبلغًا من المال في حال وقوع حادث عن عين مبيّنة في العقد مقابل قسطٍ سنوي يدفعه المؤمَّن له لشركة التأمين، وهذا محرم لما فيه من الجهالة وأكل أموال الناس بالباطل، ولأنه قرض جرَّ نفعًا.
والنوع الثاني: التأمين التعاوني وهو المباح، وصورته أن يجتمع عدة أشخاص مُعرَّضين لأخطار متشابهة، ويدفع كل واحد منهم اشتراكًا معينًا، وتخصّص هذه الاشتراكات لتعويض من يلحقه ضرر منهم، وإذا زاد المبلغ عن الحاجة كان للأعضاء حقٌ في استرجاعه كل بحسب حصته، فهذا مباح لأن التبرع فيه محض وليس إلزامًا.
المسألة الرابعة: لو كان على شخص دينٌ مؤجل، ثم أغناه الله تعالى، فله أن يعرض على صاحب الدين أن يخفض له في المبلغ ويعجل له السداد، وهذا مباح لما فيه من سرعة إبراء ذمة المدين، وليس داخلاً في شيء من قواعد البيوع المنهي عنها.
وفقنا الله لما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه.
الله اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، ولا تجعل لكافرٍ ولا لفاسق علينا منةً فتوده قلوبنا دونك...
(1/5161)
الإسلام والسلامة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
23/10/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السلامة مطلب دعا إليه الإسلام. 2- صور من أحكام الشريعة تتجلى فيها دعوة الإسلام لأخذ الحيطة طلبا للسلامة. 3- الإجراءات العلاجية التي بينها الشرع فيما لو وقع المحذور. 4- الشرع المطهر يقف أمام كل مظاهر الميوعة والليونة. 5- وجوب الصبر على من ابتلي بشيء من المصائب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن السلامة مطلب دعا إليه الإسلام وحض عليه، ونهى عن التعرض لما يضاده، وشدد في ذلك في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء: 29]. وصيانة النفس والعقل والمال والعرض من الدين، وهي التي يسمِّيها العلماء الضرورات الخمس التي يجب المحافظة عليها، بل إن الرسول عَدَّ مَنْ قُتل دون ماله شهيدا؛ للأهمية البالغة في سلامة المال.
وحض الشرع الحنيف على المحافظة على الأرواح والممتلكات، وعلى الوقاية من الأضرار عامة قبل وقوعها؛ وذلك بأخذ الأسباب المشروعة لاتقاء وقوع المحذور، وكذلك التعامل مع الأضرار إذا وقعت. والسنة المطهرة زاخرةٌ في تجلية هذا الأمر وتأكيده؛ من ذلكم قول الرسول : ((غطُّوا الإناء، وأوكئوا السِقَاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج)) رواه مسلم. وحذّر الرسول من ركوب البحر إذا هاج فقال: ((من ركب البحر بعد أن يرتجّ فقد برئت منه الذمة)) رواه أحمد وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
بل اعتبر الإسلام السلامة غايةً وأمنية، فعن عبيد الله بن محصن قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمنًا في سِربه ـ أي: في بيته ومجتمعه ـ معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا)) رواه الترمذي وابن ماجه. ونهى رسول الله أن يُتعاطى السيف مسلولاً، أي: خارجًا عن غمده. رواه الترمذي وأبو داود.
وإذا كان الإنسان في سفر وأراد أن يستريح أو خرج إلى البر تعيّن عليه اختيار المكان المناسب والابتعاد عن الطرقات ومجاري السيول والأودية إذا كان الجو مطيرًا؛ قال عليه الصلاة والسلاة: ((إذا عرّستم ـ والتعريس نزول المسافر آخر الليل ـ فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل)) رواه الترمذي.
ونهى الإسلام عن الإشارة بالسلاح، قال : ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه.
ولما احترق بيت في المدينة على أهله ليلاً في عهد الرسول وحُدِّث النبي بشأنهم قال: ((إن هذه النار عدوٌ لكم، فإذا نمتم فأطفئوها)) رواه البخاري ومسلم. قال ابن العربي: "معنى كون النار عدوًا لنا أنها تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة فإنه لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فأُطلق أنه عدو لنا لوجود معنى العداوة فيها إذا غُفل عنها، فتحرق الأموال والأبدان". وقال في الحديث المتفق عليه أيضًا: ((لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)) ، قال الحافظ ابن حجر: "قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالبًا، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهي".
وقال : ((خمِّروا الآنية، وأجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح؛ فإنّ الفويسقة ـ يعني الفأرة ـ ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)).
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكُفّوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوها، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا)) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت فأرةٌ فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي على الجمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت فيها موضع الدرهم، فقال النبي : ((إذا نمتم فأطفئوا سراجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم)) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم. فالحامل والدافع للفأرة على جرّ الفتيلة هو الشيطانُ عدوُ الإنسان الذي يسعى لإحراق بني آدم في الدنيا والآخرة، فيستعين على الإنسان بعدو آخر هي النار. إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6]، فهو عدوٌ متربصٌ ببني آدم كل وقت، ولهذا قال أهل العلم: "من فرّط فترك النار موقدةً حال نومه خالف السنة". وكثيرًا ما نسمع عن فواجع مؤلمة تودي بحياة أفراد، وربما أُسر بكاملها جرّاء تساهلهم بإبقاء النار حية مشتعلة أثناء النوم.
ما مضى من نصوص الشرع المطهر في الوقاية وطلب السلامة، ويبقى الجانب الآخر من الموضوع وهو الإجراءات العلاجية فيما لو وقع المحذور عافانا الله جميعًا والمسلمين عامة ودفع عنا كل سوء ومكروه.
فأوجب الإسلام ـ عباد الله ـ على كل من تسبّب في إتلاف مالٍ أن يضمنه وإن كان الإتلاف وقع خطأ أو كان المتلِفُ صبيًا أو مجنونًا مراعاةً لحرمة المال وأهميته، ولأجل ذلك ونحوه شُرعت عقوبة قطع يد السارق وقتل القاتل عمدًا والدّية لقتل الخطأ صيانة لحرمة الأموال والأنفس، ذلكم إضافة إلى الكفارة التي تتعين على القاتل خطأ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 29-31].
اللهم بارك لنا في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: فإن ما سبق في الخطبة الأولى من حضّ الإسلام على السلامة وأن الإجراءات التي تضمن سلامة الأفراد والمجتمعات أمرٌ مشروع، وإذا اصطحب المسلم النية كان ذلك عبادةً يؤجر عليها إن شاء الله؛ لامتثاله أمر الرسول ، كل ذلكم ـ معاشر المسلمين ـ في الوقت الذي يحض الإسلام على التهيؤ للجهاد والاستعداد لملاقاة الأعداء وصد عدوانهم.
إن الشرع الحنيف يقف منكِرًا ومستنكرًا كل مظاهر الميوعة والاسترخاء وتسمين الأجساد كما تسمن بهيمة الأنعام، فليتفطن لذلك لئلا يقع خلط وسوء فهم. في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ، ألا أن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي، ألا أن القوة الرمي)) ، وقال : ((كل شيء يلهو به الرجل باطلٌ إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله، فإنه من الحق)) ، قال القرطبي: "ومعنى هذا والله أعلم أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدةً فهو باطل، والإعراض عنه أولى، وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حقٌ لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعًا من معاون القتال، وملاعبه الأهل قد يؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحِّد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق" اهـ.
والحاصل ـ عباد الله ـ أن الإسلام يدعو للسلامة، ويَعُدُّ الأخذ بأسبابها واجبًا وإهمالَها مخالفة يأثم عليه صاحبها، إضافة إلى ما يتعرض له من مخاطر تؤذيه وتضره؛ لكن لا يجوز أن يكون ذلك مبرِرًا لأن يكون الترف مظهر الحياة العامة، أو مبرِرًا للقعود عن الجهاد والاستعداد له، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلُّوا وتسلط عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم، وخرب عليهم ديارهم، وقلب عليهم الأمن ذلاً وخوفًا والرخاء شدة وحاجة.
فنحن المسلمين أمةُ جهاد، وهو سياحتنا التي يجب أن يربّى عليها الناشئة، ولعلو قيمته عند الله أقسم بغبار الخيل الذي تثيره في الجهاد تشريفًا لها وتكريمًا وحضًا عليه، قال الله تبارك وتعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات: 1]؛ لأنها رمز الجهاد ووسيلته الفعالة المؤثرة.
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن كل ما يُقدَّر على الإنسان من حوادث لن تخرج عن تقدير العليم الحكيم، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد: 22].
فيجب على من ابتُلِي بشيء من نقص الأنفس أو الأموال والثمرات الصبر والاحتساب وعدم التسخط وعدم لعن الزمان أو الدهر، ولا يجوز ندب الحظ أو التشاؤم من الحياة، بل عليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعليه محاسبة نفسه ومراجعتها، قال عليه الصلاة والسلام: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم. وقال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].
اللهم وفقنا لما يصلح أمرنا في ديننا ودنيانا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وهيئ لنا أمرنا رشدًا.
وصلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله في محكم التنزيل فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5162)
عيد الأضحى 1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
10/12/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميز عيدي المسلمين عن أعياد الأمم الأخرى. 2- كفر بني إسرائيل كان سببا في سلب مجدهم وزوال الملك والنبوة منهم. 3- الحسد والحقد على أمة الإسلام والمكر والخداع من طبائع اليهود قديما وحديثا. 4- الدعوة إلى مواساة الفقراء والمعدمين وخاصة من ذوي القربى. 5- فضل إراقة دماء الأضاحي يوم العيد. 6- تربية الأبناء أمانة في أعناق الوالدين. 7- التحذير من الظلم بجميع أنواعه وصوره. 8- موعظة للنساء. 9- حكم أداء تحية المسجد في مصلى العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اعلموا أن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر. هو يوم الحج الأكبر لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج؛ يرمون الجمرة الكبرى، ويذبحون الهدايا، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة. وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يُضحُّون فيه وينحرون هداياهم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين، تميّزت شريعة الإسلام بعيدين، ليسا تمجيدًا لوجيه، ولا إحياءً لذكرى، ولا احتفاءً بميلاد، وليس العيد فرصة لكيلِ المدائح ونظمِ الأشعار ثناءً على حركة من الحركات أو انتصارًا من الانتصارات أو إنجازًا من الإنجازات، إنما العيد في الإسلام له شأن آخر ومعنى متميز، إنه تجديدُ إعلان التّوحيد لله ربّ العالمين الأحد الفرد الصمد، وذلك التوحيد ينبثق منه دعوةُ وِحدةٍ للأمة المسلمة، إنه دعوةٌ لمراجعة الأوضاع وتقييم الماضي والحاضر والإعداد للمستقبل. وإعلانُ الفرحة وإظهارها في العيد إنما هو ترجمةٌ لتك المعاني وفرحٌ بذلك المجد الّذي خصّ الله تعالى به أمّة محمد أن جعلهم خير أمة أُخرجت للناس.
لقد نال بنو إسرائيل من المجد والشرف في التاريخ ما لم تنله أمة غيرهم، فكثير من الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم هم من بني إسرائيل، وفي القرآن إشارات كثيرة إلى ذلك المجد، منها قول الله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة: 211]، وقوله سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47]، وقوله جل شأنه: وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197]، فلما كفروا بنعمة الله وعَدُّوا تلك النعم مبررًا لهم في الإسراف بالظلم والتعنت والجحود والعناد وسُوء الأدب مع الله تعالى ومع رسله وكفروا بنعمة الله وتكبّر بعضهم وترهبن آخرون رهبانية مبتدعة سلب الله تعالى مجدهم، وأُورِثنا إياه، فلله الحمد والمنة.
فطيروا فرحًا ـ يا أمة محمد ـ بهذا التكريم وهذه الخصوصية، وشعور المسلم بذلك وهو يسرح طرفه ما بين المشرق والمغرب يمنح قلبه إجلالاً وتعظيمًا لربه وحياءً منه سبحانه الذي اصطفاه ما بين جموع غفيرة قُدِّر أن لا تهتدي إلى صراطه المستقيم، وذلك الشعور يمّده أيضًا بروحٍ منه وعون أن لا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكل دين سوى الإسلام كفر، وكل مذهب خلاف هدي رسول الله ابتداع، فلا يزال انتماء المسلم لدينه الذي يؤمن أنه فخرُه ورأسُ ماله، بل يوقن أنه حياتُه وموته، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنه ما غاظ اليهود شيء مثلما غاظهم سلب النبوة والملك منهم ونقلها للعرب، الأمر الذي أوقد نار الحسد في قلوب اليهود، قال الله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109]، وقال سبحانه: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90]. لقد أفرزت نار الحقد والحسد في قلوبهم نارًا حقيقية سعوا ويسعون في إشعالها طيلة تاريخهم إلى عصرنا الحاضر، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة: 64]، هذه سجيتهم، وهذا طبعهم لا يتغير، فلا يمكن أن تنسجم طِباعهم ولا تتفاعل مع مؤتمرات السلام، أو تقبل نفوسهم الجلوس على طاولات تفاوض وصلح.
دولتهم المعاصرة تمتلك أشد أنواع الأسلحة فتكًا ودمارًا، ورافضة الدخول في أي معاهدة دولية للحد من تلك الأسلحة، فلأي شيء يُعدونها؟! إنها سعي منهم لهدم دين محمد وقتل المسلمين إن استطاعوا، عبَّر عن مشاعرهم هذه جَدهم حُيي بن أخطب في نهاية اجتماعٍ عقده مع الرسول أول ما وصل الرسول إلى المدينة، وسأله أي: سأل حيي بن أخطب أحد كبار اليهود بعد الاجتماع عن حقيقة الرجل يعني محمدًا ، أهو الذي ورد وصفه بالتوراة؟ فأجاب: نعم، قال: ما العمل؟ قال: عداوته والله ما بقيت، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89].
وتاريخ اليهود حافل بالمكر والخديعة والحسد وخبث الطوية ضدّ أنبياء الله تعالى ورسله، وليس ضد أمة محمّد فحسب، سفكوا الدماء وشرّدوا الأبرياء وقتلوا الأنبياء، بل قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181]، أفيُرتجى من هؤلاء عدل وسلام لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبَدَ الطاغوت وألقى العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة؟!
معاشر المسلمين، إن الله غني عن العالمين، وهو الرزاق ذو القوة المتين، والأحساب والأنساب تتساقط إذا صادمت الشرع واستكبرت على الحق، وليس لها عند الله وزنٌ ولا قيمة، وإنما الميزان المعتبر شرعًا هو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
تذكروا ـ معشر المسلمين الأفاضل ـ أنّ لكم إخوة في الإسلام يمرّ عليهم العيد أو ربما الأعياد لم يأنسوا بجمعٍ أو يهنؤوا بعيد، أحوالهم تختلف بين مريض وأسير وشريد وطريد، أرامل وثكالى ويتامى، سامهم العدو سوء العذاب، وخذلهم الصديق بالإهمال والتجاهل والنسيان وموت الضمير، والراحمون يرحمهم الرحمن، فأفيضوا أولاً على إخوانكم وأرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وزملائكم ما يطمئنهم إليكم ويؤكد رحمتكم بهم؛ حتى تسود الرحمة في المجتمع بدلاً من الشحناء والقطيعة والتباغض والنفعية المادية التي سرعان ما تتهشم وتنكشف حين تقلّ أو تضعف، ومن وجد سبيلاً وحيلة أن يصلَ معروفه إلى أيّ مسلم محتاج فليفعل، فإنّكم لا تدرون في أيّ نفقاتكم يمكن القبول والبركة والأجر، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء وترفع الدرجات عند مولاكم الرحيم جل شأنه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أحب الأعمال إلى ربكم في يومكم هذا إراقة الدماء بذبح الأضاحي، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن ماج والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: ضحّى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
والأضحية ـ عباد الله ـ تعبيرٌ عن تجريد العبادة لله وتحقيقٌ للتقوى، قال الله جل وعز: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37]، وهي تذكير للمؤمن أنه يتعين عليه أن يضحّي بكل غالٍ في سبيل الله ولو كانت روحه، كما فعل الخليل عليه السلام الذي أُمِرنا باتباع ملته حين عزم على أن يضحّي بابنه إسماعيل عليه السلام امتثالاً لأمر الله تعالى. والأضحية دعوة عملية لتخليص النفس من الشحّ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. ومن السنة أن يأكل المضحّي ثُلُثًا ويهدي ثُلُثًا ويتصدق بثلث.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الأولاد من بنين وبنات أمانة في أعناقنا، والبحث الجاد في كل ما يصلح حالهم ويرتقي بهم إيمانيًا وتعليميًا ودنيويًا أمرٌ حض عليه الإسلام ورغّب فيه، بل أوجبه ووعد عليه المثوبة في الدنيا والآخرة. إن من التفريط وقلّة الحكمة أن ينشغل الوالد بأعماله بعيدًا عن أولاده، أو ربما قضى البعضُ سحابة نهاره وجزءًا من ليله في استراحته الخاصة أو مع زملائه لا يدري عن أولاده شيئًا، وإذا عُوتب في ذلك أجاب قائلاً: وفرت لهم كل ما يحتاجونه، والسائق تحت طلبهم ووفق تصرفهم وأمرهم. هل هذا التعامل مع الأولاد يُعدُّ تربية؟! هل يعد رعاية يسقط به الواجب المنصوص عليه في حديث الرسول : ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) ؟! هل هذا التعامل يُرجى معه صلاح الأولاد أو فلاحهم أو نجاحهم؟! لو عوتب هذا الأب عن جوانب قصور في نفسه لأجاب: ما كان آباؤنا يهتمون بالتربية، فكل نهارهم عمل، ولا نراهم إلا في نهار الجمعة. فانظروا وتعجبوا من مثل هذا، لا ينسى تقصيرًا وقع في حقّه، مع أنه غير مقصود، ومع أن الأوضاع سابقًا كما يعلم الجميع تختلف في جوانب كثيرة عمّا هي عليه الآن، فليتّق الله كلّ أبٍ مفرّط، وليعلم كل مقصِّر في أمانة تربية الأولاد أنه سيجد غِبَّها في الدنيا قبل الآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادقُ الأمين، خاتمُ المرسلين، ورحمة رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأبتاعه أجمعين إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ثم أما بعد: معاشر المسلمين، استجيبوا لربكم ما دمتم في زمن المهلة قبل أن يُحال بينكم وبين العمل وبينكم وبين التوبة، قبل الندم حين لا ينفع الندم، قبل أن تُوسَّد الترابَ ويُهالَ عليك في حفرة لا تتسع لغير جسمك أبدًا، حفرة ضيّقة إلا أن يوسّعها الله برحمته ثم بما قدمت من عمل صالح.
عباد الله، احذروا الظلم، احذروا الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة، وعاقبته وعقوبته تبدأ من الدنيا بقلة التوفيق وضيق الرزق ونكد العيش وقساوة القلب، وما عند الله أشد وأبقى.
الظلم ـ عباد الله ـ وضع الشيء في غير موضعه، وأصله الجَور ومجاوزة الحد، ولقد حذر الله تعالى منه وحرّمه على نفسه وجعله محرمًا بين العباد. وحرمة الظلم تتناول كل مجاوزة للحد حتى في الوضوء، يقول النبي : ((فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم)) ، أي: أساء الأدب بتركه السنة والتأدبَ بأدب الشرع، وظَلَم نفسه بما نقصها من الثواب بترداد المرات في الوضوء. وفي التنزيل العزيز يقول المولى جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، قال ابن عباس وجماعة من أهل التفسير: (لم يخلطوا إيمانهم بشرك). ويدخل في الظلم ما يعاني منه العمال من كفلائهم في تأخير أو نقص رواتبهم، وتحميلِهم فوق ما يطيقون من العمل، وتكليِفهم وقتًا يعملون فيه يزيد عما في العقد دون مقابل. كما يقع الظلم من العمال أنفسهم في عدم إتقان ما يوكَل إليهم من عمل تساهلاً أو عمدًا، وغشّهم المستأجرين المستفيدين من عملهم.
ومن صور الظلم ظلم الأزواج لزوجاتهم، إما من النفقة أو السكنى أو التسلط على ما لها وراتبها إن كانت موظفة أو في طريقة حديثِه معها من الإهانة والتجريح والسخرية. ومن صور الظلم أيضًا ظلم الزوجات أزواجَهن في كثرة غِيبتهم وسبهم وتنكّر فضلهم وعدم عذرهم والتقصير في حفظهم في أموالهم وأولادهم وربما أعراضهم، حمانا الله جميعًا من كل سوء ومكروه. فليتق الله كل ظالم لنفسه أو غيره، وليعلم يقينًا أنه سيُدان في ذلك يوم القيامة، ويطالبُ بما ظلم، فخففوا عن أنفسكم من ديون الظلم قبل الندم قبل أن ينادى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المؤمنون:، من هدي نبيكم في خطبة صلاة العيد أن يخُصَّ النساء بموعظة، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال: شهدت مع رسول الله الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئًا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكّرهن، فقال: ((تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)) ، فقامت امرأة من سِطَة النساء سفعاء الخدين ـ وكان ذلك قبل نزول فرض الحجاب ـ فقالت: لِمَ يا رسول الله؟! قال: ((لأنكن تكثرن الشكاة ـ أي: الشكوى ـ وتكفرن العشير)) أي: تجحدن إحسان أزواجكن.
أيتها المسلمات، يا إماء الله، اتقين الله تعالى واحذرن من غضبه وسخطه، وقُمْنَ بما أوجب الله عليكنّ من حق الأزواج والأولاد، فقد قال النبي : ((إذا صلّتِ المرأة خمسها وصامت شهرها وحصّنت فرجها وأطاعت بعلها ـ أي: زوجها ـ دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) رواه حمد واللفظ له ورواه مسلم.
أيتها الأخت الكريمة والأم الرحيمة والزوجة المصونة والبنت العزيزة، لقد أيقن أعداء الإسلام من كفار ومنافقين أنك أفضل وسيلة يتوصلون بها لإفساد المجتمع المسلم، وتصريحاتهم في ذلك أشهر وأكثر من أن تذكر، وهم يعلمون أيضًا أنه من المستحيل أن يتوصلوا لما يصبون إليه من إفساد المرأة المسلمة خلال أشهر أو سنوات معدودة، فعمدوا إلى أسلوب ماكر وخبيث يقوم في أساسه على التدرج والتخطيط للمدى البعيد من الزمن، ويرتكز على نزع حياء المرأة وتنفيرها من دينها دون تصريح بذلك ولا عرضٍ مباشر له، ومكرهم في هذا عظيم، ومحاولاتهم متجددة ومتنوعة، لكنها مع كل ذلك لا تعدو أن تكون مكرًا بشريًا يقابل مكر الله العزيز العظيم، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46]، لن يتجاوزوا كيد الشيطان في صنعهم، وكيد الشيطان ضعيف أمام إصرارِكِ على العفاف والحشمة والتدين، ولقد غِظْتِ أعداء الإسلام والفضيلة بالمحافظة على شرفكِ وعِرضِك وأُنوثتك، فبارك الله فيكِ وزادك هدى، وثبتك على الحق وحفظك من كل سوء ومكروه.
واعلمي ـ أيتها المصونة ـ أن الصراع بين الحق والباطل ليس فيه خطر علينا؛ لأننا مؤيدون بقوة الله الجبار، ونحن واثقون من النصر، ولكن الخطر أن يفقد الناس الإحساس بين ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي، ترى البنت من أسرة كريمة ذات فضل وإذا بها تجهل كثيرًا من أمور الشرع مما يعلم من الدين بالضرورة.
الخطر أيضًا أن يُتخذ من المهزومين أو النفعيين أو المنافقين العلمانيين مرجعية في الفتوى فيما يتعلق بشأن المرأة، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25]. وأبشري بالنصر والتأييد من الله تعالى، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اعلموا ـ عباد الله ـ أنه لا وجه للنهي عن تحية المسجد في مصلى العيد، بل لا وجه للنهي عن التنفل بالصلاة في المصلّى لأمر النبي بأداء تحية المسجد وترغيبه بكثرة الصلاة والسجود في مثل قوله : ((عليك بكثرة السجود)) رواه مسلم، وقوله: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) أخرجه مسلم أيضًا. والمصَلَّى مسجد لأنّ النبي أمر النساء أن يخرجن إليه وأمر الحيّض أن يعتزلنه، والمرأة لا تعتزل إلا المسجد، فأعطى النبي مصلى العيد حكم المسجد بالنسبة لمنع الحائض منه، وعلى هذا نصّ فقهاء الحنابلة المتأخّرين وإن كان الأولى بعد أداء تحية المسجد أن ينشغل المسلم بالتكبير وحمد الله لأنه وقتها ومحلها، لكنه لا يُنكر على من زاد من التنفل في الصلاة قبل دخول الإمام أو بعد الخطبة، هذا ما قرره الإمام الشيخ محمد الصالح العثيمين، وقال رحمه الله: "وأما الاستدلال بما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي خرج إلى مصلى العيد فصلى ركعتين ـ يعني صلاة العيد ـ لم يصل قبلها ولا بعدها، فهذا الحديث لا يدل على كراهة التنفل بالصلاة قبل صلاة العيد ولا بعد الخطبتين لمن أراد من المصلين، بل لا يكره ذلك حتى للإمام لأنّ النبي خرج إلى مصلى العيد ليصلي بالناس، فصلى بهم وخطب ثم انصرف، كما أنه يوم الجمعة يخرج إلى المسجد ويخطب ويصلي وينصرف ثم يتنفل في بيته، ولم يقل أحد: إنه يكره للمسلم أن يتنفل قبل الصلاةِ، فكذلك العيد، والكراهة لا تثبت إلا بنهي عام أو خاص، ولم يرد شيء من ذلك".
اللّهمّ أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين والدعاة المخلصين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر...
(1/5163)
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
محاسن الشريعة, معارك وأحداث
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
18/1/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعمة الأمن. 2- الإيمان بالله وتقواه ضمانٌ لحصول الأمن التام والهداية التامة. 3- خطر اللسان. 4- كف اللسان وحفظه عما لا يعنيه مطلب ملحّ وخاصة في زمن الفتن. 5- فوائد الشدائد. 6- الحرب على العراق ورحيل حزب البعث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأمن مطلب ينشده الجميع، ويسعى إليه الأفراد والدُوَل، وهو ضد الخوف، هو من منن الله تعالى يمنحها من يشاء، ذكرها جل وعز في معرض ذِكر مننه على قريش، فقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67]، وقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4]، وقال: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، كل الأماكن من حولهم حَفّ بها الخوف من كل جانب، وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين، فلتحمد قريشٌ ربها على الأمن التام الذي لا ينعم به غيرهم، وعلى الرزق الوفير، وعلى الثمرات والبضائع والأطعمة التي جُلِبت إليهم من كل مكان، وليتبعوا هذا الرسول ليتواصل لهم الأمن والرغد، وإياهم وتكذيبَه والبطرَ بنعمة الله؛ فيُبدَّلوا من بعد أمنهم خوفًا، ومن بعد عزهم ذلاً، ومن بعد غناهم فقرًا، وتوعّدهم بما فعل بالأمم السابقة قبلهم حين كذبوا وبطروا وأسرفوا، فقال سبحانه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص: 58].
ولكن نظرة قريش كانت وللأسف سطحية قريبة، أوحت لها وتوحي لمن بعدهم أن اتباع هدى الله يُعرِّضهم للمخافة، ويفقدهم العون والنصير، ويوقعهم في المقاطعة أو يعرّضهم لغزو واحتلال. وهم لا ينكرون أنه الهدى؛ لكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس، وينسون الله، ينسون أنه وحده هو الحافظ سبحانه، وهو الحامي وحده، وأن قوى الأرض كلَّها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 160].
إن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوفَ لا يكون إلا في البعد عن هداه، وهذا القول ليس وهمًا، ولا لطمأنة القلوب، إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع الهدى معناه التوافق مع كل المخلوقات في الكون والانسجامُ معها، وهي مسخّرةٌ للإنسان إذا سبح الله معها أن تخدمه وتقف معه.
الكثيرون يخافون من اتباع شريعة الله والسير على هداه، ويشفقون من عداوة الكفار، ويخشون مكرهم وتألب الخصوم عليهم وفرضَ الحصار الاقتصادي واتهامهم بالإرهاب، وما هي إلا أوهامٌ كأوهام قريشٍ يوم قالت للرسول : إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص: 57]، فلما أسلمت واتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في مدة قصيرة جدًا.
الأمن إذًا ـ عباد الله ـ مرتبط باتباع الهدى حقيقة، وينقص الأمن حين ينقص الإيمان جزاءً وفاقًا، ولذا قال العلماء في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، قالوا: إن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ مطلقًا لا بشرك ولا بمعاصي حصل لهم الأمن التام والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بشرك لكنهم يعملون السيئات حصل لهم الهداية وأصل الأمن وإن لم يحصل لهم كمالها.
عباد الله، يجب على المسلمين أن يعتقدوا ويعلنوا صراحة وبقوّة أن كلّ قوةٍ غير قوة الله هزيلة، وكلَّ سلطان غير سلطان الله لا يُخاف منه، وإلا فليرضَ المسلمون بالترقب والتوجس والخوف والقلق الملازم. كيف نخاف ونحن المسلمون الأعلون؟! ومن ذا نخاف والله معنا؟! أي الفريقين أحق بالأمن: نحن أم اليهود والنصارى الذين أشركوا بالله من لم يجعل له سلطانًا ولا قوة؟!
اللهم وفقنا لما وفقت له أولياءك، ولا تشمت بنا أعداءك، وسدّدنا في القول والعمل، وأمِّنَّا من ذل الدنيا وخزيها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: معاشر المسلمين، فعن أنس أن النبيَّ قال: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه ورواه أبو داود وصححه الألباني.
الجهاد باللسان ـ عباد الله ـ يمكن أن يكون ذا حدين:
الأول: كلام صادق ناصح بليغ، ومن عاقل، في وقت مناسب، ودعاءٌ حارٌ دائمًا أن ينصر الله الإسلام وأهله، ويخذل الشرك وجنده.
الثاني: كف اللسان عما لا يحسنه، قال العلماء: من عَدَّ كلامَه من عمله قلَّ كلامُه. وفي المسند من حديث الحسين أن النبي قال: ((من حُسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)) ، وقال أبو الدرداء: (من فقه الرجل قلة الكلام فيما لا يعنيه)، وقال : (تعلّموا الصّمت كما تتعلمون الكلام).
كفُّ اللسان ـ عباد الله ـ وخاصة في مثل هذه الظروف يكون عن كلّ ما يضرّ من تخذيل أو طرح وإشاعةٍ أو شبهةٍ. كفّ اللسان عن تيئيس الناس وإحباطهم في المبالغة في ذكر قوّة أمريكا. أمريكا ومن ورائها اليهود التي جنّدت وسائل الإعلام لإشاعة الرعب في نفوس الناس؛ بتصوير أنّ قوتهم لا تقهر وجنودهم لا يهزمون.
عباد الله، إنّ الشدائد ليست شرًا محضًا، وفي ثناياها خفايا لا يعلمها إلا الله الحكيم العليم الرحيم، فمن فوائد الشدائد:
أولاً: استخراج الدعاء من المسلمين، فالمسلم إذا مسّته الضراء وتقطّعت من يده الأسباب لم يَرَ أمامه إلا الله، فيضرع إليه ويلجأ، رافعًا يديه، مفرِّغًا قلبه من كل شيء إلا من الله، وهذا الصنيع يحبه الله.
وثانيًا: التمحيص وبيان بعض أوجه النفاق، وربما كشف بعض المنافقين، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة: 52].
وثالثًا: أن القرار الوحيد النافذ عند من بيده ملكوت السماوات والأرض وكل شيء بقضائه وقدره، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29].
ورابعًا: وجوب حسن الظن بالله، وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه: (حسن الظن بالله) واحدًا وخمسين ومائة نصٍ ما بين آية وحديث، كلّها تدعو إلى التفاؤل وتركِ اليأس والقنوط والمثابرة على حسن الظن وحسن العمل، حتى إنك لتجد نصوص الوعد أي: التي تكون في الخير أعظم من نصوص الوعيد، والوعيد يكون في الشر، وأدلّة الرحمة أكثر من أدلة التهديد، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا.
أيها المسلمون، في الصحيحين وغيرهما من حديث نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((عُذبت امرأةٌ في هرةٍ سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا هي سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
فإذا كان هذا في شأن هرةٍ واحدة فقط، فما بالكم بالملايين من البشر الذين يعانون من حصار أكثر من عشر سنين ومات منهم مئات الألوف؟! وآخر الأخبار عنهم أمس الأول قبل بداية الحرب عليهم أن كثيرًا من نسائهم الحمَّل يراجعن المستشفيات لإجراء عمليات قيصرية قبل نشوب الحرب حتى لا يضعن حملهن من الخوف والهلع والفزع، فيتسبب ذلك في مضاعفات صحية خطيرة عليهن وعلى أجنتهن، والله أرحم الراحمين.
عباد الله، إن آثار الحرب وانعكاساتها لن تقف على حدود العراق بحيث لا تتجاوزها، بل ستتعداها كثيرًا، ومن تغدى بأخيك سيتعشى بك، والقائمة عند الأمريكان ستون بلدًا معظمها إسلامية، وقد صرح الرئيس الأمريكي أمس في خطابه القصير الذي أعلن فيه بدء الحرب ضد العراق، صرح قائلاً: "إن الحملة لن تكون محدودة، وقد تستغرق وقتًا أطول، وتقابل صعابًا لم تكن متوقعة" اهـ. إن الحرب صليبية دينية يقودها النصارى، ويؤزُها اليهود أزًا للقضاء على دين الإسلام الذي أضحى يسري حتى دخل مقر وزارة الدفاع الأمريكية فاعتنق بعض جنودهم الإسلام.
معاشر المؤمنين، نحن لن نأسف على رحيل حزبٍ رفع شعار:
آمنت بالبعث ربًا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثاني
لن نأسف على رحيل حزب أذاق شعبه المرَّ والمهانة وقهر الرجال وأوردهم كارثة بعد كارثة، يزعم أنه الوصي على العروبة وعزتها، فإذا بالمفتشين الدوليين يدخلون حتى قصور الرئاسة والمساجد والبيوت، وطائرات أعدائه تخترق حرمة وسيادة بلده شبه يوميًا منذ اثنتي عشرة سنة مضت. وإنما نأسف ونتألم على وضع المسلمين هناك، في ذلك البلد الذي يواجه الآن احتمال حرقه وتدمير كل بنية تحتيةٍ له بناها الشعب فإلى الله المشتكى، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وخذوا العبرة إخواني، وفرُّوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم.
اللهم ارحم ضعاف المسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم احفظهم في دينهم ودنياهم وأعراضهم وعقولهم، اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين...
(1/5164)
لماذا يبطئ النصر ويتأخر؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
25/1/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس في صراع منذ أن خلقهم الله. 2- النصر مطلب عزيز ومنال صعب يحتاج إلى بذل وتضحية. 3- أسباب تأخر النصر عن المسلمين وفوائد ذلك للأمة. 4- وعد الله للمؤمنين بالنصر لا يتخلف وإن طال انتظاره. 5- صفات المنصورين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ الله جل وعلا له الحكمة البالغة العليا في الأرض من تصارُع القوى وتنافس الطاقات في هذه الحياة الدنيا الصاخبة التي لا تهدأ، تموج بالناس في ميادينها الواسعة المترامية الأطراف. ومن الملاحظ ـ معاشر الإخوة ـ أن الناس عبر التاريخ في تدافعٍ وتسابقٍ وتزاحم، ومن وراء ذلك كله يد الحكيم العليم سبحانه، فلو شاء الله عز وجل لهدى الناس جميعًا، ولو شاء سبحانه ما اقتتلوا، لكنه قدّر أن تكون هذه الحياة دارَ امتحان ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
ولولا دفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لتعفنت الحياة وأَسِنَت وأنتنت، والناس في الغالب تتعارض مصالحهم وتتباين اتجاهاتهم وآراؤهم، كما تختلف أديانهم، فيقع التصارع والتغالب والتدافع، وهذا يستجيش في النفوس مكنوناتٍ مذخورة فتظل أبدًا يقِظَةً عاملة كادّةً كادحة، وهكذا فطرها الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6]، فإن لم يكن جهدُ بدنٍ وكد وعملٍ فهو جهدُ تفكيرٍ وكدُّ مشاعر، الواجد والمحروم سواء، إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء.
لكنّ فريقًا من الناس يوفق للخير والهدى والصلاح، فيثبتون على الحق ويُدركون حكمة الله تعالى في الخلق، ويتواصون بالحق وعلى الصبر، فيكون الفوز والنصر والتأييد لهم، ويظهرون على عدوّهم.
بيد أن ذلك الظهور والنصر عزيز؛ فقد ينتابُهُ ويتخلله كرٌ وفر، وقوةٌ وضعف، وتقدمٌ وتقهقر، وألمٌ وأمل، وفرحٌ وغم، واطمئنانٌ وقلق. ولأجل أن يثبت المسلم على دين الإسلام ويموت عليه يحتاج إلى يقين لا تبدّده سرّاء ولا تثنيه ضراء، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر.
أيها المؤمنون، ومع أن الله تعالى تكفّل بالنصر للمؤمنين في مثل قوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، إلا أنه سبحانه شاء أن يتم ذلك عن طريق المؤمنين أنفسهم، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]، فلو شاء جل وعلا لأنزل نصره على عباده، وخذل وهزم أعداءه.
ونصر المؤمنين على الظالمين وعلى الكافرين قد يبطئ ويتأخر لحكمة يقدرها الله تعالى.
يبطئ النصر لأن الأمة لا تزال في فرقة واختلاف وتهافت على الدنيا، لم تعِ دورها بعد، ولم تعرف خطر عدوها، فلم تحشد طاقتها استعدادًا له، ولو نالت النصر وهي على تلك الحال السيئة لفقدته سريعًا لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. وقد شاهدنا وشهدنا تطبيق ذلك في أفغانستان بعد طرد الروس منها وتمكّن المجاهدين، ثم ما لبثوا أن دبَّ الخلاف بينهم.
يبطئ النصر حتى تبذل الأمة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
يبطئ النصر حين يغتر المسلمون بقوتهم وحدها، ويغفلون عن سند الله ومدده وتوفيقه كما حدث للمسلمين يوم حنين.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجدُ لها سندًا إلا الله، ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء، فلا تلجأ إلى هيئة الأمم ولا تناشدها، ولا تشكو لمجلس الأمن ولا تحتكم إلى ما يسمى بالشريعة الدولية ولا ترضاها، وما ذاك إلا لأن الصلة بالله تعالى هي الضمانة الأولى لاستقامة الأمة على الحق بعد النصر، فلا تطغى ولا تظلم ولا تنحرف عن الحق والعدل الذي نصرها الله تعالى به.
وقد يبطئ النصر لأن المؤمنين لم يجردوا بعد كفاحهم وتضحيتهم لله، وإنما يقاتلون لمغنم أو حمية، أو من أجل الكرامة ونحو ذلك، والله جل وعلا يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من النوايا الأخرى التي تلابسه. وقد سُئل رسول الله : الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله عي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي يكافحه المؤمنون بقية من خير، يريد أن يُجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تختفي في غماره.
وقد يبطئ النصر ويتأخر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا. وكم نسمع من بني جلدتنا من يمجد أمريكا والغرب ويشيد بإنسانيتهم، ويعجب بدمقراطيتهم، ويثني على عدالتهم، فلو انتصر المؤمنون فقد يجد الباطل أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفساد أولئك الكفار وضرورة زوالهم، يجد الباطل أنصارًا من المسلمين غير مستيقنين ببغض الكفار لنا، ويرون أن النصوص القرآنية التي تؤكد عداوة اليهود والنصارى والكفار جميعًا، يرون أن تلك النصوص إنما تعني اليهود والنصارى في عصور مضت وخلت، وحينئذ تظل جذور الباطل وأهله في نفوس مَن لم تتكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله تعالى أن تبقى دولة الباطل حتى ينكشف الكفر بظلمه عاريًا للناس، بوجهه الظالم وسلوكه الذي لا يرحم، ثم يذهب غير مأسوفٍ عليه من أحد أبدًا.
وأخيرًا عباد الله، قد يتأخر النصر ويبطئ ليظل الصراع قائمًا، وليختار الله تعالى مزيدًا من الشهداء، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
فمن أجل تلكم الأشياء المذكورة كلها وغيرها مما يعلمه الله تعالى ولا نعمله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا ونزول السكينة والطمأنينة في قلوبهم واليقين بما هم عليه من الحق.
اللهم وفقنا لما وفقت إليه عبادك الأخيار، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، وأكرمنا وشرفنا ومتعنا وأسعدنا بالقيام على أمر دينك والدعوة إليك، واجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة، ومُنَّ علينا بالقبول...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من خالف أمره وعصاه، خلق الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وجعل الأيام دولاً، وعد الصادقين الصابرين النصر، وجعل الذلة والمهانة وسوء العاقبة لمن خالف أمره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: معشر المسلمين، فوعد الله المؤكدُ الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر مَن ينصره: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. فمن هؤلاء الذين ينصرون الله فيستحقون نصر الله القوي العزيز الذي لا يُهزم من يتولاه؟ إنهم أولئك الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41].
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر من غير منازع ينازعهم ولا معارضةٍ تزعجهم، أَقَامُوا الصَّلاةَ في أوقاتها وحدودها وأركانها وشروطها في الجمعة والجماعات، ووثقوا صلتهم بمولاهم طائعين خاضعين، وَآتَوْا الزَّكَاةَ الواجبة عليهم خصوصًا، وعلى رعيتهم عمومًا، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغالبوا وغلبوا وسوسة الشيطان، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، فدعوا إلى كل خير وصلاح، ووجهوا إليه وحملوا عليه الناس، وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ بمقاومة كل شر والتصدي لكل فساد، فلا تُبقي على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه.
هؤلاء هم الذين ينصرون الله بنصرهم دينه الذي ارتضاه للناس، معتزين بالله وحده دون سواه، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين. فهو إذًا نصرٌ مشروط يتكاليفَ وأعباء، كما كان له سبب وله ثمن وله شروط، فلا يُعطى لأحدٍ جزافًا أو محاباة، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ يصرفها كيف يشاء، فيبدل الهزيمة نصرًا، والنصر هزيمةً عندما تُهمل التكاليف ويُنحى شرع الله عن حياة الناس.
هذا وصلوا على نبيكم كما أمركم المولى في التنزيل بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 55]...
(1/5165)
ضريبة الذل
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
2/2/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجهاد هو الحل لما تعيشه الأمة من ذل وهوان. 2- المسلمون هم الذين اختاروا بأنفسهم الذل بدل العزة. 3- بمقدور المسلمين أن يعيشوا شرفاء أعزة. 4- ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة. 5- من مبشرات النصر. 6- سلاح الدعاء والمقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لك الحق ـ أيها المسلم ـ أن تتساءل ولو بحِيرة: ما تفسير الحال الذي نحن المسلمين اليوم فيه؟! مدنٌ إسلاميّة تُقصف بأفتكِ أنواع الأسلحة، ويُهجّر أهلها، ويخرجون من ديارهم وأموالهم، وتُحرق زروعهم وثمارهم، والعالم شاهد يتفرّج مع شيء من الإنكار، ولا أحد يملك الجُرأة على عون المظلومين ونصرتهم لئلا يُتَّهم بدعم الإرهاب، فيعرّض نفسه للمقاطعة والحصار، ثم تُجهز عليه طائرات الشبح وغيرها من الأسلحة الفتاكة لتجعله أثرًا بعد عين.
أيها المسلمون، والله لن تقوم للمسلمين ولا للعرب خاصّة قائمة، ولن يُرفع الذل والهوان والاستعباد حتى يرفعوا راية الجهاد، فإنه ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهو مجدنا وحضارتنا الذي نفخر به في الدنيا يوم حررنا كثيرًا من شعوب العالم من ذُلِّ العبودية للبشر إلى عِزِّ العبادة للواحد الديان. إن لم يفعل المسلمون ذلك فليدفعوا ضريبة الذل الذي رضوه لأنفسهم حين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
بعض النفوس الضعيفة يُخَّيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة، هربًا من التكاليف الثقال، فتعيش عِيشة رخيصة، مفزعة قلِقة، تخاف حتى من ظِلّها وصداها، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4]. يحسب المسلمون أنهم مقابل المهانة التي يبذلونها ينالون قربى كبار الدول وإدراجهم في محافل الأمم، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذهم واستصغارهم، كم مرة خضع العرب والمسلمون وخنعوا للغرب والشرق، وضحّوا بكل ما لديهم من موارد ومن قيم ومُثُل لم تعرف البشرية مثلها، ثم في النهاية هم رخيصون هينون في عيون سادتهم الذين طالما لهثوا في إثرهم.
كما كان بأيدي العرب والمسلمين عامة أن يظلُّوا شرفاء كُرماء، يصونون أمانة الله التي حمَّلهم إياها، ويحافظون على ثروة وحي السماء الذي شرفهم الله تعالى به على العالمين، لكنهم بدلوا والتفتوا يمينًا ويسارًا، وتملصوا مما كُلِّفوا به من ربهم، وتركوا جاههم وهيبتهم التي منحها إياهم الإسلام، فهانوا على أسيادهم، ونُبذوا كما تُنبذ الجيفة، وذهبت وعودُ وأماني الغرب لهم أدراج الرياح. ومع تكاثر العظات والتجارب فإننا ما نزال نشهد كل يوم ضحية؛ ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة حين هربت من دين الله، ضحية تلهث في إثر المطمع والمطمح، وتلهث وراء الوعود والسراب ثم تهوي، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار وضحك.
لقد عايش المسلمون ورأوا الكبارَ منهم يُحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تُبهظ كواهلهم، وتُحني هاماتهم، وتُلوي أعناقهم، وتنكّس رؤوسهم، ثم يُطردون بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسْنيين لا نصرٌ ولا شهادة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الأتباع لا يحسُّ بهم أحدٌ ولا يسمع لهم ركزًا.
في وسع المسلمين ـ عباد الله ـ أن يكونوا أحرارًا، لكنهم اختاروا العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، لكنهم اختاروا التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم اختاروا الجُبْن والمهانة، يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهمًا وهم يؤدون للذل دينارًا وقنطارًا، يرتكبون كل كبيرة ليُرضوا الأمم المتحدة ويستظلوا بجاهها أو سلطانها وهم يملكون أن ترهبهم تلك الأمم، يُشفقون من تكاليف الحرية مرة فيظلون يؤدون ضرائب العبودية مرات. وقديمًا قالت اليهود لنبيها: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ، ثم قالوا في نهاية المطاف: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، فأدت يهود ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة؛ أربعين سنة يتيهون في الصحراء، تأكلها الرمال، وتُذِلها الغربة، وتشرِّدُها المخاوف، وما كانت لتؤدي معشار هذا كلّه ثمنًا للعزة والنصر.
أيها المؤمنون، لا بد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الدول، وتؤديها الشعوب، فإما أن تُؤدَّى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تُؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب والواقع كلها تنطق بهذه الحقيقة.
إن الحرب على الإرهاب التي بدأتها أمريكا على أفغانستان ثم جنوب الفلبين وهي الآن مشتعلة في العراق تفرض على المسلمين أن ينظروا في عِبَر التاريخ، بل في عِبَر الواقع القريب المشاهد، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يطلبون الموت توهب لهم الحياة، فلا نامت أعين الجبناء، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يرهبون أمريكا ترهبهم أمريكا، وعلى الأذلاء الذين باعوا الدين والأمانات وخذلوا الحقّ وتمرغوا في التراب ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان: 29].
والذين يأبَون أن يذلوا ويرفضون الخيانة ولا يقبلون أن يبيعوا رجولتهم وشهامتهم عاش منهم من عاش كريمًا، ومات منهم من مات كريمًا، مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
اللهم رُدّنا والمسلمين إليك ردًا جميلاً، وأكرمنا بحمل دينك والدعوة إليه وأمتنا عليه، وأقرَّ أعيننا بعزة المسلمين ورفع الذل عنهم يا خير مسؤول وأعظم مأمول.
وصلى الله على نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحقِّ المبين، ما يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحكيم العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين وخاتمُ المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فليس هناك شرٌ محض، بل كثيرًا ما يكون في ثنايا المحن منح، وكلما حسَّنت ـ أيها المسلم ـ ظنك بالله وأيقنت أنه لا يجري شيءٌ إلا بعلمه وتدبيره وأنه سبحانه العليم الحكيم الرحيم، وإذا علمت أن الفرج بعد الكرب سنةٌ ماضية وقضية مسلمة وأن الله لا يُصلح عمل المفسدين نظرتَ إلى ما يحل بالمسلمين من مصائب نظرة يغلب عليها الفأل؛ فمن المبشرات التي تُلمح وتَبرق بين ركام الجثث وأنقاض المباني المدمّرة الخاصة والعامة في ديار المسلمين تلكم المبشرات منها تغير الخطاب لدى كثير من كبار القادة في العالم الإسلامي، خاصة في العراق، ودخول المصطلحات الإسلامية، وتنادي المسلمين إلى الجهاد، والهروب إلى المساجد وذلكم خير ونعمة؛ لأن الناس هناك كما هو شأن غيرهم في كثير من البلدان الإسلامية طالما أسرفوا على أنفسهم، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]. ويا ليت المنادين بالتغريب هنا وهناك يتّعِظُون، فالسعيد من وُعظ بغيره.
ومن العِبَر أيضًا فيما يجري الآن في المنطقة من حرب وتدمير أن تتميز الصفوف، وتتضح الحقائق، وتتجلى سنن الله للمستبصرين، ومرة ثانية معاشر المسلمين، والله لن تقوم للمسلمين قائمة ولن يُرفع عنهم الذل إلا بالجهاد، نعم بالجهاد وحده، فالكفار بعضهم أولياء بعض مهما بَدَوا لنا. وقبل يوم أو يومين فقط ذكرت وسائل الإعلام تصريحات لمسؤولين كبار في الدول الثلاث الكبرى المعارضة للحرب على العراق، ومفاد تلك التصريحات عدم الأسف والحزن على ما يجري الآن في العراق، وأنهم لا يتمنون ولا يريدون أن يروا أمريكا منهزمة فيها، علمًا أن رفضهم المعلن ليس رفضًا للحرب مطلقًا، وإنما يُصِرُّون على أن تتم الموافقة عليها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن حفاظًا على اعتبارية المنظمة الدولية، ورجاءً في أن يكون لهم نصيب من الكعكة العراقية عند اقتسامها بعد سقوطها بأيديهم. وهكذا نرى هواننا على الناس حينما ابتعدنا عن الله، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18].
وشيءٌ مؤلم ومخيف أيها الإخوة، لكن لا بد من ذكره، فهذا وقته لما فيه من عبره: قبل عشرين عامًا تقريبًا من الآن أيام حرب الروس على أفغانستان حضرتُ درسًا لأبرز قادة المجاهدين الأفغان، حينها في منى أيام الحج بمخيم دار الإفتاء، ومما قال فيه: "إن الأفغان رفضوا مدَّ يد العون لإخوانهم في جمهوريات آسيا الوسطى: طاجكستان وأزبكستان وغيرها حينما كانت جيوش الاتحاد السوفياتي تقوم باجتياحها في مطلع القرن الميلادي الماضي، فابتلانا الله بهم الآن فهم يجتاحوننا، وأخشى ـ والكلام لا يزال للقائد الأفغاني ـ إن لم يَنْصرْنا إخواننا العرب أن يُبتلوا بما ابتلينا به" اهـ. والحال يغني عن المقال.
أيها المسلمون، من أشكال الدعم التي يمكن لأي مسلم أن يُسهم بها الدعاء لإخوانه المسلمين، وخاصة المجاهدين، وأمرٌ آخر مقاطعة البضائع الأمريكية، خاصة أن في غيرها غُنية وكفاية.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/5166)
مشروعية مقاطعة بضائع الكفار وأهميتها
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
9/2/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية المقاطعة واستخدام النبي لها كنوع من التضييق الاقتصادي على الأعداء. 2- الحصار من أساليب الجهاد الفعالة. 3- شبهة حول جدوى المقاطعة والرد عليها. 4- فوائد المقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الاقتصاد في هذا الزمن ذو تأثير كبير وفعّال على مواقف الدول واتجاهاتها، والدعوة إلى مقاطعة البضائع والمنتجات التي تُصدرها تلك الدول التي تحارب المسلمين وسيلة ضغطٍ بالغة؛ لتوقف أو تخفّف تلك الدول من مواقفها المعادية للمسلمين.
معاشر المسلمين، الإضرار الاقتصادي طريق من طُرُق الجهاد المشروع، وقد استعمله النبي في التضييق والضغط على الكفار؛ ومن ذلكم أنه خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرًا لقريش في غزوة بواط، وخرج مرة ثانية أيضًا لاعتراض قافلة لقريش فيما سُمّي بغزوة العشيرة، وكانت تلك القافلة في طريقها إلى الشام، وغزوة بدر كان سببها طلبه عير أبي سفيان، وحاصر يهودَ بني النضير لما نقضوا العهد فقطع نخلهم وحرّقه، فرضخوا لأمر رسول الله ، وما ذاك إلا للضغط الاقتصادي الذي فرضه عليهم حتى زلزل كيانهم وأُجلوا من المدينة، كما حاصر أهل الطائف وأمر بقطع أعناب ثقيف، ولما أسلم ثمُامة بن أثال الحنفي وقدم مكة معتمرًا أعلن المقاطعة الاقتصادية لقريش قائلاً: لا والله، لا تأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن في ذلك رسول الله ، حتى جهِدت قريش، وقد أقره النبي على مقاطعته تلك، وعُدَّت من مناقبه.
وأبلغ من ذلك أن النبي دعا على قريش أن تضيَّق عليهم معيشتهم، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: إن رسول الله لما دعا قريشًا كذّبوه واستعصوا عليه فقال: ((اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف)) ، فأصابتهم سَنة حصَّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: أي محمد، إن قومك هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم.
فالحصار إذًا ـ عباد الله ـ من أساليب الجهاد، وفيه توهينٌ لقوة العدو وضربُ مِفصَل مهمّ من مفاصله متى قدر المسلمون عليه واحتاجوا إليه، وإلا فالمقاطعة هي البديل الأمثل لنكايته، وقد قال : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) ، فإذا لم يمكنك ـ أيها المؤمن ـ جهاد الكفار بنفسك ودفع ضررهم عن المسلمين فلا تتقاعس عن جهادهم بمالك، لكن لا أقل من المقاطعة، خاصة وأن البدائل كثيرة، وأثرها في العدو بالغ، وهي تغيظهم، وقد صرحت السفارة الأمريكية في إحدى الدول الإسلامية قائلة: إن ضعف الإقبال على شراء السلع الأمريكية أمرٌ باعث على القلق، وإن انخفاض الإقبال على السلع الأمريكية كبير جدًا.
عباد الله، من المعلوم أن السعي في تقوية اقتصاد أيّ دولة ثبتت عداوتها للمسلمين وإيذاؤها لهم وحربُها إياهم، إن ذلكم دعمٌ لها وعون على تماديها في العدوان، والله تعالى نهى عن ذلك بقوله جل وعز: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
والمقاطعة وسيلة عملية لك ـ أيها المسلم ـ في أن تسهم بصد العدوان، وقد عادت بثمار طيبة والحمد لله، فآلمت تلك الدول المعادية، ودفعت بشركات عدة إلى التبرؤ من دعم اليهود مثلاً، أو تعهُّد شركاتٍ أخرى بدفع تبرعات لضحايا المسلمين، شهادة تزكية تقدّمها، أو اعتذار تتظاهر به للمسلمين؛ ليظل التبادل التجاري معها قائمًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف: 10، 11].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الأول الآخر، الظاهر الباطن، له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وهو بكل شيء عليم، وفي كل تدبيره حكيم، العلي العظيم، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله بنفسه وماله ولسانه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، ما الفائدة التي تعود على المسلمين من مقاطعة بضائع المحاربين لهم من الدول الكبرى؟ وماذا عساهم فاعلون وهم الضعاف المحتاجون إلى صناعة الغرب وتقنيته؟! سؤال ربما يجول بخاطر البعض، ومحاولة مني في دفع هذه الشبهة أسوق النقاط التالية لعلها تجيب على هذا الإشكال:
أولاً: أظهرت عدد من الإحصائيات التي نشرت في الصحف سواء منها ما يصدر في الدول الإسلامية أو الغربية تعرّضَ كثير من الشركات الغربية العاملة في البلاد الإسلامية إلى خسائر كبيرة نتيجة للمقاطعة، وتراوحت هذه الخسائر ما بين 20 و25 بالمائة لتصل إلى 80 بالمائة في بعضها؛ مما اضطر بعضها إلى نشر إعلانات أنها تقتطع نسبة معينة من الأرباح للمستشفيات الفلسطينية أو للأطفال الفلسطينين؛ استدرارًا للعواطف الإسلامية في محاولة منها لمنع حدوث خسائر أخرى.
وثانيًا: مع أن المقاطعة على مستوى العالم الإسلامي طابعها شعبي ولم تتدخل الحكومات فيها، بل ربما انطلقت أحيانًا بشكل عفوي، إلا أنها أثرت أثرًا بالغًا بالاقتصاد الغربي، مما يؤكد أهمية دور الأفراد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفاعليتَه.
وثالثًا: من فوائد ومنافع المقاطعة التي تعود على المسلمين إتاحة فرصٍ كبيرة للنساء أن يشاركن مشاركة فعّالة في نكاية العدو؛ لأن كثيرًا مما يُعرض في الأسواق إما خاص بالمرأة، أو أن لها رأيا كبيرا في شرائه أو تركه.
ورابعًا: ترشيد عادة الاستهلاك المفرط لدى الشعوب الإسلامية والتخلص من تحكم الغرب في الأسواق الإسلامية وتشجيعُ الصناعات الوطنية.
وخامسًا: مع أصالة ومشروعية المقاطعة إسلاميًا إلا أنها فقهٌ منسي، بسبب تراكم مشاريع التجهيل والتبعية التي كان الغرب ولا يزال يسعى لتكريسها، وإحياء هذا الفقه يؤكد شمولية هذا الدين لكافة مناحي الحياة، وأن الإسلام له في كل قضية ونازلةٍ رأيٌ وتشريع، خاصة وأنه صدر عن عدد من العلماء ذوي الصفة الاعتبارية وغيرهم في مختلف البلدان الإسلامية فتاوى بعضها يوجب المقاطعة.
وسادسًا: فإن المقاطعة وسيلة من وسائل التخلص أو التقليل من تهافت الناس والشباب خاصة على مطاعم الوجبات السريعة وتقاطرهم على محلات ما يسمى بأدوات التجميل والعطورات، ولأنها تعرض مأكولاتها بطعم شهي وأصناف التجميل بشكل مثير ومغري، فينساق إليها الناس عامة والشباب والنساء خاصة دون وعي بمضارها الصحية.
سابعًا: المقاطعة برهان من البراهين يقدمه المسلم دليلاً على رفضه للمشاريع الغربية في فرض هيمنتها على العالم الإسلامي؛ وذلك لأنه بات من المقطوع به لدى الأغلبية العظمى من المسلمين أن الاقتصاد عصب مهم جدًا في الحياة.
ثامنًا: المسلم موعود بالأجر العظيم في كلّ عمل يقدمه لإضعاف أعداء الله، قال الله تعالى: وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120].
فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تعي مشروعية المقاطعة وأهميتها وضرورتها، وأن تتعرف على الشركات اليهودية والأمريكية لتحذرها، وكثيرًا ما يعلن عنها، ويذكر في الإعلان نفسه البديل عنها، يتم ذلك عبر وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وربما كتبت في مطويات توزع، وتجدها أوفر ما تكون في مواقع الشبكة العالمية الإنترنت.
وأخيرًا معاشر الفضلاء، لا يمنع كون المسلم اشترى بضاعة من صنع الدولة المقاطعة أن يكف عن الدعوة لمقاطعتها، كما لا يمنعه شراؤه بضاعة أن يقاطع غيرها، فكلٌ يسعى ويسهم في المقاطعة بقدر ما يستطيع، وأما الشركات أو المصانع التي تأخذ امتياز تصنيع بضاعة من البضاعات على أن تدفع للشركة الكافرة مقابل الترخيص فإن مثل هذه الشركة المحلية حكمها يدخل فيما سبق إلى حد كبير وإن لم يرتق إليه تمامًا، ويتأكد هذا الحكم إذا كانت البضاعة المصنعة مما ثبت طبيًا ضرره كالبيبسي.
فاتقوا الله عباد الله، وغاروا على دينكم وأمتكم، وتذكروا أنه لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم نج المستضعفين من المسلمين...
(1/5167)
الدعاء في الأزمات خاصة
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
16/2/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الإنسان وافتقاره إلى خالقه. 2- وجوب صرف الدعاء لله وحده دون ما سواه. 3- دعوة المظلوم مستجابة. 4- فوائد الدعاء. 5- شبهة وجوابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأجدر بالمسلم أن يعوِّد نفسه عبادةً عظيمة جليلة، ألا وهي كثرة دعاءِ ربه ومولاه، والتضرع إليه في الرخاء، حتى إذا نزلت به بلوى كان أولُ ما يتبادر إلى ذهنه الفزع إلى من بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير. وليحذر المسلم وليشفق ويخفْ من أن تكون حاله في الضراء حالَ مَن وَصفهم الله تعالى ممن لا يؤمنون بالآخرة في قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون: 74-77]، أي: آيسون من كل خير، قد حضرهم الشر وأسبابه.
كما أنه ليس أمرًا محمودًا أن لا يعمد العبد المسلم إلى الدعاء إلا في حال الضرِّ فقط، فهل نحن إلا لله؟! وهل نحن إلا إليه راجعون؟! قال الله تعالى في ذلك: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51]، أي: كثير جدًا، نعم الدعاء مشروع، وأجرهُ عظيم، لكنه لا يقتصر على حال الضراء وكأنه تعبيرٌ عن عدم الصبر أكثرَ منه لجوءًا إلى الله تعالى. فالعلاقة بين لله عز وجل وعبده قائمةٌ على افتقار العبد واحتياجه إلى ربه غاية الاحتياج، بحيث لا يستغني عنه طرفة عين، فهو خالقه من العدم، ومُربِّيه بالنعم، بيده مقاليد الأمور، وهو الغني عن جميع خلقه، والقدير على كل شيء، والعليم بكل شيء، العزيزُ الذي لا يُغلب، والغالبُ الذي لا يُقهر، لا يخرج شيء عن ملكه في السماوات ولا في الأرض، الكريمُ الذي يحب أن يُسأل فيُعطي، وليس لعطائه نفاد، سبحانه وتعالى، وتبارك وتقدَّس، فكيف يستغني عنه العبد الفقير الضعيف المسكين العاجز الذي تخفى عليه كثير من منافعه ومصالحه، بل قد يسعى في هلاك نفسه؟!
أيها المؤمنون، من أجل ذلك يجب صرفُ الدعاء إلى الله تعالى وحده لا شريك له، فإن مَن دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فقد كفر وخرج من الملة، سواءً كان هذا الغير نبيًا أو وليًا أو ملكًا أو جنيًا أو غير ذلك من المخلوقات، قال جل وعلا: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 106، 107]، وقال جل ذكره: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5].
عباد الله، الدعاء عبادة عظيمة، قال الله تعالى في ذلك: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال الرسول : ((الدعاء هو العبادة)) ، وقال : ((أفضل العبادة هو الدعاء)) ، وقال: ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)). ومن أسباب إجابته أن يكثر المسلم الدعاء في الرخاء لقوله : ((من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء)) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وبئس صنيع المرء أن يدعو حال الضر ويَذَر الدعاء بعد زوال ضره، فهذا حال المسرفين، قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس: 12].
معاشر المسلمين، الدعاء على الظالم أمر مشروع، لا سيما إن كان الظلم واقعًا على المسلمين، وتزداد هذه المشروعية إذا كان الظالم كافرًا، بل ربما يقال بوجوب الدعاء على الظالم الذي يحارب الإسلام وأهله إذا لم يكن ثمة سبيلٌ لإيقاف عدوانه على الإسلام وكفّ شره عن المسلمين إلا سبيل الدعاء، وكفُّ عدوان الظلمة والمتجرئين على الإسلام واجب، كما أن كف شرهم عن المسلمين واجب أيضًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولقد قنت رسول الله شهرًا يدعو على أحياء من العرب، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رعلاً وذكوان وعُصيّة وبني لحيان استمدوا رسول الله على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. وفي غزوة الخندق لما حاصر الأحزابُ المسلمين في المدينة واشتغل النبي وبعض أصحابه في مدافعة المشركين قال بعد ذلك: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ـ أو أجوافهم ـ نارًا)) رواه الجماعة. والشواهد في هذه المسألة كثيرة في كتب السنة.
فيا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا تهولنكم قوة عدوكم، ولا كثرة عتاده، ولا تقدم تقنيته، ولا طول طغيانه، اجأروا إلى الله واستنصروه عليهم، فلن يغلب عسكر واحد عسكرين، ولن يُنصر في الأرض من حارب مَن في السماء، قال بعض البلغاء: "أقرب الأشياء صرعةُ الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم".
أتَهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن لَها أمد وللأمد انقضاء
وقد شاء الإله بما تراه فما للملك عندكمُ بقاء
قال بعض الكبراء: "دعوتان أرجو إحداهما بقدر ما أخاف الأخرى: دعوة مظلوم أعنته، ودعوة ضعيف ظلمته". وكان أحمد بن طولون أميرُ مصر في منتصف القرن الثالث الهجري بطلاً شجاعًا ومن دهاة الملوك، ومع أنه عدل متين معظم للشعائر إلا أنه جبار سفاك للدماء كما وصفه الذهبي، وَجَد مرة في جيبه رقعة لم يعرف من رفعها ولا من قالها، فإذا فيها مكتوب: "أما بعد، فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء فاحذروا سهام السَحَر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوبًا أوجعتموها، وأكبادًا أجعتموها، وأحشاءً أنكيتموها، ومُقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلّمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" فبكى الأمير أحمد بن طولون بكاءً شديدًا حين قرأها، وجعل يتعهّد قراءتها في غالب أوقاته، ويستعين بها على إجراء عبراته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ.
اللهم وفقنا لدعائك، وألهمنا حسن الثناء عليك واختيار أحب الدعاء إليك، ومُنَّ علينا بالقبول.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وارثِ الأرض ومن عليها، وباعثِ محمدًا رسوله بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فللدعاء على أعداء الدين من اليهود والنصارى والمنافقين ومن سواهم فوائد جمةٌ، منها أن الدعاء في حد ذاته عبادة جليلة القدر، بل هو لبُّ العبادة وروحها، ولذا ثبت في الصحيح عن النبي قوله: ((الدعاء هو العبادة)). والدعاء سبب في استحضار العبيد صفات الله تعالى، وزيادة الإيمان بها، لأنه إقرارٌ بأن القوة لله جميعًا، وأن الناصر هو الله، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران : 160]، والإحساس بهذه المعاني يقود المسلم إلى امتثال أوامر ربه. كما أن الدعاء على من ظلم المسلمين واعتدى عليهم علامةٌ على إيمان صاحبها لتضامنه مع إخوانه المسلمين، فالمؤمنون إخوة، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يقول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). ومنها أن الدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ لأن من لم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية، وهو استحضارٌ واستشعار للمعركة المتواصلة بين الحق والباطل، قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217].
معاشر المسلمين، يحسن الإشارة والتذكير إلى أنه حينما يرد الحديث عن الدعاء وأثره في الانتصار للمظلومين فلا يعني ذلك أن نكفَّ عن أي عمل آخر غيره، لكن الدعاءَ أولُ وآخر ما يلجأ إليه، ولا ينبغي أن يترك بحال من الأحوال، وحتى لا يتذرع متذرع بالعجز من الاستنصار لهذا الدين وأهله بأنه قد كُبل بالأغلال وأوثق بأشد الحبال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)) رواه الطبراني وابن حبان وغيرهم ورجاله رجال الصحيح، وهو في السلسلة الصحيحة (601).
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5168)
إفلاس وسقوط القوميات العربية
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
1/3/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحداث سقوط العراق بين نظرتين. 2- سقوط الشعارات العلمانية والدعوات القومية من أبرز جوانب التفاؤل في أحداث العراق. 3- مقتطفات سريعة من منجزات حزب البعث. 4- في أحداث العراق دعوة لكل معاند أن يرجع إلى الله. 5- فشل الحركات القومية اقتصاديًا وسياسيًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سؤال مهم، كلّه آلام عند أناس؛ لكنه آمالٌ لدى الآخرين.
المتشائمون يقولون: ألم تكونوا تحدثونا أو تخبرونا أنْ ليس شيءٌ شرًا محضًا؟! فأين الخير في بلد مسلم كالعراق سقط في يد الصليبيين لتُغَيَّر هُويتهَ وتُستبدل ثقافته وتَبني فيه قواعدها أوكارًا تنطلق منها طائراتهم متى شاءت لتدمّر وتضرب موقعًا أو بلدًا مسلمًا يرونه هدفًا مناسبًا بحجة أنه منبع الأصولية أو بذريعة أن أسلحة الدمار الشامل هُرَّبت إليه؟!
أما المتفائلون ومن ينظرون إلى ما يجري نظرةً واعية متعقِّلة منطلقة من الشرع همُّها الأول والأخير أن لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله، هذه النظرة حين تُقَيِّم الأوضاع بعد الحرب الأخيرة ترى فيها جوانب من الخير مهمة، لا يحسن بالمسلم إهمالها، ولا ينبغي نسيانها، ومن أبلغ ذلكم سقوط الشعارات العلمانية وتهاوي الأُطروحات القومية البعثية، كما أفلست قبلها الناصرية.
ولا تزال القوميات العربية تكشف يومًا بعد يوم عن مظاهرَ متجدّدة من الفشل، كتلكم التي تجري فصولها الآن في فلسطين، والذي يراقب ويرصد المسيرة منذ ثلاثين سنة مضت أو أكثر يلحظ ذلكم التساقط وتهاوي عروش جاهليات العصر الحديث؛ في الوقت الذي ترتفع فيه راياتٌ تنصر دين الله تعالى وتقوم حركاتٌ تدعو إلى الله.
هوت الناصرية، تحطمت بعد أن ذاق المصلحون منها المرّ والعلقم من سجنٍ وتعذيب ومصادرةِ حريات، وأعاقت نمو الصلاح وانتشار الدعوة، وضيقت على الناس في أرزاقهم، وضيعت مناطق شاسعة من أراضي المسلمين لتسقط في يد اليهود، وهم يصمُّون آذاننا صباح ومساء: سنُلقي إسرائيل في البحر! هوت الشيوعية وسقطت، وتمرغت بالتراب وولّت دولتها وحضارتها إلى غير رجعة بإذن الله.
وبسقوط الناصرية والشيوعية تراجعت أحزاب وتجمعات ودعوات هنا وهناك، وتمزّقت فلولها لتبحث عن قِناع جديد من أقنعة النفاق تلبسه، لتستأنف مسيرة الهدم من جديد.
واليوم نشهد سقوط البعثية وسحقها إلى غير رجعة أيضًا بإذن الله تعالى، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45].
مرة ثانية معاشر المسلمين، نؤكد أنْ ليس هناك شرٌ محض، وعلى المسلم أن يتعقل في نظرته، فالحملة الصليبية التي تُشَن على المسلمين الآن كانت سببًا قويًا في الإجهاز على حزب البعث العربي في أقوى جناحيه، فسقط حزب البعث، وبان الصبح لذي عينين.
وبهذه المناسبة إليكم مقتطفاتٍ سريعة مجملة من منجزات حزب البعث التي قدمها للأمة:
إن فلسفة حزب البعث في أقوى معانيها وأهم أفكارها تقوم على النضال، والنضال في قاموس البعث معناه: إفشاء الخلافات وتفجيرها خاصة مع الدول المجاورة وإذكاءُ روحِ سوءِ الظن بين الناس حتى بين أعضاء الحزب نفسه، والتصفياتُ الجسدية، والقتلُ المروع عند ارتكاب أدنى خطأ، بل ربما تتم التصفية بناءً على مجرد ظُنون، ودون محاكمة لا عادلة ولا ظالمة، بل كل ذلك لا يُشبع دموية أعضاء حزب البعث ـ وخاصة زعيمهم ـ فيضطر إلى دخول حرب طاحنة مع الجيران بلا هدف، وأوقدوا حربًا مع إيران استمرت ثماني سنوات، ذهب ضحيتها عشراتُ الآلاف أو أكثر من المدنيين والعسكريين، وقل كذلك في الأسرى، وأرهقت ميزانية العراق وأثقلتها بالديون، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها تلمّض حزب البعث شوقًا إلى الدم، فوقع اختياره على الكويت، فقرر غزْوَها واجتياحها، وهو الذي طالما كان يهتف قبيل غزو الكويت بأنه سيحرق نصف إسرائيل، كما هدّد رفاقه الناصريون من قبله بإلقاء إسرائيل في البحر.
ومن مظاهر فشل وإفلاس حزب البعث عسكريًا بعد أن فشل في الإدارة المدنية أنه خلال الثلاثة عشر عامًا مضت قامت الطائرات الأمريكية بعشرات الآلاف من الطلعات الجوية، كثير منها يجري فيها قصفٌ لمواقع عراقية فيما يسمّى بمنطقتي الحظر، بل أحيانًا في العمق، ولم يُسقط البعثيون منها سوى طائرات لا تصل إلى عدد أصابع اليد.
أيها المسلمون، وبينما العراق ينتج الملايين من براميل البترول يوميًا ويخترقه نهر من أنهار الجنة وهو نهر الفرات، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة)) رواه مسلم، كما تمتلك بُعدًا وعمقًا حضاريًا من آلاف السنين من شأنه أن يوجد كفاءاتٍ علمية وفنية مدرّبة في كافة الاحتياجات المدنية، وأرضه من أخصب الأماكن في الدنيا، وموقعه الجغرافي مِفْصليٌ في العالم، كل هذا ومع ذلك فإن المستوى المعيشي لأهله من أشد البلدان تدنيًا وهبوطًا، فأين انجازات حزب البعث وتأميمه لشركات النفط وأنه يمتلك رابع أقوى جيش في العالم ونحو ذلك والملايين من شعبه خارج بلادهم بحثًا عن عيش هنيء وحياة آمنة مستقرة؟!
وأخيرًا أيها المؤمنون، لقد آن الأوان أن يفكّر فلول البعثيّين ممن نجا من الموت أن يفكر أولئك وأمثال أولئك ويعتبروا ويتأملوا سنن الله في المعاندين المكذبين المتجبرين. إن أحداث العراق دعوةٌ بالغة وبليغة لكل معاند أن يتوب إلى الله تعالى، ويعود إليه، وينبذ كل ما يسخط مولاه ويغضبه، وإن الفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من العناد والنفاق والصدِّ عن سبيل الله وإنفاق الأموال الطائلة لنشر الرذيلة، الفرصة سانحة، والطريق مفتوح ليتوبوا عن كل ذلك، وإلا فليعلموا أن سنن الله ماضية في المعاندين، فلينتظروا ما حل بغيرهم من المعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال: 38].
بارك الله لنا في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات البينات والعظات الواضحات البليغات، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا خافض لما رفع، ولا رافع لما وضع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادّ لما قضى، ولا نافع لمن ضرَّ، ولا ضار لمن نفع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فقد فشلت الحركات القوميّة العربية في كل طرحٍ طرحته؛ فشلت في إنماء الاقتصاد، فكل بلد عربي حكمته هبطت باقتصاده إلى الحضيض، بل أغرقتْه بالديون حتى لو كان ذلك البلَد متربعًا على موارد اقتصادية ضخمة، وتأملوا حال البلدان العربية التي ابتُليت بتلك الحركات. وفَشِلت الحركات القومية العربية أيضًا في المجال السياسي، فكم مرة حاولت أو تظاهرت بالسعي للوحدة العربية فما أن تُعلن الوحدة وتظل وقتًا يسيرًا وإلا ويُعلن تفككها وتراشقُ أصحابها بالاتهامات: عمالة وخيانة، يعقبها محاولاتُ اغتيالٍ أو انقلابات.
عباد الله، في حرب الخليج الثانية قبل ثلاثة عشر عامًا سُئل وزير خارجية بريطانيا حينذاك وكانت الحشود العسكرية الغربية تتدفّق على منطقة الخليج برًا وبحرًا وجوًا، سئل: هل ستقوم حربٌ فعلاً؟ أي: هل ستحاربون العراق فعلاً لإخراجها من الكويت؟ فأجاب قائلاً: "لم نأت هنا للنزهة" اهـ، وظن بعض الناس أن حشود أمريكا حول أفغانستان قبل سنة ونصف كانت لغرض التهديد وبثّ الرعب، فإذا بها تندلع لتدمّر كل شيء هناك. ثم عاودت الحشود العسكرية الغربية نشاطها في الخليج هذه السنة بصورة أفظع من سابقتها، ورجح البعض أنها تلويح بالحرب على العراق لا الحرب صراحةً، فإذا بها تقذف بحِمَمِها لتفعل ما رأيتم وما سمعتم، ولعلّ ما خفي كان أعظم. الآن فتحوا ملف سوريا كمرشّح يلي العراق، فيُطرح التساؤل السابق: هل هم عازمون على الحرب؟ ليرد التشكيك: من الصعوبة أن يقدموا على ذلك! ثم يتكلّف من يتكلّف بإيراد معوقات للحرب ليرضي بها نفسَه. لكن وزير الدفاع الأمريكي اختصر الاحتمالات، وقطع التوقعات، ليؤكّد في منتصف هذا الأسبوع وأثناء زيارته للمنطقة، يؤكد الأمر قائلاً: "سنستمر في شن حروبٍ وقائية على الإرهاب" اهـ.
إذًا علينا أن نعيد صياغةَ الأسئلة السابقة الماضية لتكون: متى تبدأ الضربة؟ أو متى تبدأ الضربة لنتفرج عليها؟! ردَّ الله كيد الكائدين في نحورهم، وجعل تدبيرهم في تدميرهم، وأرانا فيهم أعظم مما رأينا في الشيوعية والقوميات العربية، فهم كما حكى الله عنهم وعن أمثالهم: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة: 205]، وإذا تولوا أهلكوا ويهلكون الحرث المزروع والثمار بما يُسقطون من قنابل حارقة وصواريخ مدمرة، وما يحدثونه من تدمير لمرافق الحياة، وما يدفنون من نفاياتً نوويةً في باطن الأرض تظل إشعاعاتها سنين طويلة، تؤثر سلبًا على الزراعة والإنجاب وإحداث الأمراض الخطيرة والتشوهات الخَلْقية. وإهلاك الحياة على هذا النحو كنايةٌ وترجمة لما يعتمل في كيان الصليبيين من حقد وشر وغدر وفساد مما كانوا يسترونه بذلاقة ألسنتهم ودعاويهم في أنهم حماةٌ لحقوق الإنسان ويسعون لتحرير البلدان ونشر الحرية والسلام وإعادة الأمن والخير والصلاح.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير رحمة رب العالمين، كما أمركم الله في كتابه المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5169)
الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم: عرض للحالة الراهنة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
11/5/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأمن. 2- ظاهرة الغلو في نوع من الشباب المسلم المتدين. 3- تفسير هذه الظاهرة. 4- كيف استغل أعداء الدين هذه الفئة من الشباب. 5- أبرز النتائج المتوقعة لتلك المراهقات الفكرية. 6- الدعوة إلى الله وظيفة الرسل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن نعمة الأمن ضرورة بشرية ومطلب فطري ومصلحة للأفراد والأمم، ولا تقوم حضارة ولا تزدهر حياة إلا به، ومن أجل هذا أمر الشارع الحكيم بنصب الولاة والقضاة لإقامة العدل وتحقيق الأمن، وشرع الحدود لتحقيق هذا المقصد العظيم، ونصوص الشرع من كتاب وسنة متضافرة ومتكاثرة على تقرير هذه الحقيقة.
قال الله تعالى ممتنًا على قريش بنعمة الأمن: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4]، وقال النبي مبينًا هذه النعمة: ((من أصبح آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) رواه الترمذي. وسمي حد الحرابة بذلك الاسم لأن أهله هتكوا الأمن الذي أمر الله ورسوله بإقامته، فكانوا محاربين لله ورسوله فيما قصده الشرع وهو الأمن والأمان لكافة العباد.
عباد الله، الغلو في الدين وفهم نصوص دون أخرى وتغليبها على غيرها وحصر الدين وقصره عليها، كل هذه داخلة في السبل التي حذر النبي الأمة من نهجها، في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله خطًا بيده، ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيمًا)) ، ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)) ، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] رواه أحمد والحاكم وقال: "صحيح ولم يخرجاه".
في غضون الثلاثين سنة الماضية ظهر في حقل العمل الإسلامي وميدان الدعوة نوع من الشباب القلِق، تنمّ حركاته وردود أفعاله عن خلل واضطراب في العقيدة، وسطحية وشرود في الفكر، وعشوائية وعاطفية في الحركة، شباب يصدر عن تصرفات فردية، يريد أن يجني الثمرة قبل نضجها، كل هذا لا يعني محاولة الهروب من سنن الله تعالى في ابتلاء المؤمنين والدعاة المخلصين، فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2]، ولكن حتى إذا وقع الابتلاء يكون على الإيمان الصحيح، فيعطى صاحبه أجره موفورًا. شباب يفتقر كثيرًا إلى العلم بالكتاب والسنة والمسلك القويم في الدعوة، فيه جرأة شديدة وتمسُّكٌ بألفاظٍ أخذ بظواهرها ولم يجمعها إلى غيرها من نصوص الوحي ليستنبط الحكم الشرعي، والشيء الذي لا يُنكر أن الإخلاص سِمةُ الكثير منهم، لكنه إخلاصٌ يصاحبه انحياز لناحية معينة قد استولت على مداركه، فأثرت على رؤيته لأهداف الدعوة ووسائلها. وكونهم مخلصين لا يمنع أنهم مخترَقون من أعداء للدعوة ومتربصين للإصلاح.
هذا النوع من الشباب الذي يضم معه نخبة متميزة كان من الممكن أن تكون طاقات فاعلة في مسيرة الدعوة الإسلامية، غير أن ظروفًا معينة حالت دون معرفته للدعوة معرفة واضحة متزنة سليمة، الأمر الذي جعل انطلاقته تجيء مشوبةً بالفردية وعدم الانضباط، هذا الشباب، ولست أعني في كلامي بلدًا معينًا وإنما يتناول هذا الكلام كل من نهج مظهرًا من مظاهر الغلو على امتداد العالم الإسلامي، وخاصة في هذا العصر، هذا الشباب بات يشكل ظاهرة خطيرة وعقبة كؤودًا في طريق العاملين، حيث جعل منه المتربصون لهذه الدعوة ورقة يلوّحون بها في وجه أيّ مدٍ إسلامي، كما جعلوا منه مادة إعلامية تُستغل بمكر ودهاء في تشويه وجه الدعوة الإسلامية السمح والتشهير بدعاتها والعاملين لها، لتصاب حركة الإسلام بالشلل وخصوبتهُ بالعقم.
أيها المؤمنون، ولسائل أن يسأل: ما تفسير ظاهرة الغلو في هذا النوع من الشباب المسلم المتدين؟
والجواب على ذلك: عاملان رئيسيان مهمان يقفان وراء هذه الظواهر، وعلى من أراد الإصلاح جادًا أن يأخذهما بعين الاعتبار:
العامل الأول: القلق العام الذي يسود الأمة، والفساد الذي استشرى داؤه في كل جوانب الحياة، بعد الهزائم المتلاحقة والنكسات المتتالية التي سالت فيها دماء المسلمين وضاعت أموالهم واحتلت أجزاء من ديارهم وانتهبت خيراتهم، وغرقت دول الإسلام في أوحال مناهج الغرب، فسلبت المسلمين معظم مقوماتهم الدينية والحضارية، وصاروا تبعًا يلهثون في تقليد كلّ ما يرد أو يُصَّدر من الغرب، وهنا سيكون طبيعيًا أن يدرك أولئك الشباب كما يدرك غيرهم أن ذلك نتيجة لمخالفة شرع الله، غير أن الشباب المعنيين بالحديث تعقَّدت أحاسيسهم ومشاعرهم، فنقموا على كل ما حولهم من أوضاع مترديةٍ، فجاءت محاولتهم في الإصلاح جانحة وخطيرة.
العامل الثاني الذي يفسر ظاهرة الغلو: هي المحن الشديدة المتكررة التي نزلت بالدعوة الإسلامية ورجالها وأبرز رموزها، واستخدمت فيها أبشع أنواع الإيذاء وكلّ وسائل الفتك والإبادة، مصحوبة بحملات التشكيك والإرجاف والتخوين والاتهام، ومن الطبيعي أن يخرج من رحم تلك الظروف رداتُ فعلٍ ونقمة تستهدف من وراء المحنة ومن عاصرها ومن سكت عليها، وربما لا تعذر أحدًا ولا تلتمس لساكتٍ حجة.
هذا النوع من الشباب الذي افتقد المنهج القويم في العمل والدعوة بسبب غياب قيادة مقنعة له وبسبب الظروف العصيبة التي مرَّ بها وبقي بلا موجّه ولا دليل، فتشعبت به السبل والمناهج، فوجد المتربصون بالإسلام فيهم غنيمة وفرصة لا تفوت، وذلك بوسائل وأساليب منها:
1- أن يستدرج أولئك النوع من الشباب إلى اعتناق واستخدام أسلوب العنف والقوة؛ لفرض رؤيته التي يراها شرعية، وهذا يَجرُّ إلى نتائج وخيمة تبوء بالفشل، وينال المتربصون بها وثيقةَ إدانةِ العمل والدعوة الإسلامية.
2- أو أن يُستدرج قطاعٌ منهم إلى نزعات سلبية هروبيّة، تجعل البعض يفضّل طريق العزلة من تصوفٍ ونحوه، فتفقد الدعوة نُخَبًا من الممكن أن يكون فاعلةً ومؤثرة ونافعة للمجتمع.
3- وقد يلجأ بعضهم إلى التفكير في إعادة صفوفهم وتجمعهم، لفتح موقع جديد في الجهاد وفق قناعهم ورؤيتهم. هناك تجد أفكار التكفير جوًا مناسبًا للتفريخ فيه، الأمر الذي يتيح للمتربصين بالدعوة الإسلامية ثانية فرصة التشويه والتحريش وضرب العاملين في الدعوة بعضهم ببعض.
معاشر المسلمين، من أبرز النتائج المتوقعة لتلك المراهقات الفكرية أن يصاب أصحابها أو بعضهم بخيبة أمل وانطواء على النفس وقعود عن العمل للإسلام، حين يرون المجتمع قد خذلهم أو أسلمهم لخصمهم، وحين يرون أن أغراضهم في تقرير المعروف ونبذ المنكرات لم تنجح، والخاسر لا شك هو المجتمع كله.
وأخيرًا أيها المؤمنون، فإن الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته إلى الناس وظيفةُ كل مسلم حسب استطاعته وإمكاناته، وهي غير محدودة بحدود ولا مرهونةٍ بزمان ولا مكان، وجزاءُ من عمل بها يبتغي وجه الله تعالى أن يَرْضى عنه مولاه، سواء استجيب له أو أعرض الناس عنه، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272].
إن الداعية إلى اللله ليس كيانًا مبتورًا مقطوع الصلة بمن سبقه ومن يلحقه، بل هو حلقة في موكب طويل يمتد من آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ووظيفته الدعوة إلى الله لهداية البشرية وإنقاذها، سواء كانت هذه تملك الإمكاناتِ المادية المؤثرة أو فقط عن طريق أصوات مؤمنة تحدوها أرواح تتحرق لهداية الناس إلى صراط الله وإنقاذهم من النار، وليس على المسلم إلا البلاغ وبذلُ الجهد المستطاع بالحكمة والموعظة الحسنة، مع السعي في تطوير وسائل الدعوة حسب مقتضى الظرف والحال. أما مرحلة الجهاد فتكون بعد التمكين.
وفقنا الله للصواب والاهتداء بهدي السنة والكتاب...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وسيد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر الفضلاء، أنا أعلم وأدرك أن بعضًا أو كثيرًا من المعاني السابقة التي وردت في الخطبة الأولى ربما لا يعيها البعض من الحاضرين، وإنما الذي دفعني لذكرها والتركيز عليها بعض الشيء أمران:
الأول: ما نحن فيه من ظروف أمنية نتيجة ما وقع من تفجيرات مؤخرًا في مدينة الرياض، أو ما يتعلق بها من جنسها.
الثاني: رغبة الجهات المعنية بشؤون المساجد أن يخصَّص الحديث في عدد من خطب الجمعة عن تلك الظواهر تشخيصًا وعلاجًا.
وسيأتي الحديث ـ إن شاء الله تعالى ـ في خطب قادمة عن الجذور التاريخية لمثل تلك الأفكار التي تنزع إلى العنف ودوافع نشأتها، إذ هي ليست بدعًا تقع لأول مرة، بل سبق نماذج متعددة منها حدثت في تاريخ المسلمين، بتحريض من أعداء هذا الدين، لأنهم وجدوا من خلالهم تحقيقًا لكثير مما تكنه صدورهم تجاه الإسلام، ورغبة في إضعافه، وتشفيًا باشتغال العاملين بالدعوة والإصلاح بعضهم ببعض. غير أن هنا أمرًا مهمًا بل في غاية الأهمية بهذا الخصوص، وهو أن تشخيص تلك الظواهر ليس بالأمر الهين، ولا يستطيعه إلا القلة، فتعين إذًا أن يكف المسلم لسانه حذرًا أن ينال أحدًا بسوء لا يعود بالمصلحة لأحد؛ لا للمتكلم نفسه ولا للغائب ولا للمجتمع، فليس الأمر فقط كيل التهم، ولا يعالج مثل هذه الأمراض إطلاق عبارات التشهير والتكفير ليقع فيما يحذِّر منه، فالإفراط والتفريط كلاهما مذموم، وليس منهجًا شرعيًا في العلاج والإصلاح.
(1/5170)
فضل بناء المساجد
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
25/5/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المسجد في الإسلام. 2- فضل عمارة المساجد بناءً وعبادة. 3- شرح قول النبي : ((ولو مفحص قطاة)). 4- مسائل في بناء المساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، سمي المسجد مسجدًا لكونه مكان السجود، واشتُقَّ اسمه من السجود لكون السجود أشرف أفعال الصلاة؛ فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
والمساجد أحب البقاع إلى الله تعالى كما ورد في صحيح مسلم، أن رسول الله قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) [1]. والمساجد قِلاع الإيمان وحُصُون الفضيلة ومعاهد الثقافة، هي المدرسة والمصلّى، بل كانت في عصور صدر الإسلام ـ إضافة إلى ما سبق ـ مقرَّ الحكم ودارَ القضاء ومجلسَ الشورى وساحة التدريب وبيت الضيافة واستقبالِ الوفود [2] ، وفيها تُعقد ألوية الحرب، ومنها تنطلق قوافل الفاتحين.
ولا أدلّ على تلك الأهمية من فِعله حين وصل إلى دار الهجرة المدينة المنورة، فلم تطأ قدمه بيت أحد من أصحابه رضي الله عنهم حتى اطمأن إلى تحديد مكان المسجد النبوي حيث أُنيخت ناقته بأمر ربها، فكان أول عمل باشره في المدينة بناء ذلك المسجد الذي أصبح فيما بعد ملتقى المسلمين ومنطلق دعوتهم ومركز توجيه الجيوش.
وكذلك كانت المساجد في عهودها الزاهرة؛ جامعات علمٍ ومنابر هدى ومراكز إشعاع، والشيء الذي لا يداخله شك أنه كلما كانت المساجد مؤديةً دورها في حياة المسلمين كانت عزة الأمة وسيادتها وهيبتها، وكلّما جُرِّدت المساجد من مهامها وأُسندت إلى جهات أخرى في المجتمع تخلّف المسلمون وضعفوا وطمع بهم العدو، والتاريخ خير شاهد.
من أجل ذلكم ـ معاشر المؤمنين ـ جعلت عمارة المساجد من علامات الإيمان بالله والخشية، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة: 18]، والعمارة في الآية هنا المراد بها إقامة البناء وتشييده، يؤكد ذلك ويحث عليه ويبين ثواب فاعله ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين أن النبي قال: ((من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) ، يعني: بيتًا في الجنة، فالمثلية الواردة في الحديث جاءت لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي تعني المثلية في الكم لا في الكيف؛ لأن موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما صرح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق.
وهذا شامل لكل مسجد صغيرًا كان أو كبيرًا، أو كان بعض مسجد، فالحديث هنا جاء من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، فالمسهم مع غيره في بناء مسجد والمجدد له ومن أدخل توسعةً عليه يكون داخلاً في مضمون الحديث السابق [3] ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أحاديث صحيحة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من بنى لله مسجدًا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة)) ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من بنى لله مسجدًا يذكر فيه بنى الله له بيتًا في الجنة)) ، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: ((من حفر ماءً لم يشرب منه كَبِدٌ حرّى ـ أي: عطشى ـ من جنٍ ولا إنسٍ ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدًا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتًا في الجنة)) [4]. وهذا بالطبع لا يحصل إلا بمشاركة جماعة في بناء مسجد تكون حصة الواحد منهم قدرًا معينًا. والمراد بالباني في قوله: ((من بنى لله مسجدًا)) المتبرع بالبناء، سواء باشره بنفسه أو استأجر أجيرًا لبنائه، أما الصانع والأجير فهو وإن كان لا يعدم أجرًا إذا اصطحب النية واحتسب الأجر لكنه لا يدخل فيما نص عليه الحديث وهو بيت في الجنة.
معشر المصلين، ثمة أمرٌ مهم يتعيّن التنبيه عليه في هذا الشأن في قوله : ((ولو كمفحص قطاة)) ، فالقطاة طائر من الطيور، ومفحص القطاة محلّ فحصها أي: مجثمها لتبيض، ومعلوم أن ذلك المكان صغير جدًا، بل إن الحديث صرح بما هو أصغر من مفحص القطاة كما سمعنا آنفًا، ومفحص القطاة لا يمكن بحال أن يتسع لمصلي، فدل على أن أيّ تبرع يُسهم في بناء مسجد موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة، فلله الحمد والشكر والمنة.
نفعنا الله بهدي كتابه وسنة نبيه وفعل الصحابة.
أقول قولي هذا...
[1] صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (671).
[2] انظر: أحكام المساجد في الإسلام للدكتور محمود الحريري (ص7).
[3] انظر: المصدر السابق (ص35).
[4] الأحاديث الثلاثة السابقة صححها الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/227، 228)، كتاب الصلاة، الترغيب في بناء المساجد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام دينًا، وهدانا له، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، وإنما دفعني للتوقف عند المعاني السابقة توضيحًا وبيانًا حالُ كثير من المتبرعين لبناء المساجد؛ إذا أراد إخراج مبلغ تبرعًا لمسجد نصَّ وأكدّ على أن يصرف تبرعه في الطوب أو الإسمنت أو الحديد، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أبعد من ذلك ليقول: لا تضع تبرعي في فراش المسجد ولا المكيفات ولا الإنارة ولا دورات المياه، بحجة أن تلك عرضة للزوال قريبًا.
ولو استعرضت التاريخ الإسلامي كله ما وجدت مسجدًا شُيِّد وبُني وظل بناؤه دهرًا طويلاً حتى الحرمين الشريفين، بل حتى الكعبة المشرفة فكم مرةً جُدِّد بناؤها أو رُمِّم.
ثم، هل في الأحاديث السابقة المرغبة في بناء المساجد نصٌ وشرطٌ قيّد حصول أجر البناء على أن يدوم دهرًا طويلاً؟ لا يوجد.
ومن المعلوم لدى كل أحد في هذا العصر أنه لو شُيِّد مسجدٌ وخلا من الفرش والتكييف والإنارة فلن يدخله أحد مهما كان بناؤه متينًا ومتقنًا. وعليه فتوجيه مبالغ من التبرعات لأي غرض يخدم بناء المسجد من إنارة وفرش وتكييف وسائر خدماته التي تعين على أقامة الصلوات فيه داخله إن شاء الله تعالى في البناء والتشييد الموعود صاحبه ببيت في الجنة، فلا يوجد وجه شرعي لتلك التضييقات التي يظنها بعض المتبرعين.
بقي التأكيد على أهمية الإخلاص، وأنه روحُ كلِّ عملٍ خيري وتطوعي وإن كان في بناء المساجد آكد من غيره، فقد جاء التصريح به في الأحاديث السابقة من وجهين:
الأول: في نص الحديث من قوله : ((يبتغي به وجه الله)).
الثاني: من تخصيص القطاة بالذكر دون غيرها؛ لأن العرب يضربون بها المثل في الصدق.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد...
(1/5171)
وقفات ومعالم مع سورة الفاتحة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصلاة, القرآن والتفسير
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
3/6/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأملات في بعض هدايات سورة الفاتحة. 2- تدبر معاني القرآن طريق للخشوع في الصلاة. 3- تفسير سورة الفاتحة. 4- بعض فضائل ومزايا سورة الفاتحة. 5- تمثل أهوال يوم القيام كلها في قوله تعالى : (مالك يوم الدين). 6- لفتة مهمة في إجابة الدعاء. 7- التحذير من ترك العمل بالعلم أو العمل وفق هوى النفس. 8- شدة وطأة أمم الكفر على الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، سورة الفاتحة، هل تساءل أحدٌ منا يومًا ما السر في تكرار قراءتها في كل ركعة من صلواتنا المفروضة والنافلة؟! وجمهور العلماء على أن قراءتها ركن من أركان الصلاة. وهل سعى كل مسلم إلى معرفة معانيها والبحث عن تفسيرها؟ وهل حرص طلاب العلم خاصة على معرفة بعض دقائق معانيها؟ ولماذا قراءتها على المريض ـ نفسيًا كان أو عضويًا ـ يُغني عن الدواء بإذن الله كما هو ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في قصة الرجل اللديغ حين قُرِئت عليه فقام كأن لم يكن به شيء؟
هذا ما سأحاول فيه بهذه الخطبة وربما غيرها؛ أن أقف معكم على بعضٍ من أصول معانيها، أما الإحاطة بأكثرها وتتبع دقائقها فيحتاج إلى أمرين لا يتوفران هنا: الأول: الرسوخ في العلم، والثاني: الوقت الطويل.
فتعالوا بنا نستلهم بعضًا من هدايات هذه السورة التي قال الرسول عنها كما صح في المسند والترمذي: ((والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان ـ أي: القرآن ـ مثلها، إنها السبع المثاني)). قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/74): "أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]".
وقد كتب العلماء الكثير عن تفسيرها، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله كتب ثلاثة مجلدات لبسط معاني آيةٍ واحدة فيها فقط في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في كتابه المشهور: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
وأبلغ من هذا وذاك ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله مجّدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
معاشر المؤمنين المصلين، لعل ما سبق من التساؤلات أو ما ذكر من عناية العلماء أو ما سمعتم من صحيح الكلم الصادر من مشكاة النبوة عن هذه السورة العظيمة؛ لعل ذلكم يكون عونًا لنا في مدافعة الغفلة والسهو المفرط في الصلاة، والذي أضحى يتشكّى منه الكثير من المصلين، ولعل تدّبر معانيها أيضًا يكون سببًا في الخشوع الذي هو روح الصلاة، فنتذوقُها ونستطعمها، فنقبلُ عليها، ونفرحُ بالدخول بها. وفقنا الله للصواب وهدانا لفهم نصوص السنة وآيات الكتاب.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الحمد: ذكر صفات المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، والرب هو المالك المتصرف، والربوبية تقتضي أمرَ العباد ونهيَهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته، ومع أنه مالكُ كل شيء وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، إلا أنه الرحمن الرحيم، فاطمئِنَّ أيها المسلم، بل افرح وافخر بربك ومولاك الذي تعبده، رحمن رحيم، يعفو ويصفح ويغفر، حليم لا يعجّل بالعقوبة، كريم لا يبخل بالعطاء، فسارع إليه بالخروج من الذنوب والتوبة منها، فإذا خررتَ ساجدًا ومظهرك ساجدًا يدل على الذلة والخضوع، وهو أقرب ما تكون من مولاك، فاغتنم تلك الفرصة فلعلها لا تعود، واطرح ما لديك في ساحته، واعرض نفسك عليه مشفقًا من عذابه، مؤمِّلاً عفوَه وصفحه، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
يقرأ المصلي في كل ركعة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، ما يوم الدين هذا الذي خصّه الله تعالى بالملك، وهو سبحانه المالك كلَّ شيء؟ إن سورة الفاتحة تثير معنى يوم الدين وتذكِّر به، إنه اليوم الذي لا بد أن يشهده كل إنسان. آية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ توقظه ليأخذ أُهبة السفر الذي لا بد لكل حي أن يسافر إلى ذلك الموقف، ويشهد ذلك اليوم. وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه على المسير، وبحسب قوة عزمه وقِلّة عجزه يكون استعداده لذلك اليوم، يومَ الوعد والوعيد، والجنةِ والنار، يومَ يُبْصِرُ الناسَ وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الجليل سبحانه، ونُصب كرسيّه لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، ووُضع الكتاب، وجِيء بالنبيين والشهداء، ونُصِب الميزان، وأخذت الصحف تتطاير، واجتمعت الخصوم، وتعلّق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كَثَب، وكثُر العِطاش، وقلَّ الوارد، ونُصب الجسر على متن جهنم للعبور، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيه أضعاف الناجين.
كل هذه المعاني تكون شاهدة في قلب المصلي حين يقرأ قول الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فتنكسر حدة التعلق بالدنيا والانجذابِ إليها، ليطير إلى الآخرة وكأنه يسمع هاتفًا يقول:
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنَّها منازلك الأولى وفيها المخيّم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلَى أوطاننا ونسلم
وأنت في هذا الجو وقلبك هَلِع فَزِع لا تملكِ إلا أن تتوسل إلى ربك بالدعاء أن يهديك سواء السبيل، ويعينَك ويوفقَك، ويشرحَ صدرك لعبادته وحده، لتنجو من أهوال ذلك اليوم العظيم وخزاياه، ولتفوز بجنته ورضاه. وكل هذه المعاني وأكثر صيغت بأوجز عبارة وأبلغ بيان في الآية التي تلي الآية السابقة وهي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وفرقٌ بين لفظ: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولفظ: (نستعينك)، فلفظ: (نستعينك) قد نستيعن معك بغيرك، وأما لفظ: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كلَّه بيدك وحدك، لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة، وفيها إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يُتوكّل إلا على من يستحق العبادة لأن غيره ليس بيده الأمر، فلا تتوكل عليه أيها المسلم. والربط بين العبادة والتوكل صُرِّح به في آيات أخرى؛ في قوله سبحانه: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [التوبة: 129]، وقوله: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك: 29] وغيرها. قال ابن تيمية رحمه الله: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرياء، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبر".
نفعنا الله بهدي كتابه وسنة رسوله وهدي الصحابة، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى الإعانةُ على مرضاته، وهو الذي علمه النبي لحبِّه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال: ((يا معاذ، إني والله لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). قال ابن تيمية: "تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العبد ربَّه العونَ على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
وهنا ـ معاشر المؤمنين ـ لفتة مهمة في الدعاء أرى من المناسب التنبيه عليها:
ليعلم العبد المسلم أن إجابة الله لسائليه لا تكون دائمًا لكرامة السائل عليه، فقد يسأل العبد ربه مسألة فيقضيها له، ولكن فيها هلاكه وشِقوته، ويكون قضاؤها له من هوان العبد عليه وسقوطه من عينه، في حين أن يكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته إياه، فيمنعه حمايةً وصيانة وحفظًا لا بخلاً، فيظن الجاهل إذا سأل الله فلم يجبه أن الله لا يحبه ولا يكرمه، ويراه يقضي حوائج غيره، فيُسيء ظنَّه بربه، أليس أبغض الخلق إلى الله تعالى عدوه إبليس؟ ومع هذا فقد سأله حاجةً فأعطاه إياها ومتّعه بها، ولكن لما لم تكن عونًا له على مرضاته كانت زيادة له في شقاوته وبعده عن الله وطرده من رحمته.
فاعلم إذًا أن عطاء الله تعالى ومنعه ابتلاءٌ وامتحان، قال الله تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15-17]، فعادت سعادة الدنيا إلى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
عباد الله، يقرأ المسلم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ في كل ركعة، ليجدِّد حاجته وافتقاره لمولاه أن يهديه، وطلب الهداية هنا يتضمن الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده جل وعلا، إن شاء أعطاها عبدَه، وإن شاء منعه إياها، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، كما أن طلبَ الهداية في الآية طلبُ الاهتداء إلى الأعمال الصالحة والتوفيق إليها، حَذِرًا ومشفِقًا، ومتبرِّئًا من طريق اليهود المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وعلموه لكنهم عاندوا ولم يعملوا به، ومتبِّرئًا من طريق النصارى الضالين الذين ضلوا بعيدًا عن الحق والهدى ببدعهم التي لم يشرعها الله لهم. قال علماؤنا: كل عالم لم يعمل بالحق ففيه شَبَهٌ باليهود، كما أن كل من يعمل وفقًا لهواه أو بِدعًا في الدين ففيه شَبَهٌ من النصارى.
ولولا شدة حاجة المسلم ـ عباد الله ـ المتجددة يوميًا بل متجددة أثناء اليوم الواحد، لولا شدة حاجته للهداية وأنه عرضة للوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، لولا أن ذلك خطرٌ قد يداهمه لَما فَرَضَ الله عليه أن يدعو ربه بهذا الدعاء، ولما اختار له مولاه أن يتضرع إليه في اليوم سبع عشرة مرة في أقل تقدير.
وما أجدرنا نحن المسلمين دائمًا وفي هذا الوقت على وجه الخصوص أن نتدبر هذا المعنى وقد كشر الكفار عن أنيابهم، وأعلنوا عن نواياهم في ملاحقة الدعوة الإسلامية والترصد لها وتعقّب أهلها، حتى الجهات الإغاثية الإسلامية لم تسلم من شرهم في كل مكان بالعالم، وصرّحوا مرارًا أن الذي ليس معهم فهو ضدهم. إجماع دولي على استهداف الدعاة، واتفاق على إذلالِ المسلمين وإهانتِهم، فما إن يُقفل ملف اتهامات إلا ويُفتح آخر، انسجم اليهود مع النصارى، وتلاقى اليهود مع الوثنيين، واتفق أهل النفاق مع كل أولئك الأعداء على ضرب المسلمين، وأما التصدي للمحتلين والغزاة فأصبح محرمًا، وصاحبه مجرَّمًا ومعارَضًا ومُطَاردًا، إجماعٌ غير مسبوق للاعتداء على المسلمين، في القديم كان الأعداء يتناوبون ذلك الاعتداء على بعض الأطراف، لكنهم يَدَعون بعضها، ويصادمون بلدًا ويصالحون آخر، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والحصار، وتجميد الأرصدة والأموال في كل حدب وصوب، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 53]. ورغم ذلك الكيد والمكر الذي تكاد تزول منه الجبال فلا تهولنك ـ أيها المسلم ـ ضخامةُ قوتهم، فإنها ضالةٌ عن مصدر القوة الحقيقية، بعيدةٌ شاردةٌ عن الصراط السوي، بل مضادةٌ ومصادمةٌ لقوة الله المتين، فاقدةٌ غذاءها الدائم الذي يحفظ لها قوتها، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر: 25].
وعليك الآن أن تعلم وتفهم لماذا أُمرت أن تتبرأ من طريقهم وطريقتهم في اليوم سبع عشرة مرةً في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ.
جماهير علماء التفسير على أن المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى، وقد صح الخبر بذلك عن رسول الله من حديث عدي بن حاتم في قصة إسلامه، قال: سألت رسول الله عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: ((اليهود)) ، وَلا الضَّالِّينَ قال: ((النصارى هم الضالون)). قال ابن كثير رحمه تعالى: "وكلٌ من اليهود والنصارى ضالٌ مغضوبٌ عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال الله تعالى عنهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60]، وقوله عنهم: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ [البقرة: 61]، وقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6]، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال الله تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
إن الكفَار أعداءٌ ولن يرحموا، وهم إن لانوا وسكتوا فإنما ذلك لمصلحة، ومتى حانت الفرصة سارعوا للفتك بالمسلمين، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 20].
اللهم احفظ لنا إسلامنا وإيماننا، وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا...
(1/5172)
الجيل المثالي
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
1/7/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجيل المثالي أمنية من أماني الشعوب دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء. 2- ظهور الجيل المثالي في صحاري العرب وهو جيل الصحابة. 3- أسباب الكمال في جيل الصحابة. 4- ذكر بعض مواقف الصحابة ومناقبهم. 5- الإنصاف والعدالة في حياة الصحابة رضي الله عنهم. 6- خصائص ومزايا الجيل المثالي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من سالف العصور والأزمان إلى يوم الناس هذا والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يَودُّ البشر لو يَظفرون به فيتخذونه قدوةً لهم في السِّلم والحرب والمَنْشط والمكْره في مختلف أطوار الحياة، ليكون لهم من كماله الإمكاني المَثَل المقتدى به في كمالهم الإنساني.
الجيل المثالي أُمنيَّةٌ من أماني الشعوب والأُمم من أقدم الأزمان إلى الآن، تحدَّث عنها الحكماء، وتغنّى بها الشعراء، وترنم بها رَخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوةُ الضارعين والمناجين من كل صادِح ونحوه، بل إن (الجيل المثاليّ) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياءُ من أولى العَزْم، وهو الذي تمنَّاه العلماء، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال تَرْنو إلى شَبَحه الُمرَجَّى في أحلام يَقَظاتها وفَتَرات غَفَواتها.
تَريَّثَ موسى عليه الصلاة والسلام بقومه في آفاق العريش وَبَريةِ سِيناءَ وصحاري النقب وحوالي بئر سَبْع أربعين حولاً يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثاليًا يستنُّ بسُنَن الله ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه، ثم مات ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية.
ونبغ في الصين حكيمُها كونفوشيوس قبل ميلاد المسيح، وكان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه أخفق في كل ما قام به من دعوة أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن.
وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس، فصنَّفوا في ذلك المصنفات، وألقَوا به الخطب، وقد اشتطُّوا في كثير مما صنفوا وخطبوا، وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشَّطط، ثم انقضى زمن حكماء اليونان وحِكمتِهم دون أن تعمل شُعوبهم بما دعوها إليه؛ لأن الدعوة والمدعُوِّين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك.
وعالج المسيحُ في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة، ممن كانوا يقصدون هيكلَ أورشليم أو يتسلَّقون جبل الزيتون أو يتردَّدون على شواطئ بحيرة طبَريَّا وحقول أرض الجَليل وحدائقها، فلم يستجب لدعوته إلاّ عدد ضَئيل لا يكاد يُسمّى جماعة، فضلاً عن أن يكون أمة.
إن الإنسانية ـ عباد الله ـ من أقدم أزمانها وفي مختلف أوطانها لم تشهد (الجيل المثالي) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحاري أرض العرب، يدعون إلى الحق والخير والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحدث التاريخي الفذّ من روم وفُرس وآراميين وكنعانيين وعبريّين وغيرهم، وكانت المفاجأة عجيبة بمصدرها وكيفيتها وأطوارها، ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ. أين كان هؤلاء؟! وكيف تكوَّنوا على حين غفلة من الأمم؟! وما هذه الرسالة التي يحملونها؟! وكيف نجحت؟! وما هي وسائل نجاحها؟! سلسلةٌ من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجؤوا بما يُنسيهم تاليه أوله، إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما أيقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها وسيرتها وأعمالها، وأن الذي اعتقدته وتخلّقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض.
وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها ثم أنساهم بعضُها بعضًا كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من أسرارها، وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي جيل الصحابة رضي الله عنهم أنه تلقى تربيته على يد معلّم الناس خاتم رسل الله المبعوثِ بأكمل رسالات الله. إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لذلك الجيل، لا يشك في ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن، ولكن يحقّ لنا أن نتساءل: ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله؟! ألم يُتَح لموسى أن يعاشِر قومه في الحِل والترحال معاشرة تربيةٍ ودعوة أكثر من أربعين سنة؟! ومع ذلك فحين أراد دخول الأرض المقدسة قالوا له: اذهب أنت وربك إنا ها هنا قاعدون.
أين أصحاب موسى هؤلاء من أصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم محمّد إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس من أهل مكة من صناديد العرب؟! فلما بلغ النبي بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم، فأخبرهم عن قريش، واستشارهم في الموقف، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال وأحسن، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو (الأسود) الكندي فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله : ((خيرًا)) ، ودعا له، ثم قال رسول الله : ((أشيروا عليّ أيها الناس)) ، فقال له سعد بن معاذ سيّد الخزرج وأقوى زعيم في الأنصار: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) ، قال سعد: فقد آمنا بك وصدّقْناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقُ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما تخلف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى عدونا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله. وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق رضي الله عنهم.
هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد، ورأيناهم في تحرّيهم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية، كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله في مواريث قد دَرَست ليس بينهما بينة، فقال لهما رسول الله : ((إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا ـ وهي القطعة من الحديد تحرّك بها النار وتُسعَّر ـ في عنقه يوم القيامة)) ، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال لهما رسول الله : ((أما إذا قلتما ذلك فاذهبا، فاقتسِما ثم توَخيا الحقّ، ثم استهما ـ أي: اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما ـ، ثم ليُحلَّ كل واحد منكما صاحبه)).
وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل اسميهما؛ لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم المتميزين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال؛ كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصهم النبي بالمكانة والمناقب، وهذه الطريقة في تربية محمد لأصحابه على محبة الحق واستجابة أصحابه له فيما أَحَبّ أن يكونوا عليه قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي.
فلما كانت خلافة الصديق رضوان الله عليه ناطَ منصبَ القضاء برمز العدالة في الإنسانية وهو عمر بن الخطاب، فكانت تمرُّ على عمر الأشهر ولا يأتيه اثنان يتقاضيان عنده، وأي حاجةٍ بهذه الأمة المثالية إلى القضاءِ والمحاكمِ وهي أمةُ الحق؟! ومن أخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه، بل إن الطبقة الدنيا في هذا الجيل جيل الصحابة رضي الله عنهم أن يأتي من يقع في شيء من المعاصي والذنوب إلى رسول الله فيعترف له بزلته ويلح بلجاجة وإصرار على طلب إقامة الحد عليه ـ وفي ذلك حتفه ـ ليتطهر مما دنسه به الشيطان. وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا عقوبة الآخرة.
وهذه الملاحظة عن هذه الطبقة بالذات ـ أعني طبقة صحابة الرسول ـ قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من أئمة أهل البيت من زيدية اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614هـ، نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع محمد بن إبراهيم بن علي المترضى الوزير (775هـ-840هـ) في كتابه "الروض الباسم"، فذكر تلك الطبقة وقال: "إن أكثرهم تساهلا في أمر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر، لا سيما معصية الزنا... لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورَع الشحيح والخوف العظيم ومن يُضرب بصلاحه المثل ويتقرّب بحبه إلى الله عز وجل، وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين".
وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية محمد بن إبراهيم الوزير قائلاً يخاطب قارئَ كتابه: "فأخبرني على الإنصاف: مَن في زماننا وقبل زماننا من أهل الديانة سار إلى الموت نشيطًا وأتى إلى ولاة الأمر مُقِرًّا بذنبه مشتاقًا إلى لقاء ربه، باذلاً في رضا الله لِروحه، ممكّنًا للولاة أو القضاة في الحكم بقتله؟! وهذه الأشياء تنبه الغافل وتقوي بصيرة العاقل، وإلا ففي قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم خير القرون، وبأن غيرهم لو أنفَق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه، إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة" اهـ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ما حكمة الله في هذا الامتياز الذي اختصَّ به أصحاب رسول الله فجعلهم (الجيل المثالي) الوحيد الذي عرفه تاريخ الإنسانية؟ سؤالٌ قد يرد على بال الكثيرين.
يقول العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله: "فكرت في معادن الأمم ومواهبها وسجاياها فراقبتها جميعًا قبل أن تطرأ عليها الحضارات والعلوم المكتسبة والصناعات والأنظمة الاجتماعية التي هي من صنع التشريع البشري، فتبين لي أنّ الأمة التي منها (الجيل المثالي) في الإسلام امتازت في جملتها على كل أمة أخرى بسعة المدارك ونضوج العقل ودقة المشاعر وجودة الأخلاق، وامتازت بلغة هي أرقى على الإطلاق من كل لغة أخرى للبشر، وكل رقي لأي لغة أخرى غير اللغة العربية هو من أثر الحضارة واتساعها الحادث في الصناعات والعمران والفنون والثروة.
ولقد اختار الله محمدًا لأكمل رسالاته وآخرها، واختار كذلك العربية لكتابه الحكيم؛ لأنها أكمل اللغات وأغناها، واختار أيضًا لرسوله أصدق الأمم معدنًا وأجمعها للصفات التي يكفلُ نجاح هذه الدعوة وتقوى بها على حمل هذه الأمانة، فكانت بها خير أمة أخرجت للناس. وقد دعت إلى الإسلام بسيرتها وأخلاقها وتصرفاتها، فتعرفت الأمم إلى الرسالة المحمدية بما رأت العيون من سيرة الصحابة أكثر مما سمعته الآذان من بيانهم. وأصحاب رسول الله لما استجابوا لهذه الدعوة وتشرفوا بالدخول في الإسلام كانوا متفاوتين في مبلغهم من سجايا أمتهم؛ فبعضهم كان أسرع إدراكًا من بعض، وإذا امتاز أحدهم على أخيه بناحية من نواحي الخير كان لأخيه ناحية أخرى من الخير يمتاز بها، كان أبو بكر أسبق من عمر إلى إدراك الحق في دعوة الإسلام، لكن عمر حتى في أشدّ عصبيته على الإسلام ـ يوم بلغه إسلام أخته وابن عمه وجاء ليبطش بهما ـ طرقت سمعه صيحة من صيحات الحق التي يهتف بها الإسلام، فبردت عصبيته، وتغلب نزوعه للحق على نزوعه لنصرة الإلف، فكان في خلال دقيقتين اثنتين من أكرم أنصار الحق على الله، ومن أسرع البشر إلى الاستجابة لنداء الحق. وخالد بن الوليد كان شابًا من أبناء الأعيان من رؤساء قريش، سكر بخمرة النصر على المسلمين في أحد، وكان يومها لا زال على الشرك، وعاد إلى مكة نشوان بها، لكن الحق الذي كان الإسلام يهتف به كان يطرق مسامع خالد، فتأمل فيه فوجده حقًا، فترك ثروة أبيه وجاهه ومربط خيله الواسع في مكة، وخرج قاصدًا المدينة ليدخل في دين الذين حاربهم وانتصر عليهم، فلقي في طريقه عمرو بن العاص وحامل مفتاح الكعبة، وعلم أنهما مثله قد تبين لهما الحق وخرجا في طلبه والالتحاق بأهله والجهاد في سبيله، فقال النبي فيهم عند بلوغهم المدينة: ((رمتكم مكة بأفلاذ كبدها)).
مثل هذه الأخلاق كثيرة جدًا في (الجيل المثالي) الذي صنع منه محمد أصحابه، ولكننا قلما نجد ذلك شائعًا في الأمم الأخرى. نعم، إن الخير موجود في كل الأمم، ولكن لا إلى الحد الذي يقوم به جيل كجيل صحابة محمد، ولذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس.
يقول رسول الله فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) ، ومما لا شك فيه أن العرب كانوا على وثنية، ولكن مَنْ مِنَ الأمم لم يكن عند ظهور الإسلام من أهل الوثنية بمختلف معانيها؟! إلا أن العرب كانوا أحدث الأمم في وثنيتهم، لأنها طرأت عليهم قبيل الإسلام بمئات قليلة من السنين على يد عمرو بن لحي الخزاعي حين جلب الأوثان والأصنام من الشام إلى مكة، وكانت العرب قبل ذلك من أهل الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل، وبنو إسماعيل انتشروا من مكة وتوطنوا في جميع البقاع الشمالية من جزيرة العرب إلى أسوار مدينة دمشق. ومن العرب من كانوا على دين شعيب، وقد ترك التاريخ لنا نصوصًا في هذا المعنى. وهذه الوثنية الطارئة على العرب لم يكن لها عندهم من الهياكل والسَدَنة والتهاويل ما يضارع الذي لها عند غيرهم، فكانوا أقرب أمم الأرض إلى دين الفطرة، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم بقوله سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]، وقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بَكار أن رجلاً قال لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟! قال: إنّا كنا مع قوم لهم علينا تقدّم ـ يعني أباه ومن هو في طبقة أبيه ـ وكانوا ممن توازي حُلومُهم الجبال، فلما بُعث النبيّ فأنكروا عليه قلّدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك مني من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إليّ فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربّك وربّ من قبلك ومن بعدك: أنحن أهدى أو فارس والروم؟ قال: نحن أهدى ـ يعني من ناحية الصدق والعدالة والأمانة والتعاون المحمود ـ قلت: فنحن أوسع عيشًا أم هم؟ قال: هم، قلت: فما ينفعنا فضلُنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا وهم أعظم منا فيها أمرًا في كل شيء؟! وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل.
أيها المؤمنون، إن المسلمين بل الإنسانية كلها أشدُّ ما كانوا اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله وكرم معدنهم وأثر تربية رسول الله فيهم وما كانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا بها (الجيل المثالي) الفذ في تاريخ البشر.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة [1]...
[1] هذه الخطبة مُستقاة من كتابات الشيخ محب الدين الخطيب، ختم بها كتاب: "المنتقى من منهاج الاعتدال" بعدما حققه وعلق على حواشيه، غير أن عرضه كخطبة جمعة تطلَّب شيئًا من التنسيق حذفًا وإضافة.
(1/5173)
التشبه
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
21/8/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآثار السيئة المترتبة على التشبه. 2- حقيقة التشبه المنهي عنه. 3- أسباب التشبه أو التقليد. 4- واقع الحضارة الغربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن التشبه حالة تطرأ على بعض النفوس البشرية تنبئ عن ولَع المتشبه بمن تشبه به، ولذلك فإنها في كثير من أحيانها تعتبر ظاهرة غير محمودة؛ إذ إنها تدل على رغبة صاحبها في الخروج عن طبيعته إلى طبيعة غيره الذي يختلف عنه في الخَلق والخُلق، ثم يمتد أثرها ليشمل مظهر الفرد والأمة ثم تبعيتها للغالب؛ لهذا ولغيره أولت الشريعة الإسلامية قضية التشبه اهتمامًا بالغًا، وحرصت على محاصرتها في مبادئ نشوئها قبل أن تستفحل لتصبح ظاهرة مرضيةً على مستوى الأمة بأسرها.
أيها المؤمنون، التشبه بالكفار مرض خطير وآثاره سيئة على المسلمين؛ لأن التشبه بالغير في أصله نابع من تفضيل الإنسان هيئة غيره على هيئة نفسه، وهذا فيه كفران للنعمة التي اختص الله تعالى بها الفرد أو المجتمع، فالرجل المتشبه بالمرأة غير راضٍ عن هيئته التي كرمه الله بها، لينتقل إلى هيئة مغايرة، إلى إنسان آخر اختصه الله بخصائص أخرى، وحينما تتشبه الأمة المسلمة بغيرها من الأمم فكأنها بذلك تعلن بصراحة أن هيئة تلك الأمة الكافرة خيرٌ لها من هيئتها التي كرمها الله جل وعلا بها.
إن التشبه بالغير دليل قوي على الضعف النفسي الداخلي للفرد والأمة، وهو دليل على هزيمة نفسية بالغة، والشريعة الإسلامية لا تقبل من المسلمين أن يعلنوا تلك الهزيمة الشنيعة ولا يعترفوا بها حتى وإن كانت واقعًا؛ لأن الاعتراف بالهزيمة وإعلانها على الملأ ـ في هذه المسائل ـ يزيد الضعيف ضعفًا والقوي قوة، ويمكّن القوي من رقبة الضعيف، بل يتجاوز ذلك إلى الإعلان الصريح بالخضوع والتعظيم لهذا المتشبه به، فلذا حرصت الشريعة على دفعه بكل وسيلة. إن العزيز والشريف لا يمكن أن يحاكي غيره، فضلاً عن أن يتشبه به، بل إنه ينتظر من غيره أن يحاكيه ويقلده.
التشبه بالغير ينبعث من نفسية محطمة ذليلة، وهذه النفسية أكبر عائق لنهوض صاحبها ماديًا ومعنويًا، ولعل هذا تفسير لتخلّف الدول الإسلامية اليوم عن ركب الحضارة ومقعد القيادة؛ ولهذا فإن العقلاء من أي أمة من الأمم يأبون أن تقلد شعوبُهم عدوَّهم، بل إنهم يحرصون على تميزهم بتراثهم وتقاليدهم وأزيائهم حتى ولو رأوا أن العدو له تراث وتقاليد وأزياء خير مما هم عليه؛ وما ذاك إلا لأنهم يدركون الأبعاد النفسية والاجتماعية بل والسياسية للتبعية الشكلية للعدو.
أيها المسلمون، التشبه في الظاهر والمظاهر يورث المحبة، وهذا أصل مقرر في طبائع النفس البشرية وأمرٌ مشاهد، وتفسير ذلك أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن، فأعمال الطاعات الظاهرة مثلاً تزيد في الإيمان القلبي، كما أن أعمال القلوب وما يقرُّ فيها من الإيمان واليقين والرضا والتوكل ونحوها تُحرك الجوارح للعمل، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بالكفار والحيوانات والشياطين، ونُهي الرجال أن يتشبهوا بالنساء، ونهي النساء أن يتشبهن بالرجال.
عباد الله، لسائلٍ أن يسأل: ما التشبه المنهي عنه؟ والجواب على ذلك: إما أن يكون المتشبه قَصَد التشبه بطوائف معينة، والأصل في هذا حديث الرسول : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود والحديث صحيح، وحديث: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) أخرجه البخاري. فإذا قصد المسلم التشبه بأولئك وقع في المحظور، سواء كان التشبه قولاً أو فعلاً، فإذا لبس المسلم لباسًا مباحًا أصلاً ولو كان مشتركًا بين المسلمين والكفار كالبنطال مثلاً لكنه لبسه بقصد التشبه بالكفار فقد ارتكب محرمًا على أقل الأحوال، أما إذا لبسه بغير قصد التشبه فالأمر واسع. ولو سمّى مسلمٌ ولَدَه باسم من الأسماء المشتركة بين الكفار والمسلمين مثل: سوزان وآدم ونحوها وكان يقصد مشابهة الكفار أَثم، ولو نظم الإنسان أثاث منزله قاصدًا التشبه بالكفار في منازلهم فقد ارتكب مخالفة.
ولو لبست المرأة لباسًا مشتركًا بين الرجال والنساء لكنها قصدت به مشابهة الرجال حرم عليها، بل تعرضت للعن والطرد من رحمة الله، وكذا الأمر بالنسبة للرجل، فإذا ألان كلامه مثلاً واستعمل بعض الكلمات قاصدًا مشابهة النساء دخل في الذم وتعرض للعن.
وإذا سنَّت دولةٌ أنظمةً أو خططت مدنها أو مبانيها قاصدة بذلك التشبه بالدول الكافرة حرم هذا القصد في أقل أحواله، ونُظِرَ في ذات الفعل؛ فإن كانت فيه مصلحة راجحة ولا بديل عنه وهو خارج عن المشابهة فلا بأس، وإلا وجب تغييره.
والحاصل أن التشبه بقصد ونية هو أشدّ أنواع التشبه تحريمًا، حتى أشار بعض العلماء إلى أنه قد يكون في بعض الأحوال كفرًا مخرجًا من الملة، نسأل الله العافية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
اللهم انفعنا بما علمتنا، وارزقنا علمًا نافعًا، وأقرَّ الحكمة في قلوبنا، وأجرها على ألسنتنا وأعمالنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، فالتشبه هو التقليد، وهو أن يتّبع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدًا الحقيقة فيه، من غير نظر ولا تأمل، وكأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه.
وللتشبه أو التقليد أسباب، من أهمها:
أولاً: التربية الخاطئة التي يتلقاها الأولاد في البيوت إذا كان الأَبَوان ممن أعجبوا وأشربوا حبَّ الغرب ومناهجه، وقد قال : ((كل مولود يولد على الفطرة ـ أي: على الإسلام ـ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)). ترى الأبوين أو أحدهما يسوقان أولادهم إلى التشبه بالكافر، أو على الأقل لا يوجهونهم ولا ينكرون عليهم مظاهر التشبه في الملبس والحركات، فينشأ الولد المسلم ابن الأسرة المسلمة وفي البلد المسلم وتراه وكأنه يعيش في إحدى الدول الكافرة للأسف.
ثانيًا: من أسباب التقليد التأثر بالقرناء المعجَبين بالنمط الغربي والمفتونين بكل ما يصدره الغرب، وخوفًا من هذا التأثير أخبر النبي وحذر فقال: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). وهذا السبب من أقوى أسباب التشبه والتقليد في أوساط الشباب خاصة.
ثالثًا: حب الظهور والشهرة، ويبرز هذا أيضًا في الشباب بغية جذب انتباه الآخرين ولفت الأنظار إليه، فإذا مازج هذا الشعورَ خوفُ الوصف بأنه متخلّف إن لم يقلد ويتشبه سارع الأغرار إلى التشبه وكأنهم إلى نُصبٍ يوفضون، ومن المعلوم أن اشتغال حواس الإنسان بالمظاهر والموضات الفاسدة تصرفه عن النافع والمفيد، وتحرمه منها، وتزعزع ثقته بأصوله وثوابته ومبادئه، لتوجد منه إنسانًا لا شخصية له يتلاعب به تجار الموضات.
ورابعًا: من أسباب التشبه أو التقليد جهل المقلّدِ بحقيقة دينه، وينسى أو يتناسى أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده دون سواه، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. ومن أبلغ الوسائل التي تصرف المسلم عن الافتخار بدينه عكوفه أمام شاشات القنوات الفضائية المنحطة والمفسدة والموجّهة قصدًا لإفساد الشعوب عامةً والمسلمين على وجه الخصوص.
أيها المؤمنون، يا أتباع محمد ، وإن من الأسباب الداعية للتشبه جهل المسلمين المتشبهين بحقيقة الحضارة الغربية التي يلهثون في التقاط ما ترمي خلفها من قيح وصديد، يجهلون أنها حضارةٌ مفلِسة في الجانب الروحي والنفسي، وهاكم بعض الأرقام التي تؤكّد هذه الحقيقة، أجراها باحثان غربيان على بني قومهم، وجاء فيها:
74 في المائة ممن أجريت الدراسة عليهم قالوا: لن نتردّد في السرقة متى ما وجدت الفرصة.
56 في المائة قالوا: لن نتردّد في قيادة السيارة ونحن في حالة سكر.
41 في المائة قالوا: نستخدم المخدرات للترفيه عن النفس.
53 في المائة من المتزوجين قالوا: لن نتردّد في الخيانة الزوجية.
91 في المائة قالوا: إن الكذب أصبح عادة وسلوكًا مألوفًا في الحياة اليومية.
82 في المائة يمارسون الزنا وكأنه أمر عادي لا يندمون عليه.
فهل هذه حضارة تستحق أن تُقلَّد ويُعجب بها؟! لكنه ضعف المسلمين للأسف أدى بالكثيرين إلى الانبهار بالأعداء، وظنوا أن قوة الغرب إنما جاءت بسبب ربطة العنق والقبّعة والحذاء وحلْق اللحى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/5174)
لماذا التخلف عن شهود الجنائز؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
28/1/1425
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة. 2- فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه والإنكار على المتهاونين. 3- البكاء صفة جبلية إنسانية لا تنافي الرجولة أو المروءة. 4- صور من بكاء النبي والصحابة رضي الله عنهم. 5- الحث على البكاء من خشية الله وعند سماع الآيات. 6- حكم تجهيز الميت والتأكيد على الصلاة عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد ثبت في الصحيح من سنن أبي داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
الوَهَن: الضعف، وموجب الضعف وسببه هو حب الدنيا وكراهية الموت، وهما متلازمان ويؤديان إلى نتيجة واحدة؛ وهي إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين.
إن التعلق بالدنيا وتقديمها على حساب الآخرة غفلةٌ وغبن، وحمقٌ وغباء، وقلة عقل وقصور فهم، لماذا؟ لأن الآخرة خير وأبقى، فمن اختار القصير الفاني وغلَّبه غافلاً عن الطويل الباقي فقد اختار الدون، وهذا الاختيار إمَّا أنه ناتجٌ عن سوء طوية وكرهٍ للحق مع خفة العقل، أو ناتج عن الجهل المطبق واختلال المعيار الصحيح لديه؛ فلا ينظر للأمور نظرة تنفعه، وتجلب له الخير، وتنقذه من كوارث واقعةٍ لا محالة إن لم يتدارك نفسه.
أيها المسلمون، ظاهرة سلبية أرى من الواجب عليَّ وأمثالي الوقوف عندها ومحاولة علاجها، لا لأنها منكرٌ عظيم بحدّ ذاته، وإنما لأنها تعكس واقعًا نفسيًا وخطأ شرعيًا، بل ربما انحرافًا عقديًا. إنها سلبية لا تقع من المفرِّطين وعدم المبالين في فعل السنن والتزود للآخرة، وإنما من أناسٍ عُرف عنهم الخير وسعيهم في فعله وبذله والطمعُ في نيل أجره، ومع ذلك يُحجِمون ويتخلّفون ولا يقدمون على فعل تلكم السنة، وأعني أولئك الذين لا يشهدون الجنائز مع المسلمين في المقابر، حتى لو كان المتوفَّى قريبًا لهم أو عزيزًا لديهم، ليس فقط غيابهم عنها مرةً أو مرتين أو مرات، وإنما حضورهم نادرٌ جدًا أو لا يحضرون أبدًا. فما السرُّ في ذلك؟! لقد حاولت معرفة السبب، ولماذا يتخلف أمثال أولئك الخيِّرين عن شهود الجنائز وهم يعلمون عِظَم الأجر، ولعلهم سمعوا أو قرؤوا قول النبي في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)) ، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)).
أيها المؤمنون، لقد حاولت معرفة السبب، وأبدى لي بعض أهل الشأن ممن استطلعت آراءهم أسبابًا أجدها غير مقنعة، أو على وجه التحديد ليست جوابًا للسؤال الذي طرحته عليهم، إلا سببًا واحدًا، وهو أن المقصودين بالحديث ـ أعني الذين يتهربون من شهود الجنائز ـ الصارف لهم خشيةُ البكاء والتأثر أمام الناس، وهذا عيبٌ عندهم وفي عرفهم أن يبكي الرجل، حتى إن أحدهم وقد توفي له ولد وكان الناس يُعزّونه في المقبرة بعد دفن ولده فيتصنّع الضحك طردًا وإبعادًا لعاطفة الأبوة التي قد تغلبه فتبكيه أمام الرجال، فيقع في المحذور في عرفهم، علمًا أن الرجل معروف بالصلاح والخير، ولكن هكذا تغلب الأعراف والتقاليد وتزاحم الشرع لتبرهن وتؤكد جهل صاحبها.
لقد بكى رسول الله وهو أصدق الناس رجولة وأكملهم مروءة؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميّت وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وعن أنس قال: دخلنا مع رسول الله على أبي أسيف القين ـ أي: الحَّداد ـ وكان ظئرًا لإبراهيم ابن النبي ـ والظئر زوج المرضعة ـ، فأخذ الرسول إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله؟! فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة)) ، ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) متفق عليه.
وبكى الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد وعمر يكلّم الناس، فلم يكلّم أبو بكر الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم النبي وهو مسجى ببردة حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه، فقبله بين عينيه، ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد متَّها، وفي رواية: لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها. رواه البخاري. وبكى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما على أبيه يوم أحد، قال : لما أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه. متفق عليه.
معاشر المؤمنين، ليس البكاء على الميت أمام الناس قاصرًا على شخص الرسول ؛ فلم يبك غيره! كما لم يقتصر فقط على أفراد من الصحابة، وإنما وقع بصورة أشبه ما تكون بالجماعية، وإليكم الدليل مما رواه البخاري، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه النبي يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله ـ أي: الذين يخدمونه ـ فقال النبي : ((قد مضى؟)) يعني: هل مات؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي ، فلما رأى القوم بكاء النبي بكوا، فقال النبي : ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم ـ وأشار إلى لسانه ـ ، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) يعني: النوح والندب بما ليس فيه، وأما دمع العين والبكاء الطبيعي الذي لا يكون فيه نوح ولا تكلف فهذا محمود.
وأثنى الله تعالى على الذين يبكون إذا كان الدافع لذلك خشية الرحمن والخوفُ منه سبحانه والإشفاقُ من عذابه والتأثرُ بآياته، إذ يقول سبحانه في محكم التنزيل: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107-109]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "حُقّ لكل من توسم بالعلم وحصَّل منه شيئًا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وقال التيمي: من أوتي من العلم ما لم يُبكِّه لخليقٌ أن لا يكون أوتي علمًا؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية"، ومفهوم المخالفة أن عدم التأثر وعدم البكاء من علامات الجهل؛ لأن البكاء من خشية الله تعالى يورث الخير، وصاحبه موعود بالأجر العظيم والثواب الجزيل، وقد صح نقلاً عن رسول الله أنه قال: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، وقال : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواهما الترمذي وصححهما الألباني.
والحاصل ـ معشر الفضلاء ـ أن البكاء على الميت أمام الناس جرى من خير الرجال وأكملهم؛ من محمدٍ ، ثم من صحابته والتابعين ومن بعدهم. وأما البكاء خشية من الله وخوفًا من عذابه وسخطه وطمعًا في مرضاته وثوابه وتعظيمًا وتدبّرًا لآياته إنما هو من صفات المؤمنين العارفين بالله المقدرينه حقَّ قدره، فليتنبه إلى ذلك.
نفعنا الله بهدي كتابه وسنّة نبيه ومسلك أصحابه، ووقانا وعافانا من كل ما يبعد عنها.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: فإن الأعمال المتعلقة بتجهيز الجنازة من غسل وتكفين وصلاة ودفن كلها فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقط الفرض عن الباقين.
ويستحب للمسلم أن يحرص على صلاة الجنازة والمشي معها للمقبرة والانتظار حتى الدفن، إلا أن التكلفَ في ذلك وتركَ واجبٍ من أجل الصلاة على الميت؛ كمن يترك مثلاً التدريس في حلقة القرآن أو يترك عملاً يتعلق بوالديه الكبيرين أو يخلف موعدًا مع شخص آخر يتعارض مع شهود الجنازة ونحو ذلك، فهذا تشدد في غير محله؛ فكما يُكره للمسلم إهمال السنن فلا يجوز له أن ينقل الحكم التكليفي من السنة إلى الواجب، والمعنى الذي وقفت عنده في الخطبة الأولى وبينته إنما هو في حقّ من يتعمد ترك حضور الجنائز، فلا يحضرها إلا نادرًا أو أقل من النادر ولو لم يمنعه مانع، فلا إفراط ولا تفريط، والتوسط والاعتدال مطلوب، وهو من أبرز مميزات هذا الدين وأظهر محاسنه، فالمسارعة إلى الخيرات والإكثارُ من النوافل أمرٌ مرغَّب فيه، لكن لا تنكر ـ أيها المسلم ـ على من غاب عن حضور جنازةٍ؛ لأنك لا تعرف ظروف الناس، وقد وجد في المدينة زمن الرسول من يموت من الصحابة ولم يصل عليه النبي ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مات رجلٌ وكان رسول الله يعوده فدفنوه بالليل، فلما أصبح أعلموه أي: النبي ، فقال: ((ما منعكم أن تعلموني؟)) قالوا: كان الليل، وكانت الظلمة، فكرهنا أن نشقَّ عليك، فأتى النبي قبره فصلّى عليه، فلم يعنف عليهم ولم يشدد بأن قال مثلاً: أخبروني عن كل حالة وفاة تقع في المدينة لأصلى عليها وأشهد دفنها، لم يقل ذلك ولا شيئًا منه، ففُهم إذًا أن التشدد في حضور الجنائز ليس من الشرع.
وفي الصحيحين أيضًا أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، فماتت ففقدها النبي ، فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: ماتت، فقال: ((هلاَّ كنتم آذنتموني؟)) قالوا: ماتت من الليل ودُفنت، وكرهنا أن نُوقِظَك، قال: فكأنهم صغَّروا أمرها، فقال: ((دلوني على قبرها)) ، فَدَلَّوه، فأتى قبرها فصلى عليها.
ومن المعلوم أن الصحابة أعلم الناس بدين الله تعالى بعد رسوله، فلو علموا أن نشر خبر الوفاة والمبالغة فيه سنة لسارعوا إليه؛ لأنهم أيضًا أحرص الناس على كسب الثواب، فلما لم يفعلوا ذلك فالاقتداء بهم دين، وقيام الرسول بالذهاب إلى قبر المرأة ثم الصلاة عليها بعد الدفن بأيام دون أن ينكر على الصحابة عدم إخبارهم إياه فيه لفتة إنسانية إن صح التعبير؛ لأن تلك المرأة كانت ضعيفة، وكانت تحتسب تنظيف المسجد، والرسول أكثر الناس تواضعًا ورحمة بأمته، فلم يغفل أو تمنعه أعماله الكثيرة أن يفيض على تلك المرأة الضعيفة بصلاته عليها حين لم يصل عليها حال الوفاة.
وأما ما يفعله الكثيرون الآن من إنشاء السفر الطويل من أجل الصلاة على ميت أو تعزية أوليائه فإن كان الأمر متيسرًا فلا بأس، وإن كان شاقًا والدافع له المجاملة وخوف الملامة فقط فتركه أولى.
هذا وصلوا على البشير النذير...
(1/5175)