يوم عرفة والأضحية وحكم تهنئة الكفار
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن صالح المسعود
غير محددة
9/12/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم عرفة. 2- فضل يوم النحر. 3- حال السلف يوم عرفة. 4- من أحكام الأضحية. 5- التحذير من التشبه بالكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، إنَّ يومكم هذا يوم عظيم مشهود جليل، يوم كريم مبارك فضيل، عظيم جليل لأنَّ الله عزَّ وجل عظَّم حرمته، وعظَّم فيه حرمات المسلمين في دمائهم وفي أعراضهم وفي أموالهم، وجعل ثواب العمل الصالح فيه أعظم أجرا، وجعل الذنب فيه أخطر وزرا. إنَّ يومكم هذا يوم كريم مبارك فضيل، فيه أكمل الله الدين، وأتمَّ نعمته على المؤمنين، فقال عزَّ وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا. إنَّ يومكم هذا يوم حافل بالهبات والخيرات، جمُّ المنح والبركات؛ فيه يعتق الله عزَّ وجل من العباد من النار ما لا يعتق فيما سواه، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)). وفي عشيَّة هذا اليوم ينزل ربُّنا عزَّ وجل إلى السماء الدنيا حتَّى يدنو من الحجَّاج بعرفة كما يليق بجلاله وعلوِّه، ففي تمام حديث عائشة المذكور قريبا عن النبيِّ : ((إنَّ الله عزَّ وجل يدنو ـ يعني من الحجَّاج ـ ثم يباهي بهم الملائكة)). يومنا هذا يومُ عرفة، هو يوم القرِّ، وغدًا يوم عيد النحر، وهو يوم الحجِّ الأكبر، هذان اليومان هما أفضل الأيام وأعظمُها حرمة عند الله عز وجل، فعن عبد الله بن قُرط الثمالي عن النبيِّ قال: ((إنَّ أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثمَّ يوم القر)) يعني عرفة. رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
عباد الله، إنَّ يوم عرفة مع شدَّة حرمته وعظمته فإنَّ اليوم الذي يليه وهو يوم النحر غدًا أفضل وأعظم حرمة عند الله من يوم عرفة، ولذلك سمَّاه الله يوم الحجِّ الأكبر، ففي عرفة يكون الوقوف والتضرُّع والابتهال والاستغفار والدعاء، وغدًا تكون الوفادة والزيارة لبيت الله، فكأنَّ العباد قد تطهَّروا من ذنوبهم في يوم عرفة، فأذن لهم ربُّهم يوم النحر في زيارته والدخول عليه في بيته، ولهذا كان في يوم النحر رمي الجمار وحلق الرؤوس وتقصيرها وتقديم القرابين وطواف الزيارة بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ومعظم أفعال الحج ومناسكه، فلا جرم أن كان يوم النحر يوم الحج الأكبر واليوم الحرام الأعظم.
أيُّها المسلمون، إنَّ يومكم هذا مع عظمته وفضله وبركته وخيره فإنَّ السلف الصالح لم يكونوا في هذا اليوم إلاَّ خائفين وجلين يغلب عليهم الحياءُ من الله وخشيتُه، مع قوَّة يقينهم أنَّه يوم مغفرة وعتاق من النار، فكانوا مع حسن ظنِّهم بربِّهم مؤنِّبين موبِّخين لأنفسهم، قال مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير أحد الصالحين من التابعين وهو واقف بعرفة: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بعرفة: "ما أشرفه من موقف لولا أنَّني فيهم"، وقال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ الله لا يغفر له.
فاحرص ـ وفقك الله لكل خير ـ على الدعاء في هذا اليوم لتشترك مع الواقفين في عرفات بالدعاء، روى مالك وغيره عن النبيِّ قال: ((أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي عشيَّة عرفة: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير)). فأكثروا فيه من الدعاء.
عباد الله، وغدًا تستقبلون أول أيام العيد، ومما يقرب إلى الله في هذا اليوم الحرص على صلاة العيد وحضورها مع المسلمين، فليحرص المسلم والمسلمة على الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب، ومن السنة لمن كان له أضحية أن يذبحها بعد صلاة العيد، من السنة أن لا يطعم شيئا قبل صلاة العيد حتى يذبح أضحيته فيأكل منها بعد الصلاة، فهذا من سنة النبي، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته، والأضحية مشروعة باتفاق المسلمين، ولا تجوز الأضحية إلا من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، أما الإبل فالواحدة عن سبعة، وكذلك البقر الواحدة عن سبعة، أما الغنم فالشاة عن مضح واحد، ويضحي الرجل بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، يقول أبو أيوب: إن الرجل كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته في عهد النبي. فالشاة الواحدة كافية عن أهل البيت الواحد وإن كثر عددهم، وإن تفاوتت درجة قرابتهم.
أسأل الله لي ولكم الفقه في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والاقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، لقد تكاثرت النصوص وتواترت في التحذير من التشبه بالكفار بجميع مللهم وعقائدهم، في كل ما له صلة بالعقائد والعبادات والعادات. ففي باب العقائد جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد والغلوِّ في الصالحين واتخاذ القبور مشاهدَ ومزارات والبناء عليها والتفرق في الدين والعصبيات والتحزبات والشعارات والنياحة على الميت والفخر بالأحساب والطعن في الأنساب وحمية الجاهلية.
عباد الله، ومن تشبَّه بغيره في مظهره وعادته وسلوكه ولغته أو شيء من أشيائه فإنه يولد إحساسًا بالتقارب وشعورًا بالتعاطف، والطيور على أشباهها تقَع. فإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث مثل هذه المحبة والمودة والميول والمشاكلة فكيف بأمور الدين والتربية والأخلاق والإعجاب بأحوال الأعداء ومبادئهم ونظمهم؟! فإن إفضاءها إلى أنواع من الموالاة أكثر وأشدُّ؛ مما قد يقود الواقع فيها إلى الدخول في قضايا الإيمان ومسائل الاعتقاد. ومع الأسف فقد نبتت نابتةٌ في العصور المتأخِّرة وفي أعقاب الزمن ذليلةٌ مستعبَدة، ديدنُها التشبُّه والاستحذاء، ووجدت في بعض أهل الرأي وبعض الضِّعاف من المنتسبين إلى العلم ممن يهونون أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئات والمظهر والخُلق حتى صاروا مسخًا في الأمة، فترى الاستئناس بأحوال الأعداء والرضا عن مسالكهم وازدراءَ المسلمين وتنقصَهم والتندُّر بالجميل من عوائدهم ومحافظتهم واحتشامهم في سلوكهم ولباسهم. ومن انسلخ من عوائد أهل دينه فقد أبرَز شأنَ أعدائه، وقدّم أمرَهم على أمر المسلمين. إن كثيرًا منهم يعيشون تشبُّهًا يقود إلى الذوبان والانحلال والتهتُّك، بل يقود إلى الفسوق والفجور والحرية المتفلِّتة والاختلاط المحرم وقبول التبرج والسفور وإبداء الزينة المحرمة.
أيها المسلمون، ليعلم كل مسلم أنه لا يجوز تهنئة الكفار بأعيادهم ولا حضورها، فمن تشبه بقوم فهو منهم، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
(1/4972)
فضل يوم عرفة والاستعداد للعيد
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
إبراهيم بن علي الحدادي
غير محدد
9/12/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله تعالى. 2- نعمة كمال الدين. 3- فضل يوم عرفة. 4- من أحكام يوم عرفة. 5- من أحكام الأضحية. 6- فضل العيد وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ، وقال تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]. فنعم الله على العباد كثيرة لا تعد ولا تحصى، وإن من أعظمها هو ما هدانا لهذا الدين وجعلنا من أمة خير المرسلين ، ثم ـ عباد الله ـ ما أنتم فيه اليوم من اجتماع يومين عظيمين يوم الجمعة وعرفة، كيف لا وهو يوم أكمل الله فيه الدين وأتمَّ فيه النعمة حيث قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].
ففي مثل هذا اليوم نزلت هذه الآية، قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال: أي آية؟ قال: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا ، قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على رسول الله ، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، وهذا اليوم جمع فضائل عدة، منها أنه يوم عيد لأهل الإسلام، قال : ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)) رواه أهل السّنن، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: نزلت ـ أي: آية اليَوْمَ أَكْمَلْتُ ـ في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
ولعظيم هذا اليوم فقد أقسم الله به ولا يقسم ربنا إلا بعظيم، قال تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج: 3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وهذا اليوم هو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 3]، قال ابن عباس: (الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة)، وهو قول عكرمة والضحاك.
ومن فضائل هذا اليوم أن صيامه يكفر سنتين، نعَم سنتين، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)) رواه مسلم. وقد استحب العلماء رحمهم الله لغير الحاج أن يصوم هذا اليوم ليشارك الحجاج ويتعرض لنفحات الله تعالى ويحوز الأجر العظيم.
ومن فضائل هذا اليوم العظيم أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان ـ يعني عرفة ـ ، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172، 173] )) رواه أحمد وصححه الألباني.
وهذا اليوم ـ عباد الله ـ يوم فخر وعزة للإسلام والمسلمين، فقد احتشدوا في مكان واحد وبإزار واحد وجاؤوا من كل فج عميق، فهو آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يرى مكانهم ويعلم حالهم ويسمع كلامهم على اختلاف ألسنتهم، فسبحانه من إله عظيم، جل عن الأشباه والأنداد، وتقدّس عن الصاحبة والأولاد.
ومن الفضائل أيضًا أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)). قال ابنُ عبد البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم" اهـ. وعن ابن عمر أن النبي قال: ((إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرًا)) رواه أحمد وصححه الألباني. قال ابن القيم رحمه الله : "إنه في يوم عرفة يدنو الرّبُّ تبارك وتعالى عشية مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول : مَا أَرَادَ هؤُلاءِ؟ أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم. وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائلا يسأل خيرًا، فيقربُون منه بدعائه والتضرّع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب، أحدهما : قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني : قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاتُه بهم ملائكته، فتستشعِرُ قلوبُ أهل الإِيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا ورجاء لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها " اهـ.
فيا عباد الله، يوم هذه فضائله ومزاياه وهذه منزلته ودرجته أيليق أن نفرط فيه أو نعرض عن التعرّض فيه لنفحات ربنا وعظيم عفوه ورحمته؟! لا والله، إن المستحب لكل مسلم أن يستغل هذه الفرصة العظيمة بالإكثار من العمل الصالح من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ؛ لعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار.
أيها المسلمون، لنكثر من الدعاء والتضرع بين يدي ربنا وخالقنا سبحانه وتعالى، فهذا يوم إجابة، وقد قال ربكم: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. هذا اليوم يوم خوف وخشوع وخشية من الله، يوم يذل فيه المؤمنون لربهم مخبتين، يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحّون بخير الدعاء، قال النبي : ((خير ما قلت أنا والنبيّون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فلنحرص على الإكثار من الدعاء مع تحصيل أسباب الإجابة من الخوف والتضرع والذل والانكسار بين يدي الله، ومن إطابة للمطعم والمشرب، والبعد عن معوقاتها من الذنوب صغيرها وكبيرها والتعدي في الدعاء والظلم، فإنه من أعظم الموانع.
عباد الله، ومن أحكام هذا اليوم مشروعية الإكثار من الدعاء، خصوصًا قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومنها أنه بفجر هذا اليوم العظيم يبدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات، وينتهي بغروب الشمس من يوم الثالث عشر. ومنها كذلك أنه إذا صادف يوم جمعة فإنه يصام ولو بدون صيام يوم قبله أو بعده، يشرع صوم يوم عرفة إذا صادف يوم جمعة ولو بدون صوم يوم قبله، وعموم النهي محمول على ما إذا أفرده المسلم بالصوم لكونه يوم جمعة، أما من صامه لأمر آخر رغب فيه الشرع وحث عليه فليس بممنوع، بل مشروع ولو أفرده بالصوم، لكن إن صام يومًا قبله كان أولى لما فيه من الاحتياط بالعمل بالحديثين، ولزيادة الأجر كما في فتاوى اللجنة الدائمة.
ومن الأحكام كذلك أنه يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً، سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع لأنه لا فرق بينها؛ لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة، وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة كما في فتاوى اللجنة الدائمة. ومن الأحكام أن يجوز صيام هذا اليوم ولو كان على المسلم قضاء من رمضاء، والمشروع للمسلم المبادرة بالقضاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بهدي خير المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، فإن الله تعالى قد شرع لكم الأضاحي والتقرب إلى الله بذلك، وهي شعيرة عظيمة وسنة مؤكّدة، ومن أراد أن يضحّي فلا يمسّ من شعره وظفره، وهذا النهي خاص بالمضحي دون من يضحَّى عنهم. وتجزئ الشاة عن الواحد وأهل بيته وعياله لحديث أبي أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون. رواه ابن ماجة والترمذي وصححه.
والمنصوص عليه في الأضاحي هي الإبل والبقر والغنم، ويشترط فيها أن تبلغ السن المطلوبة، وهي ستة أشهر في الضأن، وفي المعز سنة، وفي البقر سنتان، وفي الإبل خمس سنين. وسلامتها من العيوب لقوله : ((أربع لا يجزين في الأضاحي: العوراء البين عورها، المريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي)) وهو في صحيح الجامع. وأن تذبح في وقتها المحدد، وهذا الوقت هو من بعد صلاة العيد والخطبة، وليس من بعد دخول وقتهما، إلى قبل مغيب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من أيام ذي الحجة، لقوله : ((من كان ذبح قبل الصلاة فليُعد)) أخرجه البخاري ومسلم، ولقول علي رضي الله عنه: (أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده)، ويوم العيد هو أفضل وقت لها لفعله. ويذبحها بيده، ويأكل ويهدي ويتصدق منها.
أيها المسلمون، ونحن مقبلون غدًا إن شاء الله على يوم عظيم، ألا وهو العيد يوم النحر، قال عنه : ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)) رواه أهل السّنن، وقال: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر)) رواه أبو داود. ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر. يقول ابن القيم رحمه الله: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر".
عباد الله، وينبغي للمسلم في هذا اليوم أن يتأدب بآداب، منها التنظف والتطيب ولباس الحسن من غير إسراف ولا فخر ولا خيلاء، وأن يخرج ماشيًا ويخالف في طريقه، فيذهب للمصلى من طريق ويرجع من آخر، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. رواه البخاري. وأن يخرج بخشوع وتذلّل وانكسار بين يد الله تعالى، وأن يخرج صائمًا فلا يأكل إلا من أضحيته.
وعلى المسلم أن يحيي ليلة العيد بالتكبير، وأن يوسع على نفسه وعياله من غير إسراف، وأن يجتنب المعاصي والمنكرات، ويكثر من الاستغفار والتوبة، ويجعل من يوم العيد يوم فرح وسرور وزيارة للوالدين والأقارب والأرحام والأصدقاء، ويجعل صدره واسعًا مسامحا لكل أحد. ولا بأس بالتهنئة يوم العيد كأن يقول: تقبل الله منكم ونحو ذلك.
اللهم وفقنا لمرضاتك، واغفر لنا ولآبائنا...
(1/4973)
ولكنكم تستعجلون
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/11/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستعجال منه ماهو محمود ومنه ماهو مذموم
2- بعض صور الاستعجال المذموم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أخرج البخاري في صحيحه أن خباباً يقول: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدّة – فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرٌ وجهه فقال: لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق اثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، ولَيُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
ولكنكم تستعجلون. العجلة طبع في الإنسان، بشهادة خالق هذا الإنسان، قال الله تعالى: ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولاً وقال سبحانه: خلق الإنسان من عجل.
والاستعجال ليس مذموماً دائماً، بل أن الاستعجال في الخير والمبادرة إليه، هو المطلوب أحياناً، ولعل هذا هو المعْنيِّ في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى.
وأما حديث خباب الذي قرأته عليكم فإنه صورة من صور الاستعجال المذموم مع أن الصحابي رضي الله عنه كان طلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، عسى أن الله عز وجل يفرج عنهم شيئاً من الضيق والشدة التي كانوا يواجهونها في مكة، فأحمّر وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا الطلب، مع أنه طلب دعاء، وعدّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من الاستعجال الذي لا ينبغي في مثل هذه الظروف، وإنما المطلوب الصبر والتحمل وملاقاة كل ذلك في سبيل الدين.. ولكنكم تستعجلون.
وإليك أخي المسلم بعض صور الاستعجال المذموم والذي قد يحدث من البعض والصور كثيرة، لكني اخترت لكم أربعةً منها:
الصورة الأولى: الاستعجال في تغيير واقع الأمة. إن كثيراً من الغيورين على هذه الأمة، وممن لا يرضون بالانحراف والجور والبعد عن منهج الله عز وجل، لهم جهودٌ طيبة ومشكورة في التغيير، كل بحسب اختصاصه، وبحسب الثغرة التي هو يملؤها. إن الغيرة على واقع الأمة شيء مطلوب، والانزعاج مما وصلت إليه الأمة من الذلة والمهانة والخضوع لأعدائها، أمر يلزم قلب كل مسلم عاقل غيور. بل أن الضريبة التي تدفعها الأمة لخصمها الكافر تجعل الساكن يتحرك، والهادئ ينفعل، وهو يرى خيرات الأمة وثرواتها تستنزف في غير مسارها الصحيح، وفي المقابل هناك من أبناء هذه الأمة في بقاع كثيرة من الأرض لا يجدون لقمة العيش، بل إن أعداداً ليست بالقليلة تموت جوعاً وظمأً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن هذا الظلم العلني التي توجه سهامه لهذه الأمة، والمتمثل في إزهاق أرواح الأبرياء نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، دون أي سبب، سوى أنهم مسلمون، هذا الوضع وهذه الصور جعلت طائفة من الناس لا يتحملون ويريدون التغيير بأية صورة.
ولا أريد في هذه العجالة أن أتتبع كل ما يُفعل بالأمة، وكل ما يدبر لها، وكل جوانب النقص والخلل فيها، فليس هذا مجاله.. لكن هذه المقتطفات التي ذكرتها، لأبين السبب الذي قد حرك فئةً من الغيورين للمساهمة في التغيير، فالذي نحذر منه هو! الاستعجال في التغيير.
إن الواقع الذي وصلت إليه الأمة، لم يحصل فجأة ولم تكن الأمة في المساء مستقيمة وأحوالها طيبة، ثم أصبحت، وإذا بالأمور منقلبة رأساً على عقب، أبداً لم يكن التدني والدنو بهذا الشكل. وإنما الذي حصل، هو أن حال الأمة اليوم نتيجة لتخطيط وتدبير استمر مئات السنين، أعداء الأمة يخططون منذ أمد بعيد، وتخطيطهم كان يسير بخطوات هادئة، لكي لا يحدث ردة فعل، فجهة كانت تدبر لتقويض أركان الأمة اقتصادياً، وجهة كانت تعد البرامج لهدم الأمة أخلاقياً، وثالثة كانت تنظّر لغزو الأمة فكرياً، وهكذا مؤسسات ضخمة، وميزانيات ودعم قوي ومستمر ودول قائمة لهذه الجهات، لكي تعمل عملها في الإفساد. فالسؤال الآن هذا التدبير الماكر الذي بدأ بإسقاط الخلافة الإسلامية، وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات، ثم تبعه ما تبعه من الإفساد هذا المشوار الطويل الذي استمر كما قلنا مئات السنين، هل يمكننا إعادة الأمور إلى نصابها بفترة قصيرة: شهر أو سنة، أو حتى عشر سنين؟ هل يمكن تغيير واقع الأمة ورفع كل جوانب النقص والخلل في مدة سنة أو سنتين أو حتى عشر سنين؟ من كان يظن ذلك فهو مخطئ، ومن كان يتصور هذا فمع كل أسف ليس لديه بُعْد نظر.. إذا كان النزول لم يحصل بسرعة، وإنما استمر عمراً ليس بالقصير من عمر الأمة، فكيف بالصعود مرة أخرى، والكل يعلم بداهةً بأن الصعود أصعب وأشق من النزول.. لا بد أن تكون تقديراتنا معقولة ولا بد أن يكون تصوراتنا فيها شيء من الصحة.
إن تغيير واقع الأمة الآن، وإن انتشال الأمة الآن، من الوحل التي هي غارقةٌ فيه، لا يمكن أن يحصل بسنة، ولا سنتين ولا حتى عشر سنين، بل ربما يستغرق ذلك عمر جيل كامل، أو جيلين، إن لم يكن أكثر.. لأنه ما من جانب إلا ونخر فيه الفساد، فإنه لا يحتاج إلى إزالة هذا الفساد فقط، وإنما يحتاج إلى ملئه بالنافع والصالح أيضاً، فأين العقول المتوفرة في الأمة، لكي تسد كل فراغ؟ وأين الطاقات التي سوف تساهم في كل ميدان؟ النقص كبير، والمسافة بعيدة، ولا أريد بهذا الكلام، إحباط ذوي الهمم أبداً، لكن الفكرة التي أريد أن أوصلها لكم باختصار، هو أن تغيير واقع الأمة الحالي، لا يكون بسهولة، ولا يكون بسرعة، بل لا يمكن ويستحيل أن يحصل بسرعة، فالاستعجال في هذه القضية، يحتاج إلى دراسة متأنية، فكما أن الشر استمر سنوات وهو يخطط وينظّر حتى نشر شره، فكذلك الخير يحتاج إلى سنوات وهو يخطط وينظّر حتى يزيل الشر الموجود، ويوجد مكانه الخير.. الصحوة موجودة والحركة العلمية بدأت لكن كل هذا بحاجة إلى تربية طويلة. وإن كنا على يقين تام، واعتقاد جازم، بأن العاقبة للتقوى، وتسلم زمام الأمور سوف يكون لأهل الخير والاستقامة بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في نزع بذور الشر من نفوس الناس.. وهذه شبيهة تقريباً بسابقتها، لكن تلك على المستوى العام، وهذه لها علاقة بدعوة الأشخاص، بعض من لهم جهود طيبة ومشكورة في إصلاح الناس، وبث الخير بين الناس، ومحاولة نزع وتقليل الشر من نفوس الناس، هولاء يستعجلون أحياناً، ويريدون أن يرتقوا بالمدعوين دفعة واحدة وبسرعة، وهذا خطأ، فنفوس أشربت المعاصي سنوات عديدة، ونفوس ألفت المنكرات مدة طويلة من الزمن، من الاستعجال المذموم أنك تريد نسف هذا الركام في وقت قصير، وفي لحظة.. بل من الطبيعي أنك ترى أخطاء، وتشاهد قصوراً وضعفاً، فالواجب عليك الصبر، وغض الطرف أحياناً عن بعض التقصير، حتى تستقيم هذه النفوس شيئاً فشيئاً على دين الله.
هل تتصور أن بقاء الشخص على منكر أو معصية عشرة أو عشرين سنة لا يكون له أثر أو بقايا في نفسه حتى ولو التزم؟ إن كنت تظن هذا فأنت مخطئ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – وتأمل معي أخي المسلم هذا المقطع من كلام شيخ الإسلام، فإنه كلام نفيس – يقول رحمه الله: وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع [1]..انتهى. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى 20/60
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الصورة الثالثة من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في الفتوى. هناك العديد من النصوص التي تحذر من الفتوى بغير علم، والتحدث في أمور الشرع والدين بغير بصيرة قال الله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
إن أهل العلم الحقيقيين لا يودون أن يُسألوا، لأنهم يعلمون خطورة الفتوى، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كلهم يحيلها لغيره، حتى ترجع للأول، كل هذا تورعاً من أن يتكلم أحدهم بشيء في الدين ثم لا يكون صواباً. لأن الفتوى معناها أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا، وهذا أمر صعب خصوصاً في الأمور والقضايا التي لا يكون الأمر فيها واضحاً وضوحاً بيناً، فلذا يقال بأن الاستعجال في الفتوى أمر مذموم، ولا يتعجل في الفتوى إلا جاهل، ولا يجرؤ على الفتوى إلا قليل البضاعة، ومع كل أسف صار الدين في زماننا هذا يتكلم فيه كل أحد، وأصبح الجميع متخصصاً في تفاصيل أمور الشرع، وأصبحت الجرأة في الفتوى عجيبة، ولذا أصبَحتَ تسمع بالطوام العظام.
المشكلة أن العجلة في التحدث في قضايا الشرع والجرأة في الفتوى لم تعد مقصورة على أنصاف العلماء وأرباع العلماء وطويلبي العلم، بل حتى بعض العوام أصبحوا مفتين، وتجد في كل عائلة وفي كل حي أحياناً هناك هيئة لكبار العلماء، ولجنة دائمة تجتهد في كل أمر وفي كل مسألة، وفي قضايا لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رقة الدين وزيادة الجهل وضعف الخوف من الله، والله المستعان.
ثم إن المفتي، ومرجعية الفتوى تكون لمن؟ هذا لا تحدده المناصب، وليست المسألة تعين فلان أو فلان، فإن الأمة تعرف لمن ترجع حال النوازل، ومن هم العلماء الراسخون الذين يُلجأ لهم في الفتوى بعد الله عز وجل، ففي الوقت التي كانت حكومة المأمون ضد الإمام أحمد رحمه الله وجردته من كل شيء: من الإمامة والتدريس والفتوى بل وجردته حتى من ثيابه وأودعته السجن ووضعت القيد في يديه ورجليه، في تلك اللحظة كان هو مفتي أهل السنة والجماعة في وقته، وله المرجعية في المسائل. ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في الوقت الذي حبس في سجن القلعة بدمشق وألّب قضاة السوء الحكومة عليه كان هو المفتي الحقيقي للأمة، وفتاواه هي التي يعمل بها في حين كان غيره خارج السجن حراً طليقاً ولا يؤبه لرأيه.
الصورة الرابعة من صور الاستعجال المذموم: بل والخطير هو الاستعجال في الحكم على الأشخاص والهيئات والأوضاع.
لقد أمرنا الله عز وجل بالتثبت، ونهانا عن قبول خبر الفاسق، وأحياناً يظهر في المجتمع من يتخصصون في تفسير النيات، والمقاصد والنوايا.. فلان يقصد كذا، وفلان كان يريد بكلامه كذا، وفلان ينوي أن يقول كذا.
وحديثي ليس إلى هذه الفئة، لأن من سلك هذا المسلك فانحرافه أظهر من أن يبين واعوجاجه أبين من الشمس، فليس من منهج أهل السنة والجماعة، تبديع الناس وتفسيقهم من خلال النية والمقصد، لأنها قضايا لا اطلاع لأحد من البشر عليها، ولا يعلم بالنيات إلا الله عز وجل، بل ولا حتى من المنهج الصحيح تبديع فرد بعينه بمجرد كلمة خرجت منه، ربما لا يقصدها، أو لا يريد معناها، ونحو ذلك.
لكن نصيحتي لغيرهم، لنا نحن جميعاً أن لا نقبل الطعن في أحد دون بينة، أن لا نستعجل ونقبل كلام أحد في أحد إلا بعد التثبت. فإن من الاستعجال المذموم قبولنا الحكم على الأشخاص والهيئات، أو الأوضاع بطعن، أو تبديع أو جرح دون أدلة قوية واضحة، ودون تأكد من أنه قد أقيمت عليهم الحجة، وبُين لهم الخطأ. والاستعجال في مثل هذه الأمور قد يُحملّك وزر غيرك، أنت في غنى عنه.
(1/4974)
حرمة دماء المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
2/12/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكرى حج النبي. 2- حرمة الاقتتال بين المسلمين.3- نداء للتآلف والتآخي. 4- فضل عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تذكرنا هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة بهدي المصطفى وهو يؤدي الحج ويعلم المسلمين مناسك هذا الركن العظيم، ويبين لهم حرمة الزمان والمكان والإنسان، فقد أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله عن نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) ، ثم قال: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: ((أليس البلدة؟)) والبلدة هي مكة البلد الحرام، قلنا: بلى، قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه)) ، ثم قال: ((ألا هل بلغت؟)) قلنا: نعم، قال: ((اللهم اشهد)).
اللهم إنا نشهدك من علياء هذا المنبر الشريف أننا نبلغ كلام نبيك محمد لأبناء شعبنا، ونناشدهم بهذا الوحي الكريم الذي عصمه الله تعالى من الهوى وجعله منهاجا لعباده المؤمنين وشريعة لأمة المسلمين أن يثوبوا إلى رشدهم، ويحتكموا إلى دينهم الذي حرم قتل النفس إلا بحق الله تعالى، وينحصر هذا الحق في القصاص والزنا بعد الإحصان والردة بعد الإيمان، وسوى ذلك حرام يقود صاحبه إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وهو ما نهى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن ما جرى من اقتتال بين الإخوة من أبناء شعبنا في الأيام الماضية وأدى إلى إزهاق الأرواح البريئة ليملأ النفوس بالألم والقلوبَ بالحسرة ويندى له الجبين من العار والخجل، ويتألم شرف السلاح ويطعن كرامة المجاهد. فأي عذر لكم يعتذر به المتقاتلون وهم يوجهون سلاحهم إلى صدور بعضهم بعضا؟! ألستم أبناء وطن واحد وشعب واحد وأتباع دين جعله الله رحمة للعالمين، وكنتم به خير أمة أخرجت للناس، وحزتم شرف الانتماء للأولى سبقوا من أجدادكم المجاهدين الفاتحين والمحرّرين لهذه الديار؟! فكونوا الأحفاد والبارين بهم بتسجيل صفحة مشرقة في تاريخ الصمود والصبر والثبات والتراحم، ولا تكونوا الأخرى فتسوّدوا وجه التاريخ، وتبوؤوا بغضب من الله وتخسروا الحسنيَين. والله عز وجل يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، ويقول تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. فعلام التنازع والخلاف؟! أهو على أرض لا زالت ترزح تحت وطأة الاحتلال تفصلها الجدران وتعزلها الحواجز الاحتلالية وتنادي أبناءها للوحدة علها تتنفس نسيم الحرية, أم هو على عارية مستردة من متاع الحياة الدنيا الزائلة؟! وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20].
فلا تسموا الأشياء بغير أسمائها لتحقيق منفعة حزبية أو فصائلية أو فئوية بانتهاك المحرمات، وعلى رأسها استباحة الدم الفلسطيني. فالحرام يبقى حراما كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام، وكأني برسول الله وهو يخاطب الحجيج بقوله: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إذا اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فهلا اعتصم أبناء شعبنا بكتاب الله تعالى الذي قرّر الأخوة الإيمانية في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10]، فلتكن هذه الأخوة وازعا للعودة إلى سبيل الرشاد والرحمة والمودة والتسامي فوق كل الخلافات والنزاعات رغم كل الجروح والآلام التي عانى منها كل أبناء الشعب خلال أيام المواجهة بين أبناء الشعب الواحد والسلاح الواحد.
يا أبناء شعبنا المرابط، إنه لموقف كريم وعظيم ومشرف ذاك النداء الذي انطلق من أسر الضحايا الذين سقطوا خلال المواجهات المؤسفة بين الإخوة؛ يناشدون فيه الجميع احترام وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بمساعدة الخيِّرين من أبناء أمتنا وشعبنا، فليكن شعار المرحلة قول رسولنا الأكرم : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لقد حل علينا شهر ذي الحجة بأيامه ولياليه المباركة التي يضاعف الله فيها الثواب للعاملين والطائعين، فاستغلوا مواسم الخير هذه بالأعمال الصالحة من صيام وقيام وذكر لله وحمد وتهليل وتكبير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح للنفس وإصلاح بين الناس؛ عسى الله أن يتوب علينا ويرحمنا برحمته الواسعة في الدنيا والآخرة.
ومما يدل على مكانة هذه الأيام وأجر العمل فيها أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها في كتابه العزيز فقال: وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2].
ومن هذه الأيام يوم عرفة، وهو يوم الحج الأكبر، يؤدي المسلمون فيه ركنا عظيما من أركان الإسلام، ويجتمع الحجيج في صعيد عرفات الطاهر في جمع إيماني ومؤتمر إسلامي، يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى بقبول أعمالهم وغفران ذنوبهم وجمع كلمتهم على التوحيد والتقوى، نسأل الله تعالى أن يمن علينا وعلى حجاج بيت الله الحرام وعلى المسلمين في كل زمان ومكان بالعزة والرفعة ووحدة الكلمة على البر والتقوى، إنه نعم المولى ونعم النصير.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ويقول الرسول في فضل الأعمال الصالحة في هذه الأيام: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء)).
ومن الأعمال الصالحة في هذه الأيام الصيام، وخاصة صيام يوم عرفة لغير الحاج، لما روي عن النبي قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله وبعده)). وفي يوم النحر وهو اليوم العاشر من ذي الحجة يتقرب المسلمون إلى الله بالأضاحي توسعة على العيال وتكريما للأصدقاء وصدقة على الفقراء. إنها أيام كريمة عظيمة، فهنيئا لمن أشغل نفسه فيها بعمل الخيرات وتقرب إلى الله بسائر القربات.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ما أحوجنا في هذه الأيام العظيمة إلى إصلاح النفس والإصلاح بين إخواننا المتخاصمين، ولعل هذا من أعظم الأعمال الخيرة في هذه الأيام التي تجمع المسلمين على طاعة الله تعالى في الحج والتطوع بالصيام والأعمال الصالحة. وليكن منهاج عملنا هذه الأيام ونحن نستعد لاستقبال عيد الأضحى المبارك على النحو التالي:
أولا: التأكيد على حرمة الدم الفلسطيني والعمل على حقنه استجابة لأمر الله تعالى وهدي نبينا محمد.
ثانيا: استمرار التزام أبناء حركتي فتح وحماس وهم إخوة العقيدة والسلاح والمصير بالاتفاق الخير على وقف القتال وعدم العودة إلى ذلك والاحتكام إلى لغة الحوار فقط بديلا عن لغة السلاح.
ثالثا: العمل الجاد والمخلص لتجاوز هذه المحنة التي تعصف أو تكاد بالوطن والمواطن، وهنا نناشد الجميع بلا استثناء في الساحة الفلسطينية للعمل على جمع الكلمة وتوحيد الصف للمحافظة على نقاء المسيرة التي اختطَّتها مواكب الشهداء على امتداد تاريخ قضيتنا الفلسطينية، ويرقبها آلاف الأسرى الذين ضحوا من حريتهم من أجل حرية الوطن والمواطن، ولهؤلاء الأسرى نبعث تحية إجلال واحترام، فهم بحق نبض قلب الشعب والوطن.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، ويقول: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
(1/4975)
وعاد الحجيج
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
16/12/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بإتمام شعيرة الحج. 2- الوصية بإحسان الظن بالله تعالى. 3- الوصية بالثبات على الاستقامة. 4- الحج مطهرة للنفوس. 5- المداومة على الذكر والاستغفار. 6- علامة الحج المبرور. 7- التحذير من العجب والغرور. 8- ضرورة المحاسبة والمراجعة بعد انقضاء موسم الخيرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَيُّها المُسلِمُونَ، وفي الأَيَّامِ القَلِيلَةِ المَاضِيَةِ وفي رِحلَةٍ مِن أَروَعِ الرِّحلاتِ وَسِيَاحَةٍ مِن أَجملِ السِّيَاحَاتِ قَضَى الحُجَّاجُ عِبَادَةً مِن أَعظَمِ العِبَادَاتِ، وَقَدَّمُوا قُربَةً مِن أََجَلِّ القُرُبَاتِ، عَادُوا بَعدَهَا فَرِحِينَ بما آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ، مُستَبشِرِينَ بما مَنَّ عَلَيهِم مِن تَوفِيقِهِ وَحَجِّ بَيتِهِ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ. فَهَنِيئًا لَلحُجَّاجِ حَجُّهُم وَعِبَادَتُهُم وَاجتِهَادُهُم، هَنِيئًا لهم وُقُوفُهُم بِتِلكَ المَشَاهِدِ وَالمَشَاعِرِ، وَتَنَقُّلُهُم بَينَ تِلكَ السَّاحَاتِ وَالعَرَصَاتِ، وَهَنِيئًا لهم قَولُ الرَّسُولِ : ((مَن حَجَّ فَلم يَرفُثْ ولم يَفسقْ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ)) ، وَقَولُهُ : ((والحَجُّ المبرُورُ لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ)).
فَإِلى كُلِّ مَن حَجَّ بَيتَ اللهِ الحَرَامَ وَوَقَفَ في تِلكَ المَوَاقِفِ العِظَامِ، إِلى مَن بَسَطَ في تِلكَ المَشَاهِدِ كَفَّيهِ دَاعِيًا رَاجِيًا، وَحَسَرَ رَأسَهُ خَاضِعًا خَاشِعًا، وَتَجَرَّدَ للهِ في لِباسِ العُبُودِيَّةِ ذَلِيلاً مُنكَسِرًا، إِلَيكُم يَا مَن طُفتُم وَسَعَيتُم وَوَقَفتُم وَبِتُّم، وَذَبحتُم وَحَلَقتُم وَرَمَيتُم وَوَدَّعتُم، وَفَعَلتُم مَا تَرجُونَ بِهِ رَحمَةَ اللهِ، نَقُولُ لَكُم: أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم وَافرَحُوا، فَبُشرَى رَسُولِ اللهِ صِدقٌ وَوَعدُ اللهِ حَقٌّ، وَ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ. لَقَد دَعوتُم رَبًّا عَظِيمًا كَرِيمًا، وَسَأَلتُم إِلهًا بَرًّا رَحِيمًا، وَلُذتُم بِرَؤُوفٍ وَدُودٍ، لا يَتَعَاظَمُهُ أَن يَغفِرَ ذنبًا وَإِنْ كَبُرَ، وَلا أَن يُعطِيَ فضلاً وَإِن كَثُرَ، فَأَحسِنُوا ظَنَّكُم بِرَبِّكُم، فَإِنَّهُ سُبحَانَهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ بِهِ، يَقُولُ تعالى في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإِن ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي، وَإِن ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرتُهُ في ملأٍ خَيرٍ مِنهُم، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ بَاعًا، وَإِن أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً)).
وَإِنِّي لأَدعُو اللهَ أَسأَلُ عَفوَهُ وَأَعلَمُ أَنَّ اللهَ يَعفُو وَيَغفِرُ
لَئِن أَعظَمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا وَإِن عَظُمَت في رَحمَةِ اللهِ تَصغُرُ
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن حَجَجتُم البَيتَ العَتِيقِ، وَجِئتُم مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَطَرَفٍ سَحِيقٍ، هَا أَنتُم وَقَد كَمُلَ حَجُّكُم وَتمَّ تَفَثُكُم، بَعدَ أَن وَقَفتُم عَلَى هَاتِيكَ المَشَاعِرِ وَأَدَّيتُم تِلكَ الشَّعَائِرَ، هَا أَنتُم وَقَد رَجعتُم إِلى دِيَارِكُم وَأَبنَائِكُم، فَاحذَرُوا العَودَةَ إِلى المُحَرَّمَاتِ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا. لَقَد عَرَفتُم فَالزَمُوا، وَآمنتُم بِاللهِ فَاستَقِيمُوا، وَفَتَحتُم في حَيَاتِكُم صَفحَةً بَيضَاءَ نَقِيَّةً فَحَذَارِ مِنَ العَودَةِ إِلى الأَفعَالِ المُخزِيَةِ وَالمَسَالِكِ المُردِيَةِ، وَأَوفُوا بما عَاهَدتُمُ اللهَ عَلَيهِ مِنَ التَّوبَةِ يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم مِنَ الأَجرِ العَظِيمِ، فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ وَمَن أَوفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا. حَذَارِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ وَالعَدُوِّ المُبِينِ، فَقَد غَاظَهُ مَا رَأَى مِن رَحمَةِ اللهِ لَكُم في عَرَفَاتٍ وَتَجَاوُزِهِ عَن ذُنُوبِكُم، وَسَيَعمَلُ عَلى أَخذِ الثَّأرِ مِنكُم فَاحذَرُوهُ، وَأَتبِعُوا الحَسَنَةَ الحَسَنَةَ، فَمَا أَجمَلَ الحَسَنَةَ تَتبَعُهَا الحَسَنَةُ! وَاحذَرُوا مِنَ الإِسَاءَةِ بَعدَ الإِحسَانِ، فَمَا أَقبَحَ السَّيِّئَةَ بَعدَ الحَسَنَةِ!
يَا بَنِي الإِسلامِ مَن عَلَّمَكُم بَعدَ إِذ عَاهَدتُمُ نَقضَ العُهُود
كُلُّ شَيءٍ في الهَوَى مُستَحسَنٌ مَا خَلا الغَدرَ وَإِخلافَ الوُعُود
إِنَّ الحَاجَّ مُنذُ أَن يُلبِّيَ وَحتى يَقضِيَ حَجَّهُ وَكُلُّ أَعمَالِ حَجِّهِ وَمَنَاسِكِهِ تُعَرِّفُهُ بِعَظِيمِ حَقِّ اللهِ عَلَيهِ، وَتُقَرِّرُهُ بِخَصَائِصِ أُلُوهِيَّتِهِ، وَتُذَكِّرُهُ أَنَّهُ لا يَستَحِقُّ العِبَادَةَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَردُ الصَّمَدُ الذي تُسلَمُ النَّفسُ إِلَيهِ وَيُوَجَّهُ الوَجهُ إِلَيهِ، وَمِنهُ وَحدَهُ تُطلَبُ الحَاجَاتُ، وَبِهِ يُستَعَاذُ مِنَ المَكرُوهَاتِ، فَكَيفَ يَهُونُ عَلَى الحَاجِّ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَصرِفَ حَقًّا مِن حُقُوقِ اللهِ لِغَيرِ اللهِ مِن دُعَاءٍ أَو تَوَكُّلٍ أَوِ استِعَانَةٍ أَوِ استِغَاثَةٍ أَو ذَبحٍ أَو نَذرٍ أَو طَلَبِ شِفَاءٍ أَو غَيرِهِ؟! أَيُّ حَجٍّ لِمَن عَادَ بَعدَ حَجِّهِ يَأتي المُشَعوِذِينَ وَالكَهَنَةَ أَو يُصَدِّقُ الدَّجَّالينَ وَالسَّحَرَةَ أو يَأنَسُ بِأَهلِ التَّنجِيمِ وَالطِّيَرَةِ أَو يُعَلِّقُ التّمَائِمَ وَيَعتَمِدُ عَلَى الحُرُوزِ؟! أَينَ أَثَرُ الحَجِّ فِيمَن عَادَ بَعدَهُ مُضَيِّعًا لِلصَّلاةِ مُتَّبِعًا لِلشَّهَوَاتِ مَانِعًا لِلزَّكَاةِ مُمسِكًا عَنِ الإِنفَاقِ في الخَيرَاتِ آكِلاً لِلرِّبَا متعاملاً بالغِشِّ مُتَنَاوِلاً لِلسُّحتِ وَالرِّشوَةِ مُتَعَاطِيًا لِلمُخَدِّرَاتِ وَالمُسكِرَاتِ؟! أَينَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالحَجِّ مَن ظَلَّ قَاطِعًا لِلقَرَابَاتِ والأَرحَامِ وَالِغًا في المُوبِقَاتِ والآثَامِ ظالمًا لِعِبَادِ اللهِ بَاخِسًا حُقُوقَهُم؟! أَينَ دُرُوسُ الحَجِّ وَفَوَائِدُهُ لِمَن تَخَلَّى عَنِ السُّنَّةِ وَنَكَصَ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَحَادَ عَن طَرِيقِهَا؟!
فَيَا مَنِ امتَنَعتُم في الحَجِّ عَن محظُورَاتِ الإِحرَامِ، اِعلَمُوا أَنَّ هُنَاكَ محظُورَاتٍ وَممنُوعَاتٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَحُدُودًا يَجِبُ الوُقُوفُ عَلَيهَا وَعَدَمُ تَجَاوُزِهَا مَدَى العُمرِ، فَاحذَرُوا إِتيَانَهَا أَو قُربَانَهَا، فَإِنَّ رَبَّكُم وَاحِدٌ، وَهُوَ عَلَى أَعمَالِكُم في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ رَقِيبٌ مُشَاهِدٌ، يَقُولُ جل وعلا: تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. لَقَد أَوصَاكُم رَبُّكُم جل وعلا بَعدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِكُم بِوَصِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ سُبحَانَهُ: فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءَكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَكُم بِهَذَا بَعدَ الحَجِّ لِتَظَلُّوا عَلَى عَهدِ الاستِقَامَةِ وَتَستَمِرُّوا في طَرِيقِ الصَّلاحِ، وَلِتُوَاصِلُوا المَسِيرَةَ في صِرَاطِ التَّقوَى وَدَربِ الفَلاحِ، فَسَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ إِلى المَمَاتِ، وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنَ الحَورِ بَعدَ الكَورِ؛ فَإِنَّ الاستِقَامَةَ هي الطَّرِيقُ إلى حُسنِ الخَاتمةِ وَمِن ثَمَّ إلى الجَنَّةِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَّحِيمٍ. لَقَد اجتَهَدتُم في مَعرِفَةِ مَوَاقِفِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ في حَجِّهِ فَوَقَفتُم بها، وَسَأَلتُم عَمَّا فَعَلَ في مَنَاسِكِهِ وَأَخذَتُم بِهِ وَطَبَّقتُمُوهُ، أَلا فَاستَمِرُّوا عَلى ذَلِكَ في كُلِّ شُؤُونِكُم، فَإِنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى الفَلاحِ وَالهُدَى إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَالاهتِدَاءِ بِهَديِهِ، لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ لِلحَجِّ المَبرُورِ أَمَارَةً وَعَلامَةً، وَلِقَبُولِهِ مَنَارَةً وَشَامَةً، سُئِلَ الحَسَنُ البَصرِيُّ رحمه اللهُ: مَا الحَجُّ المَبرُورُ؟ فَقَالَ: "أَن تَعُودَ زَاهِدًا في الدُّنيا رَاغِبًا في الآخِرَةِ". فَليَكُنْ حَجُّكُم بَاعِثًا لَكُم إِلى المَزِيدِ مِنَ الخَيرَاتِ وَفِعلِ الصَّالحاتِ، وَاعلَمُوا أَنَّ المَؤمِنَ لَيسَ لَهُ مُنتَهى مِن صَالحِ العَمَلِ إِلاَّ حُلُولُ الأَجَلِ، قال سُبحَانَهُ: وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ.
ثُمَّ إِنَّ مِنَ الأُمُورِ التي يَجِبُ عَلَى العَبدِ المُسلِمِ أَن يَنتَبِهَ إِلَيهَا بَعدَ أَدَاءِ كُلِ عَمَلٍ صَالحٍ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقبُولاً وَأَجرُهُ مَوفُورًا أَن يحذَرَ مِنَ العُجبِ بِمَا صَنَعَ مِنَ الخَيرِ، فَإِنَّ الشَّيطَانَ كَثِيرًا مَا يَدخُلُ عَلَى المَرءِ مِن بَابِ العُجبِ، فَيُفسِدُ عَلَيهِ عِبَادَتَهُ أَو يُنقِصُ أَجرَ طَاعتِهِ، وَمِن هُنَا كَانَ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَّهِمَ نَفسَهُ بِالتَّقصِيرِ، وَأَن يَعِيشَ بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ، وَأَن يَستَصغِرَ العَمَلَ وَلا يَغتَرَّ بِهِ، فَإِنَّهُ مَهمَا عَمِلَ وَقَدَّمَ وَاجتَهَدَ فَإِنَّ عَمَلَهُ كُلَّهُ لا يُؤَدِّي شُكرَ نِعمَةٍ مِنَ النِّعَمِ التي في جَسَدِهِ مِن سَمعٍ أَو بَصَرٍ أَو نُطقٍ أَو غَيرِها، وَلا يَقُومُ بِشَيءٍ مِن حَقِّ اللهِ الذي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَطعَمَهُ وَسَقَاهَ وَآمَنَهُ وَوَفَّقَهُ وَهَدَاه؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِن صِفَاتِ المُخلِصِينَ أنهم يَستَصغِرُونَ أَعمَالَهُم وَلا يَرَونها شَيئًا؛ حتى لا يُعجَبُوا بها أَو يُصِيبَهُمُ الغُرُورُ فَيَحبَطَ أَجرُهُم، أَو يَكسَلوا عَنِ الأَعمَالِ الصَّالحةِ فِيمَا بَعدُ، وَلَقَد وَصَفَ اللهُ بِالخَوفِ وَالإِشفَاقِ وَالوَجَلِ مَن كَانُوا إِلى الخَيرَاتِ يُسَارِعُونَ، قال اللهُ عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِن خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ ، وَقَد فَسَّرَهَا النبيُّ بِأَنَّهُمُ الذين يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أَن لا يُتَقَبَّلَ مِنهُم.
إِنَّهُ مَهمَا حَرِصَ الإِنسَانُ على تَكمِيلِ عَمَلِهِ وَتَجوِيدِهِ فَإِنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النَّقصِ وَالتَّقصِيرِ، وَمِن هُنَا عَلَّمَنَا اللهُ تعالى كَيفَ نَرفَعُ هَذَا التَّقصِيرَ وَنُتِمُّ ذَلِكَ النَّقصَ، فَأَمَرَنَا بِالاستِغفَارِ بَعدَ العِبَادَاتِ، فَقَالَ بَعدَ أَن ذَكَرَ مَنَاسِكَ الحَجِّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَن يَختِمَ حَيَاتَهُ العَامِرَةَ بِعِبَادَةِ اللهِ وَالجِهَادِ في سَبِيلِهِ بِالاستِغفَارِ فَقَالَ: إِذَا جَاء نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، فَكَانَ بعَدَ ذَلِكَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ((سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي)) ، وَكَانَ يَقُولُ بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ: ((أَستَغفِرُ اللهَ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَأَكثِرُوا مِنَ الأَعمَالِ الصَّالحةِ وَدَاوِمُوا عَلَيهَا، فَإِنَّ مِن عَلامَاتِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعلَ الحَسَنَةِ بَعدَهَا، وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقواهُم ، وَ ((أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُها وَإِن قَلَّ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاَقٍ وِمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ مَا جَاءتكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، اتَّقُوا اللهَ فَإِنَّ تَقوَاهُ أَفضَلُ زَادٍ وَأَحسَنُ عَاقِبَةٍ في مَعَادٍ، وَاعلَمُوا أَنَّ الدُّنيَا مَيدَانُ تَنَافُسٍ وَمِضمَارُ سِبَاقٍ، سَبَقَ فِيهَا قَومٌ فَفَازُوا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ عَنِ الرَّكبِ فَخَابُوا، فَرَحِمَ اللهُ عَبدًا نَظَرَ فَتَفَكَّرَ وَاعتَبرَ، وَأَبصَرَ فَجَاهَدَ وَصَابَرَ وَصَبرَ، وَعَرَفَ العَاقِبَةَ فَلَزِمَ الجادَّةَ وأدَامَ المُرابَطَةَ، فاصبرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد مَضت أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ وَانقضى مَوسِمٌ فَاضِلٌ، أَوقَعَ المُسلِمُونَ فِيهِ الحَجَّ، وَرَجَعَ مِنهُم أَقوَامٌ مَقبُولُونَ مَغفُورَةٌ ذُنُوبُهُم، مَرفُوعَةٌ دَرَجَاتُهُم، مُكَفَّرَةٌ خَطَايَاهُم، مَضَت تِلكَ الأَيَّامُ التي فِيهَا عَشرُ ذِي الحِجِّةِ أَفضَلُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ، وَفِيهَا يَومُ عَرَفَةَ يَومُ العِتقِ مِنَ النَّارِ، وَيَومُ العِيدِ يَومُ الحَجِّ الأَكبرِ، وَأَيَّامُ التَّشرِيقِ التي هِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ عز وجل، لَقَدِ انتَهَت تِلكَ الأَيَّامُ العَظِيمَةُ وَذَلِكَ المَوسِمُ الجَلِيلُ، فَمَاذَا استَفَدنَا مِنهَا يَا تُرَى؟! وَبِأَيِّ دَرسٍ خَرَجنَا مِنهَا؟! لِنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا وَلنَنظُرْ فِيمَا قَدَّمنَا، هَل صُمنَا أَيَّامَ العَشرِ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهَا مَعَ الصَّائِمِينَ؟! هَل أَدَّينَا صَلاةَ العِيدِ مَعَ المُسلِمِينَ وَضَحَّينَا للهِ رَبِّ العَالمينَ وَتَصَدَّقنَا مَعَ المُتَصَدِّقِينَ؟! هَل تَصَافَحَت قُلُوبُنا يَومَ تَصَافَحنَا صَبِيحَةَ العِيدِ؟! هَل تَعَانَقَت أَفئِدَتُنَا يَومَ تَعَانَقنَا أَيَّامَ العِيدِ؟! هَل وَصَلَ قَاطِعُ الرَّحِمِ رَحِمَهُ؟! هَل تَرَاجَعَ الظَّالمُ عَن ظُلمِهِ لِنَفسِهِ وَلإِخوَانِهِ؟! هَل غَيَّرنَا أَحوَالَنَا مِن سَيِّئٍ إِلى حَسَنٍ وَمِن حَسَنٍ إَلى أَحسَنَ؟! هَل فَرَرنَا مِنَ اللهِ إِلى اللهِ؟! أَجتَمَعَت قُلُوبُ المُسلِمِينَ حِينَ اجتَمَعَت أَبدَانُهُم في رِحَابِ بَيتِ اللهِ؟! أَعَادَ الحُجَّاجُ مِن رِحلَةِ عِبَادَةٍ أَم مِن نُزهَةِ استِجمَامٍ؟! أَسئِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَتَساؤُلاتٌ مُلِحَّةٌ تَفرِضُ نَفسَهَا وَتَبرُزُ أَمَامَ نَاظِرَي كُلِّ مُسلِمٍ مَوَحِّدٍ، وَتَتَطَلَّبُ مِن كُلِّ عَبدٍ يخشَى اللهَ وَيَتَّقِيهِ إِجَابَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً، لَعَلَّ فِيهَا مَا يُصَحِّحُ المَسَارَ وَيُغَيِّرُ الطَّرِيقَ وَيَرُدُّ الشَّارِد وَيُنَبِّهُ الغَافِلَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَن كَانَ عَمِلَ صَالحًا وَقَدَّمَ خَيرًا فَليَحمَدِ اللهَ، وَليُوَاصِلِ العَمَلَ الصَّالحَ، وَليُدَاوِمْ عَلَيهِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ وَفي مُستَقبَلِ أَيَّامِهِ، وَأَمَّا مَن فَرَّطَ في تِلكَ الأَيَّامِ وَأَهمَلَ وَتَجَاهَلَ الفَضَائِلَ وَضَيَّعَ الفُرَصَ فَليَستَغفِرِ اللهَ وَليَتُبْ إِلَيهِ، وَليَحفَظْ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ وَليُصلِحْ مُستَقبَلَهُ، فَإِنَّ الرُّجُوع إِلى الحَقِّ خَيرٌ مِنَ التَّمَادِي في البَاطِلِ، وَالتَّوبَةَ تَجُبُّ مَا قَبلَهَا وَتَقطَعُهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِنَتَذَكَّرْ بِانقِضَاءِ المَوَاسِمِ وَالشُّهُورِ اِنقِضَاءَ الأَعمَارِ وَالرَّحِيلَ إِلى دَارِ القَرَارِ، وَأَنَّ الدُّنيَا دَارُ مَمَرٍّ وَلَيسَت بِدَارِ مَقَرٍّ، وَسُوقُ تَزَوُّدٍ إلى الآخِرَةِ، فَلنَتَزَوَّدْ مِنهَا بِصَالحِ الأَعمَالِ، فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى ، وَلنَغتَنِمِ الأَعمَارَ وَمَوَاسِمَ الطَّاعَةِ، فَإِنها سَرِيعَةُ المُرُورِ عَجِلَةُ العُبُورِ، وَلنَتَزَوَّدْ ممَّا بَينَ أَيدِينَا مِن مَحَطَّاتِ العِبَادَةِ المُتَكَرِّرَةِ في كُلِّ يَومٍ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الخَمسِ وَنَوَافِلِهَا وَقِيَامِ اللَّيلِ، وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَاتِ، وَذِكرِ اللهِ بُكرَةً وَعشِيًّا، وَالتَّهلِيلِ وَالتَّسبِيحِ وَالاستِغفَارِ، وَدُعَاءِ اللهِ في جَوفِ اللَّيلِ الآخِرِ وَأَدبَارِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّنَا إِلى ذَلِكَ أَحوَجُ مِنَّا إِلى كَثِيرٍ ممَّا تَعَلَّقنَا بِهِ وَاشتَغَلنَا بِتَحصِيلِهِ مِن مُسَاهَمَاتٍ واكتِتَابَاتٍ وَطَردٍ لِلدُّنيَا وَلَهَثٍ وَرَاءَ المَادَّةِ.
نُرَقِّعُ دُنيَانَا بِتَمزِيقِ دِينِنَا فَلا دِينُنَا يَبقَى وَلا مَا نُرَقِّعُ
إِنَّكُم بَعدَ أَيَّامٍ مَعدُودَةٍ وَلَيالٍ قَلائِلَ تُوَدِّعُونَ مِن أَعمَارِكُم عَامًا وَتَستَقبِلُونَ آخَرَ، فَاغتَنِمُوا زَمَنَكُم وَجَاهِدُوا أَنفُسَكُم، وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغدُوا وَرُوحُوا وَأدلِجُوا، وَالقَصدَ القَصدَ تَبلُغُوا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ.
(1/4976)
طاعة ولاة الأمر
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, فرق منتسبة
سلطان بن علي محمد شاهين
المدينة المنورة
5/11/1425
مسجد عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير ممن يحرض على ولاة الأمر. 2- الأمر بطاعة ولاة الأمر. 3- حرمة الخروج على ولاة الأمر. 4- الحكمة من وجوب لزوم طاعة ولاة الأمر. 5- فتنة المظاهرات والتجمعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
سمعنا ما دعت إليه قناة (الإفساد) التي تسمي نفسها بقناة الإصلاح، التي تدعو إلى التظاهر والخروج على ولاة الأمر وتحريض العوام على معصيتهم والخروج عليهم، وهذا من الفساد العظيم والشر المستطير، وهذه فتنة عظيمة يريد أهل الفساد إثارتها في مجتمعنا الآمن، يريدون التفريق بيننا وإثارة الفتن وقلاقل، وذلك بمباركة وتشجيع من دول الكفر لهم التي تفتح لهم بلادَها وتؤمّن لهم الحماية والرعاية من أجل النيل من وحدتنا وإفساد بلادنا وتخريب أمننا، وحتى يسهل عليهم السيطرة على بلادنا وخيراتنا، وهذا الأمر يتنافى مع ديننا الحنيف وعقيدتنا الإسلامية التي تأمر بطاعة ولاة الأمر فيما لا معصية فيه لله تعالى، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، ويقول النبي : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني)).
فمن وصايا النبي طاعة ولي الأمر فيما لا معصية فيه لله، سواء أحب المرء ذلك أو كرهه، بمعنى أنك تطيع ولي الأمر في أي أمر ليس فيه معصية لله تعالى وإن أحبته النفس أو كرهته، يقول أبو ذر رضي الله عنه: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف، وعند البخاري: ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة. ويقول : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنوكم)) ، فقلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة)).
فالخروج على ولاة الأمر شر كبير وخطره عظيم على الأمة كلها، فلا يجوز الخروج عليهم وإن كانوا ظلمة، وإن رأى منهم معصية فلا يجوز الخروج عليهم، يقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: "ولا نرى الخروج علي أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
فمن خلال النصوص السابقة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم وكلام العلماء يتبين لنا أن طاعة ولاة الأمر أمر واجب، وقد أجمع العلماء على ذلك، وهو عبادة يتعبد بها المسلم ربّه، كما أن المسلم يطيع الله تعالى في إقامة الصلاة والزكاة وصيام رمضان وغيرها من العبادات فإنه كذلك يجب عليه طاعة الله تعالى وعبادته بطاعة ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم مهما كان حالهم ما دام أنهم لم يأمروا بمعصية الله تعالى.
وينبغي أن نعلم ـ يا عباد الله ـ أن ولي الأمر الذي تجب طاعته هو كل من يتولى أمر المسلمين بمبايعة من أهل الحل والعقد، وكذلك كل من يوليهم الإمام من النواب كالوزراء والرؤساء والمدراء وغيرهم ممن لهم ولاية في أي أمر من الأمور أو في أي مجال من المجالات المختلفة، فإنهم تجب طاعتهم، لأن في طاعتهم طاعة ولي الأمر الأعظم الذي أوجب الله تعالى طاعته.
فعلى المسلم السمع والطاعة لولاة الأمر وإن رأى من ولي الأمر ما يكره، ولا يخرج على جماعة المسلمين، فإنه إذا مات فقد مات ميتة جاهلية، يقول النبي : ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية)).
لعل البعض ـ يا عباد الله ـ يسأل: ما السبب الذي يجعل الإسلام يؤكد على طاعة ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم مهما كانت الظروف والأحوال ومهما ظهر منهم من ظلم أو غيره؟! فالسبب في ذلك هو أن ما يترتب على معصيتهم والخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من ظلمهم، والحكمة أيضا حتى تجتمع كلمة الأمة، ولمنع الفرقة والشقاق، كل ذلك من أجل الحفاظ على الأمة من الفتنة التي لا تبقي ولا تذر، فظلم الولاة وإن كان مفسدة إلا أن الخروج عليهم أعظم مفسدة؛ لأن من القواعد الشرعية أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
ينبغي أن نعلم أن الأمة لا تقوم لها قائمة ولا يرتفع لها ذكر إلا بوجود إمام مطاع يقوم على شؤونها ويرعى مصالحها بتنفيذ شريعة الله تعالى التي يتحقق فيها العدل وتستقيم بها الأمور، وبوجود محكومين يمتثلون أمر إمامهم في غير معصية الله تعالى. ولا يخفى على كل ذي عقل ما يحصل من المفاسد من قتل الأنفس وهتك الأعراض وتدمير البلاد وضياع الأموال والأمور في حال عصيان ولاة الأمر والخروج عليهم. ولا يخفى علينا في تلك البلاد التي حصل فيها من الفساد والفوضى والأمور التي يحمد عقباها حتى يومنا هذا.
وينبغي أن نعلم ـ يا عباد الله ـ أن هؤلاء الذي يمسون أنفسهم بأهل الإصلاح هم دعاة شر وفساد، فعلى المسلم أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقد جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا)) ، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) ، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) أخرجه مسلم.
أقول هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)).
فهذه المظاهرات والتجمعات وغيرها من الأمور التي فيها التحريض على معصية ولاة الأمور والدعوة إلى الخروج عليهم هي من الأمور المبتدعة التي تفرّق شمل الأمة، وتزرع الشقاق بينها، وتنشر الفوضى والفساد، فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالسمع والطاعة لله تعالى ورسوله ، وطاعة ولاة الأمر، واحذروا من مسالك أهل الضلال والغواية ودعاة التحريض والفتنة من القنوات المنحرفة والأشخاص المشبوهين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
(1/4977)
عرفات والأضحية ويوم العيد
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
9/12/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العشر من ذي الحجة. 2- فضل يوم عرفة. 3- فضل يوم النحر. 4- فضل الأضحية وأحكامها. 5- فضل صلاة العيد وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل وَتَعظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ.
أَيُّهَا المُؤمِنُونَ، إِنَّكُم تَعِيشُونَ أَيَّامًا فَاضِلَةً جِدُّ فَاضِلَةٍ، أَيّامًا مِن أَفضَلِ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ، بَل هي بِنَصِّ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَفضلُهَا، إِنها الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ الفَاضِلاتُ التي جَعَلَ اللهُ العَمَلَ فِيهَا لَيس كالعَمَلِ في غَيرِها، يَقُولُ : ((مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ)) ، قَالُوا: وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟! قَالَ: ((وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ)) ، وَيَقُولُ : ((مَا مِن أَيَّامِ أَعظَمُ عِندَ اللهِ سُبحَانَهُ وَلا أَحَبُّ إِلَيهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ)).
إِنها الأَيَّامُ التي فِيهَا يَومُ عَرَفَةَ، اليَومُ التَّاسِعُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وفي خِتَامِهَا يَكُونُ يَومُ عِيدِ الأَضحَى، يَومُ النَّحرِ وَأَوَّلُ أَيَّامِ العِيدِ. أَمَّا يَومُ عَرَفَةَ وَمَا أَدرَاكَ مَا يَومُ عَرَفَةَ فَيَكفِيهِ شَرَفًا أَن اللهَ أَقسَمَ بِهِ في كِتَابِهِ فَقَالَ: وَالفَجرِ وَلَيالٍ عَشرٍ وَالشَّفعِ وَالوَترِ ، فَكَيفَ إِذَا اجتَمَعَ وَيَومَ الجُمُعَةِ، قال : ((اليَومُ المَوعُودُ يَومُ القِيَامَةِ، وَاليَومُ المَشهُودُ يَومُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَومُ الجُمُعَةِ، وَمَا طَلَعَتِ الشَّمسُ وَلا غَرَبَت على يَومٍ أَفضَلَ مِنهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبدٌ مُسلِمٌ يَدعُو اللهَ بِخَيرٍ إِلاَّ استَجَابَ اللهُ لَهُ، وَلا يَستَعِيذُ مِن شَرٍّ إِلاَّ أَعَاذَهُ اللهُ مِنهُ)) ، وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم الآيَةَ وَعِندَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: لَو نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ عَلَينَا لاتَّخَذنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَإِنها نَزَلَت في يَومِ عِيدَينِ: يَومِ جمعةٍ وَيَومِ عَرَفَةَ. وَفي يَومِ عَرَفَةَ الصِّيَامُ الذي يُكَفِّرُ سَنتَينِ: سَنَةً قَبلَهُ وَأُخرَى بَعدَهُ، بِذَلِكَ أَخبرَ النبيُّ حَيثُ قَالَ: ((صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ أَحتَسِبُ على اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعدَهُ)) ، وَلمَّا سُئِلَ عَن صِيَامِهِ قَالَ: ((أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعدَهُ)). إِنَّ يَومَ عَرَفَةَ هو يَومُ تَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، إنَّهُ اليَومُ الذي مَا رُئِيَ عَدُوُّ اللهِ إِبلِيسُ في يَومٍ هُوَ أَحقَرَ وَلا أَصغَرَ وَلا أَغيَظَ مِنهُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَرَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحمةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ العِظَامِ. إِنَّهُ يَومُ العِتقِ مِنَ النَّارِ، فَعَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ قال: ((مَا مِن يَومٍ أَكثَرُ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدنُو ثم يُبَاهِي بهم الملائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ)).
فَلِلهِ ذَلِكَ اليَومُ الشَّرِيفُ العَظِيمُ الذي يَقِفُ الحُجَّاجُ فِيهِ بِتِلكَ المَوَاقِفِ المُشَرَّفَةِ، وَيحظَونَ بِزِيَارَةِ تِلكَ البِقَاعِ المُطَهَّرَةِ، فَكَم مِن ضَارِعٍ بَينَهُم وَمُنكَسِرٍ! وَكَم مِن حَزِينٍ فِيهِم وَأَسِيفٍ! كَم مِن نَائِحٍ عَلَى ذُنُوبِهِ بَاكٍ عَلى عُيُوبِهِ! كَم مِن رَجُلٍ بَادَرَ اللهَ بِالتَّوبَةِ فَبَادَرَهُ بِالغُفرَانِ! وَخَطَّ بِدُمُوعِهِ كِتَابَ رُجُوعِهِ فَحَطَّ عَنهُ وِزرَ العِصيَانِ! لَيتَ شِعرِي، كَم يَنصَرِفُ ذَلِكَ اليَومَ مِنَ المَوقِفِ مِن رِجالٍ مَا عَلَيهِم مِنَ الأَوزَارِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ! قَد مَلأَت قُلُوبَهُمُ الأَفرَاحُ وَعَلت وُجُوهَهُمُ المَسَرَّةُ!
فَيَا مَن رَأَى هَذِهِ الجُمُوعَ وَقَدِ استَدبَرَت دُنيَاهَا وَاستَقبَلَت أُخرَاهَا، وَاستَوحَشَت مِن الأَرضِ وَحَرِيقِها، وَطَمِعَت في الجِنَانِ وَرَحِيقِهَا، جَعَلَت مُنَاجاتَهَا طَرِيقًا إِلى نجَاتِهَا، وَعَبرَتَهَا سَبِيلاً إِلى عِبرَتِهَا، مِئاتُ الآلافِ تجأَرُ إلى اللهِ بِمُختَلِفِ اللُّغَاتِ، وَاللهُ سُبحَانَهُ سميعٌ بصيرٌ، لا تختَلِفُ عَلَيهِ الأَلسِنَةُ وَلا يَشغَلُهُ سُؤَالٌ عَن سُؤَالٍ.
إِنَّ يَومَ عَرَفَةَ كَالمُقَدِّمَةِ لِعِيدِ النَّحرِ، إِذْ فِيهِ يَكُونُ الوُقُوفُ وَالتَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ، وَفِيهِ التَّوبَةُ والابتِهَالُ وَالاستِقَالَةُ، فَهُوَ كَالطُّهُورِ وَالاغتِسَالِ بَينَ يَدَي يَومِ النَّحرِ، وَفِيهِ يَكُونُ أَفضَلُ الدُّعَاءِ وَأَرجَى المَسأَلَةِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)).
أَمَّا يَومُ النَّحرِ فَهُوَ يَومُ الوِفَادَةِ وَالزِّيَارَةِ؛ وَلَذَا سُمِّيَ طَوَافُهُ طُوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لأَنهم قَد طُهِّرُوا مِن ذُنُوبِهِم يَومَ عَرفَةَ، ثم أَذِنَ لهم رَبُّهُم يَومَ النَّحرِ بِزِيَارَتِهِ وَالدُّخُولِ إلى بَيتِهِ. إِنَّهُ يَومُ الحَجِّ الأَكَبرِ الذِي تَقَعُ فِيهِ أَكثَرُ أَعمَالِ الحَجِّ مِنَ الحُجَّاجِ، وَفِيهِ يَتَقَرَّبُ سَائِرُ أَهلِ الأَمصَارِ إِلى اللهِ بِالصَّلاةِ وَالنَّحرِ وَالذِّكرِ، وَهُوَ يَومٌ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ، يَرَى بَعضُ أَهلِ العِلمِ أَنَّهُ أَفضَلُ أَيَّامُ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ أَفضَلُ حتى مِن يَومِ عَرَفَةَ، لِمَا في السُّنَنِ عنه أَنَّهُ قال: ((إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ ثم يَومُ القَرِّ)) ، وَيَومُ القَرِّ هُوَ يَومُ الاستِقرَارِ في مِنى، وَهُوَ اليَومُ الحَادِيَ عَشَرَ. وَسَوَاءٌ كَانَ يَومُ العِيدِ أَفضَلَ أَم يَومُ عَرَفَةَ فَإِنَّ كِلَيهِمَا يَومَانِ فَاضِلانِ عَظِيمَانِ كَرِيمَانِ، وَاقِعَانِ في أَيَّامٍ عَظِيمَةٍ شَرِيفَةٍ، لا يَقدُرُهَا حَقَّ قَدرِهَا إِلاَّ المُوَفَّقُونَ الأَتقِيَاءُ، وَلا يُحرَمُ مِن فَضلِهَا إِلاَّ المحرومُونَ الأَشقِيَاءُ. وَعَن يَومِ عَرَفَةَ وَالعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ قَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يَومُ عَرَفَةَ وَيَومُ النَّحرِ وَأَيَّامُ التَّشرِيقِ عِيدُنَا أَهلَ الإِسلامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمِن أَعظَمِ شَعَائِرِ يَومِ العِيدِ وَأفضَلِ الأَعمَالِ وَأَحَبِّهَا إلى اللهِ تعالى فِيهِ وفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ ذَبحُ الأَضاحِي وَالتَّقَرُّبُ إلى اللهِ بِإِهرَاقِ دِمَائِهَا، يَقُولُ سُبحَانَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر. وَالأُضحِيَةُ مَشرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ المُسلِمِينَ بِلا خِلافٍ بَينَهُم، وَذَبحُ الهَدَايَا وَالأَضَاحِي مِن شَعَائِرِ هَذَا الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، بل هِيَ مِنَ العِبَادَاتِ المَشرُوعَةٍ في كُلِّ المِلَلِ، فَعَلَهَا إِبرَاهِيمُ أَبُو الأَنبِيَاءِ فِدَاءً لابنِهِ إِسمَاعِيلَ عَلَيهِمَا السَّلامُ، وَسَنَّهَا نَبِيُّنَا محمدٌ وَحَثَّ أُمَّتَهُ عَلَيهَا، قال أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ضَحَّى النبيُّ بِكَبشَينِ أَملَحَينِ أَقرَنَينِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. وَهِيَ مَطلُوبَةٌ في وَقتِهَا مِنَ الحَيِّ عَن نَفسِهِ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَلَهُ أَن يُشرِكَ في ثَوَابِهَا مَن شَاءَ مِنَ الأَحيَاءِ وَالأَموَاتِ. قال الشَّيخُ محمدُ بنُ صالحٍ العُثيمينُ رحمه اللهُ: "الأَصلُ في الأُضحِيَةِ أَنَّهَا مَشرُوعَةٌ في حَقِّ الأَحيَاءِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ وَأَصحَابُهُ يُضَحُّونَ عَن أَنفُسِهِم وَأَهلِيهِم، وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ بَعضُ العَامَّةِ مِنِ اختِصَاصِ الأُضحِيَةِ بِالأَموَاتِ فَلا أَصلَ لَهُ، وَالأُضحِيَةُ عَنِ الأَموَاتِ على ثَلاثَةِ أَقسَامٍ: الأَوَّلُ: أَن يُضَحِّيَ عَنهُم تَبَعًا لِلأَحيَاءِ، مِثلُ أَن يُضَحِّيَ الرَّجُلُ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَيَنوِيَ بهمُ الأَحيَاءَ وَالأَموَاتَ، وَأَصلُ هَذَا تَضحِيَةُ النبيِّ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، وَفِيهِم مَن قَد مَاتَ مِن قَبلُ. الثَّاني: أَن يُضَحِّيَ عَنِ الأَموَاتِ بِمُقتَضَى وَصَايَاهُم تَنفِيذًا لها، وَأَصلُ هَذَا قَولُهُ تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. الثَّالِثُ: أَن يُضَحِّيَ عَنِ الأَموَاتِ تَبَرُّعًا مُستَقِلِّينَ عَنِ الأَحيَاءِ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ، وَقَد نَصَّ فُقَهَاءُ الحَنَابِلَةِ على أَنَّ ثَوَابَهَا يَصِلُ إِلى المَيِّتِ وَيَنتَفِعُ بها، قِيَاسًا عَلَى الصَّدَقَةِ عَنهُ، وَلَكِنْ لا نَرَى أَنَّ تَخصِيصَ المَيِّتِ بِالأُضحِيَةِ مِنَ السُّنَّةِ؛ لأَنَّ النبيَّ لم يُضَحِّ عَن عَمِّهِ حمزَةَ وَهُوَ مِن أَعَزِّ أَقَارِبِهِ عِندَهُ، وَلا عَن أَولادِهِ الذين مَاتُوا في حَيَاتِهِ، وَهُنَّ ثَلاثُ بَنَاتٍ مُتَزَوِّجَاتٍ وَثَلاثَةُ أَبنَاءٍ صِغَارٍ، وَلا عَن زَوجَتِهِ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِن أَحَبِّ نِسَائِهِ، وَلم يَرِدْ عَن أَصحَابِهِ في عَهدِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنهُم ضَحَّى عَن أَحَدٍ مِن أَموَاتِهِ. وَنَرَى أَيضًا مِنَ الخَطَأِ مَا يَفعَلُهُ بَعضُ النَّاسِ، يُضَحُّونَ عَنِ المَيِّتِ أَوَّلَ سَنَةٍ يمُوتُ أُضحِيَةً يُسَمُّونَهَا أُضحِيَةَ الحُفرَةِ، وَيَعتَقِدُونَ أَنَّهُ لا يجُوزُ أَن يُشرَكَ مَعَهُ في ثَوَابِها أَحَدٌ، أَو يُضَحُّونَ عَن أَموَاتِهِم تَبَرُّعًا أَو بِمُقتَضَى وَصَايَاهُم، وَلا يُضَحُّونَ عَن أَنفُسِهِم وَأَهلِيهِم، وَلَو عَلِمُوا أَنَّ الرُّجُلَ إِذَا ضَحَّى مِن مَالِهِ عَن نَفسِهِ وَأَهلِهِ شَمِلَ أَهلَهُ الأَحيَاءَ وَالأَموَاتَ لَمَا عَدَلُوا عَنهُ إِلى عَمَلِهِم ذَلِكَ" انتهى كَلامُهُ رحمه اللهُ.
وَيُضَحِّي الرَّجُلُ بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُم أَو تَفَاوَتَت دَرَجَةُ قَرَابَتِهِم، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ رضي اللهُ عنه: كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ، يَذبَحُهَا الرَّجُلُ عَنهُ وَعَن أَهلِ بَيتِهِ ثم تَبَاهَى النَّاسُ بَعدُ فَصَارَت مُبَاهَاةً.
ثم إِنَّ لِلأُضحِيَةِ شُرُوطًا لا بُدَّ مِن تَوَفُّرِها حتى تَصِحَّ:
فَأَوَّلُهَا أَن تَكُونَ مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ: الإِبِلِ أَوِ البَقَرِ أَوِ الغَنَمِ.
وَثَانِيهَا أَن تَبلُغَ السِّنَّ المُعتَبرَةَ شَرعًا، بِأَن تَكُونَ مُسِنَّةً، وَالمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوقََهَا مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ، إِلاَّ الجَذَعَةَ مِنَ الضَّأنِ فَإِنها تُجزِئُ؛ لِقَولِهِ : ((لا تَذبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً إِلاَّ أَن يَعسُرَ عَلَيكُم فَتَذبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأنِ)).
وَثَالِثُ الشُّرُوطِ أَن تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ العُيُوبِ المَانِعَةِ مِنَ الإِجزَاءِ، وَالعيُوُبُ المَانِعَةُ مِنَ الإِجزَاءِ أَربَعَةٌ: المَرَضُ البَيِّنُ، وَالعَرَجُ البَيِّنُ، وَالعَوَرُ البَيِّنُ، وَالهُزَالُ المُزِيلُ لِمُخِّ العَظمِ، وَيُلحَقُ بِهَذِهِ العُيُوبِ مَا كَانَ مِثلَهَا أَو أَشَدَّ مِنهَا. أَمَّا مَا كَانَ دُونَهَا فَلا يَمنَعُ الإِجزَاءَ وَلَكِنَّهُ يُكرَهُ؛ وَاللهُ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا.
أَمَّا رَابِعُ الشُّرُوطِ فَأَن تَكُونَ الأُضحِيَةُ مملُوكَةً لِلمُضَحِّي أَو مَأذُونًا لَهُ فِيهَا مِن صَاحِبِهَا، فَلا تَصِحُّ الأُضحِيَةُ بِالمَسرُوقِ وَلا المَغصُوبِ وَنحوِهِما.
وَأَمَّا خَامِسُ الشُّرُوطِ فَأَن يُضَحِّيَ في الوَقتِ المُحَدَّدِ لِلأُضحِيَةِ شَرعًا، وَهُوَ مِن بَعدِ صَلاةِ العِيدِ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ في اليَومِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِن شَهرِ ذِي الحِجَّةِ.
وَاعلَمُوا ـ رحمكمُ اللهُ ـ أَنَّ الأُضحِيَةَ تَصِحُّ ممَّن أَخَذَ مِن شَعرِهِ أَو أَظفَارِهِ في أَيَّامِ العَشرِ، وَلا شَيءَ عَلَيهِ إِن فَعَلَ ذَلِكَ نَاسِيًا أَو جَاهِلاً أَو لم يَكُنْ نَوَى أَن يُضَحِّيَ ثم نَوَى في أَثنَاءِ العَشرِ، أَمَّا مَن تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيهِ الإِثمُ وَأُضحِيَتُهُ صَحِيحَةٌ.
فَضَحُّوا وَطِيبُوا بِضَحَايَاكُم نَفسًا، وَاستَشعِرُوا في ذَبحِهَا التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ وَإِخلاصَ النِّيَّةَ لَهُ وَاحتِسَابَ الأَجرِ وَالثَّوَابِ عِندَهُ، بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمعَةِ وَالمُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ أَو مُجَارَاةِ النَّاسِ وَالسَّيرِ على عَادَاتِهِم فَحَسبُ، قُلْ إِنَّ صَلاَتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمماتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكًا لِيَذكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ فَإِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ المُخبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُم وَالمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ وَالبُدنَ جَعَلنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُم فِيهَا خَيرٌ فَاذكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَيهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا القَانِعَ وَالمُعتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرنَاهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُم لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَبَشِّرِ المُحسِنِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم يَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم، وَأَطِيعُوهُ تُفلِحُوا وَتَسعَدُوا في دُنيَاكُم وَآخِرَتِكُم، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يحتَسِبُ ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا.
عِبَادَ اللهِ، وَمِن أَفضَلِ الأَعمَالِ في يَومِ العِيدِ صَلاةُ العِيدِ، وَإِنَّ مِنَ الشَّرَفِ حُضُورَهَا مَعَ المُسلِمِينَ، فَاحرِصُوا عَلَيهَا وَاشهَدُوهَا، وَإِيَّاكُم أَن تَكُونُوا مِنَ الذين يُثَبِّطُهُم الشَّيطَانُ، فَيُفَضِّلُونَ النَّومَ على هَذِهِ الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ. فَقَد رَجَّحَ بَعضُ أَهلِ العِلمِ ومنهم شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه اللهُ أَنَّ صَلاةَ العِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَعيَانِ، وَاستَدَلُّوا بِقَولِهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَرْ ، وَلا تَسقُطُ صَلاةُ العِيدِ عَن أَحَدٍ إِلاَّ بِعُذرٍ شَرعِيٍّ، حتى النِّسَاءُ عَلَيهِنَّ أَن يُصَلِّينَ العِيدَ وَيشهَدْنَ الخَيرَ مَعَ المُسلِمِينَ، بَل حتى الحُيَّضُ وَالعَوَاتِقُ، إِلاّ أَنّ الحُيَّضَ يَعتَزِلْنَ المُصلَّى.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاستَعِدُّوا وَصَلُّوا العِيدَ مَعَ إِخوَانِكُم. وَاعلَمُوا أَنَّ لِلعِيدِ آدَابًا وَسُنَنًا يَنبَغِي الأَخذُ بها وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ بِشَأنِهَا، مِنها الاغتِسَالُ وَالتَّطَيِّبُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّجَمُّلُ وَلبسُ أَحسَنِ الثِّيَابِ، دُونَ إِسرَافٍ وَلا إِسبَالٍ وَلا مَخِيلَةٍ، وَأَمَّا حَلقُ اللِّحَى الذي يَعتَقِدُ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ فَهُوَ لَيسَ بِزِينَةٍ وَلا مِنهَا، وَكَيفَ تَكُونُ الزِّينَةُ بِما حَرَّمَ اللهُ؟! فَلْنَحذَرْ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ،. وَيُستَحَبُّ لِلمُصَلِّي يَومَ العِيدِ أَن يَأتيَ مِن طَرِيقٍ وَيَعُودَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ اقتِدَاءً بِالنبيِّ ، فَعَن جَابِرٍ رضي اللهُ عنه قال: كان النبيُّ إِذَا كَانَ يَومُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. وَيُستَحَبُّ لَهُ الخُرُوجُ مَاشِيًا إِن تَيَسَّرَ، وَأن يُكثِرَ مِنَ التَّكبِيرِ حتى يحضُرَ الإِمَامُ. وَأَمَّا سماعُ الخُطبَةِ في العِيدِ فَهُوَ مُستَحَبٌّ غَيرُ وَاجِبٍ، لِمَا وَرَدَ عَن عبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ رضي اللهُ عنه قال: شَهِدتُ العِيدَ مَعَ النبيِّ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قال: ((إِنَّا نخطُبُ، فَمَن أَحَبَّ أَن يجلِسَ لِلخُطبَةِ فَلْيَجلِسْ، وَمَن أَحَبَّ أَن يَذهَبَ فَلْيَذهَبْ)) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ استِمَاعَ الخُطبَةِ وَالجُلُوسَ لَهُ خَيرٌ عَظِيمٌ وَمكسَبٌ كَبِيرٌ، لا يَلِيقُ بِالمُسلِمِ العَاقِلِ أَن يَترُكَهُ أَو يَتَسَاهَلَ فِيهِ، خَاصَّةً مَعَ تَهَاوُنِ بَعضِ السُّفَهَاءِ وَالأَعَاجِمِ في ذَلِكَ، حَيثُ يَقُومُ بَعضُهُم بَعدَ انقِضَاءِ الصَّلاةِ وَيَنجَفِلُونَ، وَيُعرِضُونَ عَنِ استِمَاعِ الذِّكرِ وَيَهرُبُون، وَكَأَنَّهُم بِذَلِكَ قَدِ استَغنَوا عَمَّا في الخُطبَةِ مِنَ المَوَاعِظِ وَالأَحكَامِ، والتي رُبَّمَا كَانَت سَبَبًا في اتِّعَاظِ بَعضِهِم وَحَيَاةِ قَلبِهِ أَو خُرُوجِهِ مِن دَائِرَةِ الجَهلِ بِبَعضِ الأَحكَامِ إِلى العِلمِ بها. فَاحرِصُوا ـ رحمكم اللهُ ـ على استِمَاعِ الخُطبَةِ، وَصَبِّرُوا أَنفُسَكُم عَلَى ذَلِكَ، وَاحتَسِبُوهَا دَقَائِق تَقضُونَهَا في ذَاتِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ قَد ذَمَّ المُعرِضِينَ عَن ذِكرِهِ، فقال: فَمَا لَهُم عَنِ التَّذكِرَةِ مُعرِضِينَ كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَئِن كَانَ بَعضُنا لم يَحظَ بِالحَجِّ وَأَدَاءِ المَنَاسِكِ فَإِنَّ اللهَ سُبحَانَهُ وَهُوَ الكَرِيمُ المَنَّانُ وَاسِعُ العَطَاءِ وَمُجزِلُ الإِحسَانِ قَد شَرَعَ لَنَا مِنَ العِبَادَاتِ وَالأَعمَالِ الصَّالحةِ في هَذِهِ الأَيَّامِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعينُ المُؤمِنِينَ وَتَسلُو بِهِ أَفئِدَةُ المُتَّقِينَ، فَمَن فَاتَهُ في هَذا العَامِ القِيَامُ بِعَرَفَةَ فَلْيَقُمْ للهِ بِالحَقِّ الذي عَرَفَهُ، وَمَن عَجَزَ عَنِ المَبِيتِ بِمُزدَلِفَةَ فَلْيُبَيِّتْ عَزمَهُ عَلى طَاعَةِ اللهِ الذي قَرَّبَهُ وَأَزلَفَهُ، وَمَن لم يَقدِرْ عَلى نَحرِ هَديِهِ بِمِنى فَلْيَذبَحْ هَوَاهُ هُنا، وَمَن لم يَصِلْ إِلى البَيتِ فَلْيَقصِدْ رَبَّ البَيتِ، وَلْيَتَّصِلْ بِخَالِقِ الكَونِ وَلْيُعظِمِ الرَّجاءَ فيه، فَإِنَّهُ سُبحانَهُ القَائِلُ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ ، وَإِنُّكُم اليَومَ صَائِمُونَ في يَومِ عَرَفَةَ وَفي يَومِ الجُمُعَةِ الذي فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبدٌ مُسلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسأَلُ اللهَ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَلِحُّوا على اللهِ بِالدُّعَاءِ وَأَجزِلُوا المَسأَلَةَ في صَلاتِكُم هَذِهِ، وَمِن بَعدِ صَلاةِ العَصرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ، عَسَى اللهُ أَن يَرحَمَنَا وَإِيَّاكُم وَيَغفِرَ لَنَا وَلكم وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ.
(1/4978)
الأيام الفاضلة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن إبراهيم السبر
العريجاء
2/12/1427
جامع الأميرة موضي السديري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة مواسم الخيرات. 2- فضل عشر ذي الحجة. 3- وظائف عشر ذي الحجة. 4- فضل يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ من فضل الله تعالى ونعمه الجليلة على عباده أن هيأ لهم المواسمَ العظيمة والأيامَ الفاضلة لتكون مغنمًا للطائعين وميدانًا لتنافس المتنافسين، ومن أعظم هذه المواسمِ وأجلِها ما شهد النبيُ بأنها أفضلُ أيام الدنيا على الإطلاق، ألا وهي أيامُ عشر ذي الحجة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ)) يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! قَالَ: ((وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود واللفظ له والترمذي وابن ماجة.
حقًا إنها أيام مباركة أقسم الله جل وعلا بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته وجلالة قدره، قال الله تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2]. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيرُ واحد من السلف والخلف: إنها عشرُ ذي الحجة. قال ابنُ كثير: "وهو الصحيح".
والنبي إنما حث فيها على العمل الصالح لفضلها وعظيم نفعها، ولشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان أيضًا وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام، ولأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، وفيها الأضحية والحج، قال الحافظ في فتح الباري: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره" اهـ.
وسُئل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان: أيُهُما أفضلُ؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر في رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة" اهـ.
لذا لا غرو ولا جرم أن يحرص السلف الصالح على اغتنامها والعمل فيها، فقد كان سعيدُ بن جبير رحمه الله ـ وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق ـ إذا دخلت العشرُ اجتهدَ اجتهادًا حتى ما يكاد يُقدر عليه. رواه الدارمي بإسناد حسن.
أخي المسلم، إن إدراك عشر ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يَقْدُرُها حقَّ قدرها الصالحون المشَمِّرون، وإن واجب المسلم استشعارُ هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشرَ بمزيد عناية وأن يجاهد نفسه بالطاعة، قال أبو عثمانَ النهديُ رحمه الله عن السلف: كانوا يعظمون ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأخيرَ من رمضان، والعشرَ الأول من ذي الحجة، والعشرَ الأول من المحرم.
وإن من فضل الله على عباده كثرة طرق الخير وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازمًا لطاعة ربه وعبادته.
معاشر المسلمين، عشر ذي الحجة التي أقسم الله بها وعظم قدرها وحث رسوله على العمل فيها لها وظائف وأعمال، ومن تلكم الأعمال والوظائف:
1- الصيام، فيسنُ للمسلم أن يصومَ تسعَ ذي الحجة؛ لأن النبي حث على العمل الصالح فيها، والصيامُ من أفضل الأعمال الصالحة، وقد ورد ما يدل على صيامها من حديث هُنَيدَة بنِ خالدٍ عن امرأته قالت: حدثتني بعضُ أزواج النبي أن النبي كان يصومُ عاشوراءَ وتسعًا من ذي الحجة وثلاثةَ أيام من كل شهر. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصومها، وكذلك مجاهد وغيرهما من العلماء, وأكثر العلماء على القول بصيامها؛ ولذا قال النووي رحمه الله: "صيامها مستحبٌ استحبابًا شديدًا" اهـ. وأما ما اشتهر عند العوام من صيام ثلاث ذي الحجة يعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع فهذا التخصيص لا أصل له ولا دليل عليه.
2- التكبيرُ والتهليلُ، يَجهرُ به الرجال، والمرأةُ تخفضُ به صوتها، فعن ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَل فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)) أخرجه أحمد والطبراني وأبو عوانة وهو حسنٌ بمجموع طرقه وشواهده.
قال البخاري رحمه الله: "وكان عمرُ يكبرُ في قبته بمنى فيسمعه أهلُ المسجد فيكبرونَ ويكبرُ أهلُ الأسواقِ حتى ترتج منى تكبيرًا، وكان ابنُ عمرَ يكبرُ بمنى تلك الأيام وخلفَ الصلواتِ وعلى فراشه وفي فسطَاطِه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعها"، وقال: "وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما" اهـ.
والتكبيرُ نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق في سائر الوقت من أول العشر إلى آخر أيام التشريق، والمقيد أي: المقيد بأدبار الصلوات، ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج إلى آخر أيام التشريق مقيدًا بأدبار الصلوات, أما الحاجُ فيبدأ من حين يرمي جمرةَ العقبة يوم العيد. وقد دل على مشروعية ذلك الإجماع وفعلُ الصحابة رضي الله عنهم.
وصيغ التكبير: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا)، (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)، (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد).
قال في سبل السلام: "وفي الشرع صفات كثيرة واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك".
فحريٌ بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي هجرت في هذه الأيام، وتكاد تنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح، تكبِّر في المسجد وفي بيتك وفي السوق وفي طريقك، وذكِّر به أهلك، وعوِّد أولادك على ذلك.
3- التقربُ إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، وهي سنه مؤكدة في أصح قولي العلماء، وتتأكدُ في حق القادر عليها ومَنْ عنده سعة من المال، وليست واجبة, ولا بأس من الاقتراض إن كان قادرًا على الوفاء، فينبغي للمسلم المستطيع القادر أن لا يفرط فيها، لقول أَنَسٍ رضي الله عنه: ضَحَّى النَّبِيُّ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. متفق عليه. والصفحة هي جانب العنق. وقال ابنُ عمرَ رضي الله عنه: أقام النبي بالمدينة عشرَ سنين يضحي. رواه أحمد والترمذي بإسناد حسن.
وقال ابنُ القيم رحمه الله: "ولم يكن يدعُ الأضحية" اهـ.
فليحرص المسلم عليها لأن فيها امتثال أمر الله جل وعلا بذبح القربان على اسمه وحده لا شريك له، وإحياءً لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام، واقتداء بالنبي ، وفيها التوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين يوم العيد، وفيها من الحكم العظيمة ما لا يخفى على ذي بصيرة.
أيها المسلمون، وهناك تنبيه مهم وهو أنه إذا دخلَ عشرُ ذي الحجة فيحرمُ على من أرادَ أن يضحي أن يأخذَ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئًا حتى يضحي يوم العيد، وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته ولا إثم عليه فيما أخذ قبل النية، وذلك لما روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) ، وفي رواية له: ((فلا يأخذنَّ شعرًا ولا يقلمنَّ ظفرًا)).
والحكمةُ في النهي أن يبقى كاملَ الأجزاءِ ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم قاله النووي في شرح مسلم.
وهذا النهي خاصٌ بصاحب الأضحية لا المُضحَّى عنه من زوجةٍ وأولادٍ فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي كان يضحّي عن أهل بيته ولم يُنقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك، وكذا من توكَّلَ عن شخص فإنه لا يَحرُمُ عليه الأخذ، بل هو خاص بالموكِّل لا الوكيل، وكذا القائم على الوصايا فإنه لا يمسِك، ومن أخذَ شيئًا من أظفاره أو أبشاره أو شعره معذورًا فلا شيء عليه كالناسي والذي به أذى في شعره أو ظفره، أما العامد فهو آثمٌ ولا كفارةَ عليه، بل عليه التوبة والاستغفار. ومن كان عند الميقات يريد الإحرام وهو سيضحي فإنه لا يأخذُ شيئًا من شعره وأظفاره، وأما عند تحلله من العمرة والحج فإنه يأخذ من شعره فقط لأنه نسك من أنساك العمرة.
4- الإكثار من الأعمال الصالحة عمومًا؛ لأن العمل الصالح محبب إلى لله تعالى في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة كما قال النبي : ((ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ)) ، وهذا يعني فضل العمل فيها وعظيم ثوابه، فعلى المسلم أن يعمر وقته في هذه العشر بالإكثار من الطاعات: قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
ومن الأعمال الصالحة الصلاة، فيستحب التبكير إلى الفرائض والمسارعة إلى الصف الأول والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات، عن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة)) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
يوم عرفة من الأيام الفاضلة والعظيمة؛ لأنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، وهو يوم عيد لأهل الموقف، ويستحب صيامه لأهل الأمصار. وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله تعالى خاتمة الأديان، لا يقبل من أحد دينًا سواه.
عن عمرَ رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آيةٍ؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]. قال عمرُ: عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. رواه البخاري ومسلم.
وهذا الرجلُ الذي سأل عمر رضي الله عنه هو كعبُ الأحبار كما جاء في رواية الطبري، وفيها أيضًا: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) رواه مسلم. قال ابنُ عبدُ البر: "وهذا يدلُ على أنهم مغفورٌ لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم" اهـ.
وفي الحديث الذي رواه أحمدُ وابنُ خزيمة بسند صحيح صححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا)).
فهذه الأحاديث تدلُ على فضل يوم عرفة وأنه من الأيام الفاضلة التي تجاب فيها الدعوات وتقال العثرات، فعلى المسلم أن يحرصَ على العمل الصالح لا سيما في هذا اليوم العظيم من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ؛ لعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار، فقد ذكر ابنُ رجب رحمه الله في اللطائف أن العتقَ من النار عام لجميع المسلمين.
وعلى المسلم أن يحرصَ على صيام يوم عرفة، فقد خصه النبي بمزيد عناية، حيث خصه من بين أيام العشر، وبيّن ما رُتب على صيامه من الفضل العظيم، فقد ورد عن أبي قتادةَ الأنصاري رضي الله عنه أنَ رسولَ الله سُئلَ عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)) رواه مسلم.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسن له صيام هذا اليوم، وفطره أفضل تأسيًا برسول الله ، فقد وقف بعرفة مفطرًا، فعن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها أن ناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في رسول الله ، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه. رواه البخاري ومسلم، ولأن المفطر أقوى على الدعاء من الصائم لا سيما في شدة الحر.
وللدعاء يوم عرفة مزية على غيره، فإن النبي قال: ((خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) رواه مالك والترمذي وانظر الصحيحة للألباني (4/39). قال ابنُ عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وفيه أيضًا أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله" اهـ.
فليحرص المسلم المقيم على الدعاء في هذا اليوم العظيم اغتنامًا لفضله ورجاء للإجابة والقبول، وليدع لنفسه ووالديه وأهله وللإسلام والمسلمين، وإذا صام هذا اليوم ودعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة وما أحرى القبول! فإن دعاء الصائم مستجاب، وعلى المسلم أن يكثرَ من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق، فإنها أصل دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة وأكمله في هذا اليوم العظيم.
وإن من أفضل ما يعمل في هذه العشر المباركة حج بيت الله الحرام، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب إن شاء الله من قول النبي : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فدونكم ـ عباد الله ـ هذه الفضائل والأعمال، فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات؛ عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
فبادر ـ أخي المسلم ـ إلى اغتنام هذه الأيام الفاضلة المباركة بالأعمال الصالحة وكثرة الاجتهاد، فإنه ليس لما بقي من عمرك ثمن، وتب إلى الله من تضييع الأوقات، واعلم أن الحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو في الحقيقة مسارعةٌ إلى الخير ودليل على التقوى، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
قال الشاعر:
قطعت شهور العام سهوًا وغفلة ولم تحترم فيما أتيت المحرَّما
فلا رجبًا وافيت فيه بحقه ولا صمتَ شهر الصوم شهرًا متمَّمًا
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي مضى كنت قوّامًا ولا كنت محرِمًا
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة وتبكي عليها حسرةً وتندُّما
وتستقبل العام الجديد بتوبة لعلك أن تَمحو بِها ما تقدَّما
نسأل الله عز وجل أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يوفقنا لعمل الصالحات، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1/4979)
بين أويس القرني وجريج
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
القصص, الوالدان
سالم بن سلامة الجلعود
القطيف
جامع الإمام فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة عمر بن الخطاب مع أويس القرني. 2- فضل بر الوالدين. 3- قصة جريج العابد. 4- عظم منزلة الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم القيامة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
عباد الله، جاء في صحيح مسلم عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتاه أمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ وكان لا يجد على ذلك السؤال جوابا لأن المسؤول عنه غير معروف في أهل اليمن، فلم يكن بذي جاه ولا مال ولا رياسة، فقد طلبه في حياة رسول الله فلم يقدر عليه، وطلبه في عهد أبي بكر فلم يقدر عليه، واستمر حتى مضى شطر من إمارته ، وقد مكث يسأل الناس عن أويس القرني عشر سنين لم يكلّ ولم يمل فيها.
وفي الحج سنة ثلاث وعشرين وكان عمر بن الخطاب في الحجيج في أواخر خلافته وقبيل استشهاده بأيام، ولا يزال شغله الشاغل البحث عن ذلك الرجل من رعيته يريد مقابلته. فلما أعيته الحيل ولم يجد المطلوب صعد عمر جبل أبا قبيس في جمع من الحجيج وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟ فقام شيخ من قرن فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمّه، إنك تسأل عن رجل وضيع الشأن، ليس مثلك يسأل عنه يا أمير المؤمنين وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالا، وأوهن أمرا من أن يرفع إليك ذكره. قال: يا شيخ، وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلا لنا.
فركب عمر بن الخطاب على حمار له، وخرج من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعل يتخلل الشجر ويطلبه، فإذا برجل في طمرين من صوف أبيض قد صفّ قدميه يصلي إلى الشجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى. فلما سمع أويس حسه أوجز في صلاته ثم تشهد وسلم وتقدما إليه فسلما عليه وردّ عليهما التحية بأحسن منها، فقال عمر : من أنت؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم، فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته، فقالا: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإني أقسم عليك إلا أخبرتني باسمك الذي سمتك به أمك، قال: يا هذا، ما تريد مني؟ أنا أويس بن عبد الله، فقال عمر : الله أكبر، يجب أن توضح عن شقّك الأيسر، قال: وما حاجتك إلى ذلك؟ فقال له: إن رسول الله وصفك وقد وجدت الصفة كما خبرني، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، وأنا أحب أن أنظر إلى ذلك، فأوضح له ذلك عن شقه الأيسر.
فلما نظر عمر إلى اللمعة البيضاء ابتدر إليه وقال: يا أويس، إن رسول الله أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لي، فاستغفر لي فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر. فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال: إنا قد تيقنّا أنك هو، فادع الله لي ـ رحمك الله ـ بدعوة وأنت محسن. فقال أويس: ما أخصّ باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكن من أنت يرحمك الله؟ فإني قد خبرتك وشهرت لك أمري، ولم أحبّ أن يعلم بمكاني أحد من الناس، فقال: عمر بن الخطاب، فوثب أويس فرحا مستبشرا فعانقه وسلم عليه ورحب به، قال أويس: ومثلي يستغفر لمثلك؟! فقال: نعم، فاستغفر له.
فقال عمر : مكانك حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا. فقال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارا من صوف ورداء من صوف؟! متى أراني أخلِفهما؟! أما ترى نعليَّ مخصوفتين؟! متى تُراني أبليهما؟! ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟! يا أمير المؤمنين، إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخفّ مهزول، فأخف ـ يرحمك الله ـ يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مدّ عنقه إلى غد، ومن مدّ عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدا من مجاورة الجبار.
فلما سمع عمر كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها. فقال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر ، فسأله عن أويس، قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) ، فأتى أويسا فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه.
عبد الله، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة بسبب برّه لأمه، أخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس، وما أعظم برّ الوالدين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج)) ، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات)) ، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله؛ جُرَيج رجل عابد تقي، دعته أمه ولم يكن في لهو بل كان في صلاة وعبادة، فلم يجبها حتى غضبت عليه ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ.
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم)) ، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه)). استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكده الله تعالى في آية أخرى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
عباد الله، فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ، وقال : ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك وأفضل رسلك سيدنا ونبينا محمد، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين، وزوجاته أمهات المؤمنين, اللهم ارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان يذكر فيه اسمك...
(1/4980)
العام الجديد: حزن وهموم أم فرح وسرور؟
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
11/1/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي الخطوب والأحداث. 2- شعور الفرح والحزن. 3- أمر المؤمن كله خير. 4- عدوان الغرب على العراق. 5- قراءة في الأحداث الراهنة. 6- الاستبشار بالمستقبل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأيام والسنين تمر، والأحداث والخطوب تتوالى، وما تزال جراح المسلمين تنزف ومآسيهم تزداد، ولا يخفى على كل ذي بصرٍ تكالبُ الأعداء علينا واستشراءُ الوهنِ بين الكثيرين منا، لدرجة أنْ تجاوز طمع العدو بنا واحتقارُه لنا الخطوط الحمراء، وأضحى ذلك باديًا لجميع الناظرين، فكيف ـ يا ترى ـ سيكون عامنا الجديد؟ هل ستتواصل الهموم وتتجدد الأحزان وتزداد المخاوف، أم سيشهد عامنا هذا بُشرياتِ فرحٍ وسرور، فتقرّ أعين المؤمنين وتسرُّ نفوسهم؟
عباد الله، الحزن والفرح كالخوف والرجاء والحب والكره، شعوران طبيعيان لا ينتقصان من إيمان المسلم ما داما في حدودها الطبيعية، أي: ما دام الحزن لم يتحول إلى جزع أو يأس أو تسخط واعتراض على القضاء والقدر، ولم يتحول الفرح إلى بطر أو خيلاء أو كبر، بل تتأكد شرعيتها إن كان الحزن أو الفرح لله وفي الله وعلى محارم الله، وأنبياء الله وعباده الصالحون عَرَض عليهم هذان الشعوران، مِثْلهم في ذلك مِثْلُ عامة البشر من غير أن يَنتقص ذلك من منزلتهم ودرجتهم، ففي الفرح مثلاً قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، وقال سبحانه: فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 4، 5]، وفي الحزن قال جل وعلا عن نبيه وخليله المصطفى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33]، وقال: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]، وقال عن بعض خيار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة: 92]، ونصوص الشرع من الكتاب والسنة كثيرة في هذا الأمر.
إن الفرح والحزن ـ معاشر المسلمين ـ ليسا ملازمين للخير والشر باعتبار علم الله تعالى وقدره، فقد يفرح الإنسان لأمرٍ ويكون شرًا له، وقد يحزن على أمر ويكون مآله خيرًا له؛ فهذا نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام حزن لفقد ابنه يوسف وكان مآل هذا الفقد خيرًا ليوسف بل لجميع بني يعقوب، وهذه أم موسى حزنت لذهاب ولدها وكان مآل ذلك خيرًا لموسى عليه السلام ورفعته وإنقاذ بني إسرائيل من فرعون وبطشه، وفي المقابل ذاك قارون فرح بما آتاه الله من مال وكنوز فكان مآله عندما طغى وتكبر أن خسف الله به وبداره الأرض.
والقاعدة ـ عباد الله ـ أن المسلم متى استقام على أمر الله سبحانه فإن أمره كلّه يكون خيرًا، وهذا ما نبه إليه رسول الله في قوله: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) ؛ لأن المسلم مستسلم لأمر الله الشرعي، راضٍ بأمره القدري، مؤمن بأنه لا يكون أمر في الكون إلا بعلم الله وقدره، وأن هذا الكون وما يجري فيه لم يخلق عبثًا، بل لحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
أيها المسلمون، يرقب العالم عامة وأهل العراق والمجاورون لهم خاصة حشود الصليبيين في المنطقة بقيادة أمريكا، وقد عزمت وصمّمت على اجتياح العراق، عملاً بالوصايا التوراتية ـ على حدِّ زعمهم ـ التي تنصّ على شرعية تدمير العراق حتى ينشف نهر الفرات بغضّ النظر عن هويّة من يحكمها حتى لو كان حزبًا كافرًا، مما يؤكّد أن دافعهم ديني بالدّرجة الأولى، ولا يمنع أن يتبعه أهداف اقتصادية واستعمارية.
إنه ومع كل تلك الاستعدادات التي ملأت الجو والبر والبحر ولا زالت تتدفّق على المنطقة وقد صنِّعت وفق آخر ما توصّلت إليه تقنيتهم المتطورة، فهي والله لن تخيفنا، إنما الذي يخيفنا ويهزمنا هي ذنوبنا وتقصيرنا وتركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء والانسياقُ خلف الكفار إعجابًا وتقليدًا، إن الله تعالى فوق الجميع، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ، وله جنود السماوات والأرض، وله ملكهما، وهو على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 7-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكيم العليم، بيده الخير وله الملك وهو على كل شيء قدير، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رمته الدنيا كلها عن قوس واحدة فما لان ولا وهن ولا استكان حتى أظهر الله أمره وأعز جنده ودخل الناس في دين الله أفواجًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الأحداث الجارية الآن فيما يخص العراق وما سبقها في أفغانستان وقبلها وبعدها ما يجري في فلسطين وغيرها من المواقع الإسلامية ليست شرًا محضًا، بل فيها من الخير الشيءُ الكثير، فلقد أفاقت الكثيرَ من المسلمين وردتهم إلى ربهم بعد طول غفلة، وبعثت في الأمة من جديد روحًا كانت قد خبت أو كادت منذ زمن بعيد، رُوحَ العزة والكرامة والتحدّي رغم الصعاب والاستضعاف، واستحثّت في الأمة تيقّظها واستفزّت انتباهها إلى الإحساس بخطورة مخطّطات الأعداء التي كانت غافلة أو متغافلة عنها كمناهج التعليم، وبرزت أهمية القوة المعنوية والثبات على المبدأ الشرعي وأنه يتحدّى قاذفات الشبح وسي130 والصواريخ العابرة للقارات وغيرها من الأسلحة الفتاكة.
الأحداث الجارية على المسلمين الآن أظهرت علو الإيمان وكشفت دعاوى المنهزمين والمخذلين، فاضطر العدو أن يحرك جيوش الحرب النفسية عندما لاحت بوادر العجز في الأسلحة المادية، فكثف الدعاية الكاذبة لانتصاراته، وأسكت كل وسيلة إعلام تفضح هزائمه، وأكدت عداوة الكافرين وحقد الصليبيين وبغضهم للدين، وفسرت قوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]، فضحت زيف القيم التي كان الغرب يتشدق بها طيلة عشرات السنين من ادعائه حماية حقوق الإنسان وحرية الأديان واستقلال الصحافة، ونؤكد أن دعاويهم لا تصمد أمام التحديات والمحكَّات الحقيقية.
الأحداث الراهنة جعلت كثيرًا من مخدوعي بني جلدتنا بالغرب وحضارته يراجعون أنفسهم، أظهرت هذه الأحداث خبايا المنافقين وما كانوا يضمرونه للأمة ودينها وكشفتهم على حقيقتهم، والأيام القادمة حبلى بهذا النوع، وستتكشف أكثر من ذلك، فلئن كان ابن العلقمي الذي مهّد للتتار دخول بغداد ومكن سيوف التتار من رقاب العلماء والفقهاء، لئن كان ابن العلقمي ذهب فإن مدرسته وتلامذته لا زالوا يقومون بنفس الدور.
أيها المؤمنون، ونحن في مطلع هذا العام الهجري فإن من هدي الرسول الاستبشار بالجديد القادم والاحتفاء به والدعاء ببركته، فحينما يرى هلال الشهر الجديد كان يدعو: ((هلال خير ورشد)) ، وكان إذا أُتي بالباكورة بأول الثمر قال: ((اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمرتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا، بركة مع بركة)) ، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الوالدان، وفي أذكار اليوم والليلة يقول : ((اللهم إني أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها)) ، والأحاديث في هذا الشأن كثيرة. والحاصل أن ارتباط المسلم بربه ويقينَه بأن كل قادم مجهولٌ لا يخرج عن قدرته وقدره سبحانه وثقة المسلم بوعد الله تعالى لعباده المؤمنين، كل ذلك يجعل المؤمن مستبشرًا بعامه الجديد، مطمئنًا إلى مستقبله، متوكلاً على ربه، راضيًا بقدره، شاحذًا همته ومستبعدًا شبح اليأس والتثبيط، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي: من رحمته إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]. ولئن كان التوكل عبودية القلب فإن الأخذ بالأسباب عبودية الجوارح، وكلاهما واجب ومن أخلَّ بأحدهما فقد قصّر في مأمور ربه، وعدونا مدحورٌ بإذن الله، ولكن لكل ولادة مخاض وآلام.
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 4-7].
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب هازم الأحزاب اهزم أعداء الدين...
(1/4981)
وداع العام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من المعاصي. 2- سبب المشاكل والمصائب. 3- ذم تسويف التوبة. 4- أوضاع المسلمين المزرية. 5- التحذير من الحلول الزائفة. 6- انصرام العام وبداية عام جديد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتبصروا في هذه الأيام والليالي، فإن مضي كلِ يومٍ ينقص من عمرك، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك.
واعلموا أن الله جل ذكره أخفى غضبه في معصيته، فلا تحتقروا من معاصي الله شيئًا. قام محمد بن المنكدر ذات ليلة يصلي فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله وسألوه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية، قال: وما هي؟ قال: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47]، فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما.
اتقوا الله عباد الله، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجر: 18].
أيها المسلم، اعلم أن كل مشكلة ومصيبة وكل تقصير وتفريط سواءً كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعات والدول لن يحلها مرور الأيام وتعاقب الشهور والأعوام، بل ربما زادها تفاقمًا واستفحالاً، كالداء الخبيث الذي يتضاعف خطره كلما تأخر علاجه. قال الربيع بن خثيم لأصحابه: أتدرون ما الداء وما الدواء وما الشفاء؟ قالوا: لا، قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود.
جمعٌ ليس بالقليل من المسلمين يسوِّفون ويؤجلون التوبة ويقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، بل إنهم إذا تقدّموا خطوة إلى ربهم تراجعوا خطوتين بعدها، فقط يرضون أنفسهم بأنهم يعملون صالحًا، وحقيقة أمرهم أنهم يضحكون على أنفسهم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 23].
ولهذا كله ونتيجة التفريط وعدم الجدية والجزم في الرجوع إلى الله تطفح على السطح مشاكل لا حصر لها، بدءًا من المشاكل النفسية الخاصة والقلق والاضطراب وعدم الثقة، ومرورًا بالتفكك الأسري وأمراض البيوت وكثرة الخلاف والخصومات والتنافر، وانتهاءً إلى ما نشهده ونسمعه عن أحوال المسلمين عامة من تمزق وتفرق وشماتة الأعداء بهم والتسلط على رقابهم في بعض البلدان من إبادة جماعية وطمس دينٍ وهوية وتشريد عن الأوطان، وآخرها ما تعلمونه عن عزم الدول الصليبية بقيادة أمريكا على اجتياح بعض البلدان الإسلامية تحت ستار مكافحة الإرهاب أو نزع أسلحة الدمار الشامل، نسأل الله جل وعلا بمنه وكرمه ورحمته وقوته وعزته أن يحفظ للمستضعفين دينهم ويصلح دنياهم ويخذل عدوهم وأن لا يجعل أولئك المسلمين فتنة للقوم الظالمين.
إن ما نسمعه هذه الأيام عن العراق والشيشان سمعناه بالأمس عن أفغانستان وكوسوفا، وقبلها في كشمير والفلبين وفلسطين وغيرها، وسنسمعه غدًا في مواقع جديدة، والأمر ليس بدعًا وغريبًا، فالكافرون هم الظالمون، وسنن الله تعالى لا تجامل أحدًا ولا تحابي مخلوقًا، فكن على حذر، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا الفرار الصادق إليه.
إن الحلول والشعارات التي يُلوَّح بها كثيرًا وترفَع في كثير من المناسبات وينادى في الملأ أن قد جاءكم الفرج ودنا وقت النصر وأن مستقبلاً واعدًا برغد العيش والاستقرار والأمن والسعادة، إن تلكم الحلول والشعارات بأي شكل ومهما كان مصدرها الأرضي هي حلول فاشلة أثبت التاريخ إفلاسها لمن لا يقتنع إلا بالتاريخ، وإلا فإن المسلم الصادق هو من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً ومعلمًا وقدوة.
عباد الله، إن مطلع العام الهجري الجديد الذي نحن على أبوابه يجب أن يكون نقطة انطلاق لكل مسلم غيور، وبداية تجديد لكل من يهمه أمر نفسه وأمر المسلمين، بل يجب أن يكون إيذانًا بالتوبة النصوح إلى الله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50، 51]
إن العام أوشكت أيامه أن تنصرم، وستطوى صحائفه بما فيها، وترفع إلى الملك العلام، ويسجل عليك ـ يا ابن آدم ـ كلُّ ما عملت فيه، فإن كان خيرًا فهنيئًا، وإن كانت الأخرى فتدارك وقتك وابك على خطيئتك واستحي من ربك واخش من ذنبك، فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات وأيام، فاستدرك ذلك، قال : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) ، ففي الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان أو شابَ ضعفت القوة وفترت العزيمة. وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مُرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر العبد اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله. وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات المرء انقطعت عنه أوقات الإمكان.
فاعتبروا ـ عباد الله ـ ما بقي من أعماركم بما مضى منها، واعلموا أن كل آت قريب، وأن كل موجود منكم زائل، فابتدروا أعماركم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما علّمتنا، واعف عنا واغفرلنا وتقبّل منا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وبارك وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: خطب رسول الله يومًا فقال: ((أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت)).
عباد الله، لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قربَ الموت، وبتغير الأحوال زوالَ الدنيا وحلول الآخرة.
فإنّك ميتٌ وابن ميتٍ وذو نسبٍ في الميتين عريق
كم وُلِد في هذا العام من مولود، وكم مات فيه من حي، وكم استغنى من فقير، وافتقر من غني، وكم عزَّ من ذليل، وذل من عزيز، قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26].
ثم اعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ رسول الله، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعتهم، ومن شذ عنهم شذ في النار.
واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسله في أعظم كتبه، فصلوا عليه.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وبقية الصحابة أجمعين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين...
(1/4982)
يا أهل الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
16/12/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هنيئا للحجاج. 2- فضل المسارعة إلى الخيرات. 3- فضل الطاعة وأهلها. 4- أهمية أثر الطاعة. 5- مفسدات الطاعة. 6- تفاوت الناس في الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله عزَّ وجلّ، قالَ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
هَنِيئًا لمن حجَّ إلى بيت الله الحرام، هَنِيئًا لمن وُفِّق في العشرِ مِن ذي الحجَّةِ للصِّيام والقيامِ والتَّكبيرِ والتسبيح. نحمَد اللهَ على ما منَّ به علَينا من ترادُفِ مَواسمِ الطاعات، فمن شكَره زادَه، قال تَعَالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]، قال المفسِّرون: أي: مِن طاعته.
المسارعة في الخيراتِ والمبادَرة إلى الطَّاعاتِ مِن سماتِ المؤمنين، والتَّثاقُل عنهَا مِن صِفاتِ المنافِقين، وفي الحديث: ((أثقَلُ الصّلاةِ عَلَى المنافقين العشاءُ والفَجر)) رواه البخاري [1].
وفّق الله أهلَ الطاعةِ حيثُما كانوا وأينَما حَلّوا، فهم خير النّاس، وحينَ سُئِل رسول الله : أيُّ الناس خَير؟ قَال: ((من طالَ عُمره وحسُن عمَله)) ، قال: فأيُّ الناس شرّ؟ قال: ((من طَالَ عمره وساءَ عَمَلُه)) أخرجه الترمذي [2].
منَ الطاعةِ الالتزامُ بالعباداتِ والدَّوام على الصلوات.
الطاعةُ ـ عباد الله ـ أجرُها جزيل وأثرُها عظيم، هي سبَب رَحمة الله، وإذَا شملَتِ العبدَ رحمةُ الله سعِد في الدنيا والآخِرة، وكلّما ازدَادَ المسلِم طاعةً ازدَاد عِلمًا وعملاً وهدًى، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17].
بِطاعةِ الله يكثُر الرّزقُ ونُسقَى من بَرَكات السماء وينبِت لنا الرَّبّ من برَكاتِ الأرض ويدرُّ لنا الضّرع، قال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]، قَال ابنُ عباس رضي الله عنهمَا: (يعني بالاستقامة أي: الطاعة) [3].
في ظلِّ طاعةِ الله يُخبِت العبدُ إلى ربِّه ويَشرَح صَدرَه ويرضَى بقضائِه وقدره ويحلّ بقلبِه الأنسُ والاطمِئنان، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97].
المجتَمَع الذي يُقبِل أفرادُه على الطَّاعةِ تضعُفُ فيه نوازِع الشرّ ويحَصَّن من الفسَاد؛ ذلك أنَّ طاعةَ الله تهذّب الأخلاقَ وتزكِّي النّفوسَ وتقوِّم السّلوكَ وتروِّض الجَوَارِحَ، فيصلحُ الأفراد وتسمُو المجتمعاتُ وتسودُ الأمّة، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]، وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55].
أهلُ الطاعةِ يُؤتِهم الله أجرَهم غَيرَ مَنقوص، قال تَعَالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]. أهلُ الطاعة تُضاعَف لهم الحسنات وتكفَّر السَّيِّئات، قالَ تَعَالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].
ثوابُ الطَّاعة يُرَى أثرُه عِندَ السّكَرات ويَومَ العَرَصات وعندَ سُؤال مُنكرٍ ونكير، قالَ تَعَالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27].
أهلُ الطاعة يؤمِّنُهم الله يومَ الفزَع ويظِلّهم والناسُ في شدّةٍ وخَوفٍ وهلَع، قَالَ : ((سَبعَةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظلّه)) رواه البخاري ومسلم، وذكر صُنوفًا من أهلِ الطاعة [4].
وفي الجنّةِ دَارِ الخُلدِ يُرافِق أهلُ الطاعَة النّبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، وما أجلَّ هذه المرتبةَ العلِيَّة، وما أعظمَ مرافقةَ النبيِّ ، قالَ تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، عَن ربيعةَ بنِ كَعب الأسلميِّ رضي الله عنه قال: كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله ، فأتيتُه بوَضوئه وحاجتِه، فقال لي: ((سَل)) ، فقلتُ: أسألك مرافَقتَك في الجنَّة، قال: ((أوَغيرَ ذلك؟)) قلتُ: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على نَفسِك بكثرةِ السّجود)) أخرجه مسلم [5].
حجّاجَ بيت الله، يا أهلَ الطاعةِ، لا قِيمةَ لطاعةٍ تُؤدَّى دونَ أن يَكونَ لها أثرٌ من تقوًى أو خشية.
أين أثرُ الحجِّ إِذا عادَ الحاجّ إلى بلدِه فهجَر المسلم القرآنَ وتركَ الصلاة مع الجماعةِ وانتهك الحرمات؟! أين أثرُ الطاعةِ إذا أكلَ الرّبا وأخَذَ أموالَ الناس بالباطلِ؟! أينَ أثَر الحجّ إذا أَعرَضَ عَن سنّةِ رَسولِ الله إلى العاداتِ والتقاليدِ؟! أين أثَرُ الطاعةِ والحجّ إذا تحايَل في بيعِه وشرائه وكذَب في ليلِه ونهارِه؟! أينَ أثَر الحجّ إذا لم يقدِّم دَعوةً لضالّ ولُقمة إلى جائِع وكسوَة إلى عارٍ مَع دُعاءٍ صادق بقلبٍ خاشع أن يَنصرَ الله الإسلام والمسلمين ويدمِّر أعداء الدين؟!
يا أهلَ الطاعَةِ، الله لا يريدُ من سَائرِ عبادَاتِنا الحركاتِ والجهدَ والمشقّة، بل طَلَب سبحانَه ما وَرَاءَ ذلك من التّقوى والخشيةِ لَه، قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
لا يداوِم على طاعةٍ إلاَّ من وُفِّق لذكرٍ وتذكير، فالذِّكرُ يزيد الإيمانَ، فتتقوَّى الجوارح بهِ على الطاعة، والتذكير بين المسلمِين وفي رحابِ الأسرة بين الزوجِ والزوجة هديُ سيِّد المرسلين، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((رَحِم الله رجلاً قامَ منَ اللّيل فصلَّى وأيقظ امرأتَه، فإن أبت نضَح في وجهِها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحَت في وجههِ الماء)) أخرجه النسائيّ وأبو داود وابن ماجه.
يا أهلَ الطاعة، يواجه أهلُ الطاعة مكائدَ إبليس التي لا تفتُر لحظَة، فهو يصدّ عن الطاعة قبل أوانها، ويلوِّثُ النيةَ حين تُؤدَّى الطاعة، ويقذف العُجب بعد أدائها. نعم، إذا وَجَد القلبَ عازمًا على الطاعَةِ بَدَأ بالوسوسةِ، واختلق المعاذيرَ ليمنعَ المسلم من أداء الطاعة، فإن جاهد العبد نفسَه وغلبَ هواه وعزم على أداءِ الطاعة فإنَّ الشيطان لا يتركه، بل يوسوس للنفس لتَستَوفِيَ حظوظَها من هذه الطاعة؛ يزَيِّن له أداءَها أمام الناس ليَروه فتَكبر صورتُه في نظرهم، فإن كانت الطاعة في الخفاءِ حسَّن فعلَها له بعد أدائها وزيَّنها في نظره حتى يُعجَب بها، فإن أُعجِب بنفسِه ساقَه إلى المقارَنَة بأقرانِه ليرتَفِعَ بفِعلِه عَلَيهم فيتكبَّر ويغترّ، وفي النهاية تكون النفس قد نالت نصيبَها من الفعل، قال تعالى حاكيًا عن إِبلِيس: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]، لكن هيهاتَ أن يبلُغَ الشيطان مرادَه في قلوب عبادِ الله أهلِ الطاعة الذين عمِّرت قلوبُهم بالتقوى وتحصنَّت بالإيمان، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء: 65]، قال الحسن رحمه الله: "إذا نظر إليك الشيطان فَرَآك مداومًا في طاعة الله فبغاك وبغاك، ورآك مداوِمًا ملَّكَ ورَفَضَك، وإذا كنتَ مرةً هكذا ومرةً هكذا طمِع الشيطان فيك"، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ أهلَ الجنّةِ يترَاءَون أهلَ الغرف من فوقِهم كما يتراءَون الكوكبّ الدّريّ الغابر في الأفق من المشرِق أو المغرب لتفاضُل ما بينهم)) ، قالوا: يا رسول الله، تلك منازلُ الأنبياء لا يبلُغها غيرُهم، قال: ((بلَى والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسَلِين)) رواه البخاري ومسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأذان (657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في المساجد (651).
[2] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2330) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/48)، والبزار (3623)، والحاكم (1/489)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه المنذري في الترغيب (5091)، وعزاه الهيثمي في المجمع (10/203) للطبراني في الصغير والأوسط وقال: "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3363).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/268).
[4] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6479)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه
[5] صحيح مسلم: كتاب الصلاة (489).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلَى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى.
أخي المسلم، لا تَقلَق حين تميل نفسُك إلى التزوُّد من طاعةٍ دون أخرى والإقبال على نافلةٍ دونَ نَافِلة؛ فتِلك قدراتٌ ومواهبُ قسَمها الله كما قسم الأرزاق، فهذا أفنى شبابَه فأجهدَ نفسه في طلب العلم، وذاك وجد لذَّة الطاعة في تفقُّد الفقراء وإطعام الجائعين ومسحِ رأس اليتيم، وصنف ثالث بسط يدَه في الإنفاق في وجوه البرِّ والإحسان، ورابعٌ أيقظ أهله وأحيَا ليله ساجدًا وقائمًا حتى تفطرَّت قدماه فكان قدوةً في الزهد والعبادةِ. قال ابن تيميةَ رحمه الله: "الناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسَرَ عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسَرَ عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسَر عليه منهُما، فالمشروع لكلِّ إنسان أن يفعَلَ ما يقدر عليه من الخير كما قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]"، إلا أنَّ هناك صنفًا حُرِمَ من ذلك كلِّه، فاشتَغَل بكثرةِ الكلام وأهمَلَ الطاعَة، لهَجَ لسانُه بذكر الناسِ عِن ذكر الله، وانصرف قلبه عن تتبُّع مرضاةِ الله إلى تتبُّع عورات الناس ومن لذَّة الطاعة إلى نزغاتِ الحقد والحسد.
دخل الحسن البصريّ رحمه الله المسجدَ، فقعد إلى جنب حلقة يتكلّمون، فأنصت لحديثهم ثم قال: "إنَّ المؤمنَ يقول قليلاً ويعمل كثيرًا، وإنَّ المنافقَ يقول كثيرًا ويعمل قليلاً، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء: 13]".
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمرَكم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم عَلَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4983)
قدوم عام ورحيل عام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الفتن
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
11/1/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع العام الماضي. 2- الاعتبار بانقضاء الأعوام. 3- حال الدنيا. 4- التحذير من الافتتان بالدنيا. 5- حال السلف مع الدنيا. 6- استقبال عام جديد. 7- حال العالم الإسلامي. 8- المستقبل للإسلام. 9- خير الناس وشر الناس. 10- ضرورة محاسبة النفس. 11- التذكير بقرب الآجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه سبحانه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأوّل، قصِّروا الأمل، واستعدوا لبغتَة الأجل، فما أطال عبدٌ الأملَ إلا أساء العمل.
عباد الله، نعيش هذه الأيام أيام عام هجري جديد ووداع عام آخر، عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقوّضت خيامه، غابت شمسه واضمحلّ هلاله، عام حوَى بين جنبيه حكمًا وعبرًا وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله! كم شقيَ فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين، لا إله إلا الله! كم من طفل قد تيتّم، وكم من امرأة قد ترمّلت، وكم من متأهّل قد تأيَّم، مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب توارَى، أهل بيت يشيعون ميّتهم، وآخرون يزفّون عروسهم، لا إله إلا الله! دار تفرح بمولود، وأخرى تعزَّى بمفقود، آلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أيام تمرّ على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام.
مرّت سنون بالوئام وبالهنا فكأننا وكأنها أيّام
ثُم عقبت أيام سوء بعدَها فكأننا وكأنها أعوام
عباد الله، إن رحيل الأيام والأعوام ذكرى وموعظة لقلوب المؤمنين أنّ هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، فكم من عامر عمّا قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يرحل.
الدنيا ـ عباد الله ـ تصلح جانبًا بفساد جانِب، وتسرّ صاحبًا بمساءة صاحب، فالركون إليها خطر، والثقة بها غرر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدَر، والمرء منها على خطَر، ما هي إلا أيام معدودة وآجال مكتوبة وأنفاس محدودة وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرّت أيامًا ساءت أشهرًا وأعوامًا، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39].
عباد الله، جعل الله ما على الدنيا من أموال وأولاد وغيرها فتنة للناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]. ونهى سبحانه عن النظر إلى ما في أيدي الناس لأنّ ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة، قال سبحانه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131].
لقد مر النبي على شاة ميتة فقال لأصحابه: ((أترون هذه الشاة هيّنة على أهلها؟)) قالوا: من هوانها ألقوها، قال: ((والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)) أخرجه الإمام أحمد وغيره. تلكم هي الدنيا ـ عباد الله ـ التي شغِل بها كثير من الناس، فراحوا يتهاتفون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار. لقد كان المصطفى يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسَط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فينافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.
عباد الله، كم رأينا في هذه الحياة من بنَى وسكَن غيرُه، وجمع وأكل وارثه، وتعب واستراح من بعدَه. دخل أبو الدرداء رضي الله عنه الشام فقال: (يا أهل الشام، اسمعوا قول أخٍ ناصح)، فاجتمعوا عليه فقال: (ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا مثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثبورًا ومساكنهم قبورًا).
الْمرء يرغب في الحياة وطول عيش قد يضرّه
تفنى بشاشته فيبقى بعد حلو العيش مرّه
وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئًا يسرّه
عباد الله، استمعوا إلى الحسن البصري رحمه الله وهو يصف حال سلفنا مع الدنيا حيث يقول: "أدكت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتَوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتَهم، ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه، كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوَى فراشه، لا ينام من الليل إلا قليلا، يستدرك ما مضى من عمره، ويستعدّ لما أقبل من أيامه"، حتى ليصدق فيهم قول القائل:
إن للَّه رجالاً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لجّة واتخذوا صالِح الأعمال فيها سُفُنا
عباد الله، تستقبل الأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد وجسدها مثخن بالجراح، لا يكاد جرح يبرأ حتى تنتكث جراحات أخرى، جهل وحرب، وفقر وجوع، تشريد وتهديد، إهانة وسخرية بالوحيين، حتى أضحت كثير من بلاد المسلمين يصدق عليها قول الشاعر:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
عباد الله، إن العالم الإسلامي اليوم يمر بمرحلة عصيبة، حيث اجتمع عليه العالم الملحد على اختلاف أديانه، وقفوا صفًا واحدًا وتجمعوا في خندق واحد لحرب الإسلام والمسلمين، تناسوا كل الأحقاد والخلافات التي بدينهم، وتجمّع شملهم علينا، ولكنهم يمكرون ويخططون ويدبرون والله خير الماكرين.
كانت فلسطين موالاً لأمتنا ما بالها لَم تعد للناس موالا
تعدّدت يا بني قومي مصائبنا فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنّا نعالج جرحًا واحدًا فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
عباد الله، إلى متى يظل المسلمون يمثلون ردود الفعل وأعداؤهم يخططون ويدبرون؟! أما آن للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يحسّوا بكيد أعدائهم وما يخططون لهم من مؤامرات؟! أما آن أن يعلموا أن الصراع بينهم وبين أعدائهم صراع ديني مصيري؟! أما آن للمسلمين أن يصدقوا ربهم سبحانه ونبيهم محمد في إخبارهم عن عداوة اليهود والنصارى لهم وأن أعداء الإسلام لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم؟! وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120].
ومع ذلك ـ عباد الله ـ فالمستقبل لهذا الدين على الرغم من كل الجهود التي يبذلها اليهود والنصارى لتحطيم الإسلام والقضاء على المسلمين، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 20، 21]. لكن لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالعمل مطلوب، واللجوء إلى الله والثقة بوعوده وتحكيم شرعه والعودة إلى سنة نبيه سبب للنصر والتمكين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40، 41].
عباد الله،
مضت بنا الأيام موكب عزمنا متوقف وعدونا يتقدم
عرب وأجْمل ما لديكم أنكم سلمتمونا أمركم وغفلتمو
ماذا دهاكم تطلبون حقوقكم طلب الْحقوق من الضعيف محرم
نحن الذين نقول أما أنتمو فالغافلون الصامتون النوَّمُ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
طول الحياة حَميدة إن راقب الرحمنَ عبدُه
وبضدها فالموت خير والسعيد أتاه رشدُه
فاتقوا الله عباد الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
ثم اعملوا ـ رحمكم الله ـ أن تعاقب الشهور والأعوام على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحدّ ذاته، فإن طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجَج الله تعالى عليه. أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)).
عباد الله، إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يحتسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يؤمل أن يعمر عمر نوح، وأمر الله يطرق كل ليلة، والواعظ يقول له:
يا راقدَ الليل مسرورا إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
قال الإمام الغزالي يرحمه الله: "اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يحاسب فيه نفسه على سبيل التوصية في الحق فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها نفسه ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يعمل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصًا منهم على الدنيا، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد" اهـ.
عباد الله، ذهب عامكم شاهدًا عليكم أو لكم، فهيئوا زادًا كافيا، وأعدوا جوابا شافيا، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات قبل أن يفاجئكم هادم اللذات، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتَب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار)) أخرجه الحاكم.
نسير إلى الآجال فِي كل لحظة وأعمارنا تطوَى وهنَّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهنَّ قلائل
عبد الله، يا من بقي من عمره القليل ولا يدري متى الرحيل، يا من أبعده الحرمان، ويا من أركسه العصيان، كم ضيعت من أعوام وقضيتها في اللهو والمنام؟! كم أغلقت بابًا على قبيح؟! وكم أعرضت عن الوعظ وقول النصيح؟! كم صلاة تركتها ونظرة أصبتها وحقوق أضعتها ومناه أتيتها وشرور نشرتها؟! أنسيت ساعة الاحتضار وما يحصل للمحتضر حال نزع روحه حين يشتد كربه ويظهر أنينه ويتغيّر لونه ويعرف جبينه وتضرب شماله بيمينه؟!
عباد الله، أين من عاشرناه وآلفناه؟! وأين من ملنا إليه وانعطفنا؟! كم أغمضنا من أحبابنا جفنا؟! وكم من عزيز دفناه وانصرفنا؟! هل رحم الموت منا مريضا لضعف حاله؟! وهل ترك كاسبا لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! كلا والله، بل أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات. فيا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِّنة، بادر بالتوبة واحذر التسويف، واعلم أن ربك يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهبا، وقم في الدجى مناديا، وقف على الباب تائبا، وأحسن فيما بقي يغفر ما مضى، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك ربي كما أمرتَ تضرّعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
إن كان لا يرجوك إلا مُحسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم أنِي مسلم
عباد الله، صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار وصلَّى عليه المتقون الأبرار، وعلى آله وصحبه المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين وتابعيهم وعنا معهم برحمتك يا عزيز يا غفار.
(1/4984)
محنة الإمام أحمد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الفتن, المسلمون في العالم, تراجم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
16/12/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية صلاح العلماء والأمراء. 2- محنة الإمام أحمد. 3- حال الأمة الإسلامية. 4- طغيان أمريكا وبغيها في الأرض. 5- حال الشعب الفلسطيني.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اثنان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء، العالم ينصح ويرشد ويبين ويعلّم، والحاكم ينفّذ ويطبق، فإذا نافق العالم استبدّ الحاكم، وإذا ما استبد الحاكم ضاعت البلاد والعباد وانهارت الأخلاق وضاعت الأرزاق.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن العالم العامل من صفاته أن يخشى الله وحده وأن يكون طاهرا نزيها، وخشية الله أن لا يخاف المسلم إلا خالقه، فغير الله لا يضر ولا ينفع، ولا يخفض ولا يرفع، لأن الملك كلّه لله، ولا يحدث فيه شيء إلا بأمر الله. فمن خاف الله وحده خوّف الله منه جميع خلقه، ومن لم يخف الله خوّفه الله من جميع خلقه. ويوم كان العلماء لا يخافون إلا الله انتظمت مواكب الحياة، ويوم خاف العلماء على مصالحهم ومناصبهم ارتبكت مسالك الحياة، وأصبح الصدق كذبا والكذب صدقا، أصبحت الأمانة خيانة، والخيانة أمانة.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نعِش وإياكم مع علَم من أعلام الأمة الذين نصر الله بهم الدين وأعلى بهم شأن المسلمين، إنه الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا، إنه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لقد امتحن في حياته وابتلي وزلزل زلزالا شديدا، فصبر وبقي على دينه وعقيدته، ففاز في الدنيا والآخرة.
لقد رأى الرسول وقال له: يا أحمد، إنك ستُبتَلى فاصبر، يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة. وابتليَ الإمام بفتنة القول بخلق القرآن، وجلد وسجن وبقي عالي الهمة، لم يتراجع عن موقفه الثابت على الحق مهما كلف الثمن، ومن هنا قال أهل العلم: لقد نصر الله هذا الدين برجلين: بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.
لقد جلد الإمام أحمد على موقفه الإيماني، لم يجلد لأنه شرب الخمر أو ارتكب جريمة الزنا أو تجسَّس على المسلمين أو سرق أموال الأمة أو ضحى بالمسلمين من أجل أعداء الأمة، إذن فلم جلد الإمام؟ إنه الظلم، والظالم لا يفرق بين العلماء والجهلاء، وتذكروا دائما أن الظالم لا يقبل كلمة الحق، ولا يرضى بالطريق المستقيم. جلد الإمام رضي الله عنه وكان يقول: رحم الله الأولين، كانوا توضع المناشير على أجسامهم فلا يتأوهون!
عباد الله، انظروا إلى هذا المشهد الرباني، لما ضرب الإمام في الأول قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: قُلْ لَن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ، فلما ضرب الخامس قال: يا أمير المؤمنين، اذكر الوقوف بين يدي الله كوقوفي بين يديك لا تستطيع منعًا، ولا عن نفسك دفعا، فلما ضرب السادس اضطرب المئزر في وسطه، فرفع الإمام رأسه إلى السماء وحرك شفتيه، فما استتمّ الدعاء حتى رأينا كفّا قد خرج من تحت مئزره، فرد المئزر إلى وضعه بقدرة الله تعالى.
عباد الله، وسئل الإمام: ماذا قال عندما اضطرب المئزر؟ فقال: قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذي حملت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا. وذكر تلامذة الإمام أنهم سألوه: عندما جلدت كنت تبتسم! وكنا نبكي من حولك، فأجاب بقوله: إنكم تبكون لأنكم ترون يدَ الجلاد، أما أنا فقد كنت أضحك لأنني كنت أرى يد ربّ العباد. سبحان الله! قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَّسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
عباد الله، إن السجن هو سجن النفوس لا سجن الأجسام، لقد صبر الإمام أحمد على محنته وعاش حميدا وأفضى إلى الله على نور وهدى.
عباد الله، ورئي الإمام أحمد بعد وفاته في النوم وعليه حلَّتان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشي مشية لم يكن يمشيها، فسئل عن ذلك فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام. وصدق الحق وهو يقول: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 19-22].
وورد في الحديث الشريف: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن المتتبع لأخبار عالمنا الإسلامي يرى مدى الهوة العميقة والمنزلق الخطير الذي تسير فيه الأمة قيادة وشعوبا، فالقيادة الحالية بعيدة عن منهج الله، بل إنها تعتمد على الأنظمة الوضعية التي تغلب عليها العلمانية؛ مما جعلها أسيرة للدول الاستعمارية التي تسلب خيرات البلاد، أما الشعوب فهي مغلوبة على أمرها، تحكم بالحديد والنار، وفي غياب الوعي الإسلامي والقيادة الصالحة تطاول الأعداء على الإسلام، وتجرؤوا على دستور الأمة، وتوجهوا بالإساءة لنبينا ، وأصبح الإرهاب مرادفا للإسلام، وساهمت القيادات الحاكمة بملاحقة الدعاة المخلصين تحت شعار محاربة الإرهاب ونشر الحرية والديمقراطية، ولسان حالهم في قوله: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء: 139].
عباد الله، انظروا إلى ما يحدث في الصومال، تتعرض للغزو من قبل إثيوبيا الصليبية، وبدعم مطلق من أمريكا، فهل استنكر أحد هذا التدخل السافر والذي يعدّ غزوا عسكريا؟!
أيها المسلمون، ماذا يحدث في العراق؟! تباين سياسي بين القيادات الحاكمة، وعنف طائفي بغيض، وقتل متواصل، وإعدام الرئيس العراقي السابق بشكل مهين لكل العرب والمسلمين، فالقرار أمريكيّ والتنفيذ طائفي، والعراق لن ينعم بالاستقرار، بل يسير نحو التقسيم والتجزئة.
أيها المسلمون، في أرضنا المباركة استمر الاحتقان السياسي وعمليات قتل وخطف متبادلة وأزمة ثقة بين الفرقاء، وشعبنا يدفع الثمن، وكل ذلك لأننا لم نحكم شرع الله في حل خلافاتنا، فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا الله في أمتكم، فوِّتوا الفرصة على الذين يتربّصون بكم، فشعبنا يعاني الأمرَّين، حواجز من كل ناحية، حملات تفتيش واعتقالات، مداهمات وإطلاق نار، أصبحت الحياة مريرة.
عباد الله، إن ما قامت به إسرائيل في رام الله يضع الجميع أمام واقع الاحتلال، الاحتلال البغيض، إسرائيل تدعي أنها سوف تخفف من إجراءاتها على الأرض والمشاهد عكس ذلك، وأنها سوف تطلق سراح أسرى، والذي يجري اعتقال أعداد كبيرة وزجّهم في السجون، هذا هو الواقع المرّ الذي نعيش فيه. فإن أردتم الخلاص فاصطلحوا إلى الله تعالى، ضعوا ثقتكم بالله وحده، لن تنفعكم الشعارات الواهية.
فيا أيها المسلمون، أفيقوا من سكرتكم ومن غفوتكم، واعلموا أن الأرض تهتز، وأن الحروب تعدّ العدة، والكفر ملة واحدة، والمسلمون يطعن بعضهم بعضا، هؤلاء يباركون هذا، وأولئك يصفقون لهذا، مع أننا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وحِّدوا قلوبكم على طاعة الله، وحّدوا نفوسكم على معرفة الله، من أطاع الله سخّر الله له كل شيء، فوجّهوا أنفسكم لله، فهو وحده القادر على نصركم ورفع الضرر عنكم.
وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين للعمل بكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون، نهنئ إخواننا حجاج بيت الله الحرام بعودتهم سالمين غانمين إن شاء الله من الديار الحجازية، ونسأل الله أن يكون حجهم مبرورا وسعيهم مشكورا وذنبهم مغفورا، ونذكرهم بقول الرسول عليه السلام: ((من حج فلم يرفث ويفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
(1/4985)
التقويم الهجري والهوية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع
فريد بن عبد العزيز الزامل السليم
عنيزة
7/1/1425
جامع السحيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية التأريخ الهجري. 2- التاريخ الهجري تاريخ مرتبط بالدين وضع من أجله. 3- تاريخ التقويم الميلادي وأصله. 4- فضل صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، وتأملوا في سيرة نبيكم محمد ، فإن هديه خيرُ الهدي، واتباعَه هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره إلى نعيم الدارين: الدنيا والآخرة.
عباد الله، لقد كانت هجرته معلمًا بارزًا وحدثًا هامًا في الإسلام، وكان تحولاً جذريًا في طرائق الدعوة وفي التعامل مع المعارضين لها، لقد كانت الهجرة مقدمة لنصر عظيم للإسلام وأهله، بلغ قبل نهاية المائة الأولى منها أكثر من ثلث الأرض.
ولأجل هذه المكانة للهجرة كان رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه سديدًا، إذ جعلها تاريخًا لهذه الأمة، تضبط به أحداثها، ويسجل فيه مجدها وعزها، ويكون شعارًا لها في كل حين، في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغير ذلك من الأمور.
ففي السنة السابع عشرة من الهجرة جمع عمر رضي الله عنه الصحابة، واستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به أمورَهم، فأشير عليه بالتأريخ بمبعث النبي وبموته وبهجرته، فاختار عمر الهجرة، فاتفقوا معه على ذلك، ثم استشارهم في أي شهر نبدأ؟ فقال بعضهم: من رمضان، وقال آخرون: من ربيع الأول، وقال بعضهم: من المحرم، فاختار المحرم وأجمعوا عليه؛ لأنه يلي ذا الحجة وهو الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة، وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.
قال السهيلي رحمه الله في الروض الأنف: "وفي قوله سبحانه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، فيه من الفقه: صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن".
عباد الله، وإن مما يؤسف له أن لا يَقْدُرَ بعض المسلمين لهذا التاريخ قدره، وأن يستبدلوا به تاريخًا آخر، بأن يجعلوه معتمدًا في معاملاتهم كافة، وهذا خطر عظيم ربما غُفِلَ عنه. إن التاريخ الميلادي لا يمكن أن يحل محل التاريخ الهجري؛ لما بينهما من تباين يمس الدين والهوية.
إنَّ التاريخ الهجري تاريخ مرتبط بالدين وُضِع من أجله، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة وآجال الديون والرهان وعدد الطلاق ومُدد الإحداد والإيلاء وغير ذلك؛ ولذا قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5]. ومن حكمة ذلك أن الشهر القمري ظاهر للناس كافة، معلوم وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفه المتعلم والأمي، والذي في الحاضرة بين الناس والذي في البادية مع ماشيته لوحده، وهذا من رحمة الله وتيسيره لعباده.
أما الميلادي فإنه مرتبط بدينين باطلين، أولهما وثنية الرومان، فإن الأشهر الغربية يناير وفبراير تمجيد للآلهة الأسطورية للرومان، ولاثنين من القادة المحبوبين الرومانيين، فيناير مأخوذ من (يانوس) إله الشمس، ومارس اسم إله الحرب، ومايو اسم إلَهَة الخصب، ويونيو اسم إلَهَة القمر، أما يوليو فهو اسم للقيصر كاليوس يوليوس، وكذا أغسطس اسم أحد القياصرة، والأشهر التي تحمل أسماء الآلهة المزعومة والقادة المحبوبين جعلوا أيامها تكتمل إلى واحد وثلاثين يومًا من باب التفاؤل، والأخرى تحمل ثلاثين يومًا لأنهم يتشاءمون من الأعداد الزوجية، أما أغسطس فإنه الشهر الثامن وكان ثلاثين يومًا، ولكنهم جعلوه واحدًا وثلاثين يومًا لكي لا يشعر (أغسطس) أنه أقل منزلة من يوليوس.
أما الأشهر الشرقية: كانون ونيسان وتموز فإنها كانت أشهر التقويم السرياني الذي اندثر قبل ثلاثة قرون تقريبًا، إلا أن أسماء الشهور بقيت وربطت بأسماء الشهور الغربية، ويحمل أحد هذه الأشهر وهو تموز اسم إله بابلي يموت ثم يعود، وأيلول معناه النوح؛ إذ ينوحون فيه على الإله الميِّت، أما نيسان فهو مستهل السنة الدينية المقدسة عند البابليين.
أما الدين الآخر الذي ارتبط به هذا التأريخ فهو النصرانية، فقد اعتمدوا التقويم الروماني بعد اجتماع للمجمع الكنسي أقر فيه الاعتماد عليه، ثم ربط بعد ذلك بميلاد المسيح عليه السلام، وذلك في القرن السادس أو الثامن من ميلاده، ومن هنا نعلم أن نسبة هذا التاريخ إلى ميلاد المسيح جاءت متأخرة جدًا عن ميلاده، كما أنها غير دقيقة، فإن بعض باحثيهم صرح بأن ميلاد المسيح كان قبل هذا التاريخ بأربع سنين على الأقل، ولما كانت السنة الشمسية ثلاثَمائة وخمسةً وستين يومًا وخمس ساعاتٍ وتسعًا وأربعين دقيقة، و56 من الألف من الثانية تقريبًا، كان هناك فرق سنوي، قدره إحدى عشرة دقيقة تقريبًا بين الحساب والواقع الفعلي، ومن هنا كان لا بد من التغيير، حتى يضبط ميعاد عيد الفصح الذي يشكل أحد المعالم الرئيسية في التقويم الكنسي، مما دعا بابا النصارى جريجوري الثالث عشر إلى إجراء تعديل، فقرر زيادة عشرة أيام في التاريخ، فعدل التاريخ في ذلك الوقت من الخامس من أكتوبر عام 1582م، حتى كان الخامس عشر منه. وقد أُقِر هذا الإصلاح بأمر بابوي، وسمي هذا التاريخ بعد تعديله بالتاريخ الجريجوري، وهو المعمول به الآن.
عباد الله، من هنا عرفنا أن هذا التقويمَ وضعي، غيرُ مبني على أساس كوني في تقسيم شهوره، بل إن القياصرة والبابوات تغير فيه حسب ما ترى، ولذا لما قصرت الأيام اختاروا فبراير مكانًا للنقص، فكان ثمانية وعشرين يومًا في السنوات البسيطة، بخلاف التقويم الإسلامي المربوط بظاهرة كونية يدركها كل الناس، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن من أكبر الجنايات على الهوية الإسلامية أن يستبدل بتاريخها الديني تاريخًا أجنبيًا عن دينها وثقافتها، وإن ذلك امتداد لطمس هذه الهوية والارتماء في أحضان التبعية.
إن في الاعتزاز بالثوابت والموروثات الدينية والثقافية والتي منها التاريخ الهجري إبقاءً على كيان الأمة، وهذا ما لم يُرضِ أعداءها، ومن أجل هذا سعوا إلى زعزعة تلك الموروثات من أكثر من طريق، ومن أظهر تلك الطرق ما كان في حقبة الاستعمار، وكان أول ما اعتمد التاريخ الإفرنجي إلى جانب التاريخ الهجري في مصر عام 1292هـ، وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني بسبع سنواتٍ فقط.
لقد بلغ الأمر في هذا الزمان أن أحدنا إذا سمع الشهر الحالي أو الشهر القادم أو العام المنصرم لا يدري هل المقصود شهر المحرم أو فبراير أو 1424هـ أو 2004م، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، إن الواجب على الأفراد والمؤسسات أن تنظر في هذا الأمر نظرة الجد، وأن تُجعل طاعةُ الله تعالى وعزةُ دينه أمام الأعين.
عباد الله، اقدروا للأمر قدره، ولا تسنهينوا بذلك، فإن أول خطوة في طريق العزة والرفعة هي القناعة النفسية بالمبادئ والأهداف والغايات، وفقني الله وإياكم لكل خير.
عباد الله، جاء عن النبي أن قال: ((صوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)) ، وقال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)). فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على هذه المنحة الجليلة، إنه فضل من الله تعالى، إذ يكفر ذنوب سنة من الصغائر بصيام يوم واحد، واحرصوا على صيام يوم قبله أو يوم بعده؛ مخالفة لليهود الذين كانوا يصومون العاشر فقط، فرحًا بنجاة موسى وقومه من فرعون وقومه، وقد أُمرنا بمخالفتهم فيما كان من خصائصهم.
عباد الله، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ عباد الله ـ وسلموا على أزكى البرية أجمعين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم أسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين...
(1/4986)
وداع العام وما فيه العبر
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة
مريع بن فرج الله الصعيدي
خليص
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم العبر وأبلغ العظات في تصرم الأيام والليالي. 2- الوصية بالمحاسبة قبل نهاية العام. 3- اغتنام العمر في طاعة الله. 4- الوصية بالتوبة النصوح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281]، وخذوا من تعاقب الليالي والأيام وتصرم الشهور والأعوام أعظم العبر وأبلغ العظات، ألا ترون أن الليل والنهار يتراكضان، وأنكم بمرورهما في آجال منقوصة وأعمال محفوظة؟! فالأعمار تفني، والآجال تدني، وصحائف الأعمال تطوي، والأبدان في الثرى تبلى، أليس في ذلكم للعاقل أعظم العبر وأبلغ العظات؟! وقد كان السلف الصالح يجعلون من مرور الأيام والسنين مدّكرًا ومزدجرًا، فكانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس، قال بعضهم: "كيف يفرح مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته؟!".
معاشر الأحبة، ألا ترون أنكم في هذه الحياة تتقلبون في أسلاب الهالكين، وستذهبون رغمًا عنكم وتورثونها لخلفكم اللاحقين؟! وها أنتم في كل يوم تشيعون منكم غاديًا ورائحًا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه وفارق الأحباب، وسكن التراب وواجه الحساب، غنيًا عما خلف، فقيرا إلى ما أسلف، أليس في ذلكم معتبر، وعن الغيّ مزدجر؟! فاتقوا الله يا أولي الألباب.
عباد الله، وإن الليالي والأيام جعلها المولى تبارك وتعالى مواقيت للأعمال ومقادير للآجال، تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وقدر ما فيها باقي لا يزول ودائم لا يحول، وأما الخلق فمصيره في هذه الدار للفناء، وكل ما على صعيد الأرض كائن للتراب، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]. وها أنتم تودعون عامًا قد انقضى، وجزءًا من العمر قد مضى، قد تولت لحظاته وبقيت تبِعاته، فكل شهر يستهله الإنسان ويستكمله يدنيه من أجله ويقصيه عن أمله، ويبعده عن ضيعته ويقربه من آخرته، وغدًا توفى النفوس ما عملت ويحصد الزارعون ما زرعوا، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7، 8].
معاشر المؤمنين، إن لكل شيء بداية، ونهاية عامنا قد أوشكت على الاقتراب، فقد آذن عامنا بالرحيل وولى الأعقاب، وإن هذا الرحيل ليترك في النفوس عظيم الحزن وبليغ الأسى على جزء من العمر قد انقضى وتصرم ومضى في غير طاعة للمولى، وربما في مقارفة بعض الذنوب واتباع الهوى، ولا يمكن رد شيء مما فيه أو إصلاحه أو تلافيه إلا بالتوبة الصادقة والندم على ما كان والرجوع حقًا إلى الملك الديان.
هَلُمّ بنا ـ يا إخوة العقيدة والإيمان ـ لنحاسب أنفسنا ونستلهم الدروس والعبر ونحن في ختام العام، ماذا قدمنا من أعمال صالحة؟ دعونا ـ يا أمة الإسلام ـ نتباحث عن عامنا كيف أمضيناه، وعن وقتنا كيف قضيناه، وننظر في كتاب أعمالنا كيف طويناه، وفيه نبصر ما أسلفناه ويتبين ما قدمناه، فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه.
فيا إخوة الإسلام، ويا أبناء الرسالة، يا أمة التوحيد، ليست الغبطة في التمتع بالملذات، وليست السعادة في تناول الشهوات، إن الخير كل الخير أن يوفق المسلم في ختام عامه إلى التوبة النصوح وفتح صفحة جديدة من الأعمال الصالحة، قبل أن تقول نفسي: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]).
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه طالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيّئاته، وظهرت خسارته ودامت حسراته، ولئن كان أهل الأموال والتجارات يقومون بعمل تصفية وجرد لحساباتهم في آخر كل عام مالي لينظروا الطرق التي ربحوا فيها فيكثروا منها والطرق التي خسروا فيها فيجتنبوها، فما أحرانا ـ معشر المسلمين ـ بذلك في نهاية كل سنة وبداية الأخرى أن نقف مع أنفسنا فنحاسبها ماذا أسلفنا من الأعمال.
معاشر المسلمين، كم في النفوس من لوعة على فراق أحبة لنا مضوا خلال العام راحلين وانقطع ذكرهم، رجال طالما انتظروا الصلاة بعد الصلاة، وطالما لهجوا بتلاوة الآيات، وعمروا الأوقات بجليل الطاعات وعظيم القربات، استُلّوا من بيننا دون اختيار، ومضَوا إلى الواحد القهار. إنّ في الله عزاء من كل مصيبة، وجبرانًا من كل نقيصة، وخلفًا من كل فائت. وكم من أهوال عظام وأحداث جسام مرت بنا خلال العام، أقضت المضاجع وأفزعت القلوب في الهواجع، من ظلم الظالمين وإفساد الفاسدين.
معاشر المسلمين، إن كثيرا من الناس تمضي عليهم الأيام والشهور وتنصرم عليهم الأعوام والدهور وهم بين السهو والغفلة وكثرة المشاغل والانهماك في متع الحياة، حتى يفاجئهم الموت وهم عن غير استعداد ليوم المعاد والتزود له بخير الزاد، إذ يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9].
إن المؤمن العاقل بين مخافتين، بين أجل مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، وليس بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إننا نفرح بمرور الأيام والشهور لنبلغ مقاصدنا وهي في الحقيقة من أعمارنا، ومن استوفى أيامه وعمره رحل عن الدنيا وترك كل ما له فيها، وانتقل إلى دار الآخرة وهو في تلك الحالة أحوج ما يكون إلى الزيادة في الحسنات والتخفيف من السيئات. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجله). وروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما من يوم ينشق فجره إلا نادى مناد من الله: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بصالح العمل، فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
ابن آدم، مسكين أنت، تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص كل يوم عمرك وأنت تفرح، كفيت فيما يكفيك، وتطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع. فاجتهدوا فيما بقي من أعماركم بصالح العمل، وأخلصوا النية في كل شيء لله عز وجل، وتفقهوا في الدين، وكونوا بالحق والصبر والمراحمة متواصين، واحرصوا على ما ينفعكم، واستعينوا بالله ولا تكونوا ممن غفل واتبع هواه وكان أمره فرطا، فإن العمر ثمين ينبغي أن يصان عن تضييعه في البطالة أو أعمال أهل السفه والهوى والجهالة، بل اغتنموا لحظاته في عبادة الله بما شرع والحذر عن الشرك وأنواع البدع، فإن الأشياء ثلاث: أمر استبان رشده فاتبعوه، وأمر استبان غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم حكمه فلا تواقعوه، حتى يتبين لكم شأنه برده إلى الكتاب والسنة وما أثر عن السلف الصالح من هذه الأمة.
اللهم أيقظنا من رقود الغفلة، ونبهنا لما أمامنا ما دام لنا في الحياة مهلة، وارزقنا الاستعداد للقيامة قبل يوم النقلة.
بارك الله لنا في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا.
أيها الأحبة، إننا بعد أيام قلائل نودع هذا العام، عام مضى وانقضى من أعمارنا، لقد كنا بالأمس القريب نستقبله، وفي هذه الأيام نودعه، ولكن الفرصة لا تزال مهيئة لنا في استدراك الماضي، وذلك بالتوبة الصادقة حتى نبدأ صفحة بيضاء.
فمن بدرت منه خطيئة أو ارتكب معصية خلال هذا العام فبادر بالتوبة والاستغفار وأتبعها بالحسنة التي تمحوها كفرها الله عنه ووقاه خطرها، يقول سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110].
معاشر المسلمين، إن التوبة الصادقة تمحو الخطيئة مهما عظمت، كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]، وقد دعاكم ربكم سبحانه وتعالى فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 74]. وإنه فتح بابه للتائبين ليلاً ونهارًا، قال : ((إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل)) ، وعلق الفلاح عليها فقال سبحانه وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، ووعد بالقبول عليها: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى: 25]. ووالله، لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه؛ لأنه عظيم يغار إذا انتهكت محارمه، يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه، وكفى بخشية الله علمًا وبالاغترار بالله جهلاً.
فالبدار البدار إلى التوبة الصادقة قبل أن توضعوا في الحفر المظلمات، وقبل أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ومن قبل أن تقول: ربِّ ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت.
وبشرى أزفها لكم ـ معاشر التائبين ـ من كلام رب العالمين، هذه البشرى هي أن السيئات إذا تاب منها العبد بدلت حسنات، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 70، 71]. فالتوبة التوبة أيها المسلمون، تفوزوا برضوان الله وتسعدوا في الدنيا وبالنعيم المقيم في دار المقامة.
(1/4987)
عجل قبل أن يعجل عليك
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة, الموت والحشر
مريع بن فرج الله الصعيدي
خليص
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان قد يولد مرة واحدة وقد يولد مرتين. 2- الوصية بالاستعداد للموت قبل وقوعه. 3- وصف الجنة. 4- وصف النار. 5- الوصية بالصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا عباد الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين، إننا في أمس الحاجة إلى الذكرى والموعظة، والله جل جلاله يقول لحبيبه عليه الصلاة والسلام: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء: 63].
فيا أخي الغالي رعاك الله، الإنسان قد يولد مرة واحدة وقد يولد مرتين؛ أما الميلاد الأول فهو يوم يخرج من ظلمات رحم أمه إلى نور الدنيا، وذلك ميلاد يشترك فيه كل الخلق المسلمون والكفار، والأبرار والفجار، بل والحيوانات أيضًا. أما الميلاد الثاني فهو يوم يخرج من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وهذا الميلاد خاص بمن وفقه الله من البشر لطريق الهداية ومسلك الاستقامة، وقد صور الله عز وجل هذا الميلاد بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122]. إنه ميلاد لا يتقيد بعمر، وهنيئًا لك إن لم يسبق الموت ميلادك. فعجِّل ـ أخي ـ قبل أن يعجَّل عليك.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيًا والناس حولك يضحكون سرورًا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا
إنه ميلاد ليس له سبب معين، ولكنه شيء يهزُ نفسك بأنك ما خلقت عبثًا ولن تترك سدى ولا هملاً، نعم هو هزةٌ فاستيقاظ من غفلة، فمحاسبةٌ للنفس، فدمعةٌ على الخد، فسجودٌ لله من ذلك العبد، فثبات. نسأل الله الثبات حتى يدخلنا ربنا برحمته جنة عرضها كعرض الأرض والسموات.
ولا يولد هذا الميلاد إلا من أخذ بالأسباب وقد تأتيه الأسباب، قد يكون كافرًا فيسلم، وقد يكون مسلمًا مبتعدًا عن الله فيعود إلى الله، ويكون مستقيمًا فيجدد الميلاد. فلا إله إلا الله، ما أفضلها من أيام تلك الأيام، يوم يتمرد الإنسان عن الانقياد للشيطان، يوم يرتبط الإنسان بالله الواحد الديان، يوم يذوق الإنسان حلاوة الإيمان، يوم تذرف بالدموع العينان، يوم يلهج بذكر الله اللسان، يوم تتنزه الأذنان عن سماع المعازف والألحان ومزمار الشيطان، وتستبدل بها كلام الواحد المنان، فعجل قبل أن يعجل عليك.
فيا أخي المسلم، يا من خلقك ربك فسواك، وهو الذي رزقك وكساك وأطعمك وسقاك، ومن كل خير سألته أعطاك، ومع ذلك عصيت وما شكرت وأذنبت وما استغفرت، تنتقل من معصية إلى معصية ومن ذنب إلى ذنب، كأنك ستُخلد في هذه الدنيا ولن تموت، تبارز الله بالمعاصي والذنوب، غافلاً ساهيًا عن علام الغيوب، فليت شعري متى تتوب؟! أتتوب عند الممات؟! وهل تظن يقبل منك ذلك في تلك اللحظات؟! استمع إلى من أنعم عليك وهو يتحدث عن أولئك الذين بارزوه بالذنوب والمعاصي ولم يخشوا يومًا يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي، انظر ماذا يقول الله عنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99]، لماذا تتمنى الرجعة يا هذا؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، فيقال له توبيخًا: كَلاَّ ، نعم كلا فقد أمهلناك، كلا فقد تركناك فتماديت وما رجعت وما باليت، كلا فقد انتهى الوقت، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100].
فبادر ـ أخي ـ وعجِّل عجِّل ما دام الباب مفتوحا، نعم لا يزال باب التوبة مفتوحًا لك، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغِر)) ، ويقول: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) ، وأبشرك ببشارة الله لك ولكل المذنبين التائبين، اسمعها في قوله سبحانه: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ عند الإله لمن يتوب ويندما
يا أيها العبدُ الْمسيء إلَى متَى تُفنِي زمانك فِي عسى ولربَّمَا
بادر إلى مولاك يا من عُمره قد ضاع فِي عصيانه وتصرّما
واسأله توفيقًا وعفوا ثُم قل يا رب بصرنِي وزل عنِّي العمى
نعم أخي، عجل ثم عجل قبل أن يعجَّل عليك، ولا تجعل للشيطان إليك سبيلاً، عجل قبل: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 56- 58].
عجّل ـ أخي ـ قبل أن يعجل عليك، فأيام عمرك قلائل ولحظات محسوبة وأنفاس معدودة، فلا تضيعها في غير طاعة الله. عجل ـ أخي ـ قبل أن يعجل عليك، فهذا ابن المنكدر لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "والله، ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم".
يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر؟!
أو ليت شعري كيف أنت على نعش الضريح وظلمة القبْر؟!!
إني أدعوك ـ أخي ـ دعاء الصادق معك المحب لك إلى أن تنظر في نفسك، هل أنت تسير في طريق مستقيم، أم أنت كالذي سلك طريقًا فصده هواه وقرين السوء، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71].
فاسلك طريق المتقين وظن خيرًا بالكريمْ
واذكر وقوفك خائفًا والناس في أمر عظيمْ
إما إلَى دار الشقاوة أو العز المقيمْ
فاغنم حياتك واجتهد وتب إلى الرب الرحيمْ
قال بعض السلف: "لا تغتر بدار لا بد من الرحيل عنها، ولا تخرب دارًا لا بد من الخلود فيها".
دنا الرحيلُ فقلتُ اليوم: وا أسفاه كيفَ الرحيلُ وذنبي قد تقدَّمني
فيا قوم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر: 39، 40]. جعلني الله وإياكم من أهل الجنان، ومن الذين يدخلونها بسلام آمنين.
عبد الله، تصور نفسك يوم يقال لك وأنت مع أهلها: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70]. إن أهل الجنة تعرف في وجههم نضرة النعيم، إن أهل الجنة في جنات وعيون، إن أهل الجنة في شغل فاكهون، إن أهل الجنة يسقون من رحيقٍ مختوم، إن أهل الجنة فرحين بما آتاهم الله من فضله، إن أهل الجنة عندهم قاصرات الطرف أتراب، فعجِّل ـ أخي ـ عجل حتى تكون من أهلها ومن الذين ينعمون ويتلذذون بخيراتها.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان
وفواكه شتَّى بِحسب مناهُم يا شبعةً كملت لذي الإيمان
لحم وخَمر والنساء وفواكه والطيب مع روح ومع ريْحان
قال الله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد: 15]. فيا لها من لذة تلك اللذة، ويا له من نعيم ذلك النعيم لمن عجل قبل فوات الأوان.
وجنات عدنٍ زخرفت ثم أزلفت لقوم على التقوى دوامًا تبتلوا
بِها كلُ ما تَهوى النفوس وتشتهي وقرةُ عين ليس عنها تَحولُ
أخي رعاك الله، لقد حرَّك الداعي إلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيًا، فهزّه السماع إلى منازل الأبرار، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار، فكن بقلبك بل بكلِّك مع القوم الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 10، 11]. واحذر ـ أخي المسلم ـ أن تعرض عن ذكر الله؛ لأن الإعراض نكد في الدنيا وعذاب في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 124-126]. فتصور ـ أخي ـ ذلك الأعمى وهو يسحب على وجهه في نارٍ حرها شديد وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم فيها الصديد، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17]، وتذكر أخي: إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72]، تذكر أخي: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ [الأحزاب: 66]، استمع إليهم: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37]، قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 106- 108]، ينادون فانظر من ينادون: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ ، ومالك هو خازن النار، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77، 78].
فعجل ـ أخي ـ عجل قبل حلول الندم وزوال النعم ونزول النقم حيث لا ينفع الندم، فاستعد للسؤال وتهيأ للجدال، قال الله الكبير المتعال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111].
اللهم يا مصلح الصالحين، أصلح فساد قلوبنا، واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا، واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا، وارحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا. وأكثروا من الاستغفار يغفر لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عجل ـ أخي ـ عجل، واصبر واحتسب ولا تجزع، وكن كبلال أمام الابتلاء العظيم الذي لا يصبر عليه إنسان، يسحب على وجهه في لهيب الشمس التي تحرق الأجساد حرقًا، وتوضع على صدره صخرة عظيمة، وهو يقول: أحدٌ أحد، قل هو الله أحد، الله الصمد. يقول له الجلادون الموكلون بتعذيبه: قل غير هذه الكلمة.، فيجيبهم: لا أحسن غيرها. وسئل: كيف صبرت على هذا العذاب؟ فقال : (مزجتُ مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطفت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب ولم أشعر بالعذاب). الله أكبر!
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وجزاء هذا الصبر والاحتساب يحدثنا رسول الله قال لبلال: ((حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة)) ، الله أكبر! أي جائزة أعظم من أن يعرف إنسان أنه من أهل الجنة وهو لا يزال يعيش في هذه الدنيا،؟! اسمع إجابة بلال قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
فلا تضيعوا أعماركم في غير طاعة ربكم، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. فعجل قبل أن يعجل عليك، قبل أن تسيح دموع الندم.
دعنِي أمسح دموعًا لا انقطاع لَها لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
كأنِّي بين تلك الأهل منطرحًا على الفراش وأيديهم تقلّبني
كأني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعانِي ويندبني
إنها رحلة سريعة كلمح البصر، سحابة بدت واختفت، تلك هي الدنيا تمر مر السحاب، ساعة من زمن ثم تنقضي، ألا إنها ـ يا أخي ـ رحلة بدأت وستنتهي.
(1/4988)
اغتنام الأوقات
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عايض بن سعيد الرشيد
الرياض
4/1/1427
جامع الأميرة فهدة الشريم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت. 2- واجبنا تجاه الوقت. 3- الأسباب المعينة على حفظ الوقت من الهدر والضياع. 4- مجالات استثمار الوقت. 5- آفات وعوائق تضيِّع على المسلم وقته.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن هذا الوقت والزمن والعمر عرضةٌ للصرف والبذل، فإما أن يكون بفائدة وإما أن يكون في غير ما فائدة. وبما أن الوقت هو أغلى ما يملك الإنسان فإن الإسراف في بذله في غير ما فائدة هو من أعظم الخسران.
فمن تتبع أخبار الناس وسبر أحوالهم وعرف كيف يقضون أوقاتهم وكيف يمضون أعمارهم عَلِمَ أن أكثر الخلق يهدرون أوقاتهم، محرومون من نعمة استغلال العمر واغتنام الوقت. ويزداد العجب عجبا من فرح هؤلاء بمرور الأيام وتوالي الأعوام، وهم في غفلة معرضون وفي غمرة ساهون. يقول ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل".
ولقد عني القرآن الكريم والسنة المطهرة بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله بالوقت في مطالع سور عديدة مثل: الليل والنهار والفجر والضحى والعصر، ومعلوم أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهمية وعظمة ذلك المقسم به، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفَعته.
وجاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتبين أن الإنسان مسؤول عنه يوم القيامة، روى الترمذي عن معاذ بن جبل أن رسول الله قال: ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)) ، وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). قال ابن الجوزي: "قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش, وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا, فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون".
أيها المسلمون، إذا علمنا وأدركنا أهمية الوقت وجب علينا أمور كثيرة، لكي نستفيد ونستثمر وندخر هذا الوقت. ومن هذه الأمور:
أولاً: الحرص على استثمار هذا الوقت الثمين وعدم التفريط في لحظة واحدة منه، يقول الحسن البصري: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
ثانيًا: تنظيم الوقت، فيقدَّم من الأعمال والأقوال الأهمُ فالمهم، بحيث لا يطغى بعضها على بعض، خاصة إذا تعددت مسؤولياته بين حق الله وحق الوالدين وحق الزوجة والأولاد وحق عامة الناس، وفي الحديث: ((إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه)).
ثالثًا: اغتنام وقت الفراغ، فالفراغ نعمة يغفل عنها كثير من الناس فلا يؤدون شكرها، ولا يقدرونها حق قدرها، فقد روى البخاري عن ابن عباس أن النبي قال: ((نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). وقد حث النبي على اغتنام وقت الفراغ فقال : ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) وذكر منها: ((فراغك قبل شغلك)).
عباد الله، لا بد من اتخاذ الأسباب المعينة على حفظ الوقت من الهدر والضياع، ومن تلك الأسباب:
أولاً: م حاسبة النفس فيما يتعلق بصرف الوقت، وهي من أعظم الوسائل التي تعين المسلم على اغتنام وقته في طاعة الله.
ثانيًا: تربية النفس على علو الهمة، فمن ربَّى نفسه على التعلق بمعالي الأمور والتباعد عن سفاسفها كان من أحرص الناس على اغتنام وقته، ومن عَلَت همته لم تقنع بالدون، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
إذا ما عَلا المرءُ رام العلا ويقنعُ بالدُّونِ من كان دُونَا
ثالثًا: مصاحبة المحافظين على أوقاتهم، فإن صحبة هؤلاء ومخالطتهم والحرص على القرب منهم والتأسي بهم تعين على اغتنام الوقت، وتقوي النفس على استغلال ساعات العمر في طاعة الله.
رابعًا: معرفة حال السلف مع الوقت، فإن معرفة أحوالهم وقراءة سيرهم أكبرُ عون للمسلم على حسن استغلال وقته، فهم خير من أدرك قيمة الوقت وأهمية العمر، وقد ضربوا أروع الأمثلة في اغتنام دقائق العمر واستغلال أنفاسه في طاعة الله، قال ابن مسعود: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي)، وقال عمر بن عبد العزيز: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما"، وقال موسى بن إسماعيل: "لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكا قط صدقتكم، كان مشغولا بنفسه؛ إما أن يُحدِّث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال"، وقال ابن القيم: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". وأما الإمام ابن عقيل ففي أخباره العجب، حتى كان يقول: "إني لا يحلّ لي أن أُضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبَصَري عن مطالَعة أعملت فكري في راحتي وأنا مُنطرِح، فلا أنهض إلا وقد خَطَرَ لي ما أُسطِّره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة".
خامسًا: تنويع ما يُستغل به الوقت، فإن النفس بطبيعتها سريعة الملل وتنفر من التكرير، وتنويع الأعمال يساعد النفس على استغلال أكبر قدر ممكن من الوقت وينشطها إلى ذلك.
سادسًا: إدراك أن ما مضى من الوقت لا يعود ولا يُعوَّض، فكل يوم يمضي وكل ساعة تنقضي وكل لحظة تمر ليس في الإمكان استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها.
سابعًا: تذكُّر الموت وساعة الاحتضار، وتذكُّر السؤال عن الوقت يوم القيامة حين يستدبر المرء الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو مُنح مهلة من الزمن ليصلح ما فسد ويتدارك ما فات، ولكن هيهات هيهات، فقد انتهى زمن العمل وحان زمن الحساب والجزاء.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وعلى حسن عبادتك.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن مجالات استثمار الوقت كثيرة، وللمسلم أن يختار منها ما هو أنسب وأصلح له، ومن هذه المجالات:
أولاً: حفظ كتاب الله تعالى وتعلُّمه، وهذا خير ما تعمرُ به الأوقات وتقضى فيه اللحظات، وقد حثَّ النبي على تعلم كتاب الله، فقال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري.
ولو حفظ المسلم في كل يوم آية واحدة من كتاب الله وحديثا واحد من أحاديث النبي فإنه في سنة واحدة فقط يُتِمُّ حفظَ سورةَ البقرة ونصفَ سورة آل عمران، ويحفظُ كتابَ عمدةِ الأحكامِ كاملا. ولو حفظ في كل يوم أربع آيات من كتاب الله فإنه يتم حفظ القرآن في خمس سنوات. وانظروا كم من سنة تضيع دون محاولة حفظِ آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث المصطفى.
ثانيًا: طلب العلم الشرعي، فقد كان السلف الصالح أكثر حرصًا على استثمار أوقاتهم في طلب العلم وتحصيله؛ وذلك لأنهم أدركوا أن حاجتهم إليه أكبر من حاجتهم إلى الطعام والشراب. واغتنام الوقت في تحصيل العلم وطلبه له صور، منها: حضور الدروس المهمة، والاستماع إلى الأشرطة النافعة، وقراءة الكتب المفيدة. فلا تقل: لا زلت في مرحلة الشباب، ولا تقل: تقدم عمري ولم أعد أستطيع التحصيل والمراجعة، ولكن بادر الآن واستغل وقتك فهو عمرك وسوف تسأل عنه.
إذا كان يؤذيكِ حرّ المصيف ويُبسُ الخريف وبَرْدُ الشتاء
ويُلهيكِ حسنُ زمانِ الربيع فأخذك للعلم قُل لي: متى؟!
ثالثًا: ذكر الله تعالى، فليس في الأعمال شيء يسع الأوقات كلها مثل الذكر، وهو مجال خصب وسهل لا يكلف المسلم مالاً ولا جهدًا، وقد أوصى النبي أحد أصحابه فقال له: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) رواه أحمد. فما أجمل أن يكون قلب المسلم معمورًا بذكر مولاه، إن نطق فبذكره، وإن عمل فبشكره.
رابعًا: الإكثار من النوافل، وهو مجال مهم لاغتنام أوقات العمر في طاعة الله، وعامل مهم في تربية النفس وتزكيتها، علاوة على أنه فرصة لتعويض النقص الذي يقع عند أداء الفرائض، وأكبر من ذلك كله أنه سبب لحصول محبة الله للعبد، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) رواه البخاري.
خامسًا: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين.
سادسًا: زيارة الأقارب وصلة الأرحام، فهي سبب لدخول الجنة وحصول الرحمة وزيادة العمر وبسط الرزق، قال النبي : ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) رواه البخاري.
سابعًا: اغتنام الأوقات اليومية الفاضلة، مثل بعد الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وثلث الليل الأخير، وعند سماع النداء للصلاة، وبعد صلاة الفجر حتى تشرق الشمس. وكل هذه الأوقات مقرونة بعبادات فاضلة ندب الشرع إلى إيقاعها فيها، فيحصل المسلم بها على الأجر الكبير والثواب العظيم.
عباد الله، هناك آفات وعوائق كثيرة تضيِّع على المسلم وقته، وتكاد تذهب بعمره كله إذا لم يفطن إليها ويحاول التخلص منها، ورأس تلك العوائق وأسها الغفلة والتسويف، فهما سلاحان ماضيان من أسلحة الشيطان تفتك بالإنسان.
فبادر ـ أيها المسلم ـ باغتنام أوقات عمرك في طاعة الله، واحذر من التسويف والكسل، فكم في المقابر من قتيلِ سَوفَ.
نسأل الله صلاحا عاجلا إنما الغافل في البلوى هلك
وكفانا ما مضى من بؤسنا ربنا اكشف ما بنا فالأمر لك
(1/4989)
في وداع العام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
محمد بن ماجد القحطاني
القويعية
2/1/1426
جامع الفرشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبرة في تصرم الليالي والأيام. 2- المحاسبة على فوات الأعمار في غير طاعة الله. 3- اغتنام الأوقات في طاعة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتبصّروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يومٍ يمرُ بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبدٍ اغتنم فرصها بما يقرّب إلى مولاه، طوبى لعبدٍ شغلها بالطاعات وتجنب العصيان، طوبى لعبدٍ اتّعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبدٍ استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار، يقول الله تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]. ألم تروا إلى هذه الشهور تهلُ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموّها أخذت بالنقص والاضمحلال؟! وهكذا عمر الإنسان سواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدّد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسانُ إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيامُ سِراعًا فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان، يتطلع إلى آخره تطلعَ البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت، يقول جلّ من قائل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]. ربما يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم، وببناء الأماني قد انهدم.
أيها الناس، إنكم في هذه الأيام تودعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مقبلاً جديدًا، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي؟! وبماذا تستقبلون هذا العام الجديد؟! فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره، فإن كان قد فرّط في شيءٍ من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالمًا لنفسه بفعل المعاصي والمحرّمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممن منّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
إخواني، ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي، وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلِّي، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب، وإقلاعٌ عما كان عليه من الذنوب، وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبةِ علامِ الغيوب، فحققوا ـ أيها المسلمون ـ الإيمان والتوبة، فإنكم في زمن الإمكان.
وعظَ النبيُ رجلاً فقال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). ففي الشباب قوةٌ وعزيمة، فإذا هرِم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة. وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحةٌ وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال. وفي الحياة ميدانٌ فسيحٌ لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان. قال علي بين أبي طالب : (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
عباد الله، اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها، واعلموا أن كل آتٍ قريب، وأن كل موجودٍ منكم زائلٌ فقيد، فابتدروا الأعمال قبل الزوال.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 3-6].
عباد الله، ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال له: ((اقرأ عليّ القرآن)) ، فقال: أقرأُ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قوله الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] فقال : ((حسبك)) ، فإذا عيناه تذرفان. وقد ثبت عنه أنه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتد غليانه. هذا هو رسول الله فكيف بنا نحن؟!
اللهم أعنّا على أنفسنا بفعل الطاعات وترك المنكرات، اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه على جوده وإحسانه، يغيث المستغيثين ويجيب دعوة المضطرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: معاشر المسلمين، إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمةً هكذا، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، عن أبي بكر أنه قال: قال رسول الله : ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)).
أيها المسلمين، إن هذا العام الذي ولى مدبرًا قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عاملٍ عمله، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30]، سيرى كل عاملٍ عمله، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، سيسأل العبد عن جميع شؤونه في الدنيا وربه أعلم به، ولكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). فالحذر الحذر من التفريط ومن التسويف.
ندِمتُ على ما كان مني ندامة ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
ألم تعلموا أن الحساب أمامكم وأن وراءكم طالبًا ليس يسأم؟! فخافوا لكي تأمنوا بعد موتكم، ستلقون ربًا عادلاً ليس يظلم، فليس لمغرورٍ بدنياه راحة، سيندم إن زلّت به النعل. فاعلم يا من ضيّع عمره فيما لا ينفع، أما تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك؟ فكم مرّ عليك من الأعوامِ وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافية، ومع هذا وذلك لم تردّ زكاة صحتك وعافيتك، بل أصبحت مغبونًا فيهما، لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيلٍ للآخرة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ)). والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء، ولا يدخر جهدًا ولا مالاً ولا وسعًا في الذهاب إلى المستشفيات كلما أحس بشيء، وهذا من فعل الأسباب المشروعة، لكن أن تراه غافلاً عن إصلاح قلبه وجوارحه وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك فهذه هي الكارثة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
نسألك اللهم أن تصلح قلوبنا، وأن تسخّر جوارحنا في مرضاتك. اللهم وفّق حكامنا وعلماءنا وشيبنا وشبابنا. اللهم اجعلنا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم، ولا تجعلنا ممن طالت أعمارهم وساءت أعمالهم. اللهم أوزعنا شكر نعمتك، وألبسنا لباس التقوى. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم اجعل عامنا الجديد عام صلاح وفلاح للإسلام وجميع المسلمين...
(1/4990)
السرقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رسالة إلى الكفلاء الظالمين. 2- انتشار جريمة السرقة. 3- السرقة من كبائر الذنوب. 4- ذم السارق. 4- علاج الإسلام لجريمة السرقة. 5- من يتحمل مسؤولية هذه الجريمة؟ 6- واجب المجتمع تجاه هذه الجريمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إلى ذلك الرجل الذي يسرق عرق عمّاله، ذلك العامل الذي تحمّل الغربة عن أهله وبلده، وكم في قلبه من لوعة، يأتي إلى هذا البلد فيظن الخير، والخير إن شاء الله موجود، ولكن يصادف بكفيل تجرَّد عن الرحمة، فيسلبه راتبه الذي لا يتجاوز 250 ريالاً، ثم يفاوضه على التنازل مقابل نقل كفالته. ألا خسئت مثل هذه الأخلاق.
أما بعد: فنقف اليوم مع مشكلة اجتماعية عانى ويعاني منها المجتمع اليوم بشكل واضح، ومع تزايدها واستفحالها، ومما دعاني للالتفات لهذه المشكلة رغم وجودها سابقًا ما تعرض له هذا المسجد من حادث سرقة لبعض أجهزة التكييف فيه، بل تعدّدت الشكوى لسرقة بيوت الله في أكثر من مكان، هذه المشكلة التي عانى منها كثير من البيوت بشكل أو بآخر هي مشكلة أكبر من مشكلة سرقة مكيّف أو ذهب، بل تكبر المشكلة لتكون سرقة أشياء أكبر وأعظم حتى تتعدّى لسرقة الأراضي والممتلكات العامّة وأموال الدولة وإلى الغش في المواصفات أو تقديم تنازلات وتسهيلات غير مستحقة.
نقف اليوم لأنّ منبر الجمعة منبر وعظ وإرشاد وترغيب وترهيب وتنبيه وتحذير، والسؤال المطروح والذي يجب أن نسأله جميعًا: لماذا يسرق فلان؟! لماذا احترف بعض الشباب سرقة البيوت والسيارات والمحلات التجارية؟! ولماذا قبل ذلك الموظف المؤتمن استغلال منصبه في أخذ أو تسهيل شيء لا يستحق؟!
المشكلة ـ يا عباد الله ـ لا يرتبط حلها بالجهات الأمنية فقط، فالجهات الأمنية والرقابية هي جزء من الحل، والمشكلة لها جوانبها الشرعية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية.
فظهور مشكلة كالسرقة في المجتمع فإن المجتمع مسؤول بأكمله عن حلّها، ومن الخطأ والظلم أن يتنصل أحد من المسؤولية وإن كانت المسؤولية بشكل غير مباشر.
أيها المسلمون، إنّ جريمة السرقة جريمة من كبائر الذنوب، جاء الشرع المطهّر بقطع يد السارق مهما كان وضعه أو مكانته أو منصبه، فأعلنها رسول الأمة مدوية: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
فالسرقة خلق ذميم وجريمة لا يتصف بها إلا خسيس الطباع.
السارق عضو فاشل في مجتمعه، لا يعوّل عليه ولا يطمأَن له، عطّل سمعه وبصره وعقله عن الإنتاج، وسخرها في أخذ ما عند الناس بالخسة والدناءة واللآمة.
السارق ما يأكله من سرقة فهو سحت وحرام وظلم وعدوان، السارق ملعون على لسان رسول الله ، السارق يأتي يوم القيامة وقد أعرض الله عنه من سوء فعاله اللئيمة، السارق مهما رفع يديه بالدعاء لا يستجيب الله له، كيف يستجاب لدعوة سارق ويداه قد تلوثت بسرقة وغصب ما عند الناس؟! سارق البيوت وسارق الأراضي وسارق الأموال العامة لا ينبت جسده إلا من الحرام، ولا يضع في فم أولاده إلا الحرام.
السارق لا يقتنع بالحلال ولا يرتاح له، بل لو خيّر بين الحلال والحرام لاختار الحرام على الحلال؛ لأن فطرته قد انتكست وانعكست والعياذ بالله، أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا.
إن تطبيق حد الله على السارق لهو لضمان المجتمع بإذن الله، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فحدود الله رحمة للمجتمع وتطهير للسارق في آن واحد. إنّ الناس إذا رأوا الرجل مقطوعة يده اليمنى فقيل: ما السبب؟ قيل: إنه سرق، فتحدّث الناس عن جريمته، فكانت هذه رادعة لغيره من الناس.
وسبحان من أكرم هذه اليد اليمنى يوم تكون عاملة منتجة، حتى كان الاعتداء عليها فيه نصف دية الرجل، ولما أهانها صاحبها بالسرقة هانت عند الله فقطعت.
أيها المسلمون، لقد جاء الإسلام بحلول كثيرة من المشاكل، وجعل إقامة الحدود هي الحلّ النهائي لها. مشكلة التربية التي نعاني منها اليوم ومنذ سنوات هي لا تزال تظهر لنا اليوم هذا الكمّ الهائل من المشاكل، مشكلة سوء التربية هي التي تظهر لنا المسلِم السارق، هي التي تظهر لنا المسلم الذي يتعاطى المخدرات، هي التي تظهر لنا المسلم الديّوث، هي التي تظهر لنا المسلم الخائن، هي التي تظهر لنا المسلم الغشاش والزاني والمرابي والعاق، كلّ هذا سببه سوء التربية، وما يحصل داخل البيوت في سنوات الطفولة والتربية والغرس يخرج خارج البيوت حينما تشتد السواعد، ما يحدث داخل البيوت من انصراف الأبوين أو أحدهما عن أبنائه ومن عدم اتفاق الأبوين على كلمة سواء في تربية الأبناء أو ما يشهده البيت من قسوة الأب على أبنائه حينما يقعون في الخطأ، ما تشهده بعض البيوت من انفصال الأبوين عن بعضهما وتبعات ذلك، ما يشهده البيت من تأخر الأب عن البيت لساعات متأخرة للسمر واللهو، ما تشهده البيوت من إعطاء توكيل بالتربية إلى قنوات التلفزيون الفضائية إلى ما تبثه في أخلاقهم من السموم، فماذا فعلت الأفلام التي جلها إجرام وسرقة وسطو مسلح ومخدرات وانتهاك أعراض؟! من الطبيعي أن يتأثّر المشاهد خاصة المراهق بما يشاهده في كل يوم، وهذا الأمر قد أثبتته جميع الدراسات المحلية والعربية والعالمية. جهاز التلفزيون يشكل اليوم أكبر خطر على الأخلاق واللعب بالعقول والأفكار.
ومن يتحمل المسؤولية اليوم؟! المدرسة التي انصب دورها على التعليم أكثر من التربية، فأصبحت بعض المدارس للأسف محاضن لتعلّم الأخلاق السيئة من الأقران، فالواجب اليوم العمل على إرجاع دور المدرسة الحقيقي في التربية والتوجيه السليم، فالمدرسة هي البيت الثاني لأبنائنا، فعلى العاملين في حقل التعليم استشعار عظم المسؤولية التي تحمّلوها، وأن يتقوا الله في أبناء المسلمين.
وممن يتحمّل المسؤولية في جريمة السرقة الفراغ والبطالة التي يعيشها بعض الشباب اليوم، نتيجة خلل في تربية الأسرة وتربية المجتمع، فنشأ الشاب على الراحة والترفيه وحبّ التقليد، جعل من بعض شبابنا نموذجا سيئًا للشباب المسلم، فلا صنعة يعرفها، ولا مهارة يتعلمها، ولا وقت يهتمّ لضياعه. يعجبك ذلك الشاب الذي ليس لديه وقت للفراغ، فبعضهم انهمك في خدمات خيرية واجتماعية، وبعضهم ذهب إلى بعض المعاهد فأخذ دورة في الكهرباء أو في الصيانة، فتعلم مهارة نفعته أو عنده موهبة فصقلها ونمّاها، فعادت عليه بالفائدة والخير، أما ذلك الشاب العاطل الذي لا يتعلّم ولا يريد أن يتعلم فيريد المال تلو المال، وعند غياب المال عند البعض ربما جرّه قرناء السوء إلى باب السرقة وأبواب أخرى من الجريمة.
وقرناء السوء حدِّث عنهم اليوم ولا حرج، فكم أغوى صديق السوء من مستقيم، وكم دمّر صديق السوء من أسَر، إنهم شياطين الإنس الذين لا يوحون ولا يوسوسون إلا بالسوء، وصدق الله إذ يقول: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً.
فحذار ـ أيها الشباب ـ من أصدقاء السوء، وصديق السوء له صفات واضحة وظاهرة، من أهمها أنه لا يفعل الخيرات ويأتي المنكرات، بل ربما يشجع صاحبه عليها، صديق السوء لا يعلّمك الخير ولا يشجع على الخير، مثل هذا لا خير فيه ولا بركة فيه، والبعد عنه غنيمة.
ومن الأسباب أيضا ـ يا عباد الله ـ الفقر الشديد وقلة ذات اليَد، وهي إن لم تكن سببا مباشرا ولكنها عامل مساعد على الجريمة، فكم من فقير ـ وهم الأكثر ـ لم يفكر مجرد التفكير في الانحراف، ولكن أحيانًا مع قلة الدين أو تفكك الأسرة أو إغراء أصدقاء السوء أو الوقوع في مصيبة أو الرغبة في المتعة وحتى لا يكون أقلّ من فلان وفلان، فيلجأ إلى الاختلاس والنصب والاحتيال والرشوة.
فواجب المسلمين اليوم أن يكونوا يدًا واحدة، فالغني لا بد له من إعطاء الفقير، هذا حقّ، وحينما لا يؤدي هذا الحق تظهر المشاكل في المجتمع، فلا بد للمسلين اليوم التنبيه إلى هذا المعنى كثيرًا، لا بد أن تنفق الأموال ولا تتوقف عن زكاة ونذور وكفارات كلها تعود على الفقراء لسدّ عوزهم وحاجتهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
السرقة في المجتمع مصيبة تحصل على بعض الناس ويسلم منها آخرون، وكل ذلك في كتاب من قبل أن يبرأها سبحانه.
وعلى المسلم الأخذ بالأسباب الشرعية والحسّية في الوقاية من السرقة، فتحصين المسلم لنفسه وأولاده وبيته بالأذكار والأوراد الشرعية في الصباح والمساء من أقوى الأسباب في دفع مثل هذه المصائب وغيرها. وليعلم العبد أن ما سرق منه فهو صدقة محتسبة بإذن الله. ومن الأسباب التي يجب أن نقف صفا واحدا فيها هو عدم تسهيل السرقة، فالمال إذا لم يكن في حزر أمين كان ذلك تفريطًا وغفلة من صاحبه، فكم من إنسان ترك سيارته ومحرّكها يدور ثم عاد ولم يجدها، وكم من إنسان وضع مالا في سيارته ثم عاد ولم يجده.
ومن الأمور التي يوجه إليها الناس هو عدم شراء الأموال المسروقة، فبعض البضائع التي يشك في أمرها وتباع في قارعة الطريق بأسعار غريبة تكون مسروقة، والسارق يبيع في العادة بأيّ ثمن، فشراء مثل هذه البضائع تشجيع بشكل غير مباشر على تصريفها.
ومما يوجّه له الآباء الالتفات إلى أبنائهم، وأن يكونوا صدورًا واسعة تحتضنهم، فيأخذهم بالرّفق فيربوهم على الدين وتعظيم الله جل جلاله في قلوبهم وتبجيل وحب نبيهم ، تربيتهم على الاستقامة والعفة واحترام حقوق وملك الآخرين وبيان شناعة التعدي على أملاك الآخرين، تربية الأبناء على القناعة بما قسمه الله لهم من الرزق، وتربيتهم على تحمل المسؤولية من صغرهم وعلى قدر أعمارهم، تربيتهم على حبّ الخير للناس كما يحبونه لأنفسهم، تربيتهم بمحاسبتهم على أخطائهم وتوجيههم التوجيه السليم وإبعادهم عن رفاق السوء ومحاولة تقريبهم إلى أهل الخير والصلاح، تربيتهم على حبّ العلم والقراءة والمعرفة والثقافة. مثل هذه التربية تحتاج إلى جهاد وعمل حتى تثمر ثمارا يانعة صالحة. نعوذ بالله من العجز وسوء العمل.
(1/4991)
اللباس والزينة (1)
الأسرة والمجتمع, فقه
اللباس والزينة, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
7/7/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله تعالى على عباده باللباس. 2- قصة انكشاف العورات. 3- فتنة إبليس في هذا الباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ.
هذا الخطاب الرباني في الآيتين قد صدّره الله لبني آدم، فهو لعموم البشر ممتنّا عليهم بإنزال اللباس لهم ليواري سوءاتهم، ولقد ذكر الله هذه المنة العظيمة على البشرية بأن هداهم للباس الذي يواري سوءاتهم ويقيهم الحر والبرد، بل وامتن عليهم بإنزال الريش وهو الزينة من اللباس، ثم ذكّرهم سبحانه بأن لباس التقوى خيرٌ من لباس البدن، فكما يحب الإنسان السوي أن يستر عورته عن الناس بل ويحب أن يتزين بالزينة فإن لباس الأخلاق والدين وهو اللباس المعنوي خير وأزكى، والاهتمام بلباس التقوى هو الذي يمنع الإنسان من التكشّفِ والعري وإظهار ما يجب ستره عن أعين الناس.
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.
وهنا لنقف على القصة من أولها، فما حكاية الشيطان مع بني آدم واللباس؟ وحديثنا عن اللباس حديث ذو شجون، فلنستمع للقصة من أولها:
لقد خلق الله أبانا آدم وخلق منه زوجه حواء، فلما خلق الله آدم وكان قد سُبِق في الخلق الملائكة وإبليس لعنه الله، فكان أن أمر الله الملائكة وإبليس بالسجود لآدم تكريما وتشريفا لهذا المخلوق الجديد، فسجد الملائكة مذعنين لأمر ربهم من غير تردد ولا تلكُّؤ، وبقي إبليس اللعين لم يسجد وعصى أمر من خلقه وسوّاه فعدله، فخاطبه ربه سبحانه سائلاً له وهو أعلم: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ، فاستمع إلى تلك الإجابة: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].
هنا الزلل، وهنا الخطر، وهنا الانجراف للهاوية، حين يُعمَل العقل في غير موضعه، وحين ينازع عقل المخلوق أمر خالقه، فلا إله إلا الله العزيز الحكيم. هنا خطورة أن يعمل الإنسان عقله في غير الموضع الذي أمر بإعماله فيه، حينما يعرض أوامر الله وتشريع الله على عقله، فإن وافقت عقله أجازها وقال: هي خير، وإن لم يفهمها ولم توافق عقله أو هواه رفضها وأتي بما يوافق عقله أو هواه، وحينها يصل هذا الإنسان ويأتي بالكوارث لنفسه وللمجتمع وللبشرية كلها.
لقد جعل إبليس لنفسه رأيًا مع النصّ الإلهي، واعلم ـ أيها المسلم ـ أنه لا اجتهاد مع النص، وحين يوجد النص القاطع يبطل النظر ويبطل الاجتهاد، بل تتعين الطاعة ويتحتم التنفيذ، فالله سبحانه قد جعل إبليس عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه وعصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا.
ولما طرد إبليس من الجنة ووعده الله بإنظاره ليوم يبعثون حكمة وتدبيرا من الله العزيز الحكيم جاء إبليس لآدم وحواء يوسوس لهما بما أعطاه الله من القدرة على هذا الإيحاء وتلك الوسوسة، فقال لهما: ما نهاكما الله عن الأكل من هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا خالدين، وقد كان الله قد أباح لهما من ثمار الجنة حيث شاءا، وحذرهما من شجرةٍ بعينها بعدم الاقتراب منها. وهنا دهاء هذا اللّعين، ليأتي لبني آدم من نقاط ضعفهم، فيتمكن منهم إلا من اعتصم بعصمة الدّين والإيمان الصحيح.
إن آدم وحواء خلقٌ جديد على الجنة، والمخلوق الجديد في مثل هذا المكان يريد ويرغب في التمسك به، فأتاهما الشيطان من هذا المدخل، فقال لهما: ما نهاكما الله عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، والملائكة هم من سكان الجنة، أو تكونا من الخالدين في هذه الجنة، فكلاَ منها فإن أكلَتم كنتم خالدين في الجنة لا تخرجون منها. وزيادةً في الخداع والإيهام ولبس دور الناصح أقسم لهما بالله إنه لهما من الناصحين، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، كما قال تعالى: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ، وانتبه إلى هذا اللفظ: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ، فالتدلية هي إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، فكان المعنى أن الشيطان استطاع أن ينزل آدم وزوجه من المكانة العلية إلى مكانة أدنى بسبب المعصية، وهكذا هي الذنوب تذلّ بني آدم وتنقص قدرهم وعلوهم عند الله عز وجل.
فلما ذاقا وطعما مجرد الطعم من هذه الشجرة تساقط ما كان يستر عوراتهم وبدت سوءاتهما، وسميت بالسوءة لأن الإنسان يسوؤه إظهارها وإبرازها لغيره من البشر.
وبدت السوءات وقد كانت مستورة، ولكنه الفعل الشيطاني الذي يريد من بني آدم كشف عوراتهم وسوءاتهم، فيحتال عليهم بشتى الحيل ويدخل عليهم بشتى المداخل؛ لكي ينزع عنهم هذا اللباس الذي يواري سوءاتهم، وكل يوم له حيلة، ومع كل قوم له مدخل وأسباب يقنعها بهم.
كان العرب قبل الإسلام لا يطوفون بالبيت بثيابهم التي يلبسونها، فقد أوحى لهم الشيطان وزين لهم أن لا تطوفوا بالبيت الحرام بثياب قد عصيتم الله فيها، فكان بعضهم يطوف بالبيت عريانا، وربما طافت النساء عرايا وتنشد إحداهن فتقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
بدعة ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، ولكنه إبليس عدو مبين أخذ العهد على أن يغوي بني آدم، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعه كثير من البشرية في سَلك مسالك العري والسفور وكشف ما لا ينبغي كشفه إلا فريقا من المؤمنين.
لقد جاء في عصرنا وأمرهم بإنشاء دور الرقص، وسمى لهم الرقص فنًا، وأمرهم بإنشاء دور الأزياء، وأمرهم بالعري على الشواطئ، وسماها لهم حرية، وأمرهم بالسفور والتبرج، وسماها لهم فقال للمرأة: هذا إظهار للأنوثة.
قال تعالى: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. هذه هي الفطرة الإنسانية السوية، وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ أنهم لا يرضون بأن تظهر سوءاتهم وعوراتهم أمام الناس، فأخذ آدم وحواء يسارعان إلى ورق الجنة يلصقانه على ما بدا من عورتيهما، هذه هي الفطرة النقية، واليوم كل من خالف هذا المفهوم ورضي بشيء من انكشاف العورات ما قلّ منه أو كثر كان هذا انتكاسا للفطرة السليمة، وانقلابا إلى شيء من البهيمية الحيوانية، حتى يغدو البعض والأنعام خير منهم وأرقى.
وعاتبهما الله سبحانه على العصيان بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ. جاء في بعض الآثار التي ساقها ابن كثير في تفسيره أن آدم قال: ((بلى، ولكن وعزّتك ما حسبت أحدا يحلف بك كاذبا))، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فتاب الله عليهما، ولكن شؤم المعصية وأثرها أخرجهما من جنة الخلد وملك لا يبلى إلى الأرض وصراع سرمدي مع عدو لا يستكين، أُنزِلا إلى الأرض بما فيها من نصب ووصب وهمّ وغمّ وضحك وبكاء وحياة وموت، ولله في ذلك الحكمةُ البالغة، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
كانت هذه الكلمات في الخطبة الأولى مقدمة وتوطئة للحديث عن موضوع مهم في حياتنا اليومية، ويتعلق بأدبنا ويتعلق بعوراتنا ويتعلق بمظهرنا، ذلك هو موضوع اللباس والزينة، وإنما كانت هذه الكلمات لبيان أهمية الموضوع ومكانته من الدين والأدب والفطرة والنعمة التي امتنها الله على عباده، ما هدي رسولكم في اللباس؟ ماذا لبس؟ وماذا نهى عنه؟ ما حدود الزينة وبعض سنن الفطرة؟ ما اللباس الذي يرتضيه الله لنا معاشر الرجال وأيضا النساء؟ ما عورة الرجل؟ وما عورة المرأة أمام النساء؟ وما علاقة الكفار بلباسنا؟ ما الهدي النبوي في الشعر الذي أنبته الله في الإنسان؟ ما أقوال فقهاء المسلمين في وجه المرأة؟ كل هذه المواضيع المهمة هي محور الخطب القادمة بعون الله وتوفيقه.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4992)
اللباس والزينة (2)
الأسرة والمجتمع, الإيمان, فقه
اللباس والزينة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
14/7/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة اللباس في الإسلام. 2- هدي النبي في اللباس. 3- فضل البياض في اللباس. 4- استحباب التيامن في اللباس. 5- آداب وأدعية نبوية متعلقة باللباس. 6- النهي عن اللباس الأحمر الخالص. 7- التحذير من التشبه بالكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد ابتدأنا الحديث في الجمعة الماضية حول موضوع اللباس والزينة، وكان الحديث مقدمةً لهذه الخطبة وما بعدها حول نعمة اللباس، ومراد الشيطان من آدم وذريته التعري والسفور وكشف العورات بعدما أغوى الشيطان آدم بالأكل من الشجرة، فبدت السوءات وانكشفت العورات.
عباد الله، اللباس في الإسلام له مكانة وشأن، وهو نعمة أنعمها الله على البشرية، فعلمهم صناعة وحياكة وغزل اللباس، تلك آية من آيات الله لعلنا نتفكر ونتدبر فنشكر نعمة الله.
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس الْمرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
كان من هدي الرسول عدم التكلّف في اللباس، فيلبس ما تيسر له، فلبس العمامة والقميص وكان أحب الثياب إليه، ولبس الإزار والرداء والجبة وغيرها، ولبس الأسود والأخضر والأحمر غير الخالص، وكان يحب البياض، وحث أمته على لبس البياض، وقال: ((إنها أطهر وأطيب)) ، وقال: ((كفنوا فيها موتاكم)).
والأبيض فيه طهارة ونظافة؛ لأن الأوساخ تظهر سريعا عليه، فيسارع المسلم إلى غسله، أما غيره من الألوان الداكنة فتتراكم عليها الأوساخ من غير أن يظهر فحشها، فكانت غير مناسبة، ومن جهة أخرى فإن البياض ترتاح له النفوس ويبعث على البهجة.
وكان يحب التيامن في اللباس كما روت عائشة رضي الله عنها عنه أنه كان يحب التيامن في شأنه كله. قال النووي رحمه الله: "وهذه قاعدة مستمرّة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخفّ ودخول المسجد والسّواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود وغير ذلك مما يستحب التيامن فيه، وأما ضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والنعال وما أشبه وذلك فيستحب التياسر فيه؛ وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها.
والسنة في النعال أن يبدأ لبسها باليمين، وأن يكون خلعها ابتداء بالشمال، كما وردت السنة أيضا بأن لا يمشي المسلم في نعل واحدة، أي: لا يلبس نعلا في رجل والأخرى حافية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لينعلها جميعا، أو ليخلعها جميعا)) ، وقال أيضا: ((إذا انقطع شِسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها)) ، وجاء أيضا عن النبي : ((إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة)).
كما جاءت السنة أيضا بالاحتفاء أحيانا، وهو المشي حافيا، كما أورده أبو داود في سننه من حديث بريده
عن رجل من أصحاب النبي قال: كان النبي يأمرنا أن نحتفي أحيانا.
وكان النبي إذا لبس ثوبا ذكر الله وحمده وأثنى عليه فقال: ((اللهم إني أسالك من خيرة وخير ما هو له، وأعوذ بك من شره وشر ما هو له)) ، وكان يقول إذا استجدّ له ثوب أو ملابس جديدة: ((اللهم لك الحمد أنت كسوتَنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)).
فحافظ ـ يا رعاك الله ـ على هذا الأدب النبوي وتلك السنة المحمدية الرفيعة في لباسك كل يوم، ففيها البركة التي تحل والخير العظيم وغفران الذنوب، قال : ((ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)). فهي كلمات عظيمه، فيها الاعتراف بهذه النعمة المسداة والتبرؤ من الحول والقوة إلا به سبحانه.
ويستحب أن يقول لمن لبس جديدا: ((البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا)) ، قالها النبي لما رأى على عمر رضي الله عنه ثوبا جديدا.
وفي البخاري روت أم خالد بنت خالد بن سعيد عن موقف لها وهي صغيرة في السنّ مع النبي ، قالت: أتي النبي بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال: ((من ترون أن نكسو هذه؟)) فسكت القوم، فقال: ((ائتوني بأم خالد)) ، وهي يومئذ طفلة صغيرة، فأتي بها تُحمل، فأخذ الخميصة بيده وقال: ((أبلي وأخلقي)) ، وكان فيها علم أخضر أو أصفر فقال: ((يا أم خالد، هذا سناه)). وسناه كلمة حبشية معناها: حسن. ففي حديث أم خالد دعاء لمن لبس جديدا بطول الحياة. وفي الحديث من الفوائد عنايته بالأطفال وحسن ملاطفتهم ونداءٌ لهم بالكنية مما يشعرهم بأهميتهم.
أيها المسلمون، لقد نهى نبيكم عن أنواع من اللباس بعينها، فاعرفوها لتجتنبوها، فالخير كل الخير في اجتناب ما نهاكم عنه نبيكم.
لقد نهى النبي أن يلبس الرجال الأحمر الخالص من الألوان، فعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله عليَّ ثوبين معصفرين فقال: ((إن هذه ثياب للكفار فلا تلبسها)) ، وغيره من الأحاديث التي نهت عن لبس الأحمر، ولكن يجب أن يعلم أن النهي إنما ورد عن لبس الأحمر الخالص الذي لا يخالطه لون آخر؛ لأنه ثبت عن النبي أنه لبس حلة حمراء من برود اليمن، قال ابن القيم في زاد المعاد: "وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا لا يخالطها غيره، وإنما الحلة الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، وإلا فالأحمر البحت منهيٌ عنه أشد النهي" انتهى كلامه.
والأولى للمسلم ترك هذا اللون من اللباس إن كان خالصا، ومن ذلك ما يفعله بعض الشباب هداهم الله من لبس بعض الملابس الحمراء في يوم أو أيام معيّنة من السنة، ويرمزون بذلك إلى عيد أو يوم يسمونه بالحب، قد أخذوا ذلك من الكفار الذين نهينا أشدَّ النهي عن مشابهتهم، إلى ما في لبس اللون الأحمر الخالص من محذور في الشريعة.
وهذا الحديث يقودنا للكلام عن النهي عن كل لباس من لباس الكفار؛ لأن على المسلم أن تكون له شخصية تميِّزه يعرف بها المسلم من غيره، شخصية في مظهرة ولباسه وكلامه وباطنه، تلك الشخصية التي تعكس ما رباه عليه الإسلام من القيم والتعاليم. أما الانزلاق وراء الكفار والتشبه بهم فهو باب خطير؛ ذلك أن فيه مخالفة صريحة للهدي النبوي في الحرص على مخالفة الكفار والتشبه بهم، بل كان الحرص النبوي على تكوين شخصية جديدة للمسلم يتميز بها ويعرف بها، يعرف بها من كلامه إذا تكلم، ومن إقدامه على أمرٍ أو إحجامه عن آمر، يعرف بشخصيته هذه من ملابسه وهيئته التي يظهر عليها، فعلى المسلمين عموما وعلى الشباب خصوصا الحذر من مسألة التشبه لأنها خطيرة على الدين كما قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن التشبه بالكفار بالظاهر يورث مشابهتهم بالباطن".
ونحن في تربيتنا ننهى الأولاد من إتيان شيء من أمور النساء حفاظا على تربيتهم على الرجولة، ومشابهة الكفار في خصائصهم يورث بدون شعور الميل إليهم وحب ما عندهم من الشر والرغبة عما عند المسلمين من خير، ولهذا أورد لنا هذا التشبّه أمورًا عظيمه دخلت على المسلمين نتيجة التساهل العظيم في أمر التشبه، والحجة في ذلك: لا نقصد التشبه! وليست العبرة بالنية وإنما العبرة بالعمل! فإذا نظرت إلى حال كثير من المسلمين اليوم فلا تعرف من هيئته أنه مسلم إلا إذا تحدث العربية، فحلق اللحى ما كان معروفا عند المسلمين ولا عند العرب كما سوف يأتي عن الحديث عن اللحية وحكمها، ولبس البناطيل التي تصف العورات وتحدّها لم يعرفها المسلمين إلا بعد أن ضرب الاستعمار أطنابه في بلاد المسلمين وأورث لهم بعض العادات القبيحة، واليوم وقد أصبح العالم كأنهم في قرية واحدة نتيجة التقدم في الاتصالات، فتجد الشاب الذي له شخصيه مهزوزة سرعان ما يتأثر من قصة رآها أو لبس رآه على شاشات التلفاز أو من بعض أصدقائه.
كم كان ينادي المصلحون ويعلِّم العلماء الناس أن السنة جاءت بحفّ الشارب وأن السنّة جاءت بتقصير الثياب وعدم إسبالها، فكنت لا تجد من يستجيب لهذه السنة إلا من وفّقهم الله لطاعته، ولكن الكثيرين وخاصة الشباب اليوم نرى بعضهم وقد خفف شاربه، فإن قلت له: مرحبا بك في عالم السنة قال بلسان حاله: لا إنما هي الموضة أما السنة فأنا عنها زاهد، وترى من يلبس بعض السراويل أو البناطيل القصيرة أو ما يسمّى "البرمودا" ويمشي بها في الشارع والمحلات والحدائق، وعنده الجرأة في تحدي لباس مجتمعه الذي درجوا عليه، ولكن تلك الجرأة تختفي من قاموسه إذا قيل له: قصِّر ثوبك ولو إلى حد الكعب على الأقل أن تنجو بنفسك من عذاب الله، قال: كلا وحاشا حتى لا يكون من المحسوبين على المتديّنين. فهؤلاء الناس وقد أغواهم شيطانهم وزين لهم رغبوا عن السنة النبوية وتتبعوا سنن اليهود والنصارى، كرهوا ما جاءت به السنة، وأحبوا ما جاءت به الموضة وآخر صيحات دور الأزياء، ووالله إن خرجت علينا الموضة غدًا بإرخاء اللحى لوجدت من هؤلاء من يسارع إلى إطالة لحيته، قال : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)) ، وهذا يفيد بأن على المسلم الحذر لئلا يقع في التشبه، وليكن المسلم من الطائفة المنصورة التي أخبر بها النبي بأنهم على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة.
فأهل السنة هم على السنة المحمدية، لا يبغون عنها حولا، فلا يتشبهون بأحد، لا في كلامهم، ولا في أشكالهم، ولا هيأتهم، ولا في لباسهم، ولا في عقائدهم، قد رضوا بسنه محمد وأحبوها من قلوبهم، وكرهوا الكفار وأهله وما جاء من قبلهم، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُم ، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. ولقد أخبرنا نبي الأمة في حديث حذيفة المشهور عن الخير والشر، وفية قال حذيفة : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن)) ، قال: قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)).
فاحرص ـ أيها المسلم ـ على تتبع سنة نبيك؛ فإن فيها الخير العظيم، وإن في الإعراض عنها شرًّا وبلاء، وأحق الناس بالنبي الذين اتبعوا سنته فأحبوا ما أحب وكرهوا ما كره، ولا تلتفتوا ـ عباد الله ـ لوسوسة الشيطان في نفوسكم بتبغيض السنة في نفوسكم وتقبيحها، واستقيموا على السنة، واعتزوا بالسنة، وارفعوا رؤوسكم أنكم على السنة، وموتوا على السنة؛ تكونوا جيرانا في الجنة لصاحب هذه السنة.
عباد الله، أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4993)
اللباس والزينة (3)
الأسرة والمجتمع, الإيمان, فقه
اللباس والزينة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
21/7/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم التشبه بالكفار بقصد أو بغير قصد. 2- حرص النبي على تميز المجتمع الإسلامي. 3- من مفاسد التشبه بالكافرين. 4- نصوص نبوية في مخالفة الكفار وأهل الكتاب. 5- آثار الصحابة في مخالفة المشركين. 6- ظاهرة انتشار بعض الألبسة الغريبة بين الفتيان والفتيات. 7- النهي من تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فما زال الحديث حول اللباس والزينة، وكان الكلام في الجمعة الماضية حول التشبه بالكافرين في اللباس، وإتمامًا للكلام عن هذا الموضوع المهم لأننا نرى في الشباب من الجنسين اليوم ولعًا بالتشبه بالكفار والفاسقين في لباسهم وهيئاتهم مع أننا قد نهينا أشد النهي عن ذلك، حتى ولو قال قائل: إنني لم أقصد التشبه بهم، فيقال: إن التشبه مذموم بكل حال، فإن قصد التشبه بهم فهو على خطر عظيم في دينه، وإن لم يقصد فقد وقع في النهي عن التشبه بهم الذي امتلأ به القرآن والسنة وأقوال الصحابة الكرام. يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: ((لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر وباعًا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه)) ، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ، قالوا: يا رسول الله، كما ضعت فارس والروم وأهل الكتاب؟! قال: ((فهل الناس إلا هم؟!)).
ألا ترى حرص النبي على مخالفة غير المسلمين من اليهود والنصارى وعامة المشركين حاثًا أمته على ذلك، وهذه المخالفة التي أُمرنا بها قد تكون لمجرد المخالفة، وقد تكون للمخالفة مع ما فيها من عاقبه غير حميدة، ومقصود الشارع في ذلك أن يجعل من الأمة المسلمة أمةً لها كيانها وشخصيتها، ولئن جرت نواميس الكون على أن الضعيف دائمًا ما يتأثر بالقوى فإن ذلك لا ينطبق على المسلمين الذين ينطلقون من تشريع سماوي رباني، وأما غيرهم فلا يحكمهم إلا المصالح والأهواء والتعلق بتراب الدنيا.
إننا لا نقول: لا نأخذ من المشركين كل شيء، بل نستفيد من علومهم وما يفيد، أما أن نقلدهم في معتقداتهم وعاداتهم فالتشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم هو إظهار لأديانهم الباطلة الفاسدة ونشر لها، فتقاليدهم في لبس الدبلة مثلاً ولو كان جميلاً هو نشر لمذهبهم الباطل الذي ينصّ على أن الرجل يلبس المرأة الدبلة في يدها اليسرى على رأس الإبهام ويقول: باسم الأب، ثم ينقله من الإبهام إلى السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين يضعه أخيرًا في البنصر حيث يستقرّ، ويعتقد النصارى أن هناك عرقا في البنصر يرتبط بالقلب مباشرة.
وكما أن التشبه بالكفار والفاسقين في اللباس والهيئات والمظهر والخلق والعادات هو إهانة للأمة المسلمة وشعورٌ بالضعف من المتشبِّه والتبعية والدونية. عن أبي أمامه رضي الله عنه قال: خرج رسول الله على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: ((يا معشر الأنصار، حمّروا وصفّروا وخالفوا أهل الكتاب)) ، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله : ((تسروَلوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب)) ، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتخفَّفون ولا ينتعلون، فقال النبي : ((فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب)) ، فقلنا: يا رسول، إن أهل الكتاب يقصّون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال: فقال: ((قصروا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب)). ففي هذا الحديث الأمر بخضاب الشعر الأبيض مخالفه لأهل الكتاب، ولبس الإزار مخالفة لأهل الكتاب، وقص الشوارب وتوفير اللحى مخالفة لأهل الكتاب.
وجاءت السنة في مخالفة اليهود في الصلاة في النعال والخفاف؛ فإنهم لا يصلون فيها. وجاء الأمر بأكلة السحور مخالفة لأهل الكتاب في أنهم لا يتسحرون. وكذلك الحال في تعجيل الفطور في رمضان فإن اليهود والنصارى يؤخرون الفطور. وجاء الأمر بمخاطلة النساء ومعاشرتهم في حال حيضهن دون الجماع مخالفة لليهود الذين لا يؤاكلون المرأة ولا يجامعونها في حال حيضها. وفي الصيام لما علم النبي بأن اليهود تصوم يوم عاشوراء أمر بصوم يوم قبله أو بعده إمعانًا في مخالفتهم. ونهى عن الوصال في الصوم وأخبر أنه فعل النصارى. وفي باب الصلاة نهى النبي عن التخصّر في الصلاة، وهو أن يجعل المصلي يده في خاصرته؛ لأن اليهود تفعله. وأمر المأمونين أن يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدًا لمرض ونحوه وقال في هذا: ((لا تفعلوا فعل فارس والروم)). وفي باب دفن الموتى أمر النبي باللحد في عمل القبور وقال: ((اللحد لنا، والشق لغيرنا)) ، وفي رواية: ((والشق لأهل الكتاب)). وجاء في الترمذي وأبي داود وصححه الألباني حديث عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فتعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله وقال: ((خالفوهم)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تتشبهوا باليهود ولا بالنصارى؛ فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)).
ويروى عن النبي قوله: ((فرق ما بننا وبين المشركين العمائم على القلانس)) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التعليق على هذا الحديث: "وهذا بين في أن مفارقة المسلم والمشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع". وأمر النساء بعدم وصل الشعر وما يسمى بالباروكة، ففي الصحيح أن معاوية صعد المنبر وتناول قصّة من شعر كانت في يد حرسي فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟! سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذه ويقول: ((إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم)) ، وفي رواية عن معاوية: ((إنكم أحدثتم زيّ سوء)).
وفي باب الحج كان المشركون ينفرون من مزدلفة بعد شروق الشمس، فخالفهم النبي. ولما قدم المدينة وجد للناس يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله : ((إن الله قد أبدلكما بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
وفي باب الأذان كان النبي مهتمًا كيف ينادي للصلاة وينبه الناس لدخول الوقت، فذُكر له البوق فقال: ((هو من أمر اليهود)) ، وذكر له الناقوس فقال: ((هو من أمر النصارى)).
وفي باب العادات فإن النبي مر بأحد أصحابه وهو جالس قد وضع يده اليسرى خلف ظهره متكِئا على إلية يده، فقال عليه الصلاة والسلام منكرًا عليه: ((أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!)). فالنبي نهى عن مجرد جلسة، وظاهر في أن الصحابي لم يكن يعلم ولم يكن يقصد أن يتشبّه باليهود، فكيف بمن يكون مقصده ونيته هو التشبه بكافر من الكفار في لباسه وشعره وهيئته؟!
ومما جاء من الآثار عن صحابة رسول الله ـ وهم أعرف الناس بما دلّ عليه القرآن والسنة ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر قوّاده في المدن التي يفتحها ويسيطر عليها المسلمون أن لا يُلبَس الكفار لباس المسلمين، فلا يلبسون العمامة ولا القلانس ولا النعال، ولا يفرقون شعورهم كالمسلمين، ولا يتكلمون بكلام المسلمين، ولا يتكنون بكناهم. كل ذلك حتى يتميز أهل الإسلام عن أهل الكفر، وكتب عمر إلى قائد جنده في أذربيجان قائلاً: (إياكم والتنعُّمَ وزِيَّ أهل الشرك ولَبوس الحرير). وعندما فتح الله على المسلمين بيت المقدس ودخلها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب وأحب أن يصلي استشار كعبًا في المكان الذي يصلي فيه، فأشار عليه أن يصلي خلف الصخرة حتى تكون القدس كلها بين يديه، فقال عمر لكعب: (لقد ضاهيت اليهود، لا ولكن أصلي حيث صلى الرسول ).
وورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة).
ولقد أجمع علماء الإسلام على وجوب مخالفة المشركين سواء كان ذلك من باب العقائد أو العبادات أو العادات.
تلكم كانت بعض الأدلة الشرعية مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله وفعل أصحابه، وما تركناه أكثر مما أوردناه، حتى قال اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه! ولكن يكفي هذا للدلالة على عظيم الأمر وخطورة باب التشبه؛ لأن من شابه قومًا كان هناك نوع ارتباط ومودة بينهم، فالذي يلبس لباس العلماء يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم، والذي يلبس لباس الجنود يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم، والذي يلبس لباس الكفار يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم.
والمسلم يقرأ كل يوم في صلاته: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7]. فالطريق المستقيم هو طريق واحد لا يوجد غيره، وهو طريق الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وأما طرق المغضوب عليهم وهم اليهود والضالين وهم النصارى فهي طرق كثيرة متشعبة، وكلها لا توصل إلا إلى نار جهنم، فمن أراد سبيل النجاة فليستمسك بكتاب الله وسنة رسوله ومصطفاه وسلف هذه الأمة.
لقد انتشرت في صفوف الشباب والفتيات أصناف من اللباس لم يعهدها المسلمون من قبل، ألبسة ليس لها قانون أو مفهوم حتى في الجمال، يجمعها الغرابة، فتجد بنطلونات الجينز الضيقة جدًا أو الواسعة جدًا، تجد فيها ما يلبس بالمقلوب، وتجد منها البنطلونات المشرشرة، وكأن لها سنين طوالا، تجد منها ما تراه ممسوحًا وكأنه قد غسل مئات المرات، تلبس لأنها هكذا لبسها الغرب، تجد الألوان الغريبة الفاقعة والفسفورية، تجد ألبسة تبرز الصدر والعضلات، فتجد الواحد يذهب لأندية اللياقة ويلعب الحديد حتى تبرز له عضلات، ليس للصحة أو للجهاد وإنما والعياذ بالله للفت الأنظار وفتنة الفتيات. تجد الملابس التي عليها صور ورسومات ذوات الأرواح، ولا يعنيهم أن الملائكة لا تمشي معهم ولا تدخل مكانا فيه صور، وفرق كبير في حمل صورة في بطاقة شخصية تكون في محفظة مستترة في ستار خلف ستار، وبين صورة توضع على الصدور أو الظهور وتكون بارزة.
جاء عن النسائي وغيرة بسند جيد أن النبي كان على موعد مع جبرائيل عليه السلام، فلما أتى جبرائيل امتنع من دخول البيت، فسأله النبي فقال: إن في البيت تمثالاً وسترًا فيه تصاوير وكلبًا، فمُر برأس التمثال أن يقطع، وبالستر أن يأخذ منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومُر بالكلب أن يخرج، ففعل ذلك النبي ، فدخل جبرائيل عليه السلام.
وجرت الفتوى لعلماء هذا البلد من أمثال الشيخ ابن عثيمين وابن جبرين وغيرهم على تحريم بعض الألبسة مثل البنطلون، وخاصة للنساء؛ لما يشتمل عليه من التشبه ويحجّم من العورات، وكذلك الألبسة التي لا تستر العورات. والحديث عن الألبسة التي لا تستر العورات يستلزم معرفة حدود عورة الرجل وعورة المرأة، سواء في الصلاة أو في النظر، وما يباح كشفه وما ينهى عن كشفه.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن التشبه المذموم في الشريعة الإسلامية أن يتشبه الرجل بالمرأة وأن تتشبه المرأة بالرجل. في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
أتعلمون ما اللعن ومن اللاعن؟! اللعن هو الدعاء بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللاعن هو الرسول ، فالتشبه كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله التي تستوجب إن لم يتب المسلم منها العقوبة من الله، وأي عقوبة أكبر من أن يدعو الرسول على أحد بأن يطرده الله من رحمته؟!
وللأسف الشديد فإن الملابس الحديثة أو الموضة كما تسمّى تجدها في الأسواق لا تستطيع بسهوله أن تفرّق لباس الرجل من لباس المرأة، تجد ذلك في الفانيلات والقمصان والبناطيل والأحذية.
والنبي لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء؛ ولهذا تعجب من شاب قد ذاب رقّةً ونعومهةً، قد تكسّر في مشيه وحلق لحيته وتزين بأزياء غريبة وقصّ شعره على الموضة، فبدا وكأنه ورقة منديل تطير في الهواء، وتجد من الفتيات من ترجّلت فلبست ألبسة مشابهة للرجل، فقلدته في مشيته وقصّت شعرها حتى ربما يخطي الرائي للوهلة الأولى هل هذا رجل أم امرأة.
تجد بعض النساء ـ هداهن الله ـ وكأنها رجل تحب أن تخرج لأسواق الرجال، وترفع صوتها بالبيع والشراء ومجادلة الرجال، خشنةً في التعامل والأخلاق، بل ربما وقفت مع الرجال في صفّ الانتظار من غير حياء ولا خجل. ووجد من الرجال والنساء من يلبس ثياب الآخر لبسًا صريحًا ويتكلم بكلام الآخر كلامًا صريحًا من باب المزاح والتمثيل.
وإنني أعظكم ـ عباد الله ـ من فعل هذا الأمر ومشاهدته والرضا به؛ فإنه فعل من سخط الله ولعنه الله ورسوله، وكيف يطيب للمسلم الذي يرجو الله والدار الآخرة أن تطيب نفسه بالضحك على أمر فيه لعنة الله؟! بل إن الإيمان في القلوب يدعو المسلم المؤمن أن يحزن لما يجري، وأن يغضب لمحارم الله أن تنتهك ويستهزأ بها، وأن يتمعّر وجهه غيضا وغضبًا لله ومحارمه، أما الضحك والرضا بهذه الأمور ولو كانت من قبيل المزاح والتسلية والتمثيل فإن لعنة الله وغضبه لا يمزَح بها ولا يتسلَّى بها، وبعض الممثلين ـ هداهم الله ـ قد اعتادوا على تمثيل دورِ المرأة، فرجل أكرمه الله بالرجولة والفحولة كيف يرضى أن يحلق شاربه ولحيته ويضع الأصباغ على وجهه ويلبس لبس النساء؟! مثل هذا وغيره ما كان ليستمرّ في أداء دوره لو أن الناس أنكروا عليه وأغلقوا التلفاز وراسلوا ونصحوا لله ورسوله، مثل هذا الفعل فيه اللعنة والغضب من الله، فلا ينبغي للمسلم أن يتهاون بالدين وبقول سيد المرسلين.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4994)
اللباس والزينة (4)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, اللباس والزينة, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
12/8/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأصل في اللباس. 2- النهي عن الإسبال في اللباس. 3- تربية النبي لأصحابه الكرام على اجتناب الإسبال. 4- آثار عن السلف الصالح في النهي عن الإسبال. 5- أنواع الإسبال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، نواصل حديثنا عن اللباس والزينة، ونحن نتحدث عن جملة ما حرمه الشارع الحكيم في اللباس، وإلا فإن الأصل في اللباس هو التمتع به، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. هذا هو الأصل في اللباس، ولكن يستثنى من هذا الأصل ما أتى الشارع الحكيم بتحريمه أو كراهته أو هو خلاف الأولى والأفضل، وقد مر معنا باب عظيم في التحريم، وهو باب التشبه في اللباس بلباس غير المسلمين، وسقنا في ذلك الآيات والأحاديث والآثار الدالة على تحريم التشبه، وجماع ذلك كله هو المحافظة على الشخصية الإسلامية في كل شيء؛ في العقائد والعبادات والمعاملات وفي الأخلاق والسلوك والعادات، ومن ضمن ذلك باب اللباس والزينة الذي هو باب واسع وظاهر للأمم في المحافظة على هويتها وأن لا تنسلخ الأمة من جلدها للبس جلد غيرها.
أيها المسلمون، ومما حرمه الإسلام في باب اللباس الإسبال، بل جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن خالف أمر الله ورسوله في هذا الباب، والإسبال هو إرخاء الرجل لباسه ثوبًا كان أو إزارا أو عباءة أو سراويل بحيث يتجاوز الحد الذي حده الشارع الحكيم وهو الكعبان.
يقول : ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، يقولها ثلاثًا، قال أبو ذر راوي الحديث: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). وأخبرنا نبينا عن رجل كان يمشي وهو يجر إزاره من الخيلاء، فخسف الله به، فهو يتجلجل بهذا الثوب في الأرض إلى يوم القيامة. نعوذ بالله من سوء العذاب، نستجير بالله من عذابه وسخطه.
فهذه الأحاديث تدل على عظيم وشناعة الإسبال إذا كان هذا الإسبال عن خيلاء وكبر، ذلك لأن الكبر لا يكون للعبد ولا ينبغي له، يقول الله في الحديث القدسي: ((والعظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار)). ولهذا كانت شناعة العقوبة يوم القيامة بأن الله لا يكلمه ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله بعدها عذاب أليم. إن هذا الوعيد مما تقشعرّ له الأبدان ويقف له شعر الرأس خوفا وفرقًا من هول هذا العذاب.
أيها المسلمون، وإسبال الإزار هو مظنة المخيلة والكبر وسبب فيه، ورفع الثوب من السمع والطاعة للخالق ومن العبد لسيده ومولاه، والإسبال هو صفة المتكبرين ورسول الله يقول: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، ويقول : ((ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة)). فهذا القول من النبي يفهم منه أن الإسبال سبب للخيلاء والكبر، وهو لا ينطق عن الهوى.
ولقد أدب النبي أصحابه على هذا ورباهم عليه، فلا تجد أحدًا منهم مسبلاً، يدل على ذلك حرصه عليه الصلاة والسلام في كل مناسبة على إيضاح الأمر للصحابة وتنبيه الجاهل منهم. من ذلك أنه لقي رجلاً مسبلاً اسمه عمرو بن زرارة رضي الله عنه وقد أسبل إزاره لعيب في ساقيه يظنه هو، فقال له النبي : ((يا عمرو بن زرارة، إن الله تعالى أحسن كل شيء خلقه)) ؛ تعليمًا له حين استحى من ساقيه، ثم قال: ((يا عمرو، إن الله لا يحب المسبل)).
فاتق الله أيها المسلم، أتعلم أن الله لا يحب المسبل ثم تصر بعد هذا على الإسبال؟! فلا تظلم نفسك، واستحي من الله حق الحياء، وارفع إزارك؛ فإن هذا هو ما يحبه الله ورسوله.
ويكرر الرسول هذه العبارة مع صحابي أخر فيقول: ((يا سفيان بن سهل، لا تسبل إزارك؛ فإن الله لا يحب المسبلين)). والحديث التالي يدل على شديد حرص النبي على مسألة الإسبال، فقد أبصر رسول الله رجلاً يجز إزاره فأسرع إليه أو هرول فقال: ((ارفع إزارك، واتق الله)). فعلى أي شيء يدل هذا؟! قال له الرجل: إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: ((ارفع إزارك؛ فإن كل خلق الله عز وجل حسن)) ، فما رئي بعد ذلك الرجل إلا إزاره أنصاف ساقيه. هؤلاء هم الذين إذا ذُكِّروا تذكّروا، وإذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه، وإذا جاءهم الأمر من الله ورسوله قالوا: سمعنا وأطعنا.
يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: دخلت على النبي وعلي إزار يتقعقع، فقال الرسول الله : ((من هذا؟)) قلت: عبد الله بن عمر، قال: ((إن كنت عبد الله فارفع إزارك)) ، فرفعت إزاري إلى نصف الساقين، فلم يزل لباس ابن عمر حتى مات. ونحن نعظ المبتلَين بالإسبال اليوم بما وعظ به رسول الله هذا الصحابي الجليل: إذا كنتم عبيدًا لله حقًا وصدقًا فارفعوا ثيابكم.
وذكر عند رسول الله خريم الأسدي فقال عنه: ((نِعم الرجل خريم الأسدي، لولا طول جمّته وإسبال إزاره)) ، فلما بلغ ذلك خريم قص شعره ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه. ونحن نقول لبعض المسبلين: نِعمَ الرجال أنتم؛ ففيكم الكثير من الصفات الحسنة الطيبة لولا هذه الصفة السيئة.
عباد الله، لما سمعت أم سلمة حديث النبي في الإسبال شق ذلك عليها وعلى معاشر النساء، وأشكل عليها فهم كلامه، فالنساء مأمورات بالستر والمرأة كلها عورة، فقالت: يا رسول الله، كيف يصنع النساء بذيولهن؟ فقال : ((يرخين شبرًا)) ، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن! قال: ((فيرخينه ذراعًا، لا يزدن عليه)).
رحم الله نساء الصحابة ورجال الصحابة، ما أحرصهم على الخير، وما أحرصهم على الفهم، وما أحرصهم على التطبيق العملي لكلام الله ورسوله. فالإسبال من صفات النساء، والرجل من صفته رفع الثوب والإزار فوق كعبيه.
مر فتى من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أسبل إزاره، فدعاه فقال له كلمة قوية، وبعض الناس يحتاج أحيانًا لكلمة قوية تهزه وتنبهه، قال له: أحائض أنت؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهل يحيض الرجل؟! قال: فما بالك قد أسبلت إزارك إلى قدميك؟!
لقد أصبحنا نعيش في زمن التناقضات، فهذا الرجل يسبل ثيابه، وهذه المرأة تكشف عن عورتها، فنسأل الله أن يبصر المسلمين بدينهم ويرزقهم تقواه ومخافته.
أيها المسلمون، ويخشى على الذي يسبل ثوبه من عدم قبول صلاته، كيف وقد روي أن النبي رأى رجلاً مسبلاً إزاره فقال له: ((اذهب فتوضأ)) ، ثم جاء فقال: ((اذهب فتوضأ)) ، فقال له رجل آخر: يا رسول الله، ما لك أمرته أن يتوضأ؟! قال: ((إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل)).
فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من الإسبال؛ فإنه وبال على المسلم، فالمسبل يمشي أوقاتًا طويلة وهو مسبل، يظل كل هذه الأوقات وهو في غضب من الله وسخط. يقول ابن مسعود : (المسبل إزاره في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام)، وعن ابن عباس قوله: (لا ينظر الله إلى مسبل)، وعن مجاهد قوله: "من مس إزاره كعبه لم يقبل الله له صلاة"، وعن ذر بن عبد الله رحمه الله قوله: "من جر ثيابه لم تقبل له صلاة".
عباد الله، في مرض موت عمر بن الخطاب لما طعن وجرحه يثعب دمًا جاء الناس يعودونه ويبشرونه بحسن العاقبة ويذكرونه، فكان من جملة من دخل عليه من الناس شاب مسبل دخل وسلم على عمر وبشره بصحبته لرسول الله وجهاده وأن عاقبته خير، فلما قام من عنده فإذا بعمر يرى هذا الشاب وقد أسبل ثوبه فقال له ناصحًا: (يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك). الله أكبر يا عمر، ما أعظمك من رجل، لم يمنعه ما هو فيه من نزول الموت أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما علمه نبيه.
أيها المسلمون، أزرة المسلم من أنصاف ساقيه إلى الكعبين، وفي روايات إلى عضلة ساقه، ولكن ينبغي أن يعلم أن الإزار ـ وهو مثل ما يلبس في الإحرام ـ فإنه إذا رفع إلى عضلة الساق وهي فوق نصف الساق بقليل أو إذا رفع الإزار إلى أنصاف الساقين يكون شكله مقبولاً، أما الثياب فإن الأفضل للمسلم أن يرخيها فيجعلها فوق الكعبين ودون أنصاف الساقين، فهذا من حسن الهيئة وأستر للعورة من أن تنكشف، ولما في المبالغة في الرفع من الشهرة بين الناس وهو أمر مذموم؛ ولذا على المسلم أن يلبس لبس قومه ما لم يكن فيه أمر محرّم أو مذموم، ولهذا نجد أن من رفع ثوبه كثيرًا وبالغ في ذلك قد عكس أمرًا في قلوب الناس، وهو أمر لا يطيقونه على الثوب، ولهذا لما شق ذلك على بعض الصحابة أن يرفع الثوب إلى أنصاف الساقين رخص النبي إلى ما تحت النصف وحتى الكعبين، ومن تجاوز الكعبين فقد دخل في الحرام.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته، واعلموا أن الإسبال من كبائر الذنوب، ولعل منكم من يقول: أنا لم أقصد بإسبالي الثوب الكبر والخيلاء، فنحب أن نوضح لكم ـ أيها المسلمون ـ أن الإسبال بالعموم هو من الكبائر المتوعّد عليها بالعذاب، وكل ذنب جاء فيه اللعن أو الوعيد عليه بالعذاب فقد عدّه العلماء من الكبائر، والإسبال قد ورد الوعيد عليه، ولكنه على نوعين: إسبال يكون معه خيلاء وكبر، وهذا الخيلاء والكبر هو من أعمال القلوب، والله عليم بذات الصدور، فهذا النوع جاء فيه الوعيد العظيم الشديد، وهو أشد من النوع الثاني وإن كان بعض العلماء يقول: إن الإسبال لا يكون إلا عن مخيلة وكبر، وإن قال القائل: أنا لم أقصد المخيلة. وعقوبة هذا الإسبال أن الله توعده بأنه لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، فماذا بعد هذا العذاب من عذاب؟! وماذا بعد أن يفقد الإنسان في عرصات القيامة رحمة الله له؟! فالمسبل الذي في قلبه نوع من الكبر والمخيلة ولو قلَّت هو مستحق لهذه العقوبة الشديدة نسأل الله العافية والسلامة.
أما النوع الثاني من الإسبال فهو الإسبال الذي يكون عن مجاراة الناس في عاداتهم القبيحة ومسايرتهم، وهذا أيضًا من كبائر الذنوب، ولكنه أخف من الأول في الوعيد، فإن هذا قال عنه : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)). فهنا العذاب يقع جزئيًا على جزء من الجسم، وهو المقدار الذي أسبل به المسلم إصبعًا أو أقل أو أكثر، فهو متوعد بتعذيب هذا الجزء بالنار يوم القيامة. وأي رجل يعلم أن قدمه ستعذب بنار جهنم ثم يصر معاندًا على الإسبال؟!
أيها المسبل، ها أنا قد ذكرت لك جملة من الآثار عن النبي والصحابة والتابعين، وشرحت وبينت لك الأمر، فماذا بعد؟ هل ستخرج من المسجد كما دخلت إليه؟ إن من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا القول يتبعون أحسنه، أولئك هم أولو الألباب، وأنا أربأ بك أن تكون من الذين إذا نزل عليهم أمر الله قالوا: سمعنا وعصينا، بل إنك إن شاء الله سوف تبادر بعد الصلاة مباشرة على تبديل ثيابك بثياب على السنة المحمدية، وبعض الناس يكون عنده تردد وأنا أقول: إن الأمر سهل ميسور، وارفع ثوبك ولو بواحد سنتيمتر عن الكعب تنجُ بنفسك من عذاب الله.
إنك إن خرجت وعزمت على ذلك ويرى الله صنيعك بثيابك وسوف يخيط كثير منكم في هذه الأيام ثياب العيد فليجعلها على السنة، السنة المحمدية، سوف يحمد الله لك هذا الصنيع، وسوف ينظر الله إليك بعين الرضا، كيف لا وأنت عبد قد تبت من معصية كنت عليها؟! وبعض الناس يرفض أن يرفع ثوبه حتى يكون ملتزمًا التزامًا كاملاً، وهذا من ضحك الشيطان على الناس، فلأن يخفّ الشر قليلاً قليلاً خير من الاستمرار فيه كله، ولا يدري الإنسان هل يمكّن مستقبلاً من تغيير عمله ومن التوبة.
صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4995)
اللباس والزينة (5)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, اللباس والزينة, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
19/8/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عموم البلوى بقضية التصوير. 2- معنى التصوير. 3- أقسام التصوير. 4- أحاديث في النهي عن التصوير. 5- الفرق بين صنع الصور وبين اقتنائها. 6- حكم الصور. 7- حكم لعب الأطفال المصورة. 8- التصوير الفوتغرافي. 9- توجيهات ونصائح بهذا الخصوص. 10- أثر الصور في الانحراف العقدي. 11- مفاسد انتشار الصور بسبب التقنيات الحديثة.
_________
الخطبة الأولى
_________
نواصل حديثنا المهم حول اللباس والزينة، ونحن نُعَرِّف ونُذَكِّر بما حرمه الله حتى يتجنبه المسلم، وليكون على حذر منه، وحتى لا يقول الجاهل: لا أدري، وحتى يتذكر الناسي ويتنبه الغافل، وحتى تصحَّح بعض المفاهيم وتكون منضبطة بضوابط الشرع المطهر.
ومما يحرم في باب اللباس لبس ما عليه تصوير لذوات الأرواح، وبهذه المناسبة نتكلم في هذه الخطبة عن التصوير عموما؛ وذلك لأن موضوع التصوير مما عمت به البلوى وكثر وشاع حتى لا يخلو منه مكان، وحتى أنه يستغرب البعض من طرح مثل هذه المواضيع؛ ولذا رأيت أن أفصّل قليلا في موضوع التصوير على أن نجمل الموضوع وأجمع شتاته ما استطعت.
التصوير في اللغة العربية معناه التخطيط والتشكيل وصناعة الصور واختراعها سواء كانت مجسمة أو مسطحة.
وذكرُنا للتعريف اللغوي هنا لنلمح بعد قليل لمسألة التصوير الفوتوغرافي، والتصوير إما أن يكون لذوات الأرواح أو يكون لما لا نفس له، ويكاد الإجماع ينعقد بين العلماء على جواز تصوير ما لا نفس له.
والتصوير ينقسم حسب صنعته إلى ثلاثة أقسام: أحدها التصوير المجسَّم الذي له أبعاد وجرم محسوس، والآخر المسطح وهو اليدوي في الغالب وهو الرسم المعروف، والثالث هو التصوير الضوئي أو الفوتوغرافي.
وبادئ ذي بدء نسوق عددا من أحاديث السنة المطهرة الصحيحة في شأن التصوير، ففي الصحيحين يقول : ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) ، ويقول : ((أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) ، ويقول : ((إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) ، ويقول : ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا، فيعذبه في جهنم)). فنسأل الله السلامة والعافية. وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، وليخلقوا حبة، وليخلقوا شعيرة)). وقد امتنع جبريل عليه السلام من الدخول على النبي في بيته، وعلل ذلك بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور وتماثيل.
هذه بعض الأدلة الشرعية سقتها مختصرة لأبين عظيم وخطر أمر التصوير وأنه من كبائر الذنوب؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله، ولما فيه من الحرمان من بركة دخول الملائكة الأطهار.
ويجب أن نفرّق بين صنعة الصورة بتشكيلها أو رسمها أو تصويرها وبين استعمال هذه الصور، فممّا لا شك فيه أن المصور أشد إثما وأكبر جرما من مستعملها، وإن كان مستعملها لم يستعملها إلا رضًا بما صنعه المصور وإعجابا به، لكن يظل أخف وطأة ممن شكل أو رسم أو صور.
وذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف إلى تحريم صناعة الصور المجسمة وصناعة الصور المسطحة، والأدلة على ذلك ما يلي:
في البخاري أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما يستفتيه فقال له: إني رجل أصوّر هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: أنبئك بما سمعت من رسول الله ، سمعته يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم)) ، فاشتد الأمر على الرجل واصفر وجهه فقال له: فإن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له.
ومما استدل به العلماء في ذلك قصة جبريل عليه السلام حيث قال للنبي : ((إني أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل)) ، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، أي: صور مسطحة مرسومة، ((فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منه وسادتان توطآن)).
وأمر النبي بهدم التماثيل التي كانت في مكة وجزيرة العرب، وأوصى عليا بقوله: ((لا تدع تمثالا إلا طمسته)).
واتفق جماهير العلماء على جواز صنعة الصور والتماثيل لذوات الأرواح إذا كانت مقطوعة الرأس قطعا تاما بحيث يزال الرأس تماما بعيدا عن الجسد، ولم يعتبروا وجود خيط أو خط مانعا للتحريم كما يفعله بعض الجهلة.
ويبقى في هذا الجانب تساؤل مهم حول صناعة لعب الأطفال كالعرائس للبنات وغيرها، فلعب الأطفال هذه على نوعين: نوع مما كان موجودا من القدم، ونوع جديد استجدّ في الوقت الحاضر. أما النوع القديم وهو ما كان مصنوعا من القطن والخرق والقماش وهذه في الغالب لا تتميز فيها صورة ذوات الروح تمييزا تاما كاملا دقيقا فهذه قد أجازها كثير من العلماء السابقين والمعاصرين، واستدلوا على ذلك بأن أم المؤمنين عائشة وقد تزوّجها النبي وهي صغيرة كانت تلعب بمثل هذه العرائس وتسميها بناتها، وكان النبي يدخل عليها وهي تلعب بها وهو يضحك منها ولا ينكر عليها. قال العلماء: إن الأطفال يتسامح في حقِّهم ما لا يتسامح به مع الكبار المكلفين، ولأن الصغار تنفعهم مثل هذه الأمور في تربيتهم الحالية والمستقبلية، فجاء الشرع بالرخصة للأطفال في هذا الباب.
وأما النوع الثاني من لعب الأطفال فهي بعض العرائس الحديثة التي تصنع من البلاستيك، وهي لم تكن موجودة في السابق، فلم يتكلم عنها علماء السلف الصالح، واختلف العلماء المعاصرون فيها، وبعضهم توقف في الفتوى فيها كسماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. قال بعضهم عن هذه العرائس: ليست من جنس العرائس التي كانت تلعب بها السيدة عائشة ، فتلك كانت من العيدان والخرق، أما هذه اليوم فهي مصنوعة بحرفية كاملة وهي تشبه المخلوق تماما، وبعضها يمشي وبعضها يتكلّم؛ ولهذا حرمها بعض العلماء لأن فيها مشابهة ومضاهاة لصنع الخالق تبارك وتعالى وهو أحسن الخالقين، وهو الذي صور عباده فأحسن صورهم، في أي صورة ما شاء ركبهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الأصل في هذه الألعاب المسامحة طالما كانت للأطفال، ونظروا إلى الهدف منها وهو المساعدة على تربية هذه الأطفال، والأولى بأولياء الأمور أن يشتروا ـ إن كان لا بد ـ تلك العرائس من القطن والتي لا يكون فيها تشابه شديد مع الحقيقة، وتترك هذه الألعاب البلاستيكية.
والنبي دخل على عائشة يوما فقام على الباب ولم يدخل حجرتها، فعرفت عائشة الكراهة والغضب في وجه رسول الله فسارعت فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت؟! قال: ((ما بال هذه النمرقة؟)) والنمرقة هي الوسادة، قالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال : ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) ، وقال: ((البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)).
والنوع الثالث من أنواع التصوير هو التصوير الحديث المعروف بالفوتوغرافي، وهذا لم يتكلم عليه العلماء السابقون، إنما هو من الأمور المستحدثة. وانقسم فيه العلماء المعاصرون، فقسم يرى فيه التحريم والمنع إلا للضرورة والضرورة تقدر بقدرها، كالتصوير من أجل الهوية ولأجل التعليم الذي لا بد منه، وكالنواحي الأمنية والحربية وغيرها من المصالح الضرورية. وقسم من العلماء أجازه مطلقا على أن لا يصوّر شيء محرّم كالعورات. وبعضهم توسط فيه، فلم يجعله كالتصوير الذي يشمله الوعيد والنهي، ولم يجز في نفس الوقت فتح باب التصوير لكل شيء، وهذا ما ذهب إليه سماحة الشيخ العثيمين رحمه الله حيث توسّط وقال: "التصوير الفوتوغرافي ليس هو التصوير المتوعَّد عليه بالعقوبة، ولكن ينظر ما هو المراد من هذا التصوير، فإن كان المراد من التصوير مباحا أبحناه، وإن كان المراد به شيئا محرما حرمناه، وقال: ومن الأمور المحرمة في التصوير الفوتوغرافي هو التصوير للذكرى، فهي من المحرمات، وكذلك التصوير لتعليقها في البيوت، فهي من المحرمات".
والسبب في اختلاف العلماء يعود في نظرتهم إلى ماهية التصوير الفوتوغرافي، فمن نظر إليه كنظره لعمل المجسات والرسوم المسطحة مِثلا بمثل حرّمه وعدّه من الكبائر، ومن نظر إليه إلى أنه في الحقيقة ليس هو التصوير المعروف وإنما أخذ اسمه فهو حبس للصورة الأصلية التي خلقها الله كما هو حال المرآة، ويقول ابن عثيمين رحمه الله: "لو أن شخصا وقّع توقيعا على ورقة، وقام رجل آخر بتصوير هذه الورقة في آلة التصوير المعروفة، لم يقل أحد: إن هذا الرجل الذي صوّر الورقة قد قام بتقليد وعمل هذا التوقيع، على عكس ما لو جاء رجل وقام بتقليد أو تزوير هذا التوقيع وحاول أن يعمل مثله".
والتصوير الفوتوغرافي هذا ليس فيه تقليد أو مضاهاة لخلق الله، بل كل ما في الأمر هو حبس هذه الصورة الموجودة في الواقع على ورق دون أي تعديل.
وهذا التصوير في الحقيقة مما عمت به البلوى في هذا الزمان ولم يسلم منه أحد، فوجد في الهويات والنقود والكتب والقراطيس والملابس وكل شيء تقريبا، ولذلك فإن مما يوجه به الناس وينصحون به:
أولا: ما نصحنا به رسول الله في مثل هذه الحالات التي يقع فيها اللبس والتردد بين الحلال والحرام، وسماها رسول الله المتشابهات، فماذا قال نبينا مرشدا لنا ومعلما لنا وهو يعلم أن هذا سيقع علينا؟ قال: ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور متشابهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)). فهذا الحديث هو منهج نبوي حكيم في التعامل مع المتشابهات التي تقع حين اختلاف العلماء، وخاصة إذا كان هذا الاختلاف في شيء من كبائر الذنوب.
ثانيا: أن على المسلم أن يتقي الله ما استطاع في الابتعاد عن هذه الصور، ولا يكلف الله نفسا إلى وسعها، فإن استطاع أن لا يشتري شيئا فيه صور فليفعل وليأخذ سلعة غيرها ليطهر بيته منها.
وصناعة الصور ليس كاستعمالها، وخاصة إذا وردت إلينا هذه الصنعة من غير المسلمين، فالمستعمل لهذه الصور لا يخلو من حالين: إما أن تكون الصور مباحة كلعب الأطفال، وخاصة القديم منها، وكذلك متى كانت هذه الصور مهانة تستخدم للجلوس عليها والوطء عليها، وإن كان الأولى أن لا تشتري خروجا من خلاف العلماء واستبراء للدين. أو يكون استعمالها محرما، وهي ليست كحرمة صنعتها، وإنما أخف، وهذه لا يجوز استعمالها للزينة في البيوت والسيارات، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وهذه نص العلماء على تحريمها قطعا، وهي مانعة لدخول الملائكة للبيوت، وفيها مشابهة الكفار في صناعتهم الصور وافتتانهم بها. وابتعاد الملائكة هو في الحقيقة عقوبة لحامل هذه الصور، والملائكة عباد مطهرون أنقياء، وعدم دخولهم للبيوت وأماكن العمل مصيبة عظيمة، فيُحرم أصحاب الصور من استغفار الملائكة لهم والدعاء لهم وحفظهم لهم من شياطين الجن والإنس، ولذلك كان من أدب اللباس الذي هو موضوعنا في الأصل أن لا تكون الثياب مشتملة على صور لذوات الأرواح، فاللابس لها لا تقربه الملائكة، ولبسها محرم، وشراؤها وبيعها محرم كما بينا من الأدلة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد ارتبط التصوير منذ فجر التاريخ بالضلال والهلاك للأمم، وكان الشيطان حريصا على فتنة الأمم بالتصوير، فزين للناس أعمالهم حتى سار بهم خطوة بخطوة إلى الشرك والعياذ بالله، فما كانت الأصنام عبر التاريخ إلا من تزيين الشيطان لبني آدم بعد فتنهم بالتصوير، واليوم يزيد الشيطان بني آدم على فتنة التصوير فتنة أخرى واستدراجا آخر لهم عبر التصوير الفوتوغرافي والمتحرك، حينما زينه لهم فتعلقت به قلوب العباد حتى ترى الواحد قد وضع في سيارته وفي غرفته وفي محفظته شيئا لمن فتن بهم والعياذ بالله من صور المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات واللاعبين، بل وحتى من الخليلات نسأل الله السلامة، انتشر التصوير فانتشرت معه المصائب للبنات في بيوتهن، وهتكت الأعراض بسبب هذا التصوير، وصورت حفلات أفراح والنساء في كامل زينتهن، ويقال: إن الشريط لا يطلع عليه أحد، ثم يقدر الله خيانة أو سرقة المنزل بما فيه من هذه الأشرطة، فتنتشر صور هذه العورات، صاح أحدهم وهاج في مركز الشرطة حينما سرق بيته يقول: ليأخذوا من البيت كل شيء لا يهمّ، ولكن شريط الفيديو في الدولاب هو المصيبة هو المصيبة، لقد كان يصوّر نفسه هو وزوجته في مخدع الزوجية، فانظر إلى عقوبة الله حينما ينحرِف الناس عن الجادّة.
وازدادت فتنة التصوير حتى ظهر علينا الهاتف الجوّال بكاميراته التي أزعجت الناس وجعلت الحليم حيرانا، ففتن الناس بالتصوير، فيحمل على هذا الجهاز الصغير مئات الصور، يقول أحدهم: لقد رنّ جوال الذي بجانبي في الصلاة، وإذا به يخرجه من جيبه ليغلقه، فإذا على شاشته صورة إحدى المغنيات، فحمل هذا العفن حتى إلى بيوت الله.
لقد انتشرت الكاميرات وأصبحت الكاميرا التي ترصد وتسرق عورات الناس في كل مكان وبكل سهولة، وهذه المصائب تحتاج اليوم إلى وقفة جادّة من المجتمع في محاربتها، وعلى النساء اليوم المحافظة على سترهن، وعدم وضع ثيابهن إلا في بيوت أزواجهن، ولا يهتكن ستر الله عليهن فيندمن.
إن العالم أجمع أصبح يعاني من هذه التقنية الخطيرة، فالآن تدور مشكلة حتى في الغرب من هذه الجوالات التي أصبحت تتلصص وتسرق وتنظر إلى ما لا يحل لها عرفا وأدبا وقانونا.
نخلص من خطبتنا هذه بأن التصوير محرم في شريعة الإسلام، وما أجيز منه أجيز فقط للضرورة والحاجة، والضرورة تقدر بقدرها لا تزيد عليها، فأنا أدعوكم اليوم إلى التوبة إلى الله العلي العظيم من ذنوب التصوير على كافة أشكاله، والبعض قد يقول في نفسه: إن الخطيب يغرّد بعيدا في عالم آخر، نعم ولكني أخاطب القلوب المؤمنة أن تتوب إلى الله وأن تترك هذه التصاوير والتماثيل التي في البيوت، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فتوبوا إلى ربكم توبة نصوحا، وأتلفوا ما عندكم من الصور، فهي قربة تتقربون بها إلى ربكم.
(1/4996)
التحذير من الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/8/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الطاعات والمعاصي. 2- عِظم جرم الظلم. 3- تحريم الظلم. 4- مفاسد الظلم وأضراره. 5- تحذير الله تعالى من الظلم. 6- عقوبات المعاصي. 7- تعريف الظلم. 8- أنواع الظلم. 9- التحذير من الشرك بالله تعالى. 10- خطر الذنوب والمعاصي. 11- المظالم بين العباد. 12- دعوة المظلوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى.
أيّها المسلمون، إن الطاعاتِ تتفاضل عند الله بتضمُّنها تحقيق العبودية لله والتوحيد له وعموم نفعها للخلق مثل أركانِ الإسلام ونحوها، وإنّ الذنوبَ والمعاصي تعظُم عقوباتُها ويَتّسعُ شرُّها وفسادُها بحسب ضررها لصاحبها وللخلق، وإنّ الظلمَ منَ الذنوب العِظام والكبائر الجِسام، يحيط بصاحبه ويُدمِّره، ويفسِد عليه أمرَه، ويُغيّر عليه أحوالَه، ويدركه شؤمُه وعقوباتُه في الدنيا والآخرة.
ولأجلِ كثرةِ مضارّ الظّلم وعظيم خطرِه وتنوُّع مفاسدِه وكثير شرِّه، لأجل ذلك حرّمه الله بين عباده، فقال تعالى في الحديث القدسيّ: ((يا عبادي، إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا)) [1].
فالله حرّم الظلمَ على نفسه وهو يقدر عليه تكرُّمًا وتفضُّلاً وتنزيهًا لنفسه عن نقيصة الظلم، فإنّ الظلم لا يكون إلا من نفسٍ ضعيفة لا تقوى على الامتناعِ منَ الظلم، ولا يكون الظلم إلاّ من حاجةٍ إليه، ولا يكون إلاّ من جهلٍ به، والله جل وعلا منزَّه عن ذلك كلِّه، فهو القويّ العزيز، الغنيّ عن خلقِه، فلا يحتاج إلى شيء، وهو العليم بكلِّ شيء.
وحرّم الله الظلم بين عباده ليحفَظوا بذلك دينَهم ويحفظوا دنياهم، وليُصلِحوا بترك الظلم آخرَتهم، وليتمَّ بين العباد التعاوُن والتراحمُ بترك الظّلم، وليؤدّوا الحقوقَ لله وللخلق.
الظلمُ يضرُّ الفردَ ويهلِكه ويوقِعه في كلِّ ما يكرَه، ويرى بسبَب الظلم ما يسوؤه في كلِّ ما يُحِبّ. الظلم يخربُ البيوت العامرةَ ويجعل الديارَ دامِرةً. الظلمُ يبيد الأمَم ويهلك الحرثَ والنّسل.
ولقد حذّرنا الله تبارك وتعالى من الظلم غايةَ التحذير، وأخبرنا الله تعالى بأنَّ هلاكَ القرون الماضية بظلمِهِم لأنفسهم لنحذرَ أعمالهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13، 14]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:45، 46]، وقال تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
وقد أجار الله هذه الأمّةَ الإسلاميّة من عذابِ الاستئصال والهلاك التامّ، ولكن تُبْتلَى بعقوباتٍ دون الهلاك العامّ بسبب ذنوبٍ تقَع من بعض المسلمين وتشيعُ حتى لا تنكَر ولا ينزجِر عنها أصحابُها كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النبيَّ دخل عليها فزِعًا يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرَب من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليومَ من ردمِ يأجوجَ ومأجوج مثلُ هذه)) وحلّقَ بإصبعين الإبهامِ والتي تليها، فقلتُ: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبث)) رواه البخاري ومسلم [2]. فدلّ الحديث على أنّ بعضَ الأمةِ في نزول العذاب صالحون، وبعضهم تقَع منهم ذنوبٌ تصيبُ عقوباتُها الكثيرَ من الأمّة في بعض الأزمِنة وبعض الأمكِنة. وفُسِّر الخبث بالزنا وعملِ قوم لوط لقوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [الأنبياء:74]. وفسِّر الخبثُ بالخمرِ ونحوه من المسكِرات والمخدِّرات لقوله : ((الخمرُ أمُّ الخبائث)) [3]. ومعنى الحديث عامّ في كلّ محرَّم يظلِم به المسلم نفسَه.
أيّها المسلمون، أصلُ الظلمِ وضعُ الشيء في غير موضِعه، وهو مخالفةُ شرعِ الله تعالى. والظلمُ ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ظلمٌ للنّفس لا يغفِره الله تعالى إلا بالتّوبة وهو الشركُ بالله تعالى، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:116]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. فمن مات على الشرك بالله تعالى خلَّدَه الله في النار أبَدًا كما قال عزّ وجلّ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وكان ظلم الشّرك غيرَ مغفورٍ لمن مات عليه لأجلِ مضادّة ربِّ العالمين في الغايةِ والحكمة من خلقِ الكون الذي خلقه الله لعبادتِه، ولأنّ الشركَ تنقُّصٌ لعظمةِ الخالق وقَدره جلّ وعلا كما قال عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
وأيّ ظلمٍ أعظم من أن يجعل الإنسانُ لربّ العالمين نِدًّا يعبده من دون الله الذي خلقَه؟! وأيّ ذنبٍ أكبر من أن يتَّخِذ الإنسان مخلوقًا إلهًا مِنَ الصالحين ومن غيرهم، يدعوه من دون الله، أو يرجوه، أو يستغيث به، أو يخافه كخوف الله، أو يستعين به، أو يتوكّل عليه، أو يذبح له القربان، أو ينذر له، أو يُعدِّه لرغبته ورهبته، أو يسأله المدَدَ والخيرَ، أو يسأله دفعَ الشرِّ والمكروه؟! أيّ ذنبٍ أعظم من هذا الشّرك بالله تعالى؟! قال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، وقال عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل:51-55]، ومعنى وَاصِبًا أي: دائمًا، فلِلَّه الدّين دائمًا ما دامت السموات والأرض وفي الدنيا وفي الآخرة، وعن جابر رضي الله عنه قال: [أتى النبيَّ رجل فقال]: يا رسولَ الله، ما الموجِبتان؟ قال: ((مَن مات يشرك بالله شيئًا دخلَ النار، ومن ماتَ لا يشرك بالله شيئًا دخَل الجنّة)) رواه مسلم [4] ، وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مَات وهو يدعو لله نِدًّا دخلَ النار)) رواه البخاري [5].
وكما أنّ الشرك بالله تعالى أعظم السيّئات وأكبر الذنوبِ فإنّ توحيدَ ربِّ العالمين أعظمُ الحسنات كما في الحديث القدسي أنّ الله تبارك وتعالى قال: ((يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرة)) [6].
والنوع الثاني من الظلم: الذنوبُ والمعاصي التي بين العبدِ وربِّه ما دون الشركِ بالله، فإنّ الله إن شاء عفَا عنها بمنِّه وكرمِه، أو كفّرها بالمصائبِ والعقوبات في الدنيا، أو في القبر، أو تجاوَز عنها الرّبّ بشفاعةِ النبيّ أو شفاعةِ غيره من الشافعين، أو يعذِّبُ الله العاصيَ في النار بقدرِ ذنبه ثم يخرِجه من النار ويدخِله الجنّة إن كان من الموحِّدين كما صحّت بذلك الأحاديث عن النبيِّ.
والنوع الثالث من الظلم: مظالم بين الخَلق في حقوقٍ لبعضهم على بعض، تعدَّوا فيها، وأخذَها بعضُهم من بعض، ووقَعوا في ظلمِ بعضهم لبعض، فهذه مظالمُ لا يغفِرها الله إلاّ بأداء حقوقِ الخلق إليهم، فيؤدّي الظالم حقَّ المظلومِ في الدنيا، وفي الحديثِ عن النبيِّ : ((لتؤدُّنّ الحقوقَ قبل أن يأتيَ يومٌ لا درهَمَ فيه ولا دينار، إنما هي الحسناتُ والسيّئات، يُعطَى المظلومُ من حسناتِ الظالم، فإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيّئات المظلوم ووُضِعَت على الظالم، ثم طُرِح في النار)) [7].
والمظالمُ بين العباد تكون في الدمِ وفي الحديثِ عن النبيّ : ((لا يزال المرءُ في فُسحةٍ من دينهِ ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) [8]. وتكون المظالم في المالِ، وتكون المظالم باقتطاعِ الأرض والعقارات، وفي حديث سعيد بن زَيد رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((من اقتطعَ شِبرًا من الأرض طوّقه الله إيّاه من سبع أرضين)) [9]. وتكون المظالم بين الأرحامِ بتضييعِ حقوق الرحِم، وتكون المظالم بين الزوجَين بترك حقوقهما، وتكون المظالم بين المستأجِرين والعمّال بسبَب تضييع حقوقِهم وسلبِها وتكليفهم ما لا يطيقون، والرّسول يقول: ((أعطوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجفَّ عرقُه)) [10]. وقد وقع شكاوى مِن بعض العمّال للعامِلين عندَهم لمنعِهم حقوقَهم أو التحايُل عليها، وذلك ظلمٌ شنيع يخرِّب البيوتَ ويمحَق بركةَ المال وينذِر بعقوباتٍ لا طاقةَ للإنسان بها. وقد تكون المظالم بالتّعدِّي على الحقوقِ المعنويّة أو بغيبةٍ ووشايةٍ.
فاحذروا ـ عباد الله ـ الظلمَ، فإنّ الله ليس بغافلٍ عما تَعملون، وهو محرّمٌ ولو وقَع على كافرٍ، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42، 43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقوله القويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7059، 7135)، صحيح مسلم: كتاب البر (2880).
[3] رواه الطبراني في الأوسط (3667)، والدارقطني (4610، 4613 ـ مؤسسة الرسالة ـ )، والقضاعي في مسند الشهاب (57) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسنه العجلوني في كشف الخفاء (1225)، وهو في السلسلة الصحيحة (1854). وفي الباب عن عثمان رضي الله عنه روي عنه مرفوعا وموقوفا.
[4] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (93).
[5] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4497)، وهو عند مسلم أيضا في كتاب الإيمان (92) نحوه.
[6] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[7] ينظر من أخرجه بهذا السياق. وفي معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه)) رواه البخاري في الرقاق (6534).
[8] رواه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في المظالم (2452)، وكسلك في المساقاة (1610).
[10] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: أجر الأجراء (2443)، والقضاعي في مسند الشهاب (744) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف فيه عبد الرحمن بن زيد، لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في الترغيب (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة والله أعلم"، وقد صححه الألباني في الإرواء (1498)، وانظر: نصب الراية (4/129).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معزِّ من أطاعه واتّقاه، ومذلِّ من خالف أمرَه وعَصاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وأصحابِه ومن اتّبع هداه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقّ تقواه، وراقبوه واخشَوه مراقبةَ من يعلَم أنّ الله مطَّلعٌ على سرِّه ونجواه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيّها المسلمون، إنّ الرسولَ يقول: ((إيّاكم والظلمَ، فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة، وإيّاكم والشحّ فإن الشحّ أهلك من كان قبلَكم، حملهم على أن سَفكوا دماءهم واستحلّوا محارِمَهم)) [1] ، وفي الحديث عن النبيّ أنه قال لمعاذٍ رضي الله عنه: ((واتّق دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [2] ، وقد استعاذ النبيّ من دعوةِ المظلوم [3] ، والله تعالى يقول إذا دعا المظلوم: ((وعزّتي وجلالي، لأنصرنّك ولو بعدَ حين)) [4].
فاتّقوا الله عبادَ الله، واحذَروا مظالمَ العباد، وتحلّلوها فيما بينَكم، واتّقوا ظلمَ بعضِكم لبعضٍ في دمٍ أو مالٍ أو عِرض أو حقٍّ من الحقوق، فإنّ الله تبارك وتعالى قائم على كلِّ نفسٍ بما كسبت، ويجزيها يومَ القيامة بما عمِلت، يقرأ الإنسان كتابه يقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
عباد الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في البر (2578) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (1496)، ومسلم في الإيمان (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] كما في دعاء السفر فيما رواه مسلم في الحج (1343) عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (8043)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
(1/4997)
فضل الحج وعشر ذي الحجة
فقه
الحج والعمرة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
4/12/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي مواسم الخيرات. 2- فضل الحرم. 3- فرض الحج وفضله. 4- الحج المبرور. 5- من آداب الحج. 6- أهمية التوحيد. 7- فضل التوكل على الله. 8- الحكمة من رمي الجمار. 9- فضل التوبة والاستغفار. 10- أصناف الناس في الحج. 11- فضل عشر ذي الحجة. 12- من أحكام الأضحية وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرّ والنجوى.
أيّها المسلمون، مواسِم الخيراتِ على العباد تترَى، فما أن تنقضِيَ شعيرة إلا وتتَراءَى لهم أخرَى، ها هِيَ أفواجُ الحجيج قد أمَّت بيتَ الله العتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]. بيتٌ جعَلَه الله مثابةً للنّاس وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى من الكريم الرحماتُ والعطايا، حرمٌ مبارَك فيه هدًى وخيرات وآياتٌ ظاهرات، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:96، 97]، حجُّه مِن عمادِ الإسلام، قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
جاء الشّرعُ بالأمرِ ببلوغِ رِحابِه لأداءِ فريضةِ الدِّين، قال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، قد فرَض الله عليكم الحجَّ فحجّوا)) رواه مسلم. حجُّه من أجلِّ الأعمال عندَ الله، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: سئِل النبي : أيّ العمَل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله ورسولِه)) ، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور)) متفق عليه.
في أداءِ ركن الإسلامِ الخامِس غُفران الذّنوب وغَسل أدران الخطايا والعصيان، يقول المصطفَى : ((مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسق رجَع كيوم ولدَته أمّه)) رواه البخاري. ومن لازَم التقوى في حجِّه أعدَّ الله له الجنةَ نُزُلاً قال عليه الصلاة والسلام: ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) متفق عليه، قال النوويّ رحمه الله: "لا يقتصر لصاحبِه من الجزاءِ على تكفيرِ بعض ذنوبه، بل لا بدّ أن يدخلَ الجنة".
والأعمال توزَن بالإخلاص، وإذا شابَهَا شركٌ أو رِياء أفسدَها، قال جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. ولا يتمّ بِرّ الحجّ إلا بكسبٍ طيّب تنزَّه عن شوائبِ المحرمّات ودنسِ الشبهات.
والصّحبةُ الصالحة في الحجّ عونٌ على الطاعة وحسنِ العبادة، والإحسانُ إليهم عبادَة متعدّيةُ النفع، قال مجاهد رحمه الله: "صحِبتُ ابنَ عمر رضي الله عنهما في السّفَر لأخدمه فكان يخدِمني"، قال ابن رجب رحمه الله: "وكان كثيرٌ من السّلَف يشترط على أصحابِه في السفر أن يخدِمَهم اغتنامًا لأجرِ ذلك". وما قدَّم أحدٌ حقَّ الله على هوَى نفسه وراحتِها إلاّ ورأَى سعادةَ الدنيا والآخرة.
وخيرُ زادٍ يحمِله الحاجّ مع رفقته زادُ الخشيةِ والتقوى، قال جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
ومِن برِّ الحجِّ إطعامُ الطعام فيه وإفشاءُ السلامِ وطِيب الكلامِ ومُعامَلة الخلقِ بالإحسان إليهم، فلا تحقرَنَّ في حجِّك من المعروف شيئًا، فخيرُ الناس أنفعهم للناس، وأعزُّهم أصبرُهم على أذاهم، وخادِمُ الحجيج المخلِصُ لله في رعايَتِهم شريكٌ لهم في الأجرِ والثواب، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله ليدخِل بالسهم الواحدِ ثلاثةً الجنة: صانِعَه يحتسِب في صنعَتِه الخيرَ، والرامِي به، والممدَّ به)) رواه الترمذي.
ومن أمَّ البيتَ حقيقٌ بلزوم ثلاثِ خِصال: ورَعٍ يحجزه عن معاصِي الله، وحِلمٍ يكفّ به غضبَه، وحُسنِ الصحبة لمن يصحَبه.
أيها المسلمون، خير ما يتقرَّب به العبادُ إلى ربهم إظهارُ التوحيد في نسكِهم وإخلاص الأعمال لله في قرباتهم، قال جلّ وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. وإظهارُ النسك بالقولِ فيه وحدانيّةٌ للخالق: لبّيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريك لك لبيك. وخيرُ ما نطق به الناطقون به يومَ عرفة كلِمةُ التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير)) رواه الترمذي.
والتوكّل على الله من أجلِّ العبادات؛ قال سبحانه فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]. واليأسُ ليس من دينِ الله في شيء، قال جل وعلا: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
هاجَر تلتمِس الماءَ لها ولرضيعها في وادٍ غيرِ ذي زرع بين جبلين، أنهَكها العطش وأضناهَا الإشفاقُ على صبيِّها، وبعد توكّلٍ على الله وبذلِ الأسبابِ وجدت نَبعًا متدفِّقًا لها وللأجيال بعدها، يقول النبيّ : ((رحِمَ الله أمَّ إسماعيل، لو تركَت زمزمَ لكانت زمزمُ عينًا معينًا)) رواه البخاري.
واللهُ جلّ وعلا بيده النّفعُ والضرّ، فارجُ الكروبِ وكاشِف الخطوب، متعالي على عباده، بيدِه مقاليدُ السماوات والأرض، متَّصف بالكبرياء والعظمة، يعلِن ذلك الحاجُّ بالتكبيرِ في أنساكه في الطوافِ والسعي ورميِ الجمار وفي يومِ النحر وأيّام التشريق، ليبقَى القلب مجرَّدًا لله، متعلِّقًا به، منسلِخًا عن التعلُّق بما في أيدِي المخلوقين.
وفي رميِ الجِمار تذكيرٌ لبني آدمَ بعدوٍّ متربِّص بهم يدعوهم إلى النّارِ، قال عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]. فكن على حذَرٍ من تقصيرٍ في واجبٍ أو وقوعٍ في معصية تورِدُك المهالك.
واعلَم أنّ لحظاتِ الحجّ عزيزة وساعاتِه ثمينة، قال جلّ وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فسابِق فيه إلى كلِّ خيرٍ وقربةٍ من الذّكر والاستغفارِ والتكبير وتلاوةِ القرآن، قال جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198].
وبعدَ انقضاءِ النُّسُك احمَده على الهدايةِ واشكُره على العبادة، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]. وفي ثنايَا النّسُك استغفارٌ ورجوع إلى الله، قال عزّ وجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الاستغفارُ من أكبرِ الحسنات، وبابُه واسِع، فمن أحسَّ بتقصيرٍ في قوله أو عمَلِه أو حَالِه أو رِزقِه أو تقلّب قلب فعليه بالتوحيدِ والاستغفار، ففيهما الشِّفاءُ إذا كانا بصدقٍ وإخلاص".
والعِبادُ في الحجِّ على قدرِ هِمَمهم، منهم من يطلُب الدنيا العاجِلة، ومنهم من يطلُب الآخرةَ ومرضاة ربِّه، قال سبحانه: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
والموفَّقُ من أدَّى حجَّه بنيّةٍ صالحة خالِصة ونفقةٍ طيّبة، وعطَّر لسانَه بذكرِ الله، وصاحب عبادَتَه إحسانٌ ونفعٌ للمَخلوقين. فكونُوا في حجِّكم كذلك، وأخلِصوا في دينِكم لله، واجتَهِدوا في الأعمالِ الصّالحة، وسارِعوا إلى جنّات ربّكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
بارَك الله لي وَلكُم في القرآنِ العَظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمينَ من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقِه وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأَشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسولُه، صلّى الله عَلَيه وعلَى آلِه وأصحَابه وسلّم تسليما مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، أظّلَتكم أيّامُ عشرٍ مباركة، الأعمالُ فيها فاضلة، يقول النبيّ : ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) ، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه فلم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
فأكثِروا فيها من التكبيرِ والتّحميدِ وقراءةِ القرآن وصِلةِ الأرحام والصّدقةِ وبِرّ الوالدين وتفريجِ الكرُبات وقضاءِ الحاجات وسائرِ أنواع الطاعات، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أيّامُ عشرِ ذي الحجّة أفضلُ من أيّامِ العَشر مِن رمضان، والليالي العشرُ الأواخر مِن رمضانَ أفضلُ من ليالي عشر من ذي الحجة"، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحيُونَ في العشر سُنّةَ التكبير بين الناس، كان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان إلى السوقِ في أيام العشرِ، فيكبران ويكبِّر الناس بتكبيرهما. رواه البخاري.
والخيرُ يتتابَع في العشر بذبحِ الأضاحي يومَ العيد وأيام التشريق، وقد ضحّى النبيّ بكبشَين أملَحَين أقرنين، سمَّى وكبَّر وذبحهما بيده. متفق عليه.
وأفضَلُ الأضاحي أغلاهما ثمنًا وأنفسُها عند أهلها، وتجزِئ شاةٌ واحدَة عن الرّجل وعن أهل بيته، ويحرُم على مَن يُضحِّي أن يأخذَ في العشرِ شيئًا من شعرِه أو أظفاره أو بَشرتِه إلى أن يضحّيَ، فطيبوا بها نفسًا، وكُلوا وأطعِموا وتصدّقوا، وتحرَّوا بصدقاتكم فقراءَكم، وبهداياكم منها أرحامَكم وجيرانكم، وصونوا أعيادَكم عمّا يغضِب خالِقَكم، وشاركوا الحجيجَ في الدعاءِ والتهليلِ والتكبيرِ، ومَن أقام في بَلَدِه وسَبقَه الحجّاجُ إلى المشاعِرِ شُرِع له صيامُ يومِ عرفه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((صيامُ يومِ عرفة أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنّةَ التي قبلَه والتي بعده)) رواه مسلم.
فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام معدودَة، والأعمارُ قصيرة.
ثم اعلَموا أنّ الله أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائهِ الراشدين...
(1/4998)
فضل الطاعة وأهلها
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
9/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة أهل الصيام والقيام. 2- فضل المسارعة إلى الخيرات. 3- فضائل الطاعة. 4- فضل أهل الطاعة. 5- أثر الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجلّ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
هنيئًا لمن صام رمضانَ وقامَه، ونحمَد اللهَ على ما منَّ به علينا من ترادُف مواسمِ الطاعات، فمن شكره زادَه، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، قال المفسِّرون: أي مِن طاعته.
المسارعة في الخيراتِ والمبادَرة إلى الطاعاتِ مِن سمات المؤمنين، والتثاقُل عنها من صفاتِ المنافقين، وفي الحديث: ((أثقلُ الصّلاة على المنافقين العشاءُ والفجر)) رواه البخاري [1].
وفّق الله أهلَ الطاعة حيثما كانوا وأينَما حلّوا، فهم خير الناس، وحين سئِل رسول الله : أيُّ الناس خير؟ قال: ((من طالَ عمره وحسُن عمله)) ، قال: فأيّ الناس شرّ؟ قال: ((من طال عمره وساء عملُه)) أخرجه الترمذي [2].
منَ الطاعةِ الالتزام بالعباداتِ والدوام على الصلوات وصوم رمضان وحجّ بيت الله الحرام، أداءُ الزكاة والبعد عن المنكراتِ والمعاصي من الطاعات، وكذا الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر والدعوة إلى الله، وطاعةُ رسول الله هي طاعةٌ للهِ، قال تَعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].
الطاعةُ أجرُها جزيل وأثرها عظيم، هي سبَب رحمة الله، وإذا شملَتِ العبدَ رحمةُ الله سعِد في الدنيا والآخرة، وكلّما ازدادَ المسلم طاعةً ازداد عِلمًا وعملاً وهدًى، قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].
بِطاعةِ الله يكثُر الرّزقُ ونُسقَى من بركات السماء وينبِت لنا الرّبّ من بركاتِ الأرض ويدرُّ لنا الضّرع، قال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني بالاستقامة الطاعة) [3].
في ظلِّ طاعةِ الله يخبِت العبد إلى ربِّه ويشرح صدرَه ويرضَى بقضائه وقدره ويحلّ بقلبِه الأنسُ والاطمِئنان، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
المجتَمَع الذي يقبِل أفرادُه على الطاعةِ تضعف فيه نوازِع الشرّ ويحَصَّن من الفساد؛ ذلك أنَّ طاعة الله تهذّب الأخلاق وتزكِّي النّفوسَ وتقوِّم السلوكَ وتروِّض الجوارِحَ، فيصلح الأفراد وتسمُو المجتمعاتُ وتسودُ الأمّة، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
أهلُ الطاعةِ يُؤتِهم الله أجرَهم غيرَ منقوص، قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]. أهلُ الطاعة تُضاعف لهم الحسنات وتكفَّر السيئات، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وقال : ((أَرَأَيتم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغتَسِل فيه كلَّ يومٍ خمسًا، ما تقولون في ذلك؟ هل يبقَى من درَنِه شيء؟)) قالوا: لا يبقَى من درَنِه شيء، قال: ((فذلك مثَل الصّلوات الخَمس؛ يمحو الله بهنّ الخطايا)) أخرجه البخاري ومسلم [4].
ثوابُ الطاعة يُرَى أثرُه عند السّكَرات ويومَ العَرَصات وعندَ سُؤال منكرٍ ونكير، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27].
أهلُ الطاعة يؤمِّنُهم الله يومَ الفزع ويظِلّهم والناسُ في شدّةٍ وخَوف وهلَع، قال : ((سبعةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّه)) ، وذكر صنوفًا من أهل الطاعة [5].
وفي الجنّةِ دارِ الخُلد يرافِق أهلُ الطاعة النّبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، وما أجلَّ هذه المرتبةَ العلِيّة، وما أعظمَ مرافقةَ النبيّ ، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وعن ربيعةَ بنِ كَعب الأسلميّ رضي الله عنه قال: كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله ، فأتيتُه بوَضوئه وحاجتِه، فقال لي: ((سل)) ، فقلتُ: أسألك مرافَقتَك في الجنّة، قال: ((أوَغيرَ ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود)) أخرجه مسلم [6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأذان (657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في المساجد (651).
[2] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2330) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/48)، والبزار (3623)، والحاكم (1/489)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه المنذري في الترغيب (5091)، وعزاه الهيثمي في المجمع (10/203) للطبراني في الصغير والأوسط وقال: "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3363).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/268).
[4] صحيح البخاري: مواقيت الصلاة (528)، صحيح مسلم: كتاب الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6479)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه
[6] صحيح مسلم: كتاب الصلاة (489).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.
إخوةَ الإسلامِ، يا أهلَ الطاعةِ، لا قيمةَ لطاعةٍ تُؤدَّى دون أن يكونَ لها أثرٌ من تقوًى أو خشية.
أين أثر الصيام إذا هجَر المسلم القرآنَ وترك الصلاة مع الجماعةِ وانتهك الحرمات؟! أين أثرُ رمضانَ إذا أكلَ المسلم الرّبا وأخذ أموالَ الناس بالباطلِ؟! أين أثَر العبادةِ إذا أعرض عن سنّةِ رسول الله إلى العادات والتقاليدِ وحكّم في حياته القوانين الوضعيةَ؟! أين أثر الطاعةِ إذا تحايَل في بيعه وشرائه وكذَب في ليله ونهارِه؟! أين أثَر الطاعة إذا لم يقدِّم دعوةً لضالّ ولُقمة إلى جائِع وكسوَة إلى عارٍ مع دعاءٍ صادق بقلبٍ خاشع أن ينصرَ الله الإسلام والمسلمين ويدمِّر أعداء الدين؟!
حرِيّ بنا ـ يا أهلَ الطاعة ـ أن نتأمَّلَ كلامَ ابن القيّم رحمه الله إذ يقول: "فبَين العمل والقلبِ مسافةٌ، وفي تلكَ المسافةِ قُطّاع تمنع وصولَ العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثيرَ العمل وما وصَل منه إلى قلبِه محبّة ولا خوفٌ ولا رَجاء ولا زُهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نُور يفرِّق به بين أولياءِ الله وأعدائه، فلو وصَل أثر الأعمال إلى قلبِه لاستنَار وأشرَق ورأى الحقَّ والباطل" انتهى كلامه رحمه الله [1].
يا أهلَ الطاعة، الله لا يريد من سائرِ عبادَاتِنا الحركاتِ والجهدَ والمشقّة، بل طلب سبحانَه ما وراءَ ذلك من التّقوى والخشيةِ له، قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] مدارج السالكين (1/439).
(1/4999)
أحوال الإنسان في هذه الدنيا
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, خصال الإيمان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الخلق وإرسال الرسل ووجوب المبادرة بالطاعة. 2- أحوال ابن آدم في الدنيا. 3- وجوب الشكر وبيان حقيقته. 4- فضل الصبر وأنواعه. 5- ابتلاء النفس بالهوى والشيطان وسبيل الخلاص. 6- أهمية معرفة عيوب النفس. 7- مراتب تعظيم الله عز وجل وعلاماتها. 8- التحذير من محبطات الأعمال. 9- ذم الدنيا وبيان سرعة زوالها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ما خُلقتم عبثا، ولم تتركوا سُدى، خلقكم الله لعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، وأوجدكم في هذه الدار، وأعطاكم الأعمار، وسخر لكم الليل والنهار، وأمدكم بنعمه، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه؛ لتستعينوا بذلك على طاعة الله، وأرسل إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه؛ ليبين لكم ما يجب وما يحرم، وما ينفع وما يضر، وما أنتم قادمون عليه من الأخطار والأهوال لتأخذوا حذركم وتستعدوا لما أمامكم. جعل هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، وحذركم من الاغترار بهذه الدنيا والانشغال بها عن الآخرة؛ لأن الدنيا ممر والآخرة هي المقر، وإذا لم تسر ـ أيها العبد ـ إلى الله بالأعمال الصالحة وتطلب الوصول إلى جنته فإنه يسار بك وأنت لا تدري، وعما قريب تصل إلى نهايتك من هذه الدنيا وتقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 10-11].
ابن آدم، إنك في هذه الدنيا تتقلب بين أحوال ثلاثة:
الحال الأول: نِعَم تتوالى من الله عليك تحتاج إلى شكر، والشكر مبني على أركان ثلاثة: الاعتراف بنعم الله باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في طاعة موليها ومعطيها. فلا يتم الشكر إلا بهذه الأركان، ولا تستقر النعم إلا بالشكران.
الحال الثاني: ما يجري على العبد في هذه الدنيا من محن وابتلاءات من الله يبتليه بها، فيحتاج إلى الصبر، والصبر ثلاثة أنواع: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى إلى الخلق، وحبس الأعضاء عن أفعال الجزع كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعر وأفعال الجاهلية. ومدار الصبر على هذه الأنواع الثلاثة، فمن وفاها فله أجر الصابرين، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
والله سبحانه لا يبتلي العبد المؤمن ليهلكه، وإنما يبتليه ليمتحن صبره وعبوديته لله، فإذا صبر صارت المحنة منحة، واستحالت البلية في حقه عطية، وصار من عباد الله المخلصين الذين ليس لعدوهم سلطان عليهم، كما قال تعالى لإبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء: 65]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100].
الحال الثالث: ابتلاؤه بالهوى والنفس والشيطان، فالشيطان العدو الأكبر، وهو ذئب الإنسان وعدوه، وإنما يغتاله ويظفر به إذا غفل عن ذكر الله وطاعته واتبع هواه وشهوته، ولكن الله سبحانه فتح لعبده باب التوبة والرجوع إليه، فإذا تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه وأخلصه من عدوه ورد كيده عنه، وإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له باب التوبة والندم والانكسار والاستعانة بالله ودعائه والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، وأراه عيوب نفسه وسعة فضل الله عليه وإحسانه إليه ورحمته به. فرؤية عيوب النفس توجب الحياء من الله والذل بين يديه والخوف منه، ورؤية فضل الله توجب محبته والطمع بما عنده، فيكون بين الخوف والرجاء، ويكون من الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا.
عباد الله، إن الإنسان إذا طالع عيوب نفسه عرف قدرها واحتقرها، فلا يدخله عجب ولا كبر، وإذا نظر في فضل ربه عليه أحبه وعظمه. وأول مراتب تعظيم الله سبحانه تعظيم أوامره ونواهيه، وذلك بفعل ما أمر الله به من الطاعات وترك ما نهى عنه من المعاصي والسيئات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تعظيم الأمر والنهي لا يعارضا بترخص جاف، ولا بتشدد غالٍ، ولا يُحملا على علة توهن الانقياد".
وقد وضح ابن القيم كلام شيخه هذا فقال: ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الله عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسوله إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر.
فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها والحرص على فعلها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها والحزن والكآبة والأسف عند فوت حقّ من حقوقها كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة ويعلم أنه لو تقبلت صلاته منفردا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا، ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته سبعة وعشرون دينارا لأكل يديه ندما وأسفا، فكيف وكل ضِعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى؟! فإذا فوت العبد عليه هذا الربح وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجاهد عليه ولكانت قرعة. وكذلك الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلَّته، وكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطى إلى المسجد كانت خطوة تحطّ خطيئة وأخرى ترفع درجة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتا أو جارية ميتة؟! فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره؟! فهكذا سواء الصلاة الخالية من الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها، فهي بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميتين اللّذَيْن يراد إهداء أحدهما إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، فإنه ليس لعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن والمسند وغيره عن النبي أنه قال: ((إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها)) حتى بلغ عشرها.
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دقّ محبط للعمل، وكون العمل غير مقيّد باتباع السنة محبط له أيضا لقوله : ((من عمل عملا ليس عليها أمرنا فهو رد)) أي: مردود على صاحبه غير مقبول عند الله تعالى، والمنّ بالعمل على الله مفسد له، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]. والمن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان مفسد لها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264].
وقد تحبط أعمال الإنسان وهو لا يشعر، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]. وحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض وهم لا يشعرون بذلك، وليس ذلك بِرِدَّةٍ، بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها.
وقد يتساهل الإنسان بالشيء من المعاصي وهو خطير وإثمه كبير، كما قال تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإن لها عند الله طالبًا)) ، وقال بعض الصحابة: (إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات).
عباد الله، ومن علامات تعظيم حرمات الله ومناهيه أن يكره المؤمن ما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات، وأن يكره العصاة، ويبتعد عنهم، ويبتعد عن الأسباب التي توقع في المعاصي، فيغض بصره عما حرم الله، ويصون سمعه عما لا يجوز الاستماع إليه من المعازف والمزامير والأغاني والغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، ويصون لسانه عن ذلك، وأن يغضب إذا انتهكت محارم الله، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقوم بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن لا يتبع الرخص والتساهل في الدين، ولا يتشدد فيه إلى حد يخرجه عن الاعتدال والاستقامة؛ لأن من تتبع الرخص من غير حاجة إليها كان متساهلا، ومن تشدد في أمور الدين كان جافيا، ودين الله بين الغالي والجافي. وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فإن الشيطان يأتي إلى العبد، فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخصا ثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات، حتى ربما يترك هذا العبد أوامر الله جملة، وإن وجد عنده رغبة في الخير وحبا في العمل وحرصا على الطاعة وخوفا من المعاصي أمره بالاجتهاد الزائد حتى يزهده في الاقتصار على الحد المشروع، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على القصور دون هذا الصراط ويحول بينه وبين الدخول فيه.
فاتقوا الله عباد الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المؤيد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى الزاهرة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتأملوا في دنياكم وسرعة زوالها وتغير أحوالها، فإن ذلك يحملكم على عدم الاغترار بها، ويحفزكم على اغتنام أوقاتها قبل فواتها. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصَر الوقت وسرعة انقضائه فليتدبر قوله عز وجل: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف: 35]، وقوله عز وجل: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112-114]، وقوله عز وجل: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا [طه: 102-104].
وخطب النبي أصحابه يوما، فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال وذلك عند الغروب قال: ((إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)). فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي بقي من الدنيا بأسرها؛ ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظّ بخس خسيس لا يساوي شيئا، ولو طلب الله تعالى الدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظّ هنيئا موفورا وأكمل منه، كما في بعض الآثار: (ابن آدم، بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعا، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعا)، وقال بعض السلف: "ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما".
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا محطة تنزلون فيها في سفركم إلى الآخرة؛ لتأخذوا منها الزاد لذلكم السفر، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/5000)
أهمية النصيحة وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
30/12/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معرّة التنافر والتدابر. 2- طريقة تقويم المجتمعات. 3- الفرق بين مجتمع النصح ومجتمع الغش. 4- أهمية النصيحة. 5- حقيقة النصيحة. 6- خطورة الاستنكاف عن بذل النصيحة وعن قبولها. 7- آداب النصيحة. 8- وجوب قبول النصح والنقد من أي شخص كان. 9- العدل والإنصاف. 10- الدين النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّهَا النّاس ـ ونَفسي بتقوَى الله سبحانَه، فهي للنّفسِ زِمام، وللهوَى خِطامٌ، وللشّهوات والملذّات فِطَام، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].
أيّها النّاس، النُّفرة والتّدابر سِمةٌ من سِماتِ المجتمعاتِ المنفَكَّة، ومعرَّةٌ كبرَى تَأسَف لها قُلوبُ المشفِقِين من ذوِي البصائر، وإنّ قلّةَ الإنصافِ وشُيوعَ المذقِ لهما مِعوَلان من معاوِل تقويضِ البِناء للصَّرح الإسلاميّ الشامخِ، والنَّقدُ الموجَّه والنُّصح الهادِف الموافِقان لمرادِ الله ومرادِ رَسولِه هما لبِنتَان من لبِنات الحِصنِ العَزِيز للمجتمَع المسلِم المتكامِل الَّذي تجتمِع قلوبُ بنيه على رِعايةِ الصّالحِ العامّ الخاضع لرضَا الله جلَّ وعَلا، لاَ رِضَا الأهواءِ والشّهوات والأنفُسِ الَّتي تألَف مَا يُسخِط اللهَ لا ما يُرضيه.
ومِن هُنا فإنّ لِكلِّ رامقٍ بعَين البصيرةِ أن يقرِّر حُكمَه على المجتمَعاتِ سلبًا وإيجابًا مِن خِلال ما يشاهِده في السّلوك العامِّ والأنماطِ التي تخضَع للمعايِير الآنفِ ذكرُها.
أَلا إنّ الفرقَ وَاضحٌ والبَونَ شاسع بين مجتَمَع تغشَاه النصيحةُ على قَبولٍ وترحاب وبين مجتمعٍ آخر يجعَل أصابعَه في آذانِه ويستغشِي ثيابَه ويصرّ ويستَكبر استكبارًا، أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ [ص: 28].
أيّها المسلِمون، لَقَد كانَت مبايعةُ الصحابةِ رضوان الله عليهم للنّبيِّ قائمةً على رَكائزَ عُظمَى ومقرَّراتٍ جليلة، كَان من أهمِّها بذلُ النّصحِ للمسلمين والإشفَاقُ عليهم والحِرصُ لهم، ففي الصحيحَين من حديث جرير بنِ عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: بايَعتُ النبيَّ على إقامِ الصلاةِ وإيتاء الزَّكاة والنّصحٍ لكلِّ مسلِم [1].
النّصيحةُ ـ عبادَ الله ـ كلمةٌ يُعبَّر بها عن جملةٍ هي إرادَةُ الخير للمَنصوحِ له، وأصلُ النّصح هو الخُلوص والصَّفاء والصِّدق وعدمُ الغِشّ، ولذَا كان لِزامًا على كلّ مجتمعٍ مسلِم أن يجعلَ لهذهِ الشّعيرةِ محلاً واسعًا في حياتِه واهتمامًا بَالغًا لا يَقِلّ مستوًى عن الاهتمام بالجوانِبِ الصحيّة والأمنيّة والمعيشيّة.
والحقُّ الذي لا غُبارَ عليه أنّه لا خيرَ في مجتَمَعٍ أفئدةُ بنِيه في التّناصح هَواء، ولا خيرَ في مجتمعٍ آذَانُ ذويه كالأقماعِ يدخُلهَا النّصحُ مع اليُمنَى فلا يلبَث أن يخرجَ مَعَ اليُسرَى.
إنّ استِنكافَ المجتمعات والأفرادِ عَن بذلِ النّصح والتَّقويمِ لهو سببٌ للعِوَج والتِّيه في الدّنيا والعُقوبةِ والمقتِ من ربِّ العالمين في الآخرة، لَّن يَسْتَنكِفَ ?لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ ?لْمَلَئِكَةُ ?لْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [النساء: 172].
إنّ اللَّجاجةَ والنُّفرةَ مِن أَصواتِ النّاصِحين المخلِصين ليُعدُّ طَبعًا لئيمًا مِن طَبائع أَعداءِ الأنبياءِ وخُصومِهم، وهو فُتوقٌ لا يرقِّعه أيُّ رُتوقٍ لا يكون مصدَرَه النّصحُ لله ولرسولِه ؛ ولذا قال الله تعالى عن صالحٍ عليه السلام يخاطب قومَه: فَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَـ?قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف: 79]، وقال سبحانه عن شعيبٍ عليه السلام: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: 93]
إنّ النّصحَ بَينَ المسلِمين أفرادًا ومجتَمعًا ليُعدُّ أمارةً من أماراتِ الاهتِمام بالصّلاح والإصلاح، وبإحياءِ الشّعيرة المفروضةِ شَعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهيِ عن المنكر في واقعِ حَياتِهم، وبيانِ حُجّة أهل السنّة والجماعة وجِهادهم لنصرةِ الحقّ بالقلم واللّسان كما قد كانَتِ النُّصرة كَرّاتٍ ومَرّات بالسّيف والسِّنان، ولاَ أقلَّ من ذلك على وَجهِ فرضِ الكفاية، فضلاً عَن خطورةِ إهمال هذا البابِ والوقوع في مغبّةِ مجانَبَته، ومن ثمَّ الاتِّصافِ بما حذَّر منه النبيّ بقوله: ((من لا يَهتمّ بأمرِ المسلمين فليسَ منهم)) رواه الطبراني [2].
النُّصح ـ أيّها المسلمون ـ ينبغِي أن يقومَ على آدابٍ جُلَّى وسِماتٍ غُداف، تجعَل الحقَّ من خِلاله مقبولاً والنّصحَ بين النّاس مَنشورًا وبَاذِلَه والمتسبِّبَ فيه مأجورًا غيرَ مأزور.
فينبغي للنّاصِح أن يقومَ بالنِّيَّة الخالصةِ لله، وإلاّ كان نِفاقًا ورياءً، كما ينبغي أن ينطلِقَ نصحُه من بابِ المحبّة والإشفاق بالآخَرين، فهو أحرَى لأن يبارِكَ الله فيه ويبلُغَ المقصود، وقد قال الفضيلُ رحمه الله: "الحبُّ أفضَلُ من الخَوف، ألا ترَى إذا كان لكَ عَبدان مملوكان: أحدُهما يحبّك والآخر يخافك، فالذي يحبّك منهما ينصحُك شاهدًا كنتَ أو غَائبًا لحبِّه إيَّاك، والذي يخافك عَسَى أن ينصحَك إذا شهِدتَ لِما يخافُك، ويغشّك إذا غبتَ عنه ولا ينصحُك" [3].
يُضاف إلى ذلكم ـ عبادَ الله ـ الصدقُ في النّصيحة والسِّتر وإرادةُ الإصلاح، لا إظهار الشّماتة والتّعيِير؛ لأنّ السِّترَ في النّصح من سمَاتِ المؤمن الصادق، فإنّ المؤمنَ يستُرُ وينصَح، والفاجِرَ يهتِك ويُعيِّر.
كما ينبغي للنّاصح أن يُصابرَ ويجاهدَ نفسَه على تحمُّل أعباءِ هذا المَيدانِ وما قد ينالُه فيه من صُوَرِ الشّماتة والاستكبار المنطلقة يمنةً ويسرة من أفواه الناكصين عن النُّصحِ والقاعدين بكلِّ صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله، ولقد أحسنَ ابن القيّم رحمه الله حينَ قال: "فالسعيدُ الرّابح من عامَل الله فيهم ولم يعامِلهم في اللهِ، وخافَ الله فيهم ولم يخَفهم في الله، وأرضَى الله بسخَطِهم ولم يُرضِهم بسخطِ الله, وراقَب اللهَ فيهم ولم يُراقِبهم في الله" [4].
ثمّ اعلموا ـ يا رَعَاكم الله ـ أنّه لا يَضرّ المرءَ ما يُلاقيه ممّن يَشرَقون بالنُّصح ويتأفّفون بالتّوجيهِ والإرشادِ ويهوِّشون ويشوِّشون بادِّعاءِ الكمالِ الزائِف الذي يَستنِكرون بسبَبِه نصحَ النّاصحين، بل يعدّونَه ضَربًا من ضروبِ التّعيير والتَّدَخّل فيما لا يعني، ويا لله ما اعتِذارُ المرءِ إذا عُدَّت محاسِنُه التي يُدلِي بها ذُنوبًا وعُدوانًا؟! ولقد صَدَق من قال: "إنَّ الحياةَ في سبيلِ الله والثباتَ عليه أشدُّ وأصعَب من الموتِ في سبيلِ الله".
إنّ المسلِمَ إذا نَظرَ بِعينِ الصّدق والتجرُّد والإنصافِ وجعَل طَلبَ الحقّ هو الدَّيدنَ لقَبِل مَا يُوجَّه إِليه من نصحٍ ونَقدٍ في الحقّ، ولَعَلِم أنّ الأمةَ لا تقومُ إلاَّ بالتناصُح الجادِّ وبقولِها للمصيب: "أصبتَ" وللمخطئ: "أخطأتَ"، وأن لا يكونَ للسّخَط والشنآن أو المودَّةِ والقُربى تأثيرٌ في الميزان، وإنّما يكون العدلُ وحدَه في الغضَب والرّضا والمودَّة والعداوَة كما قال الباري سبحانه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ [النساء: 135]، وكقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة: 8].
وإنّه لَيُعلَم مِن هَذا ـ عبادَ الله ـ أنّ عينَ الرِّضا قد تكِلّ عن كلّ عَيبٍ، كما أنّ عينَ السُّخط لا تبدِي إلا المساوئ، وأنّ المرءَ قد ينظر بِعينِ عداوةٍ لو أنّها عينُ الرّضَا لاستحسنَ ما استقبَح.
وجِماع الأمرِ في هذا ـ عبادَ الله ـ هوَ العدلُ والإنصَاف، ورَحِم الله الإمامَ أبَا عبدِ الله ابن بطّة حينما تحدّث عن النّصحِ وقَبولِ الصَوابِ من الغير فقال: "واغتِمامُك بصوابِهِ غِشٌّ فيك وسوءُ نيّة في المسلمين، فاعلَم ـ يا أخي ـ أنّ من كرِه الصَّوابَ من غيرِه ونصَر الخطَأ من نفسِه لم يؤمَن عليه أن يسلُبَه الله ما علَّمَه ويُنسِيَه ما ذكَّره، بل يُخاف عَلَيه أن يسلُبَه الله إيمانَه؛ لأنّ الحقَّ مِن رسول الله إليك افتُرِضَ عليك طاعتُه، فمَن سمِع الحقَّ فأنكرَه بَعد عِلمِه فَهُو من المتكبِّرين على الله" انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد أحسنَ ابن قتيبةَ أيضًا وهو يشكو أهلَ زمانِه في القرنِ الثالِث الهجريّ وما يعانِيه من بَعض الآبِين للنّصح والمستَنكفين عنه وما يلاقِيه النّاصحُ في أوساطهم، فيقول: "إنّ الناصحَ مأجور عند الله، مشكورٌ عند عبادهِ الصالحين الَّذين لا يميل بهم هوًى ولا تَدفَعهم عصبيّة ولا يجمَعهم على الباطل تحزّبٌ ولا يلفِتهم عن استبانةِ الحقّ حدٌّ، وقد كنّا زمانًا نعتذِر مِن الجهلِ فصِرنا الآن نحتاجُ إلى الاعتذار منَ العلم، نؤمّل شكرَ النّاس بالتنبيه والدِّلالة، فصرنا نرضَى بالسَّلامة، وليس هذا بعَجيبٍ مع انقلابِ الأحوال، ولا يُنكَر مع تغيّر الزمان، وفي الله خَلَفٌ وهو المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.
فلا إلهَ إلا الله، ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة واليومَ بالأمس، وها هو التّأريخ يعيد نفسَه.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ الأمةَ لا يزال فيها النّاصحُ والمنصوحُ والرادُّ والمردود عليه، والحقُّ ضالّة المؤمِن أنّى وَجَدَها أخذَ بها، وليس بضائِره ما يَتبعُه ما دامَ قصدَه الإصلاحُ ما استَطَاع، ولقد صدَقَ الله: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص: 50].
بَارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن اللهِ، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[2] المعجم الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وأخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص78-79).
[4] طريق الهجرتين (ص108).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها النّاسُ، لقد جاءَت عباراتُ النبيّ حَثيثةً في جوامعِ كلِمٍ هي قليلةٌ في المبنى، ولكنّها عظيمة المعنى، حيث يقول : ((الدّين النصيحةُ)) قالها ثلاثًا، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: ((للهِ ولِكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلِمين وعامَّتهم)) رواه مسلم [1].
قال النوويّ رحمه الله: "هذا حَديثٌ عظيمُ الشّأن، وعليهِ مدارُ الإسلام، وأمّا ما قالَه جماعاتٌ من العلماءِ أنّه أحدُ أرباع الإسلام ـ أي: أحدُ الأحادِيث الأربعةِ التي تجمَع أمورَ الإسلام ـ فليسَ كما قالوه، بل المدارُ على هذا وحدَه" [2].
فالواجِبُ على العاقلِ ـ عبادَ الله ـ لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة، وتركُ الخيانةِ لهم بالإضمَارِ والقول والفِعل معًا، وخيرُ النّاس أشدُّهم مُبالغةً في النّصيحة، كما أنّ خيرَ الأعمالِ أحمدُها عاقبةً وأحسنُها إخلاصًا، وضربُ النّاصح خيرٌ من تحيَّة الشانِئ، ولا يمنَع مِنَ التّمادي في النّصح والإكثارِ فيه عدمُ القَبول مِن المخالِف أو عدمُ رضاه؛ لأنّ العبدَ مأمورٌ بالتماسِ رِضا الله ولو كانَ بِسَخطِ النّاس، فلقد كتَب معاوية رضي الله عنه إلى عائشةَ رضي الله تعالى عنها أن اكتبي إليّ كتابًا توصِيني فيه ولا تُكثِري عليَّ، فكتبَت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: سلامٌ عليك، أمّا بعد: فإنّي سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن التمَسَ رضا الله بسخَط النّاس كَفاه الله مؤونةَ النّاس، ومن التمَس رِضا النّاس بسخَط الله وكَلَه الله إلى النّاس)) رواه التّرمذي [3].
ولأجل ذا كان النّاصحُ العاقلُ ـ عبادَ الله ـ مَن مَقالُ حالِه ساعةَ يتصدَّى للنّصح والإرشاد: لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكورًا، إنّا نخاف من ربِّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا.
يَقول ابن القيّم رحمه الله: " إذا رُزِق العقلُ الغريزيّ عَقلاً إيمانيًّا مُستفادًا من مشكاةِ النبوّة، لا عقلاً معيشيًّا نِفاقيًّا يَظنّ أربابُه أنّهم على شيء، ألا إنّهم هم الكاذبون، فإنّهم يَرَونَ العقلَ أن يُرضُوا الناسَ على طَبَقاتِهم ويسالِموهم ويستجلِبوا مودّتهم ومحبَّتَهم، وهذا معَ أنّه لا سبيلَ إليه فَهو إيثارٌ للرّاحةِ والدّعَةِ ومؤونَة الأذى في الله والمحبّة فيه والبُغضِ فيه، وهو إن كان أسلمَ في العَاجلةِ فهو الهَلكُ في الآجلة، فإنّه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يحبَّ في الله ويبغِض فيه، فالعَقلُ كلّ العَقل ما أَوصَل إلى رِضا الله ورسوله " [4].
قال تعالى: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وقال سبحانَه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خَير البريّة وأزكَى البشريّة محمّد بن عبدِ الله صاحبِ الحوضِ والشّفاعَة، فقَد أمَرَكم الله بأمرٍ بَدَأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمِنون، فقال جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55) عن تميم الداري رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (2/37).
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها.. وذكر الحديث مرفوعا، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103) وكذا العقيلي في الضعفاء. ولا يبعد أن يصحّ مرفوعا أيضا لأنّ له طرقًا أخرى كما بينه الألباني في تحقيق الطحاوية (278).
[4] مفتاح دار السعادة (1/117).
(1/5001)
الفتوى ما لها وما عليها
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/3/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من مصادر تلقي العلوم الفتوى. 2- أهمية الفتوى عن الله. 3- التحذير من الاستهانة بالفتوى. 4- حرمة كتمان العلم والحق. 5- الآثار الطيبة لأخذ الفتوى عن أهلها. 6- الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن من أنبل ما يشتغل به المشتغلون وخير ما يعمل له العاملون نشر علم نافع تحتاج إليه الأمة، يهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية، ويخرج النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد. وكيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ، وأوجب على أهل العلم نشره ونهاهم عن كتمانه فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه ، وقال رسول الله : ((من علِم علمًا فكتمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار)).
أيها المسلمون، ولنشر العلم وسائل كثيرة، من أهمها التصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه وكثرة التعويل عليه، لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى معظم المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم أو يؤرق بالهم، لتصحيح عبادة أو تقويم معاملة، والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على أيديهم، ويصبح من ثم وارثًا لعلومهم. وما زال الإفتاء قائمًا منذ فجر الإسلام وحتى هذه الأيام، حتى خلّف العلماء كثيرًا من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، كانت وما تزال مصدرًا من مصادر الإشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة الأمم ورقي الشعوب؛ لهذا كانت منزلته عظيمة ومكانته كبيرة؛ لأنه بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول. وقد تقلد رسول الله هذا المنصب العظيم، فكان له منصب النبوة ومنصب الإمامة ومنصب الإفتاء.
وتكتسب الفتوى أهمية بالغة لشرفها العظيم ونفعها العميم، لكونها المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب حيث أفتى عباده، فقال في كتابه الكريم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَاب ، وقال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة. فقد نسب الإفتاء إلى ذاته، وكفى هذا المنصب شرفًا وجلالة أن يتولاه الله تعالى بنفسه. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين. فكانت فتاويه جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب". ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام، قامت به أحسن قيام، فكانوا سادة المفتين وخير مبلغ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَق ، قال: أصحاب محمد. ثم جاء من بعدهم التابعون وأتباع التابعين، وكثير من الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من علم غزير وقلب مستنير ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات جليلة كان لها أثر في نشر العلم وإصلاح العمل.
ومما يُظهر منزلة الفتوى أيضًا أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، ولهذا شبه ابن القيم المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فقال: "إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!".
أيها المسلمون، ولئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرة فيما مضى، فإن الحاجة إليها في هذه الأيام أشد وأقوى، فقد تمخض الزمان عن وقائع لا عهد للسابقين بها، وعرضت للأمة نوازل لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها، فكانت الحاجة إلى الإفتاء فيها شديدة، لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة، إذ لا يعقل أن تقف شريعة الله العليم الحكيم عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتسعة لكل ما يحدث لهم أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرة بالتطبيق في كل مكان.
وبما أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله فإن القول على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات؛ لما فيه من جرأة وافتراء على الله وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون. ومما يدل أيضًا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ؛ لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول"، وفي رواية: "ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
أيها المسلمون، ومما ابتليت به الأمة في أوقاتنا هذه أن تبوأ منصب الإفتاء أناس ليسوا أهلاً لذلك، ينقصهم كثير من مقومات هذا المنصب، فضلوا وأضلوا. ولقد يسرت الفضائيات ظهور جهلة تقلدوا هذا المنصب الخطير، وتعلق بهم عوام الناس، فصاروا يتخوضون في محرمات بحجة أنه قد أفتى فيه فلان أو علان. وظهر ما يسمى بفقه التيسير، واشتهرت بعض الأسماء ممن فتاواهم غالبًا تدور حول التيسير على الناس والترخص. ولقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوى ظالمة وآراء آثمة، فيها محادة لله ورسوله، منها القول بجواز ربا البنوك محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ، مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، ورغم الوعيد الشديد فقد خرج على الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك دون وجل أو خوف من ملك الملوك أو خشية من عذاب الله أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، إن من مظاهرِ غربة الإسلامِ في هذا الزمان ونتيجةً لعواملِ التغريبِ التي عصفت ولا تزالُ تعصفُ بالأمةِ اليوم أن استهان كثيرٌ من الناسِ بالحلالِ والحرام, وأخذوا أحكامَ دينهِم عن الجهلةِ والمخرفين, وتتبعوا الرخص لدى علماءِ السُوء, وتصدَّى للإفتاءِ جماعةٌ من الحمقى والمغفلين, في جرأةٍ بالغة وحماقةٍ مكشوفة، ودون خوفٍ أو خشيةٍ من العليم الخبير, وتفشَّى أولئك المُتقوِّلون على الله بلا علم وهم في غمرةِ نشوتِهم وقمةِ غرورِهم وجهلهم, تناسوا ذلك الوعيدَ الشديد الذي يُزلزلُ القلوبَ الحية ويتهددُ المُتجرئين على الفتيا، فيقولُ الحقُ تباركَ وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُون. لقد ضربوا بهذه الآية عرضَ الحائط, واستخفوا بأمر ربهم فهم في غيهمِ يترددون، وأصبحتَ ترى بعضَ المتعجلين ممن لا يكادُ يحفظُ شيئًا من كتابِ الله فضلا عن استنباطه، أصبحتَ تراهُ مُصابًا بجنونِ العظمة, فيفتي بغيرِ علم, ويناقشُ أبا حنيفة ويخطئُ الشافعي, ويردُ على ابن تيمية والذهبي, مرددًا مقولة حقٍ أُريد بها باطل فيقول: هم رجالٌ ونحنُ رجال. ومن خلالِ هذهِ العبارة يُجيزون لأنفسهمِ الخوضَ فيما لا يعرفون والكلامَ فيما لا يفقهون, ويُحللون ويُحرمون دون علمٍ أو هدى أو كتابٍ منير, بل إنَّهم ليخوضونَ في قضايا محيِّرة، ويتجرؤون على الفتيا في مسائل مستعصية, لو حصلتْ في عهدِ عمرَ لجمع لها أهل بدرٍ كلَّهم, بينما ذلكَ المتعاظمُ يصدرُ فيها رأَيهُ بكلِّ عجلةٍ وتسرع، ولا يجدُ في صدره من ذلك حرجًا أو غضاضة.
وليتَ الأمر توقفَ على المنتسبينَ للعلم من ذويِ التخصصات الشرعية, بل تعداهُ إلى أُناسٍ يفتقدون حتى المبادئَ الأساسيةِ لأي فنٍ من فنونِ الشريعة، فذاك يُفتي وهو كاتبٌ صحفي, وذاك يُفتي وهو لاعبُ كرة، وذاك يفتي وهو ممثلٌ ماجن, وغيرهمُ كثير.
ومن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها كثير من الناس أنهم يسألون أي أحد، ولا أدري هل هم لا يفرقون أو يبحثون عمن يجيز لهم ما يشتهون؟!
فمثلاً من كان صوته حسنًا وجميلاً في القرآن صار يُستفتى، والمنشد يُستفتى، ومفسِّر الأحلام ومعبّر الرؤى يستفتى، وإمام المسجد يستفتى، وهكذا... وهذا خطأ فادح أيها الأحبة، اعرفوا عمن تأخذون دينكم، ولا تسألوا إلا العلماء، وليس كل من ظهر في الفضائيات أو الإذاعات على أنه شيخ يصلح لأن يستفتى، فبعضهم قد يكون مجيدًا لبعض القضايا التربوية، وبعضهم يحسن الكلام في الأمور الاجتماعية، وآخر متخصص في القضايا النفسية، أما الفقه وأحكام النوازل فهذه للعلماء الراسخين في العلم.
ومن هنا وضع العلماء للمفتي شروطًا عدّة لا يتقلّد الإفتاء إلا بتحققها فيه، كالعلم والعدالة والورع والتثبّت وغيرها، ومتى انتفى منها شرط لم يكن من أهل الفتوى.
أيُّها المسلمون، إن الأحكام الشرعية ليست مجالا مفتوحا لكل من هب ودب من صحافيين وبرلمانيين وعلمانيين ممن لا يفقه في الشرع المطهر شيئًا، ومن ثم فلا مجال لأمثال هؤلاء في مناقشة ما ليس من اختصاصهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم إن المجتمعات الإسلامية لها خصوصيتها ولها تميزها، وهي بحكم إسلامها وإيمانها بدينها تقبل أحكام الشرع المطهر بكل رحابة صدر، ومحاولة تسميم أفكار الرأي العام من قبل الإعلام والجمعيات النسائية المشبوهة بطرح زبالات الأفكار الأجنبية وطلب نقلها لمجتمعاتنا هي ظاهرة يحرص أعداء الإسلام على إقرارها وتمريرها منذ سنين طويلة، وكلما رفض أعيدت من جديد، وتُرفض لما تحمله من أخطاء معروفة للجميع، ولما فيها من تضليل للأمة والانحراف بها عن الصراط المستقيم لمصالح أجنبية وأهواء شخصية.
أيُّها المسلمون، وفي مُقابلِ هذه الجراءةِ البالغةِ على الفتيا يقفُ على النقيضِ من ذلك بعضُ العلماءِ الراسخين, فيجمحونَ عن الفتيا مع تأهلهِم لها وقدرتهِم عليها، ويمتنعونَ عن إبداءِ آرائهمِ الشرعية في قضايا الأمةِ المصيرية, ويوقعون الناسَ في حيرةٍ من أمرهم, ويُخيِّبونَ آمالَ الأمةِ في أحرجِ المواقف وأشدّها حاجةً إلى سماعِ كلمةِ الحق, والأمةُ محتاجةٌ إلى سماعِ أقوالِ علمائِها وآرائهمِ عند اشتداد الخَطْب وظهورِ الفتن، حتى لا تزلّ بهمُ الأقدام أو تهوي بهم الريحُ في مكانٍ سحيق، المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين ، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ. فحرامٌ على العلماء أن يكتموا العلمَ الصحيح، ولا يبنوا الحقَّ الصريح، ويَدَعُوا الأمةَ تتخبطُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، دون أن يأخذوا بيدِها إلى برَّ الآمان، لا يخافون في اللهِ لومة لائم.
هذا إمامُ أهلِ السُنةَّ أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله يقولُ رأيهُ بكلِ شجاعةٍ ورجولة، لا يمتنعُ من الفُتيا بما يعتقدُهُ من صوابٍ في قضيةِ خلقِ القرآن، ولا يرضى لنفسهِ أن يُضللَ الجماهيرَ المتلهفةِ لسماعِ كلمةِ الفصل أو أن يكتمَ علمًا. الأمة بأمسِّ الحاجة إليه, يقولُ كلمةَ الحقِّ غيرَ هيابٍ ولا وجل، وإن غضبَ المأمون أميرُ المؤمنين وهددَّه بالصلبِ والقتل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلاً شرعيًا سليمًا من التنطع معافى من التسيب بعيدًا عن الأقوال الشاذة نائيًا عن الأدلة التالفة مراعى فيه رضا الحق وملاحظًا به مصالح الخلق فإن الفتوى تترك في الأمة آثارًا طيبة، من مثل إزالة الجهل؛ إذ سؤال المستفتي وإجابة المفتي نوع من المدارسة العلمية، يتعلم فيها السائل أحكام الدين، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على تحصيله في كتابه الكريم؛ حيث قال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون.
لقد قامت مدرسة النبوة على التوحيد الذي يحفظ العقل من الخرافة، كما قامت على العلم الذي يصون الإنسان من الجهالة، فتخرج منها رجال كانوا منارات هداية للسائرين، ومشاعل علم ومعرفة للقاصدين. فبالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي لأصحابه وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطهم بها نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في تاريخها، فيه من مجتهدي الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. نعم، تخرج من تلك المدرسة جيل فريد متسلح بالعلم، بعد أن كان يغط في جهالة عمياء لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت فتاوى رسول الله وتوجيهاته عاملاً من عوامل تعليم الأمة ورفع الجهل عنها.
الفتوى السليمة تجعل المستفتي على الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من البدع لئلا يضل؛ وفي ذلك صلاح الفرد وسلامة المجتمع، قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد.
بالفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود ركبه حملة أشرف رسالة. إن الأمة التي تبقى وفيّة لعلمائها تسمع لقولهم وتطيع أمرهم وتأخذ بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وكيف لا يتم لها الفوز والله تعالى قد أرشدها لطاعته؟! فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم.
إذا سلمت الفتوى من الشذوذ وتجردت عن تنطع المتنطعين وتسيب المتسيبين ثم أعطيت للمستفتي على أنها توقيع عن رب العالمين فإنها تكون خير عون على أداء التكاليف الشرعية كما أمر الله تعالى في قوله الكريم: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُون. وكلما كانت الفتوى سديدة ومعتمدة على الأدلة الصحيحة فإنها تكون أدعى إلى حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله، وفي ذلك إحياء للسنن وإماتة للبدع.
أيها المسلمون، أما الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها ففي مقدمتها التعدي على حدود الله؛ فما أفدح الخطب حين تنتهك حرمات الله بفتاوى جائرة تنسب إلى دين الله. إن أخذ الفتوى عن غير أهلها يسوق المستفتي إلى الجرأة على دين الله؛ فلا تبقى لله تعالى في قلبه رقابة، ولا إلى الحق تعالى في نفسه إنابة، فيرتكب ما سأل عنه بفتوى جائرة، ثم يتدهده من قلة الخشية وظلمة المعصية من ذنب إلى آخر حتى تهوي به أهواؤه في مكان سحيق.
وتأملوا في حال كثير من الناس اليوم ممن دخلوا في أنفاق مظلمة في أبواب المعاملات وتورطوا بديون عظيمة، ومن الأسباب تساهلهم في فتاوى الذين أجازوا لهم الاقتراض ونحوها، وما صياح وعويل الناس هذه الأيام في باب الأسهم منا ببعيدة.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه...
(1/5002)
شبهات تثار حول المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/4/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرد على شبهة المساواة. 2- الرد على شبهة الاختلاط. 3- الرد على شبهة توظيف المرأة في محلات بيع المستلزمات النسائية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وإكمالاً لخطبة الجمعة الماضية، في مواجهة هذه الهجمة المعلنة اليوم على المرأة وقضاياها في مجتمعاتنا من قبل تيار العلمنة ورموزها، فإننا سنتحدث في هذه الجمعة ـ بحول الله وقوته ـ عن الشبه التي كثيرًا ما تثار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن المرأة وما يتعلق بها من قضايا وأمور:
أولاً: يطالب العلمانيون بالمساواة بين الرجل والمرأة:
والجواب: أنَّ المرأة مساوية للرجل في الإنسانية وفي أغلب تكاليف الإسلام وفي جزاء الآخرة، كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض. وكذا في الموالاة والتناصر؛ ولذا قال النبي : ((النساء شقائق الرجال)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ولكن الإسلام مع ذلك نظر في طبيعة المرأة ومدى تحملها لبعض العبادات وصعوبتها، كالجهاد في سبيل الله، أو لعدم ملاءمتها للمرأة كملابس الإحرام، فأسقطها عنها. ومن ذلك عدم جواز تولية المرأة للمناصب العامة كالخلافة والقضاء، لذا يقول رسول الهدى : ((لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)).
وأمَّا ما يورده بعضهم أنَّ الإسلام ظلم المرأة في إعطاء الذكر من الميراث ضعفيها فإنَّه يقال لهؤلاء: ما دام أنَّه تعالى قد شرع ذلك فينبغي على العبد المسلم أن يستسلم لشرعه ولا يعترض عليه، كما قال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما. ثمَّ إنَّ الله ما دام قد خلقنا فلا اعتراض عليه؛ لقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون ، وقد قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر ، فما دام الشرع من عنده تعالى فينبغي على عبيده الاستسلام والخضوع لأمره. ويقال كذلك: إنَّ الشريعة الإسلامية لم تعط المرأة أقل من الرجل في جميع المورايث، فإنَّه في العصبات قد تستحقُّ المرأة نصف الميراث أو أكثر، فليست المواريث مطَّردة في إعطاء المرأة أقلَّ من الرجل، ومما يجاب على ذلك بأنَّ الشريعة فرضت للذكر مثل حظِّ الأنثيين؛ لأن الرجل هو القوَّام على المرأة والمتولي شؤونها فيما تحتاجه، فالقضية ليست للتفضيل الذي لا يستند إلى حكمة من ورائه بقدر ما هي للفرق بين المسؤوليات.
إنَّ المرأة خُلقت من نفس واحدة، إذ كان وجودها الأول مستندًا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم المنزل من عند الله ليُعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي، فجعل الرجل قوَّامًا عليها، وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء. فمحاولة مساواة المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة غير متحققة؛ لأنَّ الفوارق بين النوعين كونًا وقدرًا أولاً وشرعًا منزَّلاً ثانيًا تمنع من ذلك منعًا باتًا، ولهذا يقول تعالى في محكم التنزيل: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة. يعني في الحقوق الزوجية، ولوضوح الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، وصحَّ عن النبي أنَّه لعن المتشبه من النوعين بالآخر. ولا شك أنَّ سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر لتحطيم هذه الفوارق الفطرية والشرعية التي لا يمكن أن تتحطَّم.
كما نص القرآن على أن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان. فالله الذي خلقهما لا شك أنَّه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة، وقد بين سبحانه العلة فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة: 282]. قال الله تعالى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِه.
ثانيًا: مما يثيره العلمانيون ويطالبون به الاختلاط، ويثيرون حول ذلك بعض الشبه، كقولهم: إن المرأة زمن النبي كانت تخرج للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالاختلاط، وأيضًا كانت تطوف مع الرجال في الحج والعمرة.
الجواب: قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَاهِلِيَّةِ ?لأُولَى ، قال مجاهد في تَفْسيرِهِ للآية: "كان النساءُ ـ أي: في الجاهِليّة ـ يَتَمَشَّيْنَ بين الرجال ـ أي: يخْتَلِطْنَ بِهم ـ فذلك التبرج".
وِحفاظًا على المرأةِ مِن الاخْتلاطِ بالرِّجال لم يُوجِبِ اللهُ عليها صلاةَ الجَماعةِ في المَسجد، وخَصَّ الرِّجالَ بها فقط، بل جَعلَ صلاتَها في بيْتِها خيرًا مِن خروجِها للصَّلاةِ في المَسْجَد، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوِّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ ، ولم يَقُلْ: رِجالٌ ونِساء، وقال : ((صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي حُجْرَتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي دَارِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا)) رواه الطَّبرانيُّ وهو صحيح. كلُّ ذلكَ مِن أجْلِ سدِّ بابِ الفِتْنة والحِفاظِ على المرأةِ مِن التّبذُّلِ والاخْتِلاطِ بالرِّجال. والمرأةُ إذا خَرَجَتِ إلى المَسجِدِ فإنّما يجوزُ خُروجُها بِالشّرْطِ المَنصوصِ عليْهِ في حديثِ النّبيِّ ، وهو عدمُ التّزيُّنِ والتّطيُّبِ في قَوْلِه عليهِ الصلاةُ والسّلام: ((ولْيَخْرُجْنَ تَفِلات)). هذا هو الشّرط، وإلاّ انْقَلَبَ الجوازُ إلى التّحريم. ولِضَمانِ عدَمِ الاخْتِلاط جَعَلَ النّبيُّ بابًا خاصًّا للنِّساءِ يَدْخُلْنَ مِنه إلى المَسْجِد، ففي سُننِ أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ قال لأحَدِ الصَّحابةِ: ((لو تركنا هذا البابَ لِلنِّساء)).
وأما احتجاج العلمانيين بالجهاد فيقولون: المرأة كانت تخْرُجُ للجِهادِ في عَهْدِ رسولِ الله ، وهذا فيهِ اخْتِلاط.
فيقال: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ لِظروفِ الحرب، وظروفُ الحربِ حالةٌ اسْتِثْنائيَّةٌ غيرُ طبيعيّة، والحالةُ الطّارئةُ الاسْتثْنائيَّةُ لا يُقاسُ عليها في الوَضْعِ الطّبيعي، نقول: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ ما كان خُروجُهُنّ أوَّلَ الأمْرِ أصْلاً إلاّ لِقِلَّةِ عَدَدِ المُسلمين آنَذاك، مِن أجْلِ السِّقايةِ وتضميدِ الجَرْحى، لا القِتال، فلمّا كَثُرَ عَددُ المسلمين لم يَعُدْ يخْرُج مِن النِّساءِ أحَدٌ في الغزو، هذا مع أنّهُنّ كُنّ لمّا خَرَجْنَ في السِّابِقِ خَرَجْنَ مع مَحارِمِهِنّ، بل كان فِعْلُهُنَّ ذلك مُخَصَّصًا لِمَحَارِمِهِنّ في المَقامِ الأوّل، ولم يُكنّ يُباشِرْنَ الجَرْحى الأجانِبَ إلاّ في أضْيَقِ الحدود. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. قال الإمامُ النّووي: "فيه خروجُ النساءِ في الغزوِ والانتفاعُ بِهِنّ في السَّقْيِ والمداواةِ ونحوِِهِما"، قال: "وهذه المداواةُ لمحارمِهِنّ وأزواجِهِنّ، وما كان منها لغيرِهِم لا يَكونُ فيهِ مَسُّ بَشَرةٍ إلاّ في موضعِ الحاجة". إذن كان خُروجُهُنّ في بدايَةِ الأمْر، وبأعدادٍ قليلةٍ لا تتجاوَزُ أصابعَ اليد، وكُنّ يخرُجْنَ مع أزواجِهِنَّ ومَحارِمِهنَّ كما يُسافِرُ اليومَ النّساءُ مع أزْواجِهِنِّ ومَحارِمِهِنّ السَّفَرَ العاديّ، ولا نَكارةَ في ذلك ولا غَرابةَ، ولا حُجَّةَ فيهِ لِدُعاةِ الاختلاطِ والسُّفور، ولكنّها حِيلةُ العاجِز، لا قامَ مِن عَجْزِه ولا بلَّغَهُ ما يُريد.
وأما عن احتجاج العلمانيين ودُعاة السُّفور وأرباب التَّغريب بالطّواف، فيقولون: انظروا إلى الطّواف، أليسَ فيهِ اخْتلاطٌ وهو عِبادة؟! فَلِماذا تَمْنَعونَه في غيرِه؟!
الجواب: أوّلاً: إنّ الوَاقِعَ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع، فلأجْلِ أنّنا نرى اخْتِلاطًا في الطَّوافِ اليوم أو نَراهُ في المُستَشْفَيات أو نَرى مُنكراتٍ ما هُنا أو هُناك هذا لا يُؤثِّرُ في الحُكْمِ الشَّرعيّ، ولا يَنْتَقِلُ حُكْمُ شيءٍ ما مِن الحُرْمة إلى الإباحةِ لِمُجَرَّدِ حُصولِ ذلكَ الشَّيءِ في الواقِع، فالوَاقِعُ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع.
وثانيًا: الطَّوافُ في الأصْلِ كان مَفصولاً، فقد ذكَرَ العُلماء أنّ الفَصْلَ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الطّوافِ فَصْلان، فصْلٌ مُطْلق، وفَصْلٌ جُزْئيّ، والفَصْلُ الجُزئيُّ كان حَاصْلاً في زَمَنِ الرَّسولِ ، الجميعُ يطوفون، ولكنّ النِّساءَ في حَلَقَةٍ واسِعةٍ خاصَّةٍ بهنّ بعيدًا عن الكعبة، في مَنأى عن الاخْتِلاطِ بالرِّجال، والرِّجالُ في حلْقَتِهِم قريبًا إلى الكعبة، بالرَّغْمِ مِن طَوافِهِم جميعًا في وقْتٍ واحِد، فالحاجَةُ إذن لم تَكُنْ داعِيةً إلى التّحذيرِ مِن الاخْتِلاطِ وأمْرِ النّاسِ بالفَصْلِ أوّلَ الأمْرِ؛ لأنّ النّاسَ كانوا يَحْذَرونَ مِنه أصْلاً لِحُسْنِ إسلامِهِم وحِرْصِهِم على عدَمِ الاخْتِلاط وتَعْظِيمِهِم لِرَبِّ البيْتِ وتَعظيمِهِم لِحُرُماتِه، هكذا كان واقِعُ حالِهِم، فالنِّساءُ كُنَّ يَطُفْنَ بَعِيداتٍ بِمَعْزِلٍ عن الرِّجال، ولذلك قال النّبيُّ لأمِّ سَلَمةَ في الطّواف: ((طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَة)) ، لِماذا قال: ((مِن وراءِ النّاس)) ؟ أليسَ في هذا تأكيدٌ على عدَمِ الاخْتِلاطِ بالرِّجال حتّى لو كانت راكِبة؟! بلى. ولذلك نَرى أيضًا أنّه لَمّا اقْتَضى الحالُ التّأكيدَ على الفَصْلِ لِكَثرةِ الفِتَنِ وتَساهُلِ الرِّجالِ في الْتِزامِهِم بالفَصْلِ والابْتِعادِ عن النِّساءِ في الطَّواف منَعَ الخليفةُ الرِّاشِدُ عُمَرُ بنُ الخَطّاب الاخْتِلاطَ فيه، ونهى النّاسَ عن ذلك صَراحةً وعَلَنًا لِوجودِ الدَّاعي، فقدَ روَى الفاكِهِيّ مِن طريقِ زائدة عن إبراهيمَ النَّخَعي قال: نهى عُمَرُ أنْ يطوفَ الرجالُ مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهُنّ فضربه بالدِّرَّة.
هذا هو الفَصْلُ الجُزئيّ، أمّا الفَصْلُ المُطْلَق بِمَعْنى أنّ الرِّجالَ يطوفون في وَقْتِ والنِّساء في وقِتٍ بِحَيثُ لا يجتَمِعون مُطْلَقًا فقدَ فصَلَ بعضُ الأمراءِ بين النِّساءِ والرِّجالِ في الطّوافِ مُطْلَقًا، كخالدِ القَسْري وإبراهيمَ بنِ هِشام الأَمَويّ كما صحّ في البُخاري، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ.
وعلى أيّةِ حال نحن لا نَدْعو إلى فصْلِ الرِّجالِ عن النِّساءِ في الطَّوافِ فَصْلاً مُطْلقًا؛ لأنّه ليسَ مِن فِعْلِ النَّبيِّ ولا خُلَفائهِ مِن بَعْدِه، فإنّ هَدْيَهُ وهَدْيَ خُلَفائهِ الفَصْلُ الجُزْئيّ، وإنّما القَصْدُ أنّ واقِعَ الحالِ اليومَ والّذي شاعَ فيهِ التّساهُلُ بالاخْتِلاطِ في الطِّواف ليسَ حُجَّةً على الشَّرْعِ يُسْتَدِلُّ بهِ على الحلالِ والحرامِ وما يجوزُ وما لا يجوز، فليسَ بالضَّرورةِ أن يكونَ واقِعُ الحالِ مُوافِقًا لِلشَّرْعِ مِن كُلِّ وجْه، وإنّما الحُجّةُ في ذلك مقاصِدُ الشَّرعِ المأخوذةُ مِن النَّصوصِ الّتي طَالَما حذَّرَتْ مِن الاخْتِلاطِ ونَهَت عنه، وما أكْثَرَها مِن نصوص.
ولذلك يقال لمن يحتج بمثل هذه الحجج: أين أنتَ مِن النّصوصِ الأخْرى إن كُنتَ صادِقًا في نُصْحِك؟! لماذا لم تُورِدْها، أم هي أخلاقُ اليهودِ الّذين لا يأخذونَ مِن النُّصوصِ إلاّ ما وافَقَ أهواءَهُم؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض. أين أنت مِن وَضْعِ النِّساءِ في المَسْجِد؟! أين قرّر الشَّرْعُ لَهُنَّ أنْ يُصلِّين مُختَلِطين جَنْبًا إلى جَنبٍ مع الرِّجال، أم في الصّفوفِ الخَلْفِيّةِ بعيدًا عن الرِّجالِ آخِرَ المسجد؟! أيَدُلُّ هذا على النَّدْبِ إلى الاخْتِلاطِ أم العَكْس؟! بل زادَ مِن التّأكيدِ على عدَمِ الاخْتلاطِ مُنَفِّرًا حتّى مِن اقْترابِ أيٍّ مِن الطِّرَفيْنِ الرِّجالِ والنِّساء مِن صَفِّ الآخَرِ قائلاً: ((خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُها وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا)). أيَدُلُّ هذا على الحثِّ على الاخْتِلاطِ أم التّحذيرِ مِنه؟!
ثُمّ ألَمْ يكُن إذَا سَلَّمَ قامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ويَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ كي يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال؟! ثُمّ إذا أَخبَرتنا أُمُّ سلَمَةَ رضي الله عنها كما صح ذلك في البخاري: أنّ النِّساءَ كُنّ يَنْصَرِفْنَ مُباشَرةً بعدَ السَّلام وبِسُرْعة، ماذا يستنبطُ العاقل؟! على التّرحيبِ بالاختلاطِ وأنّه لا بأسَ بِه، أم على البُعْدِ عنه والحَذَرِ مِنه؟!
بل حتّى في الشّارِعِ أو الطّريق الّذي يَحْتَجُّ بهِ بعضُهُم في جَوازِ الاخْتِلاط، لمّا رأى النّبيُّ اخْتِلاطَ الرِّجالِ بالنِّساءِ في الطّريقِ لمّا خرجوا من المسجدِ قال لَهُنّ: ((اِستأخِرْن)) أي: تأخَّرْنَ عن وَسَطِ الطَّريق، ((عليكُنّ بِحَافَاتِ الطّريق)) أي: بأطْرافِه وجوانِبِه. يقول راوي الحديث أبو أُسيْد الأنصاري : فكانت المرأةُ تَلْصَقُ بالجِدار وتُبالِغُ في ذلك حتّى إن ثَوْبَها لَيَتعلَّقُ بالجِدار. رواهُ أبو داود وهو صحيح. كلُّ هذهِ النّصوصِ والرِّواياتِ الصّحيحة إذا جَمَعْناها فبماذا نَخرُج؟ نخرج بأنّ الاخْتلاط من الأمور المحرمة المنكرة والخطيرة على المجتمعات لو فتح بابها.
فالنّهيُ عن الاخْتلاطِ ليس مِن التّقاليد، بل هو مِن الثَّوابتِ الشّرعيَّةِ رَغْمًا عن أنْفِ كل أحد، والمُحاوَلاتُ اليائسةُ في حَجْبِ هذهِ الحقيقةِ لَن تُفْلِحَ بإذْنِ الله، واللهُ غالِبٌ على أمْرِه ولكنّ أكْثرَ النّاسِ لا يعلَمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومن شبه العلمانيين أنهم ينادون بعمل وتوظيف المرأة في محلات بيع للمستلزمات النسائية، وأن هذا يحفظ خصوصيتها.
الجواب: إن الإسلام لم يوجب ولم يفرض ولم يحمّل المرأة مسئولية العمل خارج المنزل، لكنه لا يمنعها من ممارسته بضوابطه الشرعية، فالإسلام حررها من مسؤولية العمل وحتميته خارج المنزل لكي لا تقع تحت ضروريات العمل الذي يستعبدها ويستغلها ويظلمها. فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
إن بيع المرأة للمرأة ما يخصّها لا شك أن فيه خصوصية ومصلحة من جانب، لكن فيه مفاسد أعظم تتعلق بالمرأة البائعة.
ما حال البائعة وهي تدخل وتخرج صباح مساء مع العمالة في كل يوم وبشكل متكرّر على مدى العام وتجاورهم في المحلات وما يترتب على ذلك من علاقات؟! ألا يكون هذا مدعاة لأن يتطور ذلك إلى علاقات محرمة؟! ما حال البائعة في الصباح الباكر وفي المساء المتأخر؟! هل ستأمن المرأة على نفسها خاصة إذ علم بعض ضعفاء النفوس من العاملين أو المتسوقين أنه لا يوجد داخل المحل سوى امرأة؟! فمن يأمن أن يدخل عليها في تلك الفترات رجل أو أكثر متنكرين في لباس نساء لأغراض سيئة؟! ما حال البائعة حينما يأتي صاحب المحل في آخر الليل ويغلق المحل عليها ويجرد مبيعات اليوم معها؟! وما حال البائعة حينما يدخل الرجل وامرأته ويعرض الرجل الملابس الداخلية أمام زوجته وهي تشاهد ذلك المنظر وربما لم تكن متزوجة؟! فهل حافظنا على خصوصية المرأة؟! ما مصير آلاف الرجال الذين سيفصلون من وظائفهم في هذه المحلات لتأتي امرأة تعمل مكانه؟! وما أثر هذا على المجتمع الذي يعاني أصلاً من البطالة؟! ماذا لو جعلنا في كل سوق عام وفي كل مجمع تجاري قسم خاص بالنساء لبيع المستلزمات النسائية الخاصة بحيث يتكون من عدد من المحلات، وله مدخل خاص لا يدخله إلا النساء، سواءً كن عاملات أو متسوقات، كما هو حاصل في التعليم؟! لا شك أن هذا سيحافظ على خصوصية المرأة أكثر من هذا الطرح الموجود الآن.
فنسأل الله جل وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
نذر وربك بالمصائب تنذر وخطى على درب الْهوى تتعثر
فتن كليل مظلم يندى لَها منا الْجبين فنارها تتسعر
ما كنت أحسبنِي أعيش لكي أرى بنت الجزيرة بالْمبادئ تسخر
جهلت بأنا أمة محكومة بالدين يَحرسها الإله وينصر
جهلت بأنا أهل دين ثابت في ظله لا يُستحل الْمنكر
أختاه يا بنت الْجزيرة هكذا وخنادق الباغين حولك تحفر
أو هكذا والملحدون تَجمعوا من حولنا والطامعين تَجمهروا
قد تهدم السد المشيد فأرةٌ ولقد يُحطم أمة متهوِّر
أخشى على الأخلاق كسرا بالغًا إن المبادئ كسرها لا يُجبَر
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5003)
من وحي رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/8/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام. 2- نصائح وتوجيهات. 3- القرآن ورمضان. 4- العابثون بحرمة الشهر. 5- من صور تعظيم حرمات الله في شهر الصيام. 6- الوصية بالاهتمام بأحوال إخواننا المسلمين. 6- المسلم وأعداؤه في رمضان. 7- الوصية بحفظ اللسان. 8- فضل ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
من المعاني التي لأجلها سمي شهر الصيام بشهر رمضان أنه شهر ترتمض فيه الذنوب، أي: تحترق، ومنه الرمضاء وهي بقايا الحريق. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة". فشهر الصوم فيه تلك الخصوصية لذاته، فإن مجرد صيامه إيمانًا واحتسابًا يحرق الذنوب لقوله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
أيها المسلمون، إنها مواسم تتكرر كل عام، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62]. شهر الصيام الذي عظمه الله وكرّمه، وشرّف صوّامه وقوّامه، وخصهم فيه من الأجور ما ليس لغيره من الشهور، حتى جعل أجر صائميه متجاوزًا العشرة أمثال، والسبعمائة ضعف، إلى ما يزيد على ذلك مما لا يحدّ ولا يعد، فقال عليه الصلاة والسلام متحدثًا عن ربه عز وجل: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)). فكل الأعمال يمكن أن تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه عند حد، ولا يتوقف عند عدد؛ لأن الصيام تعبد بالصبر، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
وقد شرع الصيام لأجل الترقي في أعمال التقوى، فكان رمضان مضمارًا للمتسابقين فيها، وميدانًا للمتنافسين على أجورها، فتحصل التقوى بنياتها وأعمالها وأخلاقها.
عباد الله، إن رمضان يحل علينا ضيفًا مضيافًا، يكرمنا إذا أكرمناه، فتحل بحلوله البركات والخيرات، يُقدم علينا فيقدِّم إلينا أصنافًا من الإتحافات والنفحات، ضيف لكنه مُضيف، وربما يكون الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة، أو ربما ينزل هو في ضيافة غيرنا بعد أعمار قصيرة، فهلا أكرمنا ضيفنا؟! وهلا تعرضنا لنفحات مضيفنا؟! يقول ابن رجب رحمه الله: بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرئي في النوم سابقًا لهما، فقال النبي : ((أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة وأدرك رمضان فصامه؟! فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض)) رواه أحمد وابن ماجه وهو صحيح.
نصوم رمضان في كل عام وهَمُّ أكثرنا أن يبرئ الذمة ويؤدي الفريضة، فليكن همّنا لهذا العام تحقيق معنى صومه إيمانًا واحتسابًا ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وهي كثيرة. نحرص كل عام على ختم القرآن مرات عديدة، فلتكن إحدى ختمات هذا العام ختمة بتدبر وتأمل في معانيه، بنية إقامة حدوده قبل سرد حروفه. يتزايد حرصنا في أوائل الشهر على عدم تضييع الجماعة مع الإمام، فليكن حرصنا هذا العام طوال الشهر على إدراك تكبيرة الإحرام. نخص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا الدانية، فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الروح العالية، في كتاب يقرأ، أو شريط يسمع، أو لقاء يفيد. نحرص على اكتساب العمل النافع لأنفسنا، فليكن النفع متعديًا هذا العام بنصائح تسدى أو كتب تهدى، لعل الله يكتب في صحائفنا حسنات قوم دللناهم على الخير، فالدال على الخير كفاعله. لنفسك وأهلك من دعائك النصيب الأوفى كل عام في رمضان، فلتتخل عن هذا البخل في شهر الكرم، فهنالك الملايين من أهليك المسلمين يحتاجون إلى نصيب من دعائك الذي تؤمّن عليه الملائكة قائلين: ولك بمثله.
أيها المسلمون، إن للقرآن مذاقا خاصًّا في رمضان، ولقيام ليالي رمضان خصوصية عن بقية ليالي العام؛ لقوله : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)). إن للقيام روحًا كما أن للصيام روحًا، وروح القيام هي الخشوع والخضوع والإخبات، وقد كان في صلاة القيام لا يمر بآية تخويف إلا وقف وتعوّذ، ولا بآية رحمة إلا وقف وسأل. استحضِر عند قيامك أنك تمتثل لقول الله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238]. فالقيام وحده بالصلاة لا يكفي ما لم يكن القلب قانتًا لله فيه، وتذكّر ـ وأنت تطيل القيام بين يدي الله ـ وقوف الناس في القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقيامك يوم قيامتك سيقصر ويسهل بمقدار طول قيامك لله في حياتك.
إن الله تعالى ينزل إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه إلى سماء الدنيا كما ثبت في الحديث، فيقول: ((هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، حتى ينفجر الصبح)). وليل المسلمين تحول في عصرنا إلى نهار، بعضه عمار وأكثره دمار، فلا تفوّت ساعات التنزل الإلهي في ليالي رمضان كفواتها في بقية ليالي العام، وسل نفسك يا أخي الحبيب: أين ستكون في ثلث الليل هذا؟ هل في لقاء مع الله، أم في نوم عن مناجاة الله، أم في سهر على معصية الله؟! لقد ذُكر عند النبي رجل نام حتى أصبح فقال عليه الصلاة والسلام: ((ذاك الرجل بال الشيطان في أذنيه)). فإذا كان هذا فعل الشيطان فيمن نام عن الطاعة، فما فعله فيمن سهر على المعصية؟! وإذا كان البعض يستثقل السهر في عبادة الله، فما بال هذا السهر يطول في الغفلة عن الله؟! قيل لابن مسعود : ما نستطيع قيام الليل! قال: أقعدتكم ذنوبكم. وقال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قيدتك خطيئتك".
أيها لمسلمون، إن رمضان ميزان ومقياس نقيس به مدى الغبن الحاصل في الأعمار والأوقات، فهناك من يغبن في العشر الأوائل من شهره، على أمل أن ينشط في أوسطه أو آخره، فيقصر في نوال الفضل، وهناك من ينشط في أوله ويكسل في أوسطه وآخره، فيقصر في نوال الفضل، انشغالاً عن الطاعات أو استثقالاً لها، وهناك من يغبن نفسه في الشهر كله، فيخرج منه كما دخل فيه، بل ربما أسوأ مما دخل فيه؛ لأنه هجر القرآن في شهر القرآن، وأفطر قلبه وإن صام بجسده، ونام عن القيام والعبادة وأقام شهر الطاعة في سهر الغفلة.
يا مذهبًا ساعات عمرٍ مَا لهَا عوض وليس لفواتها إرجاع
أنفقت عمرك في الخسار وإنه وجع ستأتي بعده أوجاع
أيها المسلمون، ومن مكرمات الأيام المعدودات في شهر الصيام أنها مجال للتغير والتقويم على مستوى الأسرة كشأنها على مستوى الفرد. فإذا كان فرض كل فرد فينا أن يتعاهد نفسه بالمراجعة والتقويم في شهر رمضان، فإن من واجبه أيضًا أن يباشر تقويم أهله وأسرته في هذا الشهر الكريم؛ لأنه راع وكل راع مسؤول عن رعيته.
إن شياطين الجنّ رغم تصفيد مردتها وسلسلتهم في رمضان يتحالف بقيتهم من غير المردة مع شياطين الإنس لإفساد ذلك الشهر على عباد الله، فهم يتسابقون حتى قبل أن يبدأ الشهر بشهور لكي يملؤوا الأيام والليالي الرمضانية بما يمرض القلوب، وبدلاً من الاستكثار من خصال الخير والتسابق فيها يستكثرون من الأفلام والمسلسلات والفكاهات والمسابقات واللقاءات الموجهة القميئة غير البريئة، التي لا تفسد في الأرض فقط، بل تملأ الفضاء بالغثاء الغث والخلُق الوضيع. ومن عجيب أمر العابثين بحرمة الزمان في رمضان أنهم يغررون بالأمة، فيضاعفون أمامها في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية وجبات حافلة بالمفطرات المعنوية من مغريات الشهوات، فيتقلب المرء في أيام رمضان وهو يظن أنه صائم وقد تسحر بالشرور وأفطر على الفجور، وتقلب في مساخط الله بين سحوره وفطوره. والمفطرات المعنوية من الشهوات المحرمة في رمضان ليست مقصورة على تلك المتعلقة بشهوات العيون والآذان والفروج، بل إن منها ما يتعلق بشهوات البطون، فقد تكون أموال الإنسان محرمة فتُستجلب بها الأطعمة فتكون مثلها محرمة، والإنسان يخطئ كثيرًا عندما يظن أن الطعام مجرد مواد تدخل في الجسد ثم تخرج منه، ويزداد خطورة عندما يظن أن ما يدخل في جوفه من حلال أو حرام يكون سواء، بحيث لا يؤثر على وظائف الأعضاء.
مسؤوليتك ـ أيها المسلم ـ أن تقوم بدورك في رمضان للتصدي لحملات تصدئة الأرواح، التي يقوم عليها لصوصٌ مهمتهم سرقة القلوب أيام الطاعة؛ حتى لا ترق بتلاوة أو صيام، ولا تصبر على ذكر أو طول قيام، ولا ترعوي بحفظ سمع ولا بصر ولا فؤاد، اسمع قول الله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]. لتعلم أن كلا منا سيسأل عن هذا السمع والبصر والفؤاد، سواء عن نفسه أو عمن استرعاه الله من رعية وما استحفظه من أمانة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. أرأيت إلى من ترك أهله في الشهر الكريم يضيعونه ويفوتون أيامه، ويضحون بلياليه أمام المفسدات، هل وقى أهله النار؟! أرأيت إلى من أهمل طاعتهم فيه كما يهملها في غيره، هل اتقى الله فيهم؟!
باشِر أحوال أسرتك وأولادك في حفظ الصيام، واصحبهم في الذهاب للقيام، وتفقد أحوالهم مع القرآن، وراقب ترقيهم في مراتب الطاعة والإيمان، وبخاصة في الصلاة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132]. ورمضان موسم لإقامة شعائر الله، ولزمانه حرمة ضمن حرمات الله، ومن تعظيم حرمات الله في شهر الصيام أن لا نُدخل فيه على أهلينا ما يعكر صفو أيامه ولياليه بصور الفحش والبذاء وأصوات الغنا والخنا الذي ينسي الناس القرآن حتى في شهر القرآن.
ومن تعظيم حرمات الله في شهر الصيام أن لا نترك أبناءنا يضيعون فيه الصلوات مع الجماعة؛ لأن في هذا إضاعة للنفس وتعريضًا لها إلى سبل الهلاك.
ومن تعظيم حرمات الله في شهر الصيام مع الأبناء أن نحيي فيهم خلق الحياء، وعلى رأس ذلك الحياء من الله، فهو لب الصيام وروحه وخلق الصائمين وسمتهم.
ومن تعظيم حرمات الله في شهر الصيام أن لا نحوّله من شهر إمساك إلى شهر استهلاك، ومن موسم ذكر وصلوات إلى موسم غفلة وشهوات، فيرتسم في مخيلة الأجيال أن شهر رمضان هو موسم الترف والترفيه ومناسبة للسفاهات والتفاهات التي تحوّل ليله إلى نهار غفلة.
يمكنك أن تجعل رمضان ـ أخي المسؤول عن رعيته ـ برنامجًا مطولاً من ثلاثين يومًا، فتحوله إلى مخيم منزلي لدورة مكثفة للأسرة، تعيد فيها ربطهم صغارًا وكبارًا بالقرآن، فتتعاهد أحوالهم فيه، وتراجع معهم ما حفظوه، وتسترجع منهم ما نسوه، وتناقشهم فيما فهموه وتعلّموه.
وفي برنامج رمضان المنزلي يمكنك أن تعيد تأهيل أهلك لسلوك درب الاستمساك بالهدي النبوي، ولتكن البداية ربطهم بهدي النبي في الصلاة والصيام، ويمكنك في برنامج رمضان المنزلي أيضًا أن توطن أسرتك على أخلاقيات الإسلام، من خلال التآلف مع أخلاقيات الصيام التي تحض على حفظ الأسماع والأبصار والأفئدة، وتدعو إلى الجود والسماحة ولين الجانب وحب الخير للناس. وفي برنامج رمضان المنزلي أيضًا تستطيع تعويد أهلك وأبنائك على تعظيم الحرمات الدينية بتعظيم حرمة رمضان الزمانية، فمن يصون رمضان لله يصون ما بعده وما قبله لله، فالقربى من الله والزلفى إليه لا تقتصر على شهر دون شهر.
انتبه فإنك فرد في جماعة كبيرة، وكل فرد في جماعة المسلمين تلك له عليك حقوق، كما أن لك تجاهه واجبات، وأولى لك وأحرى بك أن تتحرى أحوال إخوانك في شهر الجود وتتفقد احتياجاتهم في شهر الكرم. فمن إخوانك من قد لا يجد تمرات يفطر عليها أو مذقة لبن يبل ريقه بها، بينما قد تتزاحم الأصناف على مائدتك، فلا تدري أي صنف تأخذ وأي نوع تدع. قد تتقلب في مراتع الراحة آمنًا وفي منازل الهدوء والسكينة مطمئنًا، وفي إخوانك من ينامون تحت مطارق القلق ويصحون على هجوم المخاطر، في بلدان تتلون فيها البلاءات خوفًا وجوعًا وبردًا وحرًا، مع نقص في الأموال والأنفس والثمرات. وقد تتعدد مراكبك وتتنوع مفارشك وتتلون أصناف متاعك وأقسام أموالك، ومن إخوانك من لا يجد مثوى يؤويه أو مسكنًا يداريه أو مركبا يحمله إلى مسيس حاجته وعاجل ضرورته. وقد تهنأ بالعافية والصحة في رفاه وسعد وطمأنينة ورغد، وغيرك من الإخوان يقارعون الشدائد ويقاسون المرض ويتشوقون إلى كرام يباشرون أحوالهم أو أوفياء يتذكرون معاناتهم.
أخي الكريم، عندما تجود على إخوانك فإنك تجود على نفسك، وأنت بعطائك تقرض رب العالمين قرضًا حسنًا سوف يوفيه لك في يوم يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه، سوف تلقى عطاءك وتقطف ثمرة جودك في يوم فقرك وظرف ضرورتك، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ما من موسم من مواسم العام يعان فيه الإنسان على أعدائه مثل شهر الصيام، فعدو الإنسان الأكبر وهو الشيطان الرجيم وذريته يقيَّدون في رمضان، ويمكّن المؤمن من إلحاق الهزيمة بهم في هذا الشهر؛ ليكون في ذلك دُربة له على مواجهتهم في بقية العام، والمعركة الكبرى للإنسان مع الشيطان لا تنتهي، ولعل في هدنة رمضان فرصة لالتقاط أنفاس الإيمان لجولات أخرى يرغم فيها أنف اللعين، وتعان النفس على الصمود أمام نزعه ونفثه ونفخه. يقول ابن رجب رحمه الله: "أبشروا يا معشر المسلمين، فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد تفتحت، وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة، وأقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة، اقصموا ظهره بكلمة التوحيد، فهو يشكو ألم الانكسار في كل موسم من مواسم الفضل، ففي هذا الشهر يدعو بالويل لما يرى من تنزل الرحمة ومغفرة الأوزار، غلب حزب الرحمن، وهرب حزب الشيطان".
ويبقى عدوَّان للإنسان بعد عداوة الشيطان، وهما النفس الأمارة بالسوء والهوى المضل، وللإنسان أيضا عليهما أعوان في رمضان وفي غير رمضان؛ فالنفس الأمارة بالسوء يستعان عليها بالقلب الحي السليم الذي ينازعها في منازعها ويوجهها إلى وجهات المعالي بترفعه عن سفساف الأمور.
وأما الهوى فيغالب بالعقل، فما أنعم الله تعالى على الإنسان بالعقل إلا أنه عقال للهوى، يمنعه من الخفة التي تطير به إلى الهاوية، فما سمي الهوى بالهوى إلا لأنه يهوي بصاحبه إلى كل هاوية ويقوده إلى كل داهية، أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 43، 44].
لسانك له عبادة في رمضان، بعضها ذكر وبعضها صمت، فالصمت من معاني الصوم، كما قالت مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم: 26]. وصومها المنذور كان صمتا وسكوتا عن الكلام، أما الصمت المطلوب في صومنا فهو الإمساك عن ذنوب اللسان والكف عن آفات النطق، فالنطق والكلام آفات هي حصائد الألسنة التي قال عنها النبي : ((وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)). وإذا لم يحفظ الإنسان لسانه من تلك الآفات المحرمة في صيامه فماذا يفيده صومه؟! وهل تتحقق به التقوى المنشودة من الصوم؟! إن آفة واحدة من آفات اللسان وهي قول الزور تذهب بروح الصيام وتزهقها، فقد قال رسول الله : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
مشكلتنا أننا قد لا نتصور الثمن الباهظ الذي يمكن أن ندفعه لقاء امتلاء صحائفنا بحصائد الألسن وأرصدة الكلام، ولتقريب الأمر لنتصور أن مكالماتنا ومحادثاتنا خلال عام مثلاً جاءتنا في فاتورة كفاتورة الهاتف، لكن فيها عدد المكالمات ووقتها وما فيها من حق وباطل وخير وشر، وكم احتوت من ثواب واشتملت على إثم، فكم ستكون صفحات تلك الفاتورة؟! وكم سندفع مقابل كل صفحة منها؟! من العجائب أن أحدنا إذا تسلم فاتورة الهاتف التي تسجل مكالماته في دقائق لا تقاس بساعات وأيام عمره ثم وجد تلك الفاتورة بدقائقها وثوانيها عالية التكلفة فعليًا تصبب عرقًا، وتأمل في مكالماته هذه التي جلبت عليه تلك التكلفة العالية، هل تستحق أن تدفع فيها هذه المبالغ؟! وهل كانت لها قيمة توازي التكاليف؟!
بعض الناس يأخذ نفسه بحزم زائد، فيطلب أن يكون هاتفه للاستقبال فقط وليس للإرسال حتى لا يضطر لدفع تكاليف الإرسال، والحصيف يفعل هذا مع لسانه، عندما يحيل بعض مهامه إلى الأذن، حيث يسمع أكثر مما يتكلم، فهو يخشى أن لا تكون له قدرة على سداد فواتير كلامه يوم الحساب.
وأخيرًا: هل لك في مناسبة تستدرك فيها ما فات من عمرك؟! هل لك في ساعات تضاعف الأعمال فيها بالآلاف والمئات؟! هل لك في أمسية تصافحك فيها الملائكة وسيد الملائكة جبريل عليه السلام، فيسلمون عليك ويدعون لك ويؤمّنون على دعائك؟! هل لك في لحظات إن وافقتها أخرجتك من ذنوبك التي قدمتها؟! هل لك في ليلة لا تدرك قدرها العقول ولا تفي بوصفها الألسنة؟! إنها ليلة القدر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر: 2]، فإن فزت فيها فأنت الفائز، وإن حرمت منها فأنت المحروم، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 3-5]. فقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله قالت: يا رسول الله، إذا شهدت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني)).
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحِفا
رب فاعف عنه وعافه فلأنت أولَى من عفا
عن الحسن رحمه الله قال: "إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون".
وفي آخر الشهر يا ليت شعري من المقبول فتقدم له التهاني؟! ومن المحروم فتقدم له التعازي؟! أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المحروم جبر الله كسرك.
اللهم بلغنا رمضان...
(1/5004)
الألم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرضى والطب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/10/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الألم من نعم الله على عباده. 2- من فوائد الألم. 3- كيف نخفّف من آلام الحياة ومشاقها؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد أنعم الله على الإنسان بنعمه الوفيرة، فقال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا. وقد يكفر الإنسان ببعض هذه النعم جاهلاً أو غافلاً؛ إذ قد يبدو الشيء في ظاهره نقمة لكنه في حقيقته نعمة، ومن ذلك نعمة الألم الذي قد لا نرى منه إلا وجهًا واحدًا فقط، وهو جانب الشقاء والعذاب، مع أن الألم من نعم الله تعالى.
أيها المسلمون، إن الألم يختلف من شخص لآخر، فقد يكون نفس الألم حادًا لأحد الأشخاص، وقد يسبب ألمًا أخف لشخص آخر. وأحيانًا يكون الألم عند بعض الناس متضخمًا، بينما يكون عاديًا عند آخر.
وتتنوع أسباب الألم، فبعضها بدني مادي، والآخر نفسي. أما الأسباب الجسمية المادية فنحو: الجوع والعطش والجروح والحروق وغيرها. والأسباب النفسية مثل: القلق والهم والمخاوف وغيرها. والناس عادة ما يقرنون الألم بالإصابات البدنية أو المرض، متناسين أن الأحاسيس أو العواطف يمكن أن تسبب ألمًا أيضًا.
ولا شك أن تحديد سبب الألم ومعرفة مصدره بدقة من الأمور الضرورية لعلاج الألم أو الوقاية منه مستقبلاً، وإن كان يصعب أحيانًا تحديد مصدر الألم، وأحيانًا يلتبس، وهذه الآلام المجهولة السبب أو المصدر من أخطر أنواع الآلام، فقد تتحول إلى آلام مزمنة تهدد راحة الإنسان زمنًا طويلاً.
أيها المسلمون، إن الألم ليس شَرّا خالصا، ويخطئ كثير من الناس عندما يقرنون الألم بالشر والإحساس بالبغض أو الكُره. والنظرة المتأنية والتفكير العميق الذي يقلب الأمور على جميع أوجهها ويبحث عن الحقيقة من جميع وجوهها يثبتان عكس ذلك، فالله سبحانه هو خالق كل شيء، والألم شيء من الأشياء، ومن صفاته سبحانه أنه حكيم خبير، ومقتضى حكمة الله أن لا يخلق الشيء عبثًا دون نفع أو جدوى، فمن المؤكد إذن أن ثمة منفعة من ورائه للبشر، عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلها. وما علينا إلا أن نتريث ونتأمل هذه الآلام، وندرسها بشيء من المثابرة والتعمق؛ لنعرف ثمارها وفوائدها أو الحكمة منها.
للألم فوائد متنوعة، بعضها مادي، وبعضها نفسي معنوي، وبعضها يتحقق للفرد، وبعضها يتحقق للجماعة أو الأمة. فمن فوائد الألم:
أولاً: أنه منبه يجعلك تحس بناقوس الخطر من المؤثر الخارجي أو الداخلي، فبذا يكون الألم وقاية للإنسان من آلام أكبر، هذا بالنسبة للألم المادي. وكذلك الحال بالنسبة للألم النفسي، فإن الألم النفسي الناشئ عن خوف العبد من عذاب الله يقيه من وقوع العذاب الأليم به في الدنيا أو الآخرة، ومن ثم فإننا نرى أن العذاب وُصِف في كتاب الله في اثنين وسبعين موضعًا بكلمة (أليم).
ثانيًا: الألم ذو فائدة دينية عظيمة، فهو ابتلاء، والابتلاء مع الصبر نعمة تستوجب الشكر، فيطهِّر الله به الإنسان من الآثام والذنوب، بل إن الله إذا أحب عبدًا واصطفاه ابتلاه، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤُه، وإن كان في دِينه رِقَّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركهُ يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)). فالألم يصهر مَعْدِن الإنسان المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خُلقه، وتَطْهُر نفسه، فألم الابتلاء سبيل إلى لذة التقوى ونعيم القرب من الله، وهل يبرق الذهبُ إلا إذا ذاق آلام النار؟!
ثالثًا: الآلام قد تصحح مسار المسلم وتفيقه من غفوته، فيرجع عن سالف عهده من الذنوب والمخالفات، فمن رحمة الله أنه جعل الآلام نذيرًا لخطر داهم وعقوبة شديدة، فإذا أفاق العبد وتضرع إلى الله رفع عنه الضر، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 93]، فإذا لم يفقه المسلم حكمة الله في هذا الابتلاء وتمادى في غيه حقت عليه كلمة العذاب، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.
رابعًا: الألم قرين الإحساس، والإحساس آية الحياة، ولا يمكن أن تُتصور حياة خالية من الإحساس، فمن أراد أن يعيش بلا ألم ومعاناة فقد اختار لنفسه الموت لا الحياة، وقد خلق الإنسان في كبد ونصب كما قال تعالى مقسمًا: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد. حقيقة قرآنيّة وواقع بشري، إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها، منذ بدأ يخلَّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة. هكذا قدّر الخالق وأخبر: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد. ويستمرّ الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان، فهو يكابد حين يتعلم، ويكابد حين يفكّر، وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب. ثم يكبر ويشتدّ عوده وتبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد، ولئن اختلفت الطرق وتنوّعت المشاق فالكلّ في كبد. هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، والفرق: هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها، هذا يكدح في سبيل الله، وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزوة، وصدق الله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى.
لا يفارق الكبدُ الإنسانَ في أطوار حياته كلها، كبد وكدح في مرحلة الشباب، وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم، إنه الكدح للغنيّ والفقير والذكر والأنثى والسيّد والمسود، وكلّ يعايش نوعا من الكبد، فالفقير الذي يتكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة العوز أو همّ الدين وغلبته وقهر الرجال ومطاردتهم قد لا يظنّ أن غيره في كبد، بينما ترى الغنيّ يكابد في تجارته ويفكّر في مكاسبه وخسائره. إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وإن كانوا في أبراج عاجية وقصور وخدم وحشم، فللمسؤوليّة كبدها، وللزعامة والرئاسة ضريبتها، وللأمانات والمسؤوليّة حمالتها. والكبَد لا يعفى منه العلماء وإن وصلوا إلى مراتب عليّة في العلم والمعرفة، وهل حصّلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلا على جسور من التعب والكبد والسهر؟! إن نصب العالم كامن في مسؤولياته، فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كلّ ذلك فيه كبد ونصب، والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وخشية العلماء لربّهم كل ذلك لا يتأتّى دون نصب وكبد وجدّ ومجاهدة.
أين من يسلم من الكبد وإن تفاوت أنواع الكبد؟! إن الله قدّر أن يعمّر الكون بالكبد، وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب والألم، يَا أَيُّها الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه.
خامسًا: من فوائد الآلام أيضًا أنها تربي فينا نعمة الإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة، فيتحقق بذلك التكافل الاجتماعي، فالغني يتألم للفقير فتكون الصدقة والزكاة، والمقتدر يتألم للمعوزين فتكون المشروعات الخيرية، والقوي يتألم للضعيف فيكون العون والمساعدة، والعالم يتألم لمأساة مجتمعه ومعاناة أمته فيحمله ذلك للمزيد من البذل والتوضيح والبيان والإرشاد، وأن تكون له مواقف تتناسب مع حجم معاناة وآلام الأمة.
سادسًا: الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية، فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء. ولا غرو إذا علمنا أن الأعمال الشاقة تزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، ولنا في أنبياء الله أسوة، فإدريس عليه السلام كان خياطًا، ونوح عليه السلام كان نجارًا، وداود عليه السلام كان حدادًا، وموسى عليه السلام كان راعيًا للغنم، وكان محمد راعيًا للغنم كذلك، مع ما في الرعي من تعلم الصبر وتعوُّد حسن سياسة الرعية. قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة : ((ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).
سابعًا: تسهم الآلام في صنع مستقبل الشعوب وقيام حضاراتها، فكثير من الأمم عانت آلام التخلف والفوضى ردحًا من الزمان، فما كان منها إلا أن تحسست خطاها نحو العلم والحضارة، فأوروبا كانت تعيش في ظلام دامس في العصور الوسطى، ثم ما لبثت أن قامت الثورة الصناعية ثم الحضارة الغربية التي يزهو العالم بها اليوم، وإن كانت حضارتها اليوم سببت لها ألوانًا وأنواعًا من الآلام بسبب انحرافها عن منهج الله جل وتعالى، وربما تكون هذه الحضارة المنحرفة سببا في تعاستها وشقائها.
أيها المسلمون، والمؤمن في هذه الحياة وهو يدافع عن دينه ضد خصوم الشريعة وأعداء الملة يشعر بالألم، وقد يفقد حياته في سبيل دينه، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد ، يَا أَيُّها الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه.
فيا أيها المؤمن، لا بد لك من الألم في هذه الحياة، ولا يمكن أن تستمر الحياة بدون ألم، والله بحكمته وعدله ركب الألم في الإنسان وهو العليم الخبير؛ ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، فالألم ليس مذمومًا دائمًا، فقد يكون هذا الألم خيرًا للعبد من عدمه. فالدعاء الحار المستجاب بإذن الله يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله والصبر على أدوائها يكون معه ألم، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم. وتأمل الطالب حال التحصيل، فحمله لأعباء الطلب يثمر عالمًا فذًا، لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة ولم تنضجه الأزمات ولم تكوه الملمات فهذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاترًا، فكمال النهايات يكون بألم ومشقة البدايات.
وأسمى من ذلك وأرفع حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيمانًا، وأبر قلوبًا، وأصدق لهجة، وأعمق علمًا؛ لأنهم عاشوا الألم والمعاناة؛ ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلامًا في النبل، ورموزًا في التضحية، قال الله تعالى: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)) رواه الترمذي. فأخبر النبي أن الخائف المسرع في مرضاة الله هو المحصّل لجنة الله الغالية، خلافًا لغيره. وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله فقال له: متى الراحة؟ قال: عند أول قدم نضَعها في الجنة.
كيف هُدمت قلاع الشرك والنفاق؟ وكيف قُوِّضت دولة الكفر في فجر الدعوة؟ كيف انتشر الإسلام وعمّت ربوعه نواحيَ كثيرةً من الأرض في فترة وجيزة من عمر التاريخ؟ كل ذلك وغيره لم يحصل إلا بشيء من التضحية والمعاناة والألم؛ لذلك كان الألم نعمة من نعم الله على العباد، وحافزًا لهم لابتغاء مرضاته، والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد ملذوع النفس أرق له وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر فاتر الهمة خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ.
إنك ـ يا عبد الله ـ مخيّر بين أن تسلك أسباب التوفيق، أو أن تسلك أسباب الخذلان، وكلاهما من خلق الله، فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة له، وخلق جل وتعالى الشجر، هذه تقبل الثمرة، وهذه لا تقبلها، وخلق النحلة قابلة لأن يَخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وخلق الزنبور غير قابل لذلك ، وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضدّه، وهو الحكيم العليم. فاختر ـ يا عبد الله ـ لنفسك ما تشاء.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لا يكفي أن نعلم ألم الحياة وشمولها لبني الإنسان، ولكن المهمّ كيف نتعامل مع هذا الألم؟ وكيف نستفيد من هذا الألم؟ وما نهاية الألم وثمرته؟ وكيف نخفّف من آلام الحياة ومشاقها؟
إن المسلم يختلف عن غيره في نوع التألم والكبد وغايته، فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه ما دام يعبد الله ويخشاه، فما يصيبه من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غمّ ولا حزن حتّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات، إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربّه، مطمئنّ أنه سيجازى على جهده وعمله، ومن هنا فهو يستحسن من المكابِدِ ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء. أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة، ولكن نصبه يستمرّ بعد الممات، فالنهاية مؤلمة والشقاء مستمرّ ولعذاب الآخرة أشقّ.
المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة، وحسبك بهما معينًا، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين ، ومساكين هم الذين يجزعون ولا يصبرون، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُون. وغير المسلم يتضجّر ويقلق، ثم يعود للقلق والنصب إن لم يقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق، وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم. ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة، وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات، وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانًا مبينا.
عباد الله، والاستغفار يخفّف الكبد ويعين على مشاقّ الحياة ويفتح بابًا للرزق، وفي الحديث: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجًا، ومن كلّ ضيق مخرجًا، ورزق من حيث لا يحتسب)) ، قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارا.
ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصوّر المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة ومشاقها أن فيه من هو أشدّ منه قلقًا وضيقًا، ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبقه وفُضِّل عليه، فهذا يخفّف من آلامه الدنيويّة، وهذا يزيد في سعيه للآخرة.
اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك...
(1/5005)
أسلحة الأمة (2)
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/10/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تصحيح مفهوم القوة. 2- الأسلحة المعنوية للأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحرب مع الأعداء لا تكاد تعرف إلا منطق القوة، سواء أكانت هذه القوة حسية مادية أم قوة معنوية غيبية، لذا قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم. ومن الخطأ الفادح تقويم معادلة القوة بالنظر إلى أحد جانبيها الحسي أو المعنوي مع إغفال الجانب الآخر. وأعظم من ذلك خطأ الاعتماد على جانب دون الجانب الآخر، كمن يعتمد فقط على نصر الله لعباده المؤمنين انطلاقًا من قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون ، فيدعوهم ذلك إلى ترك الأخذ بالأسباب المادية، أو يرى أن عدم التكافؤ في الأسباب المادية يوجب الهزيمة والاستسلام، ويظن أنَّ مواجهة الأعداء مع عدم التكافؤ المادي الحسي التقني إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والحق أن قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَة جاء في سياق الآيات وهي تلفت النظر إلى الجانب الأهم للقوة، وهو جانب معية الله لعباده المتقين، قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكةِ وَأَحسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُحْسِنِين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله). ولما قام رجل من الصحابة في غزوة القسطنطينية فحمل على العدو حتى دخل فيهم ثم خرج صاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله فقال: إنكم تتأولون هذه الآية، إنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرًا من رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به، فقال تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَة ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن تحت أسوار القسطنطينية.
أيها المسلمون، إن مواجهة أهل الإيمان لعدوهم الذي يتفوق عليهم بالعدة والعدد مهما كان الفارق بينهم ومهما ملك العدو من وسائل الحرب المتطورة ليس من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة إذا بذلوا ما في وسعهم لإعداد العدة الحسية والمعنوية لمواجهة عدوهم ولو كان شيئًا يسيرًا، فإن الغلبة والنصر إنما هي من عند الله، كما قال سبحانه: وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيم. ويزيد الأمر وضوحًا إذا عرف المؤمن أن معادلة القوة تكون لصالحه إذا كان يملك إلى جانب ما يستطيع أن يعده من القوة الحسية تلك الأسلحة التي لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف أمامها، ونقصد بها ما يلي:
السلاح الأول: معيَّة الله لعباده المؤمنين، لا شك أن ميزان القوى ومعادلة التكافؤ بين الأطراف المتحاربة تخضع لمن يناصر كل طرف، ومن يقف بجانبه ويؤيده، وإن كان بمجرد التأييد العاطفي والتشجيع المعنوي، فكيف تكون المعادلة إذا كان الله جل وعلا مع أهل الإيمان يؤيدهم وينصرهم؟! كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تشْكُرُون ، وقال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَار ، وقال تعالى: إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون. فهو معهم سبحانه وتعالى بالإعانة والكفاية والنصر والتأييد والهداية والتوفيق والتسديد، وغير ذلك مما تجفو عبارة المخلوق عنه ويقصر تعريفه دونه، وهذه هي معية الله الخاصة لأحبابه وأوليائه.
ومن كان الله معه كان النصر حليفه مهما ملك عدوه من قوة، وأصبح ذلك العدو أحقر من الذباب في نظره وإن كانت الأسباب المادية كلها في يده، كما قال موسى عليه السلام حينما خرج فرعون بغطرسته وجنوده يطاردونه هو والقلة المؤمنة معه، حتى قال فرعون: إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون. وهذه المفارقة العظيمة بين الطرفين جعلت بعض من كان مع نبي الله موسى عليه السلام يقول: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، ولكن موسى عليه السلام لما كان يعي حقيقة المعادلة قال: كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين. ثم قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنا الآخرِينَ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِين.
وكذلك نبينا حينما خرجت قريش بغطرستها وكبريائها تطارده، فأوى إلى الغار ومعه صاحبه الصديق ، وما كانا يملكان من القوة المادية شيئًا يذكر، حتى خاف أبو بكر على النبي حينما رأى أن القوم قد وصلوا إليهم، ولكن الثقة بموعود الله جعلت النبي يُطَمئن صاحبه ويقول: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا، كما قال سبحانه وتعالى: إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم. وحينما تمتلئ قلوب أهل الإيمان يقينًا بأن الله معهم لن يأبهوا بعدوهم مهما يكن معه من قوة.
السلاح الثاني: قتال الملائكة في صفوف المؤمنين، فقد ثبت بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة أن الملائكة شاركت في قتال المشركين يوم بدر، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إذْ تَقولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِين ، وقال سبحانه: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان. وقد رأى الرسول الملائكة في غزوة بدر، وقال: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب)). بل إن رؤيتهم لم تكن مقتصرة على النبي ، ففي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، لم أرهما قبل ولا بعد. قال ابن حجر في الفتح: "هما جبريل وميكائيل، كذا وقع في مسلم من طريق أخرى". ولم تكن مشاركتهم مقتصرة على غزوة بدر، فقد حاربت الملائكة في مواقع أخرى، ففي غزوة الخندق يوم الأحزاب أرسل الله ملائكة تقاتل في صفوف أهل الإيمان، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا.
فإذا علم ذلك فإن الملائكة خلق من خلق الله تعالى، وقد أوتوا من القدرة ما يعجز عنه الوصف، وقد رفع جبريل قرى قوم لوط بطرف جناحيه إلى السماء ثم فلتهم كما ذكر ابن كثير في تفسيره عن مجاهد. فسبحان الله! كيف يُهزم جندٌ يقاتل معهم الملائكة؟! وهذا من أهم الأسرار التي تجعل كفة الغلبة والنصر في أكثر الغزوات ترجح لصالح أهل الإيمان رغم عدم التكافؤ في العدد والعدة.
السلاح الثالث: مؤازرة مسلمي الجن لإخوانهم المؤمنين، الجن خلق من خلق الله تعالى، خلقهم الله تعالى قبل خلق آدم عليه السلام، فكانوا أول من سكن الأرض كما قال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُون وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم. وقد وهبهم الله تعالى من القدرات العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، وقد بين سبحانه في كتابه شيئًا من ذلك، كما في قصة سليمان عليه السلام حينما طلب إحضار عرش ملكة اليمن بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس، فقال عفريت من الجن: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين. ويدل على ما أوتوا من القدرات الهائلة قدرتهم على اختراق الفضاء ووصولهم إلى السماء كما قال سبحانه عنهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبا. ومما لا شك فيه أن فيهم الصالحين الذين تعلقت قلوبهم بحب الله، كما قال تعالى: وَأَنّا مِنّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا.
السلاح الرابع: الرعب، وهو أن يقذف الله سبحانه وتعالى في نفوس أعدائه المهابة والخوف الشديد الذي تخور معه قواهم وتضطرب أفكارهم وتتوتر أعصابهم، وهو من أعظم أسباب النصرة لأنبيائه وأوليائه، فإن القوة الحقيقية هي قوة الفؤاد وثبات الجأش، وقد جعله الله من خصائص هذه الأمة المباركة. ففي صحيح البخاري عن جابر أن النبي : ((أعطيت خمسًا لم يعطها أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت الأرض لي مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)). وقد قال الله سبحانه وتعالى: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان ، وقال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا. وفي المقابل فإن الله سبحانه وتعالى يربط على قلوب المؤمنين، وينزل عليهم السكينة حتى يصل بهم الحال إلى النعاس لما يجدونه في قلوبهم من الطمأنينة والسكينة، إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْه. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط فآخذه.
السلاح الخامس: التكبير، وهو أن يهتف أولياء الله وأحباؤه من المؤمنين بلا إله إلا الله والله أكبر، فيكون لها من الأثر الحسي والمعنوي في أعداء الله ما لا تثبت أمامه قوى الأرض، بل تتلاشى وتضمحل أمام تكبيرات أهل الإيمان الصادقين المخلصين الذين نصروا الله في أنفسهم فانتصروا. في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون)). ويوم القادسية قال سعد بن أبي وقاص لجيشه: (الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئًا حتى تصلّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، واعلموا أنما أعطيتموه تأييدًا لكم، ثم إذا سمعتم فكبروا، ولتستَتِمَّ عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس، ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله). ولا شك أن التكبير من جملة الذكر الذي أمر الله تعالى به عند ملاقاة العدو، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ، ولكن له ميزة خاصة كما تقدم.
السلاح السادس: التقوّي بإقامة الصلاة وحسن الصلة بالله تعالى، الصلاة هي الصلة بقيوم السماوات والأرض، فإذا اتصل العبد بالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر سبحانه وتعالى وكان حَسَنَ الاتصال بربه فإنه يفوز بكل ما يصبو إليه، فإن دعا استجيب له، وإن استنصر نُصِر، ومن هنا فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكيف لا يكون والله جل وعلا يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين ؟! ولهذا قال علي : لقد رأيتنا يوم بدر وما منا إلا نائم، إلا رسول الله فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح.
السلاح السابع: الدعاء، وهو طلب النصر والغلبة على الأعداء من الله الواحد الأحد جل في علاه، وقد كان نبينا يفزع إلى ربه جل وعلا في غزواته ويلح عليه بالدعاء، ففي غزوة بدر بات رسول الله يدعو ربه ويقول: ((اللهم إن تهلك هذه الفئة لا تُعبَد)) ، وفي صحيح مسلم أن النبي يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض)) ، فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه: إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين.
ولا شك أن الدعاء سلاح لا يقاوم، وقد كان السلف الصالح يعدون الدعاء من الأسلحة التي لا غنى لهم عنها في حروبهم وغزواتهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء ـ أي: البراء بن مالك ـ أَقسِمْ على ربك، فيقول: يا رب، أقسمت عليك لما منحتني أكتافهم، فيُهزم العدو. فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمُنحوا أكتافهم وقُتِلَ البراء شهيدًا". وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، السلاح الثامن: التخلق بأخلاق الصالحين، هذا النوع من السلاح الذي ينصر الله بسببه أهل الإيمان من المجاهدين في سبيله، وهو من أعظم الأسلحة، بل إن كل الأسلحة والأسباب المتقدمة مبنية على هذا النوع المبارك، فإن معية الله الخاصة لأوليائه إنما تكون لأولئك، وكذلك نصرة الملائكة وغيرهم من جنود الله إنما تقاتل نُصرةً لعباد الله الصالحين.
وهكذا كان دَأبُ الصالحين، فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنَا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة وطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكُمّه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنّع علينا ـ يعني يفضحنا ـ. وهذا كثير جدًا في أخبار الصالحين.
وقد كان القادة من أهل الإسلام يعتنون بهذا النوع من السلاح أيما عناية، وحين أبطأ على عمر بن الخطاب فتحُ مصر كتب إلى عمرو بن العاص : (أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر! تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله سبحانه لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، وهم: الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحضهم على الصبر والنية، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس أن يكون لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة وقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله سبحانه وتعالى وليسألوه النصر على عدوهم). فلما أتى عَمْرًا الكتابُ جمع الناس وقرأ عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله سبحانه ويسألوه النصر، ففتح الله عليهم.
ومن هنا نهمس في أذن كل مسؤول ممن ولاه الله أمرًا من أمور المسلمين، وخاصةً قادة الجيوش الإسلامية، فنقول: اعلموا أن أوجب الواجبات عليكم أن تربّوا جنودكم على تقوى الله وطاعته، مبتدئين في ذلك بأنفسكم ومن هو دونكم، فإن أنتم فعلتم ذلك نصركم الله على عدوكم، ومكّن لكم كما نصر أسلافكم ومكن لهم، وإن لم تفعلوا كنتم سبب تخلف النصر عن أمة الإسلام وتمكين الأعداء من أمتكم، وبؤتم بإثم ذلك، ثم يستبدلكم الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيجعل الله النصر والتمكين على أيديهم. فكونوا أنتم أولئك يكتب لكم النصر واسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين.
السلاح التاسع: أسباب السماوات والأرض، ومما ينصر الله به عباده المتقين أن يسخر لهم أسباب السماوات والأرض التي لا يحيط بعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، من الريح والزلازل والخسف وإمطار الحجارة من السماء والصواعق المحرقة والأسقام والأوجاع المؤلمة وتسليط الحشرات وغيرها مما يسلطه جل وتعالى على من يشاء من أعداء الملة وخصوم الشريعة.
أيها المسلمون، وهذا بالطبع لا يعني الاستغناء عن الأسلحة التي تصنعها الحضارة؛ لقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم.
(1/5006)
نصائح في الاختبارات
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
خالد بن محمد العمري
المخواة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التأهب للاختبارات. 2- وقفات مع الطلاب والطالبات. 3- كلمات للمعلمين والمعلمات. 4- التذكير بالحساب والعقاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين في كتابه المبين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، وبوصية رسولنا الأمين حيث قال: ((اتق الله حيثما كنت)).
أيها الإخوة في الله، تعيش بيوتنا هذه الأيام حالة تأهب واستنفار كاملين استعدادًا للاختبارات النهائية، التي سيؤديها أبناؤنا وبناتنا بعد ساعات معدودة، وينهون بها عامًا دراسيًا كاملاً حافلاً بالعلم والعطاء والجد والمثابرة والاجتهاد.
ولنا مع الاختبارات هذه الوقفات للطلاب والطالبات:
أولها: الوصية بتقوى الله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ففيها المخرج من كل كرب وضيق، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وفيها تسهيل الأمور وتيسيرها، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
ثانيها: المحافظة على الصلوات وأداؤها في أوقاتها والاستكثار من النوافل، فهي مما يعين بحول الله وقوته على حصول ما يُؤمَّل من التفوق والنجاح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "أمر الله تعالى عبيده بالاستعانة بالصبر والصلاة فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة". وعن حذيفة قال: كان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ثالثها: التوكل على الله جل وعلا والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه وحده، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، أي: كافيه الأمر الذي توكّل عليه فيه، وإذا كان الأمر في كفالة الغني العزيز الرحيم فهو أقرب إلى العبد من كل شيء.
وحذار ـ أيها الطلاب والطالبات ـ من الاعتماد على الذكاء والحفظ أو النبوغ والفهم وترك الاعتماد على الله، فها هو النبي كان يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)).
رابعها: الإلحاح في دعاء الله جل وعلا بالتوفيق والنجاح، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقال : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خائبتين)). وما تقدم من التوكل على الله تعالى ودعائه يكون مقرونًا بالأخذ بأسباب النجاح من الجد والاجتهاد.
خامسها: الحذر من الغش في الاختبارات إما باطلاعه على إجابة غيره، أو الاطلاع على الأسئلة المسربة ونحو ذلك، قال : ((من غش فليس مني)). فمن كانت حياته على الغش سلبه الله الخير في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "على مراقب الطلبة حين الامتحان أن لا تأخذه في الله لومة لائم؛ أن يمنع أيّ طالب من الغش أو محاولة الغش؛ لأن تمكين الطالب من الغش خيانة وظلم لزملائه الحريصين على العلم المجدين في طلبه الذين يرون من العيب شرعًا وعرفًا ومروءةً أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية. إن المراقب إذا مكّن أحدًا من هؤلاء المهمِلين الفاشلين في دراستهم من الغش فأخذ درجة تقدّم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلمًا لهم، وظلمًا للطالب الغاشّ، وهو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهميّة لم يحصل بها على ثقافة ولا علم، ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زَيف لا حقيقة. إن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع وهضم لحقه؛ حيث تكون ثقافة المجتمع ثقافة مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق، ويكون مجتمعنا دائمًا في تأخّر وفي حاجة إلى الغير؛ وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن إذا رجع الأمر إلى اختياره أن يدخل في مجال التعليم والتثقيف لعلمه أنه فاشل فيه، بل إن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغًا له هينًا في نفسه، فيتربى عليه ويربي عليه أجيال المستقبل، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن على المراقب أن لا يراعي شريفًا ولا قريبًا لقرابته ولا غنيًا لماله ولا فقيرًا لمسكنته، إن عليه أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عليه أن يؤدّي الأمانة كما تحمّلها لأنه مسؤول عنها يوم القيامة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
سادسها: تذكر قوله : ((إن لنفسك عليك حقًا)) ، فذاكر وجد واجتهد، ولكن لا تعذب بدنك وتتعب جسمك بالسهر المتواصل وتكلّفه فوق طاقته.
سابعها: قال عمر الفاروق : (لا تصغرن همّتك، فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته). فلا يكن همك الحصول على درجة النجاح، بل اجعل همك التفوق، وارسم لنفسك هدفًا نبيلاً ساميًا تصل إليه وتخدم دينك وأمتك من خلاله.
ثامنها: حذار من تلك الأفعال الدنيئة التي نراها في نهاية كل عام من إهانة لكتب العلم ورميها في الطرقات وتمزيقها والعبث بها، مع أنها تحتوي آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة، فاحذر أن تكون سببًا في إهانة كلام الله أو كلام رسوله.
تاسعها: ما أجمل أن تكون الاختبارات فرصة لتمتين علاقات الأخوّة وزيادة صفائها ونقائها من خلال مساعدة زملائك بما يحتاجون إليه من توضيح إشكال أو حل مسألة، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان أخاه أعانه الله. وما أجمل أن تدعو لأخيك بالنجاح، وتفرح دون أن يكون في قلبك حسد له إذا حقق السبق والتفوق، فقد قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
عاشرها: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمة من الله على عباده، فإن انتهيت من الاختبارات وكانت النتيجة طيبة فاحمد الله جل وعلا، واعلم أن ذلك بتوفيقه سبحانه، ولتقل بلسان الحال والمقال:
أعطيتنِي الجليلا منحتنِي الْجزيلا
سوّغتني الجميلا تفضّلاً وطولاً
بأي لفظ أشكرك بأيّ حمد أذكرك
الْحمد للرحمن والشكر للديان
والمدح للمنان على العطا الهتّان
وإن كانت الأخرى فلم توفق للنجاح فاحمد الله جل وعلا وأحسن الظن بربك؛ فلعل درجة من الدنيا تفوت فسيعوضك الله بها درجات في الآخرة، وكن على الحال التي أخبر عنها النبي : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
أيها الإخوة في الله، وصية للمعلمين والمعلمات بأن يتقوا الله جل وعلا، ويلتزموا الأمانة في وضع الأسئلة وفي تصحيحها، ويعطوا كل ذي حق حقه وكل ذي قدر قدره، كما أمر بذلك الله جل وعلا في كتابه فقال: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35].
فحذار ـ أيها المعلمون والمعلمات ـ أن تقصدوا بالاختبار التعجيز والأذية والإضرار، فهذه ذرية ضعيفة بين أيديكم، وإياكم أن تشقّوا عليهم فتكلفوهم ما لا يستطيعون، أو تحمّلوهم ما لا يطيقون، فقد قال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه)). فالله الله أن يشقّ عليكم، فاتقوا الله في هؤلاء وأحسنوا إليهم إن الله يحبّ المحسنين، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ، قدّروا ضعفهم واشملوهم بالعطف والحنان.
إن الطلاب والطالبات يدخلون إلى الامتحان والاختبار بنفوس مهمومة وقلوب مغمومة، فيها من الأكدار وفيها من الأشجان والأحزان ما الله به عليم، فامسحوا على رؤوسهم عطفًا وحنانًا، وأكرموهم لطفًا وإحسانًا، فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أيها الإخوة في الله، وصيّة للآباء والأمهات أن يوفّروا لأبنائهم وبناتهم الجوَّ المناسب للمذاكرة، وأن يسهروا معهم، ويشعروهم بقربهم منهم، ويدعوا لهم بالتوفيق والنجاح، ويسمعوهم تلك الدعوات كل صباح، ويسألوهم عن اختباراتهم، فإن أجابوا أثنوا عليهم، وإن لم يوفقوا فلا يعنفوهم، وإنما يفتحون لهم أبواب الرجاء في المرات القادمة.
ومما يوصَى به الآباء خصوصًا مراقبة الأولاد في هذه الأيام، فأكثر انحرافات الشباب وأكثر العادات السيئة التي يكتسبها الطلاب تكون في مثل هذه الأيام، حيث يكون الطالب حرًا طليقًا بمجرّد انتهائه من أداء الاختبار، فيتعرف على رفقاء السوء الذين يزيّنون له المنكر، ويدفعونه إلى السوء والفحشاء. فالله الله في أبنائكم وفلذات أكبادهم، كونوا معهم في الغدو والرّواح، أو اعرفوا مواعيد الاختبارات وحاسبوهم على التأخّر. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إنَّ المؤمن العاقل البصير هو الذي يتذكّر بما يمرّ به من أحداث في هذه الدنيا ما أمامه من أهوال وشدائد يوم القيامة، فيأخذ للأمر أهبته واستعداده.
وأيام الاختبارات مما يعين على الذكرى والاعتبار، فها هو في الطالب يشعر بالخوف والقلق قبل استلام ورقة الأسئلة وقراءتها، ولا تهدأ نفسه حتى يطمئنّ أنه قادر على إجابتها رغم أنها معروفة سلفًا ومتوقعة.
فليت شعري ماذا سيكون حاله في ذلك اليوم الرهيب العصيب، حين يأتي وحيدا فريدا عريانا فيحاسب عن كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]. فهنيئًا لمن اعتبر فبادر بالعمل.
ومن أشدِّ المواقف تأثيرًا على نفوس الطلاب لحظة استلام النتيجة، فإمّا نجاح وتفوّق، يعقبه فرحة غامرة وسرور كبير، وإما إخفاق ورسوب، يعقبه حزن وألم وضيق وكربة وندم على التفريط في المذاكرة والاجتهاد.
وسيكون الموقف غدًا قريبًا من هذا حين تتطاير صحف الأعمال، فتؤخذ باليمين أو تؤخذ بالشمال، والفارق أن السعادة هناك لا شقاء معها، والشقاوة ـ والعياذ بالله ـ لا مجال للتخلص من عنائها، فاختر لنفسك ـ يا عبد الله ـ أحسن الحالين، وجدّ لبلوغ أفضل المنازل، يقول الله جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 19-37].
عباد الله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، ويقول : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فاللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين أجمعين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين...
(1/5007)
الحرب على الطهر والعفاف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن, الكبائر والمعاصي
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/12/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير في انتشار الأفلام الهابطة والفاضحة بين الشباب. 2- دور الآباء والأمهات في معالجة هذا الأمر الخطير. 3- حرمة الزنا وبشاعته في الشريعة الإسلامية. 4- أضرار الزنا. 5- عقوبة الزاني. 6- رسالة وصرخة للإخوة في فتح وحماس.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19].
أيها المسلمون، تجتاح مدينتنا الطاهرة المقدسة أفلام الجنس الهابطة والفاضحة، وتسريبها من خلال أجهزة الكمبيوتر والإنترنت والأجهزة النقالة (أي: جهاز الموبايلات)، وبخاصة لدى الجيل الصاعد من المراهقين والمراهقات، دون رقيب ولا حسيب من الآباء والأمهات؟!
أيها المسلمون، إنكم تتوقعون أن نتحدث عن القضايا السياسية الصاخبة والفاشلة على الساحة الفلسطينية بخاصة، وعلى الساحة العربية والإسلامية بعامة، ولكن إخوة شبابا غيورين على الأخلاق وعلى الأعراض تحدثوا لنا في فضائح تحدث في مجتمعنا ونحن غافلون عنها وملهيون في الأحداث الدامية الواقعة في بلادنا، إنها قضايا لا أخلاقية تمس الأعراض، وتقوض المجتمع، وتنتشر عبر أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة بين الشباب والشابات، يقوم بترويجها تجار نفعيون لا يهمهم صون الأعراض والأخلاق، وإنما يهمهم الربح ولو على حساب الرذيلة وهتك الأعراض.
أيها المسلمون، كنا سابقا نحارب دور السينما التي كانت تعرض أفلام الجنس والمعروفة بأفلام السكس، ونجح العلماء والدعاة ورجال الإصلاح وقتئذ بوقفها، أما الآن فإن أساليب الهدم والرذيلة تدخل إلى البيوت بسهولة من خلال أجهزة التلفاز والفيديو، ومن خلال أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة، فما دور الآباء والأمهات في معالجة هذا الأمر الخطير الذي يهدد الأسرة والمجتمع؟
أيها المسلمون، لا يخفى عليكم أن معظم الأفلام الجنسية التي هي من إخراج الدول الأجنبية لا تعرض على شعوب بلادهم، وإنما ترسل إلى شعوب العالم الإسلامي؛ لهدم قيمه الخلقية، ولإلهاء الجيل الصاعد عن القضايا المصيرية، ولإفساد شبابنا أخلاقيا؛ ليسهل على الغرب فرض سيطرته على العالم العربي والإسلامي النائم، وهذا ما حصل فعلا.
وكلما توجه شبابنا إلى الإسلام اشتدت الحملة المسعورة لهدم الأخلاق ونشر الرذيلة وإشاعة الفاحشة، بهدف عرقلة حركة الإصلاح في المجتمع، وذلك من خلال البرامج الهدامة، ومن خلال توزيع الأشرطة الفاضحة، فالصراع واضح بين الحق والباطل وبين الإصلاح والفساد.
أيها الآباء والأمهات، إنه من الواجب عليكم التحكم في استعمال التلفاز وجهاز الفيديو، بحيث تلغى القنوات الهدامة الفاضحة من جهاز التلفاز، وأن يقتصر على قنوات محددة تعود بالفائدة على المجتمع بشكل عام، كما يتوجب على الآباء والأمهات مراقبة الأشرطة التي في حوزة الأبناء والبنات، والتي تستعمل في جهاز الفيديو، وكذلك مراقبة الهواتف النقالة، وكذلك يتوجب العناية بتربية الأبناء والبنات منذ الصغر.
يقول سبحانه وتعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، ويقول رسولنا الأكرم محمد : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، ويقول عليه السلام في حديث آخر: ((إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه: حفظه أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) ، ويقول في حديث شريف ثالث: ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)).
أيها المسلمون، هناك ظاهرة خطيرة برزت وطفت على السطح في هذه الأيام؛ وهي أن بعض أصحاب المحلات التي تبيع الأجهزة النقالة يخزنون صورا عارية وفاضحة في هذه الأجهزة؛ لتسويقها للمراهقين والمراهقات، وأن بعض العملاء يحاولون إسقاط الشباب والشابات من خلال هذه الأجهزة، بأن يصوروا لقطات لفتيات غرر بهن، وأن ينشروا هذه الصور من خلال أجهزة الهواتف النقالة بين الناس، بهدف نشر الفضيحة والرذيلة والتجسس.
أيها المسلمون، إن هؤلاء المجرمين الذين يحاولون فضح الأعراض لا يدرون أن الله سيفضح أعراضهم؛ لقول رسولنا الأكرم محمد : ((لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله)). ويقول الإمام الشافعي في هذا المجال:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتَجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن اقترضته كان الوفا من آل بيتك فاعلم
أيها المسلمون، إن الزنا من أفظع الجرائم خطرًا وأشدها ضررًا على الأعراض والأنساب والأخلاق، وعلى الأسرة والمجتمع، لذا وصف الله رب العالمين الزنا بأنه فاحشة وبئس الطريق، بقوله في سورة الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32]. وما تفشى الزنا في أمة من الأمم إلا ضاع مجدها وذهب سلطانها، وتفشت فيها الإمراض والأوبئة، وما كان ديننا الإسلامي العظيم ليحرم على الناس أمرًا من الأمور إلا لما يترتب عليه من المضار والمفاسد، فقد نهانا الله عن الزنا وما يقود إلى الزنا لأنه إثم كبير وضرره خطير، وينشر الفوضى في الأسرة وفي المجتمع، ويساعد على جريمة القتل وفساد الأخلاق.
أيها المسلمون، إن الزنا جناية على الأعراض، وهو أشد خطرًا من سرقة الأموال، فقد يفرط المؤمن في ماله ولكنه لن يفرط في عرضه، بل قد يبذل كل ماله في سبيل المحافظة على العرض والشرف، وقد يهون على المؤمن الموت في سبيل صون عرضه من الاعتداء عليه، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد.
أما الذي يرتكب جريمة الزنا فقد توعده الله سبحانه وتعالى بأشد العذاب في الدنيا والآخرة، وحسبه أنه يفقد إيمانه حين ارتكابه جريمة الزنا، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فما بال الزناة لا يقدرون خطورة أمرهم؟! وما بالهم يعيشون في الدنيا كالأنعام دون إدراك أو تمييز؟! وصدق الله العظيم: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]، وجاء في الحديث الشريف: ((إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، نحتسب عند الله عالمًا فاضلاً وفقيهًا متمكنًا وإنسانًا متواضعًا، إنه المرحوم ـ بأذن الله ـ صاحب الفضيلة الشيخ عطية صقر. والشيخ عطية صقر من علماء مصر، ويعد فقيد العالم الإسلامي؛ فهو يمثل الرعيل الأول من العلماء العاملين، رحمه الله رحمة واسعة.
أيها المسلمون، أيها الإخوة المتنازعون، إن الاقتتال بين الإخوة قد أدمى قلوبنا جميعا، وبخاصة أيام عيد الأضحى المبارك، وأيام الشهر الحرام الذي حرم الله فيه القتال، ونقول للمتصارعين: إن فلسطين قضيةً وأرضا وشعبا يمثلون رموز مضيئة في العالم، فلا تسقطوا الصورة الجميلة العظيمة في أعين القريب والبعيد ولدى العدو والصديق في العالم، فقد قدم شعبنا المرابط المجاهد مئات الآلاف من الشهداء منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، وحتى يومنا هذا؛ وذلك من أجل حماية الأرض والمقدسات، ومن أجل إحباط المؤامرات، وعليه فإن فلسطين ليست معروضة للبيع ولا للمساومات.
أيها المسلمون، أيها الإخوة المختلفون، تذكروا دائما أننا جميعًا تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، ولا تميز لما يسمى مناطق (أ) أو (ب) أو (ج)، وأن الاحتلال لم يعد ملتزما بما يسمى اتفاقية أوسلو، وعليه يتوجب على أهل فلسطين جميعًا بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم وأحزابهم أن يقفوا في خندق واحد في مواجهة الاحتلال لإنهائه، فلا مجال ولا مبرر للاختلاف بل للحوار البناء.
أيها المسلمون، أيها الإخوة المتنافرون، ألا ترون أن الأعداء والعملاء يتكاثرون من حولنا ويريدون الهلاك لنا؟! فلا نعمل على إضعاف أنفسنا بأنفسنا خدمة لهم، والكل يشعر أن الصراعات والاختلافات تصب في مصلحة الأعداء، ولا تخدم إلا الأعداء. يكفينا ما يفعله بنا الاحتلال من ماسي يومية، ألا يكفينا من وضع ما يزيد عن أربعمائة حاجز عسكري تمزق البلاد وتشتت العباد؟! ألا يكفي أهلنا في فلسطين الاجتياحات اليومية مع ما يرافقها من قتل واعتقال وتجريف للأراضي وتدمير للبيوت وقلع للأشجار؟!
أيها المسلمون، لنتساءل: على أي شيء نختلف؟ هل نختلف على المستعمرات والمستوطنات السرطانية التي نهبت البلاد وشتت العباد؟! هل نختلف على الطرق الالتفافية التي حاصرت المدن والقرى والمخيمات وضيعت الأراضي والبيوتات؟! هل نختلف على الجدار العنصري اللعين الذي عزلنا عن بعضنا وجعلنا كانتونات؟! وهل نختلف على الكرامة المهدورة التي تتعرض يوميا للإهانات؟!
أيها المسلمون، أيها الإخوة، تذكروا دائما أن لغة السلاح لن تكون لغة تفاهم وتحاور، ولن نصل إلى نتيجة، فاتفقوا على الحد الأدنى من القواسم المشتركة بينكم، ألا يكفي أن عقيدة الإسلام تجمعنا وأننا نتوجه إلى قبلة واحدة في صلاتنا؟! ألا يكفي أن فلسطين المقدسة تظللنا وأن الأقصى المبارك تاج رؤوسنا وأن الله العلي القدير يوم القيامة يفصل بيننا؟! فارحمونا أيها الإخوة، وارحموا أنفسكم، وانتصروا لله العلي القدير لينتصر لنا وليأخذ بأيدينا، وصدق الله العظيم: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
(1/5008)
الاختبارات
الأسرة والمجتمع, الإيمان
اليوم الآخر, قضايا المجتمع
عبد المجيد بن غيث الغيث
الرياض
جامع الدرعية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السقوط في الامتحانات واعتذار الطلاب. 2- الشريعة بنيت على اليسر والتسهيل. 3- الامتحانات وذكرى الحساب والآخرة. 4- وصايا للطلاب. 5- الاهتمام بامتحان الآخرة أولى وأحرى من الاهتمام بامتحان الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، نعيش في هذه الأيام مع الاختبارات، وفيها من الطلاب الباذل والمقتصد والكسول، ولن يضيع الله جهد من أحسن عملا، فنسأل الله أن يعينهم ويسددهم ويرشد خطاهم ويحقق مأمولهم.
ولكن بعد خروج النتائج نجد أن أعذار الطلاب المخفقين لا تتجاوز ثلاثة أعذار، من خلال تلك الأعذار يبرئون أنفسهم ولا يتهمونها بالتقصير، فمن الطلاب من يرجع سبب إخفاقه إلى المنهج الدراسي، فيرميه بأوصاف عدة، منها أنه غير واضح أو أنه أكبر من مرحلتنا أو أنه طويل وشاق، ومنهم من يجعل التبعة والخلل في أسئلة الامتحانات النهائية فيقولون: إنها من نمط جديد أو: إنها صعبة الفهم، أو: إنها من خارج المنهج إلى غير ذلك، وهذا هو العذر الثاني. وأما العذر الثالث الذي يلقيه الطلاب المخفقون حتى لا يلومهم أحد بسبب إخفاقهم فيصبّون جامّ غضبهم على المعلم وأستاذ المادة، فيقولون: إنه لم يقم بدوره كما يجب؛ فلم يشرح لنا الدرس وأهمل في عمله، أو: إن المدرس لم تكن لديه تلك الأهلية التي تجعله يقوم بواجبه كما ينبغي، إلى غير ذلك من تلك التبريرات التي لا تقدم في الأمر شيئا بل قد تؤخره.
ولكن هل يستطيع أحد أن يعتذر بمثل هذه الأعذار يوم القيامة عندما يفوز طائفة وتخسر طائفة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
فمن يستطيع يوم القيامة أن يعتذر لنفسه ويلقي اللائمة على المنهج الدراسي وهو الدين والشريعة ويقول: إنها ـ أي: الشريعة ـ غير مفهومة، أو إنها صعبة التطبيق، أو إنها شاقة وعسيرة، لا سيما أن من قواعد الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، ولم يكلفنا الشرع بما لا نطيق، وبل جعل لكل مسلم ما يناسبه إذا كان له خصوصيته، لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ، وعن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ قال: كانت بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النبي عن الصَّلاةِ؟ فقال: ((صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)) رواه البخاري، وقال سبحانه عن الصيام: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. والشريعة في منتهى الوضوح وسهلة التطبيق، والنجاح فيها في متناول اليد بعد توفيق الله، فعن جابر أن رجلا سأل رسول الله فقال: أرأيت إن صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة؟ قال: ((( نعم )) ، قال: والله، لا أزيد على ذلك شيئا. رواه مسلم.
ومن يستطيع أن يقول يوم القيامة بمثل ما يعتذر به الطلاب في الدنيا، ويلقي اللائمة على المدرس وهو الرسول الذي قال في ذلك: ((وايم اللَّهِ، لقد تَرَكْتُكُمْ على مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ)). ولما انتهت صلاة الكسوف قام النبي فحمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله، ثم قال: ((يا أيها الناس، إنما أنا بشر ورسول الله، فأذكركم الله، إن كنتم تعلمون إني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني حتى أبلغ رسالات ربي كما ينبغي لها أن تُبَلَّغ، وإن كنتم تعلمون أني قد بلغت رسالات ربي لما أخبرتموني)) ، فقام الناس فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك. وقد شهد بنصح رسول الله حجاج بيت الله الذين حجوا معه ، ففي صحيح مسلم أن النبي في حجة الوداع في يوم عرفة قال لصحابته الحجاج: ((وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)) قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فقال : ((اللهم اشْهَدْ، اللهم اشْهَدْ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. فمن يستطيع إذًا إن يتهم محمدا بالتقصير؟! والله شاهد على نصحه لأمته وتبليغه لرسالته.
وأما العذر الثالث الذي يعتذر به الطلاب وهو عن أسئلة الامتحان، وأما عن أسئلة امتحان الآخرة فالحق أننا لا نستطيع أن نقول: إنها سهلة أو إنها قصيرة، بل هي كما يقال: أسئلة متسرّبة معروفة، نشرها محمد تسهيلا لأمته حتى لا يفاجَأ أحد بها، ولا يقول أحد: إنها من خارج المنهج، بل وذكر عليه الصلاة والسلام تفصيلات دقيقة عن تلك الأسئلة نصحًا لأمته، فقد ذكر لنا أنها سبعة أسئلة: ثلاثة في الفترة الأولى، وأربعة في الفترة الثانية، أخرج البخاري عن أنس بن مالِكٍ قال: قال رسُولُ اللّهِ : ((يتْبعُ الْميِّت ثلاثةٌ، فيرْجِعُ اثْنانِ ويبْقى معهُ واحِدٌ، يتْبعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعملُهُ، فيرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويبْقى عملُهُ)) ، وعن الْبَرَاءِ عن النبي في قَوْلِ اللَّهِ: يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ قال: ((في الْقَبْرِ إذا قِيلَ له: من رَبُّكَ؟ وما دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟)) فهذه أسئلة الفترة الأولى.
أما الأسئلة التي في الفترة الثانية ـ الآخرة ـ فهي كما صح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)).
أيها المسلمون، إذا كانت هذه الأعذار مردودة مرفوضة فهلا قدمنا ما يشفع لنا عند مليكنا؟! وهلا قدمنا ما يكون سببا لنجاتنا؟! وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
بل قطع الله عنا سبيل الأعذار، ففي صحيح البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي قال: ((أَعْذَرَ الله إلى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حتى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً)) أي: لا عذر عند الله لمن بلغ وتجاوز الستين عامًا، فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الطلاب، الوصية بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل له العسير يسيرًا، وآتاه خيرًا كثيرًا.
خذوا بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، استذكروا واجتهدوا، فإن تعبتم اليوم فغدًا راحة كبيرة، عندما يحزن الكسلاء لكسلهم، ويفرح حينها الفائزون بفوزهم، عندها وكأنه لم يكن هناك تعب ولا نصب. واعلموا أننا في زمن لا يحترم الضعفاء ولا يلتفت إلى الكسالى، بل نحن في عصر يقول للرجل المتوسط: وداعًا.
ألا واعلموا أن أفضل أسباب النجاح وأجمعها وأصلحها أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فلا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم فقط، بل فوضوا مع ذلك أموركم لله، والتجئوا إليه، واعلموا أن الذكي لا غنى له عن ربه، وأن الذكاء وحده ليس سببًا للنجاح، بل إرادة الله وتوفيقه أولاً، ولقد أوصى النبي ابنته فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم، بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)).
يا معاشر الطلاب، إياكم والغش والتزوير فإنه خيانة، ومن كانت حياته على الغش سلبه الله الخير في دنياه وأخراه، قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
أيها المسلمون، إنه من الملاحظ أنه ما تكاد تقترب الامتحانات حتى يتأهب الناس ويسود القلق والتوتر، وتغدو هذه الامتحانات هم الناس وشاغلهم، فعنها يتحدثون، وعن أخبارها يسألون، وتجد الأب والأم يُلزِمان أبناءهما بالمذاكرة، ويشددان عليهم في ذلك، وتضبط الساعات حتى لا تأخذ الطالب نومة فيفوته الامتحان فتكون الطامة. وهذا كله حسن لا بأس به، ولكن أين مثل هذا الاهتمام بامتحان الآخرة؟!
ألا تستحق صلاة الفجر ـ مثلا ـ أن نضبط لها الساعة ونتواصى بالاستيقاظ لها؟! ألا تستحق العبادات والطاعات أن يهتم بها الأبوان ويربيا أبناءهما عليها؟! ألا تستحق الآخرة أن تشغل نصيبا من اهتمامنا وحيزا من تفكيرنا؟! ألا يستحق امتحان الآخرة أن يهتم له بأكثر من امتحان الدنيا؟! لماذا نقدم هم الدنيا على هم الآخرة؟!
عباد الله، صلوا وسلموا على البشير النذير وعلى السراج المنير.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وخص منهم الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعلِ راية الحق والدين...
(1/5009)
الامتحانات وذكرى الآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن سليمان الحماد
الرياض
26/4/1426
جامع التركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- افتتان الناس بالدنيا الفانية. 2- أحوال الحساب والنشور والبعث. 3- وصايا للدارسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ها هي الدنيا قد لبست زخرفها وأظهرت حلتها، وتزينت للناس وصار لطلبها إيناس، وازدهرت بالتجارات وتبهرجت بالتقنيات، وتفتحت أزهارها للبشر، وأينعت سنابلها للظفر، حتى سهل على ساكنيها جني الثمر. خطبت القلوب فأجابتها، واستأسرت النفوس فأجبتها، فلله الحمد والمنة على سعتها. دخل الناس أجواءها واستنشقوا هواءها، فاستجموا إجمامًا عجيبًا، واتخذوا سبيلهم في بحرها سربًا، حتى كأنهم في نومة رأوا فيها أن كل شيء ما عدا الدنيا حلم وسراب، فما فتئنا نركض وراءها علَّنا ندرك حدها أو نبلغ قعرها، ولكن هيهات هيهات، فإن مثل الدنيا كمثل الظل، إن ذهبت تدركه عجزت، وإن انصرفت عنه تبعك.
أيها الأحبة، لقد اشتغلنا بدنيانا فبذلنا الجهد لغير أهله، وطلبنا الراحة في غير محلها. ما أجمل الدنيا لو كانت باقية، وما أحلاها لو كانت دائمة، لكنها تؤول إلى التباب، وتتحول إلى الخراب، وإني اليوم لمُطِل معكم من شرفة هذا المنبر على عالم قادم لا محالة، ويومٍ صائر لا غضاضة، إنه اليوم الحق، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38]، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37]، يغنيه عن النظر في العورات أو التحدث بالزللات، يوم يكون الناس على أرض بيضاء، يكونون بحيث إن نظر إليهم الناظر رآهم جميعًا، وإن دعاهم الداعي أسمعهم جميعًا. تزدحم في ذلكم اليوم الشدائد والأهوال، وتَعْظُم الكروبُ وتضيق الأحوال، وتحيط بنا النار من شتى النواحي، ويتجلى الله الواحد الباري غاضبًا غضبًا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده، وتدنو الشمس من رؤوسنا حتى لا يكون بيننا وبينها إلا قدر ميل، فنخوض في عَرقنا على حسب أعمالنا كما روى الإمام مسلم من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل)) ، قال سَليم بن عامر: فوالله، ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)) ، قال: فأشار رسول الله إلى فيه. فيا لله ما أعظم أهوالها!
ثم يكون العرض على الله، فعند الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((يُعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرْضَات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله)). ويوم ذاك تشهد الأرض على الكافرين والظالمين بآثامهم عليها لا تخفي شيئًا، وتشهد للمسلمين بما أحسنوا عليها لا تخفي شيئًا، فعن أبي هريرة: أن رسول الله قرأ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 4، 5] فقال: ((أتدرون ما أخبارُها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بكل ما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فذلك أخبارها)) رواه الترمذي وحسنه.
فيلجؤون إلى الكذب والحيلة، ويُنكر أحدهم ما في كُتُبِ أعماله من الكفر والمعاصي، فيقول الله تعالى: أتريد دليلاً من نفسك؟ فيقول: نعم، فيَخِتم الله على فيه ويكلَّم أعضاءه، فيقال للفخذ: انطقي فتنطق، ويقال للرجل: انطقي فتنطق، ويقال للحمه وعظمه فينطق كلٌ بما قام به بصدق وبيان، وتشهدُ عليه كل أعماله، فيصرخ فيها قائلاً: ويحكن إنما عنكن كنت أدافع، فتقول ما حكى الله تعالى في كتابه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون.
وفي تلك اللحظات الضيقة وعلى تلك العرصات المزدحمة يحاسب الله عباده الكافرين والظالمين حسابًا عسيرًا دقيقًا، ويناقشهم على ما قدَّموه في الحياة الدنيا من كفر وعصيان، فيحل عليهم الويل والثبور، ويحملون كتبهم وراء ظهورهم، ويُدَعُّون إلى نار جهنم دعًَّا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
وفي هذه الشدة والمرارة تبزغ أنوار قوم أحسنوا العلاقة مع الله فلم ينسَهم، واتصلوا به سبحانه في هذه الدنيا فلم يتركهم حيارى في تلك الظلمات، يأتي الله ويحاسب عباده المؤمنين حسابًا يسيرًا لا مناقشة فيه ولا شدة، بل يضع كنفه على أحدهم ويقرره بنعمه عليه، ثم بذنوبه حتى إذا ظن أنه مأخوذ إلى النار قال الله له: عبدي، أما وقد سترتها عليك في الدنيا فإني أغفرها لك اليوم، فيُسَرّ سرورًا عظيمًا، ويرجع إلى أهله محبورًا، ويحمل كتابه بيمينه، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وما أحسن ما قال الإمام عبد الله بن المبارك:
وطارت الصحف في الأيدي منشَّرة فيها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليلٍ ولا تدري بِما تقع
أفِي الجنان وفوزٍ لا انقطاع له أم فِي الْجحيم فلا تبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طورًا وترفعهم إذا رجوا مَخرجًا من غمها قُمعوا
طال البكاء فلم يُرحم تضرُعهم فيها ولا رقةُ تغني ولا جزعُ
لَم ينفع العلمُ قبل الْموت عالِمه قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا
ثم يؤخذ في حساب الناس، وقد ورد أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق الناس الدماء، روى الترمذي أن رسول الله قال: ((إن أول ما يحاسب به الرجل صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)). ويكون السؤال بعدُ عن العبادات الأخرى مثل الصيام والصدقة، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا ربي إني الصلاة، فيقول: أنت على خير، ثم تجيء الصدقة فتقول: يا ربي إني الصدقة، فيقول الله: أنت على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا ربي أنا الصيام، فيقول الله: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا ربي إني الإسلام، فيقول الله: إنك على خير، بك آخُذُ وبك أُعطي)).
ويكون سؤال العبد بعد ذلك عن جسده وصحته وحواسه: كيف استخدمها في الحياة الدنيا؟ وعن عمره أيامه ولياليه وشهوره: كيف قضاها في الحياة الدنيا؟ وعن علمه الذي تعلمه: ماذا عمل فيه؟ هل عاش به ودعا إليه أم لا؟ وعن ماله: كيف اكتسبه؟ أعن طريق حلال مشروع أو من أي طريق غير مبالي بحلال أو حرام؟ وفيم أنفقه؟ هل أنفقه في مباح أو واجب ومستحب أم بذَّره هنا وهناك فيما حرم الله ونهى عنه؟ فعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله : ((لا تزولُ قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
فإذا لم يبق إلا المؤمنون وفيهم المنافقون جاءهم الله فقال: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله، ما لنا إلا الله ما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم فيمكث ما شاء أن يمكث، ثم يأتيهم فيقول: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله، ما لنا إلا الله وما كنا نعبد غيره، فيكشف عن ساقه ويتجلى لهم في عظمته بما يعرفون به أنه ربهم، فيخرون سُجدًا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كقرون البقر، ثم يأذن الله لهم فيرفعون رؤوسهم ويضرب بالصراط بين ظهراني جهنم.
وهكذا تتتابع الأحداث والمراحل حتى ينقسم الناس بين جنة ونار، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنان.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد جعل الله لنا في هذه الدنيا أشياء تقرّب لنا تصوّر الآخرة ومحطاتها وأهوالها وأحوال الناس فيها، ومن ذلك ما نعيشه اليوم من اختبارات خيَّمت كآبتها على أولادنا بنين وبنات، غير أن اختبارات الدنيا أهون وأخف من امتحان الآخرة، ولعل من الجدير بالذكر والتذكير بعض الأمور التي تطرأ وتحدث ويحتاج المسلمون فيها إلى تبصير، ومن ذلك أن الواجب على الدارس والدارسة أن يقصدوا الأماكن الطاهرة الخالية من الشياطين عند مذاكرتهم دروسهم، فالشيطان يوسوس للعباد ويشغلهم، ومن هذه الأماكن المساجد والمصليات أو الغرف الخالية من الصور والتلفاز.
كما أنني أنبه الدارسين إلى ضرورة ترتيب أوقاتهم، وإذا جلسوا للمذاكرة فليجلسوا صامدين، وإن انصرفوا فلينصرفوا بالكلية. وعليهم أن يتصلوا بالله القدير، وأن يلهجوا بذكره وسؤاله فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كما أنبه إخوتي الدارسين إلى الحذر من صرف أوقات الصباح التي تكون بعد الامتحان في الشوارع أو المقاهي، مما يسهل معه استحواذُ شياطين الإنس عليهم، فَيَغُروهم بالفحشاء والمنكر، وأنبه أولياء الأمور إلى خطورة ذلك. كما أعظ إخواني الدارسين أن لا يكونوا من المفسدين في الأرض العابثين بمحارم المسلمين الغاشين لأعراضهم.
وأخيرًا، ما أقبح ما يفعله البعض طلبًا لتوفير أكبر وقت ممكن، فيضطرون للسهر والمواصلة ويغلب عليهم الأمر، فيلجؤون إلى المنشطات المسببة ـ بإذن الله ـ إلى الخلل والجنون والعياذ بالله. ولتعلم ـ أخي الحبيب ـ أن في داخلك طاقات وقدرات لا تخرج إلا وقت الهمة والعزيمة، فاستثمرها واستغلها لكي تستفيد منها هذا.
وصلوا وسلموا على نبينا ورسولنا...
(1/5010)
بمناسبة نهاية عام 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, التربية والتزكية
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
25/12/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات مع نهاية العام. 2- وقفة محاسبة مع الوقت. 3- وقفة محاسبة مع الصدقة والإنفاق. 4- وقفة محاسبة مع الصلاة. 5- حالك مع القرآن. 6- وقفة محاسبة مع صلة الرحم. 7- وقفة محاسبة مع التفكر والتدبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ على كل حال وفي كل مكان، أمركم بذلكم ربكم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، ونحن على أبواب نهاية عام هجري، فدعني ـ يا عبد الله ـ أسائلك أسئلة:
يا عبد الله، هل تعلم أنك أمضيت في العام الماضي أكثر من ثلاثمائة وستين يومًا؟ أي: أكثر من ثمانية آلاف ساعة وما يزيد على خمسمائة ألف دقيقة. فيا عبد الله، كم ـ بربك ـ من هذا الوقت قضيته في لهو مباح، ناهيك عن غير المباح؟! وكم قضيته في تراخ وكسل ونوم واسترخاء ودنيا محضة؟! ثم كم تبقى منها لله ورسوله ؟!
يا عبد الله، هل تعلم أن قلبك قد نبض في العام المنصرم نحو أربعين مليون نبضة بانتظام لا مثيل له ودقة متناهية؟ فمن ذا الذي صانه؟! ومن ذا الذي حفظه حتى أدى تلك المهمة؟! إنه الله، فهل تضمن أن تؤدى المهمة في العام القادم بنفس الكفاءة والأداء أم أنه قد يتوقف وتتوقف الحياة؟! فهل أعددت للحظة التوقف تلك آخر لحظة في حياتك والتي قد تكون في أي لحظة؟!
يا عبد الله، هل تعلم أنك قد شهقت في العام المنتهي نحو أحد عشر مليون شهقة، وزفرت مثلها, في كل واحدة منها أخذت من الهواء أوكسيجينه النافع الذي أودعه الله فيه، وأخرجت إليه كل ضار، ولم يتوقف التنفس لحظة واحدة، ولم تضطرب عملياته المنظمة الموقوتة، ولو حدث هذا ـ لا قدر الله ـ لتوقف المخ والسمع والبصر والكلام والعلم، ثم قد يتوقف القلب وتنتهي الحياة. فيا عبد الله، من ذا الذي منَّ عليك براحة التنفس بينما هناك الكثير يعاني من ضيق النفس؟! إنه الله المنعم المتفضل، فهل شكرت ـ يا عبد الله ـ تلك النعمة العظيمة؟! هل كانت تلك الأنفاس تتردد في صدرك وأنت على طاعة الله أم أنها كانت تتردد في صدرك وأنت عياذًا بالله على معصية الله؟ هل كان يدخل مع تلك الأنفاس عبير ذكر الله أم كان يدخل معها نتن الدخان وعفنه؟!
يا عبد الله، لقد أكلت في ذلك العام نحو نصف طن من الطعام، وربما يزيد، ولم يتوقف الجهاز الهضمي كذلك، ولم يعترض على هذه المعاملة القاسية، فهلاّ حمدت الله، وسجدت له شكرًا على هذه النعم وهذه الأجهزة المسخرة لخدمتك بلا صيانة ولا توقف ولا كلل.
يا عبد الله، لقد حصلت في العام الماضي على آلاف الريالات كلّ حسب دخله، فبالله عليك كم ريالاً أنفقته في سبيل الهوى؟! وكم للشهوات والملذات؟! وكم إرضاء للزوجة والأولاد؟! وكم لمسايرة متطلبات العصر؟! ثم كم أنفقت لله ورسوله ؟! ليعُد كل منّا إلى بيته، وليمسك ورقةً وقلمًا، وليحسب، ثم لينظر النتيجة. يا عبد الله، لن يبقى لك إلا ما أنفقته لله ورسوله، فهذا حبيبنا ورسولنا يذبح شاة ويتصدقُ بها، ثم يسأل زوجته في تربية بديعة لها: ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه الترمذي.
فلله درّ الرعيل الأول الذين فقهوا قوله فيما أخرجه الإمام مسلم عن مطرّف عن أبيه قال: أتيت النبي وهو يقرأ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي)) ، قال: ((وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟!)) ، فادّخروا عند الله أكثر مما أنفقوا على ذواتهم وشهواتهم، فهذا أبو بكر الصديق ينفق جميع ماله، وهذا الفاروق ينفق نصف ماله، وهذا عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة، وأمثلة كثيرة خيّرة قدمت نماذج لذلك الفهم السديد.
يا عبد الله، لقد أطلّت عليك الشمس هذا العام أكثر من ثلاثمائة وخمسين مرة، وحبيبك يقول فيما أخرجه الإمام مسلم: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) رواه مسلم؛ إذًا عليك في هذا العام نحو مليون وثلاثمائة ألف صدقة، فهل أديت ووفّيت، أو سدّدت وقاربت، أو حتى عزمت ونويت؟! إن كنت كذلك فاحمد الله واسأله الثبات والمزيد، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإن كانت الأخرى فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
يا عبد الله، لقد كان عليك في العام المنصرم ألف وثمانمائة صلاة فريضة، فكم ضيعت منها بعذر وغير عذر؟! وكم صليت منها في المسجد في جماعة بخشوع وتدبر؟! وكم نقرتها كنقر الديكة على عجالة والبال مشغول؟! يا عبد الله، إن الطمأنينة ركن لا تصح الصلاة إلا به، والله ينظر إليك في الصلاة، يسمعك ويجيبك، فإذا انصرفت عنه بقلبك أو بنظرك انصرف الله عنك.
يا عبد الله، هل قرأت القرآن في العام الماضي بتدبر اثنتي عشرة مرة، في كل شهر مرة، أو على الأقل ست مرات في العام؟! إن لم تكن كذلك فنخشى أن تكون من الذين يشكوهم الحبيب إلى مولاه يوم القيامة ويقول: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:40].
يا عبد الله، هل وصلت رحمك؟! فمن وصلهم وصله الله، ومن قطعهم قطعه الله، هل قمت ببرّ والديك؟! هل دعوت لهما؟! هل تصدّقت عليهما ومن أجلهما؟! هل بلغت عن رسول الله ولو آية؟! هل كنت ممن ذكر الله على جميع حاله فتكون ممن قال الله فيهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، يجزي أهل الوفا بالتمام والوفا، وسلام على عباده الذين اصطفى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى ولا ندّ له يبتغى، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا النبي المصطفى والحبيب المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفا.
أما بعد: فيا عبد الله، هل تفكرت في ملكوت السماوات والأرض وفي دقتهما؟! هل فكرت في نفسك وأرجعت الأمر كله لله إذ لا عبادة مثل التفكر؟! إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، هل فكرت في المسلمين الجياع وأنت تحضر الفاكهة وأنواع الطعام لأبنائك؟! هل تذكرت الأرامل وأنت تبيت إلى جوار أهلك؟! هل تذكرت يتامى المسلمين وأنت تلاعب ولدك؟! هل تذكرت المعوقين وأنت تجري خلف طفلك؟! هل تداعت لك صور المقتولين ظلمًا وعدوانًا هنا وهناك عندما أغمضت عينيك انطلاقًا من تمثيل الحديث النبوي الكريم: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)) رواه مسلم؟!
وأخيرًا أخي الحبيب، تذكر قوله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: فيم فعل؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي، وقال: "حسن صحيح".
يا عبد الله، لقد طويت صفحات بخيرها وشرّها إلى غير رجعة حتى يوم الدين، ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر، فهلاّ عاهدت الله على أن يكون حالك في العام المقبل أجدى وأنفع حتى تأتي في مثل هذا اليوم لتجد صحائفك أبهى وأجمل، حين الحصاد نهاية العام.
أخي الحبيب، إني أحذر نفسي وإياك من السين وسوف، فهما سبب ما نحن فيه من تأخر وضياع، فلنشمر عن سواعد الجد، ونعقد العزم، ولنبدأ من الآن، نسأل الله العظيم أن يجعل عامنا الجديد خيرًا من ماضيه، وأن يجعله عزًّا للإسلام والمسلمين، آمين.
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/5011)
الرافضة وخطرهم على الأمة وواجب المسلم نحوهم
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
عبد الله بن محمد اليحيى
جدة
30/12/1427
جامع السيدة خديجة بغلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الغفلة عن المقصد من الحياة. 2- أظلم الظلم. 3- خطر الرافضة على الأمة الإسلامية. 4- عقائد الرافضة الباطلة. 5- حكم الرافضة. 6- الموقف الشرعي من أعمال الرافضة في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، واعبدوه حق عبادته، واشكروا نعمه، فقد تكفّل بالمزيد لمن شكر، وخافوا مقامه، واحذروا بطشه كل الحذر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29].
أيها الإخوة المؤمنون، كثيرة هي مشاغل الحياة، ومتتالية هي صروف الزمان، أحداث تتلوها أحداث، وخطوب تتبعها خطوب، والإنسان هو الإنسان، تغرّه الدنيا وقد علم دنوَّها، ويلهو عن الآخرة وقد أيقَن ببقائها، صبره على الطاعة قليل، وتطلُّعه إلى الهوى كثير، يكابِد الحياةَ بمرِّها وحلوها، ويغفل عن أسمى غايةٍ خُلق من أجلها، وربّه ينبهه إلى ساحلها فيقول سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
عباد الله، يقول معاذ بن جبل: كنت ردف رسول الله على حمار يقال له: عُفير، فقال: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئًا)) متفق عليه.
إن من أظلم الظلم وأعظم الإثم الإشراك بالله وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]، ويقول جل وعلا: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31]، ويقول تبارك وتعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5، 6]، ويقول جل وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 60]، ويقول جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].
أيها الإخوة في الله، في الجمعتين الماضيتين كان الحديث عن العدو الخارجي لأمة الإسلام، وكان الحديث في الخطبة الأولى عن الوضع في العراق ودور أمريكا فيما يجري لإخوتنا هناك وقرب زوال هذه الدولة المجرمة بإذن الله، وفي الثانية عن حقيقة الكافر في الدنيا والآخرة.
واليوم نبدأ الحديث عن العدو الداخلي في أرض المعركة، العدو الذي فاق شرّه ومكره كيد الكفرة الأمريكان، إنهم الرافضة، أخطر ما يواجهه العالم الإسلامي اليوم، ووجه خطورتهم أنهم يطبّقون ما في كتبهم من التعاليم والعقائد المشتملة على الحقد الشديد، والتي تعِد بالقضاء على جميع أهل السنة كبيرهم وصغيرهم، ومن أوجه الخطر جهل أكثر أهل السنة بحقيقة مذهبهم، بل جهل أكثر علمائهم به فضلاً عن جمهورهم؛ ولذلك لا يجدون في نشر مذهبهم مقاومة تذكر.
لقد تغافل الناس عن عقيدتنا السنيّة التي كتبها علماؤنا، هذه العقيدة التي فضحت مسالك الشيعة فلم ينخدع أجدادنا بهم، ولكننا اليوم نتيجة هذا التجاهل لما كتبه الأجداد أصبح غالب الجيل الإسلامي لا يعرف عن خطر التشيع شيئًا، بدعاوى مختلفة؛ مرة بدعوى: شيعة اليوم غير شيعة الأمس، ومرة بأن خطر العدو الصليبي الصهيوني داهم ولا وقت للبحث عن الشيعة وعقائدهم وتاريخهم، ونسوا التحالف الصفويّ مع أوروبا النصرانية لحرب العثمانيين السنة. واليوم تتحالف "الشيعية" مع أمريكا لإسقاط دول المنطقة كما فعلت في العراق.
لقد تكرر على ألسنة عامة الشيعة من جيش المهدي وغيرهم أن اليهود أحسن من السنة، فمن أين لهؤلاء العوام هذه الأفكار؟!
ومن أوجه الخطر نفاقهم وتلبيسهم على الناس بأن دولتهم إسلامية، وأنهم يناصرون الإسلام. ويعجب المرء مما يفعله المسلمون من ضجيج وإنكار لما يفعله بعض النصارى من سخرية برسول الله ولا تجد من يتحرك لما يفعله الرافضة لما هو أعظمُ أذيةً لرسول الله من رمي زوجته بالزنا ولعن أصحابه، بل رسول الله نفسه لم يسلم منهم، فهذا إمامهم يقول كما في كتابه كشف الأسرار: "وواضح بأن النبي لو كان قد بلّغ بأمر الإمامة طبقًا لما أَمر به الله وبذَل المساعي في هذا المجال لما نشَبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت ثمة خلافات في أصول الدين وفروعه".
أيها الإخوة في الله، إليكم عرضا سريعا مؤلما لما تعتقده الرافضة ويجهله أكثر أهل السنة:
فهم يعتقدون أن التوحيد هو نفي الصفات عن الله وإنكار رؤيته تعالى في الجنة، ويقولون بخلق القرآن، ويعتقدون أن الإمامة محصورة في الاثني عشر من أئمتهم، وأنهم معصومون من الصغائر والكبائر أشد من عصمة الأنبياء. ويعتقدون أن الإنسان تجب عليه التقية بأن يظهر موافقته لأهل السنة إذا خاف أو أراد أن يحقق مصلحة. وهم يرتقبون خروج الإمام المهدي الذي سيخرج زعموا.
أيها الإخوة الموحدون، يعتقد الرافضة أنه لن تقوم الساعة حتى يحيي الله آل البيت وأعداءهم من الصحابة وغيرهم، ثم يقتص بعضهم من بعض، ثم يموتون جميعًا، وفي كتاب الكافي الذي هو عندهم كصحيح البخاري يروون عن أبي عبد الله الحسين رضي الله عنه أنه قال: "إن الله خلقنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخُزَّانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عُبِد الله، ولولانا ما عبد الله"، جل الله وتقدس عن ذلك. وفي بحار الأنوار يروون أن عليًا قال ـ وافتروا عليه قبحهم الله ـ: "أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأول، وأنا الآخر، وأنا الظاهر، وأنا الباطن". بل وصفوا الأئمة عندهم بأنهم يعلمون الغيب وأنه لا يخفى عليهم شيء، ورووا عن أبي عبد الله أنه قال ـ افتراءً عليه قبحهم الله ـ: "إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون ".
الإيمان عندهم هو الإيمان بالأئمة الاثني عشر، والشرك هو الإقرار بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان أو غيرهم من الأئمة والخلفاء. إذا كان مدار قبول الأعمال عندنا هو التوحيد فإن مدار قبول الأعمال عند الرافضة هو الإقرار بولاية أهل البيت، قالوا فيما رووه عن أئمتهم: "إن من أقرّ بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجّه، وإن من لم يقرّ بولايتنا لم يقبل الله شيئا من أعماله"، وفي رواية عندهم: "لو أن عبدًا جاء يوم القيامة يعمل بعمل سبعين نبيًا ما قبل الله ذلك منه حتى يلقاه الله وولاية أهل بيتي".
جعلوا الأئمة هم الواسطة بين الله وخلقه في باب العبادات، فرووا أن الأئمة الاثني عشر هم أبواب الله والسبل إليه، وهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. ويروون عن أبي جعفر أحد أئمتهم قال: "بنا عُبد الله، وبنا عُرف الله، وبنا وُحد الله"، بل الدعاء لا يقبل إلا بالدعاء بأسماء الأئمة فيروون: "من دعا الله بنا أفلح، ومن دعا بغيرنا هلك"، ويروون: "إن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بأئمتهم"؛ ولهذا صار دعاء الأئمة كعلي والحسن والحسين وغيرهم في حال الشدائد بل في حال طلاق المرأة وشدة الولادة والاستغاثة بهم من دون الله تعالى عادة عندهم يتربَّون عليها، وهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء واستغاثة بأموات في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ ولهذا قرروا في كتبهم أن الأئمة هم الشفاء الأكبر والدواء الأعظم لمن استشفى بهم.
أيها الإخوة في الله، الرافضة عند زيارتهم لأضرحة أئمتهم يدعونهم من دون الله، بل ويكتبون رِقاعًا توضع على أضرحة هؤلاء الأئمة. ومما يكتبونه فيها: "كتبتُ إليك يا مولاي صلوات الله عليك مستغيثا فأغثني عن اللهف، وقدِّم المسألة لله عز وجل في أمري قبل حلول التلَف وشماتة الأعداء".
ويقولون: إن زيارة أضرحتهم والحج إليها أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، وهذا من الأمور البدهية في مذهبهم وعقيدتهم. وفي كتاب الكافي الذي هو عند الرافضة كصحيح البخاري عندنا: "إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة". بل بالغوا في ذلك حتى رووا عن أئمتهم أنهم قالوا: "من زار قبر أبي عبد الله كتب الله له ثمانين حجة مبرورة"، وفي رواية: "من أتى قبر الحسين عليه السلام عارفًا بحقه كان كمن حج مائة حجة مع رسول الله "، بل رووا: "من زار الحسين يوم عاشوراء حتى يظلّ عنده باكيا لقي الله عز وجل يوم القيامة بثواب ألفيْ ألف حجة وألفي ألف عمرة وألفي ألف غزوة، وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله وآل بيته". بل حددوا الأفضلية لتكون في يوم عرفة يوم حج المسلمين، فرووا: "من أتى قبر الحسين يوم عرفة عارفًا بحقه كتب الله له ألف حجة وألف عمرة مبرورات متقبلات ". بل قالوا: إن كربلاء أفضل من الكعبة، وإن الله جعل لها حرمًا آمنًا كما جعل للكعبة حرمًا آمنًا؛ ولهذا وضعوا مناسك كمناسك الحج؛ لأن زيارة الأضرحة فرض من الفرائض عندهم. وفي هذه المناسك للمشاهد والأضرحة شرح لكيفية الطواف والصلاة عندها.
أيها الإخوة في الله، يعتقدون في تربة الحسين وفضلها وآدابها وأحكامها أنها شفاء من كل داء، ومن أتى تربة الحسين يدعو ويقول وهو يأخذ من هذه التربة: "يا مولاي، يا ابن رسول الله، إني آخذ من تربتك بإذنك، اللهم فاجعلها شفاء من كل داء، وعزًا من كل ذل، وأمنًا من كل خوف، وغنى من كل فقر". وعندهم أن الرِّقاع يستجار ويُستقسم بها كما كان يفعل أهل الجاهلية. ولهم في ذلك من الشركيات أمر عجيب.
هذا غيض من فيض في عقائدهم، وبقي منها أقوالهم في الصحابة ومواقفهم من أهل السنة ومسائل كثيرة أنزه أسماعكم والملائكة عنها.
أيها الإخوة في الله، إنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، ومنهم السّبّابة الذين يسبون أبا بكر وعمر ويبغضونهما، ويبغضون سائر الصحابة ويكفرونهم ويفسقونهم إلا قليلا منهم. وفي مقابل ذلك يغلون في علي رضي الله عنه وأهل البيت، ويدّعون لهم العصمة، ويدّعون أن عليا رضي الله عنه هو الأحق بالأمر بعد النبي ، وأن النبي أوصى بذلك، وأن الصحابة كتموا الوصية واغتصبوا حق علي في الخلافة، فجمعوا بين الغلو والجفاء، ثم اعتنقوا بعض أصول المعتزلة كنفي الصفات والقدر، ثم أحدثوا بعد القرون المفضّلة بناء المشاهد على قبور أئمتهم، فأحدثوا في الأمة شرك القبور وبدع القبور، وبهذا يعلم أنهم كفار مشرِكون منافقون، وهذا هو الحكم العام لطائِفتهم، وأما أعيانهم فكما قرر أهل العلم أن الحكم على المعين يتوقف على وجود شروط وانتفاء موانع، وعلى هذا فإنهم يعاملون معاملة المنافقين الذين يظهرون الإسلام، ولكن يجب الحذر منهم وعدم الاغترار بما يدعونه من الانتصار للإسلام، فإنهم ينطبق عليهم قول الله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وقوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ.
ولا يلزم مما تقدم أن كل واحد منهم قد اجتمعت فيه أصولهم الكفرية والبدعية. ومن المعلوم أن أئمتهم وعلماءهم هم المضلون لهم، ولا يكون ذلك عذرا لعامتهم لأنهم متعصّبون لا يستجيبون لداعي الحق، ومن أجل ذلك فالغالب عليهم عداوة أهل السنة والكيد لهم بكل ما يستطيعون، ولكنهم يخفون ذلك شأنَ المنافقين، ولهذا كان خطرهم على المسلمين أعظم من خطر اليهود والنصارى؛ لخفاء أمرهم على كثير من أهل السنة، وبسبب ذلك راجت على كثير من جهلة أهل السنة دعوة التقريب بين السنة والرافضة، وهي دعوة باطلة، فمذهب أهل السنة ومذهب الرافضة ضدان لا يجتمعان, فلا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن أصول مذهب السنة أو بعضها أو السكوت عن باطل الرافضة، كما أراد المشركون من الرسول أن يوافقهم على بعض دينهم أو يسكت عنهم فيعاملونه كذلك، كما قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: وبعد أن عرفنا حقيقة المعركة وطبيعة الصراع وخبث القوم فإنّ الموقف الشرعي مما يحدث من هؤلاء الرافضة نبينه في نقاط:
أولاً: وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، عن حُذَيْفَةَ بْن الْيَمَانِ قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: ((نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ)) ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: ((قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)) ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: ((هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)) ، قلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ: ((فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)) رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: وجوب الوحدة والائتلاف وترك التنازع والاختلاف والاعتصام بالكتاب والسنة، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَّلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
ثالثا: يجِب أن نتعاون جميعًا حكامًا ومحكومين علماءَ وعامة مفكِّرين وقادة على التصدّي لهذا الخطر العظيم. يجب تعليم الناس خطورة هذه الفرقة وهذا الحزب وهذه الطائفة الذين يُحسنون الجعجعة والمفرقعات الكلامية كسبا لعواطف الأمة، ومن ثمَّ ترويجهًا للمشروع الرافضي الذي كان سببا في سقوط الخلافة العباسية ودمار بغداد.
رابعا: الالتفاف حول العلماء الربانيين والدعاة الصادقين لمعرفة الأحكام الشرعية حيال الفتن، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].
خامسا: أن نعلمَ أن المشروع الرافضي قد فعل في مسلمي العراق في إطار المؤامرة على تقسيمه ما لم يفعله الصليبيون، وقد أظهر من دفين أحقاده وسواد طويتّه على الإسلام ما أيقظ السّادرين في غفلتهم، ونبّههم إلى أنّ هذا العدوّ المتربّص الذي يظهر الدفاع عن الإسلام هو أشدّ خطرًا من العدوّ اليهودي الأمريكي نفسه، مع أنّ هذا الأخير جاء يحمل من الأهداف الخبيثة والكيد العظيم والعزيمة على إطفاء نور هذا الدين أضعاف ما حمله أجداده من كفرة أهل الكتاب الحاقدين، وسيردّهم الله تعالى خائبين بحوله وقوته، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
سادسا: الدعاء لأهل السنة والجماعة في العراق ولبنان وسوريا أن يحقن الله دماءهم ويشفي جريحهم ويرحم موتاهم ويفك أسراهم ويفرج كربتهم وينصرهم على القوم الظالمين، فهم في محنة وبلاء وكرب وعناء. ولنعلم جميعًا أن من أعظم أسباب النصر وكشف الشدائد الدعاء، قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]، وقال تعالى في أهل بدر: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9].
سابعًا: مناصرة أهل السنة والجماعة بكل ما نستطيع كما قال النبي : ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره)). وقد أمر الله رسوله بتحقيق هذه الأخوة بين المسلمين ورعايتها فقال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، وقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
يجب على المسلمين تحقيقًا لأخوّة الإيمان التراحم والتناصر والتعاون على البر والتقوى، فيدخل في ذلك نصرة المظلومين والتنفيس عن المكروبين وإغاثة الملهوفين ومواساة المضطرين من إخوانهم في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من بلاد المسلمين من خلال بذل كلّ ما يستطاع مما يرفع المحنة أو يخففها، وأول ذلك مواساتهم بالمال لسدّ حاجاتهم وتنفيس كرباتهم وكفالة اليتامى والأرامل وعلاج مرضاهم وتفقد أحوالهم.
ثامنا: الحذر كلّ الحذر مما تكتبها الأقلام المرجفة أو تنقله الوسائل المتنوّعة، والذي يحوي في طياته الخبث والنفاق والذل والهزيمة، الحذر من المنافقين الخونة الذين يتكلمون بألسنتنا ويلبسون زيّنا، أجسادهم معنا وقلوبهم شتى.
وللحديث مزيد بيان إن شاء الله تعالى في جمعة قادمة.
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
(1/5012)
اجتناب كثرة الضحك وفضول الكلام
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقوبات المترتبة على كثرة الضحك. 2- التحذير من آفات اللسان. 3- خوف السلف من اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من الأسباب المعينة على صلاح القلب اجتناب كثرة الضحك واللهو، والابتعاد عن الثرثرة واللغو وهذيان الكلام، فإن هذه الأمور تسبب موت القلب وغفلته وقسوته، وإذا غفل القلب وقسا فلن يسابق إلى الطاعات والخيرات، فإن فساد القلب يترتب عليه فساد البدن كله، وصلاحه صلاح للبدن كله.
وقدوتنا وأسوتنا في ذلك محمد ، فما كان ضحكه إلا تبسمًا، عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله ، وفي رواية: ما كان ضحك الرسول إلا تبسمًا. أخرجه الترمذي.
قال معاذ بن جبل : (ثلاث من فعلهن فقد تعرض للمقت: الضحك من غير عجب، والنوم من غير سهر، والأكل من غير جوع).
وكثرة الضحك تقسي القلب، وإن أبعد ما يكون من الله القلب القاسي. وإذا قسا القلب كان أبعد ما يكون من الخشوع في الصلاة.
وكثرة الضحك تجعل المسلم ساهيًا لاهيًا عما خلقه الله له، لا يأخذ الأمور بجد ولا يعيش الحياة بجد، بل حياته لهو وضحك ولعب، لا يعرف رسالته في الحياة، ولا يعرف الهدف من وجوده.
وكذلك فإن فضول الكلام والقيل والقال مما كرهه الله لعباده، كما في الحديث أنه قال: ((إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
لذلك كان حريًا بالمسلم أن يضبط لسانه، ويسأل نفسه قبل أن يتحدث عن جدوى الحديث وفائدته، وما الذي يترتب على كلامه، يقول الله عز وجل: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18].
ففي هذه الآية تذكير للمؤمنين برقابة الله عز وجل التي لا تتركهم لحظة من اللحظات، ولا تغفل عنهم في حال من الأحوال، في كل ما يصدر عنهم من أقوال وما يخرج من أفواههم من كلمات، كل قول محسوب لهم أو عليهم، وكل كلمة مكتوبة في سجل أعمالهم، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، يسجله الملكان في الدنيا، ويوم القيامة ينكشف للحساب كل شيء ويكون الجزاء.
فعلى العبد أن يفكر فيما يقول قبل أن يتكلم، فإن كان خيرًا تكلم وإلا سكت. والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها، يقول الرسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) أخرجه البخاري ومسلم، وروى الترمذي عن رسول الله قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان؛ تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
وضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله، وهذا وعد رسول الله حيث قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه ـ يعني لسانه ـ وما بين رجليه ـ يعني فرجه ـ أضمن له الجنة)) أخرجه البخاري.
واللسان هو ترجمان القلب، وقد كلفنا الله عز وجل أن نحافظ على استقامة قلوبنا، واستقامة القلب مرتبطة باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة، من بذاءة في الألفاظ وفحش في الكلام وسب ولعن وكذب وغيبة ونميمة وشتم بأساليب عديدة، وهذه ليست من صفات المؤمن، يقول : ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) أخرجه الترمذي. وهذه الألفاظ تجري على الألسنة ويتساهل الناس بها دون تفكير في العاقبة، وقد لا تطيب المجالس عند البعض ولا يحلو الحديث إلا بهذه الأساليب الساقطة التي تناقض الحياء الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، والأنكى من ذلك والأشد أن بعض النفوس استمرأت ذلك، ويرون أنه من باب المزاح والتسلية وقضاء الأوقات وتحلية المجالس، وما علم هؤلاء أنهم وقعوا بذلك في الفسق وأضاعوا أوقاتهم، وحملوا أنفسهم الأوزار.
في الحديث الذي يرويه البيهقي أنه قال: ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى به أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)) ، ويقول كما عند البخاري: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إذا أطلق العبد للسانه العنان أن يتكلم بما يشاء كان عرضة للنهاية التعيسة والإفلاس في الآخرة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
وعن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه)) أخرجه الترمذي؛ ولذلك كان علقمة رحمه الله ـ وهو أحد رواة هذا الحديث ـ يقول: "كم من كلام أردت أن أتكلم به منعنيه حديث بلال بن الحارث". فكان يمتنع عن كثير من الكلام حتى لا يسجل عليه قول أو ترصد عليه كلمة من اللغو الذي لا فائدة فيه.
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 1-3]. فأثنى عليهم سبحانه وجعلهم من المفلحين، وجعل من أوصافهم أنهم عن اللغو معرضين.
ولقد كان خوف السلف من آفات اللسان عظيمًا، فقد كان أبو بكر الصديق يأخذ بلسان نفسه ويقول: (هذا أوردني الموارد)، وقال عمر : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: (وما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)، وكان أبو الدرداء يقول: (أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تكلم به)، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك! قل خيرا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل"، وقال أيضًا رحمه الله: "أشد الورع في اللسان".
قال ابن القيم رحمه الله: "قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة، وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ".
فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على كل ما يقربه من الله، ويبتعد كل البعد ويحذر كل الحذر عن كل ما يبعده من الله، من الأقوال والأعمال التي تبعده عن ربه، فليس هناك مصيبة أعظم من المصيبة في الدين.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5013)
الزهد في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الزهد والورع
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الزهد. 2- أنواع الزهد. 3- فضائل الزهد. 4- السلف والزهد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الزهد هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلبًا لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك.
ومما يعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [الحديد: 20]. وسماها الله: مَتَاعُ الْغُرُورِ ، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا من الوقوع في مثل مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها، وعلمنا أن وراءها دارًا أعظم منها قدرًا وأجل خطرًا وهي دار البقاء.
ومما يعين العبدَ على الزهد فيها معرفتُه وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئًا كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقّن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين، بل صاحبه داخل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 26].
وليس المقصود بالزهد ترك الدنيا ورفضها، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وغيرهم كثير.
وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد،؟ قال: "نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه". وقال الحسن: "ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء".
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
والزهد أنواع، فالزهد في الحرام فرض عين، أما الزهد في الشبهات فإن قويت الشبهة التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًا، وهناك زهد في فضول الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس حيث تهون عليه نفسه في الله، والزهد الجامع لذلك كله هو الزهد فيما سوى ما عند الله، وفي كل ما يشغلك عن الله، وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ.
عباد الله، لقد مدح الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع، فقال تعالى: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد: 26]، وقال عز وجل: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24]، وقال سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23]، وقال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39].
وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة)) رواه مسلم، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبي رجل فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)) ، وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) رواه الترمذي وصححه.
ولذلك فقد كان الأنبياء والمرسلون أزهد الناس، فهم قدوة البشر في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90]. ومن تأمل حياة سيد الأولين والآخرين علم كيف كان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، ولربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل ـ وهو رديء التمر ـ ما يملأ بطنه، وفي غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء، وكان يقول: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما كان فراش رسول الله الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف، وأخرجت رضي الله عنها كساءً ملبدًا وإزارًا غليظًا فقالت: قبض رسول الله في هذين؛ ولذلك فهو قدوة الناس وأسوتهم في الزهد والعبادة. قال : ((ما لي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل سار في يوم شديد الحر، فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها)) ، وفي لفظ: ((ما لي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) رواه أحمد والترمذي.
لقد حذر الله تبارك وتعالى من فتنة الأموال والأولاد في هذه الحياة؛ حتى لا ينشغل العبد بها عن الاستعداد لما أراد الله منه وهو العبادة، فقال تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]. ونهى جل وعلا عن النظر إلى ما في أيدي الناس؛ لأن ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة الباقية، فقال تعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 131].
ولقد كان المصطفى يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فيتنافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم، قال : ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) رواه مسلم.
ولما كان هو الأسوة والقدوة فقد سار على دربه الأفاضل والأخيار من أمته، فعن علي أنه قال: (طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطًا، وترابها فراشًا، وماءها طيبًا، والكتاب شعارًا، والدعاء دثارًا، ورفضوا الدنيا رفضًا). وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، (أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام)، فما أعظمها من وصية وما أحلاها. وعن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يومًا من عند معاوية ثمانون ألفًا، فما أمسى عندها درهم، فقالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحمًا بدرهم؟! قالت: لو ذكرتني لفعلت. وقال ابن مسعود : (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له). ولما قدم عمر الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض بقدميه في الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله). ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعًا ولا أثاثًا، فقال: (إن لنا بيتًا نوجه إليه صالح متاعنا)، فقال الرجل: إنه لا بد لكم من متاع ما دمتم ها هنا، فقال أبو ذر: (إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه). وكان عمرو بن العاص يخطب بمصر ويقول: (ما أبعد هديكم من هدي نبيكم ، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها). وقال علي : (تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح ـ أي: البعير ـ بالنهار، وما لي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن وإن قصتها ـ أي: شعرها ـ لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: (اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ـ أي: قيام الليل ـ ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر).
وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علمًا سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: "توسدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم". وقال مالك بن دينار: "يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي ـ فاتنة الحي ـ، فتقول له: أريد مرطًا ـ أكسية من صوف ـ فتمرط دينه" أي: تذهب به.
وكان كثير من السلف يعرض لهم المال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا.
وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلّف أربعمائة دينار، وقال: "إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني". وقال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة". قال الشافعي في ذم الدنيا والتمسك بها:
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وإن تَجتذِبْها نازعتك كلابُها
وكان أبو سليمان الداراني يقول: "كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو مشؤوم".
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله وصحابته الكرام، كما أن فيه تمامَ التوكل على الله، وهو يغرس في القلب القناعة، إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
والزاهد يحبه الله ويحبه الناس، فإن امتلَكتَ فاشكُر وأَخرج الدنيا من قلبك، وإن افتَقَرتَ فاصبر فقد طويت عمّن هم أفضل منك، فقد كان النبي ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكان الصبيان إذا دخلوا بيوت رسول الله نالوا السقف بأيديهم، فلم يسكن القصور صلوات الله وسلامه عليه. وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة.
لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه، فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، في الأثر: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم غنمه).
إن الدنيا ظل زائل وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سنة الله تعالى في خلقه، أيامٌ يداولها بين الناس؛ ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي:
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع
ومن يرى الناس اليوم وهم يتصارعون على هذه الدنيا ويتكالبون عليها يدرك لماذا يفقد البعض دينه ويضيّع الكثيرُ أهلَه وأولاده، وتنتشر الأحقاد وتُزرع الضغائن وتعمّ البغضاء، وهذا مصداق ما قاله النبي : ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) أخرجه أحمد.
ولقد كان يوجه أصحابه ويحثهم على الزهد في هذه الدنيا، ومنها قوله : ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) ، وقوله أيضًا: ((لأن أقول: سبحان الله ولا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)). ففي ذلك توجيه منه إلى أن الدنيا لا تساوي شيئًا، فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها، له شأن وللناس شأن، فالمؤمن عبدٌ لله في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وسواء أقبلت الدنيا أو أدبرت، فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره، فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء. وإذا تحقق ذلك كان حريًا بالمسلم أن يقبل على العبادة بقلب غير متعلق بهذه الدنيا الفانية ولا بشيء من حطامها.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
(1/5014)
فضل التبكير إلى الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فصل التبكير للصلاة. 2- فائدة التبكير للصلاة. 3- بعض آداب الذهاب إلى السجد. 4- حرص السلف الصالح على تكبيرة الإحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الملاحِظَ لحال كثير من المصلين هذه الأيام يرى أن أكثرهم لا يحضر للصلاة إلا عندما يسمع الإقامة، وهذا قد فاته خير عظيم وثواب جزيل لا يعلم به إلا الله.
إن للحضور المبكِّر للصلاة أثرا عظيمًا في الخشوع فيها، فإن من يحضر إلى المسجد مبكرًا ويصلي ما كتب له أن يصليه ويذكر الله ويدعوه ـ فإن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة كما ثبت ذلك عنه ـ ليس كمن يحضر إلى المسجد مسرعًا ليدرك مع المصلين ما فاته، فشتان ما بين الاثنين.
فينبغي للمسلم أن يأتي إلى الصلاة مبكرًا، ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبّر وخشوع، فذلك أدعى للخشوع في الصلاة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه أبو هريرة : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه)) رواه البخاري ومسلم، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن حال النبي في بيته، فقالت: إنه يكون في خدمة أهله، ويعجن العجين أحيانًا، فإذا "سمع حيّ على الصلاة حي على الفلاح" فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه. متفق عليه. فكان يلبي نداء ربه حين يسمع النداء صلوات الله وسلامه عليه.
وتكبيرة الإحرام هي أوّل شجرة تقطَف منها ثمرة الخشوع والذلّ والانكسار لله، تقطفها وتتذوق حلاوتها حينما تتصور وقوفك بين يدي الله، وحينما يستغرق تفكيرك في معاني التكبير، فتتصور قدر عظمة الله في هذا الكون، وتتأمل ـ وأنت تكبّر ـ في قول الله جل وعلا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255]، ثم تتأمل قول ابن عباس : (إن الكرسي موضع القدم)، فحينئذ تدرك حقيقة "الله أكبر"، تدركها وهي تلامس قلبك الغافل عن الله فتوقظه وتذكّره بعِظَم الموقف وعظم الأمانة التي تحمّلها الإنسان، التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. تدرك حقيقة التكبير وأسراره، وتنظر إلى حالك مع الله وما فرطتَ في جنبه سبحانك، ثم تتيقّن أنه سبحانه قد نصَب وجهه لوجهك في لحظه التكبير، لتقيم الصلاة له راجيًا رحمته وخائفًا من عذابه، إنه لموقف ترتعش له الجوارح وتذهل فيه العقول.
وإن الحضور المبكر للصلاة ليجعل المسلم يقبل على الصلاة بقلب متفرغ عن مشاغل الدنيا، ويهيئ نفسه وقلبه وجوارحه للوقوف بين يدي الله سبحانه، ومن داوم على ذلك وجد في ذلك لذة لا تعدلها لذة، ووجد راحة وطمأنينة لا يجدها إلا في بيوت الله، حتى إنه ليحمل هم خروجه من الصلاة، ولا يخرج وقت صلاة إلا وهو في شوق إلى الصلاة التي تليها، وهكذا حتى يصبح قلبه معلقا بالمساجد، ويكون من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث الصحيح. وقد ذكر شراح هذا الحديث معنى قوله: ((معلقٌ بالمساجد)) ، أي: أنه كلما حضرت صلاة وصلاها خرج من المسجد وهو في شوق إلى الرجوع إليه والعودة إليه، وقد روي عن عدي بن حاتم ـ كما في ترجمته عند الذهبي ـ أنه قال: (والله، ما جاءت صلاة إلا وأنا في شوق إليها)، وروي عن ثابت البناني أنه قال: "والله، إني لأدخل في الصلاة وأنا في همّ من خروجي منها". وهذا لا يأتي إلا بعد صبر ومجاهدة.
وقد ذكر أهل العلم عدّةَ فضائل في التبكير إلى الصلاة نذكر منها:
1- أن منتظر الصلاة لا يزال في صلاة ما انتظرها، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)) متفق عليه، وفي رواية: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة)) رواه البخاري.
2- أن الذي ينتظر الصلاة تصلي عليه الملائكة وتدعو له بالمغفرة والرحمة ما دام في مصلاه ما لم يحدث أو يؤذ فيه، قال عليه الصلاة والسلام: ((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له اللهم ارحمه)) متفق عليه، وفي رواية: ((ما لم يؤذ فيه)) رواه البخاري.
3- أن انتظار الصلاة بعد الصلاة سبب في محو الخطايا ورفع الدرجات، وهو من الرباط، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) رواه مسلم.
4- أن في التبكير إلى المسجد ضمانًا لإدراك صلاة الجماعة التي تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه.
5- أن المبكّر إلى المسجد يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
6- أن بالتبكير يدرك الصفّ الأول الذي قال عنه : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) متفق عليه، وقوله: ((يستهموا)) أي: يضربوا قرعة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها)) رواه مسلم، وقال أيضًا: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدّم)) رواه النسائي، وفي لفظ: ((الصف الأول)) ، وكان يستغفر للصف المقدّم ثلاثًا وللثاني مرة. رواه أحمد.
7- وكذا إدراك ميمنة الصف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبو داود وحسنه ابن مفلح.
8- وإدراك التأمين وراء الإمام في الصلاة الجهرية، وفي ذلك فضل عظيم، قال : ((إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه، وفي لفظ: ((من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، وفي رواية: ((إذا قال أحدكم: آمين وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري.
9- أن المبكر إلى المسجد يتمكن من الإتيان بالنوافل المشروعة بين الأذان والإقامة من السنن الراتبة والنوافل المطلقة، وهو ما دلّ عليه حديث: ((بين كل أذانين صلاة، لمن شاء)) متفق عليه. والمراد بين كل أذان وإقامة، وحديث: ((ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان)) رواه ابن حبان.
10- أن المبادرة إلى الصلاة دليل على تعلق القلب بالمسجد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، فذكر منهم: ((ورجل معلّق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)) متفق عليه.
11- أن التبكير إلى المسجد وانتظار الصلاة سبب في حضور القلب في الصلاة وإقبال المرء على صلاته وخشوعه فيها؛ وذلك أنه كلما طال مكثه في المسجد وذكر الله زالت مشاغله وتعلقاته الدنيوية عن قلبه، وأقبل على ما هو فيه من قراءة وذكر، بخلاف المتأخر فإن قلبه لا يزال مشغولاً بما هو فيه من أمور الدنيا، ولذا فإنك تلاحظ أن أوائل الناس دخولاً المسجد آخرهم خروجًا، وآخرهم دخولاً المسجد هم أوائلهم خروجًا في الغالب، وما ذلك إلا لما ذكرته. وقد قال عليه الصلاة والسلام مبينًا أهمية الخشوع وحضور القلب في الصلاة: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، رعبها، ثلثها، نصفها)) رواه أحمد.
12- أن المبكِّر يتمكن من الدعاء بين الأذان والإقامة، فالدعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة. رواه النسائي وصححه ابن خزيمة. وكذلك يتمكن من الإتيان بأذكار الصباح في الصباح والمساء في المساء وقت الفجر والمغرب.
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن فضائل التبكير إلى المسجد أيضًا:
13- أن من يأتي مبكرًا غالبًا يأتي إلى الصلاة بسكينة ووقار، فيكون ممتثلاً أمر النبيِّ ، بخلاف المتأخر فإنه غالبًا يأتي مستعجلاً غير متّصف بالسكينة والوقار، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، ولا تأتوها وأنتم تسعون)) متفق عليه.
فمن الآداب عند الخروج إلى المسجد الخروج إليه بسكينة ووقار وتذلّل وخضوع للباري سبحانه. والسكينة مأخوذة من السكون، وهي الطمأنينة والتأني والحلم والمهابة واجتناب العبث ولغو الكلام، والوقار هو الرزانة والحلم والعظمة، قال القرطبي: "وهو بمعنى السكينة، ولكنه ذكر على سبيل التأكيد"، وقال النووي: "إن بينهما فرقا؛ فالسكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار يكون في الهيئة كغضّ الطرف وخفض الصوت".
وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((إذا أتيتم الصلاة)) وفي لفظ : ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) ، وفي رواية: ((فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)) رواه البخاري ومسلم. قال ابن القيم: "السكينة هي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله بحيث يؤدي العبودية لله بقلبه وبدنه، والخشوع هو نتيجة هذه السكينة وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب، وسببها مراقبة العبد لربه حتى كأنه يراه". قال الإمام أحمد: "إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع ما لم تكن عجلة تقبح".
وقد كان السلف رحمهم الله يحرصون على إدراك تكبيرة الإحرام وعلى الحضور المبكر إلى الصلاة، روي عن سعيد بن المسيب رحمه أنه قال لابنته قبل وفاته وهي تبكي عنده: "يا بنيّه، لا تبكي عليّ؛ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام أربعين عاما". فكيف الحال بمن تفوته تكبيرة الإحرام في اليوم الواحد مرات؟!
وقد كان يعزي بعضهم بعضًا إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام، روِيَ عن حاتم الأصمّ رحمه الله أنه فاتته تكبيرة الإحرام يومًا، فجاءه بعض أصحابه يعزّونه على ذلك، فلما رآهم بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: فاتتني تكبيرة الإحرام، فعزّاني بعض أهل المدينة، ولو مات لي ولد لعزّاني أهل المدينة كلّهم، ولمَوت أبنائي جميعًا أحبّ إلي من أن تفوتني تكبيرة الإحرام.
وقد روي عن محمد بن واسع رحمه الله أنه قال: "من رأيتَه يتساهل في تكبيرة الإحرام فاغسِل يديك منه".
فانظروا إلى شدة حرصهم على إدراك تكبيرة الإحرام، وما ذلك إلاّ بعلمهم بالأجر الذي قد أعدّه الله لمن أدرك هذه التكبيرة.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5015)
فضل الخشوع في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة, فضائل الأعمال
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة في الإسلام. 2- فضل الخشوع في الصلاة. 3- تعريف الخشوع. 3- فضل البكاء من خشية الله. 4- أسباب تعين على الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
فإن من أظهر وأجلى شعائر الإسلام وأركانه العظام الصلاة التي فرضها الله على عباده، ولذلك أكثر الله سبحانه من ذكرها في كتابه الكريم، ومدح أهلها وأثنى عليهم، وذم من تركها أو تهاون بها. فالصلاة هي عمود الإسلام، لا حظ في الإسلام لمن ضيعها، فهي عموده الفقري الذي تنتشر منه أضلاع هذا الدين، وتحمل أحشاءه وأطرافه ورأسه، وإذا انكسر هذا العمود الفقري فلا حركة ولا نشاط ولا استواء.
إن الصلاة ليست أقوالا وحركات تؤدى فحسب، بل هي تربية للنفس وتهذيب للروح وصفاء للقلب ونور للبصيرة، تحيا بها القلوب، وترد المسلم إلى ربه، وتقوي صلته به، هي قرة عيون الموحدين المخلصين كما قال : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة. وهي كذلك لذة وسعادة للخاشعين المخبتين.
إن الصلاة أصبحت في واقع كثير من المسلمين اليوم عادة وليست عبادة، أصبحت تؤدَّى بقلوب ساهية لاهية مشغولة بحطام الدنيا التي قد طغت على القلوب، وأصبحت حديث الناس في كل أوقاتهم وجميع حالاتهم، بل وحتى في مساجدهم، حتى ممن ظاهرهم الصلاح والاستقامة أصبحت الدنيا شغلهم الشاغل حتى على حساب دينهم.
لذا ينبغي على المسلم أن يعرف فضل الخشوع، وما ورد فيه من الفضل والثواب العظيم، وما أعده الله سبحانه للخاشعين والخاشعات، فإذا عرف الثواب بذلت الأسباب وهانت الصعاب، لو لم يكن للخشوع في الصلاة إلا فضل الانكسار بين يدي الله وإظهار الذل والمسكنة له لكفى بذلك فضلاً، وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ومقصودها، ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع.
والخشوع في اللغة: هو السكون والانخفاض والهدوء. k قال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه: 108] أي: انخفضت وسكنت، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت: 39] أي: منخفضة ساكنة. والخشوع في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى وسكون الجوارح واستحضار ما يقوله المصلي أو يفعله من أول صلاته إلى آخرها، مستحضرًا عظمة الله تعالى وقربه من عبده، وأنه بين يديه يناجيه.
والحامل على الخشوع هو الخوف من الله تعالى ومراقبته، والشعور بقربه من عبده، وكلّما امتلأ القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه قوي خشوعه وانكساره وتعلّقه بربه. والخشوع يحصل في القلب ثم يتبعه خشوع الجوارح والأعضاء، من السمع والبصر والرأس وسائر الأعضاء حتى الكلام؛ ولذا كان رسول الله يقول في ركوعه: ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي، وما استقلَّت به قدمي)) أخرجه مسلم من حديث علي. فإذا خشع القلب خشعت الجوارح وظهر عليها السكون والطمأنينة والوقار والتواضع، وإذا فسد خشوع القلب بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء وذهب خشوعها.
والخشوع أمر عظيم شأنه، أثنى الله تعالى على المتصفين به، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون [المؤمنون: 1، 2]. وهو سريع فقدُه لا سيما في هذا الزمان، وقد ورد في حديث أبي الدرداء أن رسول الله قال: ((أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعا)) أخرجه الطبراني وحسنه المنذري. وفي الحديث الذي يرويه حذيفة أن رسول الله قال: ((أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وربّ مصلّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخلَ المسجد فلا ترى فيهم خاشعًا)).
والخشوع في الصلاة هو روحها، ولا يحصل ذلك إلا لمن فرّغ قلبه له، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، واستحضر فيها عظمة الله تعالى، فصارت راحة له وقرّة عين. والصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب قد تكون مجزئة مثابًا عليها، إلا أن الثواب على حسب ما يعقِل القلب منها، لما وَرَد عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنّ الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
قال ابن رجب الحنبلي: "أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره، فإذا حصل له ذلك تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له"، وقال ابن كثير في تفسيره: "الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدَة والوقار والتواضع، والحامل عليه هو الخوف من الله ومراقبته".
والله سبحانه قد أثنى في كتابه الكريم وامتدح الخاشعين والخاشعات في أكثر من موطن، وجعله سببًا للفلاح في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]، وقال سبحانه: وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ [الحج: 37]، والمخبتون ـ كما ذكر أهل التفسير ـ هم الخاشعون المتواضعون، مأخوذ من الخبيت وهو المكان المنخفض من الأرض. وقال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45]، فالصلاة ثقيلة وطويلة إلا على من استثناهم الله سبحانه؛ لذا تجد كثيرا من الناس يتضايق من الصلاة ويشتكي من تطويل الإمام، وربما اقتصر على صلاة ينقرها كنقر الغراب في بيته، هذا إذا لم يتركها بالكلية.
وقال سبحانه بعد حديثه عن الأنبياء والمرسلين صفوة الخلق عليهم الصلاة والسلام: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]، وقال سبحانه مثنيًا على الذين أوتوا العلم: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107]، وقال سبحانه: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 138]، وأصل القنوت التذلل والخشوع. وسبب نزول هذه الآية ـ كما ذكر ذلك أهل التفسير ـ أن الصحابة كانوا إذا قاموا في صلاتهم رفعوا أبصارهم إلى السماء، فأمرهم الله سبحانه بخفض أبصارهم.
والخشوع أمر قلبي يجعل القلب يقبل على الله سبحانه، والجوارح تسكن، والعين تدمع من خشية علام الغيوب؛ لذا قال للرجل الذي رآه يعبث في صلاته: ((لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)) رواه الترمذي وفيه ضعف، وقيل: "إنه موقوف على سعيد بن المسيب".
وقد حثنا رسولنا على الخشوع، وبين فضل البكاء من خشية الله، حيث قال : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال أيضًا: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) رواه الترمذي (1683). وقد ذكر في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) متفق عليه. ووجه الدلالة من الحديث أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيره، فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة. ووالله، لن يتعلق قلب عبد بالمساجد إلا وهو من الخاشعين في صلاتهم المتلذذين بها المقبلين عليها، فهم يجدون فيها أنسهم وجنتهم ونعيمهم الذي لا يريدون فراقه، على حد قول شيخ الإسلام: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، إنها جنة الإخلاص واليقين. وقدوتنا وأسوتنا في ذلك رسولنا ، فعن عبد الله بن الشخير قال: أتيت النبي وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. أخرجه أبو داود (904). وكان يستعيذ من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع. رواه أبو داود (1385).
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الخشوع في الصلاة هو روحها، والطمأنينة ركن من أركانها لا تتم إلا به، كما في حديث المسيء في صلاته الذي لم يتمّ ركوعها ولا سجودها، فقال له : ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) وسوف يأتي معنا. وقد قال عمر بن الخطاب : إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاة، قيل: وكيف ذلك؟! قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها. فهذا عمر في صدر الإسلام يقول ذلك، فكيف لو رأى حالنا اليوم؟!
والخشوع هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والتذلل، وهو روح الصلاة ومادة حياتها، وهو ثمرة الإيمان وطمأنينة النفس. ومحل الخشوع هو القلب وثمرته على الجوارح، ولا يحصل هذا الخشوع في الصلاة إلا بأسباب، فمن اجتهد في بذلها وعمل بها فحينئذ تكون راحته وقرة عينه في صلاته، كما كان المصطفى.
وممن قال بوجوب الخشوع في الصلاة شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى؛ لأنه ركن من أركان الصلاة، ومن الأدلة على وجوبه أن الرسول توعد من رفع بصره إلى السماء، وهذه الحال ضد حال الخاشع، وسيأتي ذلك.
وعلى المسلم أن يحذر خشوع النفاق، فقد ورد عن حذيفة أنه قال: إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع. فخشوع الإيمان هو خشوع القلب فيتبعه خشوع الجوارح، وخشوع النفاق هو ما يظهر على الجوارح تكلفًا وتصنّعًا والقلب غير خاشع.
وأسباب الخشوع نوعان، وكل منهما في مقدور المكلف:
الأول: جلب ما يوجب الخشوع ويقوّيه، وهو الذي يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية قوة المقتضي. ويتم ذلك بالاستعداد للصلاة والتفرغ لها والطمأنينة وترتيل القراءة وتنويعها وتدبرها وتنويع الأذكار والأدعية وتدبرها ولا سيما في حالة السجود.
الثاني: إزالة الشواغل ودفع الموانع التي تصرف عن الخشوع، وهذا هو الذي يسميه شيخ الإسلام ضعف الشاغل، وهو الذي جاءت فيه أحاديث الخشوع، حيث تضمنت نهي المصلي عن أمور تنافي الخشوع أو تضعفه، فيتعين على المكلف اجتنابها ليحصل له الخشوع.
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "يأتي على الناس زمان يصلون وهم لا يصلون، وإني لأتخوف أن يكون الزمان هو هذا الزمان". يقول ذلك في زمنه، فكيف لو رأى حالنا وصلاتنا في هذا الزمان؟!
إن من الواجب على المصلي إذا دخل في صلاته أن يتعنّى بها، وأن يقبل عليها بقلبه وقالبه، حتى يحصل من الأجر والثواب والعاقبة الحميدة والتأثر بالصلاة ما لا يحصيه إلا الله سبحانه؛ لأنها صلة بين العبد وربه، فيحذر من كل ما يشغل قلبه ويبعده عن ربه، فإن من الناس من إذا دخل في الصلاة جعل يعبث إما ببدنه أو بثيابه أو بنظره ها هنا أو ها هنا، وهذا لا ينبغي بل يخشى عليه من بطلان صلاته.
إن الخشوع يأتي للقلب غالبًا إذا بذل العبد أسبابه وجاهد نفسه واجتهد في دعاء ربه سبحانه أن يرزقه قلبًا خاشعًا، قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. والخشوع في الصلاة يزيد وينقص حسب الأخذ بالأسباب الجالبة له.
وإن للصلاة منزلتها العظيمة في الإسلام ومكانتها الكبيرة؛ لذا كان من الواجب على كل مسلم معرفة الأسباب الجالبة للخشوع والعمل بها وتحقيقها قدر الإمكان.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5016)
قيام الليل
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على قيام الليل. 2- قيام النبي بالليل. 3- السلف وقيام الليل. 4- أسباب تعين على قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن قيام الليل ومناجاة الواحد الأحد في وقت لا يراك فيه ولا يسمعك إلا هو سبحانه هو من أعظم الأسباب التي تقرب من الله سبحانه، فإن في ذلك تربية للنفس وتعويدا لها على مراقبته سبحانه.
إن قيام الليل هو دأب الصالحين وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم وذنوبهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات. إنه شرف المؤمن الذي لا يعدله شرف.
قال البخاري في صحيحه: "باب: فضل قيام الليل"، ثم أورد بسنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله ، وكنت غلاما شابا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله فقال: ((نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
والشاهد قوله : ((نِعمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي من الليل)) ، فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نِعمَ الرجل، وفي الحديث كذلك أن قيام الليل يكون سببًا في دفع العذاب والنجاة من النار.
وقال النبي : ((إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)) ، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائمًا والناس نيام)) رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني، وقال أيضًا: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)) رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني.
إن قيام الليل يرقق القلب، وهذا مما يجعل المسلم يخشع في صلاته ويقبل عليها، والنبي قد حث على قيام الليل ورغّب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد)) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وقال أيضًا حاثًا أمته على قيام الليل حتى ولو كان جزءًا قليلاً من الليل، وبين أن القيام سبب لطرد الغفلة عن القلب، فعن عبد الله بن عمرو رضوان الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (635). والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر، والقنطار هو العدد الكثير، وحدده بعض أهل العلم بأنه ما كان أكثر من الألف. وفي رواية أن النبي قال: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا آتاه، وذلك كل ليلة)).
وذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)) متفق عليه، وقال مبينًا فضيلة قيام الليل وأنه أفضل الصلاة بعد الفرائض: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم، وعن علي بن أبي طالب أنه أخبر أن رسول الله طرقه وفاطمة بنت النبي ليلة فقال: ((ألا تصليان؟!)) فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئا، ثم سمعته وهو مولٍ يضرب فخذه وهو يقول: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف: 54] رواه البخاري.
قال ابن بطال: "يدل الحديث على فضيلة قيام الليل وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة؛ لذلك قال الطبري: لولا ما علم النبي من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكَنا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة".
ولقد أمر الله تعالى نبيه بقيام الليل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 1-4]، وقال سبحانه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء: 79]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا ـ يا رسول الله ـ وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) متفق عليه. وهذا يدل على أن الشكر لا يكون باللسان فحسب، وإنما يكون بالقلب واللسان والجوارح، فقد قام النبي بحق العبودية لله على وجهها الأكمل وصورتها الأتم مع ما كان عليه من نشر العقيدة الإسلامية وتعليم المسلمين والجهاد في سبيل الله والقيام بحقوق الأهل والذرية، فكان كما قال ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقناتٌ أن ما قال واقع
يبيت يُجافِي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين الْمضاجع
وعن حذيفة قال: صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسِّلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوذ... الحديث. رواه مسلم. وعن ابن مسعود قال: صليت مع النبي ليلة فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممتُ أن أجلس وأَدَعَهُ. متفق عليه.
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على اختيار النبي تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قويًا محافظًا على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده"؛ لذلك قال الحسن البصري: "لم أجد شيئًا من العبادة أشدّ من الصلاة في جوف الليل"، وقال أبو عثمان النهدي: "تضيّفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا"، وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، ثم يقول: "اللهم إن جهنم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه"، وكان طاوس يثب من على فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيَّر ذكرُ جهنم نومَ العابدين"، وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادَى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرِّسون، أكُلَّ هذا الليل ترقدون؟! ألا تقومون فترحلون؟! فيسمع من ها هنا باكٍ، ومن ها هنا داع، ومن ها هنا متوضّئ، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى.
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإن مما يعين على قيام الليل أسبابا، نذكر منها:
1- استشعارك أن الله الجليل يدعوك للقيام، فعن أبي هريرة أن النبي قال: ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) رواه مسلم، وأن الحبيب يدعوك إلى القيام، عن عبد الله بن سلام أن النبي قال: ((أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) رواه أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" وصححه الحاكم.
2- واستشعار أن الله عز وجل يرى ويسمع صلاتك له بالليل، عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار ـ أي: قام ـ عن وطائه ـ أي: فراشه ـ ولحافه، من بين أهله وحِبّه ـ أي: أهله ـ إلى صلاته ـ أي: القيام ـ ، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من حِبّه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي)) رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
3- ومما يعين على القيام النوم على الطهارة، عن عبد الله بن عباس رضوان الله عنهما أن رسول الله قال: ((طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه في شعاره ـ وهو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة ـ ملك، لا يتقلّب ساعة من الليل إلا قال ـ أي ملك ـ: اللهم اغفر لعبدك، فإنه بات طاهرًا)) رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3831).
4- معرفة أن النبي كان لا يترك القيام حتى في المرض، عن عبد الله بن أبي قبيس قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله كان لا يدعه ـ أي: لا يتركه ـ، وكان إذا مرض أو كسِل صلى قاعدًا. رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وقال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
5- عدم السهر بعد العشاء، عن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي يجدب لنا ـ أي: يكره ويعيب ـ السمر بعد العشاء. رواه أحمد وابن ماجه وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
6- إدراك أن القيام سبب للفوز بالحور الحسان، قال أزهر بن ثابت التغلبي رحمه الله تعالى: كان أبي من القوامين لله في سواد الليل، فقال أبي ذات مرة: رأيت في منامي امرأة لا تشبه نساء الدنيا، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: حوراء أمة الله، فقلت لها: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني إلى سيدي وأمهرني، فقلت لها: وما مهرك؟ فقالت: طول التهجد.
7- النوم على نية القيام للصلاة، عن أبي ذر أو أبي الدرداء رضي الله عنهم ـ شك الراوي ـ أن النبي قال: ((ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه، وكتب له أجر ما نوى)) رواه مالك وأبو داوود والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع (5567).
8- معرفة أن الله تعالى يباهي بقائم الليل الملائكة، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "إذا نام العبد ساجدًا ـ أي: في القيام ـ باهى الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، يعبدني وروحه عندي وهو ساجد".
9- ومعرفة أن النبي كان لا يترك القيام في أرض الجهاد، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى صلى وانصرف إليهم. رواه أحمد وصححه المنذري في الترغيب والترهيب.
10- معرفة مدى اجتهاد السلف رضي الله عنهم في قيام الليل، عن أم سعيد بن علقمة رحمها الله تعالى قالت: "كان داود الطائي رحمه الله جارًا لنا، فكنت أسمع بكاءه عامة الليل لا يهدأ، ولربما ترنم في السَحَر بشيء من القرآن، فأرى أن جميع نعيم الدنيا في ترنيمه تلك الساعة".
يا رجالَ الليل جِدّوا رُبّ داعٍ لا يُردُّ
لا يقوم الليلَ إلا من له عزم وجِدُّ
ألا وصلّوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه م ن ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/5017)
موت الفجأة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الموت والحشر
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار موت الفجأة في هذا الزمان. 2- صور موت الفجأة. 3- والوصية بالاستعداد للموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاًً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
إن المتأمل في حال كثير من الذين يموتون هذه الأيام يجد أن أكثرهم يموت فجأة بغير مقدمات من شيخوخة أو مرض أو نحوه، ترى بعضهم يخرج من بيته ومن بين أهله فلا يعود إليهم، وترى بعضهم يكون بين أصدقائه وفجأة يسقط ميتًا، وبعضهم في حوادث وفي أعمار متوسطة. ورد في الحديث أنه في آخر الزمان يكثر موت الفجأة.
ولموت الفجأة صور كثيرة، فمنها ما يسمى بالسكتة القلبية بأن تتوقف حركة القلب ويحصل بعدها الموت في تلك اللحظة، ولا يتمكن الأهالي من العلاج ولا من استدعاء الأطباء، لحصول تلك السكتة بغتة بدون مقدمات آلام أو أمراض.
ومن صورها الغشية والإغماء الذي يحصل بعده خروج الروح، ولا تكون هناك مقدمات ولا علامات قبل هذه الغيبوبة، فتحصل الوفاة في تلك اللحظة.
ومن الصور ما تكاثر من الحوادث المرورية للسيارات، والتي يحصل بسببها موت العديد من الأفراد والجماعات، وذلك بسبب تهور بعض السائقين وركوبهم الأخطار وتعرضهم لأسباب الحوادث، فتارة بالسرعة الجنونية التي يكون من آثارها حوادث الانقلاب والاصطدام، وينتج عن ذلك زهوق أرواح في تلك اللحظة أو الموت دماغيًا، وأحيانًا يكون بسبب غلبة النوم والنعاس على قائد السيارة.
ومن صور موت الفجأة ما يحصل بالقتال مع اللصوص والصائلين وقطاع الطرق الذين يعرضون للناس.
ومن أسباب ذلك أيضًا الغصة بلقمة أو مثلاًً دخول الماء إلى الأنف وتسكيره مجال الهواء والجلطات أو غير ذلك، فهذه كلها صور وأسباب لموت الفجأة، وهي غير داخلة تحت الحصر؛ لأنه تختلف أسبابها حسب الأحوال.
يا لها من مفاجأة يباغت فيها الإنسان فيؤخَذ على غرة، تعددت أسبابها وتلونت أشكالها واختلفت أعمارها وتنقّلت أوقاتها، لا تميّز بين الطفل والشاب والشيخ، كلّ له أجله المكتوب وعمره المحسوب عند رب رحيم حليم.
عجبًا لنا! كيف نجرؤ على الله فنرتكب معاصيه وأرواحنا بيده؟! وكيف نستغفل رقابته والموت بأمره يأتي فجأة؟! أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت؟! إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداعَ الدنيا مستعدًّا للقاء ربه.
روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!
أيها المسلمون، قد يكون ملك الموت بانتظارنا ولم يبق من أعمارنا إلا دقائق معدودة، فما نحن فاعلون؟! وهل نحن مستعدون؟! هذه ـ والله ـ هي الحقيقة لا محيد لنا ولا مهرب ولا ملجأ. إن موت الفجأة هو جرس إنذار لنا لنستيقظ من غفلتنا، ولننتبه من رقادنا في وقت انشغل الناس بالدنيا ونسوا الآخرة، ونسوا أنهم قادمون على الله شاؤوا أم أبوا.
إن الذي يتابع أوضاع الناس اليوم يلحظ انصرافًا وإعراضًا وانشغالاًً بدوامة الحياة، هذه الدوامة المخيفة أشغلت الكثير من البشر، ولم تمنحهم وقتًا للتفكير إلى أن يسقط أحدهم ميتًا. وكثيرًا ما يفاجئك اتصال أو رسالة أو غير ذلك أن فلانًا مات وهو في كامل صحته وعافيته، إنه مصداق حديث النبي من حديث أنس أن النبي ذكر أن من أمارات الساعة كثرة موت الفجأة. رواه الطبراني في الصغير والأوسط وقال الألباني: "حسن".
إذًا كيف نستعد لهذا الزائر المفاجئ؟ وما الاستعداد المطلوب؟
لقد كان كثير من السلف رحمهم الله دائمًا على أهبة الرحيل، بحيث لو قيل لأحدهم: إنك ستموت في هذا الشهر لم يكن هناك ما يزيد به في العمل، حيث إنه مستغرق أوقاته في الأعمال الصالحة، وفاطم نفسه عن الآثام والمحرمات.
الجميع من البشر يستيقنون بأنهم سوف يأتيهم الموت ويرحلون عن هذه الحياة، ولكن إقبالهم على الدنيا وانكبابهم على الشهوات والملذات منعهم من الاستعداد للموت، كما قال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3]، وفي الصحيح أن النبي خط خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط، وخط خطوطًا عن يمينه وعن يساره، وخط خطًا خارجًا عنه، ثم قال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا عمله، وهذه الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا)). أخبر بأن هذا الخط البعيد هو الأمل وأن على الإنسان أن يقصر أمله، ولا يمد بصره إلى أهل الدنيا وملذاتها وشهواتها، كما قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131]
يا حسرتنا ـ يا عباد الله ـ على غفلة قد طمت، ومهلة قد ذهبت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، وأهدرناها في التفاهات، نسير كأن أحدنا سيعمر ألف سنة، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادا مؤجلا، كم قريب دفنا، وكم حبيب ودعنا، نفضنا غبار القبور من أيدينا وعدنا وعادت معنا الدنيا لنغرق في ملذاتها.
أين العيون الباكية من خشية الله؟! أين القلوب الوجلة من لقاء الله؟! ألا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله؟! ألا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة؟! ألا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى؟! ألا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].
إخواني المسلمين، إني أذكّر نفسي وإياكم بأن لا نغتر بالحياة وطولها وآمالها، وأن نذكر الموت والبِلى، فهكذا ينبغي أن يكون المسلم على صلة بتذكّر هذه النهاية وهذا المصير. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستعدون له ويأخذون حذرهم منه.
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
كم يسعى الإنسان ويجهد في هذه الحياة الدنيا، قد ملأ قلبه بالطموحات، وغره طول الأمل، وغفل عن كثرة العلل، فانطلق كالسهم يركض خلف مبتغاه، يعرق ليجمع، ويجمع لينفق أو ليبخل، قد أطغاه حب الجاه، وأرهقه التطلع للمنصب، وأشغله هم الأولاد، وقصم ظهره اللهث وراء الأموال، فيفلح حينًا ويعثر حينًا آخر، وينهض مرة أخرى لا يبالي بتعب ولا يفكر في جهد، فقط أن يصل إلى ما وصل إليه غيره، بل يزيد على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يقول سبحانه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15]. يا لله! كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه، وتهدّ من جسده وقوته، يظن أنه سيبلغ غايته وينال مبتغاه. يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5].
يا عباد الله، إنه من الخطير حقًا أن نتأفف من ذكر الموت وأسبابه، نراعي في ذلك مشاعرنا؛ لهثًا خلف الفرحة بهذه الدنيا، كيف وقد قال النبي : ((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)) ، يعني الموت. رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح غريب". وما ذاك إلا لأن ذكر الموت يعين بعد الله تعالى على فعل الطاعات والاستزادة من المعروف والخير، ويزهد في الدنيا وزهرتها، ويكشف لك غرورها وزوال متاعها، ويهون عليك فوات نعيمها، لتفكر في نعيم الآخرة المقيم، فتجتهد في العبادة، وتعمل لتلك السعاة.
قال حوشب بن عقيل: سمعت يزيد الرقاشي يقول لما حضره الموت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ، ألا إن الأعمال محضورة، والأجور مكملة، ولكل ساع ما يسعى، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت، ثم بكى وقال: يا من القبر مسكنه، وبين يدي الله موقفه، والنار غدًا مورده، ماذا قدمت لنفسك؟ ماذا أعددت لمصرعك؟ ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك؟
ليذكر بعضنا بعضًا بفناء أعمارنا وفناء هذه الدنيا، ولنستعذب الحديث عما أعده الله لعباده من الجنان والفوز بالرضوان؛ عل قلوبنا أن تلين لباريها، وتخشع لخالقها العزيز الحكيم.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
(1/5018)
لا تغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/11/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الغضب. 2- أنواع الغضب. 3- من الأدوية الشرعية لعلاج داء الغضب. 4- صور من هدي السلف عند الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة، قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منها أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال، والغضب ينسي الحرمات ويدفن الحسنات ويخلق للبريء جنايات، وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وكما قيل:
وعين البغض تبرز كل عيب وعين الحب لا تجد العيوبا
أيها المسلمون، للغضب أسباب كثيرة جدًا، والناس متفاوتون فيها، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضِب غيره، ومنهم من لا يغضب إلا لأمر عظيم، وهكذا، فمِن أسباب الغضب:
أولاً: العُجْب، فالعُجْب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة، فالعُجب قرين الكِبْر وملازم له، والكِبْر من كبائر الذنوب، فقد قال النبي : ((لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر)).
ثانيًا: المِِراء، قال عبد الله بن الحسين: "المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب". وللمِراء آفات كثيرة منها الغضب، ولهذا فقد نهى الشارع عنه، قال النبي : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)).
ثالثًا: من أسباب الغضب المِزاح، إن المزاح بدؤه حلاوة لكنما آخره عداوة، يحتدّ منه الرجل الشريف، ويجتري بسخفه السخيف، فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه؛ إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي : ((لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادًا ولا لاعبًا)).
قال الشاعر:
مازح صديقك ما أحبَّ مزاحا وتوقَّ منه في المزاح مزاحا
فلربَّما مزح الصديق بمزحة كانت لباب عداوة مفتاحا
ذُكِر لخالد بن صفوان المزاح فقال: "يَصُكُّ أحدكم صاحبَه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرَق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المِرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك!". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إياك والمزاح؛ فإنّه يجرّ القبيح ويورث الضغينة". وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: "إذا كان المزاح أمامَ الكلام كان آخره اللّطم والشتام".
رابعًا: بذاءة اللسان وفحشه، بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور ويثير الغضب، وقد قال النبي : ((إن الله يبغض الفاحش البذيء)).
أيها المسلمون، الغضب أنواع:
الأول: الغضب المحمود، وهو ما كان لله تعالى عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان، إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام بعد عِلمه باتخاذ قومه العجل: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين.
أما غضب النبي فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل.
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: ((بهذا أمرتم؟! أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم)) ، فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه.
وما أكثر ما تنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنًا وسرًا، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة وإشاعة الفاحشة وبث الشبهات وتزيين المنكر وإنكار المعروف والاستهزاء بالدين وشعائره، فهذا كله مما يوجب الغضب لله تعالى، وهو من الغضب المحمود وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد على الشبهات.
أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك، فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي استيقظ من نومه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم؛ إذا كثر الخبث)).
وكذلك من الغضب المحمود الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء وانتهاك للأعراض واستباحة للأموال وتدمير للبلدان بلا حق، وفي مقدمة ذلك في هذه الأيام ما يحصل للمسلمين في فلسطين على أيدي اليهود الغاصبين، وما يحصل للسنة في العراق على أيدي التعاون المشترك بين الصليبيين والصفويين العلاقمة، فإنه أمر أصبح مكشوفًا لكل أحد، بل تصريحاتهم الجريئة المعلنة تثبت ذلك والله المستعان. ولا شك أن غضب المسلم لهذا الأمر من الغضب المحمود، بل من الغضب الواجب نصرة لإخوانه المستضعفين هناك.
الثاني: الغضب المذموم، وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان، كالحميَّة الجاهلية والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جليًا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف، فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر، سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه، فالحق عندهم ما وافق هواهم، والباطل ما حدَّ من مبتغاهم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِين أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون.
الثالث: الغضب المباح، وهو الغضب في غير معصية الله تعالى دون أن يتجاوز حدَّه؛ كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى، قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين.
ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ ، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ، فقال لها: قد عفا الله عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ، قال: اذهبي فأنت حرة.
وقال نوح بن حبيب: كنت عند ابن المبارك فألحّوا عليه، فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ، فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله! كاد أن يكون قتال، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه.
أيها المسلمون، يحتاج المسلم أن يعالج الغضب في نفسه، وما أنزل الله داءً إلا وأنزل له شفاء، فمن الأدوية الشرعية لعلاج داء الغضب:
أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم. عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسًا مع النبي ورجلان يستبان، فأحدهما احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد)) ، فقالوا له: إن النبي قال: ((تعوَّذْ بالله من الشيطان))، فقال: وهل بي جنون؟!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما الغضب فهو غول العقل، يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته".
ثانيًا: تغيير الحال، فعن أبي ذر أن رسول الله قال: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)).
ثالثًا: ترك المخاصمة ولزومُ السكوت، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك ـ وخصوصًا في الأقوال السيئة ـ لا تضرك بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها وسوغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تصنع لها بالاً لم تضرك شيئا".
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مُجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلمًا كعود زادَه الإحراق طيبا
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت)).
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخيْرٌ من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعًا قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مُجاوبًا أبدًا سفيهًا خزيتُ لمن يُجافيه خزيتُ
رابعًا: الوضوء، فقد روِيَ عن عطية السعدي قال: قال رسول الله : ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).
خامسًا: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ، فمن استحضَر الثوابَ الكبير الذي أعدَّه الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببًا في ترك الغضب والانتقام للذات.
وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب، منها الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده، قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين. ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين، وقال تعالى: فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون.
وأيضًا ترك الغضب سبب لدخول الجنة، عن أبي الدرداء قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((لا تغضب ولك الجنة)). وأيضًا المباهاة به على رؤوس الخلائق، عن أنس أن النبي قال: ((مَن كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء)). وأيضًا من فضائل ترك الغضب النجاة من غضب الله تعالى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، ما يمنعني من غضب الله؟ قال: ((لا تغضب)) ، فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله تعالى خيرًا منه. وقال أبو مسعود البدري : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي: ((اعلَم أبا مسعود))، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ، فإذا هو يقول: ((اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود،)) قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) ، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا.
ومن الفضائل أيضًا زيادة الإيمان، قال النبي : ((وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا)). ومن أعظم فضائل ترك الغضب العمل بوصية رسول الله ، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي : أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، فردد مرارًا قال: ((لا تغضب)). وهنيئًا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي بكلام كلي، ولهذا ردد، فلما أعاد عليه النبي عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله: ((لا تغضب)) يتضمن أمرين عظيمين:
أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخَلْق من الأذى القولي والفعلي، فإذا وفق لها العبد وورد عليه وارد الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه، فإن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه.
الثاني: الأمر بعد الغضب أن لا ينفذ غضبه، فإن الغضب غالبًا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه، فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب، فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة فكأنه في الحقيقة لم يغضب، وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية والقوة القلبية".
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال الشاعر:
ولم أرَ فِي الأعداء حين اختبرتهم عدوًا لعقل المرء أعدى من الغضب
كثيرًا ما نسمع أن والدًا قتل ولده أو ولدًا قتل والده ـ فضلاً عن غيرهم ـ بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام ووقع الطلاق وتهاجر الجيران وتعادى الإخوان. عن وائل قال: إني لقاعد مع النبي إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي، فقال رسول الله : ((أقتلته؟)) فقال: ((إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة)) ، قال: نعم قتلته، قال: ((كيف قتلته؟)) قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم، فإنه كلب إن أُفلت أَتلف".
فكثيرُ الغضب تجده مصابًا بأمراض كثيرة، كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب. ولو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده.
أيها المسلمون، إليكم بعض الصور من هدي السلف عند الغضب:
سب رجلٌ ابنَ عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: يا عكرمُن، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال أبو ذر لغلامه: لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك، قال: لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حرّ لوجه الله تعالى. وأسمعَ رجلٌ أبا الدرداء كلامًا فقال: يا هذا، لا تغرقن في سبّنا ودع للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. وقال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى لابنه: يا بنيَّ، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه؛ فإن أنصفك وإلا فاحذره.
وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفّفت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك، فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله ، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيرًا لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمتَ الحياة خيرًا لنا، وتوفنا إذا علمتَ الوفاة خيرًا لنا. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضاء بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين...
(1/5019)
التحذير من التفرق والاختلاف والتكفير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
23/12/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة التفرق والاختلاف. 2- فريضة الاجتماع والوئام. 3- النهي عن التفرق والاختلاف. 4- وجوب الاجتماع على الكتاب والسنة. 5- مصيبة الاستجابة لمخططات الأعداء. 6- نداء لرجال الإعلام والفكر والثقافة. 7- التحذير من الاستهانة بأعراض المسلمين. 8- فتنة التكفير. 9- حرمة التقاتل بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا أيُّها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ التّقوى تفوزوا دنيا وأخرى.
أيُّها المسلمون، تمرُّ أمّتُنا بأحوال عصيبةٍ وظروف شديدة، فتنٌ شتّى ومِحَنٌ عظمى. وإنَّ من أخطرِ مَا تُعانيه الأمة اليومَ تفرّقَ الصفِّ وتنافر القلوب واختلافَ التوجُّهات؛ حتّى تحقَّق للأعداء ما يرمونه منذ قرونٍ من جعلِ المسلمين أحزابًا متعدِّدَة ودويلاتٍ متفرّقَة وطوائف مختلفة؛ ولذا فما أحوجَ المسلمين اليومَ إلى الاستنارةِ بضوء الوحيَين والتأصيلِ بأصول الهديَين والالتزامِ بمنهج النورَين؛ ليكونوا من المفلحين ومن جندِ الله الغالبين، وتكونَ الأمّة بمَنأى عن عبثِ العابثِين وإفسادِ المفسِدينَ، وذَلِك لن يَكونَ إلاّ بأن تتَّجِه الأمّةُ الإسلاميّة بقلُوبها وأبدانها في صغيرِها وكبيرِها في أقوالِها وأَفعالِها في سِياسَاتِها واقتِصادها وعَلاقَاتِها وسَائِرِ شُؤونها إلى الاعتِصام بالقرآنِ والسنّة وطاعة الله جلّ وعلا وطاعةِ رسولِه ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ قال: ((تركتُ فيكم أَمرَين لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما: كتابَ الله وسنتي)) حديث إسناده حسَن.
أمّةَ القرآن، من الأصول الكبرى في الإسلامِ فريضةُ الاجتماع والوئامِ على منهج الوحيَين والتَّواصي بالحقِّ والتسليمِ لأمر الله وأمرِ رسوله والتعاوُن على البرِّ والتّقوى والتكاتف فيما يخدِم مصالحَ الدين والدنيا، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 102، 103]، وقال عزَّ شأنُه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]، ونبيُّنا يقول: ((المؤمِنُ للمؤمِنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضا)) وشبَّكَ بين أصابعه، ويقول : ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسدِ الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمّى)) متفق عليهما.
أيّها المسلمون في كلِّ مكان، مِن قواعِدِ الإسلام ومقاصِدِه العظامِ النهيُ عن التفرُّق والاختلاف في شؤونِ الدِّين والدّنيا معًا، يقول سبحانَه: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32]. الفُرقَةُ عذابٌ، والشِّقاقُ ذلٌّ وهوان، والتنازع فشَلٌ وخَسَار، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46].
إنَّ المسلمين طريقُهم الأوحَدُ للسلامَةِ والنجاةِ والعِزّةِ والرِّفعةِ هو اتباعُ السنّة والجماعة والبُعدُ عن الشذوذ والخلاف والفُرقة، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]، إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159].
أيّتُها الأمّة المسلِمَة في كلِّ مَكان، اسمَعي لوصايَا سيِّد الأوَّلين والآخرين ونبيِّ الثَّقَلين أجمعين، أنصِتِي لهذهِ الوَصَايَا العظيمَةِ التي يَكفَل العملُ بها السعادةَ والأمن والعزَّةَ والمجدَ في الدارَين معًا: عن العرباضِ بنِ سارية قال: وعظَنا رسول الله موعظةً ذَرَفَت منها العيونُ ووَجِلَت منها القلوبُ، فقال قائل: يا رسول الله، كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا، فقال : ((أوصِيكُم بتقوَى الله والسَّمعِ والطاعةِ وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنّه من يعش منكم بعدِي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة)) صححه ابن حبان والحاكم ووافقَه الذهبي، وعن عمرَ بنِ الخطاب أنَّ النبيَّ قال: ((عليكم بالجماعةِ، وإيّاكم والفرقةَ؛ فإنَّ الشيطان مع الواحدِ، وهو من الاثنين أبعَدُ، من أراد بحبوحةَ الجنة فليزَمِ الجماعة)) صحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي.
أيّها المسلمون، مِن أعظم ما رُزِئت به أمّةُ الإسلام استجابةُ بعض أبنائِها لمخطَّطات الأعداء، تلك المخطّطاتُ التي تتلوَّن بأساليبَ شتى وصُوَرٍ لا تُحصَى؛ لتصلَ بأمّة الإسلام إلى تفريق صفِّها وتمزيق شملِها وتحطيم كيانها، على حدِّ قاعدتهم المشؤومة: "فرِّق تسُد".
فتارةً تسودُ الفُرقة ويحصل الاختلاف بسَبَب الابتعادِ عن منهج الوحيَين والبعدِ عن فهمِ الصحابةِ رضي الله عنهم لهذا الدين، فنشأت في الأمّةِ بسبَبِ ذلك فِتَنٌ كبرَى، تفرَّقت بسببها الأمة وتشعبَّت بها السبل بما حدثَ مِن ابتداعٍ في الدين وبُعدٍ عن كلامِ ربِّ العالمين وسنّة سيّد الأنبياء والمرسلين وعُدولٍ عن منهَج الصحابةِ والتابعين، فالله جلّ وعلا يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]، ويَقولُ عزَّ شأنُه: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50]. قال الشاطبيّ في كلامٍ له حسن: "إذا ابتدَعوا تجادَلوا وتخاصموا وتفرَّقوا وكانوا شِيَعًا".
وتارَةً ـ أيّها المسلِمون ـ يجرّ الأعداءُ أبناءَ الأمّةِ الإسلاميّة إلى التفرُّق والاختلاف بسبَب الدعواتِ المقيتة التي تحمِل أفكارًا مسمومَة ودعواتٍ مشؤومةً لا زالت تَفُتّ في عضُد الإسلام وأهله وتحطِّم مصالحَ المسلمين وتجعَلهم في الذلّة والهوان، وإلا فهل وَجَد المسلمون من الشعاراتِ القوميّة والدعواتِ الحزبيَّة والتيَّارات العنصريَّة إلاّ كلَّ ذلٍّ وعارٍ وهوان، فللَّه كم جرَّت تلك الشعاراتُ على المسلمين من فتنٍ كبرَى ومَصائب عظمى عاشها الكبار وأدركَها الصغار، ويلاتٌ وقودُها النفوس والأموال والأعراض، وعاقِبَتها تمزيقُ الشَّمل وغرسُ العداوَة والشحناء في القلوب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كلُّ ما خَرَج عن دعوَى الإسلامِ والقرآن مِن نَسَب أو بلدٍ أو جِنس أو مذهَب أو طريقةٍ فهو من عَزاءِ الجاهِليّة، بل لما اختَصَم مهاجريٌّ وأنصاريّ قال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاريّ: يا لَلأنصار، قال النبيُّ : ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهرِكم؟!)) ، وغضب لذلك غضبًا شديدًا" انتهى كلامه رحمه الله.
يا رجالَ الإعلام، يا رِجال الفكر والثقافة، يا مُلاّك القنواتِ الفضائيّة، اتَّقوا الله في أنفسكم، واحذروا من ربكم، احذَروا أن تكونوا بما تسطِّره أقلامُكم أو تعرِضه قنواتكم أن تكونوا وسيلةً لتفريق الأمّة المحمديّة وإِذكاء الفرقةِ والخلافات والصراعاتِ الثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة وشيوع الأحقاد والبغضاء، الزَموا الصدقَ في نشر المعلومات السليمةِ والحقائق الثابتة، وكونوا محاطين بتقوَى الله ومخافتِه، فلَتُسألُنّ يومئذٍ عمّا تقولون وما تَفعلون، ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيَّته)).
أيّها المسلمون، من أقبح صُوَر التفرّق في الأمة الاستهانةُ بأعراض المسلمين، ونبيُّنا يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
ومِن ذلك الاستهانةُ في التسارُع في الطامّة الدَّهياء، وهي التساهل في التكفير، تلك المسألةُ التي زلَّت بها أَقلامٌ وضلَّت بها أَفهام وزلَّت بسبَبِها خلائق وأمَمٌ، قال النبيّ : ((مَن قال لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)) متفق عليه.
قال الغزّالي رحمه الله: "والذي ينبغي الاحترازُ من التكفير ما وُجِد إليه سبيلاً، فإنَّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلة المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطَأٌ، والخطأ في ترك ألفِ كافر في الحياةِ أهوَنُ من الخطأ في سفك محجمةٍ من دم مسلم" انتهى.
ويقول الشوكانيّ رحمه الله: "اعلَم أنَّ الحكم على الرجل المسلِم بخروجِه من دين الإسلام ودخولِه في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليومِ الآخر أن يقدمَ عليه إلا ببرهانٍ أوضح مِن شمسِ النهار"، ثم ساق جملةً من الأحاديث وقال: "وفي هذه الأحاديثِ وما ورَد مَورِدَها أعظمُ زاجرٍ وأكبرُ واعِظٍ عَن التسرُّع في التكفير".
ويقول الشيخُ عبد الله بن محمد بنِ عبد الوهّاب رحمه الله: "وبالجملةِ فيجِب على من نصَح نفسَه أن لا يتكلّم في هذه المسألة ـ أي: التكفير ـ إلا بعلم وبرهانٍ من الله، وليحذر من أخرجَ رجلاً من الإسلام بمجرَّدِ فهمه واستحسانِ عقلِه؛ فإن إخراجَ رجل من الإسلام أو إدخالَه من أعظمِ أمور الدّين، وقد استزلَّ الشيطان أكثرَ الناس في هذه المسألة" انتهى.
وإنَّ مما يُؤسَف له ويحزَن له كلُّ مسلِم غَيورٍ على هذا الدينِ أن يرفعَ المسلم السلاحَ على أخيهِ المسلم في مواطنَ شتى من بلدانِ المسلمين، وقد نادانَا إلهُنا محذِّرًا ومرهِّبًا بقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ورسولُنا يقولُ محذِّرًا أمّتَه من التهاونِ بقتلِ مسلمٍ: (( من مرَّ في شيء من مساجدِنا أو أسواقِنا ومعه نَبلٌ فليُمسِك ـ أو: ليقبِض ـ على نِصالها بكفِّه؛ أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بِشيءٍ)) متفق عليه.
يا إخوانَنا المسلمين في كلِّ مكان، إيّاكم من أن يستزلَّكم الشيطانُ وتَدعوَكم المصالح الآنيّةُ إلى الوقوعِ في فتنةٍ تُغضِب الرحمنَ وتفرِح الشيطانَ، فقد حذَّر الرسولُ أمّتَه من ذَلك فقال: ((لَزوالُ الدّنيا أهونُ على الله من قتلِ مؤمنٍ بغير حقّ)) رواه النسائي، وفي صحيح البخاريّ عن النبيّ أنه قال: ((لا يزال المؤمِنُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (إنَّ من ورطات الأمورِ التي لا مَخرجَ منها لمَن أَوقَع نفسَه [فيها] سَفكَ [الدّم] الحرام بغير حله) أخرجه البخاري.
وإن الأمّةَ اليوم في حاجةٍ إلى العَمل بتلك الوثيقةِ العظيمةِ التي تركها لهم نبيُّهم في حجّة الوداع حينما قال: ((يا أيّها النّاس، إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حَرام كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بَلَدِكم هذا)).
يا إخوانَنَا في العراق الحبيبةِ وفي فِلسطِين الغالِية وفي الصّومال المسلِمة، يا أهلَ الإيمان في كلِّ مكان، من منبرِ رسول الله نناديكم، ومن مسجد سيِّدنا وقدوَتِنا نناشدكم أن تعمَلوا بهذه الأصول الإيمانيّة، وأن تلتزِموا بهذه المبادئ القرآنيّة والوصايا النبويّة، اجتمعوا على كلمةِ القرآن ومنهَج سيّد ولد عدنان، اتَّحدوا واجمعوا صفَّكم فيما يخدِم دينكم ودنياكم، فوِّتوا الفرصةَ على الأعداء المتربِّصين لتفريقِ صفِّكم وتمزيقِ شملكم، اعتَصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، قدِّموا مرضاةَ الله على أهواء النفوس ورَغَباتها، قدِّموا منطقَ العقل والحكمة، واعمَلوا بالرّوِيّة والتحلِّي بالصّبر والرِّفق ومقاصِد الشريعة؛ فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، والمصالح العامّة مقدَّمَة على المصالح الخاصّة، ولا ضرَرَ ولا ضِرار في الإسلام، عظِّموا الدماء، واحترِموا الأموالَ والمقدَّرات، وصونوا الأعراضَ والحُرُمات.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كما ينبَغِي لجلالِ وجهه وعظيم سُلطانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له في ربوبيّته وألوهيّته وأسمائه وصِفاته، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيَّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله جلّ وعلا، فهي وصيّةُ الله اللازمة للأوَّلين والآخرين.
أيّها المسلمون، إنَّ على المؤمنِين أتباعِ محمدٍ وهم يعانون تحزُّب الأعداء وتكالُبَ الحاقدين عَليهم أن يكرِّسوا جهودهم للدّعوة إلى الإسلام وتعظيمِه في القلوب والعَمَل به في الواقع، كما أنَّ أوجبَ واجب وأعظَمَ فرضٍ التوبةُ إلى الله جل وعلا والتمسّك بدينه والتواصِي بالحق وتحكيم الشريعةِ في كلّ شأن والاستقامة على ذلك؛ فبذلك وحدَه يحصل النصر وتتحقَّق العزة ويندحِرُ العدوّ ويحصُلُ التمكين، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ الآية [النور: 55]، والله جل وعلا يقول أيضًا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173]. وإنَّ على المسلمين حُكّامًا ومحكومين وهم يُعانون أخطارًا محدقة أن يأخذوا الحذرَ من الأعداء، وأن يعدّوا العدّة لهم ما استطاعوا من القوّة مع التوكُّل الصادق على الله وصِدقِ الاعتماد عليه والأخذِ بالأسباب المادّيّة وَفقَ ما تقتضيه ظروف العصر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71]، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60].
ثمّ إنَّ الله جلَّ وعلا أمرَنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك وأنعِم على سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا محمد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن سائر الصحابة أجمعين...
(1/5020)
عقائد الشيعة (4): القرآن والتقية
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فرق منتسبة
لخضر هامل
وهران
8/2/1426
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة على اعتقاد الشيعة أن القرآن الذي بين أيدينا محرّف ومبدّل. 2- الأدلة على اعتقاد الشيعة أن بعض القرآن قد بُدّل لفظه. 3- الأدلة على اعتقاد الشيعة أن هناك سورا كاملة قد حذفت من القرآن. 4- الأدلة على أن الشيعة لا يهتمون بالقرآن ولا بقراءته. 5- عقيدة التقيا عند الرافضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر: 54].
أيها المسلمون، تكلمنا في الجمعة الماضية عن اعتقاد الشيعة في الصحابة رضوان الله عليهم، وسنتمّ اليوم ـ إن شاء الله ـ الكلام عما بقي من عقائدهم، حيث بقي لنا اعتقادهم في القرآن وعقيدة التقية.
أيها الإخوة الكرام، يعتقد الشيعة القدامَى والمعاصرون أن القرآن الذي بين أيدينا محرّف ومبدّل، وأنه ليس على الوجه الذي أنزله الله على رسوله، وقد جاء في أمهات كتبهم اعترافهم بذلك، بل وألّفوا في ذلك كتبا، ككتاب: "فصل الخطاب في تحريف كتاب ربِّ الأرباب" للنوري الطبرسي، وهو كتاب معتمَد عند الشيعة، ويُعَدّ صاحبه عالما من علماء الشيعة، فقد جمع فيه أكثر من ألفي رواية تنصّ على التحريف، وجمع فيه أقوال جميع الفقهاء وعلماء الشيعة في التصريح بتحريف القرآن الموجود بين أيدي المسلمين، حيث أثبت أن جميع علماء الشيعة وفقهائهم المتقدمين منهم والمتأخرين يقولون: "إن هذا القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين محرّف".
جاء في بحار الأنوار (26/41) عن علي بن سعيد عن أبي عبد الله قال: "وعندنا ـ والله ـ مصحف فاطمة، ما فيه آية من كتاب الله، وإنه لإملاء رسول الله صلوات الله عليه وآله بخط عليّ بيده"؛ ولهذا قال الإمام الخوئي في وصيته: "عليكم بهذا القرآن حتى يظهر قرآن فاطمة". وفي مقدمة البرهان لهاشم البحراني قال: "وعندي في وضوح صحة هذا القول ـ أي: القول بتحريف القرآن ـ بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار، بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع"؛ ولهذا قال أبو جعفر كما نقل عنه جابر: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده". وعن علي بن الحكم عن هشام بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد سبعة عشر ألف آية". والمعروف أن القرآن ستة آلاف ومائتان وثلاث وستون آية، ومعناه أن ثلثي القرآن راح على أدراج الرياح والموجود هو الثلث، ولقد صرح بذلك جعفر بن الباقر كما يزعمون، وفي الكافي (2/628) عن أبي جعفر عليه السلام قال: "نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام".
أيها الإخوة الأفاضل، يعتقد الشيعة أن بعض القرآن قد بُدّل لفظه، فكم من آية زعموا أنها لم تنزل على النبي كما تتلى اليوم، جاء في تفسير القمي (1/10) عند قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]: قال أبو عبد الله عليه السلام لقارئ هذه الآية: خير أمة يقتلون أمير المؤمنين والحسين بن علي؟! فقيل له: وكيف نزلت يا ابن رسول الله؟! فقال: إنما نزلت: (كنتم خير أئِمَّة أُخرِجت للناس)، ألا ترى مدح الله بهم في آخر الآية؟! (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ومثله آية قرِئت على أبي عبد الله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، فقال أبو عبد الله: لقد سألوا الله عظيمًا، أن يجعلهم للمتقين إمامًا، فقيل له: يا ابن رسول الله، كيف نزلت؟! فقال: إنما نزلت: (الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعل لنا من المتقين إمامًا). وقوله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11]، فقال أبو عبد الله: كيف يحفظ الشيء من أمر الله؟! وكيف يكون المعقب من بين يديه؟! فقيل له: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟! فقال: إنما نزلت: (له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله)، ومثله كثير جدا.
أيها الإخوة الكرام، كما يعتقد الشيعة أن هناك سورا كاملة حذِفت من القرآن الكريم، جاء في كتاب: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" سورة يزعمون أنها حذفت من كتاب الله، والقارئ والسامع لهذه السورة يحلف بأغلظ الأيمان أنها ليست من القرآن في شيء، بل هي مجرد كلمات جمعت من القرآن مع بعض الألفاظ التي لا يمكن أن تكون من عند الله، والسورة كما يزعمون: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم الدين. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم، ظلموا أنفسهم وعصوا الوصيّ الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السماوات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذناهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عادًا وثمود بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة أفلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون وأغرقناه ومن تبعه أجمعين ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون. إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون. إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون. مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم. وإن عليًا من المتقين. وإنا لنوفيه حقه يوم الدين. ما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين. فإنه وذريته لصابرون. وإن عدوهم إمام المجرمين. قل للذين كفروا بعدما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون. يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفاه مؤمنًا ومن يتولاه من بعدك يظهرون. فأعرض عنهم إنهم معرضون. إنا لهم محضرون. في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون. إن لهم في جهنم مقامًا عنه لا يعدلون. فسبّح باسم ربك وكن من الساجدين... ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين. وجعلنا لك منهم وصيًا لعلهم يرجعون. ومن يتول عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهدًا فخذه وكن من الشاكرين. إن عليًا قانتًا بالليل ساجدًا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون. إنا بشرناك بذريته الصالحين. وإنهم لأمرنا لا يخلفون. فعليهم مني صلوات ورحمة أحياء وأمواتًا يوم يبعثون. وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين. وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون. والحمد لله رب العالمين).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها المسلمون، هذا هو اعتقاد الشيعة في كتاب الله، من أجل هذا فإنّ الشيعة لا يهتمون بالقرآن ولا بقراءته، وهذه حقيقة قد أقر بها علماؤهم القدامى والمعاصرون، يقول الخامنئي: "مما يؤسف له أن بإمكاننا بدء الدراسة ومواصلتنا لها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرة واحدة، لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن". ويقول آية الله محمد حسين فضل الله: "فقد نفاجأ بأن الحوزة العلمية في النجف أو في قم أو في غيرهما لا تمتلك منهجا دراسيا للقرآن".
وأما سبب بعدهم عن القرآن مع ما يعتقدونه من تحريف فهو ازدراؤهم لمن يهتم بالقرآن حفظا وتفسيرا، نقل صاحب كتاب ثوابت ومتغيرات الحوزة عن الخامنئي قوله: "إذا ما أراد شخص كسب أي مقام علمي في الحوزة العلمية كان عليه أن لا يفسر القرآن حتى لا يتهم بالجهل، حيث كان ينظر إلى العالم المفسر الذي يستفيد الناس من تفسيره على أنه جاهل ولا وزن له علميا، لذا يضطر إلى ترك درسه".
أيها الإخوة الكرام، أما مشكلة المشكلات والداهية الدهياء عند الشيعة عقيدة التقيا، جاء في لسان العرب مادة (وقى): اتَّقَيتُ الشيء وتَقَيُته أتقِيه وتِقاء: حَذِرته"، ويقول ابن حجر: "ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير". وهي رخصة يلجأ إليها المسلم إذا وقع تحت ظروف عصيبة جدا تصل إلى حد القتل والإيذاء العظيم، تضطره إلى إظهار خلاف ما يبطن، ودليلها من كتاب الله قوله سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، وقوله جل وعلا: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ، وفي الحديث عن النبي قال: ((إن الله وضع ـ وفي لفظ: تجاوز ـ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). والعلماء على خلاف في مسألة التقيا: هل هي صالحة لكل زمان خوفا من الضرر أم هي مؤقتة تتعلق بعزة الإسلام؟ وكلهم متفقون على أن التقيا تكون في الأقوال وليس في الأفعال كما حدث للصحابي الجليل عمار بن ياسر، يقول ابن كثير في تفسير الآيات: "أي: من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم ـ أي: الكافرين ـ فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته"، وقال الثوري: قال ابن عباس: (ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان).
أيها الإخوة الكرام، إذا كانت التقيا عند العلماء تعني موافقة الكفار والمشركين على الظاهر مع بقاء الإخلاص في القلب عند الضرورة المفضية إلى الموت أو الهلاك، فالتقيا عند الشيعة هي النفاق بعينه، جاء في تفسير البيان للطوسي: "التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق، فإن كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا، والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس". وقال في جوامع الجامع: "هذه رخصة في موالاتهم الكفار عند الخوف". والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة، ويقول الطباطبائي: "التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء". وعلى هذا المنوال سائر بقية المفسرين والعلماء من الشيعة في بيان المسألة، ويظهر مما سبق أنهم لا يختلفون مع أهل السنة والجماعة في مفهوم التقية كما مر ذكره، لكن من هنا يبدأ الخلاف، فالشيعة يعتقدون خلافا لما مر من أن التقية واجبة، لا يجوز تركها إلى يوم القيامة، وأن تركها بمنزلة من ترك الصلاة، وأنها تسعة أعشار الدين، ومن ضروريات مذهب التشيع، ولا يتم الإيمان إلا بها، وليست رخصة في حال الضرورة كما مر، بل هي ضرورة في ذاتها، وإنما تكون من مخالفيهم في المذهب، يقول الخميني: "وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم، وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم". ورووا أحاديث مكذوبة نسبوها إلى النبي منها: (التقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له)، (والله لولا التقية ما عبد الله). وعن الصادق أنه قال: "إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له". وقوله: "يغفر الله للمؤمنين كل ذنب ويطهر منه الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الإخوان".
ولم يقتصر الأمر على هذا بل وضعوا روايات ترغب في العمل بالتقية، فعن علي أنه قال: (التقية من أفضل أعمال المؤمنين)، وعن زين العابدين أنه سئل: من أكمل الناس في خصال الخير؟ قال: أعملهم بالتقية، وعن الصادق أنه قال: ما عُبِدَ الله بشيءٍ أحب إليه من الخبء، قيل: وما الخبء؟ قال: التقية. وعن سفيان بن سعيد عن الصادق قال: "يا سفيان، عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل".
أيها الإخوة الأفاضل، إن شيعة الأمس واليوم يعتبرون التقية من أهم الفرائض والواجبات، ليس بينهم وبين الكفار والمشركين بل حتى بين الشيعة والسنة، فهم ينظرون إلى أهل السنة أنهم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإسلام، لذلك ترى الشيعة يستخدمونها مع أهل السنة، فهم مثلا لا يسبون ولا يكفرون الصحابة أمام أهل السنة، بينما يكيلون لهم من الشتائم والتهم والسباب ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه، ويقرون بتحريف القرآن ويجهرون بينهم بتركه، بينما يعلنون تمسكهم به ويقيمون المجالس من أجل تلاوته، فهم يدعون خلاف ما يبطنون؛ ليغتر بهم من لا يعرف عقائدهم، وهذا الأمر جعل كثيرا من أهل السنة يزعم أن الخلاف بينهم في المسائل الفقهية فقط، وقد رأينا أن الخلاف بين الشيعة والسنة يشبه إلى حد ما الخلاف الموجود بين المسلم والكافر، لذلك قال الشوكاني في كتابه طلب العلم: "لا أمانة لرافضي على من يخالفه في الدين قط، بل يستحل دمه وماله عند أدنى فرصة تلوح له". فدماؤنا وأموالنا حلال عندهم، وهم الآن منبثون في العالم الإسلامي وغيره، فالخطر منهم أشدّ وأعظم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً.
اللهم ارزقنا محبة النبي واتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته واحشرنا في زمرته واسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وعن أولاده الغر الميامين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين...
(1/5021)
خطر الرافضة
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
عبد الرحمن بن حمود اللهيبي
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أطماع أمريكا وأحلامها في العراق. 2- خطر التشيع على الأمة الإسلامية. 3- دلائل التاريخ على تحالف الروافض مع الأعداء. 4- عداء الروافض وحقدهم على الإسلام والمسلمين. 5- حكم الرافضة. 6- جرائم الرافضة في العراق. 7- المستقبل للإسلام. 8- واجب المسلمين في هذه الظروف العصيبة. 9- حال المسلمين المزري. 10- رسائل لأسود العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، في خضم هذه الأحداث التي جرت وما زالت في عراقنا الحبيب يتوجب علينا في هذه الخطبة أن نضع النِّقاطَ على الحروفِ، ونُحدثكم عن طبيعةِ المعركةِ وحقيقةِ المكرِ وخفايا الصّراع.
لقد جَاءت أمريكا بأساطِيلها وَمَسَاطِيلها فحلّتْ بالعُقرِ من الدِّيار، وَنزَلت بِقَضّها وقَضِيضِهَا بَينَ ظهرانِي المُسلِمين، وهِي تَطمَعُ في أمور:
أولاً: في ثروات هذهِ الأرضِ المعطاء وكنوزها وخيراتِها التي سالَ لها لعابُ مصاصي الدماءِ من الرأسماليين الكبار الذين يَدفعُهُم الشرَهُ إلى الثروة إلى كُلّ فعلٍ مهما كان قَذِرًا ودنيئا، ثم لا يَتورّعُون في سبيلِ ذلكَ عن صغيرٍ ولا كبيرٍ ولا رَجلٍ ولا امرأة، فالغايةُ تبرّرُ الوسيلة، وقانونُ الغابِ بأيديهم، يُجرِّمونَ مَن يشاؤون، ويستبيحونَ ما يُريدُون.
ثانيًا: جاءت أمريكا وقد أرعبَها المدُّ الإسلاميُ المتصاعد، وأفزعَهَا نشيدُ الجهاد الذي عَلا صوتُه فهزّ العالم وزلزلَ الدُنيا بأسرِها، فجاءت لتُغيرَ ثوابتَ الأمةِ، وتحرّفَ الكلمَ عن مواضعه، وتُبدِّلَ المناهج، وتَقضِي عَلى ينابيعِ الخيرِ المتفجّرةِ في ضميرِ الأُمةِ الإسلامية، وَلِتقطعَ الطريقَ على الصَحوةِ النَّاهِضة والرَّجعةِ الصَّادِقة، ولِتنشُرَ الخَنَا والخَبَث، وتَبُثََّ فِكرها الساقِط وثقافَتها اللَّقِيطة باسم الحرية والديموقراطية، وهي تُؤَمِّلُ أن تُعيدَ صياغةَ المنطقة ورَسمَ خَرِيطَتِها السياسيةِ والدينيةِ والثقافية وفق مصالحها الخاصّة.
ثالثًا: قَدِمْت زُحوفُ التتار المُعاصرين وهي تحملُ إرثًا من الحقدِ الدَّفين والعداوةِ التاريخية والتَعصّبُ الدِّيني الذي تُغذِّيه النبوءاتُ التوراتية، على المسلمين عامة، وعلى العراقِ وأهله خاصّة، فالعراقُ في النبوءاتِ التوراتيةِ التي يؤمنُ بها الأُصوليونَ الإنجيليون الذينَ يَحكمونَ في واشنطن ولندن هي بلدُ الشَّر والمدينةُ الزانية والعدوُّ الأولُ لبني إسرائيل؛ ولذلكَ فهي تَأمرُ بقتلِ رجالهم وهَتكِ نسائهم ورضخِ رؤوسِ أطفالهم وَصبِ حِمَمِ الموت على رؤوسهم، وهو تمامًا ما فعلوا في الواقِعِ حذوَ القذة بالقذة.
رابعًا: جاءت أمريكا لتوفِّرَ الأَمنَ لربيبتها إسرائيل وتقضيَ على كلِّ خطرٍ يمكنُ أن يتهدّدها، ومَن يُعايشُ الوضعَ يُدركُ أنَّ الأخطبوطَ الإسرائيلي قد تغلغلَ في العراق سياسيًا ومخابراتيًا واقتصاديًا، واسألوا من شئتم عن فِرقةِ الاغتيالاتِ التابعةِ للموساد، والتي تَسعى حثيثًا لتصفيةِ رموز وكوادر أهلِ السُنة، وهي الآن متواجدة بقوةٍ في بغداد.
خامسًا: جاءتْ أمريكا وهي تُؤمِّلُ أنْ تُقطّعَ أوصالَ الدولِ العربيةِ الكبيرة وتُفَتِّتَ كِياناتِها لتُقِيمَ دُوَيلاتِ ضعيفة لا حَول لها ولا سلطان، تَغرسُ بينها دويلاتِ طائفية تدين لها بالولاء وتحملُ حقدًا أسود على أهل الإسلام وتظلُّ أشواكًا في طريق اجتماعِ كلمةِ المسلمين. نعم، لقدْ أدركتْ أمريكا أن الإسلام السنيّ هو العدو الحقيقي، وأن الفِرق الباطنية هي نِقاطُ الضعف، وهي الثغرةُ الحقيقيةُ التي يمكنُ أن يَنفُذَ منها الأعداء للاستيلاءِِ على أهلِ الإسلام، فقررتْ أنْ تَجعلَهم أحصنةً لاختراقِ حُصُونِ الأُمة، وعلى رأسِ هؤلاءِ الرافضة؛ وتأكيدًا لهذا الأمر أنقل كلام ابن غوريون عامَ 1954م حيث يقول: "إننا نعيش في محيط سنيّ؛ ولذلك على إسرائيل أن تتعاون بل وتجنّد الأقليات العرقية والمذهبية في المنطقة المحيطة لخدمة المصالح الإسرائيلية".
يَنبَغي أن تعلمِي ـ أمةَ الإسلام ـ أنَّ التَّشيُّعَ دينٌ لا يلتقي معَ الإسلام إلا كمَا يلتقي اليهودُ مع النصارى تحتَ اسمِ أهلِ الكتاب، فَمِن تحريفِ القرآنِ وسبِّ الصحابة والطعنِ في أمهاتِ المؤمنين، إلى تكفيرِ أهلِ الإسلام واستباحةِ دِمَائِهم، مرورًا بأنواعِ الشِّركِ الأكبر وَصُوَر الكُفْرِ المستَبين وضروبِ الخُرَافةِ والخُزعبلاتِ والأساطيرِ المضَلِّلِة.
وباستحضار التَّجرُبةِ التِّاريخية وشهادةِ العصور الخَالية ودلالاتِ الواقعِ المُعاصِر والتَّجربةِ الحيةِ التي نَعيشُهَا نُدركُ حَقًا مَعنى قَولِه تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون. لقدْ كَانوا عبر التَّاريخ شوكة في حُلوقِ أهلِ الإسلام وخِنجَرًا يَطعَنُهم فِي الظَهر وفأرة السدِّ التِي تَهدِمُ البُنيَان والجِسر الذِي يَعبُرُ عَليهِ أعداءُ الأمة، ولقدْ صدقَ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية حينَ قَالَ يَصفُ حالهُم بعدَ أن ذَكَرَ تكفيرَهُم لأِهلَ الإسلام، فقالَ رَحِمَه الله: "ولهذَا السَّببِ يُعاونُونَ الكُفَّارَ على الجمهُور منَ المسلمين، ويُعاونُونَ التتار، وهُم كَانوا من أعظمِ الأسبابِ في خروجِ جنكيز خان مَلكِ الكفار إلى بلاد الإسلام، وفي قدومِ هولاكو إلى بلادِ العراق، وَفِي أخذِ حَلَب ونهبِ الصَّالحية، وغير ذلكَ بخُبثِهم وَمكرهِم؛ وَلهَذا السَّببِ نَهبُوا عَسكَرَ المسلمينَ لما مرَّ عليهم وَقتَ انصرافهم إلى مصرَ في النَوّبةِ الأولى، وَبهذا السَّببِ يَقطعون الطُرُقاتِ على المسلمين، وبهذا السَّببِ ظَهَرَ فيهم مُعاونَة التتار والإفرنجِ على المسلمين، والكآبةُ الشديدةُ بانتصار الإِسلامِ مَا ظهر، وكذلكَ لما فَتحَ المسلمونَ ساحِلَ عكَّه وغيرَها ظَهَرَ فِيهم من الانتصار للنصارى وَتقدِيمِهِم على المُسلمين، وكلُّ هذا الذِي وصفتُ بعض أمورهِم، وإلاَّ فَالأَمرُ أعظَمُ مِن ذَلك، وَفِي قُلُوبهم مِن الغِلِّ والغيظِ على كِبارِ المسلمينَ وصِغَارهم وصَالحيهم وغيرِ صالحيهم مَا لَيسَ فِي قلبِ أحد، وأعظمُ عبادتهم لَعنُ المسلمينَ مِن أولياءِ الله... وهؤلاءِ أشدُّ النَّاسِ حِرصًا عَلَى تَفريقِ جَمَاعةِ المُسلمينَ، وَمِنْ أعظَمِ أصُولِهم التكفيرُ واللَّعنُ والسبُّ لخيار ولاةِ الأمور، كالخُلَفاءِ الرَّاشدين وَعُلَمَاءِ المسلمين؛ إذْ كُلُّ مَنْ لَمْ يُؤمِن بالإِمامِ المَعصوم الذِي لاَ وجُودَ لَه فَمَا آمنَ باللهِ ورسولِه عليه الصَلاةُ والسَّلام. والرَّافضةُ تُحبُّ التتار ودَولَتَهُم؛ لأنه يحصلُ لهم بهَا مِن العزِّ مَا لا يَحصُل بدولةِ المسلمين، وَإذَا غلبَ المسلمونَ النَّصَارى والمشركين كَانَ ذَلك غُصَّةً عِندَ الروافض، وإذَا غَلَبَ المُشركونَ والنَّصَارى المسلمين كان ذلك عِيدا ومسرة عندَ الرَّافِضة" انتَهى كَلامُه رَحِمَه الله.
وكأَني به يَعيشُ بينَ ظهرانِينَا، فيصفُ عَن مُشَاهَدةٍ وَعَيان، فَيَقُولُ رَحِمَه الله: "وكذلكَ إذَا صَارَ لليَهُودِ دولةٌ في العراقِ وغَيرِها تَكُونُ الرافِضَةُ مِن أعظمِ أعوانهم، فَهُمْ دَائِمًا يُوَالُونَ الكُفَّار مِنَ المُشرِكينَ واليَهودِ والنَّصَارى، ويُعاونُونَهم عَلَى قِتَالِ المُسلِمينَ ومُعَادَاتِهم" انتهى كَلامُه رَحِمَه الله.
ويقول آرييل شارون في مذكراته: "توسعنا في كلامنا عن علاقات المسيحيين بسائر الطوائف الأخرى لا سيما الشيعة والدروز، وأنا شخصيًا طلبت منهم توثيق الروابط مع هاتين الأقليتين حتى إنني اقترحت إعطاء قسم من الأسلحة ولو كبادرة رمزية إلى الشيعة، ولم أر يوما في الشيعة أعداء لإسرائيل على المدى البعيد" انتهى كلامه لعنه الله.
ولقد صَدَقَ ذَلكَ المُستشرِق حِينَ قال: "لَولا الدَّولةُ الصَّفويةُ لكنَّا اليوم في أوروبا نقرأ القرآن كما يَقرؤُه البربريُّ الجزائري". نعم، فَلقَد وَصَلتْ جَحَافِلُ الدولةِ العُثمَانِية إلى أبوابَ فيِينا، لكنها وقفتْ ثُمَّ انكفأتْ راجعةً لتذودَ عَنْ المُسلمينَ في بَغداد وتَدفَعَ صولةَ دولةِ الرفضِ الصَّفَويِّة التي سفكتِ الدِّمَاءَ وهتكتِ الحُرُمَات وهدَّمَتِ المساجدَ وأزهقت أرواحَ أهل السنَّة، بلا ذَنبَ إلا حبُهُم لصحابةِ محمدٍ ، وكانتْ تِلكَ آخِرَ نُقطةٍ وصلتْ إليهَا جُيُوشُ الإِسلام، ثُمَّ انحسرَ بَعدَ ذَلكَ مَدُّ الإسلام، وتقلَّصَ ظِله بسببِ ضَرَبَاتِ الحقدِ الموجعة التي كَالتهَا دولة الرَّفضِ للدَّولةِ العُثمَانية.
وهؤلاءِ القومُ قَد كفَّرهُمْ أئِمةُ السلف، وَبيَّنُوا حَقِيقتهم، فَهذا الإمامُ البُخاري رحمه اللهُ يقول: "إني لأَستجهِلُ مَن لا يُكفِّرُهُم إلا أن يكونَ غَيرَ عارفٍ بمذهبهِم"، وقال: "ما باليتُ صليتُ خلفَ يَهوديٍ أو نصرانيٍ أو رافضي، لا تُؤكلُ ذبائحُهُم، ولا تُشهدُ جَنائِزُهُم، وَلاَ يُعادُ مريضُهُم". وَهذا الإمامُ مالك رحمهُ اللهُ يقول: "الذي يَشتُمُ أصحابَ رَسولِ اللهِ ليسَ له سهمٌ أو نصيبٌ فِي الإسلام"، وقالَ مُعلّقًا على قولِه تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ : "فَمَنِ اغتاظَ مِنَ الصحابة فهو كافر". وتَبعه على هذا الاستدلال الإمامُ الشَّافِعي رحمه الله. وهذا الإمامُ أحمد رحمه اللهُ يقول وَقَد سُئِل عمَّن يَسُبُّ الصحابةَ رضي الله عنهم: "ما أراه على الإسلام"، وقالَ لِمن سَبَّ أصحابَ رسولِ اللهِ أو أحدًا مِنهُمْ أو تَنقَّصَهُم أو طَعَنَ عليهم أو عرَّضَ بعيبهِم أو عَابَ أحدًا مِنهُم فَهُو مُبتَدِعٌ رافضيٌّ خَبيث مُخالِفٌ لا يَقبَلُ اللهُ منه صرفًا ولا عدلاً، بَلْ حُبُهم سُنَّة والُّدعاءُ لهم قُربة والاقتِدَاءُ بآثارهِم فَضِيلة.
وَلَقَد بَدَأَ فَحِيحُ هَؤلاءِ الأَفَاعِي يَعلُو مِن جَديد، وأطلُّوا برُؤوسِهِم ليَرسُمُوا خَريطة المَنطِقَةِ معَ حُلفائهمُ الأمريكان؛ فَعَبرَ فَيالِقِهِمُ العسكرية وَتنظِيمَاتِهمُ السرِّيةِ وَالعلنيَّه توغَّلُوا في المراكز الحسَّاسة وسَيطَرُوا عَلَى جِهَازَي الشُرطَةِ وَالجيَش. نعم، فلَقد نَزَعَ فَيلقُ الغَدر المُسمَّى بـ:"فَيلقِ بَدر"، وَالذِّي دَخَلَ العِراقَ وهوَ يَحمِلُ شِعارَ الثأر؛ الثأر من تكريت والأنبار، نَزع شِعَارَه وَلبسَ زيّ الشُّرطةِ والجيَش لِيَفتِكَ بأهلِ السنة باسم الدَّولةِ والقانون والحِفَاظِ على الوطَنِ والمُواطِن، وَهُم يَتهيَّئُونَ لِورَاثةِ الأرضِ والسيطرةِ على البلاد، لِيُقيمُوا دَولةَ الرَّفض، مُمتَدة مِن إيران مُرورًا بالعِراق وسوريا الباطنية ولُبنانَ حزبِ اللات وَمملكاتِ الخَليجِ التِّي تمتلئُ أرضُهَا بأَلغَامِ الرفض وَبُؤر التَّشيُّع.
وَمَعَ ذَلك فَلْتعلمِ الدُّنيا أنّ المقاومة في العراق لسيت أوّلَ مَن بَدأ القِتَال، بَل هُمُ الذينَ قَتلُوا المجاهِدين، واغتَالُوا المُهَاجِرِين، وَكَانُوا عُيُونًا لِلأمرِيكانَ وآذانًا، فَكَم مِن مُجاهدٍ قُتِل بطلقةٍ غادرة جاءتهُ مِن وَرَاءِ ظهره على أيدِي هؤلاء، وكَمَ غصبُوا من مساجد التوحيدِ وَحوَّلوهَا إلى مَعَاقِلَ للوثنيةِ والشِّرك، وغَصَبوا الأَعراضَ وانتهكوا الحُرُمات، وَهُم مَاضُونَ بسعيٍ حثيث فِي قَتلِ وَتَصفِيَةِ الدُّعاةِ والعُلمَاءِ وأصحابِ الخِبرة مِن أهلِ السُّنة، وَهَا هِي أمرِيكَا بَدَأت تَتَوارَى فِي قَواعدهَا الخَلفيّة وتَدفَعُ بهؤلاءِ فِي الصُّفوفِ الأمَاميّة؛ لِينُوبُوا عَنها فِي حربِ المُجَاهِدِين، فَعَدوُّنا الآن والخَطَرُ الدَّاهمُ هُم هَؤلاءِ الروافِض، فقد أطلقواَ العَنانَ لفيلَقِهم فَيلقَ الغدر أن يَسفِكُوا دِماءَ المُسلمين، وَيَهتِكُوا أعراضَهم، ويَستَولُوا على مَساجِدِهم، فَكم مِن عِرضِ حُرَّةٍ مُسلِمةٍ انتهكوه، وَكم مِن دَمِ مُسلمٍ مجاهدٍ سَفَكُوه، وَكَم مِن أسيرٍ وأسيرةٍ بسببهم تَسلَّط عَليهِمُ الأمريكَان، وَحسبُنا أنَّنا لم نَسمَع أن رافضيًّا أو رافضيةً استاقهم الأمريكانُ أسرى، بَينَما سُجُونُهم مَلأى بِالأَسرى مِن رجالِ ونِساءِ أهلِ السُّنة، كما قاموا بتصفية معظم كوادر ورموز أهل السنة من الدعاة والأطباء والمدرسين وأصحاب الخبرة والتقنية، بل وقاموا باختطاف كثير من النساء اللاتي لا يُعرف مصيرهن حتى الآن، بل إن قوات الشرطة الروافض شاركوا في انتهاك أعراض المسلمات الحرائر مع الصليبيين في سجن أبي غريب، فلو تعلمون عن سجن الكوت الذي تُديره المخابرات الإيرانية، وسجن الحلّة الذي تُقطّع أعضاء المسلمين بالمنشار الكهربائي وتستباح أعراض المسلمات هناك، أمة من الناس رجال ونساء وصبيان يجأرون إلى الله ليل نهار من ظلم الروافض الحاقدين الذين مكنوا لعباد الصليب المعتدين، بل وأقسم بالذي أنزل براءة عائشة في الكتاب ومكّن الصديق من مسيلمة الكذاب وأطفأ نار المجوس على يد عمر بن الخطاب أن ما لاقاه ويلاقيه أهل السنة في العراق من هؤلاء الروافض أحفاد ابن العلقمي أشنع وأفظع بكثير مما لاقوه على يد العدو الأمريكي، ولكن كل هذا مُغيب عن أمتي لأجل التكتيم الإعلامي.
والله، إن قلبي ليتقطر حزنًا على ما يحلّ بأهل السنة في بغداد والجنوب، ولو حدثتكم عما يلاقيه إخوانكم وأخواتكم في الجنوب لما تلذّذتم بالعيش إن كان عندكم غيرة على حرمات المسلمين، ولكن أخبريني ـ يا أمتي ـ أيسعنا والحالة هذه أن ندْعوَ إخواننا أن يغمدوا سيوفهم ويكفوا أيديهم خشية اتهامهم بإثارة الطائفية؟! والعجيب أن هناك من المسلمين من إذا سئلوا عن الرافضة انطلقت ألسنتهم بالثناء عليهم! وإذا سئلوا على المجاهدين تبرؤوا منهم وصوّبوا سهام التجريح إليهم! واعلمي ـ يا أمتي ـ أنه لولا الله ثم وقوف هذه الفئة المجاهدة سدًا منيعًا بوجه هؤلاء الصليبيين وأعوانهم الروافض الحاقدين لما رأيتِ حال أهل السنة في العراق كما ترينه اليوم. فوالله، إن خبت جذوة الجهاد فسترى الأمة بأسرها ما سيحلّ بها من ويلات ونكبات.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، مهما حاول أعداء الإسلام ومهما سعوا في إنزال أنواع الفشل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، يقول جل في علاه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) ، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) ، ويقول بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).
أمة الإسلام، ما أحوج المسلمين اليوم في زمنٍ عظمت فيه المصيبة وحلَّت به الرزايا العصيبة وتخطَّفت عالَم الإسلام أيدي حاسديه ونهشته أيدي أعاديه، فالكرامة مسلوبة، والحقوق منهوبة، والأراضي مغصوبة، ما أحوج المسلمين في زمن الحوادث والكوارث إلى أن يراجعوا دينهم، وينظروا في مواقع الخلل ومواطن الزلل، ويصلحوا ما فسد، ويكونوا وَحدةً كالجسد، ليغسلوا عنهم أوزار الذل والهوان، ويزيلوا غُصص القهر والخذلان، ويتخلّصوا من التبعية المقيتة والمجاراة المميتة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
عباد الله، أمام ما نرى ومراعاة لمشاعر إخواننا وتفاعلاً مع مآسيهم ونسمع فإنه يتأكد علينا أن نتخلى عن سفاهاتنا ولهونا ولعبنا، وكم هو مؤسف وأمة مسلمة بجوارنا تباد وتقتل أن ترى الناس في غفلة ولهو وعبث، وإعلامها بالغناء يصدح وبالرقص ينضح، وقنواتها تلوّث الأبصار والعقول وتميت القلوب بمسلسلاتها الساقطة الهابطة، والصحف تنشر على صفحاتها الأولى صورًا للمسلمين المنكوبين وبجوارها دِعاية لشريط غنائي وأخرى لفيلم ماجن هابط، فمتى تتحرك يا ترى مشاعر الغيرة على الدّين وينمو في قلوبنا الشعور بآلام وجراح المسلمين؟!
أيها المسلمون، إن عزَّ علينا نصرة إخواننا بالنفس والمال فإن بأيدينا السلاح الذي لا يغلب والقوة التي لا تقهر، إنه سلاح الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، فأبشروا أيها المسلمون، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا؛ فإن الآمال تولد في رحم الآلام، فهذه الجرائم والفظائع جيّشت في النفوس العداوة والبغضاء، وحركت الألسن في المؤمنين بالدعاء، وكم من دعوة صادقة خرجت من رجل صالح مظلوم مكلوم في جنح الظلام، ودعوة المظلوم لا ترد.
وختامًا، من يبلغ عنّا أسود العراق أن رؤوسَنا مرفوعة شامخة فخرًا بجهادكم وصبركم وثباتكم، فقد أروَيتم أرضكم بدمائكم الزكية ودماء أعدائكم الخبيثة النتنة، وابتهاجا بعزتكم وصمودكم وصور البطولة ومواقفكم المشرفة، لقد رفعتم رؤوسنا وأعدتم لنا الأمل بهذا الصمود العجيب، لقد علَّمتم العالم أجمع أن العزة والهيبة لا طريق لها في هذا الزمان إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى، وأنه ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، لقد علمتم العالم أن ساعة من الجهاد أفضل من مئات القرارات والمؤتمرات، لقد أثبتم بصبركم أن القلةَ الصابرة لا ترهبها كثرة ولا قوة الأعداء، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، لقد لقنتم جيوش الصليب درسًا في عزة المؤمنين وقوة الثبات على الدين، فهذه جيوشهم الجرارة ومعهم الحلفاء من الرافضة والمنافقين جندوا كل شيء حتى وسائل الإعلام ومنعوا كل شيء حتى العلاج والدواء، ومع ذلك يقفون عاجزين يطلبون المدد حينًا بعد حين.
يا أسود العراق، رؤوسنا مطرقة خجلاً من تخاذلنا وعجزنا عن مناصرتكم، رؤوسنا مطرقة لأنكم تذبحون وتدَكّون وشبابنا باللهو والتفحيط غارقون والناس أمام الشاشات عاكفون، رؤوسنا مطرقة لأننا بخلنا حتى بالدعاء ونقيمه أحيانا على وجَل وخجل واستحياء، رؤوسنا مطرقة لأننا لا نملك إلا أن نقف متفرجين على مآسيكم مستمعين لصرخات الثكالى واليتامى ونشاهد بيوتكم المدمرة ومساجدكم المهدمة ودماءكم وهي تنزف وتسيل ولا حيلة لنا ولا سبيل.
فيا أسود العراق، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فلا غالب لكم من بعده، فعلى الله توكلوا إن كنتم مؤمنين، فلا تنتظروا الفرج إلا من الله.
يا أبطال العراق، إذا لقيتم أهل الصليب فضرب الرقاب، واضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان، أروهم عزة المؤمنين التي تخلّى عنها كثير من الناس، ولا تسمعوا لدعوات المرجفين ولا المخذّلين، فلن يزيدوكم إلا خبالاً وهوانا فوق هوانكم وذلاً على ذلِّكم وضعفا إلى ضعفكم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
(1/5022)
الصفويون الجدد
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فرق منتسبة
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التاريخ يعيد نفسه. 2- قيام الدولة الصفوية. 3- حقيقة مذهب الإمامية. 4- بدع الصفويين. 5- جرائم الصفويين في حق أهل السنة. 6- تحالف الصفويين مع أعداء الإسلام. 7- جرائم الصفويين في هذا العصر في العراق. 8- واجب المسلم تجاه هذه الأحداث.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، التاريخ نذير قوم لا يغفل، وشاهد حق لا يكذب، وعبرة لمن تذكر وادَّكر. من تأمل التاريخ استنار قلبه، ورشد عقلة، وحسن رأيه، وعاش عصره بتجارب غيره.
ومن حوى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره
ومن سنن الله في خلقه أن كثيرًا من الأحداث التي تقع في عصر من العصور لا تلبث أن تتكرّر في عصورٍ أخرى، ومن تأمل سير الأنبياء مع أقوامهم وجد فيها تكررًا للوقائع والأحداث؛ كاتهام الأنبياء بالسحر أو الجنون، قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52، 53].
نقف وإياكم ـ إخوة الإيمان ـ مع تاريخ دولة كثُر الحديث عنها مؤخرًا في وسائل الأعلام وأعمدة الصحف، تاريخ دولة مُلِئ بالجرم والإجرام، تاريخ يظهر العداء في أبشع صوره ويكشف الحقد في ألهب حالاته، نقف مع تاريخ الصفويّين وعقيدتهم وسياستهم ومواقفهم مع المسلمين.
والحديث عن الصفويين إنما هو في الحقيقة حديث عن كل من يعتقد بعقيدتهم ويؤمن بأفكارهم ويبيع الولاء لهم، لقد قامت دولة الصفويّين في وقت كان للإسلام فيه صولة وعزّ وتمكين، وكانت دول وممالك أوربا تحسب للإسلام ألف حساب، وكانت بلاد المسلمين عامة تحكم من قبل الخلافة العثمانية التي فتحت القسطنطينية وتغلغلت جيوشها إلى وسط أوروبا حتى وقفت عند روما معقل الفاتيكان. قامت الدولة الصفويّة في هذا الوقت من القوّة لأهل الإسلام، وكان قيامها في إيران على يد مؤسّسها إسماعيل بن حيدر الصفوي، والذي أقام دولته بعد عدة ثورات ومعارك قام بها، كان نهايتها استيلاؤه على البلاد كلها سنه تسعمائة وسبعة للهجرة، وكانت هذه الدولة قبل تمكنها ترفع شعار الإسلام ورفع الظلم عن المضطهدين، حتى إذا استولت على الملك وتمكّنت من الأرض كان أول قرار اتخذته إعلان المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري مذهبًا عامًا للبلاد، وكان الرافضة لا يشكّلون عُشرَ أهل إيران في ذلك الزمن.
أما حقيقة مذهب الإمامية فهو خليط من العفونات الفكرية والسوءات العقدية، مذهبٌ ظاهره محبة آل بيت النبي وموالاتهم، وحقيقته وباطنه الطعن في أصحاب النبي وتكفيرهم والقول بعصمة الأئمة والغلو فيهم إلى درجة صرف العبادة لهم والزعم بأن القرآن ناقص أو أن القرآن له ظاهر وباطن وأن علم الباطن قد اختص به الأئمة، مع إيمانهم بعقيدة الرجعة أي: رجعة الأئمة من قبورهم، وبالأخص القائم في آخر الزمان الذي يخرج من السرداب ويذبح جميع خصومة السياسيّين ويعيد للمظلومين حقوقهم، ومن لم يؤمن بعقيدتهم الإماميّة فهو من النواصِب، والنواصب عندهم كفار.
جاء الصفويّون بمذهب الرافضة الإمامية، وأحيوا شعائره التي كادت أن تندثر، وأحدثوا فيه طقوسا أخرى لم يعرفها أسلافهم؛ حتى أصبحت تلك الأفكار الصفويّة من مسلَّمات مذهب رافضة اليوم، وهذا يدلنا على أن الفكر الصفويّ له جذوره في كثير من البلدان الإسلامية.
فمما ابتدعه الصفويون في مذهبهم بعد الشهادة بأن محمدا رسول الله الشهادة بأن عليًّا ولي الله، وهذه البدعة وضعتها فرقة من الرافضة في القرن الرابع، لكنها خفت واختفت لاستنكار علماء الرافضة أنفسهم على من أحدثها، ثم أحياها الصفويون، وإلى يومنا هذا أصبحت هذه الشهادة من مسلَّمات الأذان عند جميع الرافضة. وأحيا الصفويّون أيضًا ما يسمى بالحوزات العلمية والسجود على التربة الحسينية، وأحدثوا ما يسمى بالمواكب الحسينية في عاشوراء، وأحدثوا دفن الأموات في النجف، وأحدثوا ما يسمى بالحج إلى مراقد الأئمة وطلاء أضرحتهم بالذهب والفضة، بل وتعدى الأمر إلى أن عظموا قبر أبي لؤلؤة المجوسي الذي قتل الفاروق رضي الله عنه، وجعلوا من ضريحه مزارًا إلى يومنا هذا، مع تعصبهم للعرق الفارسي واحتقارهم للجنس العربي.
ثم بعد ذلك ماذا ننتظر من عقيدة قوم تقدس القبور وتستهدف التوحيد وتتخذ من تكفير الصحابة والطعن في أمهات المؤمنين قربة وديانة؟! ماذا ننتظر منهم إلا العداء والبغض لأهل السنة والجماعة؟! ففي عهد مؤسِّسهم إسماعيل الصفوي أجبر رعيته على اعتناق مذهب الشيعة الإمامية بالنار والحديد، ومن لم يستجِب لدعوته فمصيره القتل والتحريق. يقول أحد مؤرخي الشيعة عن إسماعيل هذا: "كان قاسيًا متعطِّشًا للدماء إلى حد لا يكاد يوصف" اهـ. أما الدماء التي كان يتعطش إليها فليست دماء اليهود ولا النصاري، بل دماء أهل السنة والجماعة.
دَرّب هذا الصفوي جيشًا فاتكًا هدفه القضاء على من رفض التشيع، فأعمل سيفه في مدن السنة، لا يفرق بين صغير وكبير ولا بين رجل وامرأة، وكان يستقصد العلماء والعباد بالقتل والتنكيل، وارتكب في ذلك مجازر مروعة ومشاهد فظيعة من بقر البطون وقطع الأنوف وحرق الجثث وهدم للمساجد، وكان يمتحن العامة بسب الخلفاء الثلاثة، وأمر أن يعلن السب في الشوارع والأسواق وعلى المنابر، وحصل للمسلمين من البلاء في أنفسهم ودينهم ما لا يعلمه إلا الله، حتى ذكرت بعض مصادر الشيعة التاريخية أنه قتل في تلك الحقبة أكثر من مليون مسلم سني.
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الجاثية: 19]. كان رافضة العراق في عهد الصفويين يستبشرون بقيام الدولة الصفوية، ويبشرون الأهالي بقدومهم، وكانوا يراسلون الصفويين لتحرير العراق وجعلها دولة إمامية، فاستجاب الصفويون لهم، وتحركت جيوشهم صوب بغداد، وقتلوا أهلها قتلة عظيمة، وخربوا دور العلم، وأحرقوا المساجد، وجعلوها لخيولهم، بل قتلوا كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد، وذنبهم أنهم أحفاد ابن الوليد. يقول أحد مؤرخي الرافضة ممتدحًا جرائم إسماعيل الصفوي بأهل السنة في بغداد: "فتح بغداد، وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يُسمع بمثله قط في سائر الدهور، بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور". واضطر أهل السنة للخروج من بغداد، وفر وجهاؤهم إلى العالم الإسلامي مستنجدين الأمّة ومنذرين من هذا الغول الصفوي. وصلت أخبار المجازر الصفوية إلى الخلافة الإسلامية العثمانية والتي كانت مشغولة بجهاد الصليبيين في قلب أوروبا، فاضطروا إلى عقد معاهدات وصلح مع تلك الدول والرجوع إلى هذا العدو الذي طعنهم من جهة المشرق، فأعلنوا الجهاد ضد الصفويين، وسارت جيوش العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول لمنازلة الصفويين، والتقى الجيشان في معركة جالديران، انتهت بانتصار العثمانيين وخروج الصفويين من أرض العراق بعد ست سنوات من احتلالها.
بعد ذلك استنجد الصفويون بملوك أوروبا، وعقدوا معهم اتفاقيات وتعاون ضد الخلافة الإسلامية، وكان النصارى يمدون الرافضة بأنواع السلاح والعتاد، وظلت العراق وعاصمتها بغداد في سجال بين الصفويين والعثمانيين؛ لأنها بالنسبة للصفويين لها بعد ديني قبل أن يكون سياسيا، ففي العراق توجد معابدهم الطائفية ككربلاء والنجف والكاظمية. ومن عقائد الصفويين تفضيل كربلاء على مكة المكرمة واعتبار زيارة قبر الحسين أفضل من حج بيت الله تعالى، ومفتي الدولة الصفوية محمد باقر المجلسي أورد في كتابه (بحار الأنوار) والذي يعد أحد الكتب الثمانية المعتمدة عند الشيعة، أورد عشرات الآثار عن أئمتهم في هذا التفضيل.
ومما ينبغي أن يعلم عن منهج الصفويين القدماء أنهم كانوا يسوّغون سياستهم بفتاوى من مراجعهم الدينية، ومن أشهر المراجع الدينية المقرَّبين عند بساط الصفويين محمد بن الحسن العاملي الركي الملقّب عند الرافضة بالمحقق الثاني صاحب كتاب (نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت)، والجبت والطاغوت هما أبو بكر وعمر. هذا الرجل كان يعتبر رئيسَ الدولة الصفوية نائبًا للإمام الغائب، فكان هذا أول تمهيد لنظرية ولاية الفقيه التي جاء بها إمام الضلالة في هذا العصر.
أيها المسلمون، في الوقت الذي كان فيه الصفويون جبارين على أهل السنة كانوا ليِّنين متوادّين مع عُبّاد الصليب، يقول أحد مؤرخي الشيعة أنفسهم: "ولم يكن الشاه عباس فظًا على غير أهل السنة من دون أتباع سائر المذاهب، أما مع النصارى فقد كان لينًا مقرَّبًا لهم، حتى إنه أمر أهل دولته بإكرامهم أينما حلوا، وفتح لتجار النصارى الموانئ التجارية، وأوصى أن لا تؤخذ منهم رسوم على بضائعهم".
عباد الله، واستمرت الطعنات الصفوية والدسائس العدائية ضدّ الخلافة الإسلامية العثمانية طوال عهد الصفويين، والذي دام مائتين وخمسين سنة. وتسببت هذه المؤامرات على المسلمين بأمرين خطيرين:
الأول: إعاقة الفتوحات الإسلامية في أوروبا، يقول أحد السياسيين الأوروبيين في ذلك الزمن: "إن ظهور الصفويين قد حال بيننا وبين التهلكة"، ويقول أحد المستشرقين: "لولا الصفويون في إيران لكنا اليوم في فرنسا وبلجيكا وأوروبا نقرأ القرآن كالجزائريين".
الأمر الثاني الذي سببه الصفويّون على المسلمين: أن التحالفات التي عقدوها مع الدول الأوروبية والتسهيلات التي منحوها لهم شكلت بداية عهد الاستعمار والوجود الأوروبي في بلاد المسلمين.
تلك ـ يا عباد الله ـ بعض من صفحات الصفويين وشيء من سياستهم الدموية وعقيدتهم الرافضية، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سبر عقيدة الرافضة وأفعالهم فقال عنهم: "يميلون مع أعداء الدين, لقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين"، وقال أيضا: "وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم, فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى, ويعاونونهم على قتال المسلمين".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود: 113].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين, أقول ما سمعتم وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد: فيا عباد الله، بعد الاحتلال الصليبي لأرض العراق وقف رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق مبينا حقيقة مقصده الصفوي وحقده العقدي فقال: "إننا نعطي لأهل السنة في العراق ثلاثة خيارات لا رابع لها: إما أن يتشيَّعوا, أو أن يخرجوا من العراق, أو أن يقتلوا".
نعم عباد الله، ها هي أحداث العراق اليوم تعيد التاريخ نفسه؛ ليرى العالم كلَّه حقيقة هؤلاء الصفويين الجدد، حقيقة هذه العمائم السوداء التي طالما دغدغت مشاعر المسلمين وملأت العالم صراخا بلعن الشيطان الأكبر. نراها اليوم تضع يدها في يده، بل وتصدر الفتاوى بتحريم مقاومة المحتل، وتعتبرها قوات صديقة، فأي تحالف أوضح وأجلى من هذا التحالف؟!
لقد وجد الصفويون الجدد من هذا التحالف فرصة لا تعوَّض للتنفيس عن أحقادهم ضدّ سنة العراق الذي علّم الفرس معاني الصمود والبطولة. تلك العصابات الصفوية سارت على نهج آبائهم في الإجرام حذو القذة بالقذة، فأرسلوا مليشيات الغدر وفرق الموت على الأبرياء العزل من أهل السنة، لم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله ربا وبمحمد نبيا وترضوا عن أصحابه الأبرار الأطهار.
عائشة طفلة عراقية في ربيعها الثالث لم ترفع سلاحا ولم تعرف عدوا، سقطت ملطَّخة بدمائها، وذنبها أنها تسمَّت باسم أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها.
لقد قام الصفويون الجدد بمجازر يعجز اللسان عن تصويرها والبنان عن تسطيرها، أحرقوا ما يزيد عن مائتي مسجد، قتلوا مئات الألوف من الرجال، هجّروا آلاف العائلات من المدن الرئيسية، استهدافٌ لأئمة المساجد واغتيال لأهل الفكر والعلم وأصحاب الكفاءات العالية، تجاوزت جرائمهم مذابح اليهود في أرض الإسراء، وأنستنا مجازرهم شلالات الدماء في البوسنة وأرض البلقان، بل تعدّى أمر أحفاد أبي لؤلؤة المجوسي إلى انتهاك أعراض المسلمات الطاهرات العفيفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
ها هي دولة الفرس قد كشّرت عن أنيابها في أرض الرافدين التي طالما اعتبرتها بوابة للعالم الإسلامي وقنطرة لتصدير أحلام الثورة المزعومة. إن خطر هؤلاء هو ـ والله ـ أعظم وأشد من خطر اليهود والنصارى؛ لأن عداءهم باطن، وحقدهم على أهل السنة أشد وأبقى، وأياديهم الخفية مزروعة في كل صقع من أصقاع البلاد الإسلامية، فاليوم سنة العراق، ولا ندري من سيكون في عالم الغد ضحية وأضحية لهم، ونخشى ـ وايم الله ـ أن يكون حال بعض المسلمين كما قال القائل: "أكِلتُ يوم أكِل الثور الأبيض".
ومع هذه الفواجع وازدياد الكرب والمواجع يتساءل كثير من المسلمين: ماذا بوسعنا أن نفعل نصرةً لأهل السنة في العراق؟! ومع هذا التساؤل يقال: إن ثمة أمورا عدة هي بمقدور كل فرد منا تجاه إخوانه هناك:
أولا: أعظم ما يحتاجه إخوانك هناك في مثل هذه الظروف أن تقدّم لهم السلاح, سلاح الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل أن ينصرهم ويفرّج كربهم ويكفيهم شر أعدائهم، فهل سألت نفسك يا عبد الله: كم مرة رفعت أكف الضراعة لربك داعيا لإخوانك هناك؟! فالبخيل ـ والله ـ من بخل حتى بالدعاء لإخوانه المسلمين.
ثانيا: توعية الناس بحقيقة ما يجري لأهل السنة في العراق، وأنها حرب دينية عقدية، وليست كما يزعم إعلام السوء بأنها حرب بين حكومة وفلول بَعثية وأخرى إرهابية.
ثالثا: توعية المسلمين عموما وأهل التأثير خصوصا بحقيقة مذهب الرافضة وعمق عداوتهم للمسلمين عموما وأهل هذا البلد الذين يسمّونهم بالوهابيين على وجه الخصوص.
رابعا: المساهمة بالدفاع عنهم عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، وتفعيل قضيتهم وجعلها حديث الساعة.
خامسا: التواصل مع سنة العراق عبر الشبكة العنكبوتية التي جعلت العالم كالقرية الواحدة، وتثبيتهم وتصبيرهم على هذا البلاء.
سادسا: توضيح منهج أهل السنة والجماعة وعلاقتهم بآل بيت النبي ومحبتهم لهم من غير غلوّ ولا جفاء.
سابعا: تبيين الحقيقة الدينية والسياسية ممن خدعوا بما يسمّى بحزب الله أو بالثورة الإسلامية، وأنهم ما هم إلا أعداء لأهل السنة وخنجر في ظهر الأمة.
اللهم أبرم لأهل الإسلام أمرا رشدا، يعز فيه أهل الطاعة، ويعافى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
عباد الله، صلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد...
(1/5023)
الإنجاز الأمريكي في العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/11/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مزاعم أمريكا في احتلالها للعراق. 2- التوقعات الأمريكية قبل الحرب. 3- الأوضاع الاجتماعية في العراق. 4- عدد قتلى الحرب. 5- تردي الأوضاع الأمنية. 6- ظهور الجريمة المنظمة وتزايد جرائم القتل. 7- ارتفاع معدلات حوادث الاختطاف. 8- عمالة الأطفال والتسرب المدرسي. 9- ارتفاع معدلات الفقر والبطالة. 10- انتشار آفة المخدرات في المجتمع العراقي. 11- ظاهرة اغتيال واختطاف العلماء والأكاديميين. 12- انتشار السرطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، مرت أكثر من ثلاثة أعوام على الاحتلال الأمريكي للعراق من أجل تطهير المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، ومن أجل إنقاذ الشعب العراقي من الظلم والاضطهاد، ومن أجل إقامة حياة ديمقراطية كما زعمت أمريكا وما تزال تزعم ذلك. أكثر من ثلاثة أعوام مرت على الاحتلال الأمريكي، وها نحن نجد أنفسنا أمام صورة لعراق لم يبقَ منه غير الاسم، وخارطة لها حدود واضحة مع الدول المجاورة لكنها في الداخل ليست كذلك. هذا هو الإنجاز الأمريكي الضخم في العراق. لقد شاهد العالم الحضارة الأمريكية والتقدّم الأمريكي والأخلاق الأمريكية واضحة في العراق، فعلاً إنه إنجاز ضخم يستحق الإشادَة!
فالكل في الداخل يتناحر، وكل جهة من القوى المستأثرة بالمشهد تريد قضم المزيد من الوطن الممزَّق لتوسيع مساحتها ومغانمها العرقية والطائفية والحزبية، وبأي ثمن كان، والمجتمع العراقي هو الضحية وهو الذي يدفع الثمن.
ربما اعتقد كثيرون ـ وأوّلهم الرئيس الأمريكي وقادةُ الأحزاب والقِوى العميلة قبيل الاحتلال ـ أن العراقيين سيستقبلون الجنود الأميركيين بالزهور، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك في تصويره لمشاهد الابتهاج التي ستسود نفوس العراقيين، وهم يصافحون بكل حرارة وحفاوة جنود المارينز الذين سيتجولون بكل استرخاء وهدوء داخل المتاجر والأزقة والأحياء العراقية الراقية والشعبية، وسيجلسون في المقاهي يتسامرون مع العراقيين ويتبادلون النكات والأحاديث، لكن بعد ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ الذي رسم الكثيرون له صورًا ومشاهد جاؤوا بها من بوادي الخيال ومن قناعات حاول الخطاب الأميركي ترسيخها في عقول الكثيرين، فالذي حصل أن الجندي والضابط والمسؤول المدني الأميركي في العراق يعيش اليوم والحمد لله في حالة ذعر وهلع ورعب.
قبل ثلاثة أعوام قالوا: سوف نحوِّل العراق إلى أنموذج يقلّده الجميع، لكن لم يحصل أي شيء من هذا الكلام. قبل ثلاثة أعوام، كان الخوف لدى القلة التي ترى على مسافات بعيدة وتتمنى أن ينجح الاحتلال ويصل إلى عقول العراقيين، لكن بعد ثلاثة أعوام انزاحت أثقال المخاوف؛ لأنَّ أهم مراحل الاحتلال قد فشلت، وتبقى المخاوف، ويظل الحذر على أشدِّه من المراحل الأخرى القادمة. لقد كان الاحتلال البغيض وما زال ثقيلاً على نفوس العراقيين، وترك آثاره التدميرية على البناء المجتمعي في شتى نواحيه النفسية والاقتصادية والمعيشية والقيمية والسياسية.
أيها المسلمون، إن المراقب للأوضاع الاجتماعية في العراق بعد ثلاثة أعوام من الاحتلال يخرج بانطباع واحد لا يدعوه إلى التفاؤل، فمظاهر الحرب ما زالت ماثلة للعيون، بل إن الحرب ذاتها ما تزال قائمة وهي واقعة كل يوم، مُوقِعةً خسائر بشرية ومادية واقتصادية واجتماعية بالمجتمع والمحتلين، فبقايا الحرب والتخريب الذي حصل في الطرق والجسور والمباني الحكومية والأهلية والعسكرية والمدنية ما زالت ماثلة كما هي، كما أن الراصد للآثار المجتمعية للحرب في العراق يجدها ماثلة على وجوه الناس ومشاعرهم ومعاناتهم، فأكثر من نصف مليون من السكان فقدوا أحد أبنائهم أو أقاربهم من الدرجة الأولى، كما أن مئات الآلاف من السكان يعانون من توقيف أبنائهم في السجون والمعتقلات الأمريكية، ناهيك عن أن الأجواء العامة للحرب بكل تفاصيلها وبالصوت والصورة لا تزال تخيم على الناس في المدن والقرى، فأصوات الانفجارات وأزيز الرصاص والقنابل الصوتية ومشاهد الطائرات الحربية الأمريكية تملأ أجواء المدن، وتملأ قلوب الأطفال بالخوف، وتمنعهم من النوم لساعات طويلة، فضلاً عن هواجس الخوف من المداهمات الليلية لقوات الاحتلال والحكومة أو القصف العشوائي للمدن والأحياء.
نعم، إن أمريكا تستحق الشكر على هذا الإنجاز العظيم في العراق، فمعدلات الجريمة في تصاعد، والهاجس الأمني يزداد خطورة، ودائرة الفقر تتسع، وترتفع نسبة البطالة، ويزداد التغريب والتهميش، وتنتشر مظاهر عدم الانضباط في الشارع، ويغيب القانون، ويحصل التجاوز على أبسط الحقوق من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة وأفراد العصابات الإجرامية على حد سواء، وتنتشر مظاهر الجريمة والانحراف مثل بيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية على الأرصفة، وغير ذلك من المشاريع الأمريكية العملاقة والمقصودة.
إن الأوضاع المجتمعية في ظل الاحتلال على وجه الإجمال لا تُطمئن، لقد أضحى على كف عفريت ـ كما يقال ـ إن لم تتداركه أيدٍ مخلصة مؤمنة نظيفة لتوقف تدحرجه نحو الهاوية لا قدر الله. وقدرت دراسة بريطانية حديثة عدد الضحايا المدنيين في العراق منذ أبريل 2003م وحتى الآن بنحو مائة ألف قتيل، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال الذين لقوا حتفهم نتيجة للغارات الجوية على مدنهم وقراهم. أما عن عدد القتلى من الأمريكيين في العراق بعد مرور ثلاثة أعوام على الاحتلال فقد تجاوز الثلاثة آلاف عسكري وفقًا لبياناتهم، وأن أكثر من خمسة عشر ألف عسكري أمريكي أصيبوا بجروح، غالبيتهم أصيبوا بجروح خطيرة أو عاهات مستديمة والحمد لله ونسأل الله المزيد. وتؤكد المعلومات الموثوقة من داخل العراق أن أرقام ضحايا الجيش الأمريكي الحقيقية تفوق المعلن بأضعاف.
ولو أردنا أن نلخص بعض الإنجازات الأمريكية في العراق مما يعتبر مفخرة لأمريكا خاصة وللغرب عامة تفتخر بها في عالم الحرية والديمقراطية، فيمكن أن نلخصه في نقاط:
أولاً: تردي الأوضاع الأمنية:
يعد تردي الأوضاع الأمنية في مختلف المدن العراقية أعظم إنجاز للاحتلال الأمريكي، ويكفي أن العاصمة بغداد صارت وفق تصنيف عالمي نشرته صحيفة صينية بناء على تقارير أجهزة مخابرات غربية أن بغداد انضمت إلى أكثر من مائتي مدينة على مستوى العالم من حيث سوء العيش وانعدام الأمن. وأوردت إحصائية أشارت إلى أن عدد القتلى العراقيين تجاوز مائة ألف، وخلصت الصحيفة إلى القول: "إنه إذا كانت هذه هي الجنة الموعودة للديمقراطية الأمريكية فإنه من المؤكد أن أيًا من دول العالم لا تريدها ولا تنشدها، وربما تفضل جحيم الديكتاتورية عوضًا عنها". وفي تقرير للمنظمة الدولية لحقوق الإنسان ورد فيه: "بعد أكثر من عامين على سقوط العراق ما يزال مستوى تعامل قوات التحالف مع الوضع الأمني سيئًا للغاية، وما زال السكان يعيشون في خوف من الجرائم العنيفة، ويظل قلقهم يشتد بشأن عجز قوات التحالف والقوات العراقية عن توفير مستوى أمني أفضل".
الإنجاز الثاني: ظهور الجريمة المنظمة وتزايد جرائم القتل بالذات:
لقد تضاعفت جرائم القتل في العراق عمومًا وفي بغداد العاصمة خصوصًا إلى أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب، فقد صرح مدير الطب العدلي أنه في بغداد وحدها بلغ عدد القتلى الذين مرت جثثهم بالمشرحة المركزية للطب الشرعي خلال عام 2005م فقط بلغ 9066 جثة، بينما بلغ عددهم في عام 2003م وهو عام الهجوم الأميركي على العراق 6012 شخصًا. وتشكل نسبة القتل بالرصاص بين هذا العدد من الضحايا 60 في المائة وأغلبهم من الذكور. ويوميًا يتم إحالة جثث مجهولة الهوية لشبان جرى قتلهم بعد تعذيبهم إلى المشرحة العدلية، وسرعان ما يتبين أنهم قد تم اختطافهم من قِبَل عناصر تحمل أزياء السلطات الأمنية، ويتبين أن عناصر ميليشيات معينة محسوبة على دولة مجاورة تقوم باغتيالهم بعد تعذيبهم ورمي جثثهم في أطراف المدن.
الإنجاز الثالث: ارتفاع معدلات حوادث الاختطاف:
شهدت فترة الأعوام الثلاثة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات حوادث اختطاف الأطباء المشهورين وأطفال العوائل الميسورة والتجار من قِبَل عصابات منظمة تهدف من وراء عمليات الاختطاف ابتزاز ذوي المخطوف والحصول على مبالغ مالية كبيرة، وهذا ما أكده في تصريح صحفي مدير مكتب الخطف في مديرية الجرائم الكبرى التابع لوزارة الداخلية من أن الفترة الماضية شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات حوادث الاختطاف في العراق، وأصبح هناك عصابات منظمة ومتخصصة في هذا المجال.
الإنجاز الأمريكي الرابع: عمالة الأطفال والتسرب المدرسي:
إذا كانت هذه الظواهر الاجتماعية السيئة قد نشطت في العراق المحتل في ظل الانفلات الأمني فإن ظواهر أخرى نشأت في ظل الاحتلال لم تكن باختيار ضحاياها الذين كان أغلبهم من الأطفال الذين اضطروا للتوجه إلى كسب لقمة العيش الحلال، فمع الظروف القاسية التي خلفتها سطوة الاحتلال الأمريكي وفصل عشرات الآلاف من الموظفين وتعطل الكثير من الوزارات والجامعات وهدم المستشفيات اضطر هؤلاء لإجبار أطفالهم على ترك الدراسة والعمل لمعاونتهم في توفير مستلزمات حياتهم بسبب البطالة التي أصابت آثارها كل مفاصل الحياة، وبالذات التابعة للقطاع الخاص، بعد أن توقفت المصانع الصغيرة التي كانت تضم مئات الآلاف من العاملين.
وعن تسرب الأطفال من مدارسهم في ظل الاحتلال الأمريكي الظالم أكد وزير حقوق الإنسان العراقي في تصريح صحفي له أن هناك حوالي مليون طفل متسرب من المدارس في العراق، ونفس العدد من الأطفال المعاقين والنازحين، وأشار إلى أن 80 في المائة من المدارس في العراق بناياتها غير لائقة تمامًا لممارسة العملية التربوية، كما أن 50 في المائة من المدارس تعاني من شح المياه الصالحة للشرب ولا تتوفر فيها الخدمات الأساسية الضرورية كالقاعات الدراسية المناسبة والمرافق الصحية.
لا شك أن ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس هي إحدى إفرازات الاحتلال والانفلات وعدم المتابعة الجدية من قِبَل أجهزة الحكومة، حيث كانت قوانين العراق قبل الحرب تلزم رب العائلة باستمرار أبنائه على الدراسة، وتفرض عليه عقوبات تصل إلى السجن إن تسرب أبناؤه ولم ينتظموا في الدراسة، أما الآن فلا توجد أية متابعة من الحكومة التي لا همَّ لها سوى الانتخابات وتقاسم المناصب الحكومية وتثبيت نفسها في السلطة بكل الطرق بعيدًا عن مشاكل المجتمع.
الإنجاز الأمريكي الخامس: ارتفاع معدلات الفقر والبطالة:
من البديهيات الاقتصادية أن زيادة نسبة البطالة تعني زيادة نسبة الفقر خاصة في ظل غياب نظام للرعاية والضمان الاجتماعي أو شبكات الأمان الاجتماعي أو إعانات البطالة، وقد تضاعف عدد الأسر الفقيرة والمتعففة إلى عدة أضعاف عما كان عليه قبل الاحتلال. وقد صرح وزير العمل والشؤون الاجتماعية في العراق مؤخرًا بأن نسبة من يعيشون دون خط الفقر في العراق اليوم تجاوزت الـ25 في المائة في بلد يطفو فوق أكبر بحيرة للنفط في العالم. ولا يبدو في الأفق أي حل صريح وواضح من جانب الحكومة لمعالجة هذه الآفة المستشرية التي تتولد عنها مشكلات اجتماعية أكثر خطورة في الدفع نحو الجريمة أو الانحراف.
ربما تكون ظاهرة البطالة هي الأقسى بين الظواهر الاجتماعية في العراق المحتل، وكانت وما زالت هي سببًا أكبر للمظاهرات التي شهدتها المدن العراقية والتي كانت ترفع خطاب المطالبة بالوظائف لكسب الرزق. بدأت هذه المظاهرات بخروج أفراد الجيش العراقي بعد حله والمطالبة بإعادتهم وصرف رواتبهم، ثم اتسعت لتشمل قطاعات شعبية أخرى. ويعتبر ملف العاطلين عن العمل من أخطر الملفات في العراق، وفي كل يوم تطلع فيه الشمس يزداد هذا الملف اتساعًا مع استمرار انهيار الأوضاع الأمنية وتراجع عمليات الإعمار والبناء. وأفادت أحدث دراسة أعدتها كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد أن نسبة العاطلين عن العمل بين القوى العاملة في العراق قد وصلت إلى 70 في المائة، وهي أعلى نسبة بطالة تسجل في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. والشكر موصول للحكومة الأمريكية على هذا الإنجاز.
مع الأسف لم نرَ أي اهتمام بهذه المشكلة التي سببت دمارًا للاقتصاد العراقي الذي ظل يعتمد على صادرات النفط فقط وأُهمل تفعيل باقي القطاعات الاقتصادية، بل إننا لم نرَ من عائدات النفط أي شيء سوى الكلام، بل نتساءل: أين واردات النفط؟! مع أن واردات العراق خلال العامين الماضيين رغم تذبذبها تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، فأين هي؟! نترك إجابة السؤال للإدارة الأمريكية المجرمة.
الإنجاز السادس لأمريكا في العراق: انتشار آفة المخدرات في المجتمع العراقي:
يشكل تعاطي المخدرات والإدمان عليها مشكلة تربوية اجتماعية؛ لأن آثارها تمتد إلى تهديد كيان المجتمع وتخريب وإفساد العقول. وقد تعرض العراق إلى هجمة شرسة خلال أعوام الاحتلال استهدفت تعطيل إمكاناته وتخريب اقتصاده بتفشي ظاهرة المخدرات بين بعض فئات المجتمع المهنية والعمرية وخاصة الطلبة والشباب والعمال بدعم من الإدارة الأمريكية. إن مشكلة المخدرات لم تعد مشكلة سلوكية فقط، وإنما امتدت آثارها إلى المستوى الصحي والسياسي والاقتصادي، ومن الواضح أن تعاطي المخدرات حالة نفسية، وفي الغالب يُدمَن عليها في غياب الرقابة الطبية والاجتماعية، فضلاً عن أن هناك مواد تؤدي إلى التعلق بالمخدرات يصعب معها عدم الوقوع في فخ الإدمان عليها، ولا توجد في الوقت الحاضر أية وسيلة للتصدي لإدمان المخدرات والمشاكل المصاحبة لغياب الأمن والرقابة وانفلات الحدود وتفشي الفساد الإداري.
المنظمة الدولية لمراقبة تهريب المخدرات التابعة للأمم المتحدة في تقريرها السنوي الأخير كشفت أن العراق قد تحول إلى محطة مرور (ترانزيت) لنقل الهيروين المصنَّع من أفغانستان وإيران إلى أوروبا، وقال رئيس المنظمة: "إن الهيروين والمخدرات المستخرجة من الأفيون المزروع في أفغانستان وإيران تنقل عبر العراق إلى الأردن ودول الخليج، حيث ترسل إلى الأسواق في أوروبا". ونقلت الصحف العراقية عدة تصريحات لمسؤولين محليين أنه قد تم ضبط ومصادرة مئات الكيلوغرامات من المخدرات في مدن العراق، كانت قد أدخلت إليها عبر إيران. ولا شك أن أمريكا تفتخر بهذا الإنجاز!
اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم عليك بأمريكا، اللهم سلط عليهم عذابا من عندك يا رب العالمين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الإنجاز العظيم السابع لأمريكا في العراق: ظاهرة اغتيال واختطاف العلماء والأكاديميين:
لقد انتشرت بعد الاحتلال والإجرام الأمريكي في العراق وبشكل واسع ظاهرة اختطاف واغتيال العلماء والأكاديميين والأطباء العراقيين بهدف تفريغ العراق منهم وإجبار الآخرين على الهجرة، وتتحدث الأخبار عن اغتيال مئات من العناصر العلمية العراقية في مئات العمليات، وقيدت تلك الجرائم ضد مجهولين، ويشير العراقيون إلى دورٍ لمخابرات أجنبية ودول مجاورة تحديدًا في تنفيذ تلك الاغتيالات. ويشكل مسلسل الاغتيالات الذي يستهدف شخصيات سياسية وأكاديمية ومهنية في العراق رعبًا قائمًا للعراقيين الذين يعتقدون بوجود تنظيمات ذات خبرة واحتراف وراء تلك العمليات. ونتيجة لتصاعد عمليات القتل تملَّك الخوف والرعب بعض الأساتذة بالرغم من أنه لم يتم إثبات أي علاقة بين هذه الاغتيالات ووظائفهم. وبحسب مصادر إعلامية فإن العشرات من العلماء والكفاءات العلمية العراقية بدؤوا بالفعل بمغادرة بلادهم للنفاذ بجلدهم من التصفيات الجسدية التي تنفذ أحيانًا لأسباب تتعلق بوجهات النظر والآراء السياسية.
الإنجاز الأمريكي الثامن: انتشار السرطان وازدياده بنسبة 300 في المائة:
لن تجد مكانًا آخر غير العراق في ظل الاحتلال الأمريكي أفضل للاستشهاد بالمثل العربي الشهير "تعددت الأسباب والموت واحد"، فمن لم يمت تحت وقع القصف الأمريكي وحوادث الانفجارات وأعمال التصفيات والاغتيالات المنظمة وأفعال الخطف والقتل التي باتت سمة يومية للحياة البائسة في عراق افتقد أغلى نعمتين: الصحة والأمان، من لم يمت بتلك مات تحت وقع الأمراض الخبيثة بأنواعها، ونهشه السرطان من كل جهة. ومقابر العراق اتسعت ولم يعد في المقابر الحالية متسع، والمستشفيات تعاني من قلة الإمكانات وشح الدواء ونقص الأطباء المتخصصين الذين باتت أيادي خفية وبجهد استخباري منظم تستهدفهم بالقتل والخطف والاغتيالات، ومن نجا منهم هرب وترك العراق التماسًا للأمن والحياة. والسرطان بعد أن كان مرضًا يسمع عنه العراقيون باتوا يعانون منه ومن تصاعد معدلاته التي زادها الاحتلال الأمريكي بسبب التلوث البيئي الكبير الناتج عن الاستخدام المفرط للمواد الكيميائية والمشعة في البلد.
هذه بعض الإنجازات الضخمة التي تفخر بها أمريكا مما حققته في العراق في ظل الديمقراطية والحرية المزعومة.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في العراق، اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميرًا عليه. اللهم احقن دماء المسلمين في العراق، واحم اللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وبلادهم وأموالهم...
(1/5024)
عاشوراء بين اتباع السنة وهوس الرافضة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
7/1/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصر الله تعالى لموسى عليه السلام. 2- سوء عاقبة الباطل وأهله. 3- الفرح بانتصار الحق على الباطل. 4- شكر الله تعالى على نعمه. 5- المسلمون أولى بجميع الأنبياء. 6- فضل صوم عاشوراء. 7- بدع الرافضة في عاشوراء. 8- عداء الرافضة لأهل الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي هَذَا الشَّهرِ العَظِيمِ شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ الَّذِي يُذَكِّرُنَا بِهِجرَةِ المُصطَفَى مِن مَكَّةَ إِلى المَدِينَةِ وَبَدءِ ظُهُورِ الدَّعوَةِ الإِسلامِيَّةِ وَانتِصَارِ الإِسلامِ وَانتِشَارِهِ نَتَذَكَّرُ انتِصَارًا عَظِيمًا آخَرَ حَدَثَ في يَومٍ مِن أَيَّامِ اللهِ لِعَبدٍ مِن عِبَادِ اللهِ، ذَلِكُم هُوَ نَصرُ اللهِ لِعَبدِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى عليه السلامُ وَخُذلانُ عَدُوِّهِ المُتَعَالي فِرعَونَ رَأسِ الطُّغَاةِ وَإِمامِ المُتَكَبِّرِينَ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيَامًا يَومَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لهم رَسُولُ اللهِ : ((مَا هَذَا اليَومُ الذِي تَصُومُونَهُ؟)) فَقَالُوا: هَذَا يَومٌ عَظِيمٌ أَنجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ وَغَرَّقَ فِرعَونَ وَقَومَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكرًا فَنَحنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((فَنَحنُ أَحَقُّ وَأَولى بِمَوسَى مِنكُم)) ، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وَفي هَذَا الحَدَثِ وَالحَدِيثِ فَوَائِدُ وَوَقَفَاتٌ يَجِبُ أَن لاَّ تَغِيبَ عَنِ البَالِ، خَاصَّةً وَالأُمَّةُ تَعِيشُ مَا تَعِيشُهُ مِن وَهَنٍ وَضَعفٍ وَذُلٍّ وَتَفَرُّقٍ، وَالأَعدَاءُ تَسُومُهَا سُوءَ العَذَابِ تَقتِيلاً وَتَشرِيدًا وَتَمزِيقًا، بَعدَ أَن تَدَاعَت عَلَيهَا تَدَاعِيَ الأَكَلَةِ عَلَى قَصعَتِهَا.
الوَقفَةُ الأُولى: أَنَّ البَاطِلَ مَهمَا عَلا زَبَدُهُ وَارتَفَعَ دُخَانُهُ وَمَهمَا كَانَت مَوَازِينُ القُوَّةِ رَاجِحَةً في يَدِهِ والأُمُورُ في الظَّاهِرِ تَسِيرُ لِصَالِحِهِ إِلاَّ أَنّهُ وَاهٍ مَهمَا نَفَشَ وَانتَفَشَ، وَأَهلُهُ ضُعَفَاءُ مَهما نَفَخُوا وَانتَفَخُوا، فَذَلِكُم فِرعَونُ أَطغَى الطُّغَاةِ في عَصرِهِ الَّذِي قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى ، وَقَالَ: مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرِي ، وقال: أَلَيسَ لي مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِي مِن تَحِتي ، وقال: أَمْ أَنَا خَيرٌ مِن هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ، وَقَتَلَ مَن قَتَلَ مِن رِجَالِ بَني إِسرَائِيلَ، كَانَ هَلاكُهُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِن بَني إِسرَائِيلَ الَّذين حَاوَلَ إِبَادَتَهُم وَاستِئصَالَ شَأفَتِهِم، رَجُلٍ تَرَبَّى في بَيتِهِ وبِمَالِهِ وَتَحتَ رِعَايَتِهِ، وَمَشى بَينَ يَدَيهِ وَتَحتَ عَينَيهِ، وَلم يَكُنْ أَحَدٌ أَقرَبَ مِنهُ إِلَيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لم يُسَلَّطْ عَلَيهِ، إِذْ أَلقَى اللهُ عَلَيهِ مَحَبَّةً مِنهُ وَصَنَعَهُ عَلَى عَينِهِ، فَكَانَ هَلاكُ هَذَا الطَّاغِيَةِ عَلَى يَدِهِ وَبِسَببِهِ بَعدَ أَن دَعَاهُ إِلى اللهِ فَكَذَّبَ وَعَصَى، قَالَ اللهُ عنِ فِرعَونَ وَجُنُودِهِ: وَاستَكبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُم إِلَينَا لا يُرجَعُونَ فَأَخَذنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذنَاهُم في اليَمِّ فَانظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ، وقال تعالى: فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولى إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لمَن يَخشَى. وَكَمَا أَخَذَ اللهُ فِرعَونَ وَجُنُودَهُ وَأَهلَكَهُم فَسَيَأتي اليَومُ الَّذِي يَأخُذُ فِيهِ فَرَاعِنَةَ هَذَا العَصرِ الَّذِينَ أَبَوا وَعَصَوا، وَطَغَوا في البِلادِ فَأَكثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ، وَعَمِلُوا عَلَى حَربِ الإِسلامِ وَطَارَدَوا المُسلِمِينَ، مِن لَدُنْ دَولَةِ الكُفرِ وَالطُّغيَانِ، إِلى كُلِّ مَن سَانَدَهَا وَنَاصَرَهَا وَدَارَ في فَلَكِهَا، وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، لَكِنَّهَا مَسأَلَةُ وَقتٍ لا أَقَلَّ وَلا أَكثَرَ، حَتَّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُم قَد كُذِبُوا جَاءَهُم نَصرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأسُنَا عَنِ القَومِ المُجرِمِينَ.
الوَقفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ وَأَحَقَّهَا بِأَن يُحتَفَى بِهِ وَيَحتَفَلَ اليَومُ الَّذِي يَرتَفِعُ فِيهِ عَلَمُ الإِسلامِ وَتَعلُو رَايَةُ العَقِيدَةِ، فَيَومَ أَن يَنتَصِرَ الحَقُّ وَيُخذَلَ البَاطِلُ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصرِ اللهِ، كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدنى الأَرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ في بِضعِ سِنِينَ للهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيَومَئِذٍ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الوَقفَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ مِن حَقِّ اللهِ عَلَى عَبدِهِ كُلَّمَا تَجَدَّدَت عَلَيهِ مِنهُ نِعمَةٌ أَن يُقَابِلَهَا بِالشُّكرِ لِلمُنعِمِ سُبحَانَهُ، وَأَفضَلُ الشُّكرِ مَا كَانَ بِالقَلبِ اعتِرَافًا وَبِاللِّسَانِ تَحَدُّثًا وَبِالجَوَارِحِ عَمَلاً وَتَطبِيقًا، وَهَذَا مَا فَعَلَهُ مُوسَى عليه السلامُ حِينَ صَامَ عَاشُورَاءَ شُكرًا للهِ على نَجَاتِهِ وَهَلاكِ عَدُوِّهِ، وَفَعَلَهُ نَبِيُّنَا محمدٌ امتِدَادًا لِذَلِكَ الشُّكرِ، وَيَفعَلُهُ المُؤمِنُونَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ اقتِدَاءً بِنَبِيِّهِم وَطَلبًا لِلأَجرِ مِن رَبِّهِم.
وَقَد يَقُولُ قَائِلٌ وَيَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ: إِنَّ في الإِسلامِ أَيَّامًا عَظِيمَةً كَانَ فِيهَا لِلإِسلامِ نَصرٌ وَعِزٌّ، كَالأَيَّامِ التي انتَصَرَ فِيهَا النبيُّ في غَزَوَاتِهِ، وَكَيَومِ مِيلادِهِ وَهِجرَتِهِ، وَكَحَادِثَةِ الإِسرَاءِ وَالمِعرَاجِ وَغَيرِهَا، فَلِمَاذَا لا نَصُومُهَا أَو نُحدِثُ فِيهَا مِنَ العِبَادَاتِ مَا يَكُونُ بِهِ شُكرُ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ فِيهَا؟! فَيُقَالُ: إِنَّ مَبنى الدِّينِ عَلَى التَّأسِّي وَالاستِسلامِ وَالاتِّبَاعِ، لا عَلَى الاستِحسَانِ وَالإِحدَاثِ وَالابتِدَاعِ، لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ ، وَنحنُ حِينَمَا نَصُومُ عَاشُورَاءَ فَإنَّما نَصُومُهُ اتِّبَاعًا لَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فِيمَا شَرَعَهُ لَنَّا وَسَنَّهُ، لا استِحسَانًا مِن عِندِ أَنفُسِنَا، قَالَ : ((مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
الوَقفَةُ الرَّابِعَةُ: مَعَ قَولِهِ : ((نحنُ أَحَقُّ بِمَوسَى مِنكُم)) ؛ إِذ فِيهِ أَعظَمُ الدَّلالَةِ عَلَى أَنَّ رَابِطَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ هِيَ أَقوَى رَابِطَةٍ، وَأَنَّ صَلِةَ الإِسلامِ هِيَ أَعظَمُ صِلَةٍ، وَأَنَّ نَسَبَ الدِّينِ هُوَ أَعظَمُ النَّسَبِ، فَمُحَمَّدٌ عليه الصلاةُ والسلامُ وَأُمَّتُهُ بِتَمَسُّكِهِم بِدِينِهِم وَثَبَاتِهِم عَلَى الإِيمانِ أَولى بِمَوسَى وَأَقرَبُ إِلَيهِ مِنَ اليَهُودِ المُحَرِّفِينَ لِشَرِيعَتِهِ النَّاكِبِينَ عَن طَرِيقَتِهِ، بَل إِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ أَحَقُّ بِكُلِّ نَبيٍّ وَأَولى بِهِ مِن قَومِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوهُ، وَرُسُلُ اللهِ دِينُهُم وَاحِدٌ، جَاؤُوا بِالتَّوحِيدِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ، قَالَ سُبحَانَهُ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ ، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَبّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائكتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِن رُّسُلِهِ ، وقال جل وعلا: إِنَّ أَولى النَّاسِ بِإِبراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلىُّ المُؤمِنِينَ ، وقال عليه الصلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَنَا أَولى النَّاسِ بِعِيسَى ابنِ مَريمَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، لَيسَ بَيني وَبَينَهُ نَبيٌّ، وَالأَنبِيَاءُ أَولادُ عَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ)) ، ولمَّا أَهلَكَ اللهُ قَومَ نُوحٍ في الطُّوفَانِ وَفِيهِمُ ابنُهُ الكَافِرُ فَدَعَا رَبَّهُ: رَبِّ إِنَّ ابنِي مِن أَهلِي وَإِنَّ وَعدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحكَمُ الحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيسَ مِن أَهلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسأَلْنِ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ يَومَ عَاشُورَاءَ يَومٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ، وَصِيَامُهُ عَمَلٌ صَالحٌ وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ كَرِيمَةٌ، سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عَن صِيَامِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا عَلِمتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَامَ يَومًا يَطلُبُ فَضلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلاَّ هَذَا اليَومَ. وَقَد بَيَّنَ عليه الصلاةُ والسلامُ أَنَّ صِيَامَ هَذَا اليَومِ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ، فَقَالَ: ((صِيَامُ عَاشُورَاءَ أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ)).
وَلأَنَّ الإِسلامَ قَد جَاءَ بِمُخَالَفَةِ أَهلِ الكِتَابِ فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَنْ يُصَامَ مَعَ عَاشُورَاءَ يَومٌ قَبلَهُ أَو بَعدَهُ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقبِلُ إِن شَاءَ اللهُ صُمنَا اليَومَ التَّاسِعَ)) ، قَالَ: فَلَم يَأتِ العَامُ المُقبِلُ حتى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ، وعنه رَضِيَ اللهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((صُومُوا يَومَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا فِيهِ اليَهُودَ؛ صُومُوا قَبلَهُ يَومًا أَو بَعدَهُ يَومًا)).
أَلا فَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم وَصُومُوا عَاشُورَاءَ، والَّذِي سَيوافِقُ الاثنينَ القَادِمَ، وَخَالِفُوا اليَهُودَ بِصِيَامِ التَّاسِعِ وَهُوَ يَومُ الأَحَدِ، أَو الحَادِيَ عَشَرَ وَهُوَ يَومُ الثُّلاثَاءِ، أَو بِصِيَامِهِمَا كِلَيهِمَا مَعَ عَاشُورَاءَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَوحَينَا إِلى? مُوسَى? أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ فَأَرسَلَ فِرعَونُ في المَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُم لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخرَجنَاهُم مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَورَثنَاهَا بَني إِسرائِيلَ فَأَتبَعُوهُم مُشرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ فَأَوحَينَا إِلى مُوسَى أَنِ اضرِبْ بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ وَأَزلَفنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَينَا مُوسَى وَمَن مَعَهُ أَجمَعِينَ ثُمَّ أَغرَقنَا الآخَرِينَ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ يَومَ عَاشُورَاءَ الَّذِي هُوَ مُنَاسَبَةٌ لِلذِّكرِ وَالشُّكرِ وَالعِبَادَةِ قَدِ ارتَبَطَ عِندَ الرِّافِضَةِ مَجُوسِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِضَلالاتٍ وَخُرَافَاتٍ وَخُزعبلاتٍ، وَأَحدَثُوا فِيهِ بِدَعًا وَأَوهَامًا وَمُنكَرَاتٍ، وَاعتَادُوا فِيهِ عَلَى مُمَارَسَاتٍ مَا أَنزَلَ اللهُ بها مِن سُلطَانٍ، إِذ تَرَاهُم يَلطمُونَ فِيهِ خُدُودَهُم وَيَصِيحُونَ، وَيَخمِشُونَ وُجُوهَهُم وَيُوَلوِلُونَ، وَيَعلُو بُكَاؤُهُم وَيَرتَفِعُ عَوِيلُهُم، وَيَكثُرُ نَحِيبُهُم وَيُعَذِّبُونَ أَجسَادَهُم، وَتَسِيلُ مِنهُمُ الدُّمُوعُ وَالدِّمَاءُ، وَيَختَلِطُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَرَبُّمَا هُتِكَتِ العَورَاتُ وَارتُكِبَتِ الفَحشَاءُ، يَفعَلُونَ ذَلِكَ بِاسمِ الحُزنِ عَلَى مَقتَلِ الحُسَينِ رضي اللهُ عنه، وَادِّعَاءً لِحُبِّ آلِ البَيتِ رضوَانُ اللهِ عَلَيهِم، وَاللهُ يَعلَمُ أَنَّهُم مِن أَضَلِّ النَّاسِ فِيمَا يَفعَلُونَ وَأَكذَبِهِم فِيمَا يَدَّعُونَ، قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه اللهُ: "وَمِن حَمَاقَتِهِم إِقَامَةُ المَأتَمِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى مَن قَد قُتِلَ مِن سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَمِنَ المَعلُومِ أَنَّ المَقتُولَ وَغَيرَهُ مِنَ المَوتَى إِذَا فُعِلَ مِثلُ ذَلِكَ بهم عَقِبَ مَوتِهِم كَانَ ذَلِكَ ممَّا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَقَد ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النبيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((لَيسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعوَى الجَاهِلِيَّةِ)) ، وَهَؤُلاءِ يَأتُونَ مِن لَطمِ الخُدُودِ وَشَقِّ الجُيُوبِ وَدَعوَى الجَاهِلِيَّةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ المُنكَرَاتِ بَعدَ مَوتِ المَيِّتِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ مَا لَو فَعَلُوهُ عَقِبَ مَوتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مِن أَعظَمِ المُنكَرَاتِ التي حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ، فَكَيفَ بَعدَ هَذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؟! وَمِنَ المَعلُومِ أَنَّهُ قَد قُتِلَ مِنَ الأَنبِيَاءِ وَغَيرِ الأَنبِيَاءِ ظُلمًا وَعُدوَانًا مَن هُوَ أَفضَلُ مِنَ الحُسَينِ، قُتِلَ أَبُوهُ ظُلمًا وَهُوَ أَفضَلُ مِنهُ، وَقُتِلَ عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ وَكَانَ قَتلُهُ أَوَّلَ الفِتَنِ العَظِيمَةِ التي وَقَعَت بَعدَ مَوتِ النبيِّ ، وَتَرَتَّبَ عَلَيهِ مِنَ الشَّرِّ وَالفَسَادِ أَضعَافُ مَا تَرَتَّبَ على قَتلِ الحُسَينِ، وَقُتِلَ غَيرُ هَؤُلاءِ وَمَاتَ، وَمَا فَعَلَ أَحَدٌ لا مِنَ المُسلِمِينَ وَلا غَيرِهِم مَأتَمًا وَلا نِيَاحَةً عَلى مَيِّتٍ وَلا قَتِيلٍ بَعدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِن قَتلِهِ إِلاَّ هَؤُلاءِ الحَمقَى" اهـ.
إِنَّ هَؤُلاءِ الرَّافِضَةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ حُبَّ الحُسَينِ وَأَهلِ البَيتِ هُم وَاللهِ أَشَدُّ النَّاسِ لِلصَّحَابَةِ بُغضًا وَلِقَدرِهِم تَنَقُّصًا، وَبِمَكَانَتِهِم جَهلاً وَلِفَضِيلَتِهِم تَضيِيعًا، إذْ يُكَفِّرونهم إِلاَّ نَفَرًا قَلِيلاً، وَيَلعَنُونَ أَشيَاخَهُم أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ، وَيَتَّهِمُونَ بِالزِّنَا أَطهَرَهُم الصِّدِّيقَةَ بِنتَ الصِّدِّيقَ زَوجَةَ رَسُولِ اللهِ، وَهُم في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَلَدُّ أَعدَاءِ أَهلِ السُّنَّةِ وَأَشَدُّ خُصُومِهِم، لا يَقِلُّ عَدَاؤُهُم عَن عَدَاءِ أَخبَثِ خَلقِ اللهِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَفعَالُهُمُ المَشِينَةُ مَعَ أَهلِ السُّنَّةِ وَتَخطِيطُهُم لِخُذلانِِهِم مِن الشُّهرَةِ بِحَيثُ لا تُنكَرُ، وَمَا قَامَت لِليَهُودِ أَوِ النَّصَارَى دَولَةٌ إِلاَّ كَانُوا مَعَهُم عَلى أَهلِ السُّنَّةِ، وَالوَاقِعُ المُشَاهَدُ في العِرَاقِ الآنَ خَيرُ دَلِيلٍ، وَمَاذَا يُنتَظَرُ مِن قَومٍ كَفَّرُوا الصَّحَابَةَ الِّذِينَ هُم خَيرُ الأُمَّةِ بَعدَ نَبِيِّهَا؟! مَاذَا يُنتَظَرُ ممَّن يَلعَنُونَ أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ وَيَسُبُّونَهُمَا؟! مَاذَا يُنتَظَرُ ممَّن يَرمُونَ أُمَّ المُؤمِنِينَ الصِّدِّيقَةَ بِنتَ الصِّدِّيقِ بِالزِّنَا؟! يُؤذُونَ رَسُولَ اللهِ في أَحَبِّ نِسَائِهِ إِلَيهِ، ثم يَدَّعُونَ حُبَّ آلِ البَيتِ، أَلا فَمَا أَحرَاهُم بِقَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُهِينًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسألُكَ أَن تُرِيَنَا في الرَّافِضَةِ يَومًا أَسوَدَ، اللَّهُمَّ أَحصِهِم عَدَدًا وَاقتُلهُم بَدَدًا، وَلا تُغَادِرْ مِنهُم أَحَدًا، اللَّهُمَّ لا تَرفَعْ لهم رَايَةً، وَلا تُبَلِّغْهُم هَدَفًا وَلا غَايَةً، وَاجعَلْهُم لِمَن خَلفَهُم عِبرَةً وَآيَةً، اللَّهُمَّ خُذْهُم أَخذَ عَزِيزٍ مُقتَدِرٍ، لا تُبقِ مِنهُم وَلا تَذَرْ، اللَّهُمَّ وَعَليكَ بِجَمِيعِ أَعدَاءِ دِينِكَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَن هَاوَدَهُم وَنَاصَرَهُم، اللَّهُمَّ وَأَبرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمرًا رَشَدًا، يُعَزُّ فِيهِ أَهلُ طَاعَتِكَ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهلُ الإِشرَاكِ بِكَ، وَيُؤمَرُ فِيهِ بِالمَعرُوفِ وَيُنهَى عَنِ المُنكَرِ يَا سَمِيعَ الدُّعَاءِ...
(1/5025)
الروافض ماض أسود وحاضر مشين
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
ماجد بن بلال شربة
الحوية
جامع الأبرار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموالاة في الله والمعاداة في الله. 2- التحذير من أعداء الإسلام. 3- خطورة العدو الخفي. 4- تعريف الرافضة. 5- عقائد الروافض الفاسدة. 6- تاريخ الرافضة الأسود. 7- جرائم الرافضة في العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، من الركائز المعلومة في الدين الموالاة في الله والبغض في الله، فالمؤمن الحق يحبّ كل ما يحبه الله ويرضاه ويوالي كل من عبد الله حق العبودية، والمؤمن الحق يكره كل ما يكرهه الله ويأباه ويعادي كل من عبد غير الله وعادى دين الله ورسوله.
ومن هذا المنطلق ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ ينبغي للمسلم الذي يؤمن باللهِ ورسولهِ ويحب اللهَ ورسولَهَ أن ينظر إلى الكافر على أنه عدو له مهما أظهر له من حلاوة اللسان ولين الجانب، فإنه مخالف له في الملة والدين؛ لأن هذا العدو متى ما وجد فرصة فإنّه لا يتردّد أبدًا في إلحاق الأذى والضرَر بك أيها المسلم، كما وصف الله عز وجل في كتابه الكريم حيث قال: يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ [التوبة: 8]، وقال عز وجل: هَا أَنتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران: 119]، وقال سبحانه: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 119].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن العدوَّ نوعان: عدوٌّ ظاهر وعدو خفي، والعدو الخفي أشد عداء من العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر ـ على اسمه ـ ظاهر الشر يسهل الحذر منه، أما العدو الخفي فإنه ينخر في العظم ولا تشعر إلا وقد سقط البناء جراء النهش المستمر، لذلك كان شرّه أعظم وأخطر، فوجب التحذير منه أشد من غيره.
ومن هذا النوع الثاني ـ أيها المؤمنون ـ الرافضة الذين رفضوا الإمام زيد بن علي بن زين العابدين عندما أعلن ولاءه لأبي بكر وعمر، ومن فرَقِهم الصفويّة الذين ينتسبون إلى الشاه إسماعيل الصفوي الذي حوّل بلاد فارس ـ إيران حاليًا ـ ذات الأغلبية الغالبة السنية إلى دولة شيعية بهدف التميّز عن الخلافة العثمانية السنية. ومن طوائفهم الجعفرية والإثنا عشرية وغيرها الكثير، وهم يسمون أنفسهم بشيعة علي، وعلي بن أبي طالب منهم براء، بل قام علي بتحريقم لما عبدوه من دون الله. وأطبق العلماء على تسميتهم بالرافض الباطنية الذين يظهرون الإسلام والولاء ويبطنون الكفر والعداء.
وإليك ـ أخي الحبيب ـ شيئا من عقائدهم الفاسدة الباطلة:
1- الشيعة الرافضة الباطنية الصفويّة يعتقدون بتحريف القرآن، وهذا تكذيب صريح لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، فلا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يحرف آية واحدة منه؛ لأن الله قد قال عن كتابه العزيز: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49].
2- يحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون القرآن على ما تشتهيه أهواؤهم.
3- يدعون أن الله قد أنزل كتبا على أئمتهم، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78].
4- يتهمون الرسول بأنه قد كتم الدين، والله عز وجل قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].
5- يقولون: إن جبريل قد خان الأمانة، وبذلك يكذبون القرآن، والله تعالى يقول: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
6- يعتقدون أن أقوال أئمتهم نصوص لا يجوز مخالفتها.
7- يفسرون الأحاديث النبوية على ما تهواه قلوبهم الفاسدة.
8- يسبون الصحابة رضي الله عنهم، وخاصة أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. وقد نص العلماء على كفر من سبّ عائشة رضي الله عنها؛ لأن الله برأها في كتابه الكريم، ومن سبها فقد كذب القرآن.
9- يردون أحاديثَ الصحابة.
10- يغلون في علي بن أبي طالب.
11- يغلون في قبور أئمتهم، وقد قال النبي : ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
12- يعتقدون العصمة لأئمتهم.
وغيرها الكثير والكثير من المعتقدات والأفاعيل الباطلة الفاسدة التي أشرِّف المسجد والسامعين من ذكرها.
أيها المسلمون، لقد شهد الزمان على الروافض ـ خيَّبهم الله ـ بتاريخهم الأسود على مرّ العصور، وإليكم شيئًا يعيد لنا الذكريَات، وكأن الزمان يدور دورتَه ويعيد نفسه، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح: 23].
الدولة العباسية وما أدراك ما الدولة العباسية، من أعظم دول الإسلام، وحكامهما سقطت على يد وزير باطني رافضيّ خبيث، هو محمد بن العلقمي، ائتمنه الوالي على الدولة، وفوّضه في شئونها، فأخذ الوزير الخبيث يصرف الجنود من حول الخليفة شيئًا فشيئًا حتى إنه لم يبق حول الخليفة في العاصمة العباسية حينئذ بغداد إلا عشرة آلاف فارس، ثم أخذ محمد بن العلقمي يكاتب التتار حتى إذا أقبلت جيوش التتار متلاحمة كالبحار أقبلت إلى بغداد وليس فيها حول الخليفة إلا تلك القوة الضعيفة من الجند، زَيَّن الوزير بن العلقمي إلى الخليفة أن يخرج إلى هولاكو قائد التتار من أجل التفاوض على الصلح، فخرج الخليفة من غفلته ومعه سبعمائة من الأعيان والقضاة والعلماء، فقتلهم التتار عن بكرة أبيهم، وقُتل الخليفة المستعصم بين يدي هولاكو صبرًا ومعه سبعة عشر من خواصه، منهم ثلاثة من أبنائه، وذكر المؤرخون أن عدوَّ الله هولاكو التتري الوثني تهيَّب في بادئ الأمر من قتل الخليفة لما يعلم من مكانته في عالم الإسلام والمسلمين، فأخذ ابن العلقمي الوزير الخائن الرافضي الخبيث يهوِّن عليه ذلك ويزيّنه عليه حتى قتله، وابن العلقمي يتفرّج على ذلك.
ثم دخل التتار بغداد وقد فتح أبوابها لهم الوزير ابن العلقمي، فدخلوا يقتلون وينهبون ويأسرون ويدمّرون ويحرقون أربعين يومًا، حتى أصبحت بغداد التي كانت حين ذاك زهرة مدائن الدنيا أصبحت خرابًا يبابًا تنعق فيها البُوم، وقُتل فيها ـ كما يذكر ابن كثير في تاريخه ـ حوالي ألفا ألف إنسان، أي: حوالي مليونين من المسلمين، والوزير الرافضي الخبيث ابن العلقمي يتفرج على تلك الكارثة الهائلة التي حلت بالمسلمين، وسقطت تلك الدولة العباسية الإسلامية العظيمة التي استمر ملكها أكثر من خمسمائة سنة، وكأن الزمان يعيد نفسه مع التتار الجدد من عباد الصليب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:1، 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تأذن بالنصر والفوز لمن آمن وصبر، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البشر، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين من كل البشر.
واليوم ـ عباد الله ـ لما أتى التتار الجدد العدوانُ الصليبي على العراق ظهر صوت الروافض الشيعة الصفوية الأقزام، واستأسدوا على أهل السنة هنالك، وعاثوا في الأرض فسادا كما كان أسلافهم، ولا أدل على ذلك من جرائمهم المتتالية التي نسمع بها كل يوم في العراق، وإليكم شيئًا من حصيلة الخمسة الأشهر الماضية فقط:
1- إبادة جماعية للقرى والعوائل السنية.
2- تهجير العوائل السنية وإخراجها من بيوتها وسرقة ما فيها من أثاث.
3- مهاجمة مساجد السنة وقتل من فيها.
4- إحراق مخازن المواد الغذائية والمحلات التجارية بمن فيها.
5- اعتقال العشرات من أهل السنة.
6- حظر التجوال ونشر الرعب في الأحياء السنية.
7- استهداف الجالية الفلسطينية في العراق.
8- إعدام جميع المواطنين السعوديين المقيمين بالعراق من دون محاكمة تذكر.
9- إعدام السنة على إثر الهوية فقط.
10- اختطاف فتيات السنة واغتصابهن وقتلهن والتمثيل بجثثهن.
11- تدنيس المصحف الشريف بدعوى أنه مصحف النواصب السنة بزعمهم.
وهذا غيض من فيض، وكل ذلك تحت رعاية قوات الصليب؛ ولهذا ـ أيها المسلمون الأخيار ـ فلا ينبغي للمسلمين أن يركنوا إلى كافر أبدًا ولا يأتمنوا كافرًا أبدًا، وعليهم أن يدرسوا تاريخهم ويتعظوا بما وقع من قبلهم؛ فإن التاريخ يعيد نفسه؛ لأن سنن الله فيه لا تتغير ولا تتبدل، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود: 113].
فهؤلاء جميعًا من ألد أعدائنا، من أكفر الكفار الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون المؤمنين وإن قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنهم هدموا الشهادتين بتلك العقائد الشنيعة المكفرة، فلا تغنيهم شيئًا وهم يتعبّدون بالكذب، اتخذوا الكذب دينًا، فهم كما قال الله عنهم: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106]، فإنهم يعدون خداع المسلم والكذب عليه من أفضل العبادات لديهم ويسمونها التقية، فلا يغترّ بهم إلا جاهل لا يعرف الحقائق، أو غافل أعمت بصيرته الشهوات والملذات، فاعتبروا ـ أيها المسلمون ـ بتاريخكم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذا بالله.
وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك وحبيبك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين من اليهود والنصارى والزنادقة الملحدين...
(1/5026)
عاشوراء: فضله وصيامه
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
5/1/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة إهلاك الله تعالى لفرعون. 2- فضل صيام عاشوراء والمحرم. 3- عبر عظات من قصة موسى وفرعون. 4- بغي اليهود في هذا العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، هنالك وعلى ساحل البحر يشتد الكرب، وتتعاظم المحنة، ويغشى النفوسَ رعبٌ وفزع، تضيق منه الصدور وتطير العقول، إذ يتراءى الجمعان، وينكشف الفريقان، ويُبتلى الإيمان، ويطيش الطغيان. هنالك يقبل موسى عليه السلام مجللاً بالعبودية الحقه، على جبينه شمَم اليقين، وفي قلبه التوكل الحي، لم يخش البطش ولم يخف الدوائر ولم يبالِ بالملمات.
وفي تلك الساعة الرهيبة وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر تصل الجنود الغاشمة والحشود المجندة بقيادة فرعون الطاغية الذي علا في الأرض وتجبر وعتى وقال: أنا ربكم الأعلى، يصل هذا المجرم اللعين مع شروق الشمس إلى ضفة البحر لاستئصال موسى ومن معه من المؤمنين، ولكي يقيم نفوذه ويطمس عبودية تكون لسواه، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ [الشعراء: 60].
وقد كان موسى عليه السلام قد خرج فارًا ببني إسرائيل بأمر الله تعالى لما حانت ساعة العذاب والنكال في فرعون وقومه، فتبعهم فرعون في جيش عرمرم وزحف شديد، قد علاهم الحقد وتكنَّفهم الحنق.
وعندما حانت الساعة قال أصحاب موسى وقد خالطهم الخوف: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، يعني قد اضطروا إلى البحر، وليس لهم مناص من سلوكه وخوضه، البحر من أمامهم، وفرعون الطاغية من خلفهم، والجبال عن أيمانهم وشمائلهم، وحينئذ يطلق موسى عليه السلام كلمة التوحيد واليقين التي تقطع كل الأسباب، ولا تبقي إلا سبب ربنا تبارك وتعالى: كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62].
وقد كان موسى في الساقة أي: المؤخرة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويقول: هاهنا أُمرت، فيقول له بعض صالحي قومه: يا نبي الله، أهاهنا أُمرت؟! فيقول: نعم، فلما تفاقم الأمر وضاق الحال وانقطعت الحيل أمر الله كليمه موسى: أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ ، فإذا بهذه العصا تقلب الأمور بإذن الله تعالى، وتعصف بالتحديات، وتدمر الضالين الكافرين، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]. انفلق البحر بإذن الله تعالى وقدرته، وصار اثني عشر طريقًا، قال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ [الشعراء: 63].
فأصبح ماء البحر قائمًا مثل الجبال، مكفوفًا بالقدرة العظيمة من الذي يقول للشيء: كن فيكون سبحانه وتعالى. وقد قيل: إنه صار في البحر شبابيك ليرى بعضهم بعضا، وليس ذلك على الله بعزيز. ثم أمره الله تعالى أن يجوز ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، وقد بَرق الأمل، وجلت السعادة، وولدوا ميلادًا جديدًا، وقد شاهد قوم موسى ما يحيّر الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين.
ولما جاوزوه وجاوز آخرهم وانفصلوا عنه ولم يتخلف أحد وصل فرعون وجيشه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان، فأمره ربه القدير ذو الجلال والإكرام أن يدعه على حاله كما قال: وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ [الدخان: 24]، أي: اتركه ساكنًا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة. فلما تركه بأمر الله وانتهى فرعون إليه ورأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا فعل رب العرش الكريم، فأحجم ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم، والحالة هذه لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلدًا، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لقومه: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وبلدي، وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات، ويقدم تارة ويحجم تارات.
وقد ذكروا أن جبريل عليه السلام هيَّج فرسه، فاضطره للبحر، فدخل فرعون، وتبعه قومه عن آخرهم، فلما استكملوا فيه أمر الله كليمه موسى فضرب بتلك العصا البحر، فارتفع عليهم، وعاد بحرًا هائجًا، فسحقهم وابتلعهم، ولم ينج منهم إنسان، قال الله تعالى: وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 65-68].
وهكذا انتهت المعركة، ولم يحصل تلاحم، بل نصر الله المؤمنين، وانتصرت الوحدانية، واستقامت الملة العوجاء، وساد الضعفة المؤمنون بعد أن كانوا مستذلين، وكانت معجزة باهرة نصر الله بها أولياءه وخذل أعداءه، وأورث الله القوم المستضعفين أرضهم ومكنهم وأسبغ لهم نعمهم وخيراتهم. قال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان: 25-29].
أيها الإخوة الكرام، لقد كان هذا النصر وهذا الظهور والتمكين في يوم من أيام الله الخالدة، ألا وهو يوم عاشوراء، اليوم العاشر من المحرم، وقد صامه النبي ، وتحرى صيامه، وأمر الأمة بصيامه. ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدنية فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه رسول الله وأمر الناس بصيامه. وفي الصحيحين من حديث أبى موسى رضي الله عنه قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء؛ يتخذونه عيدًا، ويلبسون نساءهم فيه حُليّهم وشارتَهم، فقال رسول الله : ((فصوموه أنتم)). وفيهما أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما علمت أن رسول الله صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم.
ولأحباب الصيام، فإن هذا الشهر يُستحب الإكثار فيه من الصوم، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)).
والسنة في عاشوراء ـ يا مسلمون ـ أن يصام يوم قبله أو يوم بعده مخالفةً لأهل الكتاب، فقد قال : ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) ، وصح عن ابن عباس عند عبد الرزاق والبيهقي أنه قال: (صوموا اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود).
فصوموا ـ يا مسلمون ـ هذا اليوم العظيم، وصوِّموه نساءكم وأبناءكم، اقتداء بنبيكم.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يجب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، لقد استمعتم إلى هذه القصة، وهي مذكورة في كتاب ربكم في أكثر من موضع، قصّها الله في القرآن ليعلم رسوله، وليثبت فؤاده، وليزيد المؤمنين إيمانًا.
فإن هذه القصة العظيمة توحي وتؤكد أن العاقبة للمتقين، وأن الدائرة على الظالمين، وأن امتداد الباطل يسير مهما طغى وتجبر وساد وتعاظم.
وفي القصة بيانٌ بأن القوة لله جميعًا، وأن قدرته نافذة في كل شيء، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس: 82].
وفيها عناية الله تعالى بعباده المؤمنين وكلاءته لهم وتأييده لهم بالخوارق والمعجزات.
وفيها أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا.
وفيها تقرير سنة الابتلاء في هذه الحياة، وأنّ الله لا يزال يبتلي عباده؛ ليمحصهم ويطهرهم ويحفظ جماعتهم، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ [سورة العنكبوت: 11].
وفيها فضل التوحيد والاستسلام في الملمات وتفويض الأمر إلى الله وحده، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]. فمهما حمل لنا العدو من دبابات وقاصفات ومدمرات فإن الله معنا يسمع ويرى ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا [مريم: 84].
وفيها هوان الإنسان وضعفه وضياعه بلا إيمان واستسلام، فإن سلامة الإنسان في هذه الدنيا وصلاحه بخضوعه للدين بحق، وليس للطواغيت أو اللذائذ والشهوات.
ومنها أن الحياة وزينتها لا تنفع بلا إيمان، وأن مصير اللذة الزوال والذهاب، فلقد أورث الله نعم آل فرعون القوم المؤمنين، ولم تغن القوم المجرمين نعمتهم من الله شيئًا، وفي ذلك إشارة إلى حقارة الدنيا وفنائها.
أيها الإخوة، لقد كانت آية البحر الباهرة لنبي الله موسى عليه السلام ومعه بنو إسرائيل الذين قضوا مع فرعون وملئه عنتًا وذلاً ومهانة، كانت انشقاق البحر آية عجيبة لهم، ومع ذلك لقد لقي موسى منهم بعد هلاك آل فرعون الألاقي والشدائد، كفروا وكذبوا واستكبروا. وقد قال النبي : ((رحم الله أخي موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)). وفي حديث الإسراء قال موسى عليه السلام لنبينا في تخفيف الصلاة: (إني عالجت بني إسرائيل قبلك أشدّ المعالجة). وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69].
وفي هذا العصر يتسلط بنو إسرائيل اليهود على المسلمين في فلسطين يسومونهم سوء العذاب، ويبيدون خضراءهم بمرأى ومسمع المسلمين أجمعين، والمشتكى إلى الله.
ولا يردّ عدوان هؤلاء الأوباش إلا أطفال الحجارة الذين هم مبنى العزّ ومعدن الشرف.
هل من فلسطين مكتوب يطمئنني عمن كتبت إليه وهو ما كتبا
وعن بساتين ليمونٍ وعن حُلمٍ يزداد عني ابتعادًا كلما اقتربا
فيا فلسطيْن من يهديك أفئدةً ومن يعيد لك البيت الذي خربا
تلفّتي تجدينا في مباذلنا من يعبد اللهو أو من يعبد الذهبا
ولكننا لن نيأس ولن نذل، ومعنا الميثاق المؤكّد والوعد المبرم، قال : ((تقاتلون اليهود، فتسلَّطون عليهم، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر: يا عبدَ الله، يا مسلم، هذا يهوديّ خلفي، تعال فاقتله)).
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا...
(1/5027)
الزكاة وما يتعلق بها
فقه
الزكاة والصدقة
لخضر هامل
وهران
2/1/1426
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبرة بمضي الأيام والليالي. 2- أهمية الزكاة في الإسلام. 3- ما تجب فيه الزكاة. 4- مقادير الزكاة. 5- الحكمة من مشروعية الزكاة. 6- الوصية بعدم التساهل في أداء الزكاة. 7- عقوبة تاركي الزكاة. 8- فضل صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقاته، والزموا طاعته ومرضاته، واعملوا بما نزل على نبيكم من أحكامه وآياته، وإياكم والذنوب فإنها شؤم على العبد في الدنيا وبعد مماته، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40].
أيها المسلمون، بالأمس القريب استقبلنا عاما هجريا جديدا، بعدما أودعنا عاما آخر في رفوف الماضي بما حمله هذا الماضي من آمال وآلام، وما حواه من بر وإحسان، أو ما حمّلناه من آثام وعصيان، يأتي يوم القيامة وقد حملناه ما حملناه ليكون شاهدا لنا أو علينا، شاهدا لنا بالطاعات أو شاهدا علينا بالمعاصي والسيئات، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية: 28-31].
إن توالي الأعوام والدهور يذكر الناس بما هم مقبلون عليه من موت ونشور، وهو موعظة لمن أعلى المساكن والقصور، بأن موعده قد دنا ليسكن اللحود والقبور، ثم ليخرج منها إلى جنات وحور أو إلى نار تلظى وتبور.
أيها الإخوة الكرام، جرت عادة الكثير منا أن يخرج زكاة ماله في بداية السنة الهجرية، وتحديدا يوم عاشوراء، وهذا الأمر فيه نظر؛ لأن الشرع لم يوجب إخراجَ الزكاة في يوم عاشوراء، ولكن أوجبها عند تمام الحول على النصاب، ولا يهمّ في أي شهر بدأ العدّ على الحول، والسنة المعتبرة شرعا هي السنة الهجرية أي: 354 يوما، فلا يجوز تقديمها إلاّ لضرورة أو لحاجة ماسة، كما أن مؤخّرها يعاقب على التأخير، شأنها شأن الصلاة، فإن لها وقتًا معلوما يجب أن تؤدّى فيه.
أيها الإخوة الأفاضل، اعلموا ـ وفقني الله وإياكم ـ أنه لا بد من معرفة تفاصيل أحكام الزكاة وشروطها، وبيان من تجب عليه ومن تجب له وما تجب فيه من الأموال، فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة، وقد ذكرت فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، واجتمع ذكرها مع الصلاة في سبعة وعشرين موضعًا، مما يدل على عظم قدرها وفخامة أمرها، بل جعلها الله في مواضع من كتابه من لوازم الإيمان، وجعل تركها من خصال المشركين المكذّبين بيوم الدين, حتى قال صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه: (لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة)، قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وقال سبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، وقال النبي : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة)) الحديث، وقد أجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام, وعلى كفر من جحد وجوبها, وقِتال مَن منع إخراجها، وقيل بكفر من لم يخرجها تهاونًا قياسا على الصلاة، لمن حكم على تارك الصلاة تهاونًا.
وعلى العموم فإن تارك إخراجها تهاونًا هو في شرّ عظيم، ومن أداها معتقدًا وجوبها راجيًا ثوابها فليبْشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة النبوية, وقيل: إنها فرضت والنبيّ في مكة، ومما يدل على ذلك أنها ذكرت في السور التي نزلت بمكة كسورة البينة وغيرها، وجمعَ بعضهم بين القولين فقال: "فرضت الزكاة بمكة، لكن تأخّر العمل بها إلى العهد المدني". وقد بعث رسول الله السعاةَ لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقيها, ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.
أيها الإخوة الكرام، كلنا يعلم أن للزكاة سببًا وشرطًا، فالسبب هو بلوغ النصاب، وهو مقدار معيّن من المال، لا يتعدى في أيامنا هذه أحد عشر مليونا وثمانمائة وخمسة عشر ألف، فهل كل من ملك هذا النصيب وجب عليه إخراج الزكاة؟ الجواب: لا، فلا بدّ من تحقيق الشرط، وهو أن يحول الحول الهجري على المال، كل ذلك ليخرج المسلم ربع العشر من المال أي: 2.5 في المائة، مبلغ زهيد لا يضرّ أحدًا إخراجه.
أما نصاب الذهب فهو عشرون دينارا أو مثقالا، وهو الدينار الشرعي، ووزن كل دينار هو 72 حبة من الشعير المتوسّط، وهو مقدار 85 غراما، وقيل: 91.92 غراما، فعلى أن وزن النصاب هو 91.92 غراما فإن وزن الدينار هو 4.596 غراما، وأما على أن وزن النصاب 85 غراما فإن وزن الدينار هو 4.25 غراما.
وأما نصاب الفضة فهو 200 درهم شرعي، ووزن كل درهم 55 حبة من الشعير المتوسط، ووزنها مجتمعة هو 642 غرما تقريبا.
فإذا حال الحول على 20 دينارا فيجب فيها نصف دينار، وأما في الفضة فمن ملك 200 درهم شرعي وجب فيها 5 دراهم، أي: ما قيمته 1/40 من قيمة المال، أي: ما يعادل 2.5 في المائة، وكلما زاد المال أخذ منه مقدار ربع العشر، ودليله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)).
وإن مما تجب به الزكاة عروض التجارة، وهي ما أعده الإنسان للبيع والاتجار به، من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وأوان وغير ذلك، كلّ شيء عندك للتجارة فهو عروض تجارة، إذا حال عليه الحول فقوِّمه كم يساوي ثم أخرج ربعَ عشر قيمته.
فانظروا إلى تيسير الله على العباد، ثم انظروا إلى استكبار وعناد العباد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، إنّ الزكاة مواساةٌ من الأغنياء لإخوانِهم الفقراء، مواساة لهم وتضميدٌ لجراحهم وإسعاف لهم في مهمّاتهم وملمّاتهم. إنّ أداءَ الزكاة يقوّي الروابطَ بين أفرادِ المجتمع المسلم، بين غنيّه وفقيره، يقوّي الروابطَ بينهم، فالنفوس مجبُولة على حبِّ من أحسن إليها، وعلى مودّة من أحسنَ إليها، فإذا أدّى الأغنياء زكاةَ أموالِهم لإخوانِهم الفقراء تقوّت أواصرُ المودّة وارتبَط الجميع بعضه ببعض، ومِن فوائدِها تقليص الجرائمِ وإغناء النّفوس عن التطلّع إلى طلبِ المال بالوسائل المحرّمة، وفيها شكر الله والثناءُ عليه والاعتراف له بالفضل والإحسان.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، أدّوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم التي رزقكم الله تعالى، فإن بعض المسلمين تساهلوا في هذا الركن العظيم، إن بعض المسلمين لا يؤدّون زكاة أموالهم والعياذ بالله، لقد أخرجكم الله ـ يا عباد الله ـ من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، ولا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا، ثم يسر الله لكم الرزق، وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم؛ لتبرأ ذممكم، وتُطهّروا أموالكم، واحذروا الشح والبخل بما أوجب الله عليكم، فإن ذلك هلاككم ونزع بركة أموالكم.
أيها الإخوة الأفاضل، روى أحمد عن أبي واقد الليثي أنه مما كان يتلى من القرآن ثم رفِع قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا الْمَالَ لإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، فمن عطّل المال عن حكمته حقّ عليه العقاب في الدنيا والآخرة، أما العقاب في الدنيا فنوعان: نوع عام لا يدفع عن أحدٍ بسبب الظالمين المانعين للزكاة، وهو ما رواه الحاكم والبيهقي مرفوعًا: ((ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر)) ، وفي رواية لابن ماجه: ((لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)). ونوع آخر وهو عقاب خاصّ بمانع الزكاة في الدنيا، وهو أن تؤخَذ منه مع شطر ماله، فقد روى أحمد عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله في الزكاة: ((من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله)). ولم يقف الإسلام عند هذا، أي: عند الغرامة المالية، بل أوجب سلّ السيوف وإعلان الحرب على كل من تمرّد ولم يبال بأداء الزكاة، فلم يبال الشرع بإزهاق الأرواح لذلك، فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال مانعي الزكاة حتى يؤدّوها كما جاء في الصحيحين، ولعل الدولة الإسلامية في عهد الصديق هي أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة. هذا هو العذاب في الدنيا، ولَعذابُ الآخرَةِ أكبَرُ لَو كانُوا يَعلَمونَ. فما هو عذاب الآخرة؟
أيها الإخوة الكرام، هؤلاء الذين بخلوا على الله عز وجل ولم يؤدوا هذا المقدار البسيط الذي أوجبه الله عليهم في أموالهم ألم يقرؤوا الوعيد بالنيران في كتاب الله عز وجل لمن بخل بما آتاه الله؟! قال الله عز وجل: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ.
روى البخاري عن النبي في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له شجاعًا أقرع ـ وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها ـ مثّل له شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بشدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك)). وروى مسلم عن النبي في تفسير الآية الثانية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضَى بين العباد)).
فيا من تتهاونون في دفع زكاة أموالكم، تأملوا الحديث، فوالله لا يحمى على الذهب والفضة في نارٍ كنار الدنيا، إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، ولا يكوى بها طرف من الجسم فقط، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية: الجباه من الأمام، والجنوب من الجوانب، والظهور من الخلف. إن هذا العذاب ليس في يوم ولا شهر ولا في سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
أيها المسلمون، عن ابن أبي كبشة أن النبي قال: ((ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم بحديث فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزة، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)). فبين بهذا الحديث وأكد بالقسم أن الصدقة لا تنقص المال إذا خرجت منه، بل تباركه وتنميه وتزكيه، ولقد وعد الله المزكين بتيسير أمورهم لليسرى، فقال جل من قائل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5-11] أي: إذا بخل بزكاته وصدقته.
روى الهيثمي والطبراني عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : ((ما تلف مال في بر ولا في بحر إلا بحبس الزكاة)). وروى الطبراني في الصغير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((مانع الزكاة يوم القيامة في النار)). وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما خالطت الصدقة ـ أو قال: الزكاة ـ مالا إلا أفسدته)). قال الحافظ ابن حجر: "هذا الحديث يحتمل معنيين: أحدهما: ما تركت الزكاة في مال ولم تخرج منه إلا أهلكتها، والثاني: أن يأخذ الرجل من الزكاة فيضعها في ماله فتهلكه".
ومما هو معلوم ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ بها الذمة حتى يخرجها على الوجه المشروع، بأن يصرفها في مصارفها الشرعية في الأصناف الثمانية التي ذكر الله تعالى في قوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60].
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدّقوا بالقرآن وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها؟! وما فائدتها؟! إنها تكون نقمة عليكم، وثمرتها لغيركم، إنكم لا تطيقون الصبر على وهج الحر أيام الصيف، فكيف تصبرون على نار جهنم؟!
فاتقوا الله عباد الله، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تنجون من عذاب ربكم.
وأذكركم بصيام يوم عاشوراء، ومن السنة أيضا صيام اليوم التاسع مخالفة لليهود والنصارى، ولما ورد في فضلها أنها تكفر السنة الماضية، قال : ((صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
(1/5028)
حملة التنصير في الجزائر (1)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
لخضر هامل
وهران
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم النعم على العباد نعمة الإسلام. 2- محاسن الدين الإسلامي. 3- أساليب الأعداء في محاولة القضاء على الإسلام. 4- انتشار الحملة التنصيرية في الجزائر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، واللجوء إليه في السرّاء والضراء والسَّعَة والضيق، فما خاب من اتقاه، ولا أيِس من رجاه، ولا ذلّ من اعتصم به، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
أيها المسلمون، أعظمُ نعمةٍ منَّ الله بها على عبادِه هدايتُهم للإسلام، فالإسلامُ أعظمُ النّعم وأجلّها وأكبرُها قدرًا، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا. دينُ عقيدةٍ وعمل، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ. دينُ دعوة وعلمٍ وهدى، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى? اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. دينُ العدلِ والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. دينٌ جاء ليبقَى، فقد كُتِب له الخلود والبقاء، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى? وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ. دينٌ محفوظ بحِفظ الله له من أن تتطرَّقَ له أيدي العابثين زيادةً أو نقصانًا، تحريفًا أو تغييرًا، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. دينٌ ضمِن الله لأهلِه أن يكونَ في الأرض من يقيم حجَّةَ الله إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]. وفي الحديث الصحيح: ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله)).
دينٌ شرعَه الله جلّ وعلا، وبعث بِه عبدَه ورسولَه محمّدًا، ليس هذا الدين نتيجةً أفرزتها عقولُ البشَر ولا تجاربُها، وليست حضارةً مرّت فعبرت وانقطع ذكرُها، وليس هذا الدينُ فقرةً ثقافيّة أملاها التِقاء العقولِ والثقافات، ليست طفرةً فكرية أنشأها التقاءُ العقول والثقافات، ولكنّه التشريع من الحكيم الحميد.
أيها الإخوة الكرام، كان العربُ قبلَ الإسلام يعيشون جاهليّة جهلاء وضلالةً عمياء، لا يعرِفون حقًّا من باطل ولا هدًى من ضلال، ولا يميِّزون بين معروفٍ ومنكر، غارقين في الوثنيّة، في جهالة وضلالةٍ وعمى، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26]. لم تستطِع لغتُهم يومًا من الأيّام أن توحِّد صفوفَهم، لم تستطِع أن تجمعَ شتاتَهم، فالحروب الطّاحنة بين العرب قائِمة، لم تستطِع عاداتُهم وأخلاقهم أن تجمعَهم تحت لواءٍ واحِد، عصبيّةٌ وحميّة جاهليّة، فلمّا جاء الله بالإسلام هداهم به من الضّلال، وجمعَهم به بعدَ الفُرقة، وأعزَّهم به بعدَ الذلّة، وهداهم به من الغوايَة، فكانوا ملوكَ الأرض بهذا الدّين وحدَه لا بسِواه، وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا ، قال عمر بن الخطاب : (نحن قوم أعزنا الله بإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، وقال قتادة رحمه الله: "كان هذا الحيّ من العرَب أذلَّ الناس ذلاّ، وأعراهم جلودًا، وأجوعَهم بطونًا، وأبينَهم ضلالة، قومٌ يُظلَمون ولا يَظلِمون، وقومٌ بين فارسَ والروم لا وزنَ ولا قيمةَ لهم، فجاءَ الله بالإسلامِ، فأعطى بِه ما رأيتُم، فاشكروا الله على نعمة الإسلام".
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ أيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أظهر دينه المبين، ومنعه بسياج متين، فحاطه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سخَّر لدينه رجالاً قام بهم وبه قاموا، واعتزَّ بدعوتهم وجهادهم وبه اعتزّوا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، كان يربّي ويعلّم ويدعو، ويصوم ويقوم ويغزو، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، تنوعت أساليب أعداء المسلمون في محاولة القضاء على دينهم، ووجهوا إليه ألوانا من الأسلحة، وغزوا المسلمين من كلّ وجه، غزوا المسلمين بالسلاح العسكري والقتال الدمويّ، وغزوهم بالسلاح الفكري والخلقي والعاطفي، غزوا المسلمين بالسلاح العسكري، فأعلنوا الحرب على المسلمين، وأغاروا عليهم بأقوى الأسلحة التي تمكّنوا من استعمالها، وغزوا المسلمين بالسلاح الفكري، فأفسدوا أفكارًا من المسلمين، يحاولون تشكيك المسلمين في دينهم وزعزعة العقيدة من قلوبهم؛ بما ينشرونه من كتب ورسائل، وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته أحيانا، وبتذليل ما هم عليه من الباطل والكفر أحيانا أخرى، فإن اعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال فذلك غاية مناهم وتمام رضاهم، يقول سبحانه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89]، وقال جل وعلا: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120]، وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه والارتياب، وفي ذلك خروجه من الدين؛ لأن الشك في الدين كفر، ولقد صرّح بعض هؤلاء الأعداء بذلك فقالوا: "إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا، ولكن يكفينا أن يشكّ في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين شاء".
أيها الإخوة الكرام، إنّ أعداء الإسلام يعلمون علم اليقين أنّ عزّ الإسلام هو ذلُّهم والقضاء عليهم، وأن انتصار الإسلام خذلانهم، وأن قيام دولته سقوط دولهم.
لقد غزا أعداء الإسلام المسلمين بالسلاح الخلقي، فنشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم، وتفسد به آدابهم، وتفسد به قيمهم، نشروا في المسلمين ما يثير الغرائز والشهوة، إما بالأغاني والألحان، وإما بالكلمات الماجنة والقصص الخليعة، وإما بالصور، حتى يصبح المسلم بها فريسة لشهوته، يتحلل من كل خلق فاضل، وينزل إلى مستوى البهائم، وحتى لا يكون للمسلم أي همّ سوى إشباع غريزته من حلال أو حرام، وبذلك ينسى دينه ويهجر كل فضيلة، وينطلق مع شهواته ولذاته إلى غير حدود شرعية ولا عرفية، فيتنكّر للشرع والعادة.
غزَوا المسلمين بالسلاح العاطفي، فيتظاهرون بمحبة المسلمين والولاء لهم، والعطف عليهم ومراعاة مصالحهم، حتى يغترّ بهم من يغتر من المسلمين، وتُنزعُ من قلوب المؤمنين العاطفة الدينية، فيميلون إلى هؤلاء الأعداء بالمودة والإخاء والقرب والولاء، وينسون قول ربهم عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ [الممتحنة: 1]، ونسي هؤلاء المائلون إلى أولئك الأعداء نسوا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة: 51، 52]، ونسي هؤلاء المائلون إلى الأعداء قول الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22].
أيها الإخوة الأفاضل، لقد اشتدت حملة النصارى على المسلمين عموما وعلى بلدنا خصوصا، فلقد استطاع النصارى في الفترة الأخيرة تحقيق ما عجزت عنه إبان الاحتلال والاستعمار، لقد استطاع النصارى أن يبدّلوا دين بعض الشباب اليوم، ولم يستطيعوا أن يبدلوا دين آبائنا وأجدادنا ومن كانوا يعيشون معهم إبان الاحتلال، فرغم كل الجهود التي بذلوها لاستمالة الجزائريين للنصرانية ورغم ما أنفقوا من أموال طائلة ليزينوا المسيحية في أعين الناظرين إلاّ أنّ كيدهم ردّ في نحورهم، ولم نسمع بشخص بدّل دينه تحت أيّ ضغط أو إغراء، حتى الذين فقدوا الروح الوطنية وأخطؤوا في حق وطنهم وأعانوا المستعمر لم يبدّلوا دينهم. أما اليوم وتحت تأثير عوامل كثيرة وأساليب متنوعة استطاع النصارى أن يضعوا أقدامهم من جديد في بلدنا، لكن بصبغة غير صبغة الاستعمار، إنها صبغة التنصير والتبشير، استخدموا فيها كل الأساليب ليجلبوا الشباب لدينهم، ويبعدوهم عن دين الآباء والأجداد.
جرّب هؤلاء الأعداء أبوابًا كثيرة ومسالك خطيرة في تشويه الإسلام وتقويض حصونه من الداخل، سلكوا مسالك شتى لضرب الإسلام وعرقلة انتشاره وظهوره، فما كان من بعض الأغرار إلاّ أنهم أصغوا إليهم، بل وانساقوا معهم إلى هاوية الكفر والضلال، تحت دعوى وأسباب كثيرة وشبهات واهية، سنتكلم عنها في الجمع القادمة إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36].
(1/5029)
حملة التنصير في الجزائر (2)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
لخضر هامل
وهران
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العداء للإسلام والمسلمين قائم إلى قيام الساعة. 2- أسباب تنصّر بعض المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه على الدوام، واغتبطوا بما هداكم للإسلام، وازدلِفوا إليه باتِّباع سيّد الأنام، ويا بُشرى لكم عند ذلك بصلاح الأحوال وزكاء القلوب والأعمال، وحصول السعادة والفلاح في الحال والمآل.
أيها المسلمون، إنّ أعداء الإسلام منذ بزوغ شمسه وظهوره وانتشار ضيائه وجماله وسنائه وهيمنته على الأديان كلها ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله ويتربصون بهم الدوائر، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89]. إنّ كيد الأعداء لن ينقطع ما بقي إسلام على وجه الأرض، وهذه حقيقة لا نشك فيها، وهي مصداق قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217]. والفعل المضارع يُقَاتِلُونَكُمْ عند أهل اللغة يدل على التجدد والاستمرار، فالحملات لن تهدأ عن الإسلام وأهله، وما نشهده اليوم من حملة مسعورة على الإسلام وتعاليمه في بلادنا الجزائر أكبر دليل على صدق كلام الله، فلم يكفهم ما فعلوه من حملات الصليب ومحاكم التفتيش بعدها، مرورا بحقبة الاستعمار المريرة، وما يفعله اليوم النصارى في المسلمين من تقتيل وتشريد تحت مُسمى محاربة الإرهاب، وهو في الحقيقة محاربة للإسلام وأهله، لتَخرج لنا قوى الظلم والكفر والإلحاد بثوب آخر تحت مُسمى التبشير أو التنصير.
أيها الإخوة الكرام، إن ما يحملنا على القلق من هذه الحملة المسعورة هو ذلك الأثر الذي تحاول خَطَه في بلادنا، فقد وجدت بالفعل آذانا صاغية فملأتها، وقلوبا واهية فاستهوتها، وأفئدة خالية من الدين فعمرتها، وضمائر غائبة فاحتلتها، وعقولا سخيفة فألغتها وغيبتها، وشخصيات تافهة فاستعمرتها وحرّكتها، وفق خطط ممنهجة ومدروسة، فما تركوا من سبيل إلاّ سلكوه ليردوا شبابنا عن دينهم، فوزعوا الأناجيل باللغتين العربية والفرنسية، ومعها بعض المنشورات التي تدعو أو بها تعاليم النصرانية، بل وأقاموا من أجل هدفهم محطات إذاعية وتلفزيونية موجهة، تقول إحدى الإحصائيات: إن هناك أكثر من 1900 إذاعة تبث إلى أكثر من 100 دولة وبلغاتها، لا هَمَّ لها سوى الدعوةِ إلى دينهم المشوّه، وهم يقيمون لقاءات يومية مع من خُدع واغتَرَّ بهم، ليشهدوا أمام من بقي من شباب الإسلام عموما والجزائري خصوصا بأنهم وجدوا ضالتهم، وعرفوا السكينة لما دخلوا في دين النصارى، والله أعلم كم دفعوا لهؤلاء حتى يقولوا هذا الكلام الذي لو نزل أحدنا إلى أرض الواقع لوجده سرابا، بل سيجد الضنك واللأواء في حياتهم ومعاشهم، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 126]. ولو كان الأمر فيه راحة وسكينة فكيف نفسر ارتفاع نسبة المنتحرين عند المسيحيين وارتفاع عدد مدمني الكحول والمخدرات وزيادة في نسبة الأمراض النفسية والعصبية رغم ما هم عليه من طفرة اقتصادية ورغد معيشي؟! إننا نحن المسلمون وعلى الرغم من كل المشاكل والهموم، إلاّ أننا أقل الشعوب من حيث نسبة المنتحرين والمدمنين، ومن كان من المسلمين مدمنا أو يعاني من مرض نفسي إنما هو راجع لبعده عن الدين وعدم رضاه بما قسمه رب العالمين، ولن يُلام الإسلام بسبب سلوك بعض المسلمين.
أيها الإخوة الكرام، لقد استطاع النصارى أن يغرّوا بعض الشباب، فما كان من هؤلاء الشباب إلاّ أن بدلوا دينهم ودخلوا النصرانية، ولكل واحد منهم غرض أو هدف، فهم يتعللون بأسباب سخيفة وشبه واهية لا قيمة لها، فمن الشباب من بدل دينه بسبب طمع دنيوي؛ كسيارة أو مال أو وظيفة أو سكن أو تأشيرة أو غيرها، ومنهم من بدل دينه بسبب الحالة النفسية التي يعاني منها العاصي، فالعاصي في كآبة وغمّ وهمّ أو باختصار ضنك معيشي، وهو يعتقد أنه سيتخلص من الحمل الثقيل، الحمل النفسي المصاحب للمعصية، وهذا الأمر وإن بدا للغافل حجة غير أنه كالمستجير بالرمضاء من النار، أو كمن ضرّه إصبَعُه فقتل نفسه ليرتاح من الألم، وهذا الأمر لا يفعله سوى من خلا رأسه من عقله؛ إذ إن سبب الغم والهم هو بُعد العاصي عن الله وإعراضه عن ذكر الله، وحاشا للدين أن يكون سببا للغم والهم، والآية صريحة في هذا المقام: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 124-126].
ومن الناس من اغتر بمعاملة النصارى وآدابهم، فتأثر بهم وأحبهم فأحب دينهم، ومما ابتلي به المسلمون أهل القرآن اليوم ومن جُعِلَت الجنة جزاء لأحسنهم أخلاقا أننا أصبحنا معجبين بل نَتَنَدَّرُ بأخلاق النصارى وآدابهم، والأطم من الإعجاب بهم تَعيِيرُ بعضنا بما للنصارى من أخلاق وجعل أخلاقهم أسنى المطالب، حتى من رأيناه من المسلمين ذا أخلاق فاضلة قلنا: هذا عنده معاملة النصارى، وأنا أقول لكم: من أراد أن يعرف أخلاق النصارى الحقيقية فليعش معهم ويخالطهم، ثم ليأتنا بنبإ يقين عنهم، إنهم من أفسد مخلوقات الله، وما يظهر لنا من أخلاق فاضلة ومواعيد دقيقة فهي عبارة عن مساحيق تجميلية سرعان ما تزول، لينكشف الوجه الحقيقي للنصارى، الذين عاثوا في بلادنا فسادا، فقتلوا وشرّدوا وعذبوا، ولا زالت آثار التعذيب باقية على أجساد آبائنا كوسام لتضحياتهم وعلامة على خلُق النصراني الفظّ.
ورد في مجلة الإصلاح العدد (93) ما يلي: "14 ألف ألماني يقدم على الانتحار، وتزداد النسبة في الرجال بين 25 و29 عامًا، ويعتبر أغنى إقليم في إيطاليا من أكثر الأماكن في العالم انتحارا". وفي العدد (104) من المجلة ورد ما يلي: "7.2 مليون أمريكي يعانون من مرض الأرق، 3.5 مليون مدمن تسوق في الولايات المتحدة، ومدمنو التسوق بعضهم أفلس وباع كل ما عنده، فانتشرت عيادات مكافحة الإدمان!".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها الإخوة الكرام، زد على ذلك ما تبثه المحطات التلفزيونية من مسلسلات مدبلجة، والتي تتلاعب بمشاعر المسلمين، وتربي في من يشاهدها حب النصارى ودينهم، فهم يضعون الممثل في مأزق أو مشكلة لا يستطيع حلها، فإذا صلى لليسوع المسيح في الكنيسة حدثت معجزة، فانفكت عقدته، وانحلت مشكلته، وعاش هنيئا بلا مشاكل، وكأن المشاكل في لحظة تبخرت وتلاشت بسبب صلاتهم للمسيح، وصدقوني أن هذا ما جعل إحدى الجزائريات وتعترف أن هذا هو سبب الذي جعلها تتنصر وتبدل دينها. وصدق الله القائل: مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186]. ومن زعم أن المسلسلات والأفلام لا تؤثر على المسلمين فلينظر إلى ملابس المسلمين أنفسهم كيف هي، وما هو مرسوم عليها أو مكتوب فيها، وانظروا إلى النساء المسلمات وما فعلت بهن المسلسلات.
أيها الإخوة الأفاضل، ومن الشباب من تنصر بدعوى أن المسيح جاء بالمحبة والتسامح، فهم يقولون مثلاً: إن المسيح قال: (لو ضربك أحد على الخد الأيمن فقدم له خدك الأيسر). كما زعموا أن الله أحبنا فافتدانا بابنه تكفيرا لخطايانا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا والله إن لم يكن جنونا فما الجنون إذًا؟! وأنّى للنصارى من مستند لينسبوا عيسى عبد الله ورسوله إليه سبحانه؟! ثم ماذا عن هذه الأغلوطة الكبرى أغلوطة دين المحبة؟! من أين لهم بالمحبة أصلا؟! ألم يقرؤوا التاريخ فيروا حروب الصليب ومحاكم التفتيش في أوروبا؟! وهلاّ تركنا التاريخ لننظر إلى عالمنا اليوم؟! فمن يقتل من؟! ومن يشرد من؟! ومن يحاصر من؟! ومن يجوّع من؟! ومن يحتلّ ويغزو من؟! ثم مَن قال: إن الإسلام دين العنف والغلظة؟! إن الإسلام دين المحبة والإخاء، ألم يجعل الإسلام المسلمين كلهم بمختلف جنسياتهم وألوانهم وأعراقهم إخوة في الدين؟! ألم يجعل الإسلام من المحبة سببا لدخول الجنة؟! قال : ((لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ، والنبي حين فتح مكة وأمكنه الله من أهلها الذين قاتلوه وطردوه وأخذوا أمواله غصبا وظلما، فلما أتوا إليه يطلبون العفو قال: ((لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
أيها الإخوة الأفاضل، وبعض الشباب مِمَّن بدل دينه تعلّل بكونه لم يفهم الإسلام، وتشوّشت في فكره الأحكام، فهو لا يدري حلالا مِن حرام، وحتى المسلمين أنفسهم تفرقوا واختلفوا اختلافا ظاهرا بينا، فما تجده عند البعض حلالا تجده عند البعض حراما، وبعض المسلمين يكفر بعضا أو يفسق بعضا، بل ويقتل المسلم أخاه المسلم، فأيّ دين هذا الذي يأمر بهذا؟! فحكم على الدين بالبطلان بسبب أهله وما يفعلونه!
فنقول لهؤلاء الذين سكنهم الوسواس: اعلموا ـ أيها المسلمون وغيركم ـ أنه لا دخل للإسلام في أفعال المسلمين، ولو كان الأمر كذلك لكنت أول من يدان بهذا، فلا يوجد على مدى الدهور والعصور من بني آدم أكثر قتلا من هتلر الذي قتل30 مليون شخص، ثم من قال: "إن المسلمين اليوم يمثّلون الإسلام الحقيقي"؟! إن الإسلام ما قال الله ورسوله، لا ما يفعله المسلمون. أما سبب اختلافهم في التحليل والتحريم فهو راجع إلى فهم النصوص، لا إلى النصوص أنفسها، فلا يوجد على وجه الأرض مسلم لا يسلّم بقول الله ورسوله، ومن لم يسلّم بقول الله ورسوله فلا يعدّ مع المسلمين، فمشكلة المسلمين فهمُ النصوص واستنباط الأحكام. أما تفسيق المسلمين وتبديعهم فهذا لا يفعله إلاّ شخص جاهل مغرور لا خلق ولا خلاق له، اللهم إلا عالما بهذا الفنّ فهو مخوّل شرعا بهذا الأمر، وما بقي فمتنطّعون يريدون التقوّل والتلسّن فقط، وفاقد الشيء لا يعطيه كما قيل قديما.
أيها الإخوة الكرام، أما عن محاسن الإسلام فسنتكلم عنها في الخطب القادمة إن شاء الله، كما سنتكلم أيضا عن سبب تركيزهم في حملاتهم على مناطق معينة دون مناطق، وسنتكلم ـ إن شاء الله ـ أيضا عن الإنجيل أو بالأحرى الأناجيل التي يعتمد عليها المسيحيون، وأقوال العلماء فيها، وحجج النصارى وما قيل في نقضها، ومقارنة بين الإسلام والنصرانية.
نسأل الله أن يوفقنا للحق وأن يرزقنا اتباعه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرد من ضل عن السبيل القويم إلى الحق، في بلدنا خاصة وكل بلاد المسلمين...
(1/5030)
حملة التنصير في الجزائر (3)
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, محاسن الشريعة
لخضر هامل
وهران
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسن الدين الإسلامي. 2- لا وجه للمقارنة بين الإسلام والنصرانية. 3- نماذج من دين النصارى المحرّف. 4- كيف دخل دين النصرانية التحريف والتبديل. 5- المستقبل لهذا الدين الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله واشكروا ربكم على ما اختصكم به من دين عظيم وإرسال رسوله الكريم، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164].
أيها الإخوة الكرام، أرأيتم إلى الشجرة الباسقة عميقةِ الجذور ذاتِ العروق المتعدِّدة والأغصان المتكاثرة، لا تقوى على زعزعتها الرياحُ العاتية والأعاصير الهوجاء، وهي مع ذلك دانيةُ القطوف، دائمةُ الأُكُل والظّلّ، حلوةُ الثمار، نضيدة الطلع، طيِّبة الجنى، إنها ـ يا عباد الله ـ مثلُ الإسلام في محاسنه الجمَّة ومزاياه القمّة، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. يقول ابن القيم رحمه الله: "والإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طِيبُ الحياة في الدنيا والنعيمُ المقيم في الآخرة".
أيها الإخوة الأفاضل، أول ما يستوقف المتأمّلَ في محاسن هذا الدين ذلك الأصلُ المكين والأساس المتين في دوحة الإسلام الفيحاء وروضته الغناء، إنها العقيدة السمحة، عقيدةُ الصفاء والنقاء التي تسمو أن تكونَ مجرّدَ فلسفاتٍ كلامية ونظرياتٍ جدليّة وتعقيدات منطقية، إنها عقيدة تصلُ العالمَ كلَّه بالله الواحدِ الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا معبودَ بحقٍّ سواه، هو الأوّل بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. برهانُها النقلُ الصحيح والعقل الصريح، تتمشّى مع الطباع السليمة والفطر المستقيمة، لقد جمعت العقيدةُ الإسلامية خلاصةَ الشرائع السماوية وجملةَ الرسالات الإلهية، شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ، وحوت في أصولها ومبادئها ما يتواءَم وحاجةَ الإنسانية ويتواكب ومصلحةَ البشرية في كلّ زمان ومكان، وما يحقِّق مصالحَ العباد في المعاش والمعاد، جاءت بالإيمان بجميع رسلِ الله عليهم صلوات الله وسلامه، قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى? وَعِيسَى? وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، وجمعت الرسالاتِ كلَّها في رسالة محمد، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل)). فأيُّ عقيدةٍ أحقُّ وأحكم وأرحب وأقوم من هذه العقيدة التي تسلِّم الإنسانيةَ كلَّها إلى مصير واحد وإله واحد ورسالة خاتمة؟! قُلْ ي?أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ؛ ولذا فإنَّ من كان نيِّرَ البصيرةِ مستقيمَ الفكر والنظر منصفَ الرؤى أدرك أنّه الحقّ واليقين؛ لما فيه من جميل المحاسن وجليل الفضائل، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66-68].
أيها الإخوة الكرام، الإسلام والنصرانية المحرّفة لا وجه للمقارنة بينهما، فشتان بين الثرى والثريا، شتان بين دين لا شبهة فيه وبين دين مبدؤه ومنتهاه الشبَه، شتان بين دين صحيح ودين محرّف، شتان بين دين يأمرك بإعمال عقلك وقلبك وبين دين لا يأمر إلاّ بإعمال قلبك. إن من المسلَّمات أن ما كان أساسه باطلا منحرفا فهو باطل منحرف، فما دين النصارى الحالي الذي يعتقدون؟ وبماذا يؤمنون؟
سأذكر لكم في هذه العجالة طرفًا من دين النصارى لندرك بطلان وكفر هذا الدين؛ لأنه يقوم على معتقد شركي باطل، وما بني على باطل فهو باطل، وما يثير العجب حقا أنك تجد بعض النصارى قد بلغ في العلوم الدنيوية حدًا عظيمًا، فقد يكون من كبار الأطباء أو المهندسين أو مستشارًا أو خبيرًا، وقد جمع من العلوم والشهادات كل مجمع، ولو سألته عن ربه واعتقاده لوجدته أجهل من حمار أهله، فتتعجب ممن هذا عقله كيف لا يتأمل في دينه أو يفكر في معتقده؟! والمصيبة أن هذه العقول هي التي تمسك بسياسات العالم اليوم، وأن من يحمل هذه الاعتقادات الممجوجة هم الذين يوجهون الدول في الغالب، وهم الذين يديرون الدفة، وقراراتهم هي التي تنفذ وخططهم هي التي تطبق، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة الكرام، بعث الله عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد للنصارى الدين بعدما حُرّف، وبين لهم معالمه ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من تلك الآراء الباطلة، فعاداه اليهود وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله فنجاه الله منهم ورفعه إليه، فلم يصلوا إليه بسوء، وأقام الله تعالى للمسيح أنصارًا دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته وبقي الأمر على الهدى بعده نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركّبوا دينًا بين المسيحية ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يُدخلوهم في النصرانية، ومع هذا التغيير الذي حصل في دين المسيح الصحيح الذي أنزله الله بقي مع أمة النصارى بقايا من دين المسيح، كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا عنه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبًا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، فغير بذلك النصارى دينهم وبدلوه كليا، وأدخلوا في معتقداته أشياء وأمورا فاسدة، وألزموا كل نصراني أن يعتقدها، ومن ذلك أن الله نزل من سبع سماوات ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والأذى، ويتقلب بين الرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعًا صغيرًا يمص الثدي، ولُفّ في القماط وأودع السرير يبكي، ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط، ويُحمل على الأيدي وختن، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه وصلبوه وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمّروا يديه ورجليه، وجرّعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الذي يعبده النصارى. تعالى عما يقوله النصارى الضالون علوًا كبيرا.
ولعمر الله، إن هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد، وأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته)). قال عمر بن الخطاب في النصارى: (أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر).
أيها الإخوة الأفاضل، وأما اعتقادهم في الأنبياء فإنهم يعتقدون أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار، بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
ومن المتناقضات أن النصارى أنفسهم متفرقون في اعتقاداتهم وليسوا على دين واحد، فلو سألت أهل البيت الواحد عن ربهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين؟!
أيها الإخوة الكرام، لا نقاش بأن هذه العقول بهذه التصورات الحقيرة والاعتقادات الباطلة غير مؤهلة لكي تقود نفسها فضلاً عن أن تقود غيرها، وما نكد البشرية وشقاؤها اليوم إلا لتغلب أمثال هذه العقول على الأمور لسبب أو لآخر، نعم إذا غاب الإسلام الحقيقي عن الساحة فلا عجب ولا غرابة أن يحل محله نفايات الأذهان وخرافات العقول وزبالات الأفكار، إذا تخلى المسلمون عن دورهم في نشر العقيدة الصحيحة الصافية في كل الأرض فمن الطبيعي أن يحل محله العقائد الباطلة، إلى أن يقيض الله لهذه الأمة من يعيد لها مكانتها وقيادتها للبشرية، وهذا حاصل بإذن الله، فإن المستقبل لهذا الدين والمستقبل للإسلام، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق في غير ما حديث: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز وذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله)) ، وفي صحيح مسلم يقول : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)).
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]. تبشرنا هذه الآية بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده وعهد خلفائه الراشدين والملوك الصالحين، وليس الأمر كذلك؛ فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق، كما أشار إلى ذلك بقوله فيما رواه مسلم في صحيحه: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن ذلك تامًا، فقال : ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)). فالجولة الأخيرة ستكون للإسلام وأهله بإذن الله عز وجل.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 17].
(1/5031)
حملة التنصير في الجزائر (4)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
لخضر هامل
وهران
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب تركيز المبشرين النصارى في حملتهم على مناطق القبائل أكثر من غيرها. 2- تاريخ التنصير في بلاد الجزائر وما حولها. 3- جرائم النصارى في الجزائر. 4- دور المنظمات الخيرية في التنصير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، فخير الناس من آمن واتقى، وشر الناس من في الضلالة رضي وبقى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
أيها المسلمون، لا زلنا نتكلم عن حملة التنصير في بلادنا التي أخذت أبعادا خطيرة جدا، حيث يعملون على التشكيك والتضليل من أجل تحقيق أهدافهم الخبيثة، ولما وصل الأمر إلى حد لا يمكن معه السكوت كان من الواجب المحتَّم أن نعرف دين النصارى، ونعرف أقوال العلماء في النصرانية، ونعرف مصادرها ومراجعها، وأنواع عقائدها، وأن نرد شبههم التي أزكمت الأنوف وأصمّت الآذان.
أيها الإخوة الكرام، قد يتساءل البعض عن سبب تركيز المبشرين النصارى في حملتهم على مناطق القبائل أكثر من غيرها، وهذا الأمر مع قليل من التدبر والتفكر يستطيع الحاذق أن يعرف الأسباب، والتي من أهمها أن منطقة القبائل كانت منذ دخل أهلها الإسلام قلعة من قلاع الدين وصرحا من صروح الإسلام، بل إن الناظر لتاريخ المنطقة يرى أنها منبر للعلم ومنارة للعلوم، وكثير من العلماء كابن رشد وأبي حامد الغزالي وغيرهم من العلماء المعروفين تلقوا تعليمهم في تلك المنطقة، والمبشرون ركزوا حملاتهم في تلك المنطقة ليهدموا ذلك الصرح، ومتى هدم الحصن سهل على العدو غزو البلد.
ومن الأسباب أيضا أنك لو نظرت إلى تاريخ الجزائر إبان الاستعمار فستجد أن أكثر زعماء الثورة الذين أذاقوا فرنسا مرارة الهزائم المتوالية حتى اندحرت من بلادنا، أغلب هؤلاء الثوار كانوا من منطقة القبائل، فالمقراني ونسومر وسي الحواس وعميروش ومحند أُولْحَاج وسعيد عبيد وصالح بو بنيدر وعبان رمضان، مرورا بشعباني والحاج لخضر وغيرهم كثير جدا ممن يضيق المقام بذكرهم، ولن ننسى أعضاء جمعية علماء المسلمين وعلى رأسها عبد الحمد ابن باديس رحمهم الله جميعا، والعدو يعلم أنّ منطقة كهذه لو استطاع أن يقتحمها سهل عليه غيرها، ومنطقة تلد مثل هؤلاء لا بد أن تهاجم أولا. نشرت إحدى الصحف العربية مقالا بعنوان: "الجزائر أحفاد طارق بن زياد في قبضة التنصير".
ومن الأسباب أيضا تلك الهوة التي لا زال الغرب يوسّعها بين العرب والقبائل، وقد استطاع الغرب تحقيق هذا الغرض بين شباب اليوم، بينما فشل فشلا ذريعا مع الآباء والأجداد، فمن شباب اليوم من أهل القبائل من لا يعرف عن العربية والإسلام سوى الاسم، مما مهّد للنصارى الطريق نحو إيجاد جو ملائم للتعشيش والتبييض والتفريخ في تلك المنطقة العزيزة على كل جزائري.
أيها الإخوة الكرام، لا يمكن فهم حركة التنصير القائمة اليوم في الجزائر إلا بالرجوع إلى الوراء؛ لأن الحركة ليست وليدة اليوم، وهاكم تاريخ التنصير في الجزائر وما حولها:
يعد "رامول" أحد أساطين التنصير في الجزائر، وقد ساعده على ذلك صلاته القوية مع الملوك والأمراء النصارى، بالإضافة إلى تمكنه من اللغة العربية التي قضى تسع سنوات في دراستها حتى أجادها، وقد كان نصرانيًا صليبيًا، فهو من النصارى الإسبان الذين كانت قلوبهم مفعمة بكراهية المسلمين، وكانت له أحلام توسعية ومواهب في محاربة الإسلام وتنصير المسلمين، فمرة يضع الخطط لاحتلال بلاد الشام وتنصير أهلها، ومرة يكتب المصنفات للطعن في الإسلام، حتى قيل: إنها بلغت أربعة آلاف مصنف، ومرة يشرف على تعليم تلامذته في الكلية التي أنشأها لتعليم الرهبان اللغة العربية حتى يسهل عليهم تنصير المسلمين، بل بلغ حرصه على تنصير المسلمين درجة بَيعِهِ لكثير من ممتلكاته لتمويل حركة التنصير، ولما رأى أن كل جهوده هذه لم تثمر شيئًا قرر القدوم بنفسه إلى بلاد المسلمين، فقام بثلاث زيارات لإفريقية، الأولى كانت إلى مدينة تونس سنة 1292، ودامت بضعة أشهر، وانتهت بطرده بعد انكشاف أمره، وقد نجا بأعجوبة من القتل، وكانت زيارته الثانية إلى الجزائر وبالضبط إلى مدينة بجاية سنة 1307، وانتهت الزيارة أيضًا بسجنه وطرده بعد ثوران العامة عليه، ولكنه عاود الكرة مرة أخرى سنة 1315، وكانت الزيارة أيضًا إلى بجاية، وبلغ من تعصبه وحمقه درجة الطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام من فوق منبر مسجد بجاية، فثارت ثائرة الناس وقتلوه رجمًا بالحجارة، وقد فعل ذلك عمدًا لكي يقتل فيكون شهيدًا! وحقق أمنيته في الموت ولكن لم يحقق نيته في تنصير مسلمي بجاية. وفي سنة 1219 أرسل الراهب "فرانسيس" خمس بعثات تنصيرية، واحدة منها إلى المغرب الأقصى، وقامت بالطعن في الإسلام ودعوة المسلمين علنًا للنصرانية، فأمر الخليفة الموحدي بإعدامهم جميعًا بتاريخ 16 يناير 1220.
أما البعثة الأخرى التي أرسلها إلى إفريقية فقامت أيضًا بالإساءة للإسلام والمسلمين مما أثار المسلمين عليهم فاضطر النصارى الأوربيين الذين كانوا يقيمون في المنطقة إلى إجبارهم على مغادرة البلاد، خوفًا على مصالحهم مع المسلمين. وفي سنة 1388جاءت بعثة أخرى لتنصير أهل إفريقية، وكان ضمن البعثة عالم نصراني متبحر في دارسة النصرانية، هو الراهب "تورميدا"، وبمجرد وصول هذا الداعية النصراني إلى أرض تونس واتصاله بمسلميها شرح الله صدره للإسلام، وسمى نفسه: عبد الله، واحتضنه المسلمون واشتغل في ترجمة ما يَرِدُ إلى السلطان أبي العباس أحمد المنتصر الثاني، فسمي بعبد الله الترجمان، وقد تفقه في دين الله وحسن إسلامه. كان إسلام عبد الله الترجمان ضربة موجعة لحركة التنصير في المغرب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، صلاة وسلاما دائمين أبديين إلى يوم أن نلقاه.
أما بعد: عباد الله، التنصير رديف الاستعمار، فعندما استعصت الجزائر والمغرب العربي وسائر البلاد الإسلامية على التنصير لجأت حركة التنصير إلى استخدام القوة، ففي سنة 1807م طلب "نابليون" من العقيد "بوتان" المهندس العسكري القيام بسياحة استكشافية للجزائر، فجاء هذا المهندس الجاسوس إلى الجزائر سنة 1808م، وتعرف على الأسر اليهودية وعلى الأخص أسرة ابن زاحوط التي أعانته على استكشاف الجزائر أرضًا وشعبًا وثقافة، وتختلق فرنسا قصة المروحة سنة 1828م، ويكون الاستعمار الذي طالما حلمت به فرنسا من أجل إحياء الكنيسة الإفريقية وتنصير القارة وإعادة أمجاد الرومان المستعمرين، واصطحب قائد الحملة الفرنسية على الجزائر ـ وبتوصية من دائرة ما عرف بالأراضي الفرنسية في الخارج التابعة لوزارة الخارجية ـ 14 شخصًا من أبرز القساوسة الفرنسيين الذين كانوا يعتقدون وينقلون هذا الاعتقاد إلى الجنود الفرنسيين، بأن الهلال لفظ كان يطلقه الفرنسيون على الإسلام، يجب أن يندحر من الجزائر، لتعود الجزائر إلى أحضان الصليب، ولذلك فالمهمة في الجزائر ليست سياسية استعمارية بقدر ما هي دينية مقدسة كما كان يروّج هؤلاء القساوسة. وقد جاء في نص وثيقة الاستسلام التي حررها قائد الحملة الفرنسية ووقعها الداي حسين: "تعطى الحرية للديانة المحمدية وللمكاتب الأهلية ولديانتهم مع احترام تقاليديهم وأملاكهم وتجارتهم وصنائعهم، وأن لا يُعَارَضُوا في ذلك، وأن لنسائهم الاحترام التام ومزيد الاعتبار، ويُقسِمُ الجنرال على ذلك بشرفه". ولم يمض شهران فقط على هذا التعهد الغادر حتى أصدر القائد الفرنسي مرسومًا يوم 8 سبتمبر1830م يقضي بمصادرة الأوقاف الإسلامية والاستيلاء عليها، ثم تلا ذلك إجراءات شتى في الحرب على الدين واللغة والتاريخ، فقام الجنرال "روفيغو" بهدم مسجد كتشاوة بعد أن ذبح وقتل فيه من المصلين ما يفوق أربعة آلاف مسلم قائم يصلي، وكان يقول: يلزمني أجمل مسجد في المدنية لنجعل منه معبد إله المسيحيين. فتم تحطيم المسجد بتاريخ 18/12/1832م، وأقيمت مكانه كاتدرائية تحمل اسم "سانت فيليب"، وأقيمت فيه أول صلاة نصرانية ليلة عيد الميلاد 24 ديسمبر 1832م، وبمناسبة هذا الحدث بعثت الملكة "إميلي" زوجة "لويس فيليب" هدايا ثمينة للكنيسة الجديدة، أما الملك فأرسل ستائر من القماش الرفيع، وبعث البابا "غريغور السادس" عشرة تماثيل للقديسين للتبرك بها، وأعرب عن امتنانه وشكره للذين قاموا بهذا العمل العظيم؛ وهو تحويل مسجد وقتل 4 آلاف مصلٍّ! أما الجنرال فقد علق على الحدث بقوله: "إني فخور بهذه النتائج، فلأول مرة تَثبُتُ الكنيسة في بلاد البربر". وعاد المسجد إلى الإسلام عام 1962م بإمامة الشيخ البشير الإبراهيمي، ولم تكن صدفة أن يؤمه عالم جزائري مسلم، يحمل اسم البشير بعد أن نُصّرَ المسجد باسم التبشير.
أيها الإخوة الأفاضل، أما مسجد السيدة، فهدم عن آخره بعد أن أشاع اليهود أن الداي كان يخفي فيه أمواله، وأقيم على أنقاضه فندق، ووقع لجامع حسن باي بقسنطينة ما وقع لجامع كتشاوة. جاء في الخطبة التي ألقاها سكرتير الحاكم في قسنطينة أثناء الاحتفال بتحويل المسجد إلى كنيسة: "إن آخر أيام الإسلام قد دنت، وخلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا فلا يمكننا أن نشك على أي حال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد، أما العرب فلن يكونوا مواطنين لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعًا". وحوِّل جامع علي بتشين بباب الوادي بالعاصمة إلى كنيسة تحمل اسم سيدة النصر، ومثله جامع القصبة البراني الذي حول إلى كنيسة باسم ( Saint Croix )، وكذلك جامع سوق الغَزَل بقسنطينة، وفي وهران حوِّل مسجد سيدي محمد الهوّاري إلى متحف، وفي معسكر حوِّل مسجد العين البيضاء الذي أعلن على منبره الأمير عبد القادر الجهاد إلى مخزن حبوب للجنود الفرنسيّين، كما قام "شوطان" وزير داخلية فرنسا بتاريخ 8 مارس 1938م بإصدار قرار يقضي بمنع تعليم اللغة العربية في الجزائر باعتبار أنها لغة أجنبية.
أيها الإخوة الأفاضل، هذا هو تاريخ التنصير في بلادنا وما حولها، فالتنصير ليس وليد اليوم، بل هو مشروع ممنهج له أهدافه التي يسعى بكل الوسائل تحقيقها، فمنطقة القبائل وحدها بها أكثر من 19 جمعية تنصيرية، وكلها تتستر تحت ستار الأعمال الخيرية، مستغلين بذلك حاجة الناس والفقر والبطالة والأمراض، ليدسوا السم في العسل، وها هو التاريخ يعيد نفسه، فآباؤنا وأجدادنا تعرضوا لنفس الخطط بل أكثر مما نتعرض له اليوم، فهم كانوا تحت الاحتلال الفرنسي الذي سعى جاهدا لتنصير الجزائريين بكل الوسائل، فالغاية عنده تبرّر الوسيلة، إذ لا يمكن له أن يحتفظ بالجزائر إلاّ إذا تنصر الجزائريون، وهكذا من أجل تنصير الشعب الجزائري توافدت على الجزائر عشرات الجمعيات التنصيرية المتخصّصة التي كسبت تجربتها من خلال عملها على تنصير شعوب عديدة، وكان لكل جمعية تنصيرية منهجها، فمنها من اختصت في التنصير من خلال كسب الأراضي الزراعية، ومنها من تهتم بالأطفال، ومنها من تركز عملها على الشيوخ والعجائز، ومنها من تعمل داخل المستشفيات، ومنها من تخصصت في تنصير النساء، ومنها من اهتمت بتنصير القبائل فقط، ومنها من عم نشاطها القطر كله. فـ"لافيجري" مثلا بذل جهودًا جبارة في تنصير الأطفال الجياع، إلا أن الأطفال كانوا بمجرد شفائهم أو حصولهم على القوت يفرّون من المراكز التنصيرية، الأمر الذي حير الكاردينال فصرح في جنون وهستيريا: "يجب إنقاذ هذا الشعب، وينبغي الإعراض عن هفوات الماضي، ولا يمكن أن يبقى محصورًا في قرآنه... يجب أن تسمح فرنسا بأن يقدم له الإنجيل، أو تطرده إلى الصحاري بعيدًا عن العالم المتمدن". ثم قام بإنشاء فرقة خطيرة كان لها دور أسود في تاريخ الجزائر هي فرقة الآباء البيض سنة 1869م، وهذه الفرقة هي التي ستأخذ على عاتقها مهمة تنصير الجزائر أولاً، ثم تونس والمغرب ثانيًا، ثم إفريقيا أخيرًا، وإعادة أمجاد الكنيسة الإفريقية! وبالموازاة أسس حركة الأخوات البيض التي حملها مسؤولية تنصير النساء عن طريق التطبيب والتعليم والخدمات الخيرية، كما قام بتأسيس حركة تنصيرية مسلحة هي جمعية إخوان الصحراء المسلحين التي أسسها ببسكرة سنة 1891م، وقد زعم مؤسسها أنها تهدف إلى محاربة بيع العبيد والرقيق في إفريقيا، وللعاقل أن يتعجب من حركة تزعم محاربة بيع الرقيق وهي تنتمي إلى حضارة استرقت شعوبا بأكملها واستعبدت قارات بأسرها!
أيها الإخوة الكرام، من حقنا أن نسأل هؤلاء الذين تنصروا عن سبب تنصرهم، فإن كان الأمر قائما على أساس مادي فالجواب: إن آباءنا وأجدادنا كانوا أسوأ حالا منا اليوم، بل ـ والله ـ إن أفقر رجل اليوم ليعيش في رغد إذا ما قورن بعيش آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يتقاتلون على مزابل المستعمرين من أجل لقمة العيش في أيام النكبات المختلفة سنة 1867م، بل كان الجزائري يعتدي على الفرنسيين ليس بنية الاعتداء وإنما لأجل أن يساق إلى السجن ليأكل هناك، فيضمن قوته بصفة منتظمة! وتحول الناس إلى هياكل عظمية تمشي في الطرقات، وما تنصروا لأجل لقمة العيش أو الحياة الرغيدة، حتى الأطفال كما ذكرنا كانوا يهربون من الجمعيات التنصيرية، ولو ضربنا صفحا عن التاريخ وما يحمله من عبر ودروس، هل يعقل أن يبدل المرء دينه من أجل عرض من الدنيا؟! ولو سلمنا أنهم أعطوك الدنيا كلها فهل هذا هو ثمن الدين؟! ولو سلمنا أنك أخذت هذا الثمن فعلا فهل ستأخذه معك بعد الموت أو ستبقى معه إلى الأبد؟! وإن كان الأمر قائما على الاقتناع كما يزعمون فنقول له كما قال ربنا جلّ وعلا: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111]، فلو استطاع النصارى أن يثبتوا صحة أقوالهم ومزاعمهم فلن نقول لهم إلاّ ما قاله المولى جل وعلا: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف: 81-83].
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ، رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار. اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات...
(1/5032)
دروس من العدوان على العراق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
لخضر هامل
وهران
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سقوط بغداد. 2- المحن والشدائد التي مرت بالأمة الإسلامية. 3- الدروس والعبر من غزو العراق. 4- متى نصر الله؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه قبل أن تصبح سيئاتكم سببا لتسلّط أعدائكم عليكم، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
أيها الإخوة الكرام، لقد سقط العراق في أيدي النصارى واليهود، سقط العراق تحت ذهول المسلمين بهذا السقوط المروّع الذي لم يشهد التاريخ الحديث سقوطا مثله، سقط العراق وبسقوطه تبدأ أوّل خطوة نحو مشروع تقسيم المنطقة خاصة والعالم العربي عامة للإمعان في تضعيفنا، ورغم هذا كله فإنّ الحقيقة التي نستيقظ عليها اليوم كعرب ومسلمين ليس سقوط صدام المطار أو المدينة أو النظام، إننا نتجرع بمرارة الإحباط واليأس وخيبة الأمل في ذاتنا، في كل ما كان يظهر لنا أننا قد قمنا بشيء ما الحقيقة التي نراها اليوم أن أمريكا انتصرت على ضعفنا، فلولا هذا الضعف الكامن في مختلف مناحي شؤوننا لما استطاعت قَِوى التجبر أن تهزمنا في عقر دارنا، ولن يستطيع أحد أن يجزم أن المسلسل الرهيب من الهزائم سيتوقف عند أسوار بغداد، فالقائمة مفتوحة، وانتكاسات ستكون أكبر مما نتوقع ما دمنا نسير بخلافاتنا التافهة وصراعاتنا الحقيرة وحروبنا القذرة فيما بيننا.
أيها المسلمون، إن أمتنا أمة حية باقية ما بقيت الحياة، ولن تزول بزوال نظام أو دولة أو مجموعة أفراد، وإن بدا للناظر اليوم أن الأمة تئنُّ اليوم تحت جراحها، فلقد مرت بمراحل أشد مرارة وأحلك ظلمة، واستطاعت أن تخرج منها منتصرة غالبة، فهذا رسول الله يوم أحد وقد استشهد من أصحابه سبعون رجلا، وكثر في من بقي الجراح والآلام، حتى باتوا وقد دب الوهن في نفوس بعضهم، فأنزل قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 139، 140]. وأخرج الطبري من طريق ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: "كثر في أصحاب محمد القتل والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم اليأس، فأنزل الله تعالى القرآن، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا إلى قوله تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]".
وهكذا ما زالت الأمة في تاريخها بين مد وجزر، ولا زال التاريخ يسجل لها انتصارات ونكبات، ولو تصفحنا كتب السير والتاريخ لوجدنا عجبا عجابا، فبعد غزوة أحد وما حدث فيها جاءت غزوة الخندق التي حوصر المسلمون فيها من كل جهة، حتى عظم الكرب والبلاء، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 9-11]، فجاء نصر الله تعالى، فهزم الكفار دون قتال.
ثم تلت أحداث وأحداث حتى فجع المسلمون بموت رسول الله ، فامتحِنَت الأمة مرة أخرى بأن ارتد بعض العرب، ومنع بعضهم الزكاة، وامتنع بعضهم عن الصلاة، وهكذا حتى حوصر الإسلام في مكة والمدينة فقط، فتأهب أبو بكر حتى أقر الله أعين المسلمين بعودة الإسلام إلى كامل جزيرة العرب.
ثم مرت السنوات فامتحنت الأمة في مقتل أمير المؤمنين عمر ، ثم امتحنت في مقتل الخليفة عثمان وما حدث بعدها من قتال بين المسلمين في صِفِّين وموقعة الجمل.
ثم توالت المحن والابتلاءات حتى حلت محنة التتار، وما أدراك ما محنة التتار؟! محنة قتل فيها ما لا يحصى من المسلمين، فقيض الله لهذه الأمة من يعيد لها عزها ومجدها، فقام قطز ـ رحمه الله ـ في ملحمة عين جالوت، فكسر شوكة التتار وهزمهم، بل أعجب من ذلك فقد أصبح أعداء الأمس حماة للإسلام بعد دخولهم فيه.
ثم جاءت محنة القدس، فقيض الله صلاح الدين الأيوبي فحرر القدس. ثم مرضت الخلافة العثمانية وتم الاعتداء عليها، وقسمت تركة الرجل المريض، فاستعمرت أغلب البلدان الإسلامية إن لم نقل كلها، وبعد مرور سنوات طويلة تحررت هذه البلدان بحمد الله ومنه وفضله، وها نحن اليوم نعيش في بلداننا مستقلين أحرارا.
فأبشروا فإننا أمة لا ولن تموت، وإن بدا للناظر أنها تحتضر، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى أآله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: لقد سقط العراق وفي سقوطه عبر وعضات من أهمها:
أولاً: أن النصر بيد الله يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء، ولئن كانت الدائرة اليوم على المسلمين فإنما هو ابتلاء وامتحان؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم الصابرين، لكننا نعلم ونجزم أن العاقبة للمتقين، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات: 173]، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132]، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
ثانيًا: أن الظالم عاقبته إلى الإذلال والهوان، وأن الظلم مآله إلى زوال واضمحلال.
ثالثًا: أن الشكر والطاعات سبب لبقاء النعم، والكفر والجحود والعصيان سبب لسلب النعم، ولكم أن تنظروا كيف سلبت نعمة الاطمئنان من إخوتنا في العراق، كما سلبت نعم كثيرة أخرى، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
رابعًا: إن عدم نصرة بعضنا لبعض سبب لهزيمتنا، ولسوف يستأسد علينا أعداؤنا ما دام كل منا لا ينظر إلا لنفسه، فعلينا بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
خامسًا: أن للدعاء والالتجاء إلى الله أثرا عظيما في دفع البلاء أو في تخفيفه، فلولا الدعاء لحل بلاء أكبر وأكثر مما ترونه في العراق، ويكفي أن نعلم أن قوى العدوان الأمريكية والبريطانية قد صبت أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ دون ذكر القنابل والقذائف.
أيها الإخوة الكرام، في ظل ما يحدث اليوم من تكالب قوى الشر الاستعمارية على الإسلام وأهله يتبادر إلى الذهن سؤال يطرح نفسه بإلحاح، بعدما يرى قوى الخير مضطهدة مسلوبة الإرادة معدومة الحسابات منهومة الخيرات: متى ننتصر على أعدائنا؟
إنه سؤال ولا شك سهل الإجابة، لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى تدبر، فنحن أمة أوتينا كتابا به الإجابة عن كل تساؤل، ويستطيع أن يحلّ أعتى المشاكل في لحظات، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: 13، 14]. نعم، إن القرآن يدلنا على أن النصر من عند الله، وهو يهبه ويعطيه من يشاء، وأن الذل والهوان بيده تعالى، يسلطه على من يشاء من عباده وفق نواميس وقوانين طبيعية، لا تتعدى إرادة الله ومشيئته، فالذل والهوان مسلط على من عصى الله، والنصر والعزة سمة كل ملازم لله ولدينه القويم، إذن فالمعادلة سهلة والحساب يسير، لكن المشكلة العويصة والرقم الخفي في هذه الحسابات يكمن في تساؤل واحد فقط لا غير: متى نرجع إلى الله؟ ومتى نقلع عما نحن فيه من معاص وذنوب؟
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5033)
أزمة الأمة وانتظار فرجها من الله عز في علاه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
فهد بن محمد القرشي
مكة المكرمة
20/12/1423
العمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحن والبلايا أقدار من الله تعالى ترفع بالتوبة والاستغفار. 2- حال المسلمين في غزوة الأحزاب. 3- قصة موسى عليه السلام وانتظار الفرج. 4- ثقة النبي بنصر الله تعالى له وهو في الغار. 5- أمور لا بد من تحقيقها في الفتن والأزمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إنّ ما تبتلَى به الأمة الإسلامية اليوم من بلايا ومحنٍ ورزايا لهو من باب سنّة الله تعالى في خلقه، سنة المدافعة، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، إن تلك البلايا والرزايا التي قدرها الله تعالى على هذه الأمة ابتلاءً واختبارا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ليميز خبيثها من طيبها، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب ، وكل تلك البلايا والمحن والرزايا ـ عباد الله ـ من جنس أقدار الله تعالى الكونية وآياته العظيمة في هذا الكون كالخسوف والكسوف ونحوِها، تلك الآيات العظيمة التي يخوف الله تعالى بها عباده ليتوبوا ويرجعوا إليه، قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذاك فصلوا وادعوا حتى يُكشفَ ما بكم)) متفق عليه.
فكذلك هذه المحن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، لا يرفعها الله تعالى عنها إلا بالتوبة والأوبة إليه، فهو سبحانه الذي يكشف السوء ويرفع البلاء، وهو سبحانه الذي يجير ولا يجار عليه، وقد تقرر سلفًا أنه ما نزلت عقوبة إلا بذنب، ولن ترفع إلا بتوبة، وأي عقوبة أعظم ـ أيها المسلمون ـ من إحاطة الكفار بديار المسلمين إحاطة السوار بالمعصم؟! فهم يجوسون خلال الديار ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، وها هم قد جَمَعُوا أمرهم، وجاؤوا صفًا للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن هذا التجمعَ والتحزبَ يُذَكِرُنَا بيوم الأحزاب، عندما جاء الكفار ليستأصلوا شأفة الإسلام ويقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام على حد زعمهم، وقد قال تعالى واصفًا حالهم في استعدادهم لذلك: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. ونسي أولئك الكفار أن مدبر الأمر في السماء، فهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، عندها سلط الله تعالى عليهم ريحًا هوجاء في ليلة مظلمة باردة، فقلبت قدور المشركين، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، ودفنت رحالهم، فما كان من أبي سفيانَ قبل إسلامه رضي الله عنه بعد أن ضاق بها ذرعًا إلا أن نادى في الأحزاب بالرحيل، فكانت تلك الريح من جنود الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. وختم الله تعالى ذلك الامتحان الرهيب العصيب بنهاية سعيدة، وجنب الله تعالى المسلمين فيها القتال، قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ، فانقلبوا خاسرين خائبين.
وها هم الكفارُ اليوم يقعون فيما وقع فيه إخوانهم من قبل، ناسين أن مدبر الأمرِ في السماء، وهو سبحانه الذي يطفئ نار حربهِمِ كما قال تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، ولكن الغرور والغطرسة والظلم والفجور جعلهم يقولون كما قالت عاد من قبلهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ، قال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ. والله تعالى هو الذي يُذهب كيدهم، ويأتي بنيانهم من قواعده، قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. وهو سبحانَهُ الذي يخرجهم من ديارهم لحتفهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ.
لذا عباد الله، فإن انتظار الفرج من الله تعالى المقرونِ بالعمل والاستعداد وتعليق الآمال عليه وحده من أجلّ عباداتكم، قال علي رضي الله عنه: (رأيت انتظار الفرج من أجل عباداتكم). وصدق الشاعر عندما قال:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وهذا المعنى في كتاب الله تعالى قبلَ ذلك، قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. ولعلنا نتذاكر شيئًا من فرج الله تعالى فيما مضى وفيما هو واقع، مع التعريج على بعض ما ينبغي الاستعداد به لمواجهة هذه الفتنة العظيمة، ونبدأ بقصة عظيمة كررها الله تعالى في كتابه العزيز مرات وكرات، مختصرةً تارة ومطولةً أخرى، وما ذلك إلا لما فيها من العظة والعبرة، تلك القصة هي قصة موسى عليه الصلاة والسلام، والعبرة التي نعتبرها اليوم هي في أم موسى عليه السلام، وكيف انتظرت فرج الله تعالى في سلامة ابنها مع اتخاذها للأسباب والعمل بها.
ونبتدئ قصتَهَا من إخبار السحرة والكهان فرعون بأن زوال ملكه يكون على يد غلام يُولد في بني إسرائيل، عندها قرر ذلك الطاغية بأن يقتل الأبناء ويستحيي النساء، وكان ذلك بلاءً عظيمًا على بني إسرائيل كما قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
وفي تلك الظروف العصيبة وُلد موسى عليه الصلاة والسلام، فضاقت به أمه ذرعًا، كل ذلك خوفًا عليه، فألهما الله تعالى بأن تضعه في تابوت فتلقيه في اليم: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، فوضعته في ذلك اليم الذي كان سلاح نجاة موسى عليه السلام، وهو نفسه كان سلاح هلاك فرعون عليه غضب الرحمن. وكان كل همها عندما ألقته في اليم أن لا يصل إليه فرعونُ وجنودهُ، وما كانت تخشاه وقع، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وقال تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
وإتمامًا لوعد الله تعالى بإرجاعه إلى أمه ألقى عليه محبةً منه سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ، وعندما رأته امرأة فرعون قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فأخذ موسى عليه السلام بالبكاء والصراخ، وقد تعلق قلب امرأة فرعون به، فأخذت تبحث عما يسكته، وتبحث له عن مرضعٍ، ولكن الله تعالى حرم عليه المراضع ليعود موسى عليه السلام إلى أمه تحقيقًا لوعد الله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ.
وقالت أم موسى لأخته: قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، عندها قالت أخته لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ، فتم وعد الله تعالى، فعاد موسى عليه السلام إلى أمه في آخر النهار، قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
كل ذلك تم ـ عباد الله ـ من غير حول ولا قوة لأم موسى، ولكنه تدبير العزيز الحكيم الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
أيها المسلمون، ما أشبه حال أمتنا المغلوبة على أمرها بأم موسى، وما أحوج هذه الأمة إلى انتظار الفرج من خالقها ورازقها، وقد تقطعت بها أسباب الأرض، ولم يبق لها إلا أسبابُ السماء.
فاللهم إنا نسألك يا منزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا هازم الأحزاب، أن تهزم اليهود والنصارى المتحزبين ضد الإسلام.
بارك الله لي ولكم في السنة والكتاب، ونفعني وإياكم بما فيهما من الحكمة والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، فمن المواقف التي تجلى فيها فرج الله تعالى وانتظره الرسول وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ما حصل لهم في الهجرة عندما كانوا في الغار، وأخذت قريش تبحث عنهما في كل وجهةٍ، وجعلوا لمن يأتي به أو يدل عليه الجُعل العظيم، وفجأةً وإذا بهم فوق ذلك الغار، وسمع النبي وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله، وأقبل عليه من الهم والخوف والحزن ما الله به عليم، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. وهنا لفت رسول الله نظره إلى مدبر الأمر، إلى الله عز في علاه، وكأنه يقول له: انتظر الفرج من الله، بعد أن عملوا كل الاحتياطات، فقال : ((ما ظنك باثنين الله ثالثُهما؟!)) متفق عليه، وفي هذا نزل قوله تعالى: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. وهكذا حمى الله تعالى نبيه وصاحبه في الغار من كل سوء ومكر وكيد، وجاءهم فرج الله تعالى الذي يتولى المؤمنين ويدافع عنهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.
وتأملوا ـ أيها المسلمون ـ كيف كان فرج الله تعالى على الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك المَلِك الذي لا يظلم عنده أحد، النجاشي رحمه الله تعالى ورضي عنه، الذي كان متنفسًا لأصحاب رسول الله عندما اشتد عليهم الأذى من قومهم في مكة، فما كان منهم إلا الهجرة إلى الحبشة، ولكم أن تتأملوا ـ عباد الله ـ من الذي هيأ ذلك الملك، إنه الله عز في علاه.
وعندما ظن الغرب الكافر أنه على الفضاء قادر، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، أرسلوا مكوكهم الفضائي "كولمبيا" الذي جمعوا فيه ديانات الأرض الكافرة، من وثنية تمثلها المرأةُ الفضائية الهندية الهندوسية، ويهوديةٍ يمثلها الرائد اليهودي الإسرائيلي، ونصرانية يمثلها الرائد الأمريكي، معلنين بذلك العداوة للإسلام والمسلمين، وأثناء عودتهم وبعد أن استكبروا في أنفسهم ودخل عليهم البطر والأشر أتاهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا وفجر مكوكهم، فسُقط في أيدهم، وليتهم قالوا كما قال أصحاب البستانِ قبلَهم: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أو قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ، ولكن طمس الله تعالى على بصائرهم فهم لا يفقهون.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة ومتعددة، ولكنها مرهونةٌ بالرجوع إلى الله والتوبة والأوبة من ذنوبنا وآثامنا ومهرجاناتنا.
عباد الله، أما ما يتعلق بالاستعدادات المهمة للمرحلة القادمة فتكمن في أمور: -
أولها: أن تعرف الأمةُ عدوها من صديقها، ولا ينبئك عن ذلك مثل خبير، وهو الله تعالى الذي خلقنا ورزقنا وبين لنا عدونا من صديقنا، فهو سبحانه الذي يعرف أعداءنا كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا. وبناء عليه فقد بين لنا سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى أعداء لنا، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، وقال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، فأمة لا تعرف عدوها من صديقها أمة لا تستحق النصر ولا التمكين.
ثانيها: أن ترجع الأمة إلى ثوابتها والمحكمات من شريعة ربها، والالتفاف حولَها والعملِ بها، وترك الفرقة والاختلاف حتى لا يذهب ريحها، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وقال تعالى محذرًا من التنازع والاختلاف لأن فيهما ذهاب الريح: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. ولا يمكن أن تجتمع الأمة أو لا شيء يجمع الأمة إلا كتابُ الله تعالى وسنة رسوله ، ففي هذه المحن والبلايا لا عاصم للأمة ولا ناصر لها إلا باجتماعها تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي هذه الفتن وفي غيرها لا بد أن تسقط كل الشعارات الوطنية والقومية والعلمانية ونحوها، لترتفع راية الإسلام وينضوي المسلمون تحتها.
ثالثها: دعم الجهاد ورفعُ رايته، فما ذلت الأمة ولا طمع فيها أعداؤها إلا بعد أن تنكبت طريق الجهاد، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ وهي نوع من أنواع الربا ـ وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ـ كنايةً عن الدنيا ومتاعها ـ وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود.
رابعها: الاستعداد والإعداد بكل ما تعنيه هذه الكلمة، سواء كان على مستوى الأفراد أو الحكومات.
خامسها: الإكثار من العبادة، فقد قال : ((العبادة في الهرج ـ وهو القتل ـ كهجرة إلي)) رواه مسلم. لينطرح العبد بين يدي خالقه ومولاه سائلاً إياه أن يجنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن، فقد أخبر النبي عن فتنٍ في آخر الزمان، يصبح الرجل فيها مسلمًا ويمسي كافرًا، ويمسي مسلمًا ويصبح كافرًا، وأخبر أيضًا عن فتنٍ كقطع الليل المظلم تدع الحليم حيرانا، وقد كان السلف الصالح كما يقول ابن عيينةَ عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن:
الحربُ أولُ ما تكون فتيةً تسعى بزينتها لكل جهولِ
حتّى إذا اشتعلت وشب ضِرامُها ولت عجوزًا غيرَ ذاتِ حليلِ
شَمطاء يُنكرُ لونُها وتغيَّرت مكروهة للشم والتقبيل
هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله ومن ولاه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك باليهود ومن هاودهم...
(1/5034)
نهاية العام وصوم عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
7/1/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الليالي والأيام. 2- الاتعاظ بمضيّ عام. 3- اغتنام الأوقات. 4- التذكير بالموت. 5- الحث على المسارعة إلى التوبة. 6- فضل صيام المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدر الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصِّروا الأمَل، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيّها المسلمون، إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيام مواقيتُ الأعمال ومقاديرُ الآجال، تنقضِي جميعًا وتمضِي سريعًا، واللّيلُ والنهار يتَعاقبان لا يفتُران، ومَطيَّتان تقرِّبان كلِّ بعيد، وتدنِيان كل جديد، وتجيئَان بكلِّ موعود إلى يوم القيامة، والسعيدُ لا يركَن إلى الخُدَع، ولا يغتَرُّ بالطمع، فكم من مستقبِل يومًا لا يستكمِلُه، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11].
أيَّها المسلِمون، هذا عامٌ مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامه، وقُوِّضَت خِيامه، وغابت شمسه، واضمحلَّ هلاله، إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائِدَها، فكم غرَّت من مُخلِدٍ فيها، وصرعت من مكِبّ عليها، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ رسول الله بمَنكبي فقال: ((كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتِك لموتك) أخرجه البخاري [1].
أيها المسلمون، ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحتقِبوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، قبلَ أن يناديَ بكم منادي الشتات ويفجَأكم هادم اللّذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم [2].
فيا من قد بَقِي من عمُره القليل، ولا يدرِي متى يقَع الرّحيل، يا مَن تُعدّ عليه أنفاسه استدرِكها، يا من ستفوت أيامه أدرِكها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلِكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ النّاس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقها)) أخرجه مسلم [3].
ويا من أقعده الحِرمانُ، يا مَن أركسه العِصيان، كم ضيّعتَ من أعوام، وقضيتَها في اللّهوِ والمنام، كم أغلقتَ بابًا على قبيح، كم أعرضتَ عن قول النصيح، كم صَلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتها، وحقوقٍ أضعتها، ومناهِي أتيتَها، وشرورٍ نشَرتها، أنسيتَ ساعةَ الاحتضار، حين يثقُل منك اللِّسان، وترتخي اليّدان، وتَشخصُ العينان، ويبكي عليكَ الأهل والجيران؟! أنسيتَ ما يحصل للمحتَضَر حالَ نزعِ روحه، حين يشتدُّ كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينُه، وتضرِب شماله ويمينه؟! هذا رسول الله ، وليس أكرَم على الله من رسولِه، إذ كان صفيَّه وخليلَه، حين حضرته الوفاةُ كان بين يديه رَكوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخل يدَه في الماء فيمسَح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سكرات)) أخرجه البخاري [4].
أيها المسلمون، أين مَن عاشَرناه كثيرًا وألفنا؟! أين من مِلنا إليه بالوِداد وانعطفنا؟! كم أغمَضنا من أحبابِنا جَفْنًا، كَم عزيزٍ دفنّاه وانصَرَفنا، كم قريبٍ أضجعنَاه في اللّحد وما وقفنا، فهل رحِم الموت منَّا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل تركَ كَاسِبًا لأجلِ أطفالِه؟! هل أمهَلَ ذا عِيال من أجلِ عِياله؟! أين من كانوا معَنا في الأعوام الماضية؟! أتَاهم هادِم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالِسَ والمساجد، تراهُم في بطون الألحاد صرعَى، لا يجِدون لما هم فيه دَفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظِرون يومًا الأمَمُ فيه إلى ربها تُدعَى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعَى، والفرائِصُ ترعد من هولِ ذلك اليوم والعيون تذرف دَمعًا، والقلوب تتصدَّع من الحسابِ صَدعًا.
فيا من تمرّ عليه سنَةٌ بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عامٍ وقد غَرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربِّك: لأي يوم أخَّرتَ توبتك؟! ولأيِّ عام ادَّخرت أوبتك؟! إلى عام قابِل وحول حائل؟! فما إليك مدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسَد، وكن من أجلك على رصَد، وتعاهَد عمرك بتحصيلِ العِدد، وفرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، فعن عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((لا تزول قدما ابنِ ادم يوم القيامة من عند ربِّه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابِه فيم أبلاه؟ وعن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وماذا عمِل فيما علِم؟)) أخرجه الترمذي [5] ، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزِد فيه عملي).
أيّها المسلمون، أينَ الحسَرات على فواتِ أمس؟! أين العَبرات على مُقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشَّمس؟! فتوبوا إلى بارئكم قبل أن يشتملَ الهدم على البناء، والكدَر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبلُ الرَّجاء، وقبل أن تخلُوَ المنازل من أربَابها، وتؤذِنَ الديار بخرابها، واغتَنِموا ممرَّ الساعاتِ والأيام والأعوام، وليحاسِب كلُّ واحدٍ منكم نفسه، فقد سعِد من لاحظها وحاسبها، وفازَ من تابعها وعاتَبها، وهلمّوا إلى دار لا يموت سُكّانها، ولا يخرَب بُنيانها، ولا يهرَم شَبَابها، ولا يتغيَّر حُسنُها، يقول النبيُّ : ((من يدخلِ الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابُه ولا يفنى شبابُه)) أخرجه مسلم [6].
يا عبدَ الله، استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا، وقف على الباب تائبًا، فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم [7].
فأحسِن فيما بقي يُغفَر لك ما مضى، فإن أسأتَ فيما بقِي أُخِذت بما مضَى وبما بقي.
ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى? سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق: 6-15].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان، أقول ما تَسمَعون، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6416).
[2] هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه الجزء الأخير، وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقيّ في الشعب (7/263) علّة، وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[3] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (223).
[4] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6510) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2416) وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد"، وله شاهد أيضًا من حديث معاذ رضي الله عنه، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[6] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2836) من حديث أبي هريرة.
[7] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2759).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إِحسَانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوهُ ولا تَعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) أخرجه مسلم [1].
ويتأكّد صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم، وكان رسول الله يتحرّى صومه على سائر الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيتُ النبيَّ يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني: شهر رمضان. أخرجه البخاري [2]. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشواء فقال: ((يكفّر السنة الماضية)) أخرجه مسلم [3].
ويستحبّ أن يصوم التاسع معه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابِلٍ لأصومَنَّ التاسعَ)) أخرجه مسلم [4]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود) أخرجه البيهقي. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاثةَ أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقّن صوم التاسع والعاشر".
وفقني الله وإياكم لصالح العمل، ووقانا جميعا من الإثم والزلل.
عبادَ الله، إن الله أمَركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون من جِنِّه وإنسِه، فقال قولا كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على النبي المصطفى المختار...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1163).
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (2006)، وهو أيضا عند مسلم في كتاب الصيام (1163).
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162).
[4] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1134).
(1/5035)
دروس وعبر من سورة القصص
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القرآن والتفسير, القصص
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
7/1/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية النظر في التاريخ. 2- تكرر قصة موسى في القرآن الكريم. 3- أهمية القصص القرآني. 4- تخلي اليهود عن أسباب الريادة. 5- دروس وعبر من سورة القصص. 6- أحداث قصة موسى مع فرعون. 7- فضل صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوَّلُ ما يوصَى به وأَولى تقوَى الله في السرّ والنجوى، والتَّقوَى خَيرُ لِباسٍ، فهِي لمن التَزَمَها حبلٌ رفيع وسِياج مَنيع ونجاةٌ وفَوزٌ في الدنيا والأخرَى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62-64].
أيّهَا المسلِمون، في زَمنِ الابتِلاءات والمحنِ وحِينَ تكثُرُ علَى الأمّةِ الفتنُ ويَتدَاعَى الأكلةُ على القَصعَةِ ويتَسرَّبُ اليأسُ إلى بَعضِ النّفوس تحلُو قراءةُ التّاريخ وتجلُو سُنَنُ الله في الكونِ عَبر قصصِ الأوَّلين وعِبَر السّالفين، ولمَّا استُضعِف المسلمون في مكّةَ وأوذُوا وحوصِروا وتكبَّر المشرِكون بقوّتهم وكَيدِهم أنزَلَ الله تعالى بمكّةَ سورةً تضَعُ الموازينَ الحقِيقِيّة للقوَى والقِيَم والنّصرِ والظَّفَر والعاقبةِ والإِدالة. سورةٌ تقرِّرُ أنَّ هناك قوّةً واحدةً في الوجود، هي قوّة الله، له الخلقُ والأمر، وأنّ هناك قِيمةً واحدةً مطلقة، هي قِيمةُ الإيمان، فمَن كانَت قوّةُ الله معَه فلا خوفَ عليه ولَو كان مجرّدًا من كلّ مظاهرِ القوّة، ومن كانت قوَّة الله عليه فلا أَمنَ له ولا طمأنينةَ ولو سَانَدَته جميعُ القوى. سورةٌ نزلت في زمنِ الضَّعف والقِلّة، بأسلوبٍ قصَصيّ ليس له مثيل. إنها سورَةُ القصَص.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 1-6].
إنَّها إرادةُ اللهِ التي بيَّنَها مِن أوَّلِ القِصّةِ، وتوالَت فُصُولُها في أَحداثٍ عَجيبةٍ حتى تمَّت كَلِمةُ الله ونَفَذ أمرُه وحقَّت مَشِيئَتُه.
أيّها المسلِمون، لقَد ذُكِر اسمُ نبيِّ الله موسَى عليه السَّلام في القرآنِ الكَريم في مِائةٍ وسِتّةٍ وثلاثين موضِعًا، فمَا ذكِر اسمُ نبيٍّ ولا ملَكٍ أكثرَ منه، ولا تحدَّث الوَحيُ عَن أمَّة منَ الأمَم الأُولى كما تحدَّث عَن بَني إسرائيلَ, لقد جَاء ذِكرُهم في سُوَرِ الأنعامِ والأعرافِ والإسراءِ وطَه ويونُس وهود وفي جميعِ الحواميم وكلِّ الطواسين، وكلُّ هذه السّوَرِ مكيَّة، بالإضافةِ إلى سوَرٍ أخرَى مدنيَّة، ولم يكن بمكَّةَ حينئذ يهود يُؤبَه لهم، كما لم يكن هذا مجرَّدَ تعريفٍ بأمّة سيخالِطُها المسلمون فيمَا بعد، بل إنَّ هِداياتِ القرآن أعظمُ مغزَى وأطوَل رؤيةً، إنَّ هذا التاريخ المَتلوَّ يحوِي في طيَّاته العناصرَ الحقيقيَّةَ لقيامِ الأمَم واستِقلالها وازدهارِ حضارتها، كما يحوِي العناصرَ الحقيقيَّة لانهيارِ الأمَم وذَهابِ ريحِها واضمِحلال أمرِها.
والقصَصُ القرآنيّ من أبلغِ الوسائل لتربية الأفراد والجماعات، ولقد كانَ المسلمون المستضعَفون في مكة بحاجةٍ إلى أن يَعرِفوا كيفَ تحوَّل شعبٌ كامِل من ذلٍّ هائِل إلى عِزٍّ وتمكين، وكيف تَبلُغ الأممُ هذه الغايَةَ الكَريمة إذا نفَضَت غُبارَ الذلِّ والهوانِ وأَسلَمَت قِيادَها للهِ رَبِّ الأكوانِ. شعبٌ كانَت تُذَبح صِبيتُه وتُستَحيَى نِسوتُه ويُستَعبَد عامَّتُه كيف مُكِّن من ميراث الأرضِ في زمنٍ من الأزمان، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].
سُئِل ابنُ القيِّمِ رحمه الله: أَيُمَكَّن للمؤمِنِ أم يُبتَلى؟ قال: لا يُمَكَّن حتى يُبتَلى، وقَرَأ قولَ الله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]؛ لذا قيل: بالصَّبرِ واليَقِين تُنالُ الإمامةُ في الدِّين.
كما بيَّن اللهُ ارتِكاسَ هذهِ الأمَّةِ وانتِكاسها وأسبابَ الغضَب عليها بعد أن مكَّن الله لها، وقد سبقَ أن صَاحُوا بموسَى مُستَنجِدين: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129]. لكنَّهم حين استُخلِفوا نكَصوا على أعقابهم وتخطَّوا حدودَ الله، واحتالُوا على محارِمه، وجاروا وظلَموا، وارتَكَسوا في مَزالقَ شائِنةٍ بيَّنَها الله تعالى في مواضِعَ كثيرةٍ مِن كتابِه ليجتَنِبَها المسلمون.
تلك المزالقُ التي هوت بالأوّلين وفقَ سننٍ وقوانِين لا تُساقُ للأمَمِ جُزافًا، ولا تخبِط خَبطَ عَشواء، لكنها السّنَن. عندها جَرَى تنحيةُ تلك الأمّةِ عن الرِّيادَة، وجاء الله تعالى بأمّة الإسلام، وكلَّفها بالرّيادة والقيادةِ. والعجيبُ أنّه ومَع تطاوُل الزّمن بين الفريقَين وبَعدَ أعصارٍ طِوال فإنَّ الذي قيلَ للأمّة التي أقصِيت هو نفسُه الذي قيل للأمّة الحاضِرةِ، فقد قال موسى لقومِه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، وقال اللهُ تعالى للأمّة الجدِيدةِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]. إنّه ذاتُ القول الذي قِيل مُنذ قرونٍ سحيقةٍ. وإذا تأمَّلتَ تاريخَ الأمّةِ وجدتَ انتصارَها وانكِسارَها مُتوازيًا مع هذه السّنَن، متنَاسبًا مع قُربها وبُعدها من تعاليم الدّين.
أيّها المسلمون، وفي سورةِ القصص ترَى أن العلوَّ في الأرض بالفَسادِ وقهرَ الناس مِفتاحُ الحتوفِ ومِتلاف الممالِك وسبَبُ الهلاك، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ [القصص: 4]، وفي آخرِ السّورةِ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص: 83].
في هذِه السورةِ العظيمةِ مواقِفُ وأحداثٌ تحوِي العبَرَ لكلِّ من نَظَر، لقَد بيَّن الله تعالى طُغيانَ فِرعونَ وجنودِه على بني إسرائيل، وكَيف كانَ يَستعبِدهم ويتتبَّع أطفَالَهم لِيَذبَحَهم ذَبحَ الشِّياه. في تلك الظروفِ القاسيَة وُلد موسى عليه السلام، ولِد والخطر محدِقٌ به والموتُ يتلفَّت عليه، وها هي ذي أمّه حائِرةٌ به خائفة عليه، تنتظر أن يصِلَ نبؤُه للجلاّدين، عاجزةً عن حمايته، لا يمكِن أن تلقِّنَه حيلةً، ولا أن تخفِيَ صوتَه الفطريّ أن ينمَّ عليه، وهنا يلقِي الله في روعِها الإيمانَ والأمانَ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. يا لله! إذا خِفتِ عليه وهو بين ذِراعَيك وفي دِفءِ يَدَيك فألقِيهِ في اليمّ، نَعم ألقيه في اليمّ، فإنّه هنا في رعايةِ الله، يكلؤُه ويَرعاه، إنها الرعاية الإلهية التي تجعل النارَ بردًا وسلامًا وتجعَل البحرَ ملجَأ ومنامًا.
وهكذا كان إيمانُ تلكَ الأمّ وكان يقينُها، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص: 8]، وهل يُخشى عليه إلا من آل فرعون؟! ولكنَّ إرادةَ الله تتحدّى فرعونَ بطريقةٍ مَكشوفة، إنهم يتتبَّعون المواليدَ ويرسلون الجواسيسَ ويكلِّفون الجلاّدين لقتلِ جميعِ الأطفالِ خشيةَ أن يكونَ موسى أحدَهم. لكن ها هو ذا الطفلُ الرضيعُ يأتي بنفسِه مجرَّدًا من كلِّ حيلةٍ أو قوّة، يقتَحِم على الطاغيةِ حِصنَه، ويستقرّ في قلبِ قصرِه، ليكونَ لهم عدوًّا وحزنا، إنه الطفل الذي سيكون على يديهِ هلاكُهم، وعطَّف الله عليه قلبَ امرأةِ فرعون، فأحبّته وآوته، وهكذا حماه الله بألطف سَبَب، بالحبِّ لا بالجندِ والسِّلاح، وهذا من لُطف اللهِ، ولا يقاوِم لطفَ الله شيءٌ، ولا تُلام أمُّ الرضيعِ إن خافَت عليه واضطَربت، ولكن ربَط الله على قلبها وثبَّتها لتكونَ من المؤمنين المصدِّقين بوعدِ الله الصابِرين على بلائِه السَّائرين على هُداه.
ومَنع الله موسَى من قَبول المراضِع أو استِساغةِ اللبن، وبعدَ أن كان فِرعونُ يبحَث عنه ليقتلَه صارَ يلهَث لحياته؛ يلتمِس مُرضِعًا يقبَلها الصَّغير، خوفًا عليه مِنَ الذّبول أو الموتِ، فتَدُلُّهم أختُه على أمِّه، فيلتَقِم ثديَها ويقبَل لبَنَها، ويعود الطفلُ الغائِب إلى أمِّه، ويتحقَّق وعدُ الله، يعودُ الطفل يحمِيه فرعونُ، وترعاه امرأته، وتسعَد به أمّه، وتأخذ على رضاعِه الهدايا والعطايا، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 13]. إنَّ لله تدبيرًا وتقديرًا، فأين المؤمِنون؟! أين المصابِرون؟! أين المبتلَون؟! أين الموقِنون؟!
وإذا العنايةُ لاحظَتك عُيونها نَم فالحوادِث كلّهنّ أمان
وإذا صدَق الإيمانُ وأحاطَت عناية الرحمن فليس بالضّرورة أن تكونَ النجاةُ وفقَ ما يعهدُه البشر.
أيّها المسلمون، ولما بلَغ موسى أشُدَّه واستَوى آتَاه الله حُكمًا وعِلما، واصطفاه وأخلَصَه، وجعَل في قلبه نورًا، وهيَّأه للرّسالةِ, وقد رأى طغيانَ فرعونَ ومَلئِه، ورأى كيف يُسام قومُه الخسفَ والظلم.
وحين أراد الله تعالى أن يجعلَ لموسى سبَبًا للخروج من مصر دخَل المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلِها فوجدَ فيها رجلين يقتِتلان، أحدهما من بني إسرائِيل والآخرُ قِبطيّ، فاستغَاث الإسرائيليّ بموسى، فوكز القبطيَّ فمات من ساعتِه من قوَّة يدِ موسى، ولعلّه لم يقصِد قتلَه؛ لذا عادَ سريعًا يستغفِر ربَّه، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16], وهذه صفةُ المؤمِن؛ سريعُ التوبةِ قريب الأوبة.
وفي يومٍ آخر رأَى نفسَ الإسرائيليّ يشتَبِك مع قبطيٍّ آخر، قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص: 18]، غويٌّ بعِراكِه الكثير ومُشاجَراته التي لا تُثمِر سوى جَلبَ البلاءِ على بني إسرائيل، وهم عن الانتِصار عاجِزون، فلا قيمةَ لاشتِباكاتٍ تضرُّ ولا تُفيد، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ [القصص: 19]. وهَكذا تَضِيق النّفوسُ الطاهرةُ، وتندفِع وتجيش، وربما تتجاوَزُ في تصرُّفاتها مِن حرّ ما تجد، وقد لا يُلام ظالمٌ إذا ظلم بقدرِ ما يُلام المظلومُ إذا انتَقم، كما وُصِف موسى عليه السّلام بقَصدِ الجبروت والإفساد.
وحين شَاعَ خَبرُ هذه الحادثةِ وأحسّ الملأُ من قوم فرعونَ ببوادِر التمرُّد على الظّلم تآمروا على قتلِ موسى عليه السّلام؛ حتى لا يسرِيَ مَوقفُه بين أفرادِ الشّعب المستعبَد، لكنَّ الله تعالى نجَّاه، فخرَجَ مِن المدينة يدعو ربَّه: رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 21]، ويلتَجِئ لخالقِه: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 22]. إنها المطاردةُ الثانية للقَتل، لكنَّ الله تعالى يريد إنفاذَ أمرِه وإمضاءَ قدَره مهما تمالأَ الأعداء، ويمضي موسى عليه السلام ويتزوَّج ويعمَل في كنَف شيخٍ صالح في سيرةٍ ومسيرةٍ مليئة بالدّروس والعبر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
بَارك الله لي ولكم في القرآنِ والسّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمَة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي القوَّةِ القادرَة والحِكمةِ الباهِرَة، لا ينفُذ إلا أمرُه، ولا يمضِي إلا قدَرُه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 82، 83]، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيّها المسلمون، وحين شرّف الله تعالى موسى عليه السلام بالرِّسالة وأكرمه بالنبوَّة بعثه إلى فرعونَ وقومهِ يدعوهم إلى الله وحدَه، فقابلوا رسالتَه بالتكذيبِ، واتهموه بالسّحرِ وقَصدِ الإفساد، بل قال فرعون: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26].
ومع ظهور الآياتِ والبراهين إلا أن المتكبرين محرومون، وهذه سنّة الله في كلِّ وقت، فإنّك ترى المتكبِّرين هم أبعدُ النّاس عن الهداية والإيمان، كما قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف: 146].
وخرج موسى عليه السلام بقومه مهاجرين بدينهم تارِكين ديارَهم، يبحثون عن مكانٍ آخَر يعبدون الله فيه، ولكنَّ فرعون ـ ككلِّ الطغاة ـ لم يترك هذا الشعبَ المقهور ليحيا كما يُريد، مع أنهم فارقوا بلدتَه إلى بلادٍ أخرى وتركوه وشأنَه، فلماذا يطاردُهم حتى البحر؟! إنّه التسلُّط والطغيانُ والعلوّ في الأرض بالفساد.
فلمّا وقفَ البحرُ أمامَ موسى وبني إسرائيل ورأوا فرعونَ وقومَه وراءَهم، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، في تلك اللَّحظات الحرِجَة لم يتزعزع إيمانُ موسى بربّه، بل صاحَ صيحةَ مؤمن وصاحَ صيحةَ موقن: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]، وحين يكمُل الإيمان تنزل نصرةُ الرحمن، فأمر الله البحرَ فانفَلق طُرُقًا يابِسةً، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه: 77]، فعبروا بحِفظ الله، فأتبعهم فرعونُ بجنوده، وأمر الله البحرَ فانطَبق على فرعون وجنوده، وأغرقَه ومن معه في عاقبةٍ مُهينة للكبر والطغيان، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص: 39-41]. إنها هزيمةُ الدنيا والآخرة جَزاءَ البغي والاستطالة، وقد أنجى الله تعالى موسى وقومَه حين التزموا أمرَ الله وصبروا وأقاموا الصلاة كما في سورة يونس.
وكان إهلاكُ الله تعالى لفرعونَ وجنودِه ونجاةُ موسى وقومه في اليوم العاشر من شهر محرَّم، فصام موسى عليه السلام هذا اليوم شكرًا لله تعالى، وصامه نبيُّنا محمّد وأمر بصيامه وقال لليهود: ((نحن أولى بموسى منكم)) كما في الصحيحين، وفيهما أيضا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ما علمتُ أنَّ رسولَ الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان، وعند الترمذي بسنَد صحيح أنَّ النبي قال: ((صيام يومِ عاشوراء أحتسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله)) ، وفي صحيح مسلم أنّ النبي قال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ)) ، فلم يأت العامُ المقبل حتى توفّي النبي ، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((صوموا يومًا قبله ويومًا بعده)).
إنَّ أتباعَ الرّسل والأنبياءِ يجعلون هذا اليومَ يومَ شكرٍ وعبادة وفرحٍ بنجاةِ المؤمنين، كما أنّه يوم حزنٍ وبلاء ومأتمٍ طويل على المشركين وأتباع فرعون.
وفي ختامِ السورةِ تجِد قصّةَ قارون وطغيانه بسبب المال واغترارَ أهل الدنيا ثم إهلاك الله تعالى له، لتُختَم الآيات بالقاعدة الربانية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
فتدبّروا ـ أيها المسلمون ـ كتاب ربِّكم، والزَموا صراط الله المستقيم.
ثمّ صلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشرية محمد بن عبد الله.
اللّهمّ صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
(1/5036)
مآسي ومآسي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
7/1/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأحوال الأخلاقية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها إخواننا في فلسطين. 2- أثر الذنوب والمعاصي. 3- صرخة للمسؤولين والغيورين على إسلامية بيت المقدس. 4- وجوب إنقاذ الأسرى والمعتقلين. 5- المشردون وحلم العودة إلى أرض الوطن.
_________
الخطبة الأولى
_________
ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
عباد الله، إن النفس تسيل مرارة، وإن الكبد ينفطر حزنا، وإن القلب ينخلع كمدا عندما نقرأ قوله تعالى في القرآن الكريم على لسان نبي الله صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يقول عن قومه: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79].
عباد الله، سر البلاء كله إذا كره الناس الناصحين، إذا كره الناس من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقد تودع منهم. وسر ما نحن فيه اليوم من ألوان البلاء أننا قرّبنا الأعداء وأبعدنا الأصدقاء، قربنا أهل الدنيا وابتعدنا عن أصحاب الدين، قربنا كل غشاش منافق وأبعدنا كل مؤمن مخلص صادق. أقول هذا لما نعانيه اليوم في زمن نشعر فيه أن الغراب أعقل منا، الغراب أعقل لأنه علم ابن آدم كيف يواري سوأة أخيه، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ [المائدة: 31].
عباد الله، أصبحنا اليوم في عصر لا أمان علينا في حياتنا ولا بعد مماتنا، في حياتنا مهددون بالسرقة والخيانة والسجن والإبعاد والتشريد، فلا أمن ولا أمان، والخوف يلاحقنا من كل مكان، الفقر وضيق الحال، الضرائب باهظة ولا أحد يستطيع أن يدفع قيمتها، إجارات المحلات التجارية والمساكن غالية، فلا رحمة بين المستأجر والمؤجر.
أصبحنا مقطَّعي الأوصال، جدار عنصريّ بغيض فرّق الناس وقطع الأرحام، فإذا أردت أن تسافر فهيهات هيهات أن تصل، وفي العودة تقف خلف الطوابير في المعابر التي كتب عليها: "أيها المواطن مزيدا من الصبر"!. وهل بقي هناك صبر؟! من منا يصبر كصبر أيوب عليه السلام؟! من منا يصبر كصبر إسماعيل عليه السلام؟! من منا يصبر كصبر يعقوب عليه السلام؟!
طلابنا يتخرجون من الجامعات ولا يجدون أماكن للعمل، المدارس أصبحت لا تقوم بواجبها في مجال التربية والتعليم، أولادنا في الشوارع يتسكعون ويعاكسون الفتيات ويدخّنون السجائر، وبعضهم يطلب من أستاذه أن يعطيه سيجارة، وبعضهم يشرب البيرة، والنتائج في نهاية العام الدراسي سيئة للغاية، ومعدَّلات ونسب الرسوب كبيرة لا يعلمها إلا الله.
أين التربية الإسلامية في بيوتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعانتا؟! نريد علماء من أهل العلم والصلاح والتربية، نريد طلبة يحملون العقيدة الإسلامية حتى يتحقق الهدف من طلب العلم، نريد من يقوم بإصلاح المجتمع ويعمل لرقي الأمة ويعيد لها مجدها وعزتها وكرامتها، نريد من يعمل لفك أسر المسجد الأقصى المبارك.
عباد الله، إن القائد الملهم صلاح الدين الأيوبي كان جالسا مع هيئة أركان حربه، فدارت بينهم فكاهة، فضحكوا ولم يبتسم، فقالوا: لم لم تبتسم؟! ماذا قال؟ أتدرون ماذا قال؟! قال: أستحي أن يراني الله مبتسما والمسجد الأقصى في أيدي الصليبيين. فمال بال حكام الأمة يبتسمون ويضحكون والمسجد الأقصى في قبضة الاحتلال؟! كفانا غفلة، غيرنا يخطط ونحن نيام، غيرنا يعمل ونحن غافلون.
أيها المؤمنون، ها هو منبر الأقصى قد وصل ولكن أين صلاح الدين؟! أين الفتح المبين؟! المنبر الأول الذي أمر بصنعه نور الدين زنكي في حلب الشهباء سنة أربع وستين وخمسمائة للهجرة، وكنا نقرأ على خشبه الكلمات التالية: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته، الذاكر لنعمته، المجاهد في سبيله، المرابط لأعداء دينه، الملك العادل نور الدين ناصر الإسلام والمسلمين، منصف المظلومين من الظالمين، أعز الله أنصاره، وأدام اقتداره، وأعلى مناره، ونشر في الخافقين ألويته وأعلامه، وأعز أولياء دولته، وأزال كفار نعمته، وفتح له وعلى يديه".
وقد أحرقت يد الغدر هذا المنبر الذي يعتبر رمز العلا للمسلمين بعد أن تقدم بحمله صلاح الدين، وصاح به محراب الأقصى، وظهر سر الكرامة في فوز الإسلام بالسلامة، وتناصرت الألسن بالدعاء لنور الدين بالرحمة والكرامة، ولصلاح الدين بالنصرة والنعمة.
وكما ذكرنا فقد وصل هذا المنبر الشريف ولسان حال بعض الناس يقول: هيهات أن يعود القدس إلى الإسلام، وأهل الإيمان واليقين يعرفون أن الله قد تكفل بنصرة الدين ونصر هذه الأمة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله، الإمام الشافعي الذي حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك وهو ابن عشر، وهو الذي ملأ الدنيا علما وأدبا ومعرفة يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدي لعاصي
أتدرون ـ يا عباد الله ـ ما المعصية التي تكلم عنها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؟! رأى ذات يوم كعب امرأة، كيف لو حضر الإمام في عصرنا اليوم ورأى النساء وما هم عليه من الفساد وارتكاب المعاصي والآثام؟! لقد انتشر الزنا وعم، وظهرت آثاره في مجتمعنا، المرأة في الإسلام لها مكانتها ولها رسالتها، فلتحافظ المسلمة عليها، فلتحافظ على كرامتها وعفتها وحيائها، فلتحافظ على بيتها وأسرتها.
عباد الله، اسألوا عن بيوت المسلمين لماذا خربت؟! لماذا انتشرت الخلافات الزوجية؟! أين تربية أبناء المسلمين؟! أبناؤنا لا يعرفون شيئا عن ديننا وعقيدتنا، بينما يعرفون كل شيء عن أنواع الفساد واللف والدوران.
أعداء الإسلام نجحوا في مخططاتهم لهدم الأسرة المسلمة وإبعادها عن دينها، لقد أبعدونا عن قرآننا، أبعدونا عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن هنا فالواجب على المسلم أن يكون يقظا، وأن يعلم علم اليقين أن أعداء الإسلام قد اجتمعوا على حربنا، فاحترسوا ـ أيها المسلمون ـ من أعداء الملة، احترسوا من أعداء الإسلام.
عباد الله، متى يرفع الله البلاء والوباء عنا؟! يوم نصطلح مع الله، يوم نطبق شرع الله، يوم نعمل لمصلحة الإسلام والمسلمين. أما ما دمنا في بعد عن الله تعالى بل في حرب مع الله عز وجل فلا نجاة ولا خلاص ولا مناص ولات ساعة مندم، وسنبقى في بحر لجي يغشاه موج من فرقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء فلسطين المسلمة، ثلاث قضايا مركزية هامة تتعلق بالقضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني في الداخل والشتات.
القضية المركزية الأولى: قضية القدس:
الأرض المقدسة التي حباها الله بالخير والبركة، والتي ترنو وتهفو إليها أفئدة المسلمين في مشارق الله ومغاربها، والتي حوى ترابها الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين من أبناء هذه الأمة المؤمنة، فلا يخلو شارع من شوارعها ولا حارة من حاراتها إلا وفيه ما لا يعلمه إلا الله تعالى من أهل الخير والبركة والصلاح، هذه الأرض المقدسة تضيع اليوم من أيدي المسلمين، والكل يرى ويسمع، ولكن لا حياة لمن تنادي. ففي غزة الاحتقان والإحباط والانقسام والتأطير البغيض وإحراق المؤسسات والمحال التجارية وعمليات النهب والسرقة، والسماسرة الذين لا يخافون الله تعالى ويقومون بعمليات التزوير وبيع الأراضي وأكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على الممتلكات والأعمال الإجرامية الدامية، والتي لم تشهد الساحة الفلسطينية أياما مظلمة مثل هذه الأيام.
وفي ظل غياب المسؤولين والغيورين على إسلامية بيت المقدس تستغل الجماعات المتطرفة وبدعم من الحكومة الإسرائيلية هذا التشرذم وهذا الضياع، وتعتزم تكثيف الاستيطان داخل البلدة القديمة وحولها، فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن هذه الجماعات تعتزم بناء ستمائة وحدة سكنية مقابل الجهة الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى المبارك، وتقوم جماعات متطرفة أخرى بالعمل على بناء كنيس فوق أحد المنازل، بالقرب من سوق القطانين في الناحية الغربية من المسجد الأقصى المبارك.
إنهم ماضون في تهويد القدس الشريف، ونحن نلهث خلف السراب، منشغلون فيمن يتولى هذه الوزارة أو تلك، وحالنا يدور في حلقة مفرغة، وكأننا في حوار الطرشان، وحوار من وُجِد أولا، ونسي الجميع منا أن الله سيحاسبنا، نسينا أن الله يراقب كل واحد منا.
القضية الثانية والتي لا تقل أهمية عن القضية الأولى: قضية الأسرى والمعتقلين، قضية مشاعل النور ورموز العطاء:
إن قضية الأسرى لا يمكن أن تكون في أي حال من الأحوال موضع مزايدات ومساومات، ولا يجوز التغاضي عنها أو إغفالها أو القفز عليها مهما كلف الثمن، فالمساومة في حقهم مرفوضة من الجميع، ولا يمكن أن تكون رهنا للمساومات السياسية للحصول على تنازلات محلية أو إقليمية. فقد طال الأسر وطال ليل الظلم والظلام، والمهم أن نعمل بجد من أجل إطلاق سراحهم وعدم التمييز بين معتقل وآخر وفقا لانتمائه السياسي أو الجغرافي، فأبناء فلسطين أبناء أمة واحدة وعقيدة واحدة وقضية واحدة.
وأنتم ـ أيها الأسرى ـ تذكروا أنكم قد دخلتم السجن ظلما وعدوانا، بلا جناية أو جريمة، تذكروا أن نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام قد دخله، ولكنه صبر وقال الله في حقه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90].
القضية الثالثة: وهي قضية الوجود الفلسطيني في الشتات:
والذين يحملون مفاتيح العودة، ويحلمون بالرجوع إلى أراضيهم وديارهم، وللأسف فأحلامهم اعتلاها الصدأ لما يجري في الداخل. انظروا إلى إخواننا وأبناء جلدتنا في عراق الرافدين، في العراق يهدّدون بالطرد والتشريد تارة، ويقتلون تارة أخرى من قبل فئات مجرمة حاقدة طائفية.
عباد الله، أليس من الأجدر بالمسؤولين أن يرفعوا أصواتهم عاليا لوقف المجازر بحق إخوتنا؟! الشهداء تجاوز عددهم الستمائة، والمشردون عشرات الآلاف، ويقيمون على الحدود السورية العراقية والأردنية أوضاع صعبة ومزرية.
أيها المسلمون، هذا واقعنا اليوم، فهل نفيق من سباتنا؟! هل نتوقف عن الصراع الذاتي أو صراع السلطة والاحتلال جاثم على صدورنا والقدس تضيع والأسرى يعانون القهر والإذلال وشعبنا في العراق يتعرض للإبادة والذبح والرحيل والتهجير؟!
وحدوا صفوفكم، انبذوا خلافاتكم، بيضوا وجوهكم أمام الله تعالى، أليس منكم رجل رشيد؟! هل هناك معتصم الآن ينجد أصحاب الصرخات من الأمهات الثكالى من الأطفال اليتامى، من الزوجات والأرامل، ومن المشردين في الأرض؟!
(1/5037)
أخوة الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
14/1/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أساس الدين الإسلامي. 2- مراتب المسلمين ودرجاتهم. 3- حقيقة الإسلام. 4- عِظَم رابطة أخوة الإسلام. 5- تجسيد الصحابة لأعظم معاني الأخوة. 6- مراتب أخوة الإسلام. 7- استنكار ما يقع من الاعتداء على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم. 8- حقوق أخوة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا عقابه بأن لا تعصوه.
عبادَ الله، إنَّ الدينَ الحقّ الذي ارتضاه الله لعباده مبنيٌّ على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحجّ البيت الحرام. ولهذا الدينِ حقوق وواجباتٌ ومستحبات، وفيه حدود ومحرّمات ومكروهات.
فمن قام بأركان الإسلام وغيرها من الواجبات والمستحبات وكفَّ عن الحدود والمحرّمات والمكروهات فهو بأفضل المنازل عند ربّه، قد ارتقى درجةَ السابقين المقرّبين الذين قال الله في جزائهم: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 10-24].
ومن قام بأركان الإسلام وغيرها من الواجبات وفعَل بعضَ المستحبات وكفَّ عن المحرّمات فهو على خير كثيرٍ وعلى سبيلِ نجاة، وعدَه الله جناتِ النعيم، ونجاه من عذاب الجحيم، ولكنه دون المقرّبين، وهؤلاء هم المقتصدون في الطاعات أصحاب اليمين، قال الله تعالى في جزائهم: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة: 27-40].
ومن قام بأركان الإسلام وترك بعضَ الواجبات والحقوق مما لا يكون تركُه كفرًا وارتكب بعض المحرّمات مما لا يكون فعلُه كفرًا فأمرُه إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، وإن شاء عذَّبه في الدنيا بذنوبه بأنواع من المصائب، فإن لم تطهِّره عقوبات الدنيا عذَّبه الله في جهنم بقدر ذنوبه ثمّ أخرجه بالتوحيد بشفاعة الشافعين أو برحمة ربّ العالمين.
ومن لم يكن من هؤلاء فهو من الذين ادّعوا الإسلام وليس له فيه إلا الادِّعاء باللسان.
أيها المسلمون، ليس الإسلام بالدعوى باللسان من غير عمل صالح، إنما الإسلام قولٌ تصدّقه الأعمال الصالحة، الإسلام فرائض وحقوق وواجبات وكفٌّ عن المحرّمات.
ألا وإنّ من الحقوق التي أمر الله بحفظها ورعايتها والقيام بها والعناية بشأنها أخوّةَ الإسلام وروابط الإيمان، قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، وقال النبيُّ : ((المسلم أخو المسلم)).
عبادَ الله، ولعظيمِ أمرِ أخوّةِ الإسلام كان مِن أوَّل أعمالِ رسولِ الله أنّه آخَى بين المسلمين لما قد المدينةَ، فآخى بين المهاجرِين والأنصارِ أُخوّةً عامّة، ووثّق بينهم هذه الآصرةَ، وقوّى هذه الرابطةَ أوّلَ قدومه المدينةَ، ثمّ آخى بينهم أخوّةً خاصّة، فآخى بين كلِّ مهاجرٍ وأنصاريّ، فجعل كلَّ اثنين أخوين؛ يتعاونان ويتواسيان، حتى إنهما يتوارثان وراثةً مقدّمة على النسب، حتى نسخَ الله هذا الحكم بقوله: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75].
ووجد المهاجرون من الأنصار الإيثار والمحبّةَ والمواساة، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثلَ قومٍ قدمنا عليهم أحسنَ مواساةً في قليل، ولا أحسنَ بذلا من كثير، لقد كفَونا المؤونةَ، وأشركونا في المهنة، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلِّه، قال: ((لا؛ ما أثنيتُم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم)) رواه أحمد والترمذي.
ولكنّ المهاجرين تكرّموا أن يرزؤوا الأنصارَ في أموالهم، وعملوا لاكتسابِ الرزق، وحفظوا لإخوانهم مودّةَ القلوب، عن عبد الرحمن بن عوف أن سعدَ بن الربيع قال لعبد الرحمن وقد آخى بينهما النبي : يا أخي، إن لي مالا كثيرًا، وإنّ لي زوجتين، فخذ نصفَ مالي، واختَر أيَّ زوجتيَّ أنزِل لك عنها، فإذا حلّت من عدّتها فتزوّجها، فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلّوني على السوق، فباع واشترى، فأثرى.
وهذه فترةٌ فريدة في تاريخ الإسلام، ولكنها تتكرّر كلما وقر الإيمانُ في القلوب وصدقتِ النياتُ والأعمال.
أخوّة إسلام أمرُها عظيم وشأنها كبير، بها يتناصر المسلمون، وبها يتراحمون، وبها يتوادّون، وبها يتواسَون، وبها يتعاطَفون، وبها يقوِّي بعضهم بعضًا، قال الله تعالى لنبيّه : هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62، 63].
وبهذه الآصرة يترابطون، عنِ النّعمَانِ بن بَشيرٍ قال: قال رسول الله : ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وَتَراحمِهم وتَعَاطفِهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسهر والحمَّى)) رواه البخاري ومسلم، ويقول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى.
وأخوّة الإسلام أدناها كفُّ الأذى عن المسلمين، فلا يأخذ المسلم مالَ أخيه المسلمِ حرامًا، ولا يسفك دمه، ولا يقع في عرضه، ولا يسبّه، ولا يشتمه، ولا يضرب بشرتَه، ولا يُدخل عليه الضررَ بأيّ شيء، ولا يسخَر منه، ولا يحتقره، ولا يتّبع عوراته، ولا يخونه في مال أو غيره، فيكفُّ شرَّه عن المسلمين، ويبذل لهم من الخير ما يقدر عليه، وفي الحديث عن النبي : ((من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم)) ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تحاسَدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا تَدَابَروا، ولا يَبِع بعضُكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلِمُه، ولا يحقِرُه، ولا يخذُلُه، التَّقوى ها هنا ـ ويشير إلى صَدرِه ثلاثَ مرّات ـ ، بحسبِ امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلمِ حرَامٌ: دمه ومالُه وعِرضُه)) رواه مسلم، وعن أبي بكرة قال: قال النبي في حجّة الوداع يومَ النحر: ((فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومِكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض، ألا فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ قالَ: ((أَتَدرون ما الغِيبةُ؟)) قالوا: اللهُ ورَسوله أعلم، قال: ((ذِكرُك أخاك بما يَكرَه)) ، قيل: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تَقول فقد اغتَبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) رواه مسلم.
وأوسطُ مراتِب أخوّةِ الإسلام أن يحبَّ المسلم لأخيه ما يحبُّ لنفسه، وذلك يسيرٌ على من كان قلبُه سليمًا ونصحُه للمسلمين تامًّا، عن أنس قال: [قال النبيّ :] ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه)) رواه البخاري ومسلم.
وأعلى مراتب أخوّةِ الإسلام الإيثار، وهو أن يؤثرَ حاجةَ أخيه المسلم على حاجته، وقد وصف الله بهذه الصفةِ السلفَ الأوّلَ رضي الله عنهم، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
قال المؤرّخون: إنّ ثلاثةً في معركة اليرموك كانوا في آخر رمقٍ، فجاء قريبٌ لأحدهم بماء، فعرضه عليه فقال: أعطِه من بحذائي فإنّه أحوجُ إليه منّي، فعرضه عليه فقال: أعطه من بجواري فهو أحوجُ إليه منّي، فلمّا جاء إلى الثالث وجده قضى، فرجع بالماء إلى الأوّل والثاني فوجدهما قد ماتا، ولم يشرب أحدٌ منهم قطرةً من الماء إيثارًا من الواحد منهم على نفسه لأخيه.
وهذا الإيثار لا يزال يتكرّر كلّما قوي الإيمان وصحَّ الإسلام في النفوس.
فيا أيّها المسلمون، أين تعاليم الإسلام الراقية العظيمة ممّن يخوض في دماءِ المسلمين ويستحلّ أموالهم وينتهك أعراضهم ويخرجهم من ديارهم ويبطش بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وضعفائهم ويحصد رجالَهم؟! أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففون: 4-6]، والله تبارك وتعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ويقول النبي : ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
ألا عقلاء ينهَون السفهاءَ عن العَبِث بدماء المسلمين في بلدان كثيرة، ويهتكون الأعراضَ ويستبيحون الأموال؟! ألا حياءٌ يَزَعُهم عن شنيع الفعال وقبيح الخصال؟! ألا يعلم هؤلاء الوالغون في الدماء المتجبِّرون على الضعفاء المتجرِّئون على المظالم أنّ الله لا يحبّ الفساد، وأنه لا تخفى عليه خافيةٌ من أعمال العباد، وأنّه سيجزي كلَّ عامِلٍ بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ؟! قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء: 123]. ألا يعتبر الظالمُ بما يراه من العقوبات العاجلة لمن طغى وبغى ونسي الموتَ والبِلى؟! قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هَذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله الملكُ الحقّ المبين، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتَّقوا الله تعالى، فنعمَ الزادُ ليوم المعاد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102، 103].
عن أبي هريرة قال: [قال رسول الله :] ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتّبِعه)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلِم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه)) رواه البخاري ومسلم.
فأدوا حقوقَ ربّكم أيها المسلمون، اعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وقوموا بحقوق إخوانكم المسلمين كما أمركم الله تبارك وتعالى؛ تدخلوا جنّةَ ربكم بسلام.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((مَن صلَّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كمَا باركت على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليما كثيرًا، اللّهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/5038)
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, الفتن, القرآن والتفسير
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
14/1/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأخوة في الدين. 2- أساس الأخوة الإسلامية. 3- الأمر بالاعتصام بحبل الله والنهي عن التفرق. 4- التحذير من كل ما يخدش الأخوة الإيمانية. 5- تحريم الاقتتال بين المسلمين. 6- سبيل الإصلاح. 7- مفاسد التفرق. 8- الإشادة بمبادرة خادم الحرمين لإطفاء نار الفتنة في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واذكُروا أنّه خَلقَكم لعِبادَتِه، فاعبدوه مخلصين له الدّين، فالسّعيد من أخلَص دينَه لله وتابَع رَسولَ الله.
أيّها المسلمون، لقد كان من نِعَم الله العظيمة وآلائه الجميلة نعمةُ الأخوّة في الدين، تلك الأخوّة التي أخبر عنها سبحانه بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. وجعلها رابطةً أساسُها العقيدةُ وعمادها الإيمان؛ إذِ الإيمان قوّة جاذبةٌ تبعث أهلها على التقارُب والتعاطُف والتوادّ، ولا تنافرَ بين قلوب اجتمعت على إيمانٍ بالله وعمرها حبٌّ شديد لله ولرسول الله. إنّه التآلف الذي أشار إليه عزّ اسمه بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]، والذي صوّر رسول الله واقعَه في هذا المثلِ النبويّ المشرق، فقال: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وَتَراحُمِهم وتَعَاطُفِهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسهر والحمَّى)) أخرجه مسلم في الصحيح.
ذلك أن الله تعالى ـ كما قال بعض أهل العلم ـ قد وثّق صلاتِ المسلمين خاصّة بلُحمةٍ أقوى من النسب، هي وحدة العقيدة بما ينشأ عنها من وجدان مشتركٍ وتآلُف وتعاطُفٍ وتعاون وإخاء؛ لأنّ صلةَ الدم أو الجنس قد يمسّها فتور وهي أشدّ ما تكون قرابة، أما وحدة العقيدة فإنها قرابة قويّة دائمةٌ متجسِّدة، يذكرها المسلمون وهم ينطقون بالشهادتين في سرّهم وجهرهم، ويذكرونها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجّهم، ويذكرونها في طاعتهم لله وخضوعهم له واستعانتهم به، ويذكرونها في كلِّ لمحة عين أو خفقة قلب أو تردُّد نفَس.
ولذا جاء في كتاب الله أمرُ الإخوة في الدين بالاعتصام بحبل الله الذي هو دينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمَان القرآنِ عبد الله بن العباس رضي الله عنهما [1] ، أو الجَماعةُ في قولِ عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه [2] ، أو القُرآنُ في قولِ غيرهما من السّلف [3] ؛ لأنّ الاجتماع حولَ كتاب الله يضمن الأساسَ المتين للوحدة، إذ ليس من الممكِن اجتماع القلوب على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ أن تجتمعَ على باطل، بل يجب أن يكونَ اجتماعهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوفَّر لهذا الاجتماعِ دستورُه الذي تلتقِي عندَه القلوب وتنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلمون، على أن يكونَ هذا الاعتصامُ بحبل اللهِ مستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتمع المسلم، شاملاً كلَّ أفراد الأمّة المسلمة، لا يتخلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صوتٌ، كما قال عزّ اسمه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103].
عبادَ الله، إن استشعارَ هذه النعمة المباركة يستوجب كمالَ العناية بأمرها وتمامَ الرعاية لحقوقها وشدّةَ الحرص على صيانتها من كلِّ ما يعكِّر صفوَها أو يوهِّن عراها أو يصدِّع بنيانها مهما صغُر شأنه وقلَّ ضررُه وضعُف أثرُه؛ ولذا جاء نهي المسلمِ عن الإشارة إلى أخيه بحديدةٍ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإنّ الملائكةَ تلعنه حتى ينتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمّه)) ، وجاء أيضًا نهيُه عن الإشارة إلى أخيه بالسلاح ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يُشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار)). ونُهي المسلم أن يروّعَ مسلمًا، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي ، فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه، ففزع الرجل، فقال رسول الله : ((لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلمًا)).
ثم انتقل من ذلك إلى النهي عمّا هو أعظم من ذلك خطرًا وأشدّ ضررًا، وهو الاقتتال بين الإخوة في الدين؛ لأن هذا الاقتتال دليل صارخٌ على التنكّر لهذه الأخوّة والجحود لهذه النعمة، ولأنّه فعلٌ مشابهٌ لفعل الكفار الذين يضرب بعضهم رقاب بعض، فقال عليه الصلاة والسلام في خطبة يوم النحر بعد أن ذكّرهم بحرمة ذلك اليوم وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام، قال: ((فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدِكم هذا، حتى تلقوا ربّكم، ألا هل بلّغتُ؟ اللهمّ اشهد، ألا فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده، إنها لوصيّتُه لأمّته: ((لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كلُّ المسلم على المسلمِ حرَامٌ: دمه ومالُه وعِرضُه)) الحديث.
ولما كانت بواعثُ التنازع بين المؤمنين كثيرةً يصعب وقفها ومنعُ تأثيرها بصفةٍ دائمة فقد شرع الله سبيلَ الوقاية التي تحجز الإخوةَ في الدين عن التنكّر لهذه الأخوّة، وتدرأ عنهم سوءَ العاقبة المترتّبة على ذلك، فأمرهم بالاحتكام إلى كتاب ربهم وسنّة نبيّهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنّه الطريقُ الذي يبلغون به الآمالَ ويدركون به المُنى ويضمنون به العدالة، فتطمئنّ له القلوب وتذعن له النفوس، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59].
فإذا حدث بعد ذلك ما يُحذَر منه فاحتدم القتالُ بين المؤمنين فإنّ الله لم يتركهم يفني بعضهم بعضًا، بل بيّن لهم أيَّ مسلكٍ يسلكون وفي أيِّ الدروب يسيرون لوقف الاحتراب وإطفاء نار الفتنة وإعادةِ السلام، فقال سبحانه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعلكم من بعد العداوة إخوانًا، واحرصوا على القيام بحقوق الأخوّة في الدين، وحذارِ من سلوك كلِّ سبيل للفتنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيمُ.
[1] انظر: زاد المسير (1/433).
[2] جامع البيان للطبري (4/30).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قالَ بعضُ أهلِ العِلم تعليقًا على قول الله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الآية، قال: "إنّ الله يبغِّض إلَينا التفرّقَ والاختلافَ لأنّه أوّلُ الوَهنِ وَبابُ الفَشَل والضَّياع، والفاشِلُ لاَ وَزنَ له في هَذِه الدنيا ولا مكانةَ له في الآخرة، بل إنّه سُبحانه يحذِّرنا من السّيرِ على نهجِ المتفرِّقين أوِ الاقتداءِ بهم لأنّه أعدَّ لهم أسوأَ العقابِ عندَه جَزاءَ تفرُّقِهِم، فقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. فإذا مَضَينا في طَريق الفُرقةِ وأضَعنا أهدافَ الأمَّة وتقطَّعنا فِرَقًا وأَحزابًا وتمزَّقنا رُؤوسًا وأذنابًا فَإنّ أوَّل ما فَرضَه ربُّنا علينا هو براءَةُ رسول الله منَّا وانفِصالُه عنّا؛ لأنَّ الأمةَ التي دعا إليها وأرادَها لحملِ دعوتِه لا تعرِف الفرقةَ، إنما هِي أمّةٌ واحدة؛ ربُّها واحِد، وكتابها واحدٌ، وصفّها واحِد، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]" انتهى كلامه.
ألا وإنّ كلَّ سعيٍ لرأب الصّدع وجمع الشمل ووحدة الصفّ وإهالة التراب على بوادر الفتن هو عملٌ صالحٌ مبرور إن شاء الله تعالى، يستحقّ الدعاء والثناءَ. وإنّ من ذلك ما صدر عن وليِّ الأمر في هذه البلاد المباركة من نداء ومبادرةٍ طيّبة نحوَ الإخوة في فلسطين لإطفاء نار الفتنة بينهم وإعادة السلام إلى ربوعهم، فنسأل الرحمن الرحيم ربَّ العرش الكريم أن يباركَ في هذه المبادرة، وأن يتقبّل هذا العملَ، وأن يجعلَه سببًا لكلِّ خير لحقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم ووحدة صفِّهم ودرء الأخطار عن ديارهم.
فاتقوا الله عباد الله، وصلّوا وسلِّموا على خاتم رسُل الله محمد بن عبد الله، فقد أمِرتم بذلك في كتاب الله حيث قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عَبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الأربعة...
(1/5039)
العام الهجري
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله الحميد
الرياض
26/12/1404
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية نبوية عظيمة. 2- معاناة الصحابة رضي الله عنهم في مكة. 3- هجرة النبي إلى المدينة. 4- قصة التأريخ الهجري. 5- الأمر بمخالفة اليهود والنصارى والمشركين. 6- ترك المسلمين التقويم الهجري واتباعهم التقويم الغربي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، ففي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن أمِّر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
فالرسول هنا يأمرنا ويحثّنا على التمسّك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده، وهم أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعلي، ونحن في هذا الأسبوع نستقبل عامًا إسلاميًا جديدًا، ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبة عظيمة في الإسلام، ألا وهي هجرة النبيّ التي ابتدأ بها تكوين الأمّة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون بعد تلك الفترة التي عاشها الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم في مكة، فعانوا فيها وقاسوا أشد أنواع الاضطهاد والبلاء والامتحان؛ من ضرب وتعذيب بصنوف العذاب وجوع وسخرية واستهزاء.
فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه ـ كما في صحيح البخاري وغيره ـ يأتي للرسول في ظل الكعبة فيقول: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! ـ وهذا بسبب ما يلاقونه من صنوف العذاب ـ، فيقول له الرسول : ((إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فينصف نصفين، ويؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه)) أو كما قال.
وقد كان بلال رضي الله عنه يوضع على صدره الحجرُ الكبير في الرمضاء في شدة الحرّ، ويقال له: اكفر بمحمّد، فما يزيد رضي الله عنه على أن يقول: أحد أحد.
وحاصرت قريش رسول الله وبني هاشم في الشّعب مدة طويلة، أصابهم في أثنائها مجاعة شديدة، أكلوا فيها ما لا يمكن أكله، وهم مع ذلك صابرون على ما من أجله امتحنوا، إلى أن جاء نصر الله وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة للمدينة، وقريش تحاول منعهم من الهجرة، حتى إنها همّت بأمر عظيم ومكيدة خطيرة، ألا وهي أن يجتمع من كل قبيلة شاب من الشباب فيهجموا على رسول الله في بيته فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، ولا يدرى من قتله، فتعجز بنو هاشم عن مقاتلة تلك القبائل جميعها؛ كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، فأطلع الله نبيه على الذي أرادت قريش، فبات عليّ رضي الله عنه على فراش رسول الله ، وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا يحسبونه النبيّ ، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًا ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟! قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار فرأوا على بابه نسجَ العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ومعه أبو بكر ثلاث ليال وقريش جادّة في البحث عنهم، ويمرون بالغار فيصرفهم الله عز وجل عن نبيّه وصاحبه رضي الله عنه، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له : ((لا تحزن إنّ الله معنا، يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
ثم بعدها هاجر إلى المدينة تلك الهجرة التي أصبحت فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بها أعزةً بعد الذلة، وأقوياء بعد الضعف، حتى أعلا الله كلمته ونصر عبده وجنده.
أيها الإخوة، إن التاريخ السنوي لم يكن معمولاً به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فيقال: إن بعضهم قال: أرِّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرّخوا من مولد النبي ، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره، فقال عمر: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرِّخوا بها، فأرَّخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك. ثم تشاوروا من أيِّ شهر يكون ابتداء السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي ذا الحجة الذي يؤدّي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرّم. ووجب على المسلمين الإذعانُ لهذا الأمر لما مرّ معنا من قوله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)).
جعلني الله وإياكم من المتمسّكين بشرعه، المتَّبعين لسنة نبيِّه وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، فقد أخبر الرسول بأن أمّته ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله أولئك. ومن تأمّل نصوص السنة يلحظ أن النبي كان يكره الشيء الذي فيه تشبّه بأعداء الله ويأمر بمخالفته، حتى إن اليهود لحظوا هذا الأمر فقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئًا إلا خَالَفَنَا فيه، وكان كثيرًا ما يقول: ((خالفوا اليهود)) ، ((خالفوا المشركين)) ، ((لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)). وإنه لمن المؤسف حقًا أن يعدل أكثر المسلمين اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمتّ لدينهم بصلة، ولئن كان لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن نسيان تاريخهم الإسلاميّ الهجري، فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم الاستعمار.
أيها المسلمون، لقد أخبر الله سبحانه أن عدّةَ الشهور اثنا عشر شهرًا، فقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، وجعل الطريق لمعرفة هذه الشهور رؤية الهلال، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ؛ مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص، لا فرق بين عرب وعجم؛ ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد، يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رئِي الهلال في المغرب بعد غروب الشمس ولو بلحظة يسيرة فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها؛ لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس، وأول الشهر هو أول الوقت، وهو الذي عليه مدار الأحكام الشرعية؛ بحيث لو أن طفلاً ولد قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان لأوجبنا على وليه صدقة الفطر عنه إن كان الولي قادرًا، ولو أنه ولد بعد غروبها من ذلك اليوم بدقيقة واحدة لما أوجبنا عليه الصدقة. وهكذا لو أن شخصًا أحرم بالعمرة قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان وبقي في مكة لم يجب عليه الهديُ إذا أحرم بالحج؛ لأنه أتى بالعمرة في غير أشهر الحج، ولو أنه أحرم بعد غروب الشمس من ذلك اليوم بدقيقة واحدة وبقي في مكة لأوجبنا عليه الهدي لأنه أتى بالعمرة في أشهر الحج؛ بعد رؤية هلال شوال.
من هذه القاعدة ـ أيها الإخوة ـ نعلم بأن التبعية لأعداء الله في هذا العصر قد شملت كثيرًا من أمور حياتنا، ومنها التوقيت الإسلامي سواء الهجري أو الغروبي، وما ذاك إلا لأجل الضعف والخوّر الذي خيَّم على نفوس المسلمين في هذه الأزمان؛ بحيث أصبحوا مقودين بعد أن كانوا قادة، وأذلة بعد أن كانوا أعِزة، ومَغْزُوِّين بعد أن كانوا غازين، كل ذلك بسبب ما اقترفته أيديهم من الذنوب، فنسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن ترفع عنا هذا البلاء، وأن تجمع المسلمين على كلمة الحق يا من إليه المشتكى.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، نسألك أن تجعل عامنا هذا وما بعده من أعوامٍ أعوامَ أمن وطمأنينة وعلم نافع وعمل صالح به رشاد الأمة وذلُّ الأعداء في جميع البلاد يا أرحم الراحمين...
(1/5040)
الزهد في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
سعد بن عبد الله الحميد
الرياض
28/3/1410
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زهد الصحابة رضي الله عنهم. 2- افتتان المسلمين في هذا العصر بالدنيا. 3- آثار استيلاء حب الدنيا على القلوب. 4- حقيقة الحياة الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط ـ أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا ـ، قد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وأخرج البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها.
عباد الله، تأملوا حالنا وما بسِط علينا من الدنيا وفتح، كم من أصناف الطعام نأكل! وكم يعرض أمامنا من أنواع الفواكه التي تجلب من آخر بلاد الدنيا ومنها ما لا نعرفه! وكم من فاخر الثياب نلبس! وكم من المراكب الفخمة نركب! وكم من القصور المشيَّدة نسكن! وكم من الفرش الوثيرة نرقد عليها! وكم من المقاعد الناعمة والأرائك الوثيرة نجلس عليها ونتكئ! وكم من الأموال نرصد! ثم لننظر فيما فقدمنا للآخرة.
إن ما بسط على هؤلاء الصحابة الذين سمعتم الحديث عنهم قليل جدًا بالنسبة إلى ما بسط علينا، وما قدموه للآخرة من الأعمال الصالحة ليس عندنا منه إلا أقلَّ من القليل إن كان عندنا منه شيء، ومع هذا خافوا هذا الخوف أن تكونَ حسناتهم عجِّلت لهم، فبكى بعضهم حتى ترك الطعام مع شدّة حاجته إليه بعد الصيام، فجمعوا رضي الله عنهم بين إحسان العمل والخوف من الله ومحاسبة النفس، ونحن جمعنا بين الإساءة وعدم الخوف من الله، نأكل من نعَم الله ونتمتع بها ونبارزه سبحانه بالمعاصي، وكأننا لم نسمع قوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ.
كم من الناس نراهم يتراكضون لطلب الدنيا مسرعين مخافة أن تفوتهم، ونراهم يتأَخّرون عن حضور المساجد لأداء الصلوات الخمس التي هي عمود الدين، ونراهم يجلسون في الشوارع والدّكاكين الساعات الطويلة، وقد يقاسون شدّة الحر لطلب الدنيا، بينما لا نراهم يصبرون على الجلوس دقائق معدودةً في المسجد لأداء الصلاة أو تلاوة القرآن. وكم نرى من شباب المسلمين من يتسابقون إلى ملاعب الكرة ويدفعون الأموال للحصول على تذاكر للدخول، ثم يحتشدون فيها ألوفًا مؤلّفة، وربما قضوا الساعات الطويلة واقفين على أقدامهم شاخصة أبصارهم ناصبة أبدانهم مبحوحة أصواتهم، يتابعون اللعب ولمن تكون الغلبة، يتحملون كل هذه المتاعب في سبيل اللهو والغفلة، وإذا دعوا إلى حضور الصلوات في المساجد بـ"حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح" أعرضوا عن داعي الفلاح، وكأن المؤذن يدعوهم إلى سجنٍ أو عقوبة، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ.
إن كثيرًا من الناس أصبح يصبر على تحمّل المشاقِّ في طلب الدنيا ولا يصبر على أدنى مشقّة في طاعة الله، ونراهم يغضبون إذا انتُقص شيء من دنياهم ولا يغضبون إذا انتُقص شيء من دينهم، وكثير من الناس لشدة حبه للدنيا لا يقنع بما أباح الله له من المكاسِب، فتجِده يتعامل بالمعاملات المحرّمة والمكاسب الخبيثة؛ من الربا والرشوة والغش في البيع والشراء، بل يفجر في خصومته، أو يقيم شهادة الزور ليستولي على مال غيره بغير حق، وهو يسمع قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء: 29]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77].
لقد استولى حبّ الدنيا على القلوب فآثرتها على الآخرة، فبعضهم شغلته الدنيا عن الصلاة، وإذا صلى فقد لا يصليها مع الجماعة، أو قد يؤخرها عن وقتها، وحتى في أثناء صلاته تجد قلبه منصرفًا عن صلاته إلى الدنيا، يفكر فيها ويعد أمواله ويتفقد حساباته ويتذكر ما نسي من معاملاته، وكثير من الناس حملهم حب الدنيا وإيثارها على الآخرة على البخل والشح بالنفقات الواجبة والمستحبة حتى بخل بالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.
عباد الله، حلال هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب، فكم من ذهاب بلا إياب، وكم من حبيب قد فارق الأحباب وترك الأهل والأصحاب، إنها رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة لا تفتر، يذهب فيها أفراد وجماعات، وآباء وأمهات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرار وفجار، كلهم سيودِّعون هذه الحياة، وينتقلون إلى الآخرة، ويُودَعون في قبور مظلمة، ينتظرون البعث والنشور.
فيا عباد الله، كيف آثرنا هذه الحياة على ما عند الله؟! كيف شغلتنا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله؟!
أيها الإنسان، مهما عشت وجمعت فإنك ميت راحل، وما في يديك زائل، ولا يبقى لك إلا عملُك، إنك خرجت إلى الدنيا من بطن أمك ليس معك شيء، وستخرج منها إلى القبر ليس معك منها إلا ما عملت، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94]. إنك مررت بالدنيا في طريقك إلى الآخرة، وأتيحت لك الفرصة لتأخذ منها زادًا لسفرك، فأنت بمنزلة المسافر الذي هبط إلى السوق ليأخذ منه زادًا يبلغه في سفره ومسيره، فليس لك من هذه الدنيا إلا ما تزوّدت به للآخرة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
جعلني الله وإياكم ممن إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا أذنب استغفر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5041)
الدولة الصفوية: نشأتها عقيدتها جرائمها
أديان وفرق ومذاهب, سيرة وتاريخ
فرق منتسبة, معارك وأحداث
إبراهيم بن محمد الحقيل
الرياض
23/12/1427
جامع المقيل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحق واحد والباطل متعدِّد. 2- حِفظ الله تعالى لدين الإسلام. 3- دور عبد الله بن سبأ في الزيغ والإضلال. 4- من فرق الشيعة. 5- نشأة الدولة الصفوية وبيان عقائدها. 6- جرائم الصفويّين القدامى. 7- السيرة السوداء لمؤسِّس الدولة الصفويّة. 8- جرائم الصفويين الجدد. 9- التحذير من الغفلة والاغترار بالشعارات البراقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلِصوا له دينكم، وأحسِنوا عمَلكم؛ فلا حاجةَ لله تعالى عندكم، إنما خلقكم ليبتَليَكم، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 1، 2].
أيها الناس، دين الله تعالى واحد، وهو الحقُّ والنور والهدى، والصراط المستقيم الذي يوصِل إلى رضوانه والجنة، وأديان الشيطان كثيرة، وهي الباطل والضّلال والظلمات، وهي ما عدا الحقّ الذي فرضه الله تعالى على عباده، وبلَّغته رسله عليهم السلام؛ ولذا جاء صراط الله تعالى في القرآن مفردًا، كما جاء النور مفردًا، وجاءت الظلمات بصيغة الجمع، كما جمعت سبُل الباطل، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خطَّ رسول الله خطًّا بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما)) ، قال: ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)) ، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] رواه النسائي وأحمد وصححه الحاكم.
وهكذا طوال تاريخ البشرية كانت الرسل عليهم السلام يهدون الناسَ إلى سبيل الله تعالى الذي ارتضاه لهم، وكانت الشياطينُ تَحرِفهم عن ذلك السبيل إلى سبل أخرى تكون سببًا في ضلالهم وانحرافهم، ولا تكاد تحصَى الديانات والأفكار الباطلة التي دان ولا يزال يدين بها أكثر البشر.
ولما بعث الله تعالى موسى عليه السلام دانَت بنو إسرائيل بدين الحق، ثم غيَّروا الدينَ بعده، وحرّفوا التوراة، فبعث الله تعالى عيسى عليه السلام مصدِّقا لدين موسى عليه السلام، ومبشِّرًا ببعثةِ محمّد ، فدان الحواريّون وأتباعُهم بدين الحق، حتى أدخل شاؤول اليهوديّ الشركَ في عقيدة النصارى، ونقلهم من التوحيد والهدى إلى التثليث والضلال، فبعث الله تعالى محمّدًا عليه الصلاة والسلام مصدِّقا لرسالات مَن قبلَه من الرسل عليهم السلام، وخاتمًا للنبوة فلا نبيَّ بعده، وقضى الله تعالى أن يبقَى دينه إلى آخر الزمان، وأمّا أمته فمنهم من يُهدَى لدينه الذي ارتضاه الله تعالى، ومنهم من يضلّ إلى أديان أخرى.
ومن دان بدينه عليه الصلاة والسلام وهو دين الإسلام مِنهم مَن ثبت على الدّين الحق، ملتزما بالكتاب والسنة، مهتديًا بهدي السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم، ومنهم من انحرف إلى بدعةِ مكفِّرة أو مفسِّقة، فأحدث في الإسلام ما ليس منه، وهؤلاء يسمَّون أهل القبلة.
إنَّ الله سبحانه لما أهبَط الأبوين عليهما السلام من الجنة وكلّفهما وذريَّتهما بالدين أقسم إبليس بعزة الله تعالى ليصرفنَّ ذرية آدم عن دينه الذي ارتضاه الله تعالى، ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام خاتمَ الرسل قضى الله عز وجل ببقاءِ دينه إلى آخر الزمان وسلامته من التحريف والتبديل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وأما أفراد الأمّة فليسوا معصومين من الحيدَة عن دين محمد ، أو إدخال شيء فيه ليس منه، أو إخراج ما هو منه، فيَضِلّ بسبب ذلك من يَضِلّ، ويبقى على الدّين الحق من عصمه الله تعالى من الضلال، وهكذا الحال إلى آخر الزمان.
ومحاولات تحريف الإسلام وإدخال عقائد وأفكار فيه ليست منه بدأت مبكِّرة في آخر الخلافةِ الراشدة، وأراد عبد الله بن سبأ اليهودي المنافِق أن يقومَ في الإسلام بذات الدّور الذي قام به سلفه شاؤول في النصرانية، فأحدث ابن سبأ وأتباعُه الخروجَ على عثمان رضي الله عنه، واستتبَعوا ذلك بالغلوّ في آل البيت، وزعموا التشيّعَ لهم، فأظهروا محبّتَهم، ثم غالوا في عليّ رضي الله عنه، وادّعوا العصمة له، ثم زعموا النبوةَ فيه، حتى وصل بهم غلوُّهم إلى خلع صفاتِ الربوبية عليه وعلى زوجه وولده رضي الله عنهم، مع طعنهم في بقية الصحابة رضي الله عنهم إلاّ عددًا قليلا منهم، وسبِّهم للخلفاء الثلاثة الذين رضي الله عنهم ومات رسول الله وهو راض عنهم.
ثم لما بذر هؤلاء المنافقون بذرةَ الخلاف بين المسلمين وسقوها بالأكاذيب والشائعات وغذَّوها بالضغائن والأحقاد وأوقعوا الخصومة بينهم كانوا هم أوّلَ من تخلّى عن عليّ وابنَيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، وخانوهم أعظمَ خيانة، حتى قتِل الحسين رضي الله عنه ظلمًا وعدوانا بسبب خيانةِ من زعموا التشيّعَ له، وجعل أولئك الخونةُ وأتباعهم يومَ مقتله يومَ مناحة ولطمٍ وبكاء وإحياء للضغائن وسبٍّ لأولياء الله تعالى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ثم انشطروا في ضلالهم إلى مذاهبَ عدّة وفرق كثيرة، يلعن بعضها بعضا، وتزعم كلُّ فرقةٍ منها أن الحقَّ معها دون غيرها، جمعتهم بدعة الغلوّ في آل البيت، ثم فرقتهم تلك البدعة، ومنهم من أخرجتهم بدعتهم من الإسلام إلى الكفر، ومنهم دون ذلك، ويكون قربهم من الإسلام وبعدهم عنه بحسب ما تلبَّسوا به من البدعة.
ومن أكبر فرَقِهم الإسماعيليّة والإماميّة الإثنا عشرية، وحكومة بني عبيد الباطنية التي قامت في الشام ومصر في القرن الرابع كانت من الإسماعيلية، وبعد سقوطها على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى لم يقم لأتباعِ المذهب الباطني دولةٌ إلا ما كان للبويهيِّين ودولتهم زيدية. ثم الدولة الصفويّة للإثنا عشرية في القرن العاشر؛ وهي أول دولة شيعيّة إمامية، شيّعت إيران بالقوّة، فنقلت نسبتهم من 10 في المائة إلى 65 في المائة.
وقد سعى ابن العلقميّ الرافضي في القرن السابع إلى بناء دولةٍ لهم في بغداد على أنقاض الدولة العباسية بعد خيانته لها، ولم يتمّ له ذلك، فمات كمَدًا بحمد الله تعالى. وتعاقبت الدول المغولية وغيرها على بلاد العراق وفارس، وكانت دولاً سنّيّة فيها جهلٌ وتصوُّف، آخرها دولة للتركمان، زالت في أوائل القرن العاشر على يد إسماعيل بن حيدر الصفويّ، نسبة إلى جدّه صفيّ الدين الأردبيلي الذي كان واعظًا صوفيّا عاش في القرن السابع، وما زال أبناؤه وأحفاده يميلون للتشيّع حتى اعتنقوا المذهبَ الإماميّ الاثنا عشريّ.
فلما آل الأمر إلى حفيده الشاه إسماعيل مؤسِّس الدولة الصفويّة حارب بالتركمان الصوفيّة والمتشيّعين دولتهم السنية، فقضى عليها، فكان أوّل حاكم للدولة الصفوية، وذلك عام سبعة وتسعمائة للهجرة، واتخذ مدينة تبريز الإيرانية عاصمةً لدولته، وأوّل ما حكَمَ أعلن أن مذهب دولته الإمامية الإثنا عشريّة، وأنه سيعمِّمه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصِح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: "إنّني لا أخاف من أحد، فإن تنطق الرعيّة بحرف واحد فسوف أمتشق الحسام ولن أترك أحدًا على قيد الحياة". ثم صكّ عملة للبلاد كاتبًا عليها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليّ وليّ الله"، ثم كتب اسمه، وأمر الخطباء في المساجد بسبّ الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم، مع المبالغة في تقديس الأئمة الاثني عشر. وقد عانى أهل السنة في إيران من ظلمه معاناةً هائلة، وأجبِروا على اعتناق المذهب الإماميّ بعد أن قتِل منهم مليون إنسان سنيّ في بضع سنوات بشهادة مؤرّخٍ شيعي.
وظلّ يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتِها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة، وتوجّه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يسوم أهلَ السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقتل كلَّ من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرّد أنهم من نسبه. وقد أرّخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثةِ حتى قال ابن شدقم الرافضي يحكي سيرته: "فتح بغداد، وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشدِّ أنواع العذاب، حتى نبش موتاهم من القبور".
وقد فرّ كثير من سنّة بغداد إلى الشام ومصر، وحكَوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويّون ببغداد وأهلها، ووصلت أخبار المذابح العظيمة لأهل السنة إلى الدولة العثمانية، فاجتمع السلطان العثمانيّ سليم الأول في عام عشرين وتسعمائة برجال دولته وعلمائِها، وقرّروا أن الدّولة الصفوية تمثّل خطرًا على العالم الإسلامي، وأن على السلطانِ جهادَها وإيقاف ظلمها وتنكيلها بالمسلمين، فحاول السلطان مفاوضةَ الصفويّ إسماعيل، فلما لم يستجب له سار إليه بجيش يقوده السلطان بنفسه قوامُه مائة ألف، وجيش الصفويّ مائة ألف أيضا، فالتقى الجيشان في صحراء جالديران، فهزمه السلطان هزيمةً نكراء، وقتل أكثر جنده، فقضى على حكمه في العراق بعد أن حكمها بالحديد والنار ستَّ سنوات، فما كان من الصفويّ الخبيث وقد أحسَّ بالضعف إلا أن كاتب قائد البرتغال الصليبيّين يطلب نجدتَه على أن يعطيَهم مضيقَ هرمز وفلسطين، فكتب له قائد الصليبيّين رسالة قال له فيها: "إني أقدّر لك احترامك للمسيحيّين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجندَ والأسلحة لاستخدامها ضدّ قلاع الترك في الهند، وإذا أردتَ أن تنقضَّ على بلاد العرب أو تهاجِم مكّة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر، أمام جدّة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي، وسأنفّذ له كل ما يريد".
ولكن الله تعالى خذلهم؛ إذ استطاع العثمانيون إفشال مخطَّطهم، وظلوا يتتبَّعونهم سلطانا بعد سلطان حتى بعد هلاك الصفويّ إسماعيل وتولِّي أبنائه من بعده، حتى قضى على دولتهم نهائيا بعد قرنين ونصف من الظلم والعسف.
هذا ملخَّص ما يتعلق بدولتهم، وأما مؤسِّسُها الصفويّ إسماعيل فإنه كان يجمع بين التعصّب المذهبي والغلو والتكفير وبين الدمويّة والتنكيل، وقد نقَل عنه أحد أقربائه أنه أكثر القتلَ حتى قتل ملك شروان، وأمر أن يوضع في قدرٍ كبير ويطبخ، وأمر جندَه بأكله، ففعلوا، وكان لا يتوجّه لبلاد إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب. وكان من دمويَّته أنه ينبش قبور العلماء والمشايخ السنّة ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميرًا من الأمراء أباح زوجتَه وأمواله لشخص لمن يختار.
ويكفي دليلا على تعصّبه وهمجيّته أنه دعا أمَّه للتشيع وكانت سنيّة حنفيّة، فأبت ذلك، فأمر بقتلها، فقتلت رحمها الله تعالى. وبلغ من طغيانه وجبروته أنه كان يأمر جندَه بالسجود فيسجدون له.
وذكر أحد كبار مذهبهم ودولتهم في هذا العصر أنَّ إسماعيل الصفوي كان ممالئا للإنجليز على الدولة العثمانية، وكان يعاقر الخمرةَ مع قادتهم ويقول لهم: "إنني أفضِّل حِذاء مسيحيّ على أكبر رجالات الدولة العثمانية".
وأكثر المراسم الشاذّة والطقوس الغريبة والممارسات المقزِّزة في المناسبات الدينية لدى المذهب الإثنا عشريّ إنما هي مِن إحداث هذا الخبيث الضالّ، وظلّ أتباعه يمارسونها ويتناقلونها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، ولا يتَّسع هذا المقام المختصر لعرض ما أحدثه لهم من ضلالٍ على ضلالهم؛ حتى إنَّ عقلاءَ مذهبهم لا يرضَون كثيرا من طقوسِهم، ويرونَ أنها تسيء لمذهبهم في هذا العصر.
ونحمد الله تعالى الذي عافانا مما ابتلاهم به، ونشكره على ما هدانا من الدين الحق الذي هو الرحمة والعدل، ونسأله سبحانه الثباتَ على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، ولا أمنَ إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله النبيّ الأمين، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراقبوه، والزموا طاعتَه ولا تعصوه، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور: 52].
أيها الناس، تتلاحق الابتلاءات على أمّة الإسلام، وتتوالى أحزانُها، وتكثر مصائبها، فمن فلسطين إلى أفغانستان، ومن كشمير إلى الشيشان، ومن الفلبِّين إلى الصومال، ومن هنا وهناك إلى العراق، وما أدراك ما العراق؟! تلك البلاد التي دخلت حظيرةَ الإسلام من فجر الإسلام، وكانت حاضرةَ الخلافة الإسلامية خمسة قرون وزيادة، تلك البلاد التي خرَّجت أبا حنيفة النعمان وإمام أهل السنة والجماعة أحمدَ بن حنبل في كوكبةٍ من العلماء الربانيّين والقادة والمجاهدين، قد احتلَّها في هذا العصر عبّاد المسيح عليه السلام، ثم سلّموها للمتعصِّبة من عبّادِ الحسين رضي الله عنه، وإنّه لعارٌ ـ خُطَّ في تاريخ تلك الحقبةِ ـ يَلحَق كلَّ مسلم عاصر تلك الجريمة النكراء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله مصابَ المسلمين في هذه الداهية العظيمة.
لقَد كُلِمَتْ أمّة الإسلام في أكثرَ من مكان، ومشاريط الاستعمار الصهيوني تعمل في تمزيق الأمّة وتقسيم الدول، والصفويّون الحاقدون الطامحون يعيثون فسادًا في بلاد الخلافة العباسيّة، وتطلعاتهم تتعداها إلى غيرها، وأتباعهم في الدول الأخرى المجاورة للعراق يستعجِلون استباحةَ دولهم كما استبيحَت مدينة المنصور والرشيد وأبي حنيفة وابن حنبل.
وكلّما بدا أملٌ في عافيةِ الأمة أصابتها داهيةٌ ظنّ معها كثير من الناس أن لا عافية ترجَى ولا نصرَ يؤمَّل، والمؤمن لا ييأَس من روح الله تعالى، ويثق بوعده، ويعلَم أنه كلما ازداد البلاء اقترب الفرج، وإذا اشتدت الظلمة انبلج الفجر، والعسر يعقبه اليسر، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6].
وأعظم مصيبة أصيب بها المسلمون في هذا العصر ـ بعد تفريطهم في دينهم وكثرة معاصيهم ـ ركونُهم إلى أعداء الله تعالى والوثوق بهم وجعل مصيرهم بأيديهم والاغترار بالشعارات المضلِّلة التي خدَّرت المسلمين وأقعدتهم عن إعدادِ العدّة لتلك الأيام العصيبة، كالشعارات الإنسانية وحوارات الأديان وتقارب المذاهب الإسلامية والوعود الكاذبة والأماني الخادعة بانتهاء عصورِ الحروب والاعتداءات والنزاعات الهمجية والمحافظة على السِّلم العالمي والوفاق البشري وحقوق الجوار؛ حتى غلّوا أيدي المسلمين عن التصنيع والتسليح والتجنيد، وحالوا بينهم وبين أسبابِ القوّة، في الوقت الذي يعمَل فيه الإنجيليّون والصهاينةُ على تحقيق تنبُّؤاتهم الخرافيّة، ويسعى الصفويّون الباطنيّون لإعادة أمجاد الدولة الفارسيّة وامتلاك القنبلة النوويّة، وما إن طابت لهم كعكَة العراق فإنّ أوّل عمل قاموا به إحراق سجلاّت الدولة، في مخطَّط شيطانيّ رهيب لتغيير التركيبَة السّكّانية والعزم على إفراغ العراق من السنّة بالقتل والتهجير، ولإحلال الباطنية مكانهم، ثم عملوا بهذا المخطّط لما تمكَّنوا، وأحيَوا ما فعله أجدادُهم الصفويّون من قبلُ بأهل السنة في إيران، ويعِدون بالمزيد من المذابح والتقتيل الطائفي، وقد أعلن المتنفِّذون منهم في العراق عن مشروعهم الطائفيّ البغيض، حين ظهر كبيرٌ من شياطينهم على فضائية مِن فضائياتهم يقول: "إنّ الشيعة ظلِموا أربعة عشر قرنًا، وآن لهم أن يأخذوا حقَّهم"، مذكِّرا بمقولة خُمَينِيِّهم الهالك حين قال: "السنة حكموا أربعةَ عشر قرنًا، وآن للشيعة أن يحكموا العالم الإسلاميّ"، وهكذا يغيَّر التاريخ على الأرض، ويفرَض تاريخ جديد، يخطّه الصفويّون الجدد بدماء المسلمين في العراق، كما غيّر تاريخ إيران بمذابح الصفويّين القدماء، ويرضى بذلك من يرضى، ويأباه من يأبى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والعجب كل العجب ممن يدّعون الثقافةَ والمعرفة ويُصدَّرون في الإعلام والصحافة على أنهم مفكِّرو الأمة ومحلِّلوها وهم لا يرونَ أبعدَ من أنوفهم، العجب منهم حين كانوا يخدِّرون الأمة ويتَّهمون كلَّ ناصحٍ ومحذِّر من الخطر الباطنيّ بأنه عدوّ للوحدة الوطنية، ثم إذا أَتباع المذاهب الباطنية يصفعونهم في لبنان والعراق، ويستأسدون في الدول الأخرى، محتَمين بالدولة الفارسية التي بلَغ مِن تعصُّب حكامها للفرس إلى حدِّ اشتراط دستورهم أن يكون حاكِم جمهوريّتهم فارسيّا، ولا يكفي أن يكون متمَذهِبًا بمذهبِهم الباطني، بل إنَّ كلَّ المرجعيّات الإثنا عشرية في العالم لا بد أن تخضع لرأسٍ فارسيّ أو يكون من أصول فارسية، وما أشدَّ حمقَ من يجنِّدون أنفسهم لهم من غير الفرس وهم يرون عصبيَّتهم لفارسيَّتِهم.
ولما أسقِطَ في أيدي من يدّعون أنهم مفكِّرون ومثقَّفون إزاءَ ما يرونه من طائفية بغيضة عند هؤلاء الفرس الباطنيّين وأتباعهم لم يجدوا مِشجَبًا يعلِّقون عليه فشل تحليلاتهم وخطل رأيهم وضعف عقولهم إلا جلد العرب من جديد وادِّعاء عصبيّتهم لعروبتهم وقبائِلهم والزعم بأنّ دم كُليب لا يزال ساخنًا وأن قميص عثمان ظلّ مرفوعا، في تعامٍ عن الواقع وتزوير للحقائق وتضليل للعامة. وأين دم كليب وقميص عثمان من دول إسلامية سنية قامت في الشرق والغرب وعلى مدى أربعة عشر قرنا، نعمت فيها بسلام كلِّ الطوائف والمذاهب، بل حتى الكفار الأصليّون من يهود ونصارى وغيرهم لم يجدوا ظلما ولا بخسا؟! وإن وجِد حاكم ظالم مستبدّ طال ظلمه الجميعَ، ولم يميّز في ظلمِه على أساس طائفيّ مذهبي أو عِرقي أو ديني، وكم في دول أهلِ الإسلام في هذا العصر من طوائف متنوعة ومذاهب مختلفة وأقليات متباينة، فهل فعلت بهم دوَلهم السنية ما يفعله الصفويّون الجدُد بأهل السنة في العراق؟! وماذا سيفعل الصفويّون بعموم المسلمين لو حكَموا العالم الإسلاميّ كما يطمحون ويؤمّلون؟! أخزاهم الله تعالى وخذَلهم، وردَّ كيدهم عليهم، وحفِظ المسلمين من شرِّهم ومكرهم.
ولعل في هذه النوازل العظيمة والوقائع المتسارعة عبرةً لأولي الأمر من المسلمين، حتى يعرفوا أعداءهم من أصدقائهم، ويميّزوا بين الناصحين لهم من أهل الخيانة والغشّ والتدليس. ولعل فيها موعظةً لعموم المسلمين حتى يصلحوا ما بينهم وبين الله تعالى، ويتوبوا من ذنوبهم، ويلجؤوا إلى ربهم، فما أحوَجهم إلى عون الله تعالى ومددِه وعافيته وحفظه وتسديده وتثبيته، في وقت وقعوا فيه بين فكَّي المشاريع الصهيونية الإنجيلية والطموحات الصفويّة الفارسيّة. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء: 84].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...
(1/5042)
التوكل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
4/1/1424
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوكل وعظم مكانته. 2- معنى التوكل على الله. 3- الأخذ بالأسباب لا ينافي كمال التوكل. 4- صور لضعف التوكل عند كثير من الناس. 5- قصة في التوكل على الله. 6- أسباب تأخر نصر الله للمؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن التوكل عبادة قلبية من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، وهو من أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلِّها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإن العبد إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله؛ ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام؛ كما في قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23]، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]، فالتوكل عبادة يجب صرفها لله تعالى، ومن صرف شيئًا منها لغير الله فقد وقع في الشرك إما الشرك الأصغر وإما الأكبر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكّل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة. ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلّق التوكل وكثرة حوائج العاملين، وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم".
قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب"، ومعنى ذلك: أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات.
ومعنى التوكل على الله تعالى هو الاعتماد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه مع فعل الأسباب المشروعة، فمن فعل الأسباب ونسي الله فهو واقع في الشرك فاقد للتوحيد الخالص، ومن توكل على الله وترك السبب فهو فاقد للعقل، ومن جعل أكثر اعتماده على الأسباب نقص توكله على الله، وكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه. ومن جعل أكثر اعتماده على الله ملغيًا للأسباب فقد طعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سببًا، فمن اعتمد على الله اعتمادًا مجردًا كان قادحًا في حكمة الله؛ لأن الله حكيم يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
والنبي أعظم المتوكلين ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب؛ فالنبي كان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحدٍ ظاهر بين درعيه ـ أي: لبس درعين اثنين ـ، ولما خرج مهاجرًا أخذ من يدُلُّه الطريق، وكان يتقي الحرّ والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله. ويُذكر عن عمر أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله، فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون.
فالضابط في هذه المسالة أن تعرف أن الأخذ بالأسباب واجب وطاعة لله تعالى، ولكن مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب، وبهذا يتبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.
وإن مما ينبغي أن يعلمه العبد تلك القاعدة الجليلة والتي ذكرها شيخ الإسلام وهي: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع".
أيها الناس، إن المتأمل لحياتنا اليوم يجد أنواعًا وصورًا وأمثلةً كثيرة على ضعف توكلنا على الله، ومن ذلك أن البعض إذا كانت له حاجة دنيوية أو معاملة أو طلب أو وظيفة تجد أنَّ أول من يخطر في باله هو فلان بن فلان، وأنّه بيده، فتجده يتوجه إليه ويطلبه، وربما نافق له أو مدحه أو رشاه، ونسي الله الذي بيده كل شيء وهو على ما يشاء قدير. ومن ذلك أنّ من حصل له مرض أو مرض له أحدٌ أو كان عنده ظرف أو كرب فمن أول من يخطر في قلبه؟ الله أم الطبيب، الله أم فلان، الله أم المدير، مَن أولُ من يتوجه إليه القلب؟ فتجد أنّ الواحد يقضي في طلب الأمر الأيام وربما الشهور وربما الأعوام ويسأل هذا ويطلب هذا، وهنا تسأله: هل دَعوتَ الله؟ هل توجهتَ إلى الله؟ هل سألت ربك قضاء هذه الحاجة؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]، أنه الله الذي لا إله إلا هو الذي بيده كل شيء وهو على ما يشاء قدير.
معاشر المؤمنين، إن فعل الأسباب ليس حرامًا، بل هو أمرٌ مطلوب قد أمر الله به، بل هو من التوحيد، ولكن المحذور الشرك؛ أن يلتفت القلب إلى السبب وحده أيًا كان، سواءً كان بشرًا أو دابةً أو طائرهً أو سيارةً، يلتفت القلب إليها وينسى الله، فهذا هو المحذور، بل الواجب على العبد أن يفعل السبب ثم ينساه ولا يلتفت إليه ويفوض أمره إلى الله تعالى ويعتمد على ربه وخالقه، وأن يعلم العبد أن البشر مهما بلغوا من العلو الدنيوي ومهما ملكوا فإنهم لا يَنفعون ولا يَضُرُّون ولا يُقدِّمون ولا يُؤخِّرون، وليس بيدهم شيء، وليس لهم من الأمر شيء، وأن يتذكر وصية النبي لابن عباس : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعونك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحف)). نعم، هذا هو التوكل، وهذه هي حقيقة التوحيد؛ أن يعلم العبد أن الله هو الرازق وهو الباسط القابض الخافض الرافع، بيده كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، فارج الهمِّ كاشف الكرب مجيب دعوة المضطرين ومَفْزَع الخائفين وإله العالمين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ومن الصور أيضًا ترك الواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا من الناس وأذاهم، فنجد الواحد يرى المنكر فلا يغيِّره بما يستطيع من درجات إنكار المنكر، فإذا سألتَه قال لك: إني أخاف ولا أُحب أن أتدخل في شؤون الناس، وهذا سببه ضعف التوكل، وإلاّ فلو توكل العبد على الله حق توكله لما خشي أحدًا من الناس ولأَمَر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولو فُعل به ما فُعل، فالأذى في هذا السبيل يعتبر من الأذى في سبيل الله.
ولا يعني هذا أن الإنسان يأخذ عصًا يضرب بها الناس أو يشتمهم أو يتعدى عليهم أو على أموالهم أو حقوقهم، بل هذا راجع إلى ولي الأمر، ولكن المقصود أنّ الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب طاقته وسعته وقدرته وحدود ما أذن به الشرع، والرجل في بيته يستخدم من درجات إنكار المنكر ما لا يستخدمه في غيره.
أيها المؤمنون، إن سبب ضعف التوكل عند كثير من الناس هو بُعدُهم عن طاعة الله؛ لأن العبد إذا بعد عن الله خلا قلبه من الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وصار يخاف من غير الله؛ من الشيطان وأوليائه، فيترك طاعة الله وما أوجبه الله خوفًا من غير الله، وأما إذا أطاع العبد ربه واستقام على عبادته وترك معصيته امتلأ قلبه إيمانًا، فصار لا يخاف إلا من الله، ولا يرجو غيره، ولا يخشى سواه. وإذا توكل العبد على الله واعتمد عليه واستقام على طاعته حق الاستقامة كفاه الله كل شيء وحفظه ورعاه.
واسمع ـ يا عبد الله ـ هذه القصة: يقول طاوس بن كيسان وهو تلميذ ابن عباس وأحد رواة البخاري ومسلم، يقول: دخلت الحَرَم لأعتمر، قال: فلما أدَّيتُ العمرة جلستُ عند المقام بعد أن صليت ركعتين، فالتفتُّ إلى الناس وإلى البيت فإذا بجَلَبَة الناس والسلاح والسيوف، فالتفتُّ فإذا الحجاج بن يوسف، يقول طاوس: فلما رأيت الحِرَاب جلستُ في مكاني، فبينما أنا جالس إذا برجل من أهل المدينة فقير زاهد عابد أقبل فطاف بالبيت، ثم جاء ليصلي ركعتين؛ فتعلّق ثوبه بحربة من حِراب جنود الحجاج، فوقعت الحربة على الحجاج، فاستوقفه الحجاج وقال له: من أنت؟ قال: مسلم، قال من أين أنت؟ قال: من اليمن، قال: كيف أخي عندكم؟ ـ وكان أخوه أميرًا على اليمن ـ، قال الرجل: تركته بدينًا بطينًا، قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، لكن عن عدله، قال: تركته غشومًا ظلومًا، قال الحجاج: أما أتدري أنه أخي؟! قال الرجل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قال الرجل: أتظنّ أنه يعتزّ بك أكثر من اعتزازي بالله؟! قال طاوس: فما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت، قال: فتركه الحجاج. لماذا؟ لأنه توكّل على الله، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 64].
والعبد إذا عَبَد الله واستقام على دينه وتوكل عليه فلا يهمه أحد، فهو يطيع الله ويلتزم أمره ويدعو الله ولا يهمه كلام المنافقين ولا استهزاء مرضى القلوب ولا حرب أو سجن أو طرد أو أي شيء كان.
بارك الله لي ولكم في الوحيين...
_________
الخطبة الثانية
_________
يا أهل الإيمان، اعتمدوا على ربكم وأخلصوا له التوكل، واجعلوا الاعتماد عليه، فالأمر من قبل ومن بعد له وإليه.
أيها المؤمنون، إن الواجب على المسلمين جميعًا أن يعتمدوا على الله في كل شيء، وأن يتوكلوا عليه في أمورهم كلِّها، وأن يُخلصوا له العبادة. وإن كان المسلمون مُطَالبين بذلك في كل وقت فهم في هذا الزمان مطالَبون به كثيرًا، فعلينا في هذه الأيام أن نعود إلى الله، وأن نتوكل عليه في وقتٍ نرى أمم الكفر قد أحاطت بالمسلمين، وظهر حقد اليهوديه والنصرانية والصليبية، وأصبح كثير من ضِعاف الإيمان ومنافقي الأمة في خوف ووَجَل عظيم من رؤوس الكفر، ونسي أُولئك أن الأمر بيد الله، وأنه هو الذي نصر عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده، فهو الذي أهلك عادًا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوحٍ من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فلا اله إلا الله. إن الله ليس بعاجز عن نصر عباده المؤمنين وأوليائه المتقين، ولكن نصره قد يتأخر بسبب ذنوبنا وتقصيرنا، وحتى يظهر الصادق من الكاذب والمؤمنون من المنافقين، يقول تعالى في كتابه: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. وأما أهل النفاق ومرضى القلوب فاسمع ماذا يقولون: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب: 12].
نعم، قد يُبطئ النصر لأن بِنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعدُ نضجَها، ولم يتم بعدُ تمامها، ولم تحشد بعدُ طاقاتها، ولم تتحفز كلّ خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى الاستعدادت، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلا.
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا إلا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعدُ في كفاحها وبذلها وتضحيتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حميةً لذاتها، أو تقاتل شجاعةً أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سُئل : الرجل يقاتل حَمِيَّة والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليُرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
كما قد يُبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصًا وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار.
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زَيفُه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فتظلُّ له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
فعلينا أن نتقي اللهَ وأن نتوكل عليه، وأن نعود إليه ونتوب إليه، وأن نعمل على أسباب النصر، وأن نعلم أن الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان ما ملكوا الدنيا وفتحوا البلاد إلا يوم اتصلوا بالواحد الأحد وعرفوا الله تعالى حق معرفته، ومتى اعتمد العبد على ربه وتوكل عليه أفلح وأنجح، قال : ((لو أنَّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدُو خِماصًا وترجع بِطانًا)).
فالواجب على المسلمين جميعًا أن يعتمدوا على الله في كل شيء، وأن يتوكلوا عليه في أمورهم كلِّها، وأن يُخلصوا له العبادة.
هذا، وصلوا وسلموا على خير خلق الله...
(1/5043)
القرآن روضة الصالحين
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالكتب, الدعاء والذكر, القرآن والتفسير
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاشتياق لكتاب الله تعالى. 2- فضل القرآن الكريم. 3- آداب قراءة القرآن. 4- تدبر القرآن والوقوف مع وعده ووعيده سبيل للنجاة. 5- التحذير من هذِّ القرآن. 6- حال السلف مع كتاب الله. 7- أنواع هجر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فتقوى الله بإذن الله كفايةُ كلِّ هم، وزادك من كلِّ غم، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجًا ومن كل ضِيق مخرجًا.
أيها الناس، إن المتطلّع في واقع كثير من الناس وَسْط أجواء المتغيرات المتكاثرة والرُّكام الهائلِ من المصائب والبلايا والنوازل والرزايا لَيَلحظ بوضوحٍ أن كثيرًا من النفوس المسلمة توّاقة إلى تحصيل ما يُثبِّت قلوبها، وإلى النهل مما تُطفئ به ظَمأَها وتَسقي به زرعها وتجلو به صدَأَها، وإن ذلك كله موجود في كتاب ربها.
أيها المسلمون، شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن، القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقُده، والمنهاج الذي لا يَضِل ناهجه، والعزُّ الذي لا يُهزم أنصاره.
القرآن ـ عباد الله ـ هو في الحقيقة بمثابة الروح للجسد والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن ولم يعمل به فما هو بحيّ وإن تكلّم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام: 122].
نعم يا عباد الله، القرآن روضة الصائمين، وسلوة الطائعين، ودليل السالكين، ولذة قلوب المتقين، إنه كلام رب العالمين، المنزّل على سيد المرسلين، بلسان عربيٍ مبين، هدى للمتقين، ونورًا للمؤمنين، ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)).
والقرآن في رمضان له مذاق خاص، فهو روضة الصائمين، وحداء القائمين، ولَهَج القانتين العابدين، القرآن أعظم نديم وأنيس، وخير جليس، هو حلاوةٌ وجمال، وعزٌ وكمال، القرآن محضُ سعادة الإنسان، ومديم الخير والبركة والإحسان، فيه الأجر العظيم والخير الكبير، وفي الحديث: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف)).
عباد الله، وللقرآن آدابٌ عند قراءته، فمن ذلك:
أولاً: الإخلاص، فيجب على قارئ القرآن أن يُخلص في قراءته ويبتغي بذلك وجه الله، وفي الصحيح: ((إن أولَ من يُقضى عليه يوم القيامة ثلاثة)) ، وذكر منهم: ((ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمتُ العلم وعلّمْتُه وقرأْتُ فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمتَ ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِيَ في النار)).
ثانيًا: ينبغي لقارئ القرآن أن يتنظف ويتطهر ويستاك.
ثالثًا: أن يبدأ القارئ قراءته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وذلك لأنها طهارة للفم من اللغو والرفث، فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، أما إذا كان القارئ سيقرأ سورة من بدايتها فليقل بعد الاستعاذة: بسم الله الرحمن الرحيم.
رابعًا: أن يُحسِّن القارئ صوته بقراءة القرآن.
خامسًا: التخشع أثناء القراءة والتدبر لما يقرأ الإنسان، فلا ينبغي للقارئ أن يقرأ كتاب ربه وهو على حال لا تدل على خشوعه أو تأثره، أو كأنه يقرأ صحيفة أو مجلة، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21]. وإذا كانت هذه حال الصخور الصماء؛ تخشع وتتصدع لو أُنزل عليها القرآن، فقل لي بربك يا محبُّ: ما حال قلوبنا مع كتاب ربنا؟!
كم مرة قرأنا القرآن في رمضان؟! وكم سمعنا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟! ألم نقرأ صيحة عاد وصاعقة ثمود وخسف قوم لوط؟! ألم نقرأ الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فيا سبحان الله! ما هذا الرَّانُ الذي على القلوب؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82].
أفقُّدَّتْ قلوبنا بعد ذلك من حَجَر؟! ألا فليت شعري أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟! فلله كم صار بعضُها للغفلة مرتعا وللأنس والقربة خرابًا بلقعا! وحينئذٍ لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجَلْوَة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
يا صائمون، القرآن عزُّكم وشرفكم، فاقرؤوه حق قراءته؛ تغنموا وتسعدوا وتفوزوا بالثواب الكبير والنعيم المقيم، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]، ولما تركت الأمة العمل بالقرآن أصابها الذل والهوان.
فعلى المسلم أن يقرأ القرآن ويستحضر أن القرآن يخاطبه، وأنه المقصود بالخطاب، ويقرأ بتلاوة مجوَّدة، ففي صحيح البخاري ومسلم وبوّب له بعض شُرَّاح صحيح مسلم: "باب: ترتيل القراءة واجتناب الهذيان" عن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً قال له: إني أقرأُ المُفصَّل في ركعة واحدة، فقال عبد الله: (هذًّا كهَذِّ الشِّعْر؟! إنَّ أقوامًا يقرؤُون القرآن لا يُجاوز تَراقِيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرَسَخَ فيه نفع)، وذكر شعبة رحمه الله أن أبا جمرة قال لابن عباس: إني رجلٌ سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: (لأَن أقرأ سورة واحدة أحبُّ إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد فاقرأ قراءةً تُسمِعهَا أُذنيك ويعيها قلبك)، قال النبي : ((لا يفقهُ مَن قرأ القرآن في أقلَّ من ثلاث)). وذكر ابن رجب رحمه الله أنّ هذا النهيّ في غير الأوقاتِ الفاضلةِ كرمضان.
وهنا أمرٌ لا بد من التنبيه عليه، ألا وهو أن لاّ يكون همُّ المؤمن في قراءة القرآن تكثير الختمات، بل ينبغي للمسلم الموفق أن لا يجفو فيمضي عليه الشهر ولم يختم كتاب الله، وأن لاّ يغلو فيتعدى هدي النبي.
فاحرص ـ يا عبد الله ـ على تدبُّر القرآن، فإن الغاية من إنزال القرآن هو تدبره والعمل به، قال الحسن البصري رحمه الله: "نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا".
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لقد شرَّفكم الله تبارك تعالى بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكّرُوا في بيِّناته، وقِفُوا عند عِظاته، وإياكم والهذَّ والبذّ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له: إني لأقرأُ المفصَّل في ركعة، فقال ابن مسعود: (هذًّا كهذّ الشِّعْر؟! إن قومًا يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) أخرجه مسلم، وقال : (لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشِّعْر، ولا تَنثُروه نثر الدّقْل، قِفُوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة).
أيها المسلمون، لقد كان السلف الكرام عليهم من الله الرضوان يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. متفق عليه. وفي آخر عام من حياة سيد الأنام عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام.
ولما نزل بعبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى الموت بكت ابنته، فقال لها: "لا تبكي يا بنيه، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة"، فما أروعه من جيل، وما أرشده من سبيل.
أمة الإسلام، هذا كتاب الله يُتلى بين أظهركم ويُسمع، لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدّع، فهل سرنا على منهاجه المطهَّر؟! هل طبقناه في كل ورودٍ وصدر؟! هل حكَّمْناه فيما بَطَنَ من أُمورنا وما ظهر؟! إن كل شأنٍ كبيرٍ أو صغيرٍ وكل إحداث أو تغيير يتناقض مع الكتاب والسنة فهو وبال على صاحبه وحسرة على جالبه وشرٌّ على طالبه، إياك إياك يا عبد الله ـ أن تكون ممن يقرأُ القرآن والقرآن يلعنه.
بعض الناس تجده يقرأ: لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61] وهو يكذب، وبعضهم يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا [البقرة: 278] وهو يأكل الربا.
ثم إياك إياك وهجران القرآن والإعراض عن قراءته وتدبره والعمل به، يقول ابن القيم: "هجران القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجرُ العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكِيمهِ والتحاكم إليه في أُصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصِّل العلم، والرابع: هجر تدبره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منا، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض".
وهنا أمر أودُّ أن أُنبه عليه وأحثّ النفس وإياكم به؛ ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجة)) ، أجرٌ عظيمٌ وموسمٌ فضيل، وثوابٌ جزيلٌ وربٌ كريم، أبواب الخير مُشْرعة، والبقية عليك ـ يا عبد الله ـ لإكمال المشوار، ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجة)).
وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، وليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
(1/5044)
تعظيم الله تعالى وتعظيم شعائره
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الربوبية, الله عز وجل
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
6/3/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم الله تعالى وتعظيم شعائره من أجلّ العبادات القلبية. 2- من مظاهر تعظيم الله تعالى. 3- موقفان عظيمان للإمامين مالك بن أنس وأحمد بن حنبل في تعظيم الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، خافوا الله، عظّموه، قدِّسوه، واقدروه حق قدره.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، إنه الملاذُ في الشدّة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القِلة، يتَّجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء، ويدعوه آملاً في الشفاء، ويتجه إليه المكروب يسأله الصبر والرضا والخُلْف من كلِّ فائت والعوض من كل مفقود، ?لَّذِينَ إِذَا أَصَ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ. إنه الله جلّ جلاله، سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأُ الخائفين. إنه الله جل جلاله، كما قال سبحانه عن نفسه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ؛ يغفر ذنبًا، ويفرّج كَربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، يُحيي ميتًا، ويُميت حيًا، ويجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا. إنه الله جل جلاله، أرغم أُنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزّق شمل الجبابرة، ودمّر سدَّ مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطيرٍ أبابيل.
عباد الله، إن تعظيم الله تعالى وتعظيم ما يستلزم ذلك من شعائر الله تعالى وحدوده من أجلّ العبادات القلبية وأهمّ أعمال القلوب التي يتعين تحقيقها والقيام بها وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعظيم الله تعالى من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله تعالى والتسفيه والازدراء لدين الله تعالى وأهله.
إنّ الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل، قال الله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: 90]. قال الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: "يتشقّقن من عظمة الله عز وجل"، وقال ابن القيّم عن منزلة التعظيم: "هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الربّ تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13]، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظِّمون الله حق عظمته؟!".
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، وتعظيم الله وإجلاله ـ يا عباد الله ـ له مظاهر وعلامات، وليست دعوى كلٌ يدّعيها. ومن مظاهر تعظيم الله تعالى:
أولاً: إثبات الصفات لله تعالى كما يليق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. ومن أسماء الله تعالى الحسنى: المجيد والكبير والعظيم، فإن معنى هذه الأسماء أن الله عز وجل هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد مُلئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله والخضوع له والتذلل لكبريائه، كما يقول العلامة السعدي رحمه الله.
والإنسان إذا سمع وصفًا وصف به خالق السموات والأرض نفسه أو وصفه به رسوله أو اسمًا من أسمائه فليملأ صدره من التعظيم، فحينما تسمع أسماء الله أو صفاته عظّمه وسبِّحْه وقدّسْه تعالى.
ثانيًا: ومن تعظيم أسماء الله وصفاته أن تؤمن بآثارها؛ فتؤمن بأنّ الله سميع وبصير، فتعلم أنه سبحانه يسمعك ويبصرك ويعلم ما أنت عليه، فمن تعظيمه تعالى أن تستحي من الله أن يراك أو يسمعك أو يبصرك وأنت تعاقر معصيته أو تحارب ما أمر به. أفلا نستحي أن يرانا الله على معصيته وننام عن طاعته؟!
ثالثًا: ومن مظاهر تعظيم الله تعالى أن نتعرف على نعم الله تعالى، ونتذكر آلاء الله عز وجل، ومما قاله أبو الوفاء ابن عقيل في ذلك: "لقد عظّم الله سبحانه النعم لابن آدم، حيث أباح له الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه، وعَصَم عِرضه، وعَصَم ماله، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقته، أفيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكًا وعمّا أمرك متنكبًّا وعن داعيه مُعرضًا ولسنته هاجرًا ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟! يعظمك وهُوَ هُوَ، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حطّ رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك".
عباد الله، لقد كان نبينا محمد يربي أمته على وجوب تعظيم الله تعالى، ففي حديث ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ الآية [الزمر: 67].
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عند هذه الآية الكريمة : "وقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان هذا المسلك، فعظّموا الله حق تعظيمه، وعُمرت قلوبهم بإجلال الله تعالى وتوقيره، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: (أما علمتم أن لله عبادًا أصمتهم خشية الله تعالى من غير عيٍّ ولا بَكَم؟! وإنهم لَهُمُ العلماء العصماء النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله تعالى انكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم منهم؟!)".
وكان أهل العلم يعظِّمون ربهم، ويقدرونه عز وجل حق قدره، ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح وتعظيمهم لله عز وجل ما وقع لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف استوى؟ فما كان موقف الإمام مالك إزاء هذا السؤال؟ يقول الرواي: فما رأيته وجد ـ أي: غضب ـ من شيءٍ كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء ـ أي: العرق ـ، وأطرق القوم، فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سُرّي عن مالك، فقال: "الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً"، ثم أُمر به فأُخرج.
فتأمّل ـ رحمك الله ـ ما أصاب الإمام مالكا رحمه الله من شدة الغضب وتصبب العرق إجلالاً وتعظيمًا لله تعالى وإنكارًا لهذا السؤال عن كيفية استواء الربّ تعالى.
ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لما مر مع ابنه عبد الله على قاصٍ يقص حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرّص، فلما حاذاه قال: يا هذا، رسول الله أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن تعظيم الله تعالى تعظيم كلامه وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبرًا وعملاً، وقد حقق سلفنا الصالح الواجب نحو كتاب الله تعالى من التعظيم والإجلال، حتى إن بعض السلف كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف، وقال بعضهم: "والله، ما نِمت في بيتٍ فيه كتاب الله أو حديث رسول الله احترامًا لهما".
إنّ الناظر في حال المسلمين يرى مخالفات تنافي تعظيم الله تعالى وشعائره؛ كالاستهزاء أو الاستخفاف أو الازدراء أو الانتقاص لدين الله تعالى وشعائره، وتظهر هذه المخالفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال منابر ثقافية ومؤسساتٍ علمية مشبوهة.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟! والمجال مفسوح ولكن من يُقبِل؟! والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟! والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟! فأين الباحثون عن الأرباح؟! وأين خُطّاب الملاح؟! أين عشّاق العرائس وطلاّب النفائس؟!
من أقبل إليه تلقّاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، أهلُ ذِكْره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيمٌ بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر غفرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الْهوى فالْهوى ما زال فتّانا
أما ترَين المنايا كيف تلقطنا لقطًا وتُلحق أُخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
أين الْملوك وأبناء الْملوك ومن كانت تَخرّ له الأذقان إذعانا
صاحت بِهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا
مضى الزمان وولى العمر فِي لعبٍ يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بحالنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه...
(1/5045)
حرمة الزنا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صيانة العرب لأعراضهم في الجاهلية. 2- قبح وشناعة جريمة الزنا. 3- عقوبة الزناة في الدنيا والآخرة. 4- آثار الزنا على الفرد والمجتمع. 5- أسباب ودواعي الوقوع في جريمة الزنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوه ـ رحمكم الله ـ تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. فلا شكّ أن ميزان العبد وقيمته يظهر في الإباء والعزيمة، ويكون قدره في نزاهته، وسمعتُه وشرفُه يكون في طهارة عرضه وبياض سمعته وجميل أفعاله وسلامة قلبه من الشهوة والشبهة.
ولقد كان الشرفاء الأحرار في كل الأمم حتى في عصور الجاهلية يعتزون بشرف سمعتهم وصيانة أعراضهم، ويقفون دونها أسودًا كاسرة ونمورًا مفترسة يغسلون إهانة أعراضهم بأسنة رماحهم وحد سيوفهم؛ ومع أنهم كانوا يُشركون بالله ويعبدون الأصنام ويأكلون الميتة إلا أن العِرض له شأنٌ عظيم عندهم، وتأمل في هذه القصة العجيبة: روى أهل السير أن النساء جِئن يبايعن رسول الله بعد فتح مكة، وكان ممن يبايع هند بنت عتبة وهي التي فعلت ما فعلت قبل إسلامها، وكان النبي يبايع النساء بالكلام دون مصافحة كالرجال، فلما جاءت النساء إليه ومعهن هند وكانت البيعة تتمّ على ما ورد في آية البيعة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ الآية [الممتحنة: 12]، فلما سمعت هند بهذا قالت ـ وانظر ماذا قالت ـ قالت: "أوَتزني الحرة يا رسول الله؟!
ومع ذلك فإن الناظر اليوم لحال الكثير من المسلمين أو ممن يدعي الإسلام سواء كانوا أفرادًا أو دُولاً يجد أنا نعيش في زمن يوشك أن تسود فيه الإباحية إن لم تكن سادت، فصورٌ فاضحة ودعوات آثمة ومسلسلات فاتنة وأغانٍ ماجنة واختلاط رجال بنساء ونساء كاسيات عاريات، بل أصبحت جريمة الزنا ومعاقرة كؤوس الخمر أمرًا طبيعيا عند كثير من الناس.
من أجل هذا كله وتحذيرًا للمؤمنين وإبراءً للذمة كانت هذه الخطبة عن جريمة من أشهر الجرائم وفاحشةٍ من أكبر الفواحش وموبقة من أخطر الموبقات، إنها جريمة الزنا أعاذنا الله وإياكم منها وحمى أعراضنا وأعراضكم.
عباد الله، وإن المتأمل لحال الكثير يجد أن حرمة هذه الجريمة سقطت من عقولهم، وكم سقط في أوحالها من أناس، والذي يسأل مراكز الهيئات ويعرف حال كثير من الشباب يسمع ويرى ما يقضّ المضجع ويحزن القلب، بل انظر إلى حال كثير من الناس في الإجازة إلى أين يسافرون وماذا يريدون، والأدهى من ذلك إن صارت هذه الجريمة أمرًا طبيعيًا نسأل الله السلامة والعافية، بل وصارت في بعض البلدان مما يُصرَّح به ويُدعى إليه.
معاشر المومنين، إن جريمة الزنا من أخطر الجرائم وأقبحها؛ فجريمة الزنا تفقد الرجولة، وتُذهب الشهامة، وتضيع المروءة، وتُعدم الحياء، ويحل بها مكان العفاف الفجور، وتقوم فيها الخلاعة مقام الحشمة، إنها جريمة قبيحة وفعلة مشينة، كم جرعت من غصة، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم خبّأت لأهلها من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة، والقصص في هذا وعنه كثير ويطول المقام بذكره ولا يخفى لشهرته.
ويكفي في قبح الزنا أن الله تعالى قرن الزاني مع المشرك فقال: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3].
والزنا يسلب من فاعله الاسم الحسن وهو العفة والطيب، والزاني يكتسب اسم الفجور، وفاعله خبيث، والله تعالى قد حرم الجنة على كل خبيث، فقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، فالجنة دار الطيبين، والنار دار أهل الخبث والعصاة.
وفي حديث المنام قال رسول الله : ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفلة واسع، فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عُراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي: صاحوا من شدة الحر ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال هؤلاء الزناة والزواني)).
وذكر بعض العلماء آثارًا منها: (المقيم على الزنا كعابد وثن)، بل وذكروا رحمهم الله أن الزاني يحرم من الحور العين في الجنة وإن دخلها بعد أن يعفوَ الله عنه، إما مباشرة أو بعد تعذيب بالنار. يقول الإمام أحمد: "ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا"، بل يكفي في قبحه أن الله فطر الحيوانات البهيمة على بغضه؛ حتى الحيوانات التي لا عقل لها فكيف عبدٌ له عقل؟!
واسمع لهذه القصة الجميلة: روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأدوي قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردة، فاجتمع عليهما القرود، فرجموهما حتى ماتا. ومع ذلك تجد أن العاقل ـ إن جاز له تسميته بذلك وإلا فهو مسلوب العقل وإلا لو كان عاقلا ما فعل ذلك ـ تجد الواحد اليوم يحرص على فعل الزنا ويتربّص بنساء المسلمين ويبحث ويحاول، وبعضهم يدفع نَعَم يدفع ماله من أجل ذلك، فيسافر إلى تلك البلاد التي عرفَت بهذا؛ فيعصي ربه ويدسّ بعرضه ولا شيء من الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المومنين، أما آثار الزنا فكثيرة جدًا يصعب حصرها، ويطول المقام بذكرها؛ فالزنا جريمة عظيمة الآثار شديدة الوقع، ومن أعظم آثاره غضب رب العالمين واختلاط الأنساب وضياع الحقوق، ومن آثاره العظيمة الفضيحة في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية، ومن أشد آثاره تلك الأمراض المدمرة كالزهري والسيلان، وذلك المرض العضال المسمى بالإيدز الذي سلّطه الله على الزناة الزواني وجعله عقوبة لهم، أفما يخشى أولئك الذي يتجرّؤون على محاربة الله بهذه المعصية أن يسلّط الله عليهم ما سلّطه على غيرهم فتذهب حياتهم من أجل شهوة ولذة عابرة وينالون ألم الدنيا والآخرة والعار والشنار؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
أما أسباب الزنا ـ يا عباد الله ـ فمن المعلوم أنه ما من خطأٍ أو معصية إلاً ولها سبب، ونحن سنضع أيدينا على تلك الأسباب التي أدّت أو تؤدي إلى الوقوع في تلك الفاحشة، ومن ثمّ فيجب علينا السعي في الابتعاد عنها والتحذير منها وتقليلها، ولهذا فتأمل ما في قول الله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32]، لماذا قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ولم يقل: "لا تزنوا"، قال أهل التفسير: لأن قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى أبلغ من قوله: "لا تزنوا"؛ لأن قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى أي: لا تقربوا الزنا ودواعيه ومقدماته وأسبابه، فيجب أن تعرف أسباب الزنا أعاذنا الله وإياكم منه، ثم تبتعد عنها وتذَرها وتحذر منها.
وكثير من الناس اليوم يتحدّثون عن الأخطاء ويعيبون على من يقع فيها؛ ولكنهم لا يتحدثون عن أسبابها وذلك لأمرين: أولاً: الجهل بتلك الأسباب، ثانيًا: أن الكثير يعلم بذلك ولكنه يعلم أنه شريك في تلك الأسباب وشريك في الوقوع فيها.
وإن من أعظم دواعي الزنا وأسبابه ما يلي:
أولاً: ضعف التوحيد والإيمان بالله تعالى، إن توحيد الله والإيمان به هو صمام الأمان، وهو الضامن للعبد أن يقع في المعاصي ومنها هذا الفعل القبيح، ودعني أضرب لك مثالاً على ذلك؛ لأن بعض الناس يظن أن التوحيد والإيمان لا علاقة له بذلك.
انتبه معي، أليس من التوحيد في الربوبية والأسماء والصفات أن تعلم أن الله قادر وبيده كل شيء وأنه شديد العقاب وأنه سميع يسمعك ويراك؟! هل نؤمن بهذا؟ الجواب: نعم؛ لكن الواقع يقول: إن عند الكثير منا ضعفًا شديدًا في هذا الجانب، وإلا كيف يؤمن الواحد بهذا ثم يتحرّى أن يعصي الله وهو يسمعه ويراه ويقدر على أخذه والبطش به لأنه أغضبه؟! بل كيف يتحرّى البعض أن يفعل هذه الفعلة أو غيرها من القبائح وهو يعلم أن الله يراه وهو لا يستطيع أن يفعلها أمام طفل لا يعقل أو أمام بهيمة تنظر إليه؟! فلا إله إلا الله.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوتُ ولكن قل: عليّ رقيبُ
ولا تَحسبنّ الله يغفلُ ساعةً ولا أنّ ما تُخفي عليه يغيبُ
ولهذا فتأمل في قصة أصحاب النار الثلاثة حينما اشتد عليهم الحر، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي ابنة عم... إلى أن قال: فلما قدرت عليها، وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه. ماذا حصل؟ هنا تحرك الإيمان فقال: فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إليّ. والحديث في الصحيحين.
إذًا فاحرص على تعلم التوحيد ودراسته، واحرص على زيادة الإيمان عن طريق مجالس أهل الإيمان والدروس والمحاضرات وقراءة القرآن، وإلا فأنت على خطرٍ عظيم، ولا يتعظ بعقوبة إلا هالك؛ لأن بعض الناس إذا قلت له: تُب إلى الله، حافظ على الصلوات، جدِّد إيمانك، قال لك: ليش أنت تراني أسكر؟! أنا أفضل من فلان، وهكذا يجيبك بتزكية نفسه وثقته بها، يقول النبي : ((إن الإيمان ليَخْلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)) ، فالله اللهَ بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله، فإنه غفار لمن تاب ثم اهتدى.
ثانيًا: من الأسباب أيضًا الغفلة عن العقوبة، وهذه المصيبة بحدّ ذاتها كما يقول ابن القيم رحمه الله أن يكون قلب العبد غافلا عن عقوبة الله؛ فترى الواحد يعصي الله؛ لا يصلي ويعقّ الوالدين، وربما وقع في هذه المعصية الشنيعة، ومع ذلك هو لا يخشى من أن يعاقبه الله أو يأخذه أخذ عزيز مقتدر، وهو مع ذلك يسمع ويرى تلك القصص التي أُخذ أصحابها وأتاهم ملك الموت وهم في حالة لا ترضِي الله تعالى، فمنهم من أُخذ وهو يغني أو وهو في مرقص أو بيده كأس خمر نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثًا: من أعظم الأسباب النظر المحرم، وهذا من أعظم أسباب الوقوع في الزنا حمانا الله جميعًا، ولهذا يقول تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور: 30]، فتأمل كيف قدّم حفظ البصر على حفظ الفرج؛ لأن النظر سبب للوقوع في المحرم، وأصل معظم المعاصي هو النظر.
كل الْحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بيْن القوس والوتر
ومن ذلك ما ابتلي به كثير من الناس من التساهل بالنظر إلى وسائل الإعلام المرئية، ومن أشدها النظر إلى شاشات الفضائيات، أو ما يسمى بالدش. وخذها مني صريحة يا عبد الله: إن من أعظم أسباب الزنا واللواط والجرائم هي تلك الدشوش، إن واقع كثير من الشباب والفتيات وأنا أقول هذا من واقع معرفة وسؤال وزيارات، إن الشباب والفتيات يعيشون في جحيم لا يطاق من جرّاء تلك المناظر التي تعرض عبر تلك القنوات الفضائية، سبحان الله! بعض الناس ما زال يجادل عنها، وما زال يصرّ على بقائها في بيته وينظر إليها الأولاد والبنات، وما هي النتيجة حينما يرى الشباب تلك المرأة التي ظهرت بأجمل صورة بل ربما ظهرت عارية أو شبهها ماذا يفعل؟! وماذا تفعل البنت حينما ترى شابًا في مسلسل أو شاشة وقد ظهر بأجمل صورة؟! ألا تتحرك الشهوات؟! ألا تقع المنكرات؟!
عجيب أيها الناس! هل غادرت من النفوس الغيرة؟! إعلان للفحشاء بوقاحة، وإغراق في المجون بتبجح، أغانٍ ساقطة وأفلام آثمة وسهرات فاضحة وقصص داعرة وملابس خالعة وعبارات مثيرة وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله، على الشواطئ والمنتزهات وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسبنا الله من أناس يهشّون للمنكر، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تودّ لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة، ما هذا البلاء؟؟! كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمّر من ابتكارات البثّ المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟! ومن المسؤول عن هذا كله؟! ولهذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنّة)) ، وأي غش أعظم من هذا؟! ولكن إلى متى الغفلة؟! نسأل الله السلامة.
رابعًا: ومن الأسباب أيضًا المعاكسات الهاتفية، إنّ من أعظم أسباب الزنا والوقوع في الفواحش مكالمة عبر الهاتف، إن هناك ذئابًا بشرية تتصيّد بنات المسلمين، وتحاول النيل من أعراضهن باسم الحب والعشق العفيف، وكذبوا والله. ومما زاد الأمر سوءًا والشر بلية غفلة كثير من الأولياء عن الفتيات، فتجد أن كلّ فتاة تحمل معها جوالها، ووالله لو قدر لك أن تتطلّع على بعض رسائل جوالات الشباب أو الفتيات لرأيت أمرًا خطيرًا، وأنا لا أدعو إلى نزع الثقة، لكن أقول: لماذا لا نحذر ونراقب؟! ثم لماذا وما الحاجة أن تتّخذ كل فتاة جوالاً يخصها؟! ثم نزع هذه الأشياء لا يعني عدم الثقة أبدًا، بل هو من أسباب الوقاية، وقد صدق من قال: "نظرة ثم مكالمة ثم موعد ثم لقاء ثم جريمة"، نسأل الله السلامة.
خامسًا: ومن أسباب الوقوع في هذه الفاحشة السفر إلى بلاد الكفر، إنه باب من الأبواب الكبرى للوقوع في هذه الجريمة، وكل من يسافر إلى تلك البلاد الكافرة أو البلاد التي تدّعي أنها إسلامية بلا هدف بيّن لا بد أنه يقع في الفاحشة إن لم يكن يقصدها إلا من رحم الله، وإلا ما معنى أن يأتي الواحد إلى بلده وأهله وعشيرته ثم يجلس بكل وقاحة وصفاقة وجه ويقصُّ قصصه ومخازيه في المجالس دونما حياء؟!
سادسًا: التبرج والسفور، ومن نظر في الأسواق والمستشفيات والأماكن العامة يعرف هذا، ولكن المصيبة أن بعض الناس لا يعرف من التبرج إلا أن تمشي المرأة عارية، أما أن تُظهِر يديها أو قدميها أو تلبس نقابا أو تتعطر أو عباءة كتافية أو مخصّرة فهذا لا شيء فيه، وكل من سمح لامرأته سواء كانت زوجة أو ابنةً أو أختًا أن تظهر أشياء من مفاتنها ساهم في ذلك سواء اقتنع أم لم يقتنع.
سابعًا: الاختلاط، والذي يهمنا هنا هو تساهل البعض في أشياء وهي شديدة الخطر، ومن ذلك كشف المرأة وجهها لأقارب زوجها كابن أخيه أو أخته أو نحو ذلك، ومنه دخول الحمو على الزوجة، ولعظم هذا قال الرسول : ((الحمو الموت)). وكذلك مصافحة المرأة للرجل الأجنبي، ويزعمون أنه لا شهوة في ذلك، سبحان الله! ولا يعني هذا أني أشك أو أنزع الثقة من الأخ أو الزوجة، وإنما المسألة حرام وحلال.
ثامنًا: الغناء بريد الزنا ورسوله، قال يزيد بن الوليد: "إياكم والغناء؛ فانه ينقص الحياء ويزيد الشهوة".
تاسعًا: المجلات الخليعة والشهرية، فالحذر الحذر من شرائها وتداولها، بل ويجب علينا أن ننكرها على من باعها لأنه يفسد أولادنا وبناتنا، والعجب ممن يحملها إلى بنته وفيها صور النساء والشباب، فأين الغيرة على المحارم؟!
عاشرًا: وهو عندي من أهم الأسباب، ويجب أن ننتبه له ونهتم له، بل نبحث الحلول في الكلام عنه، ولو سألنا الشباب والفتيات عن أعظم الأسباب لقالوا جميعا وبصوت واحد: غلاء المهور، فكيف ننشر المنكر من الفضائيات وتبرج نساء وصور عارية ونزيد في مهور النساء ثم نطالب الشباب بالعفاف؟! هذا أمر لا يقبله عقل.
الحادي عشر: ضعف الأمن، وهذا من أعظم الأسباب؛ فإن الواجب علينا أن لا نتساهل في مثل هذه القضايا، وأن نبترها ونقطع دابر من يفعلها عن طريق الأحكام الشرعية، أما إذا قمنا كما يفعله البعض بالتستر لا بالستر، فإن هناك فرقا بين التستر والستر، فإذا وصلت القضية إلى السلطان أو من ينيبه كالمراكز فإن هناك من يخون الأمانة فيشفع في مثل هذه القضايا، أو يتستر على أصحابها لمصلحة دنيوية ومكانة، وهذا ملعون كما في الحديث، وهو داء بني إسرائيل، وهو سبب للعقوبة الإلهية، فلينتبه لهذا المسؤولون، وليعلموا أنهم مسؤولون أمام الله أشد المسؤولية. والأسباب كثيرة، ولكن خشية الإطالة أكتفي بما ذكرت سائلاً الله أن ينفع بذلك المسلمين، إنه سميع مجيب. ومن اعتصم بالله عصمه، وإذا تعاونّا جميعا على تقوى الله وتقليل الأسباب سلمنا من هذا الشر بإذن الله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5046)
زلزال آسيا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة تقلب حال الدنيا. 2- وقفات مع الزلزال المدمر الذي ضرب شرق آسيا وتركيا. 3- شؤم الذنوب والمعاصي. 4- التحذير من التفسيرات المادية لظواهر الكون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فالأعمار تطوى، والأجيال تفنى، فاتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، الآمٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، هذه هي حقيقة الدنيا في ابتلائها؛ تُضحِك وتُبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاء، وسراء وضراء، ودار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرةٍ لمن اعتبر بها.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ ما مرّ على العالم في الأيام الماضية، حدثٌ عظيم يتعلق بهذا الكون الذي من حولنا، ألا وهو الزلزال العظيم الذي أصاب شرق آسيا؛ فخلّف آلافًا من الضحايا والمشردين، وقد سمعتم بل وربما شاهدتم عبر وسائل الإعلام بعض آثار الزلزال الذي ضرب تركيا، فأهلك عشرات الآلاف من البشر، فاللهم لا شماتة، والمسلم عندما تمرُّ عليه مثل هذه الأحداث العظيمة وغيرها المتعلقة بالكون من حوله ينبغي أن تكون له وقفة تأمل واعتبار، ولنا مع هذه الأحداث وقفات:
فأولاً: أيها المسلمون، إن هذا الحادث هو تذكيرٌ للعباد بعظمة الله وقدرته، وأن الله تعالى هو القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، إنه الله جل جلاله، إنه الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، إنه الله جل جلاله، سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين.
إليه وإلاّ لا تُشدّ الركائبُ ومنه وإلاّ فالمؤمِّل خائبُ
وفيه وإلاّ فالغرام مضيّعٌ وعنه وإلاّ فالمُحدِّث كاذبُ
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، كما قال سبحانه عن نفسه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن: 29]، يغفر ذنبًا، ويفرّج كَربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، يُحيي ميتًا، ويُميت حيًا، ويُجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيرانًا، ويغيث لهفانًا، ويفك عانيًا، ويُشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً.
إنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، السماءَ بناها، والجبالَ أرساها، والأرضَ دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويُغدق العطاء، ويرسل النعم.
إنه الله جل جلاله، أغرق فرعون وقومه. إنه الله جل جلاله، أرغم أُنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزَّق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطيرٍ أبابيل، عذَّب امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وغفر لامرأة بغيٍّ لأنها سقت كلبًا كاد يموت من العطش.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟ والمجال مفسوح ولكن من يُقبل؟ والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟ والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟ فأين الباحثون عن الأرباح؟! وأين خُطّاب الملاح؟! أين عشّاق العرائس وطلاّب النفائس؟!
الوقفة الثانية:
أن هذه الزلازل لا شك عندنا ـ نحن المسلمين ـ أنها عقوبات ربانية من الله على ما يرتكبه العباد من الكفر والفسوق والعصيان، كما قال بعض السلف لما زُلزِلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم". ولما وقع زلزالٌ بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب قام فيهم خطيبًا ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أُساكنكم فيها)؛ لعلم عمر بأن ما حصل ما هو إلا بسبب ذنوب الناس، وأنَّ هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل.
إن الذنوب والمعاصي ـ يا عباد الله ـ سبب لكل بلاءٍ وشر ومحنة؛ فبالمعصية تبدّل إبليس بالإيمان كفرًا، وبالقُرب بُعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا تلظى، وبالمعصية عمّ قوم نوحٍ الغرق، وأُهلكت عادٌ بالريح العقيم، وأُخذت ثمود بالصيحة، وقُلِبت على اللوطية ديارهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
أيها المسلمون، إن للمعاصي شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والجو، تضلّ بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]. قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعَصَوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم".
بسبب الذنوب والآثام والمعاصي والإجرام يكون الهم والحزن والذل والهوان، بالمعاصي تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويُستجلب سخط الجبار.
إذا كنت فِي نعمة فارعها فإن المعاصي تُزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلمَ مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بيْن الورى لتبصر آثار من قد ظلم
إن آثار الذنوب والمعاصي كثيرة، ولقد عد الكثيرَ منها ابن القيم في كتابه القيّم "الداء والدواء"، فليُرجع له فهو مفيد في بابه.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدي والبيان، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، إن ربي قريب مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الوقفة الثالثة:
وهذه الوقفة ـ يا عباد الله ـ تنطلق من العقيدة التي رسخت في قلب كل مسلم وانعكست على تصوراته للكون ولمن حوله، ويعلم المسلم أن الكون بإنسه وجنّه وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم إنما هي مسخرةٌ بأمر الله، يتصرف فيها كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه، وأن ما يجري من زلازل وبراكين وأمطار وأعاصير ورياح وكسوف وخسوف إنما هي بقَََََدَرٍ من الله لحكمة يريدها الله، علمها البشر أو غابت عنهم.
أما أهل المناهج المادية الأرضية البحتة فإنهم ينطلقون من تصوراتهم المادية لمثل هذه الأحداث؛ فترى البعض ينسب مثل هذه الأحداث الكونية إلى الطبيعة، ناسيًا أو متناسيًا قدرة الله العظيمة، أو متأثرًا باللوثة المادية وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء زعموا، أو يكون متبعًا للدراسات والتقارير التي تصدر عن الجهات التي لا تقيم للدين وزنًا.
إننا ـ نحن المسلمين ـ نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسبابًا طبيعية، وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه عن طريق حسابات دقيقة، ونقر أيضًا ونعتقد بأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده من عاقبة ما يفعلون ومن جُرم ما يرتكبون، جعلها الله أسبابًا لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا، ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما نحن فيه من أخطاء، فاتقوا الله أيها المسلمون.
(1/5047)
سيرة علي رضي الله عنه
أديان وفرق ومذاهب, سيرة وتاريخ
تراجم, فرق منتسبة
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
2/6/1426
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 2- ذكر سبب الخلاف الذي حصل بين الصحابة في واقعتي الجمل وصفين باختصار. 3- بعض مواقف علي رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
خطبتنا هذه الجمعة عن عَلَمٍ من أعلام التاريخ ومصباحٍ من مصابيح الدجى، بحياتهم وأعمالهم تندفع المحن، وبموتهم تتعاقب الإحن وتكثر الفتن، حديثنا هذه الجمعة عن أحد الأخيار البررة، نحن اليوم مع "بطل المواجهة"، نتكلم اليوم عن بطل من الأبطال، بطلٌ في زهده وفي غناه، بطلٌ في شجاعته وفي إقدامه، بطل في سِلمه وفي حربه، عاش بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث إن شاء الله بطلاً. إنه علي بن أبي طالب ، أبو الحسن أو أبو تراب، كما كنّاه النبي.
لقد كان عليٌ رضي الله عنه من الذين أسلموا في أول البعثة، وهو أول من أسلم من الصبيان حيث كان عمره يقارب ثماني سنوات أو عشر سنوات حسب ما جاء في السير، وقد كان في حِجْر النبي قبل الإسلام معونةً من رسول الله لعمه أبي طالب حيث كان كثير العيال قليل المال، فأخذه النبي عنده، وحينما حضرت الوفاة أبا طالب حاول النبي معه أن ينطق بالشهادتين، ولكنه لم يستجب للنبي ، فبعدها خرج من عنده عائدًا إلى بيته، ثم جاءه علي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، مات عمك الشيخ الضال، ولم يقل: أبي مات، ولم يتأثر بموته لأنه مات على الكفر، فكأنما هو يعلن براءته منه مُحقِّقًا قول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22].
ومن فضائل علي بن أبي طالب أنه زوج سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وأبو سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين رضي الله عنهما، قال عنه النبي : ((إنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)) ، وقال له النبي : ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) ، وقال أيضًا لعلي : ((أنت مني، وأنا منك)) ، وقال : ((من آذى عليًا فقد آذاني)).
وقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحبُّ الله ورسوله، ويحبه اللهُ ورسولُه)) ، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيُّهم يعطاها، أي: يخوضون، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) قالوا: هو ـ يا رسول الله ـ يشتكي عينيه، فقال: ((فأرسلوا إليه)) ، فأُتى به فبصق رسول الله في عينيه، ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية... الحديث، وفتح الله عليه وكان فتح خيبر على يديه.
ولما أراد النبي أن يهاجر خرج مختفيًا متسللاً، وخرج النبي وترك عليًا في فراشه، فأتى إليه الكفار شاهرين سيوفهم متوثبين للقتل وإراقة الدماء، إلا أنه كان ثابت الجأش، لم يخف ولم يضطرب، لأنه بطل المواجهة، ثم لحق الرسولَ عليه الصلاة والسلام في المدينة.
أيها الإخوة، لقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيرًا، لم يكن من أصحاب الأملاك ولا تاجرًا، ولكن زوّجه النبي ابنته فاطمة، وكان مهرها درعًا حطمية، مهرُ سيدة نساء أهل الجنة وابنة سيد ولد آدم ، مهرها درع!.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن الأحداث العظيمة التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه موقعتا الجمل وصفين، وأحداث هاتين الواقعتين طويلة، ذكرها أهل التاريخ كابن كثير في البداية والنهاية، فمن أراد معرفتها كاملة فليراجعها، ولكن سأذكرها على سبيل الاختصار؛ لأن بعض أعداء السنة صاروا يذكرون مثل هذه الحوادث فيزيدون وينقصون ويكذبون لينالوا من أصحاب رسول الله.
وسبب هاتين الواقعتين أنه لما قُتل عثمان وتولى علي رضي الله عنه قرر أن يرسِّخ قواعد دولته ويختار القادة والولاة والأمراء لبلاده وجيشه أولاً، ثم يأخذ بدم عثمان من كل من شارك في قتل عثمان، ولكن هناك من الصحابة من طالب أولاً بقتل قَتَلَة عثمان، فقال لهم علي: أنا أريد قَتَلَة عثمان، قتل الله من قتل عثمان، ايتوني بقَتَلَة عثمان وأنا أقتلهم، لأنه يعلم أن هؤلاء القتلة اندمجوا في الجيوش ولهم عزة وجماعة، ولا يمكن أخذهم إلا بعد ترسية قواعد الدولة ومؤسساتها التنفيذية، وإلا أصبحت القضية ثارات وغارات تذهب بالصالح والطالح.
وإن مما يجب معرفته أن معتقد أهل السنة والجماعة فيما حصل بين الصحابة من اجتهادات أنَّا نصون ألسنتنا عن الخوض فيه مع اعتقاد حبنا لهم جميعًا رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم مجتهدون فيما حصل بينهم وخطأهم مغفور.
وبالمناسبة فإن ما يقال عن التحكيم بين أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنهما غير صحيح، قيل: إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أنا أخلع عليًا مثل ما أخلع خاتمي هذا، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وأنا أثبت صاحبي ـ أي: معاوية ـ مثل ما أضع خاتمي هذا. فهي قصة مختلقة ليس لها أساس من الصحة.
ومن المواقف العظيمه موقفه من الخوارج ومن الشيعة، فأما الشيعة فكان رئيسهم المنافق عبد الله بن سبأ، فقد وصل بهم الحال إلى أن قالوا: أنت إلهنا، أنت ربنا، فخدّ لهم علي الأخاديد وأشعل فيها النار، وقال: من لم يرجع عن قوله ألقيته فيها، فردوا عليه بقولهم: الآن ازداد يقيننا أنك ربنا، ولكنه تراجع عن حرقهم بالنار ، وأخذ يقتلهم بالسيف.
أما الخوارج الذين كفّروا الصحابة وكفَّروا بالذنوب فقد ناجزهم وقاتلهم قتالاً شديدًا، وكان له شرف قتل قائدهم وقتل جمعٍ غفير منهم، ولقد بيّن النبي فساد هذه الفرقة، وأن من قتل هؤلاء المبتدعة له أجر عظيم كما قال : ((إن في قتلهم أجرًا عظيمًا لمن قتلهم يوم القيامة)) ، وقال : ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود)) ، وفي رواية: ((لأقتلنهم قتل عاد)).
فكانوا في عهد علي ، فتحقق قول النبي ، ولكن المنافقين المتربصين بأهل الخير أشباه النمل الأبيض (الأرضة)، قتلوا أبا الحسن غدرًا قبل أن يقتل من بقي من قَتَلة عثمان ، وقد قُتلوا جميعًا، آخرهم قتله الحجاج، وهم يبلغون ما يقرب من ألفي رجل تقريبًا.
(1/5048)
من قصص التائبين
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
التوبة, القصص, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الصحابية الغامدية التي زنت ثم تابت. 2- العصاة مهما طغوا إلا أن أصل الصلاح لا يزال في قلوبهم. 3- قصة معاصرة لتوبة شاب عاش حياة الضياع في الخارج. 4- قصة مروج مخدرات عاد إلى الله بعد 28 عامًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
عباد الله، إنني لن أتحدث اليوم عن البطولات، ولا عن التضحيات، ولا عن العلم، ولا عن الأدب، ولا عن الزهد، إنني سوف أتحدث عن جانب آخر، طائفة المذنبين والعصاة، وكلنا كذلك، سوف أقف وإياكم لنتحدث عن قوم أحبهم الله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]، فالتائب حبيب الله، التائبون سالت دموعهم خوفًا من الله، وتحركت قلوبهم شوقا وخشية من الله، فدعونا ـ يا عباد الله ـ نسمع شيئا من قصصهم.
أشرقت شمس الرسالة على مدينة رسول الله قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، ويجلس الرسول في المسجد وأصحابه حوله، يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل؛ يُعلّمهم، ويُؤدبهم، ويزكيهم، واكتمل المجلس بكبار الصحابة وسادات الأنصار وبالأولياء والعلماء، وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكت أصحابه، وأقبلت رُويدًا تمشي وجلاً وخشية، رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم، تناست العار والفضيحة، لم تخش الناس أو عيون الناس وماذا يقول الناس، أقبلت تطلب الموت! نعم تطلب الموت، فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح، يهون إن كان بعده الرضا والقبول، حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه، وأخبرته أنها زنت، وقالت: يا رسول الله، أصبت حدًا فطهرني.
ماذا فعل الرسول ؟ هل استشهد عليها الصحابة؟ هل قال لهم: اشهدوا عليها؟ هل فرح بذلك لأنها سلّمت نفسها؟ لا، احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دمًا، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئًا. وهنا ملحوظة، وهي أن المسلم لا يفرح بزلة أخيه، ولا يتجسس عليه، بل يستره وينصحه، ولهذا فالنبي يمنع التجسس والتصنت والاطلاع على عورات المؤمنين، فهو الذي يقول منذرًا ومحذّرًا طوائف معلومة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
حاول الرسول أن ترجع المرأة عن كلامها، ولكنها امرأة مجيدة، امرأة بارّة، امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها، حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد، فقالت واسمع ماذا قالت، قالت: أراك يا رسول الله تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني حبلى من الزنا، فقال: ((اذهبي حتى تضعيه)).
ويمر الشهر تلو الشهر، والآلام تلد الآلام، حملت طفلها تسعة أشهر، ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به وقد لفَّته في خرقة، وقالت: يا رسول الله، طهرني من الزنا، ها أنا ذا وضعته، فطهرني يا رسول الله، فنظر إلى طفلها وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا؛ لأنه بعث رحمةً للعالمين، رحمةً للعصاة، رحمةً للطيور، رحمةً للحيوان، قال بعض أهل العلم: بل هو رحمة حتى للكافر، قال الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
من يُرضع الطفل إذا رُجمت؟ من يقوم بشؤونه إذا أقام عليها الحد؟ فقال: ((ارجعي وأرضعيه، فإذا فَطَمْتيه فعودي إليّ)) ، فذهبت إلى بيت أهلها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًّا كرسوِّ الجبال، وتدور السنة تعقبها سنة، وتأتي به في يده كسرة خبزٍ يأكلها: يا رسول الله، قد فطمته فطهرني، عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ هذا الذي تحمله؟! ما هذا الإصرار والعزم؟! ثلاث سنين تزيد أو تنقص والأيام تتعاقب والشهور تتوالى وفي كل لحظة لها مع الألم قصة وفي عالم المواجع رواية، ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: طهرني يا رسول الله، فأخذ طفلها وكأنه سلَّ قلبها من بين جنبيها، لكنه أمْر الله، العدالة السماوية، الحق الذي تستقيم به الحياة، دستور الدولة المؤمنة الذي يجعل الناس سواسية حتى في باب العقوبة والسيف والحبس. قال عليه الصلاة والسلام: ((من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين؟)).
ويؤمر بها فتُدفن إلى صدرها ثم ترجم، فيطيش دمٌ من رأسها على خالد بن الوليد، فسبّها على مسمع من النبي ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((مهلاً يا خالد؛ والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْس لقبلت منه)) ، وفي رواية أن النبي أمر بها فَرُجمت، ثم صلّى عليها، فقال له عمر : تُصلّي عليها ـ يا نبي الله ـ وقد زنت؟! فقال النبي : ((لقد تابت توبة لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!)).
إنه الخوف من الله، إنها الخشية لم تزل بتلك المؤمنة حين وقعت في حبائل الشيطان واستجابت له في لحظة ضعف، نعم أذنبت، ولكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملؤه الإيمان ونفسٍ لسعتها حرارة المعصية، نعم أذنبت ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت، قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه، وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة".
الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا يفرق بين معصية وأخرى، فلا ينظر إلى صِغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظمة من عصى. راوَد رجل امرأة في ظلمة الليل فقال: لا يرانا من أحد إلا هذا الكوكب، فقالت: وأين مكوكبها؟! فوجل وأقلع.
وهنا فائدة نستفيدها من هذه القصة وهي أن العصاة في مجتمعنا نحن ـ أيها المؤمنون ـ ليسوا كما يتصورهم البعض أنهم انسلخوا من الدين، أو أنهم خَلَعوا لا إله إلا الله، أو أنهم لا يُؤمّل فيهم صلاح، هذا ليس بصحيح، فعندهم خيرٌ كثير، وإني أعلم أناسًا يجلسون في المقاهي والمنتديات وقد يسهرون الليالي ومع ذلك لو سمع أحدهم سبًّا للدين أو استهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام كان على استعداد أن يُقاتل ذلك المستهزئ، وربما قدم دمه ونفسه دفاعًا عن الدين وعن عِرض محمد عليه الصلاة والسلام.
فقصدي أن نستثير هذا الأصل في نفوس الناس، وأن نُنمّي هذه الفطرة في قلوبهم، حتى يزدادوا من الخير، ويتركوا ما هم عليه من المعصية.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، وما زال الحديث شيقا حول قصص التائبين.
يقول أحد الشباب وهو يحدث عن نفسه: لما كان عمري أربع عشرة سنة ذهب أبي إلى أمريكا للدراسة، فذهبتُ معه وأهملني أبي هناك بين المراقص والأسواق وأنا في تلك السن المبكرة، فلما أتم أبي دراسته سنتين عدنا إلى الرياض، فطلبت أن يعيدني إلى أمريكا لأُكمل الدراسة فرفض، فدرست وتعمدت أن أرسب عدة مرات، فلما رأى أبي ذلك أرسلني إلى أمريكا لأُكمل دراستي، فمكثت فيها تسع سنوات لم تبق معصية على وجه الأرض إلا فعلتها هناك، ثم عدت إلى الرياض وبدأت أدرس في الجامعة وأنا لا أزال على المعاصي الكبيرة والصغيرة، لكن بدا ضيق شديد يكتم عليَّ أنفاسي يضيق علي حياتي، مللت من كل شيء، كل شيء جربته؛ لكن الملل يلازمني! قال هذا الكلام كله وهو يدافع عبراته ويبكي، فسألته: هل تصلي؟ قال: لا، قلت: أول علاج لهذا الهمّ هو أن تصلح علاقتك بالذي قلبُك بين يديه يقلّبه كما يشاء، فحافظ على الصلاة في المسجد، وموعدي معك بعد سبعة أيام، ومضت الأيام، وبعد أسبوع جاءني بغير الوجه الذي فارقته عليه، وأوّل ما رآني عانقني وقال: جزاك الله خيرا، والله ـ يا شيخ ـ إنني في سعادة ما ذقتها منذ تسع سنوات، فسألته عن الضيق والملل والاكتئاب فإذا هو قد زال عنه كله، وصدق الله إذ قال: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125].
وقبل يومين نشرت إحدى الجرائد مقابلة مع أحد أكبر مروِّجي المخدرات في هذه البلاد، والذي تاب إلى الله. يقول هذا التائب في قصته وهو يبلغ من العمر الأربعين، يقول: إنه كان يُروّج ويستخدم المخدرات على مدى ثمانية وعشرين عامًا، وقبض عليه عدة مرات ثم يخرج من السجن. يقول عن حاله قبل توبته: كنت إذا دخلت المنزل لا أُسلّم على أحد، بل أبادر بضرب كل من أمامي بالعقال، وكان أولادي وزوجتي يختبئون تحت الأسِرّة، وأضاف أنه عندما عاد إلى رشده كان لا يعرف كيف يتوضأ؛ لكنه استعان بابنته ذات التسع سنوات فأرشدته إلى الوضوء ثم صلى ركعتين، فيقول: والله لم أجد ألذ ولا أطعم من هاتين الركعتين على مدى 28 عامًا. وعن أسباب توبته يقول: طلب مني أحد الأشخاص في ذات ليلة مخدرات، وقمت بإيصالها إلى منزله، وعندما طرقت الباب فتحت أمه وسألتني: ماذا تريد؟ قلت: أُريد فلانًا، فقالت: غير موجود، بعد أن نهرتني، وقد عرفت أنني رجل مخدرات، وعدتُ مرة أخرى فأخبرته بما حدث، فقال: هل أغضبتك؟ قلت: نعم، فقام بضرب أمّه أمامي، وقمتُ بإبعاد أمه ومنعه من ضربها، وهذا الموقف كان من أسباب توبتي ورجوعي إلى الله.
فليتَّق الله أولئك الذين يروِّجون هذه السموم بين شبابنا، وليتب إلى الله من وقع في حبائلها وظن أن السعادة فيها.
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر: 54–59].
فالتوبةَ التوبةَ عباد الله، فإن الله عزّ وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يده بالنهارِ ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. قال كثير من السلف: فإذا طلعت الشمس من مغربها طُبع على القلوب بما فيها، وترفع الحفَظةُ الأعمال، وتُؤمرُ الملائكة أن لا يكتبوا عملاً.
اللهم صل على محمد...
(1/5049)
المرابطة والمنبر الجديد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
14/1/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعيد اغتصاب الأرض. 2- أهمية الأراضي وحرمتها. 3- الحث على المرابطة في بيت المقدس. 4- المنبر الجديد. 5- دعوة للوحدة ووقف النزاع والاقتتال بين الإخوة. 6- الحفريات حول المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، روى الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من اقتطع شبرا من الأرض ظلمًا طوّق الله يوم القيامة إياه من سبع أرضين)).
أيها المسلمون، إنّ راوي هذا الحديث الشريف هو الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه، وهو من المبشرين في الجنة، ودعوته مجابة، وتتعلق بهذا الحديث الشريف رواية مفادها أن امرأة تُدعى أروى بنت أوس قد ادَّعت زورًا وبهتانا بأنّ سعيد بن زيد قد أخذ شيئا من أرضها، واشتكت إلى الخليفة مروان بن الحكم الأموي، فاستهجن سعيد هذا الادعاء الباطل وقال لمروان بن الحكم: هل آخذ شيئا من أرضها بعد الذي سمعته من رسول الله ؟! فقال له الخليفة مروان بن الحكم: ماذا سمعت من رسول الله ؟ فذكر سعيد بن زيد هذا الحديث النبوي الشريف، فقال له الخليفة مروان بن الحكم: لا أسألك بيِّنة بعد هذا، وحكَم ببراءته، فقال سعيد: اللّهمّ إن كانت أروى كاذبةً فأعم بصرها واقتلها في أرضها. فقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: فما ماتت أروى حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. فالله عز وجل علام الغيوب قد استجاب دعوة سعيد ضدّ هذه المرأة؛ لأنها كذبت عليه وادعت ادعاء باطلا لا أصل له من الصحة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن هذا الحديث النبوي الشريف يبيّن أهمية الأراضي في الإسلام، وأن الاعتداء على الأرض إثم كبير؛ حيث يطوَّق المعتدي يوم القيامة سبع طبقات من الأرضين، كما يؤخذ من هذا الحديث الشريف بأن صاحب الأرض يملك باطنها وجوفها كما يملك ظاهرها وهواءها وسماءها.
وإن الله عز وجل قد عدَّ الخروج من الديار مقترنا بقتل النفس، فيقول في كتابه العزيز: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66]، فكيف ـ يا مسلمون ـ إذا كانت الأرض موقوفة ويعتدي عليها؟! فالإثم أشد وأشد على كلّ من يعتدي على الأراضي الوقفية، وكيف ـ يا مسلمون ـ إذا كان المسجد الأقصى المبارك هو المستهدف بالعدوان وتجري الحفريات أسفله وحوله وفي محيطه؟! فالعدوان مرفوض والإثم مضاعف ومضاعف، وكيف ـ يا مسلمون ـ فيمن يفرّط بشرِ أرض من فلسطين المباركة المقدسة الوقفية؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنّ رسولنا الأكرم محمّدا قد أمرنا بالمرابطة والمحافظة على بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وحثنا على البقاء والسكن فيها، فقد روت الصحابية الجليلة ميمونة بنت سعد رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس، فقال: ((ائتوه فصلّوا فيه، فإن لم تأتوا وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)) ، وفي حديث شريف آخر: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره)) ، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه؟ قال: ((فتهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه)) ، وروى الصحابي الجليل ذو الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)). فالواجب هو المرابطة في هذه الديار المباركة المقدسة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لا تهجروا بلادكم المباركة الطيبة المقدسة رغم المعاناة وشظف العيش، فعليكم المرابطة فيها، فهي مرتبطة بجزء من عقيدة المسلمين، كل المسلمين، وإن ترابها مبلول ومضمّخ بدماء الصحابة الكرام والمجاهدين الأبرار. كما أن عودة المهاجرين إلى أوطانهم هي حقّ مشروع وواجب ديني بحقّ الآباء والأبناء والأحفاد، ولا مجال للتنازل عن هذا الحق، وقد سبق أن أصدرنا فتوى شرعية قبل سبع سنوات أكدنا فيها على أن حق العودة لا يسقط مع مرور الزمان، وأنه يحرم شرعا أخذ التعويض عن الأرض؛ لأن التعويض بمثابة البيع لها، وكما هو معلوم بأن بيع الأرض حرام تحريما قطعيا. ويجوز أخذ التعويض عن المعاناة والأضرار التي لحقت بالمهاجرين وبأبنائهم وأحفادهم مع حفظ حقّهم بالعودة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد شاءت إرادة الله العليّ القدير أن أكون أول من يقف على المنبر الجديد للمسجد الأقصى المبارك، هذا المنبر الذي يذكّرنا بمنبر صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه الذي جهزه نور الدين زنكي في حلب ثم أمر صلاح الدين بنقله إلى الأقصى بعد تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصليبي عام 583هـ/ 1187م، والذي أحرقته يد المكر والحقد والعدوان عام 1389هـ/ 1969م. ونسأل الله عز وجل أن يكون قدوم المنبر الجديد مقدّمة للنصر الموعود، وأن تتحرر مدينة القدس وسائر الديار الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي على أيدي المسلمين الصامدين،كما نطلب من الله تبارك وتعالى أن نلقِي من علياء هذا المنبر خطبة النصر والعزة حين التحرير.
فنحن أهل الرباط نتطلع إلى ذاك اليوم الموعود، وما ذلك على الله بعزيز، وبهذه المناسبة نشكر إخوتنا في الأردن الشقيق الذين قاموا بتمويل وتصنيع وإعداد وتركيب المنبر، وأن يكون ذلك في ميزان حسناتهم يوم القيامة، ونشكر كلّ من يقدم أي دعم للأقصى بخاصة وللقدس بعامة، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
وجاء في حديث نبوي شريف خاطب الرسول عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلا: ((يا معاذ، إن الله سيفتح عليكم الشام بعدي من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلا من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، أتناول في هذه الخطبة أمرين اثنين، هما:
الأمر الأول: الاتفاق على التهدئة بين الأطراف المتنازعة في الشارع الفلسطيني وعدم اللجوء إلى السلاح، فقد أصدرت الهيئة الإسلامية العليا وغيرها من الأحزاب والمؤسَّسات بيانات تطالب بوقف الاقتتال الذي تجدّد مع أمس الخميس والالتزام بالاتفاق على التهدئة ومحاسبة كل من لم يلتزم بالاتفاق، فإنه لمن المرجّح أن يكون طرف ثالث يصطاد بالماء العكر، ومن مصلحته إثارة الفتنة، والمتمثل بالعملاء والطابور الخامس، فلا بدّ من ضبط الأمور ووضع حد للفَلَتان الأمني؛ لتنكشف العناصر التي تلعب بالخفاء.
هذا، وقد كنا ولا زلنا ندعو للوحدة، وأصدرنا عدة فتاوى وأحكام شرعية بتحريم الاقتتال وتحريم الأخذ بالثأر، وعلى جميع المواطنين أن يقفوا في خندق واحد لمواجهة الاحتلال حتى ينتهي، فكلنا نقع تحت وطأته.
أيها المسلمون، يا أحفاد عمر وخالد وأبي عبيدة وصلاح الدين، الأمر الثاني: باب المغاربة وحفر الأنفاق وبناء الكنيس، لقد تزامنت هذه الأمور في وقت واحد، فإن بلدية القدس الإسرائيلية عازمة على تنفيذ المخطط المتعلق بباب المغاربة، هذا المخطّط الذي تمّ إعداده منذ سنتين، ويبحثون عن الوقت المناسب للتنفيذ، وتشير الدلائل بأن البدء بالتنفيذ سيكون بعد غد الأحد، حيث تُزال التّلّة الترابية وتتوسّع ساحة البراق، ويركّب جسر معلق بديلا عن الممرّ القديم المقام على التلة الترابية، وهذا المخطط هو اعتداء على الوقف الإسلامي واعتداء على المسجد الأقصى المبارك، كما هو اعتداء على تراث وحضارة وآثار مدينة القدس.
هذا، وإن المصلين المسلمين مدعوّون للتواجد في باحات المسجد الأقصى بعد غد الأحد للوقوف بوجه الاعتداءات والتجاوزات الإسرائيلية.
أيها المسلمون، أما موضوع الكنيس المنويّ إقامته في البلدة القديمة ملاصقا لحمام العين الذي هو وقف ذري، وإن المنقطة بشكل عام مرتبطة بالأوقاف الإسلامية، وإن هذا الكنيس لا يبعد عن السور الغربي للمسجد الأقصى سوى ثلاثين مترا هوائيّا. وهذا، وإن عددا من المحامين سيقومون بإيقاف العمل بهذا الكنيس من خلال المحاكم وبالطرق القانونية.
وأما الأنفاق الجديدة فهي تمتد من عين سلوان باتجاه المسجد الأقصى المبارك على عمق يزيد عن عشرة أمتار أسفل الأقصى من الجهة الجنوبية، وهناك أنفاق أخرى أسفل الأقصى من الجهة الغربية، والعمل بالأنفاق ما يزال مستمرا. وعليه، فإننا نحمّل السلطات الإسرائيليّة مسؤولية الاعتداءات المتكرِّرة على الأقصى ومرافِقِه وتوابعه ومحيطه، مع التأكيد على أن المصلين المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس سيحمون الأقصى ويدافعون عنه ضمن إمكانياتهم وقدراتهم، وإنهم يضحون من أجله، كيف لا فالأقصى هو الأقصى الذي جثت أمام عظمته الأجيال وحنّت لهيبته مواكب الرجال؟! وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
(1/5050)
رُبَّ سهمٍ أصاب مقتلا
الأسرة والمجتمع, فقه
الديون والقروض, قضايا المجتمع, قضايا فقهية معاصرة
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
خميس مشيط
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرأة بعض الناس على المحرّمات. 2- تهافت الناس على الأسهم البنكيّة. 3- خطورة الربا وبيان وعيده ومفاسده. 4- وجوب التثبت من نشاطات الشركات المساهَم فيها. 5- مفاسد المكاسب الخبيثة. 6- التذكير بالحساب في اليوم الآخر. 7- حكم المساهمة في الشركات ذات النشاط المباح ولكنها تقترض وتودع بالربا. 8- وجوب الحرص على الرزق الحلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الموحد، في خضم معترك هذه الحياة وفي بحرها المتلاطم الأمواج هناك فئة من المسلمين تجرؤوا على الحرمات وارتكبوا المنهيات دون ورع ولا خوف، فأكلوا الربا، ودَعَوا الناسَ إلى أكله، مجاهرين بالمعصية، وقد توعّدهم الله بعقاب من عنده على لسان نبيه، فقال : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) أخرجه البخاري. ومن تعامل بالربا فقد خالف أمر الله وأمر نبيه ، وعصى الأوامر، واقترف الزواجر، وقد قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وفي فترةٍ لم يسبق لها مثيل تهافت الناس على البيع والشراء في الأسهم المحلية والخارجية، وأصبحت في لمح البصر شغلَ مجالسنا ومنتدياتنا، حتى أصبح أكثر أفراد مجتمعاتنا بين الاستثمار والمضاربة فيها، ففتحت صالات استثمارية من أجل ذلك، وأصبح هناك مواقع عدّة على الشبكة المعلوماتية، ورواد غرف الأسهم على بعض برامج الشبكة المعلوماتية أضعاف أضعاف باقي الغرف الأخرى، ومنتديات عدَّة ودورات وبرامج تعليمية، وكل ذلك من أجل السباق في مضمارها.
رُبَّ سهمٍ من أسهمنا ـ يا أخي الكريم ـ أصاب مقتلا في دين العبد بسبب طَعم المال الذي جناهُ المستثمر أو المضارب في شركة ربويّة ولو كان فيها نسبة قليلة، فبعض الناس أخرص لسانه عن سؤال العلماء المختصّين في ذلك، فلا يعرف الشركةَ الحلال من الشركة الحرام، وبعضهم تجاهل الصوتَ الأغلب في حرمته، فيسمع ويُقنِع نفسَه مع ذلك بأنه لم يسمع، ويأكل الحرام في صباحه ومسائه، وبعد العشاء يُعنِّف على من يتشدّدُ في بعض الفتاوى التي تُبرئ دينَه.
وماذا ينفع الإنسانَ إذا أصاب هذا السهمُ الذي يضاربُ فيه أو يستثمره أعظمَ شيء لدى بني الإنسان وهو الدين؟! في البخاري ومسند الإمام أحمد قال : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)) ، نسأل الله العافية.
الربا ـ يا أيها المسلم ـ قليل أو كثير حرام حرام حرام، كبيرة من الكبائر، موبقة من الموبقات، ومن أعظم الجرائم وأشد العظائم. الربا يهلك الأموال ويمحق البركات ويجلب الحسرات ويورث النكسات، قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276].
الربا دمار للأفراد والشعوب وإشعال لفتيل الحروب. الربا هلاك للأمم والمجتمعات، بل صغار وذلة للمتعاملين به، ولا أدلّ على ذلك من هذه النكبات التي حطّت رحالها بأمة محمّد ؛ من حروب مدمرة وفيضانات عارمة وكسوف وخسوف ورياح عاتية وقتل وسرقات وجرائم واغتيالات ونهب للممتلكات، كوارث وحوادث ليس لها من دون الله كاشفة، ولا منجى منها إلا بتوبة صادقة ورجوع إلى الله الواحد القهار.
من يأكل الربا يعلنُ الحرب على الله ورسوله، فيا تُرى من يحارب الله ورسولَه أتراه ينتصر؟! أتراه يكسب في الباقية؟! قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 275-281]، وقال : ((درهم ربا يأكلُه الرجلُ وهو يعلم أشدُّ من ستةٍ وثلاثين زنية)) رواه أحمد وصححه الألباني عن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الربا ثلاثٌ وسبعون بابا، أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمه)) صححه الألباني في صحيح الترغيب.
فاتق الله في نفسك إن كنت ممن يساهم في الأسهم الربوية، ولا تعرّضْ نفسَك وأهلكَ لأكلِ الحرام. وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((أريت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجلَ بحجر في فيه فردّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا)) رواه البخاري.
ولذلك ـ أيها المسلمُ ـ لا تجرح دينك بسهمِ ربا، وإلا فإنك تعلن الحرب على الله ورسوله. وإذا أردتَ شراءَ أسهمِ أيِّ شركةٍ فعليك أن تتثبّتَ من أنَّ نشاطَها مباح ونقيّ، فلا يصحُّ بحالٍ أنْ تساهمَ في شركاتِ التأمينِ التجاري أو البنوكِ الربوية أو الشركاتِ المصنعةِ للسلعِ التي حرمها الله تعالى كالدخانِ أو الخمرِ وما شابه ذلك، أو أنْ تشارك في الشركةِ التي ما سلمت من الربا إيداعًا واقتراضًا.
رُبَّ سهمٍ يأكلُ منه الإنسان يحرِمه من دعوة مستجابة، قد يأتيك مرض، قد يأتيك همّ، قد يأتيك نكبة، فترفع يديك إلى الله فتقول: يا رب يا ربّ يا ربّ، فلا يستجيب الله لك. ذكر الرسول الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، قال الرسول : ((فأنى يستجابُ له؟!)) رواه مسلم.
ورُبّ سهم ربويّ كان شؤما على صاحبه، ربما سلّط الله عليه بسبَبه الآفات المهلكة والكوارث المدمرة؛ من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه، وكم رأى الناس وعاينوا وشاهدوا وعايشوا عاقبةَ الربا على أصحابه، فكم من الأثرياء المساهمين بالربا محق الله ما بأيديهم، حيث أصابتهم الديون، فأخذهم الله بعذاب الهون، فصاروا عالة على الناس يتكفّفون، وصدق الله العظيم القائل: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160، 161].
رُبَّ سهم من الأسهم أمرض مستثمريها ومضاربيها، فسبّب لبعضهم أمراضا نفسية وحالات عصبية وضيقًا وهمّا، وهذا لا ينبغي لأنّ من يساهم يدخل بنيّة الربح والخسارة، فإذا خسر فلا ينسَى الركن السادس من أركان الإيمان الستّة وهو الإيمان بالقضاء والقدر خيرِهِ وشرِّه.
رُبَّ سهم من الأسهم ـ يا موحدون ـ أصاب مقتلا في اقتصادنا التجاري، فعطَّل الناسُ عن تطوير هذا البلد وإنشاء المصانع وإقامة المشاريع، فتقلّصت حركة البناء، وأصاب الفتورُ الحركة التجارية. وعلينا ـ أيها الناس ـ أن لا ننفرط بالكلية في وضع أموالنا في هذه المساهمات، أقصد المساهمات النقية، وأن يتفطّن الإنسان في إيجاد المكاسب التجارية التي تعود عليه وعلى أهل البلد بالخير والفائدة، ولا يصبحُ الإنسان طُعمًا سهلاً للكبارِ دون أن يشعر، من أجل أن لا يصبح بين لحظات في قطار المفلسين.
رُبَّ سهمٍ ـ أيها المسلمون ـ ضيع أمانة المسلم بسبب غشّه وخداعه، فيغُشُّ نفسه في تعاملِه مع الناسِ، ويعتمدُ في تعاملهِ على الغشِّ والخداع، وأشدّهم من يوهم الناس بأنه يشتغل في الأسهم النقية من أجل أن يساهموا معه وهو يشتغل في الأسهم الحرام أو المختلطة، والنبيُّ يقول: ((من غشّنا فليس منا)) رواه مسلم.
وكذلك من المهمّ أن لا يضيع الإنسان أمانتَه في عمله ووظيفته، فما يحصل الآن من بعض الموظفين وبعض المعلّمين في اشتغالهم بشاشات الأسهم وترك أمانتهم شيء عجيب، شيء تتفطّرُ له الأكباد. وأصبح بعض الموظفين يتستّرون في أعمالهم مع بعضهم البعض بسبب مصلحتهم الشخصية، فضيّعوا الأمانة، وغشّواِ الرعية، قال الرسول : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة)). فليتق الله العبد وليحفظ أمانته.
ولا يسبِّب سهمٌ من الأسهم صدَّ الإنسان عن ذكر الله تعالى والصلاة، نعم الأسهمُ والمكاسبُ المالية لها بريقٌ ولمعان، لكن ينبغي أن لا تلهيَنا عن التجارة مع الواحد الديان.
ماذا ينفعُ الإنسانَ حرصهُ على جمعِ حطامِ الدنيا إذا أُوقف على سقر؟! وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 27-30]، ماذا ينفعُه حينئذ حرصهُ على ارتفاع أو انخفاض مؤشّر الأسهم إذا أوقف بين يدي الله تعالى، وبدأ يبحثُ يمنةً ويسرةً عن حسنةٍ واحدةٍ تُنجيه بإذن الله تعالى من ناره وجحيمه، لِنَكن ممن قال الله فيهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور: 37]، يقول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 2، 3]. قال سفيانُ بنُ عيينة رحمه الله: "لا يُصيبُ عبد حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بينَه وبين الحرامِ حاجزًا من الحلال، وحتى يدعَ الإثمَ وما تشابه منه". نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
وأحيل كل من كان لديه مبلغا للمساهمة أن يستعرض بين كلّ وقت وآخر القوائم النقية التي تتجدد دائما على موقع شبكة نور الإسلام، ولا ينسى المستثمرون من إخراج زكاة أموالهم من الأرباح السنوية، أو من الأرباح التي دار عليها الحول، ومن أراد الاستزادة من زكاة الأسهم أو بعض الأحكام المتعلقة بالمعاملات المالية فليرجع إلى موقع اسمه: "الربح الحلال" أو يرجع إلى أهل العلم الثقات.
وقد يظهر بين وقت وآخر شركات يكون فيها اكتتاب، وقد تكون بعض الشركات من الشركات ذات النشاط المباح، ولكنها تقترض وتودع بالربا، وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذا النوع من الشركات، منهم من قال بأنها جائزة، ومنهم من قال بأنه لا يجوز الاكتتاب فيها، وهذا القول عليه أكثرُ أهل العلم، ومنهم مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونصّ قرارهم في الأسهم المختلطة: "الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة"، والمجمع الفقهي التابعِ لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ونص قرارهم: "لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك". وممن قال بالتحريم أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي في السودان، وعدد من الفقهاء المعاصرين.
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة تدل بعمومها على تحريم الربا قليله وكثيره، ولأن يد الشركة على المال هي نفس يد المساهم، فأي عمل تقوم به فهو عمله، لا فرق بينهما، فكما يحرم على الإنسان أن يستثمر جزءًا من ماله ولو يسيرًا في معاملات محرمة، فكذا يحرم عليه المشاركة في شركات تتعامل بالحرام؛ لأن المال المستثمر هو ماله بعينه.
وفي مجتمعاتنا من يشمّر ويستعد للاكتتاب في مثل هذه الشركات، وما إن يسمع بأن أيًّا من هذه الشركات من الشركات غير النقية إلا توقف عن العزم بالاكتتاب فيها، وتحرك منسوب الإيمان لديه، وردعه عن ذلك، وأفشل خطته الشيطانية التي تراوده بين وقت وآخر بتتبع الرُّخص وأخذ فتوى من قال لهم بالجواز، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرا منه.
فالله الله في أكل الحلال، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]. قال القرطبي: "سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكلّ في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ".
ففي أكل الحلال صلاح للقلوب ونجاة من الهلاك ولذة الإيمان؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. فلا ننساق خلف البنوك الربوية والدعايات الصحفية التي هي تحت شعارات مضللة وروايات باطلة بأسماء منمقة، كالخدمات البنكية والنظام المصرفي والمداينات والقرض والفائدة وحساب التوفير وودائع الائتمان ونحو ذلك، لمَّا تغيَّر اسم الربا إلى تلك الأسماء انساق الناس وراءَ ترّهات الأحلام وسفهاء الأقلام، فوقعوا في الربا عيانًا بيانًا، فيا حسرةً على العباد، تاهوا في كل واد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5051)
فتنة المال
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
فهد بن عبد الله آل طالب
الرياض
10/2/1427
جامع الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة حديث الناس عن الأسهم. 2- لهث الناس وراء الدنيا. 3- خوف النبي على هذه الأمة من بسط المال. 4- مفاسد طغيان حب الدنيا على القلوب. 5- سبيل الخلاص من فتنة المال. 6- الدنيا المذمومة في الإسلام. 7- نعم المال الصالح للرجل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، صارت الأسهم حديثَ الناس في مجالسهم وأماكن سمرهم، وصار الواحد بينهم غريبًا، إن تركهم وحديثَهم مقَتوه، وإن شاركهم حديثهم أضاعَ عمره ووقتَه.
رجل باع بيته وسيارته، وآخر حمّل نفسه من الديون ما كان في غنى عنه، وثالث توقفت نبضات قلبه ففارَق الحياة، لهث خلف المال، وركض خلفَ السراب، في شرق البلاد وغربها، يركب الصعبَ والذلول، كأنه موكّل بفضاء الله يذرَعه.
والحرص في الرِّزق والأرزاق قد قسمَت بغيٌ ألا إنّ بغيَ المرء يصرعه
قال أبو الدرداء : اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل له: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال.
لقد سقت الدنيا أربابها سما، وأبدلتهم من أفراحهم بها هما، وأثابتهم على مدحهم لها ذما، وقطعت أكبادهم فماتوا عليها غما، فيا مشغولاً بها توقع خطبا ملما.
أيها المتعب جهدا نفسه يطلب الدنيا حريصا جاهدا
لا لك الدنيا ولا أنت لَها فاجعل الهمّين هَما واحدا
أيها المؤمنون، المال قوام الحياة، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]، وهو زينة وفتنة وسبب التِهاء وطغيان، بذاك قد نطق القرآن، ولقد أخبر نبيكم عن فتنة أمته فقال: ((إن لكل أمة فتنةً، وفتنةُ أمتي المال)) أخرجه أحمد وغيره وصححه الألباني، وكان يتخَوّف مِن فتحِ الدّنيا على أمّته، يخافُ عليهم الافتتان بها، فعن عمرو بن عوفٍ أنّ النبيّ قال للأنصارِ لمّا جاءَه مالٌ من البَحرين: ((أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلِككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري، وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ قال: ((إذا فُتِحت عليكم فارسُ والرّوم أيُّ قومٍ أنتم؟)) قال عبدُ الرحمن بن عوف: نقول كما أمَرنا الله، قال رسول الله : ((أوْ غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسَدون، ثمّ تتدابَرون، ثمّ تتباغضون)).
هذه بعضُ آثارِ بسطِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تحاسدٌ ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارِها الانغماس في التّرَف ونسيانُ الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام، روي عنِ الحسنِ البصريّ أنّه قال: "رحِم الله أقوامًا كانتِ الدّنيا عندَهم وديعة، فأدَّوها إلى مَن ائتمنهم عليها، ثمّ راحوا خفافا".
طغى حبُّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوته خضرتها، يصرف لها همّه، عبدوها من دون الله، آثروها على متعةِ الآخرة، وفيهم يقولُ رسول الله : ((تعِسَ عبدُ الدّينار وعبدُ الدّرهم وعبدُ الخميصة، إن أعطِي رضِي، وإن لم يُعْط سخِط)) أخرجه البخاري.
قال الحسن: "إياكم وما شغَل من الدنيا، فالدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه بابَ شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب"، وعن بشر بن الحارث قال: "من سأل الله تعالى الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف".
أيها الأحبة، وليس يخفى أن أودية الدنيا سحيقة وشعابَها كثيرة متفرقة، والخلاصُ من فتنتها والسمو عن زخرفها والنجاة من غرورها يحتاج إلى مجاهدة للنفس واستعانة بالعلي الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
فإن قلت أيها الموفق: فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟
فالجواب: إن أول طريق للخلاص هو التفكير الدائم في أمر الآخرة وإعطاؤها نفيسَ الوقتِ والهم والعمل، ففي القلب استعداد للانصراف للآخرة، كما أن فيه استعدادًا للانصراف للدنيا، وحين تزاحم إحداهما الأخرى فسيكون نصيب المغلوب ضئيلا، وليختر العاقل ما شاء: متاعَ الغرور أو النعيمَ الدائم والحبور، قال الحسن: "أدركت أقواما وصحبت طوائف، ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في عيونهم أهون من التراب".
وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله والكفافُ بالعيش، وفي صحيح مسلم قوله : ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنَّعه الله)) ، وروى مسلم أيضًا أن عبد الله بن عمرو بن العاص سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟! فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإنّ لي خادمًا! قال: فأنت من الملوك.
والإسلام يصحّح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن والعافية والقوتَ القليل يعدل الدنيا بأسرها، روي أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني بطرقه.
هذا الحديث يصحّح النظرة السائدة، ويقطع تطلّع النفوس نحو التعلّق بالمال وجمع الحطام، ويدعو إلى القناعة والرضا والعفاف، بل هو سبيل إلى عدم التشاغل والتلهي بالدنيا، ومن لم يقنع بما آتاه الله فلن تقف به نفسه عند حدّ، ولن يملأ فاه إلا التراب، عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) متفق عليه.
الأمر الثالث في علاج فتنة المال: الدواء الناجع والحل النافع الذي ذكره الرحيم بأمته الشفيق عليهم، يقول : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) رواه مسلم. غيرَ أن الكثير من الناس يحاول جاهدًا أن يعيش عيشة الأغنياء المترفين، ولو كلفه ذلك كل شيء، فتجده يدخل في متاهات الديون والقروض والأقساط في سبيل أن تكون له سيارة فارهة أو منزل فاخر أو حاجات كمالية، وهو لا يملك إلا مرتَّبَه الشهري، بل ربما لا يبقى له من مرتبه شيء يعيش به هو وأبناؤه، فقسط لسيارته، وقسط للأثاث، وقسط لدين هنا أو هناك، ولو قنع بما آتاه الله ولم ينظر إلى من هو فوقه لكان أغنى الناس.
ومما يعين على الخلاص من فتنة المال أن تعلم حالَ الحبيب ، فقد عاش زاهدًا في الدنيا، حتى بعد أن فتحت الفتوح، أما بيته فتقول عائشة: كنت أنام في قبلة النبي وهو قائم يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. متفق عليه. وأما طعامه فقد كان يمر الهلال والهلال وما يوقد في بيته نار، ولا يجد من رديء التمر ما يملأ بطنه. وأما لباسه فقد أخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداء وكساء غليظًا فقالت: توفي رسول الله في هذين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "والآدمي محتاج إلى صلاح بدنه الذي هو كالناقة للمسافر، فمن تناول ما يصلحه لم يذم، ومن أخذ فوق الحاجة بكفّ الشره وقع الذمّ لفعله، وأضيف إلى الدنيا تجوّزا، وليس للشره وجه؛ لأنه يُخرج إلى الأذى، ويُشغل عن طلب الأخرى، فيُفوّت المقصود ويضر، بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويُبْرد لها الماء، ويُغيرّ عليها أنواع الثياب، وينسى أن الرُّفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة السباع هو وناقته، ولا وجه في التقصير في تناول الحاجة من الدنيا؛ لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها". قال السفاريني معلقا: "وهذا كلام في غاية التحقيق، لم يخرج إلا من جوف صديق".
أيها الأحبة في الله، الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ هي دنيَا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوقِ والواجبات والتّساهلِ في المحرَّمات، الدنيا التي تَشغَل عن الله وتلهِي عن الآخرة، أرادَ الله أن تكون الدّنيا مُلكًا لنا، فجاءَ صِغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.
ومن الناس من يسعده المال، ويسعد هو بالمال، فهو يعرف لله فيه حقا، ينفق منه ذات اليمين وذات الشمال، يأخذه من حله، ويصرفه في مصارفه الشرعية، لا يلهيه عن ذكر الله ولا يطغيه، ولا يدعوه لازدراء خلق الله، أولئك في أموالهم حق للسائل والمحروم، وأولئك من أهل الإيمان والتقى، كما قال الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 15-19].
عن عبد الله بن الشخير قال: أتيت النبي وهو يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!)) رواه مسلم.
ألا وإنّ المرتبة المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بينَ الصّبر والفقر، بين التّقوى والغِنى، ولذا قال رسولُ الله : ((نِعمَ المال الصّالح للمَرء الصّالح)) أخرجه البخاري، ويدعو رسولُنا الكريم ربَّه قائلاً: ((اللهمّ أصلِح لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلِح لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادِي، واجعَل الحياةَ زيادةً لي في كلّ خَير، واجعلِ الموتَ راحة لي من كلّ شرّ)) أخرجه مسلم، ومن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 201، 202].
(1/5052)
موعظة للمساهمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الكبائر والمعاصي
خالد بن محمد العمري
المخواة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب إطابة المطعم والابتعاد عن المكاسب الخبيثة المحرمة. 2- مفاسد المكاسب الخبيثة. 3- الابتعاد عن المشتبهات. 4- حرمة الربا وعظم جرمه وخطره. 5- فضل الورع. 6- واجب العوام عند اختلاف العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب.
عباد الله، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ـ ثم ذكر ـ الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!)).
فالمؤمن كله طيب، قلبه ولسانه وجسده؛ بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان وداخلة في اسمه، فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل. ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله. وفيه أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالاً فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولاً؟! وذكر مثلاً لذلك: الدعاء كيف يتقبل مع الحرام؟! فأشار إلى أن التوسع في الحرام أكلاً وشربًا ولبسًا وتغذية مما يمنع إجابة الدعوة.
وحث أصحابه على إطابة المطعم وتحري الكسب الحلال، وبين لهم فضيلة ذلك فقال لسعد بن أبي وقاص : ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)). فعمل سعد بهذه الوصية الغالية، فوجد أثرها في دعائه، فقد قيل له : تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله ؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت.
قال مالك بن دينار: "أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجًا، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إلي أكفًا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعدًا".
وهنا وقفة أيها الإخوة، كم مرة نخرج فيها للاستسقاء؟! هل سأل كل واحد منا نفسه: ما الذي أخر نزول الغيث؟! ما الذي وقف مانعًا من قبول الدعاء؟! قال بعض السلف: "لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي"، وكما قيل:
نحن ندعو الإله فِي كل كرب ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء قد سددنا طريقها بالذنوب
عباد الله، ما سبق من الحديث عن وجوب تحري الكسب الطيب والمطعم الحلال هو أصل هام يجب الاعتناء به، خصوصًا في هذه الأيام التي كثرت فيها المساهمات والاكتتاب في الشركات، فيجب على كل مساهم سؤال أهل العلم الراسخين عن حلالها وحرامها قبل أن يقدم، وأن يكون قصده الوصول إلى الحق لا البحث عمن يجيز له ذلك.
ومن الأصول الهامة التي يجب أن يستحضرها المسلم في مثل هذه الأيام الابتعاد عن الأمور المشتبهة بين الحلال والحرام، فعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنَّ الحلال بين، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)) رواه البخاري ومسلم. قال سفيان بن عيينة: "لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه".
ومن الأمور التي يجب أن يستحضرها المسلم في مثل هذه الأيام حرمة الربا وإثمه وخطورته على الأفراد والجماعات، فها هو الله جل وعلا يقول في محكم كتابه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ [البقرة: 275]، أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان به، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، قال ابن عباس : (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق).
وروى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل، قال : ((فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي وضع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرًا)) ، وذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقد أعلنها الجبار المنتقم حربًا على من لم يتب من التعامل بالربا، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279]. قال ابن عباس : (يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب)، ثم قرأ الآية السابقة.
وقد لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وأخبر : ((إ ن درهمَ ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)) ، وقال أيضًا : ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) ، وقال : ((الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلّ)) ، فهو يذهب البركة ويمحق المال، كما قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276].
واسمع معي إلى قصة هذه المرأة وتأمّلها جيدًا، ففيها عبرة وعظة، تقول: كنا معًا في أطيب حال وأهنأ بال، زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، وعندنا القناعة والرضا، طفلتنا مِصباح الدار وضحكاتها تفتق الأزهار، إنها ريحانة تهتز، فإذا جنّ علينا الليل ونامت الصغيرة قمنا معًا نسبح الله، نرتل القرآن، وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع، وذات يوم أردنا أن تكثر فيه الفلوس، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهمًا ربويّة لتكثر منها الأموال فندّخرها للعيال، فوضعنا فيها كلّ ما نملك، ثم انخفضت أسهم السوق وأحسسنا بالهلكة، فأصبح الدينار فلسًا، وشربنا من الهموم كأسًا، وكثرت علينا الديون والتبعات، وعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات. وفي ليلة حزينة خوت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق، أنت طالق، فبكيت وبكت الصغيرة، وعبر دموعي الجارية تذكرت جيدًا يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية.
فانظر كيف كان الربا سببًا في ذهاب بركة البيت وسعادته وهناءته، ليحل محل ذلك الشقاء والعناء وألم الفراق والتشتت؛ ولذلك كان من عادة نساء السلف إذا خرج الرجل من منزله أن تقول له زوجته أو بنته: إياك وكسب الحرام؛ فإننا نصبر على الضر والجوع ولا نصبر على النار.
عباد الله، ما أجمل أن يتصف المسلم بالورع، والورع ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وقيل: ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا.
عن عائشة رضي لله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ويأكل أبو بكر من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلّ شيء في بطنه.
كان الإمام أبو إسحاق الشيرازي على خشونة شديدة من الفقر والإملاق وفي غاية من الورع والصلاح، دخل المسجد يومًا ليأكل فيه شيئًا فنسي دينارًا، فذكره في الطريق، فرجع فلما وجده تركه ولم يمسه، وقال: ربما وقع من غيري ولا يكون ديناري.
قال سفيان الثوري: عليك بالورع يخفّف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
قال العلامة القسطلاني: "بالله عليك، ما لم تعلم حله يقينًا اتركه، كتركه تمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة، وأعلى الورع ترك الحلال مخافة الحرام، كترك إبراهيم بن أدهم أجرته لشكه في وفاء عمله وطوى عن جوع شديد. وقالت أخت بشر الحافي لأحمد بن حنبل: إنا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية ـ أي: الحرس ـ ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ فقال: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي، فبكى وقال: مِن بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها. وأقامت السيدة بديعة الإيجية من أهل عصرنا هذا ـ أي: القرن العاشر ـ بمكة أكثر من ثلاثين سنة، لم تأكل من اللحوم والثمار وغيرها المجلوبة من بجيلة لما قيل: إنهم لا يورّثون البنات. وامتنع أبوها نور الدين من تناول ثمر المدينة لما ذكر أنهم لا يزكّون. ومن ترخص ندم، والأورع أسرع على الصراط يوم القيامة" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
عباد الله، إنّ السعي في الأرض لكسب الرزق وتوفير القوت للعيال أمر مندوب إليه ومحمود صاحبه، وإن سلوك طريق التجارة المباحة أيًا كان نشاطها أمر مرغوب فيه كذلك، ولكن الذي أريد أن أصل إليه من خلال هذه الخطبة هو ترسيخ القضايا الأربع التي سبق طرحها بالتفصيل وهي:
أولا: وجوب إطابة المطعم والابتعاد عن الكسب الخبيث المحرم.
ثانيًا: الابتعاد عن الأمور المشتبهة بين الحلال والحرام.
ثالثًا: حرمة الربا وعظم جرمه وخطره وما فيه من محق لبركة الرزق الحلال.
رابعًا: سلوك سبيل الورع هو شعار الصالحين وطريقة أئمة الهدى والدين.
واعلم يقينًا ـ عبد الله ـ أن المتورّع عن الحرام لن يعدم فتوحًا من الحلال، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله تعالى خيرًا منه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على رسوله المصطفى ونبيه المجتبى نبينا محمد، وآله وصحبه منارات الهدى ومصابيح الدجى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله جل وعلا، فمن اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده.
عباد الله، مع كل اكتتاب جديد وطرح أسهم للتداول تأتيك التساؤلات من الناس حين يسمعون التضارب في الفتاوى بين محلّ ومحرّم: بأي فتوى نأخذ؟
وإجابة على هذا السؤال نقول: الرجال والنساء والعلماء والعامة متعبَّدون لله عز وجل بما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والأدلة الشرعية المعروفة، فإذا اختلف العلماء سواء كان الخلاف قديمًا أو حديثًا بين العلماء المعاصرين أو مستمرًا كما في كثير من المسائل نأخذ بالقول الأقرب إلى الكتاب والسنة، ويكون ذلك بأحد طريقين:
الأول: أن يكون عندك علم وقدرة على التمييز بين الأدلة، فتأخذ بأقواهما وأقربهما إلى الكتاب والسنة، ولا تأخذ ما تشتهيه نفسك ويوافق هواك ورغبتك، فليس الدين بالتشهي.
الثاني: إذا لم يكن لديك قدرة على التمييز ولا تحسن الأدلة فتأخذ بقول من هو أعلم وأورع وأتقى لله عز وجل.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5053)
وقفات مع تجارة الأسهم
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن حمد السكاكر
بريدة
جامع الذربان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خشية النبي من بسط الدنيا على أمته وتنافسهم عليها. 2- من صور إهلاك الدنيا للمتهافتين عليها. 3- حرمة أكل الربا وبشاعة التعامل به. 4- مشروعية طلب الرزق والتحذير من الانهماك في الدنيا والانشغال عن الواجبات. 5- غفلة الخاسرين في الأسهم عن الأسباب الشرعية للخسائر ونظرهم إلى الأسباب المادية.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أنفاسَكم معدودة وأعماركم محدودة، وعما قريبٍ تقدمون على ربكم، فما تخشَون أن تلقوا به ربكم غدًا فدَعُوه اليوم، وما تحبون أن تلقوا به ربكم فاستعجلوه أن تُقتطعوا دونه.
عباد الله، روى البخاري ومسلم عليهما رحمة الله عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قدم أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ، فلما صلى رسول الله انصرف فتعرّضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: ((أظنُّكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين)) ، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم؛ فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم)).
عباد الله، إنّ من ينظر في سوق الأسهم وما يعتَلج فيه من تهافتٍ على الدنيا وانشغالٍ بها وتقحُّم للحرام وجُرأةٍ على المتشابه وتقصيرٍ في الواجبات ثم يقرأ هذا الحديث لا يملك إلا أن يتذكر قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].
إخوة الإيمان، إن قوله : ((وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم)) يتضمن أنواعًا من الإهلاك رأيناها بأَعيُننا وسمعناها بآذاننا في هذا السوق.
فمن إهلاك الدنيا لأصحابها طلبُها من الحرام كالربا والقمار والميسر ونحوها، وإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئًا من المكاسب كما حرّم الربا، فقد حرمه سبحانه وتعالى، وأخبر أن آكِلَه لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع الذي به مسٌ من الجن، قال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 275]، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل أكل الربا حربًا له ولرسوله ، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. [البقرة: 278، 279]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله)، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب)، ثم قرأ: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ، والموبقات هي الذنوب المهلكات.
عباد الله، لا يخفى على أحد أن كثيرًا من الشركات التي تُتَداول أسهمُها في السوق تستثمِر بالربا، فأي إهلاك أعظم من الاتّجار بأسهم شركات الربا؛ فيأكله المسلم ويؤكله أهله، فتنبت على السحت لحومهم، وتحجب عن السماء دعواتهم، ويستوجبون غضب الله ولعنته وحربه وعذابه؟!
إخوة الإيمان، ومن إهلاك الدنيا لعُبَّادها أن تجرّئَهم على المتشابه وكأنه أطيب الحلال، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
لقد قسَّم أهل العلم شركات المساهمة التي يتداولها الناس إلى ثلاثة أقسام: نقية في الجملة، ومحرمة، ومختلَطة، فالشركات المختلَطة هي التي تستثمر في الربا بنسبة قليلة، وهي من المتشابه الذي أمر رسول الله باجتنابه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
عباد الله، إن الشبهة في الشركات المختلطة قوية، فهي تعمل بيقين في الربا، والربا من الشناعة كما قد سمعتم، حتى إن مجمع الفقه الإسلامي الذي يضمّ عشرات العلماء من أنحاء العالم الإسلامي قد عقد عدة دورات ومع ذلك لم يخرج فيها برأيٍ لقوةِ شبهتها وخطورة أمرها. ومع ذلك تجد بعض المستثمرين في سوق الأسهم يتقحّمها لا يلوي على شيء، وكأنه يستثمر أمواله في لبن أو عسل. فأي إهلاك أعظم بعد الربا من أن يقع المسلم في المتشابه على أُم رأسه ثم هو لا يحس بحرج ولا تأثم؟!
عباد الله، ومن إهلاك الدنيا لعُبَّادها اتباع الهوى وما تشتهيه الأنفس من فتاوى أهل العلم، فكثير من المستثمرين في سوق الأسهم له في كل شركة شيخ، وفي كل مسألة مفتي، فمن وافق هواه من أهل العلم فهو المعروف بالعلم والورع، والمعروف بالعلم والورع اليوم جاهل غدًا، لأنه خالف الهوى، ويكفي كثيرًا من الناس أن يكون في المسألة خلاف، وكأن خلاف أهل العلم تخييرٌ للعوام، وبعض الناس لا يقول: ما حكم كذا؟ وإنما يقول: هل قال بالجواز أحد؟
إخوة الإيمان، إن الله عز وجل يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. ومن لم يكن عنده علمٌ يستطيع به النظر في الأدلة والترجيح بين الأقوال فليس عنده علم يعلم به المصيب من المفتين، فلم يبق إلا أن يُقلِّد من يثق بعمله وورعه، فإن لم يكن له علم بهم استعان بعد الله ببعض أهل العلم في معرفة من يقلِّد، ثم يلزم قوله، ويجعله حجة بينه وبين الله.
عباد الله، أيُّ هلاكٍ وضلالٍ أعظم من اتباع الهوى بغير هدى من الله؟! قال الله سبحانه وتعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]، وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
اللهم اهدنا وحبب الهدى لنا، اللهم نور بصائرنا وأصلح قلوبنا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جعله حجة على الهالكين ومحجة للسالكين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سلك طريقهم وتلمَّس سننهم إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
عباد الله، ومن إهلاك الدنيا لعُبَّادها المتهافتين عليها أن تحيط بقلوبهم وتأخذ بألبابهم وتقطعهم عن أداء ما أوجب الله عليهم، ففي رواية للبخاري رحمه الله أن رسول الله قال: ((ولكني أخشى عليكم أن تفتح الدنيا عليكم كما فُتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُلهيكم كما ألْهتهم)).
إخوة الإيمان، اسألوا المستثمرين في الأسهم في أوج نشاط السوق عن صلاتهم ما عقلوا منها وما لم يعقلوا، اسألوهم عن الزكاة الواجبة ما أخرجوا منها وما أَخّروا وما منعوا، وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة: 75-77]. اسألوهم عن أرحامٍ قُطعت ورعايا ضُيِّعت، اسألوهم عن مشاريع دعوية أو خيرية نُسيت، اسألوهم عن هموم المسلمين وآلامهم هل بقي لها في قلوبهم وأوقاتهم مساحة وفسحة.
عباد الله، أي إهلاك أعظم من ترك المسلم للواجبات وزهده في الصالحات وغفلته عن لقاء رب الأرض والسماوات؟! أين من شغلتهم الأسهم وطارت بألبابهم من رجال قال الله سبحانه وتعالى عنهم: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور: 37] ؟!
إنّ طلب الرزق لا عيب فيه، ولكنَّ الانهماك في طلب الدنيا وسُكْرَ القلب بها حتى يغفل عن الحياة الباقية هو العيب والهلاك، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17]. قال عثمان : (كانت الدنيا بأيدينا، فهي اليوم في قلوبكم).
إخوة الإيمان، حين انتكس السوق وعظمت الخسائر طارت عقول كثير من الناس، وفقدوا صوابهم، وأخذوا يبحثون عن كل سببٍ إلا الأسباب الشرعية، وقعوا في الأعراض بلا بينة، وكالوا التهم بلا حجة، فهيئة سوق المال وتلاعب كبار المستثمرين وجهل المضاربين في أسباب كثيرة يردّدها أكثر الناس وهم غافلون، غافلون عن الأسباب الشرعية التي نصبها الله سبحانه وتعالى وجعلها علامة على المحق في الدنيا والهلاك في الآخرة، قال الله سبحانه وتعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276]. قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يُذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذّبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ " اهـ.
إن من يتهم هيئة سوق المال وكبار المستثمرين وجهل المضاربين ويغفل عن الأسباب الشرعية كمن يقول: إن كسوف الشمس لوقوع القمر بينها وبين الأرض، ويغفل عن أن الذي خلقها وأجراها هو الذي قدر انكسافها ذلك اليوم.
اللهم اهد قلوبنا ونوّر بصائرنا ولا تجعل الحق ملتبسًا علينا فنضل يا رحمن يا رحيم، اللهم ارزقنا من الحلال ما يصلحنا وأرضنا بما قسمت لنا يا كريم، اللهم قنا شح أنفسنا اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم واجعلنا برحمتك من المفلحين، اللهم بارك لنا في الحلال وبغِّض إلينا الحرام، وافطم نفوسنا عن المتشابه يا من بيده مقاليد القلوب...
(1/5054)
وألف بين قلوبكم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
21/1/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سوء أوضاع المسلمين. 2- التحذير من النزاعات الطائفية والتناحرات الحزبية. 3- استثمار العدو للخلاف بين المسلمين. 4- التحذير من النظرة السوداء لتاريخ الأمة. 5- ضرورة تصفية تاريخ الأمة من الروايات المدسوسة والأساطير المختلقة. 6- شدّة الترابط والتحابُب بين الصحابة وآل بيت النبي. 7- تيارات المَكر والغدر. 8- التحذير من الطمأنينة والأمن المغشوش. 9- الدعوة إلى الوحدة والائتلاف. 10- الإشادة بجهود خادم الحرمين الشريفين في حلّ النزاع بين الإخوَة الفلسطينيِّين. 11- شكر وثناء ونصائح للقادة الفلسطينيين. 12- الحث على الاستمرار في هذا النهج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا الغفلةَ، فالعاقلُ من يرَى العِبَرَ بعينيه، ويسمع المواعظَ بأذنيه، والنذير قد وصلَ إليه، ينذره يومُه وأمسُه، ويحدِّثه بالغِيَر قمَرُه وشمسُه، الأيّام مطايا تحثُّ على أخذِ العدَّة قبل حلول المنايا، فالزموا الجِدَّ والاجتهاد، وتزوَّدوا والتقوَى خيرُ زادٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
أيّها المسلِمون، إنَّ ما تشهَدُه ساحَةُ المسلمين اليومَ يُسرّ العدوَّ ويحزِن الصديق، ويفرح مبتغِي شقاءِ الأمّةِ وفُرقَتَها، يسوء محِبَّ الدينِ والقرآن ونبيِّ الإسلام محمّدٍ والأئمّةِ المهديِّين وآلِ البيت الطاهرين والصَّحبِ الأكرمين والمتَّبعين بإحسان. إنَّ ما يجرِي مصيبةٌ عُظمى في الأمّة ومجدِها وناصِعِ تاريخها وصادِقِ فتوحاتها وسِيَر أئمّتها وخلفائها ورجالاتِهَا وعَوامِل بنائها واجتماعِها. إن استِمزاجَ ذلك وقبولَه والسماحَ به ناهيكم بالتمكينِ له كلُّ ذلك إعانة وخيانةٌ ومسلَك عدائيّ لا تصلح به دنيا ولا يقوم به دينٌ. إنَّ وحدةَ المسلمين لا تقوم على التحريش والتحريضِ واستدعاء المثالِب لطرفٍ وإبرازِ المناقبِ لآخر والانكفاء على العصبيّة والرموزِ المذهبية والنّعَرات الطائفيّة. إنَّ ذلكم ـ وربِّكم ـ هو قاصمةُ الظهر، وهو الذي يَنبذ الأمّةَ خارجَ التاريخ.
عبادَ الله، يا أمّةَ محمّد، يجب التفكير الجادُّ الصادق الأمين دينيًّا وفكريًّا وسياسيًّا وأمنيًّا ،فلا يستهينُ عالم ولا مفكّرٌ ولا سياسيّ ولا صاحب رأيٍ أو قلم، لا يستهين بهذه الألغام الخطِرَة المدمِّرة التي إن لم تحاصَر وتُكبَت فإنها ـ والله ـ ستجعَل الأمّةَ شَذَرَ مَذر، وسَوف تعيش في ظلامٍ دامِس ومستقبلٍ أشدّ ظلامًا في الدين والدنيَا إلاّ أن يرحمَنا الله.
إنَّ العدوَّ الخارجيّ والغازيَ الأجنبيَّ لم يوجِدِ الخلافَ في الأمّة، ولكنَّه وجَد فيهِ أرضًا خصبةً ليزرعَ مكرَه وكيده؛ فيمزِّق الأمّةَ ويفتِّت القوّة ويستبدَّ بالسيطرة.
إنَّ نجاح العدو في استثمارِ الخلاف ليس لشدَّة ذكائه وعظَمِ دهائه فحسب، ولكن لتقصير الأمّة، وقد يكون لعِظَم غفلَتِها وسذاجتها، وأخشى أن أقولَ: لضعفِ دينها وقِلَّة أمانتها. فحذارِ ـ رحمكم الله ـ ثم حَذارِ أن تُزَجَّ الأمَّةُ في الزّلزال الطائفيّ والبركان المذهبيّ، يجبُ الإصرارُ ثم الإصرار على نهجِ الوَحدة والعيش الجماعي والتعايش السلميِّ وأمنِ ديار الإسلام والحفاظ على بَيضَة المسلمين وعَدمِ التّمكين للعدوِّ المتربِّص. نعم ثم نَعَم، إنَّ هناك سلبيَّاتٍ وعوائقَ ونكساتٍ تعتَرِض المسيرةَ، غيرَ أنَّ وجودَها أمرٌ طبيعيّ لتأثيراتِ التاريخ وسلبيَّاتِ التّراث عند مختلفِ الأطراف والفِئاتِ والمذاهبِ والطّوائِف.
إنَّ مِن الخذلان والخيانةِ أن لا ينظرَ طالبُ علم أو مثقَّف أو مشتغِل بتأريخ الفرَقِ والمذاهب في أهلِ الإسلام أن لا ينظُرَ هؤلاء إلاَّ إلى بعضِ صُوَر المظالم والتقاتُل والمثالب والنقائص، كيف إذا كان مثلُ هذا الاشتغالِ والنظَر يتوجَّه إلى تاريخ صدرِ الإسلام وسِيَر السابقين الأولين من المهاجرينَ والأنصار وتابعيهم بإحسانٍ والأئمةِ والخلفاء ممّن رضِيَ الله عنهم ورَضوا عنه؟! كيف وقد قالَتِ الحكماء: من تلمَّس عيبًا وجدَه، ومن اشتغَل بعيوبِ الآخَرين هلَك وأهلَك؟! كيف إذا كانَت عيوبَ نُبَلاء وعَثَراتِ كِرامٍ وأخطاءً هي من طبائِع البشر والأمَم والسياسَات؟! كيف وقد نزَعَ الله ما في صدورِهم من غلٍّ وألَّف بين قلوبهم؟!
معاشرَ الأحبة، إنَّ من النُّصح للأمّة والصِّدق في جمع الكلِمَة من العالمِ المؤمِن والمفكِّر الناصِحِ والمحِبِّ للدّين والأمّة وللمُصطفى وأهلِه وأصحابه إعادةَ النظر في رواياتِ التكفير والتحريفِ والسّبِّ والطعن ورواياتِ الغلوّ والشّطح والانحراف والتّراثِ الأسطوريّ الخرافي الذي تعُجُّ به كتُب الغُلاةِ والمتعصِّبين وأشباهِهم؛ ممّا يستَدعي محاوَلةً جاَدَّة لاستبعادِ ذلكَ الرُّكام الأسوَد الذي يدعو إلى سبِّ الصحابة والنيلِ مِن القرابَة واحتقارِ التاريخ المجيدِ والمسيرةِ المضيئة لدينِنا ورِجالاتِنا وأئمَّتِنا وخلَفَائِنا وفتوحَاتِنا. يجِبُ ردُّ وَصَدّ الرّوايات المدسوسَة والبِدَع المنكرَة المفضوحَة التي لم يكن هدَفُ واضِعِها ولا غرَضُ مقتَرِفها إلاَّ هَدمَ الدّين والعَقيدةِ ونَشرَ الفُرقة والتناحُر بين المسلمين.
في مقابلِ ذلك يجِب التوجُّه نحوَ عرضِ الحقِّ المشرِق الصحيح الثابتِ لمجتمع الصحابة والقرابة ومن تبِعَهم بإحسانٍ، ففي كُتُبِنا جميعًا رِواياتٌ صحيحَة مُضيئةٌ يثبِتُها النّقل ويصدِّقها العقل ويألَفُها الحِسُّ المؤمِن والذَّوق الطيِّب النصوح وتتَّفِق مع آي القرآن الكريم وهديِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم وهدايتِه وتوجيهِه وسيرته.
أيّها المسلمون، وإنَّ مِنَ العجَب العُجاب وما يدفَعُ الرَّيبَ والارتياب ويسرُّ الصديقَ ويؤكِّدُه منهج التَّحقيق أن الناظرَ والباحث كلما تقدَّم متوغِّلاً في القِدَم رَاجعًا إلى عصورِ الإسلام الأولى يجِدُ التطابُقَ والتّماثُلَ والتوادَّ والتحابُب من آل بيتِ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم وصحابةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبِه وسلّم، وكلّما تأخَّر بالأمة الزّمنُ بدَت ألسنةُ الدخانِ ومَناطِقُ الظّلام وصُوَر التشويشِ والتحريشِ ومظاهرُ العنف الفكريّ والتعصّب المذهبيّ والطائفيّ.
يا أحبابَ القرابة والأصحابِ، وهذا إيرادٌ لنماذجَ يبتهِج معها قلبُ المؤمن ويأنس بذِكرها محبُّ الدين وتقرُّ بها عينُ المشفِق على الأمّة. نهجٌ إيمانيّ سارَت عليه تِلكُم المواكب الإيمانيّة الخيِّرة والقدواتُ الحسنَة من الصحبِ والقربى، فليس في قلوبهم ولا في صدورِهم غِلّ، بل كانوا على الحقّ والخيرِ إخوانًا وأعوانًا.
هذا أبو بكر يقول لعليٍّ رضي الله عنهم جميعًا: (والذي نفسي بيده، لقرابةُ رسولِ الله أحبُّ إليَّ أن أصِلَ من قرابتي)، ويقول: (ارقُبوا محمَّدًا في أهلِ بيتِه)، ويقول: (أفتِنا يا أبا الحسَن). ثم انظروا إلى هذه الصورَةِ الحميمةِ الرقيقةِ، فقد صلَّى أبو بكر العصرَ ثم خرج يمشي، فرأى الحسَنَ يلعَب مع الصبيانِ، فحمَلَه على عاتقه وأخذَ يرتجل:
بِأبي شبِيهٌ بالنّبيِّ لا شَبيهٌ بعليٍّ
وعَليٌّ معَه يَضحَك.
أمّا عمَرُ فهو الذي يقول: (لولا عليٌّ لهلَك عمر، ولا مكان لابنِ الخطاب في أرضٍ ليس فيها ابن أبي طالب). وحينما رفع الديوانَ ليوزِّع بَيتَ المال بدأ بآلِ بَيت رسول الله ، وقد ظنَّ الناسَ أنه يبدأ بنفسه، بل قال: (ضَعوا عمرَ حيث وضعَه الله)، فكان نصيبُه في نوبةِ بَني عديّ وهم متأخِّرون عن أكثر بطونِ قريش.
أمّا عائشة رضي الله عنها فأصحُّ الطرق في مناقبِ عليٍّ رضي الله عنه كان مِن روايَتها، فقد روَت حديثَ الكساء في فضلِ عليّ وفاطمة والحسَن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، وكانت تحيل السائلين والمستَفتين إلى عليٍّ ، وطلبَت رضيَ الله عنها بعد استشهادِ عُثمان رضي الله عنه أن يلزَمَ الناسُ عليًّا؛ فقد سَألها عبد الله بن بدِيل بن وَرقاء الخزاعي: من يبايع؟ فقالت: (الزَم عَلِيًّا ).
وقالَ رَجلٌ لعبدِ الله بنِ عمَر رضي الله عَنهما: إني لأبغِضُ عَليًّا، فقال له ابنُ عمَر: (أبغَضَك الله، أتُبغِض رجلاً سابقةٌ من سوابقه خير من الدنيا وما فيها؟!).
هذه بعضُ الدُّرَر المتَلألِئَة مِن مَعين الصَّحبِ الكِرام في عليّ وأهل البيت الأئمّة الكِرام الأطهار.
أمّا علي وآلُ البيت فاسمعوا إلى دُررٍ من درَرِهم في الصَّحب الكرام:
عن أبي جُحيفةَ ـ وهو الذي كان عليٌّ يسمّيه وَهبَ الخير ـ قال: قال لي عليٌّ : يا أبا جُحيفةَ، ألا أخبِرك بأفضل هذه الأمّة بعد نبيِّها؟ قال: فقلت: بلى، قال أبو جحيفةَ: ولم أكن أرَى أنَّ أحَدًا أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث لم يسمِّه. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وُضِع عمرُ على سريره ـ يعني بعد وفاتِه ـ، فتكنَّفَه النّاس يدعون ويصلّون قبل أن يرفعَ، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلاّ رَجلٌ أخَذ بمنكبي فإذا عليّ بن أبي طالب ، فترحّم على عمر وقال: ما خلّفتُ أحدًا أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عَمَله منك، وايمُ اللهِ إن كنتُ لأظنّ أن يجعلَكَ الله مع صاحبَيك، وحَسِبتُ أني كثيرًا أسمع النبيَّ يقول: ((ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر)) و((دخلتُ أنا وأبو بكر وعمر)) و((جِئتُ وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر)).
أمّا عائشةُ رضي الله عنها فإنَّ عليًّا كان يكرمها ويجلُّها ويحفَظ لها مكانها من رسول الله ، فقد وقَف رجلان على على بابِ دارِها في البصرة، فقال أحدهما: جُزِيتِ عنّا أمَّنا عقوقًا، وقال الآخَر: يا أمَّنا، توبي فقد أخطأتِ، فبلغ ذلك عليٍّا ، فبَعَث القعقاعَ بنَ عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كانَ عليه، فأحالوا على الرّجلين، فضربهما مائةَ سَوط وأخرجهما من ثيابهما.
ويَروي جعفرُ بن محمّد عن أبيه رضي الله عنهم جميعًا قال: لقد رَأى عليّ طلحةَ في وادٍ ملقى ـ يعني بعد حرب ـ، فنزل فمسَح الترابَ عن وجهه وقال: (عزيزٌ عليَّ ـ أبا محمّدً ـ أن أراك مجندَلاً، إلى الله أشكو عُجَري وبجَري)، فترحَّم عليه ثم قال: (ليتني متُّ قبل هذا بعشرين سنة)، وكان يقول: (إني لأرجو أن أكونَ وطلحةُ والزّبير ممّن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]).
ولمّا سئِل عن أهلِ النّهروان من الخوارِج: أمشرِكون هم؟ قال: هم من الشِّرك فرُّوا، قيل: أفمُنَافقون هم؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخوانُنا بَغَوا علينا.
والموضوعُ ذو شُجون، والحديثُ مُضيءٌ ممتِع في كتُبِ الصِّحاحِ والتّاريخ الثابِتِ الموثَّق في كتب أهل الإسلام كلِّهم، مليءٌ بما بين أصحابِ رسول الله وأهلِ بيتِه والتابعين بإحسانٍ من مودّة ومحبَّة واعتراف بالفضل متبادَل.
يَا أحبابَ الصّحابةِ والقُربى، ولم يقِف الإعجاب والحبُّ والمودَّة عند الأقوال على أهمّيَّتها وعظيمِ أثرِها وصِدق مخرَجها، ولكنهم سجَّلوا لنا من الأفعال والسلوك ما يُتَغنَّى به في الاقتداء ولزومِ الأدب وحُسن الأسوة، فرسولُ الله تزوَّج عائشةَ وحَفصَة ابنتي أبي بكر وعمر ورَملةَ بنت أبي سُفيان، وعليٌّ تزوَّج فاطمةَ بنتَ رَسول الله صلّى الله عليه وآله وأصحابِه وسلّم، وعثمانُ تزوَّج رقيَّة وأمَّ كلثوم ابنتي رسولِ الله ، وعليٌّ سمَّى ثلاثةً من أبنائه أبا بكرٍ وعمرَ وعثمان، وزوَّجَ ابنَتَيه فاطمةَ وأمَّ كلثوم لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، والحسنُ بن علي سمّى أولاده أبا بكر وعمرَ وطلحة، والحسين سمَّى ولدَه عمر، والحسن تزوَّج أمَّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وتزوَّج حفصةَ بنت عبدِ الرّحمن بن أبي بكر، ومعاويةُ بن مروانَ بنِ الحكم الأمويّ تزوَّج رَملة بنت عليّ، وعبدُ الرّحمن بنُ عامر بنِ كريز الأموي تزوَّج خديجة بنتَ علي.
واستمرَّ هذا المسلك الراشدُ إلى أجيال متعاقبةٍ، فهذا الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وعن آبائه جدُّه لأمِّه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأمُّه فَروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمُّ القاسم هي أسماءُ بنتُ عبدِ الرحمن بنِ أبي بكر، ولهذا كان الإمامُ جعفَر يقول: "ولدَني الصّدِّيق مرَّتَين"، وجعفر بن موسى الكاظِمُ رضي الله عنه وعن آبائه سمَّى ابنَتَه عائِشةَ.
إنَّ هذه الأجيال المباركةَ في قرون الإسلام المفضَّلةِ لم يسَمّوا أولادَهم وفلذاتِ أكبادهم لمصالح دنيويّة ولا ابتغاءَ مناصب ومطامعَ، ولكنّهم سموهم بأسمائِهم وصاهَروهم في أنسابهم لأنهم رجالٌ كرام يُقتَدَى بهم، بل كانت المصاهرة والمزاوجةُ مثالاً شامخًا وأنموذجًا يحتذى في سلامةِ الدِّين وصفاءِ القلوب وتلمُّسِ رِضا اللهِ ورِضا رسوله ورضا أهلِ بيتِه ورضا أصحابه.
نعم والله، إنَّ هذا الترابُطَ والتراحم والتلاحُم الأسريَّ المبارك من آل بيت رسول الله ومن الصحابةِ وذرّيَّاتهم والتابعين بإحسان نسبًا وصهرًا كلُّه تجسيد للمودّة وأخوَّة الدين واتِّباع سُنَن سيِّد المرسلين.
وبعد: أيّها المسلمون، فيجِب أن تُفجَّر أنهارُ السلسبيلِ الدّافِق من ثقافةِ التسامُح والقَبول المتبادَل والنظر إلى إيجابياتِ التاريخ والرجال، يجِب الزّرعُ والنّشرُ للصّوَرِ الحقيقيَّة المشرِقة الجامِعة المانِعة، لا أن تُتَتبَّع العثرات والزلاتُ والهفوات التي لا يمكن أن يخلوَ منها بشرٌ أو أمّة أو دولةٌ أو سياسية. هذا إذا كانت ثابتةً واقعة، فكيف إذا كانت مَدسوسةً مكذوبة أو كانت تَفسيرًا لمغرضٍ أو تَأويلاً من صاحِبِ هوى أو قليلِ علم أو دين؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّدٍ ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذَنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ مَلأ قلوبَ المؤمنين إيمانًا، أحمده سبحانَه وأشكُرُه على ما أنعمَ وأعطى فضلاً منه وإحسانًا، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً تبلِّغ الزلفى لدَيه جنَّة ورِضوانًا، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أنزل عليه الكتاب معجزةً وحجّة وبرهانًا، صلّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه رحماءُ بينَهم كانوا على الحقِّ أنصارًا وأعوانًا، ونزع ما في صدورِهم من غلٍّ فكانوا إخوانًا، والتّابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ فاستقامَ دينًا وأعلى شانًا، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها الإخوةُ، الشَّكوَى من تيّارات ثلاثةٍ: الغلاةُ والجُفاة والغُزاة، فالغُلاة سَلَكوا مسالِكَ التعصّب والعنف والتكفيرِ والقتل والتفجيرِ، والجفاة يريدون قطعَ الأمّة وبترَها عن دينها وأصولها وأصالَتِها وثوابتها، أمّا الغُزاةُ فيتَّخِذون بين هذَين الفريقين سبيلاً؛ لتمزيق الأمة وهزِّ ثوابِتِها وفَرض ثقافَتِهم والعَبَث بثروَات الأمة ومقدَّراتها.
إنَّ الحساب السياسيَّ المسؤولَ والأمانةَ الدينيةَ الصادِقَة والحِسَّ الوطنيَّ المرهَف والتبصُّر العقلانيّ يقضي بالتحرِّي الكامل من خِداع النفس والذات، والذي يتصوّر بهِ هذا المخدوعُ أنَّ الغزاةَ سوف يقِفون عند قُطرٍ دون قُطر أو دَولة دونَ دولة، كم هِي المناطقُ المشتَعِلة اليومَ في ديارِ المسلمين؛ في أفغانستان والعراق ولبنان والسّودان والصومال، وكنتُ كتَبتُ: فلسطِين ثمّ شَطبتُها. لن تنعَمَ المنطِقة ولن تَستقرَّ الأمّة ولن يتحقَّق الأمن والأمان إلاّ بالوحدةِ والاجتماع والتعايُش الكَريم.
عِبادَ الله، إنَّ ما يجري في الساحةِ مِن أحداثٍ نذيرٌ خطير لا تفيد فيه مسكِّنات، قد تؤخِّر المعاناةَ ولكنّها لا تمنَع وقوعها؛ من أجلِ هذا كلِّه ـ أيّها المسلمون ـ فيجِب أن تكونَ وحدةُ المسلمين والحوار والتعايشُ فيما بينها على اختلافِ مذاهبها ومكوِّناتها يجب أن يكونَ غاية كبرى وهدفًا أساسًا ومصلحةً عُليا ونهجًا ثابتًا وخُطَّة دائمة لا تَقبَل المساوَمةَ.
إنَّ مما ينبَعِث في المنطقَةِ من روائحِ الطائفيّة المنتِنَة الهوجاء يجب أن ينبذَه أهلُ العلم والإيمان والفضلِ والعقل والرأيِ والصلاح، يجب الحفاظُ على كيانِ الأمّة في أهلِها وأمنِها ومحاصرَةُ كلِّ بوادِر الفتنةِ وسدّ أبوابها، على كلِّ صادقٍ في دينه وناصحٍ لأمته وساعٍ بجدٍّ وإخلاص وإيمانٍ لمصلحتها أن يعلنَ براءَتَه إلى الله عز وجل من كلِّ دعوةٍ تخاصم شريعةَ الله وتجاهِرُ في عدائِها لتَارِيخِها وصحابَتِها وأئمَّتِها ورِجالها وصالحِ سلفها. يجِبُ أن يُعلَن أنَّ مثلَ هذه الدّعوات والمسالك إمّا نهجٌ استعماريّ أو مَسَارٌ نِفاقيّ أو طَريق زَندَقة أو مسلَك جَاهِل، إنها عند التحقيقِ لا يمكن أن تجتَمِع مع أصلِ الإسلام والدين والتوحيد والنهجِ الذي جاء بهِ محمّدٌ.
أيّها المسلمون، وعلى الرّغمِ مِن هذه الأجواء المكفَهِرّة والظروفِ القاسِيَة فها هي سَلسَبيل أنهارِ التسامح والوِئام أبت إلاَّ أن تسيلَ وتتدفَّق، فالخير في هذه الأمّة مترَسِّخٌ، والآمال فيها عِراقٌ كبرى، وطريقُ الإصلاح والتصالح واضِحٌ أبلج، ونماذج المبشِّرات والحقائق الناصِعات ظاهرةٌ ماثلة.
فها هو رَجُلُ الأمّة والدين والدّولة والمبادراتِ الكبرَى وليُّ أمرِ هذه البلاد خادِمُ الحرمين الشرِيفَين وراعِيهما الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وجّهَ نداءَه الحارّ الصّادق المخلِص يومَ العاشر من المحرَّم الحرام إلى إخوانه قِياداتِ الشعبِ الفلسطينيّ وفصائِله، فهو الرّجلُ حِين تشتَدّ الخطوب، وهو القائدُ بإذن الله حين تعصِفُ الملمَّات، رجلُ العروبة والإسلامِ والإنسانية، وجَّهَ نداءه ليجتمِعوا في رِحابِ بيت الله الحرام في البلد الحرام وفي الشهر الحرام؛ ليبحَثوا ويتحاوَروا بصدقٍ وإخلاصٍ وأمانة وتجرُّد ومسؤوليّة، والتَزَم لهم ـ حفظه الله ـ أن يهيِّئ لهم أجواءَ الحوار المثاليّة، بمنأى عن أيِّ تدخُّلات أو ضُغوطٍ أو تَأثِيرات، أجواء محبّةٍ وأخوّةٍ وحياديّة في الموقِف وحُريّة في القرار، مع تَقديم كلِّ سُبُل العَونِ وأدَواتِه وبذلِ المشُورةِ والتعاطِي الإيجابيّ. وعَلى بركةِ الله وبعونِه وبتوفيقِه التَأَم الشملُ واجتَمَعَ الأشقّاءُ الفُرَقاء على طاوِلَة الحوارِ والسّلام في بلدِ الإسلام في وساطةٍ نزيهةٍ لم تَستغِلَّ القَضِيّة ولم ترُم كَسبًا شخصيًّا أو سياسيًّا.
أيّها القَادَةُ الفلسطينيّون، حَفِظكم الله وسدَّدَكم، لقد كنتُم عندَ حسنِ الظنّ، وأَحسَبُ أنّكم صَدَقتُم اللهَ فصَدَقَكم، ولقَد قال سبحانَه في المتَصَالِحين والمصلِحِين: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء: 35]، وأحسَبُ أنّكم أردتم الإصلاحَ فوفَّقَكم الله عزّ وجلّ بنوايَاكم الصادِقة وحُسن عَمَلِكم وترفُّعِكم عن أشخاصكم وضغوطَاتِ النَّاسِ والفئات وعَزَمات الرجال، مَلَكتُمُ القُدرةَ على حلِّ الخِلافِ والحِفاظِ على المكتسَباتِ والتمسُّك بالمنجَزات، لقد نجَحتم بفضلِ الله أولاً، ثمّ بفضلِ الرّعاية الملكيّة الكريمة وجُهودِكم المخلِصَة وعَمَلِكم الدّؤوب، فَحصَل الاتِّفاقُ، وتحقَّقَ الوِئامُ، وشَفَى الله صُدورَ قومٍ مؤمِنين، وأذهَبَ غَيظَ قلوبِكم، وأغاظَ الأعداءَ والمتربِّصين. إنّكم الصّبَّارون الجبَّارون، صبَّارون للحقِّ والعدلِ، وجبّارون أمام الظلمِ والبغي. فهنيئًا لكم يا خادمَ الحرمين الشريفَين، وهنيئًا لسموِّ وليِّ عَهدكم، وهنيئًا لكلِّ قِيادات العَرَب والمسلمين، وهنيئًا لكم أيّها القادة الفلسطينيّون، وهنيئًا لشقِيقِنا وحبيبِنا الشّعب الفلسطينيّ العزيز الأبيّ الصابِر المجاهِد المرابِط، وهنيئًا لشعبِ المملكة العربية السعوديّة بلادِ الحرَمَين الشّريفَين ولِشعوب العَرَب والمسلمين كافّة ولكلّ محبّي السلام قياداتٍ وشعوبًا.
إنها وَقفة تاريخيّةٌ ومَوقف مشرِّف وإنجازٌ عظيم تمَّ لَيلَةَ الجمعة ليلةً مباركة، ليلةَ الجمعةِ المباركة مِن الشهر الحرام في البلدِ الحرام، إنها وقفةٌ تؤكِّد تأكيدًا لا شكَّ فيه أنَّ الكاسبَ هو الجميع، ولو كان خسارةٌ أو فشَل لا قدَّر الله لكان على الجميعِ ولكان الكاسب هو العدوّ المتربِّص.
وكم استغلَّ المحتَلّ مِن ثغراتٍ وعَثَرات، وكم حَرِص على ترسيخِ الخلاف وبثِّ المشاحَنَات، ولقَد أقدَم في أجواءِ خلافكم على تهديدِ المسجِد الأقصى بحفريّاته الظَّالمة، ولكن اتّفاقكم واجتماعُكم بإذنِ الله كفيلٌ بأن تَعودَ الأمورُ إلى نِصابها ويَرجِعَ الحقّ إلى أهلِه بإذن الله.
وبعد: فيا خادم الحرمين الشريفين، إنَّ نهجَكم هذا دليلٌ ساطِع عَلى أنَّ الإجراءاتِ الصادقةَ النّاصحة المخلِصَة هي المطلَب الرَّئيس لحلِّ مُشكِلات العرَب والمسلمين، فهناك مناطقُ في دِيارِ العُروبَة والإسلامِ سَاخِنة تحتاج إلى مِثلِ هذا الحضنِ الدّافئ والجُهد الصّادِق وتغليبِ الحقّ والمصلحةِ العليا مع الحِكمة والتّجرُّد، فبارك الله في الجهود وسدَّد الخطى وأعزّ الإسلامَ وحده.
اللّهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حَوزِة الدِّين، اللّهمَّ انصُر دينك وكتابك وسنّةَ نبيِّك وعبادَك المؤمنين، اللّهمَّ اجمع كلمةَ المسلمين على الحقّ...
(1/5055)
أهمية التوحيد وخطورة الشرك
التوحيد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد أول دعوة الرسل. 2- ذم الشرك والتحذير منه وبيان وعيد المشرك. 3- التوحيد هو الفطرة. 4- حقيقة الإسلام. 5- معنى كلمة التوحيد. 6- صور من الشرك في العصر الحاضر. 7- شرك الروافض. 8- التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة وبدعاء الصالحين. 9- طعن الرافضة الدين وفي الرسول الأمين وفي الصحابة الكرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن التوحيد أوّل دعوة الرسل، وأوّل منازل السالكين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، ويقول النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) رواه مسلم (2865).
قال العلامة سليمان آل الشيخ: "الشرك أعظم ذنب عصِي الله به، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] أي: ما دون الشرك من الذنوب يغفره الله، أما الشرك فلا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح منه قبل الموت.
والمشرك خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، والجنة حرام عليه، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. فيجب على المؤمن أن يخاف منه ويحذره، قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.
عباد الله، اتفق أن الأصل في الإنسان هو التوحيد؛ لأن البشر خلقوا من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1]، وآدم عليه السلام كان نبيًا يعبد الله وحده لا شريك له، وعلّم أبناءه التوحيد، قال ابن تيمية رحمه الله: ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميّين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتِّباعهم النبوة، قال تعالى: وَمَا كَانَ ?لنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَ?خْتَلَفُواْ [يونس: 19]، قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام)، ثم وقع بعد ذلك الشرك، والله تعالى أخبر في كتابه أن الفطرة التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم: 30]، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء)) ، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30].
هذا هو الإسلام يا عباد الله، وما سمي إسلاما إلا لما فيه من الاستسلام لله والذل له والعبودية له والانقياد لطاعته وتوحيده والإخلاص له. تعلم أنه سبحانه هو الإله الحق، والمستحق لأن يعبد ويطاع ويعظم، لا إله غيره ولا رب سواه، ونحن نردد ونقول في كل صلاة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، أي: إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين وحدك، لا رب ولا معين سواك، فجميع ما يقع من العباد هو من الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، فهو سبحانه المنعم، وهو المستعان والمعبود بالحق جل وعلا.
فأنت ـ يا عبد الله ـ إذا جاءتك نعمة على يد أيّ أحد من الناس فكلّه من نعم الله جل وعلا عليك، وهو الذي ساق ذلك ويسره لك سبحانه، وخلق من جاء بها وساقها على يديه إليه وحرك قلبه ليأتيك بها، وأعطاه القوة والقلب والعقل، وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك.
يدبر الأمر جل وعلا، كما قال سبحانه: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ [السجدة: 5]. وتوحيد الله عز وجل الذي هو معنى لا إله إلا الله يعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله بالحق، وتثبتها لله وحده، كما قال سبحانه عن سيد الموحدين: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
وبهذا نعلم أن ما يصنع حول القبور المعبودة من دون الله مثل قبر البدوي والحسين وأشباه ذلك وما يقع من بعض الجهال من الحجاج وغيرهم عند قبر النبي من طلب المدد والنصر على الأعداء والاستغاثة به والشكوى إليه ونحو ذلك، أن هذه عبادة لغير الله عز وجل، وأن هذا شرك الجاهلية الأولى، عن عائشة أنّ أم سلمة رضي الله عنهما ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله : ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).
وها هي آيات القرآن تصدح ببيان واضح جليّ لتبيّن أن دعاء المخلوق الميت لا يمكن بحال أن ينتفع به أحد، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف: 194]، فهل هناك تقريع أشد من هذا؟! وهكذا ما قد يقع من بعض الصوفية من اعتقادهم أن بعض الأولياء يتصرّف في الكون ويدبّر هذا العالم والعياذ بالله، إن لم يكن هذا الشركَ بعينه فما هو الشرك إذا؟!
إذا علم هذا فلنعلم أنه لا توحيدَ ولا إسلام ولا إيمان ولا نجاة إلا بإفرادِ الله بالعبادة، وهذا معنى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وإذا انحرفنا عن هذا المنهج القويم وقعنا في شر أعمالنا، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
عباد الله، نحن في زمان غلب فيه الجهل، وقلّ فيه العلم، وأقبل الناس إلا من شاء الله على علوم أخرى وعلى مسائل أخرى، تتعلق بالدنيا، فقلّ علمهم بالله وبدينه لأنهم شغلوا بما يصدّهم عن ذلك، وصارت أغلب الدروس في أشياء تتعلق بالدنيا، أما التفقه في دين الله والتدبر لشريعته سبحانه وتوحيده فقد أعرض عنه الأكثرون، وأصبح من يشتغل به اليوم هو أقل القليل، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].
لقد جهل المشركون توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان: الجن والإنس، وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله؛ مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحقّ، وأنكروا على الرسل وقاتَلوهم على هذا الأساس الباطل، كما قال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ.
وهكذا حال الروافض لعنهم الله، يستغيثون ويدعون من دون الله الحسين رضي الله عنه وفاطمة الزهراء وعليا، ويقولون ما قال المشركون من قبل: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى! وهكذا قبر البدوي وغيره من القبور، وصدق الباري سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
عباد الله، لقد أقر المشركون بربوبية الخالق سبحانه، ولكنهم أنكروا توحيده، كما قال سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ، والمعنى: ما دمتم تعلمون هذا أفلا تتقون الله في توحيده والإخلاص له وترك الإشراك به وأنتم مقرون بهذا وتعلمون أن الله هو ربكم وخالقكم ورازقكم؟!
فيا من تقرؤون كتاب الله، تدبروا كتاب الله كما أمركم ربكم بذلك، فقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29]، تدبروا كتاب الله الذي ينهاكم عن الشرك فيقول: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف: 197]. وإذا كان المولى جل وعلا يقول لنبيه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا [الأعراف: 188] فكيف ينفع غيره عليه الصلاة والسلام؟!
هذا نبينا يلجأ إلى ربه فيقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)) ، فهو يسأل بتوحيده والإيمان به واعتراف العبد بأنه ربّه الله ومعبوده الحق. وهكذا يجب على العبد أن يسأل ربّه بالأعمال الصالحات ويتوسل إليه بها، فهذا كلّه من أسباب الإجابة كما سأله أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة، وهم قوم دخلوا غارًا للمبيت فيه والاتقاء من المطر، فأنزل الله عليهم صخرة سدّت الغار عليهم، فلم يستطيعوا رفعها، فقالوا فيما بينهم: إنه لن يخلّصكم من هذه الصخرة إلا الله بسؤالكم الله بأعمالكم الصالحة، فتوسل أحدهم ببره لوالديه، والآخر بعفته عن الزنا، والثالث بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم الصخرة فخرجوا، كما صح بذلك الحديث عن النبي ، ولم يتوسلوا بفلان أو فلان أو جاه فلان.
بل لما توفي النبي وكانوا يتوسلون بدعائه في حياته فيقولون: يا رسول الله، ادع الله لنا، ويدعو لهم كما وقع في أيام الجدب وكان على المنبر، فطلبوا أن يدعو الله لهم، فدعا الله لهم واستجاب الله له، وفي بعض الأحيان كان يخرج إلى الصحراء، فيصلي ركعتين ثم يخطب ويدعو، فلما توفي عدل عمر إلى عمّه العباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقام العباس ودعا فأمّنوا على دعائه فسقاهم الله. ولو كان التوسل بالذات أو الجاه مشروعًا لما عدل عمر والصحابة رضي الله عنهم إلى العباس، ولتوسّل الصحابة بذاته؛ لأن ذاته عظيمة عليه الصلاة والسلام حيا وميتا.
والمقصود من هذا أن الرسول صان هذا التوحيد وحماه، وبيّن أن الواجب على الأمة إخلاص العبادة لله وحده، وأن يتوجّهوا إليه جل وعلا بقلوبهم وأعمالهم في عبادتهم، وأن لا يعبدوا معه سواه؛ لا نبيا ولا ملكا ولا جنيا ولا شمسا ولا قمرا ولا غير ذلك.
فوجب على الأمة أن تخلص لله العبادة، فالعبادة حق الله وحده، وليس لأحد فيها نصيب، كما قال الله سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ، وقال سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وقال جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ، وقال النبي : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) متفق على صحته.
عباد الله، ولقد وفِّق محمد ونجح في دعوته أعظم توفيق، وأكمل الله له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعل شريعته شريعة كاملة عامة لجميع الثقلين، وناسخة لجميع الديانات، ونافعة لجميع مصالحهم العاجلة والآجلة، كما قال الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ، وهذا نص قرأنيّ يردّ على الروافض ـ لعنَهم الله ـ الذين يقولون: إن محمدا فشل في تربيَة أصحابه فارتدوا كلّهم بعد موته إلا سبعة نفر منهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟! إنهم يكذبون الله القائل في كتابه: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ.
عباد الله، لقد أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل عليهم الكتب لإنكار الشرك ودعوة الخلق كلهم إلى عبادة الله وحده دون كل ما سواه، فلا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يتقرّب بالنذور والذبائح إلا له عز وجل، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، ومتى حققنا التوحيد الخالص تحقّق لنا النصر والتمكين والاستخلاف في الأرض بإذن الله، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5056)
خطر الروافض
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء الله تعالى على الصحابة الكرام رضي الله عنهم. 2- جهاد الصحابة وتضحيتهم في سبيل نشر الإسلام. 3- طعن الرافضة في صحابة رسول الله. 4- دين الرافضة. 5- عدوان أمريكا على العراق وتسخيرهم الرافضة لحرب لأهل السنة. 6- بطلان دعوة التقريب بين السنة والرافضة. 7- تمالؤ الرافضة مع أعداء الإسلام. 8- حكم الرافضة. 9- جرائم الرافضة في العراق. 10- النصر مرهون بنصر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، يصف القرآن محمدًا وأصحابه ذلك الجيل القرآني المثالي بأجمل الأوصاف وأعذبها، فيقول سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي: يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا، ثم يصفهم سبحانه بكثرة العمل والصلاة مع الإخلاص فيها واحتساب جزيل الثواب عند الله تعالى، فيقول سبحانه: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ، فشهد الله بما في قلوبهم من صدق النية بابتغائهم رضوان الله تعالى، ثم يقول سبحانه: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: ترى في وجوههم السمت الحسنَ والخشوع والتواضع، ثم ينوّه سبحانه بذكرهم في الكتب السماوية السابقة من توراة وإنجيل، فيقول: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ أي: مثَل الصحابة في قوة وجودهم وامتدادهم وفتحهم للبلاد شرقا وغربا لنشر الإسلام كمثل الزرع الذي يتفرع وينتشر ويزداد ويقوى ويطول ويشتد ساقه.
وفي ثناء عطر آخر يقول جل شأنه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، ويقول سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ، وقال فيهم سبحانه: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
هؤلاء هم أصحاب محمد الذين خرجوا بعد وفاة نبيهم يدعون إلى الله في مختلف بقاع الأرض، راضين مختارين، فغادَروا الأوطان وتركوا الأهل والولدان، وبذلوا في سبيل الله قصارى جهدهم من أجل تبليغ كلمة الله تعالى ونشرها ليلاً ونهارًا في مشارق الأرض ومغاربها، وما نحن فيه اليوم من الإسلام والإيمان ليس إلا بسبب بركة دعوتهم لأجدادنا، وما من مؤمن عاش على هذه الأرض من بعدهم إلا وللصحابة نصيب كامل من أعماله الصالحة كلها؛ لأن النبي يقول: ((الدال على الخير كفاعله)) ، وهل هناك أحد غير الصحابة نقل لنا الإسلام ودعانا إليه؟! نبِّئوني بعلم إن كنتم صادقين.
إنهم كانوا كما أخبر الله عنهم: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وهل سمعتم بقوم أصبر من الصحابة رضوان الله عليهم الذين مسّتهم البأساء والضراء فصبروا محبة لله ولرسوله ولدينه؟!
إنهم والله خير خلق الله بنصّ كتاب الله، قال الله فيهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، وقال الرسول : ((خير القرون قرني)) ، وكم من آية وآية يختمها الله في صحابة نبيه بقوله: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، بل بشّرهم الله بالجنة في حياتهم قبل موتهم ممن أنفق منهم قبل فتح مكة وممن أنفق بعد فتح مكة، فقال سبحانه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]، نعم، والحسنى هي الجنة، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم: 6]، فهنيئا لهم ببشارة الله لهم.
وأما نساء النبيّ فقد شهد الله لهن بالإيمان وجعلهنّ أمهات لكل مؤمن صادق، فقال سبحانه: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6]، أي: مؤمنات وأمهات للمؤمنين.
عباد الله، خرجت علينا اليوم طائفة تدّعي الإسلام وهو منها براء، كذّبت الله وكذّبت كتابَه، ومن كذب الله أو كذب كتابه فقد كفَر بإجماع المسلمين، هذه الطائفة تقول: إن الصحابة وزوجات النبيّ مِن شرّ خلق الله، والله تعالى يقول في صحابة نبيه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110]. انظروا: هم يقولون: شرّ أمة، والله تعالى يقول: خَيْرَ أُمَّةٍِ ، أليس هذا تكذيبا لله تعالى؟! هل يصدّق عاقل قول هذه الفئة الكافرة المارقة؟! لقد كان صحابة رسول الله الذين معه في حجة الوداع أكثر من مائة وعشرين ألف من المهاجرين والأنصار الذين مُلِئ القرآن بذكرهم والثناء عليهم وسطر هذا إلى يوم القيامة، فهل يصدّق عاقل أن هؤلاء ارتدّوا وكفروا كلّهم إلا سبعة نفر منهم كما يقول هؤلاء الزنادقة؟! وهل المرتد والكافر ينصر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بعد وفاة الرسول ؟! فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78].
بل والله لو فتّشت عن أيّ رافضيّ لا تجده يعمل بشيء من هدي محمد ، لا في صلاة ولا في صيام ولا في زواج ولا في زكاة ولا في حج، بل لا تجد أحدَهم يتبع منهج آل البيت أبدا، لأن منهج آل البيت كان نفسَ منهج أصحاب محمد ، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران: 31]، كل همهم المتعة والخمس والتوسل بالقبور وحصد الأموال الطائلة من ورائها والبكاء في عاشوراء وتسييل الدماء، هذا دين القوم.
أيها المسلمون، لقد جَاءت أمريكا بأساطِيلها وَمَسَاطِيلها فحلّتْ ببغداد، وَنزَلت بَينَ ظهرانِي المُسلِمين، جاءت لتنهب ثروات هذهِ الأرضِ المعطاء وكنوزها وخيراتِها، وجاءت لتُغيرَ ثوابتَ الأمةِ وتحرّفَ الكلمَ عن مواضعه وتُبدِّلَ المناهج وتَقضِي عَلى ينابيعِ الخيرِ المتفجّرةِ في ضميرِ الأُمةِ الإسلامية، وَلِتقطعَ الطريقَ على الصَحوةِ النَّاهِضة والرَّجعةِ الصَّادِقة، ولِتنشُرَ الخَنَا والخَبَث وتَبُثََّ فِكرها الساقِط وثقافَتها اللَّقِيطة باسم الحرية والديمقراطية، والعراقُ في النبوءاتِ التوراتيةِ التي يؤمنُ بها الأُصوليونَ الإنجيليون الذينَ يَحكمونَ في واشنطن ولندن هي بلدُ الشَّر والمدينةُ الزانية والعدوُّ الأولُ لبني إسرائيل؛ لذلك غزوها وفضوا بكارتها.
نعم، لقدْ أدركتْ أمريكا أن الإسلام السنيّ هو العدو الحقيقي، هم أهل الحق حقا، هم أهل القرآن الذين يقولون: قال الله وقال رسول الله ، الذين مرجعهم الكتاب والسنة الذي هو سبب بقائهم وقوتهم، ولعل يوما يأتي نرى الروافض فيه يحرقون هذا القرآن الذي لا يعملون به ولا يقرؤونه، بل ولا تجد عالما رافضيا فضلا عن عوامهم يحفظ القرآن كاملا أو شيئا منه، تدرون لماذا؟ لأنه مليء بذكر الصحابة والثناء عليهم، بل لقد تناقلت وسائل الإعلام ومواقع النت أن الروافض في العراق يحرقون مساجد السنة ومصاحفهم ويقولون: هذه مصاحف ومساجد النواصب، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟! ولولا الفضيحة لأعلنوا كفرهم بالقرآن كما أعلنوا كفرهم بالسنة؛ لأن الناقل لها صحابة رسول الله ، لكنهم يخفون ذلك الآن خشية أن يعلم جهال المسلمين وجهال أتباعهم مكرهم وخبثهم ودهاءهم الذي أخفوه وادعوا غيره تُقيا ونفاقا، فيفتضح مذهبهم وضلالهم، فينفرون منه.
أيها المسلمون، إنَّ الدين الرافضي الشيعي دينٌ لا يلتقي معَ الإسلام في شيء، وكيف نلتقي ونتقارب مع من يقول بتحريف القرآنِ؟! وكيف نلتقي ونتقارب مع من يسبّ الصحابة؟! وكيف نلتقي ونتقارب مع من ويطعن في أمهاتِ المؤمنين؟! وكيف نلتقي ونتقارب مع من يستبيح دماء المسلمين بل ويعدونه من أعظم القربات؟! وما تشاهدونه من قتلى أهل السنة اليوم في العراق على أيدي هؤلاء لخير بيان وشاهد، إنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان من الأمريكان، بل إنهم يقتلون كل ذكر أو أنثى حتى ولو كان رضيعا طالما اسمه عمر؛ كرها في الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هؤلاء هم القوم، الروافض الذين رفضوا خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وصدق القائل سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]، ولقدْ أصابَ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية حينَ قَالَ رَحِمَه الله: "يعاوِنون أهل الأوثان على أهل الإسلام".
وها نحن نراهم اليوم يتركون المحتلّ ويقتلون المسلم، ولا يبالون بصراخ صغير أو كبير، أصبحت قلوبهم أشدَّ من قلوب الحيوانات الشرِسة، وما قصة التتار عنا ببعيد، فقد كانت بغداد بلدَ خلافة، وكان لخليفتها وزير رافضي اسمه ابن العلقميّ، فمكر بالخليفة وحرض التتار عليه، فأبى التتار دخول بغداد لأن جيشها كان يفوق المائة ألف مقاتل، فما زال بالخليفة حتى سرّح الجيش كلّه وجعله عاطِلا تماما، ثم غرّر به حتى أخرَجه من بغداد ومكَر به وقال: إن التتار يريدون غزو بغداد فاخرج إليهم بكبار القوم من علماء ووزراء وخطباء حتى تكفَّ شرهم، فخرج الخليفة في سبعمائة من كبار القوم، فما إن وصل لملك التتار حتى قتلوهم ونحروهم جميعا، فعاد التتار لبغداد وقد خلت من قوة المسلمين، فذبحوا كل مسلم سنيّ شرّ ذبحة، كل ذلك بسبب خبث ومكر الرافضي ابن العلقميّ لعنه الله.
عباد الله، هؤلاءِ القوم مِنْ أعظَمِ أصُولِهم التكفيرُ واللَّعنُ والسبُّ لخيار الأمة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر، وكل من يترضّى على الصحابة فهو كافر عندهم بل يجب قتله، والله تعالى يأمر من جاء بعد عصر الصحابة الكرام أن يستغفر لهم ويدعو لهم، فيقول سبحانه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].
ومِن ضلال القوم نجدهم قد أبطلوا الصلاة والزكاة، وهما ركنان من أركان الإسلام، فلا تجد مساجدهم إلا معطلة من الذكر والصلاة، وإن وجدت فيها أحدا فلا تسمع إلا عويلا وصراخًا وبكاء على الحسين رضي الله عنه الذي قتلوه ثم بكوا عليه كذبا وزورا، وتجد القبور والتوسّل بها والسجود لها من دون الله أكبر اهتماماتهم وعبادتهم، فماذا أبقوا لله من عباده؟! بل سرقوا الخمس من أموال الضعفاء واستغنَوا به عن الزكاة مستدلين على سرقتهم هذه باستدلال باطل خدَعوا به جهّالهم فسرقوا أموالهم، فكل من زاد عن حاجته شيء ومرّ عليه عام يجب عندهم إخراج الخمس منه، سواء كتاب أو ملبس أو أكل أو شرب أو أيّ شيء، والخمس كثير جدّا، بعكس الزكاة التي لا تكاد تذكر، ويستدلون بقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال: 41]، فالغنمية عندهم هنا مطلقة في كل ما يملكه الإنسان يعدّونه غنيمة، مع أن الآية تشير إلى غنيمة الحرب فقط بنص الآية التي ختمَها الله بقوله: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.
يقول شارون ـ لا أقامه الله من مرضه ـ في مذكراته: "ولم أر يوما في الشيعة الروافض أعداء لإسرائيل على المدى البعيد" انتهى كلامه لعنه الله. ولقد صَدَقَ ذَلكَ المُستشرِق حِينَ قال: "لَولا الدَّولةُ الصَّفويةُ الرافضية لكنَّا اليوم في أوروبا نقرأ القرآن"، أي: لولا صدّهم الإسلام عنا لكنا مسلمين من أهل القرآن.
عباد الله، إن أهل السنة لم يكفّروا الروافض بداية، بل هم من بدأ بالتكفير، فعندئذ كفّرهم أهل السنة، ولو كفّوا عن التكفير وسبّ ولعن الصحابة وترضّوا عليهم كما ترضّى الله عنهم لما كفّرهم أحد أبدا، لكنهم تمادَوا وطغوا فكفّروا الصحابة ونساء النبي ، وهذا تكذيب للقرآن الذي يثني على الصحابة وأمهات المؤمنين، ومن كذّب القرآن فقد كفر بإجماع المسلمين، يقول الإمامُ مالك رحمهُ اللهُ: "الذي يَشتُمُ أصحابَ رَسولِ اللهِ ليسَ له سهمٌ أو نصيبٌ فِي الإسلام"، وقالَ مُعلّقًا على قولِه تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ [الفتح: 29]: "فَمَنِ اغتاظَ مِنَ الصحابة فهو كافر". وتَبعه على هذا الاستدلال الإمامُ الشَّافِعي رحمه الله. وهذا الإمامُ أحمد رحمه اللهُ يقول وَقَد سُئِل عمَّن يَسُبُّ الصحابةَ رضي الله عنهم: "ما أراه على الإسلام"، وقالَ: "من سَبَّ أصحابَ رسولِ اللهِ أو أحدًا مِنهُمْ أو تَنقَّصَهُم أو طَعَنَ عليهم أو عرَّضَ بعيبهِم أو عَابَ أحدًا مِنهُم فَهُو مُبتَدِعٌ رافضيٌّ خَبيث مُخالِفٌ، لا يَقبَلُ اللهُ منه صرفًا ولا عدلاً، بَلْ حُبُهم سُنَّة، والُّدعاءُ لهم قُربة، والاقتِدَاءُ بآثارهِم فَضِيلة".
عباد الله، لقد راجت على كثير من جهلة أهل السنة دعوة التقريب بين السنة والرافضة، وهي دعوة باطلة، فمذهب أهل السنة ومذهب الرافضة ضدان لا يجتمعان, فلا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن أصول مذهب السنة أو بعضها أو السكوت عن باطل الرافضة، كما أراد المشركون من الرسول أن يوافقهم على بعض دينهم أو يسكت عنهم فيعاملونه كذلك، كما قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9]، فكيف نتقارب مع من يطعن في القرآن والصحابة وأمهات المؤمنين؟! أي تقارب مع هؤلاء الذي لو تمكنوا منا لذبحونا ذبح الخراف؟!
عباد الله، لَقَد بَدَأَ فَحِيحُ هَؤلاءِ الأَفَاعِي يَعلُو مِن جَديد، وأطلُّوا برُؤوسِهِم ليَرسُمُوا خَريطة المَنطِقَةِ معَ حُلفائهمُ الأمريكان؛ وتوغَّلُوا في المراكز الحسَّاسة، وسَيطَرُوا عَلَى جِهَازَي الشُرطَةِ وَالجيَش، وَهُم يَتهيّئُونَ لِورَاثةِ الأرضِ والسيطرةِ على البلاد، كَم غصبُوا من مساجد التوحيدِ وَحوَّلوهَا إلى حسينيات للوثنيةِ والشِّرك، وغَصَبوا الأَعراضَ وانتهكوا الحُرُمات، وَهُم مَاضُونَ بسعيٍ حثيث فِي قَتلِ وَتَصفِيَةِ الدُّعاةِ والعُلمَاءِ وأصحابِ الخِبرة مِن أهلِ السُّنة، كم مِن عِرضِ حُرَّةٍ مُسلِمةٍ انتهكوه، وَكم مِن دَمِ مُسلمٍ بدون ذنب سَفَكُوه، وَكَم مِن أسيرٍ وأسيرةٍ أسروه، أسروا العذارى من المسلمات الصغار والكبار فلم يرحموهم بل اغتصبوهم، والكثير منهن لا يعرف مصيره الآن، وتركوا صغارهم يتضاغَون في خوف وجوع وبرد، لا لحاف لهم إلا السماء، ولا فراش لهم إلا الأرض، قتلوا أباءهم وأمهاتهم أمام أعينهم، واستاقوا من بقيّة الأسرة ما شاؤوا وتركوا ما شاؤوا، أي رعب هذا؟!
تخيل ـ يا عبد الله ـ الآن وتصوّر هذا الوضع لأبنائك الذين تشتاق لهم وتخشى أن يصابوا بشوكة، كيف لو كانوا هم هم؟! أقسم بالله العظيم أنّ ما لاقاه ويلاقيه أهل السنة في العراق من هؤلاء الروافض أحفاد ابن العلقمي أشنع وأفظع بكثير مما لاقوه على يد العدو الأمريكي، فمتى ننصر الله في أنفسنا حتى ينصرنا الله؟! متى ننصر الله في أنفسنا بترك المعاصي والمنكرات؟! إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7]، عندئذ لا يسلط الله أعداءنا علينا حين نكون مؤمنين حقا، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141]، المؤمنين الصادقين الذين وصفهم الله بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. والعكس إن تعدّينا حدود الله فبداهة سيسلّط الله العدوّ علينا ويجعل له السبيل والغلبة؛ لأننا انحرفنا عن منهج الله، قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ [النساء: 90]، هذا القول لمحمَّد وصحبه، لم يسلط الله الكفار عليهم لأنهم نصروا الله في أنفسهم فنصرهم الله وسلّطهم على عدوهم، أما نحن فسلّط الله عدونا علينا لأننا تمادينا وطغينا، فرحماك يا الله، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل في كتابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
فهذه كلّها وعود جازمة بالنصر والتمكين، وعدنا بها مَن بيده ملك السماوات والأرض، وعدنا بها من قلوب العباد وعقولهم ونواصيهم وقواتهم وأسلحتهم وتخطيطاتهم بيده وحده لا شريك له، فلا يَبهر عينَيك كثرةُ الكافرين وتألّبهم على المسلمين، ولا تخش من أسلحتهم وتطورهم وظهورهم، فإن كيدهم مهما عظم فهو ضعيف: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق: 15-17]، نعم، أمهلهم رويدا.
(1/5057)
نظرة المسلمين إلى حال الأمة الإسلامية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن محمد بخضر
جدة
سعد بن معاذ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- أوضاع المسلمين في هذا العصر. 3- التحذير من النظرة السوداوية التشاؤمية. 4- نقد النظرة التغريبية النفاقية. 5- ذم النظرة التفرُّجية الباردة. 6- نظرة أهل الحق والإيمان. 7- أسباب هوان المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
قد كتب الله على أهل الحق دائما الابتلاء والامتحان، وزادهم من صنوف البلاء واللأواء فتنة لهم؛ حتى يرسخ إيمانهم وتصلب عقيدتهم، فلا يزعزعهم مزعزع، ولا يؤثر فيهم مخذِّل أو يشكك فيهم مشكِّك. ولا يكابر أحد في أن الأمة الإسلامية تعيش مرحله من الضعف والهوان، حيث تكالبت عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتخطفتها من كل جانب، حتى مزق كيانها، وشرذم أهلها، وتفرقت كلمتها، وأصبح دماء أبنائها من أرخص الدماء، وأصبح هينا على المسامع ذكر عشرات القتلى وآلاف الجرحى. وحقا إن في كل شبر من أمتنا جرحا ينزف وصغيرا يصرخ وامرأة تستغيث وشيخًا يبكي، وكلٌّ يشتكي ضعفه وقلّة حيلته وهوانه على الناس.
والمسلم الصادق يسعى دائما في إصلاح الخلل ودفع الذلّ، ولا يكون ذلك إلا إذا صحّحنا نظرتنا لكل ما يحدث من حولنا ويقع بأمتنا.
أيها الإخوة الكرام، فمن المسلمين من نظر إلى الواقع المرّ الذي يتجرّعه المسلمون، فأصيب بخيبة أمل، وخيمت عليه نظرة سوداوية متشائمة، قطع الرجاء، وأضاع المستقبل، وأخذ يذكر أمجاد المسلمين الأوائل ويقيم عليها مأتما وعويلا، يتبنى دائما فكرة موت الأمة وهلاكها وعدم استطاعتها النهوض، وليته اكتفى بنفسه بل عكس هذه الصورة على المجتمع كله الذي أصبح ينظر بهذه النظرة المتشائمة.
وهؤلاء ـ أيها الإخوة ـ هم المنهزمون، وحقيقتهم أنهم ضخّموا من قدر عدوهم، وحقّروا من شأنهم، ولو أنه قعد دهرَه كلَّه يشتم حاله ويندب مآله فلن يغير هذا من الواقع شيئا، وما أصدق قول الرسول في هذا الصنف من المنهزمين: ((إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكُهم)) أو قال: ((أهلَكَهم)) رواه مسلم عن أبي هريرة.
وصنف آخر نظر إلى حال أمّته وما هي عليه من ذل وهوان وتأخُّر، فأرجع سبب ذلك كلّه إلى تمسكها بدينها وشريعتها، فراحوا يرتمون في أحضان الغرب والشرق؛ يستجلبون رضاهم، ويطلبون محبتهم، حتى إذا نعق ناعق في الغرب وجدتَ صداه عندهم، فنصبوا العداءَ لتعاليم الإسلام وأحكامه؛ لأنها السببُ في تأخر المسلمين بزعمهم، وبدؤوا مخطَّطاتهم التغريبيّة بالمرأة، فأرادوا العبث بها وإخراجها بدعوى المساواة وحقوق المرأة وحريّة المرأة، وحاولوا إفسادها بحجّة إصلاحها وتمدّنها، وتباكوا عليها كما يتباكى الذئب وهو يأكل الحملَ.
وهذا الصنف المتغرِب شرٌّ على المسلمين، فهم لم يكتفوا بأن يكونوا ذيلا للغرب، حتى صاروا يردُّون أحكامَ الشريعة الظاهرة الواضحة، بزعم أنها لا تفِي بالواقع ولا تصلح لهذا الزمان، ويقولون: لكل زمان دولة ورجال.
فعلى المسلم أن يحذر منهم، ويحرص على دينه، فلا يتّبع كل زاعق وناعق وإن ادَّعى معرفةً وفهمًا، فالحق عليه نور، والباطل عليه ظلمة، ومِن مُرِّ حنظلهم تعرفونهم.
ومن يقل الغراب ابن القماري يكذبه إذا نعَب الغراب
وصنف ثالث ـ أيها الأحبة ـ ينظر إلى ما يحلّ بإخوانه؛ حصار وتجويع وألم في فلسطين، وقتل وإبادة في العراق، وزلازل مهلكة في بعض بلدان المسلمين، وأعداء متربصون بنا، وتناحر وتباغض وفقر وأمراض فتاكة، ينظر إلى كلّ هذا ويستمتِع برؤيته ثم لا تراه يحرك ساكنا! سلبيا في كل تصرفاته، عديم الشعور، فهو على أقل تقدير لم يرفع يده إلى مولاه بالدعاء الذي لا يكلّفه شيئا، ولا يتطلّب منه حسابا في البنوك، بل يتطلب حسابا من الشعور والإيمان والإحساس بحال إخوانه، وصدق الرسول : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)).
نجده يتراقص على أنغام وتره، مشغولا بسفاسف الأمور، مغرما بالفضائيات ليقتل وقته، ولا يُعِيرُ أي اهتمام لما يحل ويصيب إخوانه المسلمين، بل ويتبجّح ويقول: ما لي ولهم؟! وما شأني بهم؟! نسوا أن الدنيا قُلَّبٌ خؤون، لا تدوم لأحد، وأن دوام الحال من المحال، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أيها الإخوة الفضلاء، وأما أهل الحق والإيمان فعلموا وأيقنوا أنَّ لإيمانهم ضريبة لا بد أن يقدّموها وكنزا لا بد أن يدفعوا قيمته، وأن طريقا سار عليه أفضل الخليقة وأزكى البشرية أنبياء رب البرية فلاقوا من الأذى والعذاب والقتل ما لاقوا فمن يسير في طريقهم لا بد أن يصيبه ما أصابهم، ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1-3].
نظروا إلى حال أمتهم الجريحة فآمنوا بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابهم إنما هو أمر مقدر ومكتوب، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]. آمنوا بخبر الصادق المصدوق : ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء)). لم يقفوا عند هذا الحدّ يلعنون الظَّلام، بل سعوا في إشعالِ النور، فكانوا مِشعل هداية للناس، وبذلوا جهدَهم وطاقتهم وكلّ ما يستطيعون في رفعة شأن أمتهم، هذه النظرة التفاؤلية الإيجابية تدعوهم إلى التمسّك بدينهم، يؤمنون بوعد الله لمن أطاعه واتقاه، ساهموا في الحفاظ على أمتهم سيدةً بين الأمم.
يعلمون أنَّ ما أصاب المسلمين اليوم ليس بأشدّ مما أصاب المسلمين من قبل، لم ينسوا سقوطَ الأندلس وإقامة محاكم التفتيش، والتي يخجل التأريخ من ذكرها، وظهور الوجه القبيح للحقد الصليبي، وقتل فيها المسلمون وشرِّدوا وعذِّبوا، حتى إنك لتعجب من بلد حكمه المسلمون أكثر من ثمانية قرون تقلّ فيه نسبة المسلمين!
لم ينسَوا سقوط بغداد وما حلّ بالمسلمين من مصيبة كبرى جراء همجيّة التّتَر، حتى بلغ بهم الذل أن يأمر التتريّ المسلمَ أن يقتل أخاه فيفعل، كل ذلك يجول في خاطرهم ويمرّ ببالهم، لكنهم يعلمون ويوقنون أن الأمة الواعية هي التي تستفيد من أخطائها، وهي التي تجعل من أسباب هزيمتها وضعفها جِسرا وطريقا إلى النصر والعزة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
بقي أن نضع أيدينا على الداء لنعرف الدواء، ونستجلي الأسباب الحقيقية والسنن الإلهية لكل ما يحلّ بأمتنا الإسلامية.
فبعضنا قد يجعل الخلَل من العلماء وحدهم، ويلقي بالمسؤولية على أعناقهم، ويتملص هو من أدنى مسؤولية. وهذا بحدّ ذاته خلل، فالعلماء ـ وأعني العلماء الربانيين ـ قد قالوا كلمتَهم، وصدعوا بالحق، وبينوا وأوضحوا، لكن الناس مع الأسف الشديد منصرفون عنهم، وشيوع كثير من المنكرات والمحرمات أكبر دليل على ترك أقوال العلماء.
والبعض قد يجعل الخلل من قبل الحكّام، ويلقي باللائمة عليهم، ويشغّب عليهم، ويدعو الناس إلى احتقارهم، وهذا خلل أيضا في التفكير؛ لأنّ السنّة الإلهية اقتضت أنه كما تكونوا يوَلَّ عليكم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 129]، ولما جاء أحد الخوارج إلى عليّ بن أبي طالب فقال له: لماذا خرج الناس عليك ولم يخرجوا على أبي بكر وعمر؟! فقال له: لأن أتباعهما أنا وأمثالي، وأتباعي أنت وأمثالك.
إذا أيها الأحبة، أين الخلل؟ وما السبب في كل ما يحل بالمسلمين؟
هناك أسباب كثيرة نذكر أهمها مع علاجها:
1- الشرك؛ فإنه أعظم المحرمات وأكبر الأسباب الموجبة لعذاب الله في الدنيا والآخرة، انظر كيف يحذّر الله خير البشر ويقول لهم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]، وما أرسلت الرسل وما أنزلت الكتب إلا لتحقيق التوحيد ونبذ الشرك. فكيف يهدي الله قوما انصرفت قلوبهم عن خالقهم إلى غيره، فتعلقت أفئدتهم بالأضرحة وبأصحابها، وتعلقت بما لا يضر ولا ينفع؟! قال تعالى: قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22].
فإذا حقق المسلمون التوحيد في أرضهم ونبذوا كلّ أصناف الشرك استمع لوعد الله لهم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
2- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره عن النبي : ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم)) ، وقال في الحديث الآخر: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم)).
3- الذنوب والمعاصي والمجاهرة بها، وهي مهلكه للشعوب روحيّا وماديا، وهي معول هدم لكيان الأمة الإسلامية، قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر: 21]، وقال : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، وقال : ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله)).
وهناك أسباب أخرى كثيرة:
منها الجهل، فيتحصّن المسلم بالعلم ويلتفّ حول العلماء الربانيين الصادقين.
ومنها الترف والخروج به عن حدّ المعقول، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]، وقال تعالى عن أهل النار: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة: 45]. ومن عواقبه السيئة أن نشأ جيل لا يعرف إلا ملذّاته وشهواته ومتعَه الزائفة، وهو في معزل عن أمته وجراحاتها.
فعلى المسلم أن يتقي الله ويسأل نفسه؛ لعل الله أخّر النصر عن هذه الأمة بسبَبه وبذنوبه، فيصلح من شأنه، ويصلح من تحت يده، ويحسن تربيتهم، ويحبّبهم في الإسلام، ويشغل أوقاتهم بما يفيدهم، ويدخل عليهم ما ينفعهم ويزكيهم، فإن صلاح الأسرة صلاح للمجتمع، وإن أهملت وتركت تلهو وراء متَع الحياة ناسية رسالتَها ومبادئها تشتَّت الأبناء وانسلخوا من هويتهم وتبرَّموا من دينهم، ففسدت وفسد لفسادها المجتمع بأسره.
نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يؤلّف بينهم، ويسدّد رأيهم ورميَهم، إنه سميع مجيب...
(1/5058)
حفظ الأيمان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آفات اللسان, الأيمان والنذور
محمد الرزقي الورتاني
بنزرت الجنوبية
جامع الهداية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة التهاون بالأيمان. 2- الأمر بحفظ الأيمان وكيف يكون. 3- كفارة اليمين. 4- خطورة اليمين الغموس. 5- الحث على الصدق في القول والعمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، موضوع خطبة اليوم هو حفظ الأيمان، هذا الموضوع أتناوله على مسامعكم الكريمة لأسباب كثيرة، منها ما ابتلِينا به من كثرةٍ للحلف بالله والحلف بأغلظ الإيمان دون تروٍّ ودون تمعّن ودون تدبّر لما في ذلك من آثام وسيئات يرتكبها الإنسان بالحلف بالله وهو كاذِب، ويأتي الكثير ممن تعوّدوا القول على الله بغير علم وقد كثروا بيننا فيفتون بما لا علاقة للدّين به.
يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية 89 من سورة المائدة: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وهو أمر من الحق سبحانه بحفظ الإيمان.
وحفظ الأيمان يكون بأمور عدة وبأمور عديدة، وذلك رأفة من الله ورحمة بنا حتى لا نجعل الله عرضة لأيماننا. من هذه الأمور أن لا يكون فيها تسرّع، أي: أن لا يحلف الإنسان متسرِّعا، فهناك من أخَذ لسانه على كثرة الأيمان، ومن اتّصف بهاته الصفة الخسيسة وهي كثرة الأيمان رتّبه الله سبحانه وتعالى في مصاف الهمازين المشائين في الناس بالنميمة، وفي الحديث الشريف: ((لا يدخل الجنة نمام)) ، والنمام يدخل في مراحل العذاب مبكِّرا، أي: يبدأ معه العذاب في القبر قبل أن يأتي عليه عذاب يوم البعث والنشور يوم القيامة، عدهم الله سبحانه وتعالى ضمنَ منّاعي الخير، أولئك الذين يمنعون فعل الخير، عده ربّه من المعتدين: عُتُلٍّ أي: جاف قاسي القلب عديم الفهم، بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أي: ولد الزنا. كل ذلك وما في ذلك من عذاب الله سبحانه وتعالى وغضبه على الذين تعوّدوا كثرةَ الحلف بالأيمان كذبا وبدون لزوم لذلك، يقول جل من قائل: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10-13]. صفات كثيرة خسيسة لا تليق بالمسلم، يصبح متَّصفا بها إن هو تعوَّد كثرة الأيمان، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [البقرة: 224].
أيضا أن لا توقع ـ أيها المؤمن ـ اليمين إلاّ على أمر أنت مضطرّ إليه، وأن تعظِّم تلك اليمين تعظيم مؤمِن لها حقًّا، وإذا وقعَت منك يمين قابلة للكفّارة فلتحافظ فيها على مكانة وقدسيّة اليمين؛ بأن تؤدّي كفارتها وخاصّة إذا أردتَ مخالفة ما حلفتَ عليه، فأين نحن من كفارات اليمين ونحن نحلف اليمين الكاذبة في اليوم المرات العديدة المتتالية؟! أخذت ألسنتنا على ذلك. وللعلم أيها الأحبة في الله، إن كفارة اليمين تتكرّر بنسبة تكرّر اليمين الكاذبة، وهذا من بابِ الرّدع حتى لا تتكرّر منا الأيمان التي لا داعيَ لها.
ويكفي أن تعرف ـ أيها المؤمن ـ أن كفارة اليمين ليست بالشيء الهين، فأوّلها إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وهذا الإطعام ينبغي أن لا يكون لشخصٍ واحد، بل لا بد أن يكون لأشخاص مختلفين أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام متتالية متتابعة، ولا يأتي الصيام إلا في آخر مراحل الكفارة الثلاثة. الكثير من الناس يذهب مباشرة إلى الصيام، هذا إن عرفَ مكانة اليمين، فالواجب هو اتباع مراحل الكفارة التي هي الإطعام أو الإكساء أو تحرير الرقبة، وفي آخر المراحل أي: عند التعذّر فالصيام، والصيام هنا هو صيام واجب أي: تتحتم فيه شروط صيام الفرض، مثلا أنه لو أراد صيام كفارة ثم فسد هذا الصيام كمَن يأتي زوجته مثلا، فعليه كفارة اعتداء على الصيام التي هي صيام شهرين متتالين. واقرؤوا إن شئتم قول الحق سبحانه وتعالى الكريمة حيث يقول جل شأنه: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 89].
يقول الحبيب المصطفى : ((إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت يميني وأتيت الذي هو خير)) هذا الحديث أخرجه البخاري في باب الأيمان تفسيرا لقول الله سبحانه وتعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، وكذلك الإمام مسلم في الأيمان من حديث أبي موسى الأشعري.
ومن المحافظة على اليمين أن تكون صِدقا، أن تكون صادقا في يمينك بعيدا عن الكذب فيها، وقد ألزم الله سبحانه وتعالى المسلمين بالصّدق في أيمانهم، وألزم كذلك قبول يمين من حلف إذا لم يستبن كذبه وباطِله، يقول : ((من حلف بالله فليصدُق، ومن حلِف له بالله فليرضَ، ومن لم يرض فليس منا)) أخرجه ابن ماجة في كفارات اليمين.
أيها الأحبة في الله، إن الكذب في الأيمان كبيرة من كبائر الذنوب، موجبة لسخط الله ولغضبه ولعذابه في الدنيا وفي الآخرة، متوعَّد من أقدم عليها بالنار والحرمان من الجنة والعياذ بالله، يقول في ذلك رب العزة والجلال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77].
فالمؤمن عليه إن أراد أن يحلف أن يتأكد من يمينه، وليحذر أن تكون هذه اليمين يمينَ غموس يمينَ كذب يمينَ فجور يمين باطل، فإنّ اليمين تعظيم لله سبحانه وتعالى، ولا يليق بالمؤمن أن يعظّم الله جل شأنه على أمر لا حقيقةَ له، على أمر كلّه كذب وافتراء وباطل، فهذا لا يليق بالمسلم.
الحبيب المصطفى يحذّرنا من اليمين الغموس ويعلِمنا أنها من الكبائر، لما سئل عن ذلك، سئل عن الكبائر، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس)) أخرجه البخاري في الأيمان باب: اليمين الغموس، فقرن اليمين الغموس بالإشراك بالله وعقوق الوالدين.
ومعنى اليمين الغموس ـ كما قاله صاحب المعجم الوسِيط ـ هي اليمين التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، تغطس صاحبها في الإثم أي: الآثام والمعاصي ثم تغطسه في النار.
وفي الحديث الشريف أنها أي: هذه اليمين الغموس تذر الدّيار بلاقع، أي: تخلي الديار.
هذه اليمين الخطرة نحن نعيش معها ونعايشها ونتفلسَف فيها، لا حول ولا قوّة إلا بالله، حتى إن البعض أصبح يفتي لنفسِه ولغيره فيقول: إن الكذب في المصالح جائز، نسأل الله العافية ونعوذ به من الردى بعد الهدى.
وقد قال في هذا الصدَّد مؤلف كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" ما معناه أن كثرة الأيمان وإن كانت صدقا فهي قد تصل إلى الكبائر، والحق في ذلك يخبرنا: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ ، والحلاف هو كثير الحلف والقسم، لا يبالي بحلفه ولا بقسمه، ولا يتقي الله في ذلك.
يقول الصادق المصدوق في موضع آخر: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب أوجب الله له النار)). وفي موضع آخر يعلمنا ويخبرنا أنّ من اقتطع مال امرئ مسلم مستعملا في ذلك يمينا كاذبة فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله، ولو كان يسيرا؟! فقال: ((ولو كان قضيبا من أراك)) أخرجه مسلم في باب الأيمان. وفي موضع آخر رواه الإمام مسلم من حديث أبي ذر الغفاري قال : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم)) ، ومنهم: ((رجل جعل الله بضاعته، لا يبيع إلا حالفا بالله، ولا يشتري إلا حالفا بالله)) أو كما قال.
أحبتي في الله، إن الأيمان الفاجرة ممحقة للبركة، أي: تمحق البركة وتمنع نزولها، إنها تضعف الإيمان، إنها سبب لحلول العقوبات الإلهية في الدنيا وفي الآخرة، إنها سبب لنقمة رب العالمين، فالكاذب الفاجر في يمينه وإن فاز بها وقتا فلا بد أن تدركه العقوبات الإلهية في الدنيا حيث تتَتالى عليه المصائب في المال أو في الولد أو في قلة البركة أو في الصحّة، فلا تجده إلا متخبّطا في المشاكل والمآسي كما يقال: "يرفع ساقا فتغرق أخرى".
فيا أيها المسلم، كن صادقا في يمينك، وابتعد عن الكذب فيها مهما كانت الأحوال، ولا تقل: هذا شيء بسيط لا حرج في الحلف فيه، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15].
واعلم ـ رحمك الله ـ أن الصدق طمأنينة والكذب ريبة، ومن لزم الصدق جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ويسّر له أموره، أما الكاذب فهو ممحوق البركة في الرّزق وفي العمر وفي الولد، وكتب عند الله من الكذابين يوم القيامة.
اللهم ارزقنا الصدق في القول والإخلاص في العمل، وجنبنا الفواحش والزلل، واحشرنا في زمرة من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويسّر علينا ذلك، فإنك وليه والقادر عليه.
أقول ما سمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5059)
التقصير في تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
محمد الرزقي الورتاني
بنزرت الجنوبية
جامع الهداية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل المربي مثل صاحب البستان. 2- ظاهرة التهاون في تربية الأولاد. 3- كيفية وقاية الأهل من عذاب النار. 4- مفاسد إهمال تربية الأولاد. 5- مظاهر التقصير في تربية الأطفال. 6- التحذير من الدعاء على الأولاد. 7- أنواع التربية. 8- الإشادة بالأبناء الذين يحضرون المساجد مع آبائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، لنتصوّر أنّ رجلا يملك بستانا له، بستانا فيه رياحين وأزهار وأشجار وثمار، وهو يتعهّد ذلك البستان، يتعهّده بالرعاية والسقي والعناية التامّة، يرعى ذلك البستان ويحميه ويصونه، يصونه طبعا من عبث العابثين وإفساد الفاسدين المفسدين، وقد كثروا بيننا نسأل الله العافية، فماذا يحدث؟! وماذا تكون النتيجة؟! لا شك أنه سينمو ويعطي أحسنَ الثمار وأروع الأزهار وستسرّ بالنظر فيه، سيسرّ كل من رآه، كل من رآه، ما نظر فيه أحد وفيما فيه من خيرات إلا وقال: تبارك الله ما شاء الله.
ولكن لو جعل هذا البستان نسيًا منسيّا، لا يتعاهده، ولا يرعاه، ولا يسقي أشجاره، ولا يحفظه، ويتركه عرضة للعبث والفساد، فماذا سيكون مصير هذا البستان؟! هل تكون فيه ثمار؟! هل تكون فيه أزهار؟! هل تكون فيه رياحين؟! هل تكون فيه أشجار؟! الأكيد أنّ الإجابة عندنا جميعا وهي مما نتّفق عليه في دون منازع أنه لا يبقى منه شيء ذلك البستان، بل أنّ اسمه كبستان سيندثر وينمحي ولا يبقى منه شيء.
هذا مثال أسوقه إليكم ـ يا أحبتي في الله ـ على وضعنا في العناية بأبنائنا، وخاصة الذكور من أبنائنا، إننا نعيش فاجعة كبرى لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى إلى ما ستَنتَهي بنا، فإنّك بين الحين والآخر ترى من السلوك ما لا يصدقه العقل.
إن المرض والداء الذي أصِبنا به في تربية أبنائنا لخطير وخطير جدا، وإننا لنشاهد نتائجه بين أيدينا، وتأخذنا الدّهشة بهاتِه النتائج، ونرفع أصواتنا في أننا مقصّرون، وأن تلكم النتائج إنما مردّها ومأتاها هو تقصيرنا في تربية أبنائنا، وتكاد تكون هاته نقطة نلتَقي عندها جميعا، فيقول الواحد منّا ونقول جميعا: إننا مقصّرون في تربية أبنائنا، ولكن هل حركنا ساكنا في سبيل إصلاح هذا الوضع؟! فلا وألف لا، ونحن نعيش فترة حسّاسة جدّا في مرحلة التعليم التي هي الثلاثيّ الأخير من السنة الدراسية، وما هي إلا أيام قلائل نعيش بعدها نتائج أبنائنا في دراساتهم وفي امتحاناتهم، فعلينا أن نراجع أنفسنا في هذا الصدد، يقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، ويقول سيد الخلق: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، ويقول في حديث آخر: ((ما نحل والد ولدَه خيرا من أدب حسن يؤدّبه به)) أخرجه الإمام أحمد والترمذي.
فكيف تكون الوقاية؟! وكيف يكون العلاج؟! وكيف يقع تحمل المسؤولية في هذا الصدد؟! فهي بكل بساطة بالقيام على التربية أحسن قيام، وهذه التربية إنما تكون بحفظهم في دينهم وفي دنياهم، فالوقاية هي القيام عليهم بتربيتهم وحفظهم في دينهم وفي أخلاقهم وفي دنياهم، فإن الله جل وعلا حمّلكم مسؤولية ذلك، وسيسألكم عن ذلك يوم الوقوف بين يديه، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((إن كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) أخرجه البخاري.
فيا أيها المؤمن، إن ولدك هو تاج جهدك، هو ثمرة جهدك في التربية والعناية والرعاية والوقاية، فإن وجدت خيرا من هذا الجهد فاحمد الله عليه، وإن وجدت غير ذلك فلا تلومنّ إلا نفسك.
أحبتي في الله، إنه مما يحزن القلب ويتفتّت له الفؤاد أن نرى الكثير من الناس قد أهملوا تربية أبنائهم، واستهانوا بها، وأضاعوها بالجملة، فلا حفظوا أولادهم، ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد أن الكثير من الآباء ـ أصلح الله شأنهم ـ يساهمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فيما أصبح عليه وضع أبنائهم. يقول ابن القيم رحمه الله: "كم من والد أشقى ولده ـ أي: كان سببا في شقاء ولده ـ وفلذة كبده، وذلك بإهماله وترك تربيته والعناية به، بل وترك تأديبه، وذلك بإعانته على شهواته، وهو يظن أنه بتدليله وبتلبية شهواته إنما يكرِمه، بينما في الواقع قد أهانه، يظنّ أنه رحمه وهو قد ظلَمه، ففاته الانتفاع بولده، وفوَّت على ولده حظَّه في الدنيا وفي الآخرة".
وإذا نظرت فيما عليه أبناؤنا من انحلال وفساد وجدت أن وراء ذلك الآباء أو بالإهمال المفرط أو بالتدليل المفرط. إنَّ كثيرا من الآباء كان سببا مباشرا أو غير مباشر في شقاء أبنائهم.
أيها الآباء الأفاضل، إنَّ من المشكلات الكبرى والنوازل العظمى التي أصيبت بها الكثير من المجتمعات الإسلامية على الخصوص تقصير الوالدين في رعاية أولادهم وتربيتهم على البر والتقوى، ومعالم وأنواع هذا التقصير كثيرة وعديدة، فمنها على الخصوص الانشغال بمشاغل الدنيا الفانية الخالية التي لا تعدل ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، فكم من هؤلاء الآباء الذين هجروا بيوتهم فلا يجلسون فيها إلا قليلا للأكل أو للشرب أو للنوم، أما باقي الوقت فهي بين اللهو واللعب بدعوى الترفيه عن النفس أو إضاعة الوقت، ونسي أن ذلك الوقت المضاع المهدر سوف يسأل عنه كما سيسأل عن تربية أبنائه يوم القيامة، أعمال كثيرة ما فيها إلا إضاعة الوقت والتقصير في الواجبات.
ولكم أن تسألوا أنفسكم: كم منكم رافق ابنه أو ابنته للمدرسة؟ وكم منكم كان واقفا أمام المدرسة ينتظر خروج ابنه أو ابنته ليكون برفقته إلى البيت وليعيش معه على الأقل فترة دخوله المدرسة أو خروجه منها؟ إنه عمل بسيط في حدّ ذاته، ولكنه عظيم الفائدة والقيمة، فمن خلاله من خلال هذا العمل البسيط المتواضع المتمثّل في مرافقة ابنك أو بنتك أو حفيدك أو حفيدتك للمدرسة أو انتظار خروجه منها يشعر الابن أو البنت بالرعاية والعناية والمواكبة والمراقبة. وإني أتوجَّه بالسؤال إلى البعض من الآباء، سؤال بسيط يمكن لكلّ أب أن يقوم بتجربته، وليرى نتائجه: ترى ماذا لو وقف أب يسأل ابنه وقد عاد إلى المنزل متأخرا، يسأله: أين كنت؟ وفي اليوم التالي يسأله نفس السؤال ولكن بشيء من الحدّة، فسوف يرى بأمّ عينيه سلوك الابن في تلك العودة المتأخرة إلى الدار، وهذه العودة المتأخرة هي سبب كل البلايا، والأب هو الأب، ينبغي أن يستشعر ذلك، فلا يظنّ أن كبر الابن يمنعه من أن يسأله عن سبب عودته متأخرا إلى المنزل، فإنه إن تخلّى عن هذا الدور كأب يكون بذلك قد فتَح المجال أمام الابن ليفعلَ ما يشاء، وعندئذ سوف لن يكونَ الأمر متعلِّقا بالعودة المتأخرة للدار، بل ستكون هناك أشياء أخرى، وهو ما أصبحنا نعيشه ونراه بأم أعيننا.
هذه عينة بسيطة من التقصير في حقّ الأبناء، يأتي ما هو أخطر منها وهو تهوين وتصغير الفعلة القبيحة، عندما يرتكب الابن الفعلة القبيحة المعصية، فيهوّنان عليه، إما بغض النظر عنها أو باعتبارها شيئا عاديا، إنّ هذا خيانة، خيانة عظمى في تربية الأبناء، خيانة للأبناء في تربيتهم، خيانة للمجتمع في أن تقدِّم له من النسل ما ينفعه، خيانة للأمانة التي حمّلك الله إياها، خيانة لنفسك في تربية أبنائك، والمصطفى يخبرنا: ((إنه من ما عبد يسترعيه ربه رعية فيموت وهو غاش لها إلا لم يجد رائحة الجنة)) رواه البخاري ومسلم من حديث معقل بن يسار، ويقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، والوقاية هنا هي الحماية والوقاية من كلّ قبيح وتجنب كل تقصير، والآية الكريمة تتعلّق بوقاية النفس والأهل، الوقاية من النار وليست نار اليوم، إنها نار يوم القيامة التي وقودها الناس والحجارة.
إن حسن التربيَة هو أمانة كبيرة وعظيمة، هذه الأمانة العظمى أمانة تربية الأبناء الكثير منا تخلى عنها بالكلية، وأحلّ محلها واستبدل مكانها الإضاعة والإهمال، فنتج عن ذلك أن الأبناء أبناءَنا أصبحوا في حلٍّ، يخرجون في أيّ وقت شاؤوا، ويعودون متى شاؤوا، ويصاحبون ويخالطون من شاؤوا، ويسهرون الليل وينامون النهار، ولم يقتصر الأمر على جلوس أبنائنا في المقاهي معنا حيث نسمع منهم ويسمعون منا الخير والبركة.
أحبتي في الله، إنّ هِبة الولد الصالح هي من أجلّ النعم من الحق سبحانه وتعالى، كيف لا وابن آدم إذا مات انقطع من الدنيا إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، كما أخرجه مسلم في صحيحه. ومن الأمانة أن تحفظ الوصية في الأهل وفي الولد، وذلك بأن تخلص لهم في الدعاء، فتنال بذلك أجر الدعاء لهم بالصلاح والسداد، فتنعم في الدنيا وتؤجر عن ذلك في الآخرة، وأن تجتنبوا الدعاء عليهم بالشرّ ولو في حال السخط، ونحن نرى الأمهات وقد تعوَّدن تلك العادة السيئة التي هي الدعاء بالمكروه على الأبناء، من ذلك ما تجده عند كلّ الأمهات عندما يخطئ الطفل أيَّ خطأ فأول ما تبادِره به الأم هو الدعاء عليه بأخطر الدعاء، فهي تبادره بقولها: "يفسد رأيك"، وما علمت المسكينة أنّ من أعظم المصائب مصائب الأبناء والآباء في الوقت ذاته هو فساد الرأي، ونحن إنما نعاني اليوم من فساد الرأي عند أبنائنا وحتى عند كبارنا؛ لأنهم هم أيضا نالوا نصيبهم من هذا الدعاء الخطير عندما كانوا صغارا.
صحيح أن التربية عمل شاقّ وجهد كبير يحتاج إلى وقت وصبر وثبات، ولها جوانب مختلفة، هاته التربية تأتي في طليعتها التربية الإيمانية، تربية الطفل على الإيمان. من منا اهتم بتربية ابنه تربية إيمانية؟! لا تجيبوا فاسألوا أنفسكم وأنا معكم، فكلنا نعرف الجواب، وهو الجواب الذي يجده الإنسان عندما يسأل نفسه؛ لأن الجواب الذي يأتي من قرارة نفس المؤمن غير الجواب الذي يأتي من الغير. ثم هناك التربية الأخلاقية والخلقية، وهناك التربية الجسمية، وهناك التربية العقلية، وهناك التربية النفسية، وهناك التربية الاجتماعية، وأنواع أخرى من التربية قائمتها تطول، ولكننا لا نهتم بها إطلاقا.
وقد أكون مبالغا وقاسيا في هذا الحكم، فيقول البعض: لا يا شيخ، فنحن نربي أبناءنا، إنما هناك عوامل واردة علينا غلبت وتغلّبت علينا، وأقول: إن هذا صحيح إلى حدّ ما، ولكن هناك أمور أخرى قد تفوت من اجتهد في التربية، هاته الأمور منها أن يهتم بأمور وينسَى أمورا أخرى، فنحن نهتمّ بالنتائج في الدراسة، ربما من خلال مطالعاتنا لدفاتر أبنائنا، هذا شيء مهم وممتاز، علينا أن نحافظ عليها، ولكن هناك أمور أخرى هي خطيرة، وهي أن نقصر المتابعة والتربية على جانب أو بعض الجوانب ونهمل جوانب أخرى وهي هامّة، فذلك مما قد يفضي إلى عدم التوازن في التربية.
لنأخذ على ذلك مثلا بسيطا، لنتصور أنك اهتممت بابنك فوصل مراتب من العلم وحصل على شهادات، وقد كثرت بيننا الشهادات العديمة الفائدة والجدوى، فحصل على شهادات عليا، ولكنك أهملت تربيَتَه الأخلاقية، فنشأ عديم الأخلاق، لا أخلاق له, والأمثلة كثيرة، فهل يستفيد ممّا وصل وحصّل عليه من شهادات ومن زاد علمي؟!
أختم هذا الموضوع ـ أحبتي في الله ـ بجانب أحبّه كثيرا وأنتشي به، وهو أن نرى أبناءنا وفلذات أكبادنا معنا جنبًا إلى جنب عامرين بيوتَ الله، فهذا مما ينبغي أن نثمِّنه ونتحدث به في جلساتنا وفي ديارنا، ونحدّث به أبناءنا ونساءنا، فإنّ الطفل يتأثر بما يسمَع، ويتصرف بدافع حبّ الاطلاع، وعندما يرى قرينه يسلك المسلك المرضيّ الذي يجرّ له الاهتمام يتبعه في سلوكه، وهذا السلوك الحسن هو الذي من خلاله نبدأ المصالحة مع تربية أبنائنا.
اللهم يسّر علينا العناية بأبنائنا وفلذات أكبادنا، وباعد وأبعد عنهم الفواحش والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعل لنا قرة عين في أزواجنا وفي ذرياتنا، وبارك لنا فيهم يا رب العالمين.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولوالديّ ولوالديكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5060)
الأشهر الحرم ويوم عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
سليمان بن عبد الله الشتوي
شقراء
7/1/1427
جامع الربيعة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأشهر الحرم. 2- تلاعب المشركين بالأشهر الحرم. 3- قصة التاريخ الهجري. 4- فضل الصيام في الشهر المحرم. 5- فضل صيام عاشوراء. 6- من البدع المنتشرة في يوم عاشوراء. 7- الحث على التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فقد أظلنا شهر عظيم مبارك، هو شهر الله المحرم، أول شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الآية، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ : ((السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فلأجل أداء مناسك الحج والعمرة حرّم قبل الحجّ شهرا وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحجّ وينشغلون فيه بأداء المناسك، وحُرّم بعده شهر آخر وهو المحرّم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: جميع الأشهر، ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراما وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ : "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها"، وإن كان الظلم على كلّ حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، وقال: "إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل".
وقد كان مشركو العرب يتلاعبون بحرمة هذه الأشهر، فيؤخرون حرمة شهر الله المحرم إلى صفر إذا أرادوا فيه قتالا، ويسمونه النسيء، وقد أبطل الله نسيئهم هذا، وبيّن أنه إمعان في الكفر وإيغال في الضلالة بقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ، وأخرج الطبري عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ قال: (النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى: أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا وإن صفَرَ العام الأول هذا العام حلال، فيحله للناس، فيحرّم صفرًا عامًا ويحرم المحرم عاما). وقال كما في الصحيحين: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) ، فأبطل بإعلانه هذا كل نسيء نسأه المشركون.
عباد الله، وإن من رحمة الله أن جعل الحساب الشرعيّ العربي مبنيًا على الشهور الهلالية؛ لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام، وهي رؤية الهلال، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ، ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة، فاستشارهم: من أين يبدأ التاريخ؟ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي ، وقال بعضهم: يبدأ من بعثته، وقيل: يبدأ من هجرته، وقيل: من وفاته، ولكنه رجّح أن يبدأ من الهجرة؛ لأن الله فرّق بها بين الحق والباطل، فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة؛ لأنها هي التي كان فيها قيام كيان مستقلّ للمسلمين، وفيها تكوين أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون، ثم شاور عمر الصحابة: من أيّ شهر يبدؤون السنة؟ فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبيّ مهاجرًا إلى المدينة، وقال بعضهم: من رمضان، واتّفق رأي عمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم؛ لأنه شهر حرام ويلي ذا الحجة، ويلي الشهر الذي بايَع فيه النبيّ الأنصار على الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولوية شهر المحرم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبيه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وبعد: عباد الله، أنتم في شهر الله المحرم، أحد الأشهر الأربعة الحرم، وهذا الشهر فيه من الفضائل ما ليس في غيره، ومن ذلك فضل الصيام فيه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)).
ومن خصائص هذا الشهر أن فيه فضيلة صيام عاشوراء، وهو العاشر من المحرم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء أفطره.
ولقد كان الرسول يتحرى ذلك اليوم، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاّ هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. ومعنى (يتحرى) أي: يقصد صومَه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
ولصيام هذا اليوم المبارك فضل عظيم، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي : ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله)) رواه أحمد ومسلم. وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
وروى عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع)) ، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ. رواه مسلم.
ويجوز صيام عاشوراء وحده ويحصل به تكفير الذنوب بإذن الله، لكن الأفضل صيام يوم قبله، قال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا; لأنه صام العاشر ونوى صيام التاسع، أما صيام يوم بعده فلم يثبت عن النبي فيه شيء، لكن من فاته صيام يوم التاسع وصام الحادي عشر جاز له ذلك، أو من صامه على أنه من النفلِ المطلق أيضا جاز له ذلك.
ويوم عاشوراء يوافق يوم الاثنين القادم بناء على الرؤية الشرعية.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنّ عليك الليل هل تعيش إلَى الفجر
فكم من فتى يمسي ويصبح لاهيًا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم ساكن عند الصباح بقصره وعند المساء قد كان من ساكني القبر
وهناك من خصَّ يوم عاشوراء ببعض البدع، ومنها تخصيص ليلة عاشوراء أو يومها بقيام معيّن أو الاجتماع للصلاة أو اغتسال أو اكتحال أو التطيّب أو المصافحة، وبعض النّاس يتّخذه عيدا يحتفل به، وهذا لا يجوز، وبعضهم يتّخذه مأتما وعويلا ونياحة ولطما للصدور وضربا بالسيف على الرؤوس وإسالة للدماء ووضعا للسلاسل في الأعناق، وهذه بدعة قبيحة محرّمة ليست من الإسلام في شيء، والإسلام بريء منها وممّن ابتدعها، والله أرحم بعباده من أن يأمرهم بتعذيبِ أنفسهم بمثل هذه الأفعال الشّنيعة القبيحة، نسأل الله السّلامة والعافية.
على المسلم أن لا يتّكل على صيام هذا اليوم مع مقارفَته للكبائر؛ إذ الواجب التوبة من جميع الذنوب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وكاغترار بعضهم بصوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر، ولم يدر هذا المغترّ أن صومَ رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر"، ولتكن عبادتنا ـ عباد الله ـ كما يحبّ ربنا ويرضى ووفق سنة نبيه المصطفى.
نسأل الله أن يهدينا سبل السّلام، وأن يرزقنا العمل بما يُرضيه، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم وفقنا لكل خير واصرف عنا كل شر، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وأن تغفر لنا وترحمنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين...
(1/5061)
العبودية لله
التوحيد
الألوهية
محمد بن سعد الشهراني
خميس مشيط
16/12/1427
جامع النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معاني العبودية في شعيرة الحج. 2- العبودية منهج دائم. 3- حتمية العبودية. 4- فضل العبودية لله تعالى. 5- أركان العبودية. 6- أصول العبادة وأسسها. 7- العبودية لله دين الفطرة. 8- العبودية أشرف المقامات.
_________
الخطبة الأولى
_________
في الأيام الماضية صدر المسلمون عن مشاعر عظيمة ومشاهد شريفة، أتموا فيها نسكهم وأدوا شعيرتهم، تعظيما وتكبيرا لله، وإجلالا وعبودية له سبحانه، فاللّهمّ تقبل من الحجاج حجهم، وأتم لهم مرادهم، ورد الباقين إلى أهليهم سالمين مغفورا لهم، ولنا معهم برحمتك وجودك وإحسانك يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين.
أيها الإخوة المؤمنون، إن المشهد العظيم لأفواج الحجيج ليدلّ على مقصد عظيم من مقاصد هذا الدين، إنه مقصد إفراد الله بالتوحيد وإخلاص العبودية لله، حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. هذا هو المعنى الأسمى من إحرام الحجاج وتلبيتهم، ومن طوافهم وسعيهم، ومبيتهم ووقوفهم، ورميهم وتكبيرهم، إنهم يجلون مقام التوحيد لله، ويحققون مقام العبودية للخالق وحده.
أيها الإخوة المؤمنون، ولئن كان الحجّ بما فيه يؤصّل مقام العبودية لله فإن العبودية لله منهج دائم ومسلك ثابت لكل نواحي الحياة، يقول الله عز في علاه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ، بل إنّ أصل الخلق قائم على إفراد العبودية لله، يقول الله عز في علاه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. وهو تعالى ذكره وتقدّست أسماؤه لما خلَقنا لذلك لم يتركنا هملاً بلا بيان ولا توضيح للعبادة التي خلقنا لها وأمرنا بها، بل بيّن لنا معنى العبودية لله سبحانه، ووضح سبيل ذلك، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، وإلى عبادته وحدَه داعين، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
العبودية لله الواحد القهار من أعظم قضايا الحياة، وركيزة هي أساس قيام الدنيا، قضيةٌ تحفظ لهذا الكون انتظامه، وتضبط فيه مسارَه، بالخلل فيها يختلّ نظام الحياة، وبالضلال فيها تتيه البشرية في دهاليز العمى وسراديب الانحطاط ومهاوي الفساد.
العبودية ـ عباد الله ـ قضية حتمية لا فكاك للإنسان منها بحال، في كل زمان وفي كل مكان، فالإنسان بين حالين لا ثالث لهما، إما أن يتوجه بعبادته وخضوعه وانكساره لله الواحد القهار، فيكون موحدًا مطيعًا مطمئنًا سعيدًا، وإما أن يكون خاضعًا أسيرًا ذليلاً لمعبودات جاهليةٍ باطلة من أصنام وأوثان وهوى وشهوة ومال والملذات وقوانين وأعراف، وأصبح حاله كمن قال الله فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
وإن الشرف كل الشرف والرفعة كل الرفعة في العبودية لله القوي الجبار، فهو الذي خلق ورزق، وأعطى وأغدق، وتفضل وأكرم، وأحيا وأمات، وأضحك وأبكى، وأغنى وأقني، وهو ربّ الأرباب وخالق مَن في السماء والأرض، سبحانه وبحمده، تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره، فأيّ ألهة هي أحق وأولى؟! ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ.
أيها المؤمنون، إن العبودية الحقة لله هي القوت الحقيقي للقلوب والغذاء الأنفع للأبدان، بها تسمو الأرواح وتطمئن القلوب، وتتهذب غرائز العبد وشهواته. العبودية الحقة هي المحرّك الفعال بإذن الله لهذه النفس لتنطلق في كل الدروب بثقة وراحة وحرية وعزّ ورفعة، فبمقدار الخضوع لله تكون الرفعة، وإذا ما أحسن المرء العبادة وأخلصها ترقَّى في درجات الكمال الإنسانيّ، وأصبح لحياته قيمة، وصار لعمله لذة، ولئن كان الغنى غنى النفس فإن الحرية حرية القلب كما أن الرق رق القلب.
والعبودية الحقة أعظم ما يحصله الإنسان في هذه الحياة؛ لتكون وسيلته إلى السعادة ورضا الله وبلوغ جنته ودار رضوانه، وفي الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدَّ فقرك)) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في السلسلة الصحيحة.
والقلب إذا ذاق طعم العبادة والإخلاص لم يكن عنده شيء قطّ أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع، ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا رسولاً)) أخرجه مسلم في الإيمان، في باب: الدليل على أن من رضي بالله ربًا من حديث العباس رضي الله عنه.
وكمال العبودية يكمن في ركنين عظيمين كما يقول ابن القيم رحمه الله، أولهما: محبة الله تعالى، وثانيهما: الذل له سبحانه، فكلما امتلأ قلب العبد لله تعالى حبًا وله سبحانه ذلاً وتعظيمًا ولأوامره وشرعه انقيادًا وعملاً كملت فيه العبودية لله تعالى.
هذه هي العبودية الحقة، تسليم وانقياد واستجابة لله في فعل المأمورات وترك المنهيات، حركات في الظاهر واعتقاد في الباطن وطمأنينة في النفس، تواطؤ وتوافق بين عبودية القلب وعبودية الجوارح، فيفعل المكلف خلاف هوى نفسه، طاعة ومحبة لله وتعظيمًا وخضوعا له، فيحب العبد ربه أحب من كل شيء، ويعظمه أعظم من كل شيء.
أيها الإخوة المؤمنون، أما أصول العبادة وأسسها فالاعتقاد الصحيح فيما أخبر الله سبحانه عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وكل ما غاب عنا، مما جاء على ألسنة الرسل وتنزلت به الكتب، وإفراد الله بالعبادة، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد، مع ما يستبطنه القلب ويستيقنه من التوكل على الله والإنابة إليه والخوف منه والرجاء فيما عنده وإخلاص الدين له. ثم أعمال الجوارح من أنواع العبادات؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانات والوفاء بالعهود وبذل وجوه الإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل وكل محتاج من بني آدم حتى البهائم، ففي كل كبد رطبة أجر. وأعمال اللسان من تلاوة القرآن العزيز والذكر وقول الحق وحسن الحديث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلم والتعليم واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والكف عن المحرمات والبعد عن الكبر والرياء والعجب والحسد والنفاق والغيبة والنميمة وكل ما نهى الله عنه.
أيها الإخوة المؤمنون، والعبودية لله فطرة الله التي فطر عليها جميع مخلوقاته، لا يستنكف عنها إلا ضال، ولا يلتفت عنها إلا هالك، فالكون كله بما فيه من إنس وجن وحيوان وجماد ساجد لله، خاضع لله، مفتقر مستكين لله، مستجيب لخالقه، فالكل وفق سنن الله يسير، وفي نظام الحياة منتظم، إلا البعض من بني الإنسان الذين أبوا السجود والخضوع استكبارا وعنادا، فهم بذلك هالكون خاسرون، يقول الله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ، ويقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48، 49].
يقول الإمام ابن كثير: "يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها؛ جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد لله تعالى، قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل".
_________
الخطبة الثانية
_________
العبودية أشرف المقامات وأعلى المبتغيات، عبادة الله شرُفت بها ملائكة الله، بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ. العبودية هي مقام التشريف في حق أنبياء الله ورسله، فالمرسلون هم أعلى المكلفين في مراتب العبودية، وَسَلَـ?مٌ عَلَى? عِبَادِهِ ?لَّذِينَ ?صْطَفَى ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ ، وَ?ذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْر?هِيمَ وَإِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى ?لأَيْدِى وَ?لأَبْصَـ?رِ. واستمع إلى هذا الوصف الجميل لأيوب الصبور: إِنَّا وَجَدْنَـ?هُ صَابِرًا نّعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. أما صاحب الملك العريض الذي لم ينبغِ لأحد من بعده فقد وصفه ربه بقوله: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَـ?نَ نِعْمَ ?لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. أما عيسى عليه السلام وقد رفعه من رفعه إلى مقام الألوهية فقد قال فيه ربه: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ. ثم أفضل الرسل وأشرف الأنبياء نبينا محمد فقد شرَّفه ربه بوصف العبودية وهو في أعلى مقامات التكريم، وقد أسرى به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء، فقال سبحانه: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأَقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا ، وقال سبحانه: فَأَوْحَى? إِلَى? عَبْدِهِ مَا أَوْحَى?. فما أجمل حالنا إذا كنا بهذا الركب مقتدين، وعلى نهجهم سائرين، خُشَّعا سجَّدا لله، نضع جباهنا ونمرغ أنوفنا له، نظهر فقرنا وحاجتنا وضعفنا للخالق وحده، بأدب وسكون وهدوء وذل.
ومما ينبغي أن يُعلم أن ربنا عز شأنه لا تنفعه طاعات الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا)) رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
ومع غناه سبحانه فإنه يحبّ المتقين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين.
نسأل الله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته.
(1/5062)
الصحابة بين أهل السنة والرافضة
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 2- وجوب محبة الصحابة. 3- حقوق الصحابة علينا. 4- عقيدة الروافض في الصحابة. 5- فضل أبي بكر وعمر وعائشة. 6- موقف الرافضة من أبي بكر وعمر وعائشة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واعلموا أن تقوى الله خير زاد يدخر، وأرجى ثواب عمل ينتظر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
معاشر المسلمين، إنهم خير جيل عرفتهم البشرية، إنهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا، إنهم السابقون الذين تمثلوا هذا الدين في أكمل صورَة، وطبقوا هدايته على نحو لا يتكرر أبدا، إنهم صحابة رسول الله ، مصابيح الدجى وشموس الهدى، سادة الأمة وعنوان مجدها، هم قدوة المؤمنين وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين، أغزر الناس علما، وأدقّهم فهما، وأصدقهم إيمانا، وأحسنهم عملا، بدمائهم وأموالهم وصل الإسلام إلى أطراف الأرض، وبجهادهم وتضحياتهم قام صرح الدين وانهدم شرك المشركين.
كانوا في الحياة أولياء، وبعد الممات أحياء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها. آمنوا بالنبي حين كذبه قومه، ودافعوا عنه حين آذاه الناس، وآووه حين طرد من وطنه. قوم اختصهم الله بصحبة خليله وحبيبه، واصطفاهم ربهم بتبليغ رسالة نبيه ، أخلصوا دينهم لله، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]. نقلوا القرآن والسنة، وهدوا العباد إلى السنة، فكانوا بذلك أهلا لرضوان الله ومحبته ورحمته وجنته، كانوا بذلك طليعة خير أمة أخرجت للناس، إنهم بحقٍّ جيل فريد في إيمانه وجهاده وعلمه وعمله وصدقه وإخلاصه، يعجز اللسان عن ذكر مآثرهم، ويكل القلم في تعداد فضائلهم.
إخوة الإيمان، إن معرفة قدر الصحابة وما لهم من شريف المنزلة وعظيم المرتبة من أولى المهمات المتعلقة بصلاح العقيدة واستقامة الدين، ولذا كان علماء الإسلام يؤكدون في كتب العقائد على مكانة الصحابة في الأمة، ويذكرون في ذلك فضلهم وفضائلهم وأثرهم وآثارهم، مع الدفاع عن أعراضهم وحماية حياضهم؛ إذ الدفاع عنهم دفاع عن رسول الله ، فهم بطانته وخاصته، ودفاعا أيضا عن الإسلام، فهم حملته ونقلته.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "ونحبّ أصحاب رسول الله ، ولا نفرّط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
صحابة رسول الله تسوّروا العز والشرف وتبوَّؤوا الفخر والسّنا يوم أن زكاهم ربهم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، تقلّدوا من ربهم ثناء عاطرًا ووسامًا خالدًا، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. شهد لهم ربهم وكفى بالله شهيدا أنهم مؤمنون حقا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74]. كما شهد لهم ربهم بصلاح سرائرهم واستقامة ضمائرهم، فرضي عنهم وأرضاهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. بل إن شرفهم وفضلهم قد سطر قبل مبعث محمد ، وصفهم ربهم بأكمل الصفات وأجمل السمات في التوراة والإنجيل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّار [الفتح: 29]. هم أنصار خير البشر وخاتم الرسل، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62]. وفازوا بتوبة الله عليهم، لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: 117].
إخوة الإيمان، لم تشهد البشرية أبدا أن تآلف قوم فيما بينهم من غير نسب ولا مصاهرة ولا مرابطة دم وعن طواعية واختيار إلا في صحابة رسول الله ، ولم يظهر الإيثار والكرم في أمة من الأمم كما ظهر في صحابة رسول الله ، ولذلك استحقّوا الثناء العاطر من ربهم بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
الصحابة كانوا في السلم معلمين مصلحين هداة عاملين، وصفهم رسول الله أنهم أمان لأمته، فقال : ((النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي, فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد)) أخرجه مسلم.
أما في الحروب والذود عن حياض الإسلام فقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في نصرة الدين والاستجابة لله وللرسول، يقول الله شاهدا على جهادهم وثباتهم: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 172، 173].
يخرج النبي ومعه أصحابه يريدون عيرا لقريش، فلم يفجأهم إلا قريش قد خرجت من مكة بكبرها وكبرائها وحدها وحديدها، والمسلمون على غير ميعاد واستعداد لهذا العدو، فقام رسول الله خطيبا في الناس فقال: ((أشيروا علي أيها الناس)) ، فقام الصديق فقال وأحسن القول، ثم قام الفاروق فقال وأحسن القول، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا أنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ـ وبرك الغماد موضع باليمن يبعد عن مكة بخمس ليال ـ والنبي ساكت يريد أن يسمع رأي الأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، فقال النبي : ((أجل)) ، فقال سعد بن معاذ: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعلّ الله إن يريَك منا ما تقرّ به عينك، فسِر على بركة الله، فسُرَّ رسول الله من كلام صحابته وثباتهم ونصرتهم.
عباد الله، وحينما نقلب دواوين السنة نجد محبّة النبي لصحابته ظاهرة جليّة، ولذا نهى عن سبهم وإيذائهم، وأخبر أن قدرهم لا يبلغه عمل عامل، روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين أن النبي قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)). ولما رأى المصطفى تعب الصحابة وجهدهم في حفر الخندق واساهم بكلمات ملؤها المحبة والرحمة، فقال: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأصلح الأنصار والمهاجرة)) ، وقال عن أهل بدر: ((لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم)) ، وقال عن أهل بيعة الرضوان: ((لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)).
وما مات رسول الله إلا وهو عنهم راض، فرضي الله عنهم أجمعين. لقد كانوا بحقّ جيلا صالحا لا يتكرر، ورجالا اجتمع فيهم من الفضل والخير ما لم يجتمع في غيرهم ولا بعدهم.
إخوة الإيمان، ولا تزال أمة محمد بخير ما عرفت للصحابة حقهم وحقوقهم، حقّ على أمة محمد إن رامت الصلاح والفلاح أن تلزم منهج صحابتها الكرام في الاعتقاد والسلوك والعمل، حقّ على الأمة أن تنشر فضائلهم وتسطر مناقبهم، وأن تربي الأجيال على سيرتهم، وأن تملأ القلوب محبة لهم. ومن حقهم أيضا الدفاع عن أعراضهم وصيانة أقدارهم والتحذير من شر الطاعنين فيهم اللامزين في عدالتهم.
ومن أصول عقائد السنة التأدب مع صحابة رسول الله، والاستغفار لهم، والترضي عنهم، وإمساك اللسان عما شجر بينهم من خصومة واقتتال، وأن فعلهم ذلك دائر بين الأجر والأجرين، فهم إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر أيضا.
وهؤلاء المخطئون لهم من السوابق الحسان والمحاسن العظام ما يوجب رفعة درجاتهم وتكثير حسناتهم، والله عز وجل يغفر لهم إما بتوبة ماضية أو بمصائب مكفرة، ولا نقول إلا كما علمنا وأدبنا ربنا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد إن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، وبعد الكلام عن الصحابة وفضلهم لا بد من الحديث عمّن ناصب صحابة رسول الله العداء واتهمهم في دينهم وطعن في مقاصدهم؛ لنعرف من خلال ذلك حقيقة هؤلاء الطاعنين ومكانتهم من الإسلام. لقد طمس الله على قلوب الرافضة، فلا هم يعرفوا للصحابة فضلا ولا هم يذكروا لهم شرفا، وإنما شرعوا عليهم سهام الحقد والعداء والفتك والافتراء، زعمت الرافضة أن الصحابة بعد رسول الله قد ارتدوا إلا نفرا يسيرا منهم، وأنهم ما أظهروا الإسلام إلا نفاقا؛ لأطماع دنيوية ومصالح ذاتية، وكتبهم مليئة بمئات الروايات الصريحة في تكفير الصحابة وشتمهم ولعنهم، بل جعلوا من الطعن فيهم ديانة زلفى يتقربون بها إلى ربهم تعالى، وصدق الله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103، 104]. وحتى لا يكون الحديث جزافا ورجما بالتهم نستنطق كتب الرافضة عن حقيقة موقفهم من صحابة رسول الله ، وبالأخص الصديق والفاروق وأم المؤمنين عائشة رضي الله عن الجميع.
إخوة الإيمان، الصديق أول الصحابة إسلامًا، وأقرب الناس مودة من قلب رسول الله ، لم يتردّد في قبول دعوة الإسلام، وواسى رسول الله بنفسه وماله، أسلم على يديه صفوة الأصحاب، وأعتق بماله الكثير من الرقاب، بشره الرسول بالجنة، واختاره رفيقَ دربه في الهجرة، لم تحمل الغبراء ولم تظلّ السماء بعد الأنبياء رجلا أفضل منه.
ولكني أحب بكل قلبي وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حبا به أرجو غدا حسن الثواب
فماذا عن كتب الرافضة وآياتها عن هذا الرجل العظيم الكريم؟! لقد سلقوه بألسنة حداد، لم يرقبوا فيه صدق الصحبة ولا مكانة القربة، اتهموه في إسلامه وأخلاقه وعرضه وأمانته.
وصفه نعمة الله الجزائري أحد كبار مراجعهم في كتابه "الأنوار النعمانية" بأنه رجل سوء. وصنف محمد بن الحسن العاملي الملقب عند الشيعة بالمحقق الثاني، صنف كتابا أسماه: "نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت"، وأراد بالجبت أبا بكر والطاغوت عمر، زعم في كتابه هذا أن أبا بكر كان عابدا للأوثان، وكان يصلي خلف النبي والصنم معلّق في عنقه يسجد له. وزعم البحراني في كتابه "البرهان" أن أبا بكر كان يفطر متعمدا في نهار رمضان، وأنه كان يشرب الخمر ويهجو رسول الله. وذكر الطوسي أحد كبار علمائهم أن أبا بكر مشكوك في إيمانه، وأنه لم يكن عارفا بالله تعالى قط. أما عظيم الرافضة محمد بن باقر المجلسي مفتي الدولة الصفوية فقد قال بعدم هدايته في كتابه "مرآة العقول"، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
وأما الفاروق فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل، كان إسلامه عزا وولايته فتحا، جعل الله الحق على لسانه وقلبه، تهاوت في عهده ممالك الروم، وأطفأت جيوشه نار المجوس، كان عدله وزهده وخوفه من ربه مضرب المثل في تاريخ الأمة الإسلامية، فماذا كتبت الرافضة عن الفاروق؟!
لقد أبغضوه بغضا لا يوصف، رموه بكل شين ونقيصة، قال عنه المجلسي: "لا مجال لعاقل أن يشك في كفر عمر"، ثم لعن الفاروق ولعن كل من اعتبره مسلما، بل لعن كل من يكفّ عن لعنه. يقول المجلسي أيضا: "وعقيدتنا ـ أي: عقيدة الرافضة ـ أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومن النساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم، وإنهم شرّ خلق الله على وجه الأرض". أما إمامهم في هذا العصر الهالك الخميني فقال عن عمر: "إن عمر آذى رسول الله في آخر حياته، فأثر ذلك على رسول الله، وكانت صدمة له عجلت برحيله عن هذا العالم، وإن هذا الإيذاء من جانب عمر إنما كان تعبيرا للكفر والزندقة التي يبطنها عمر بداخله".
بل إن الرافضة اعتبروا استشهاد عمر يوم عيد لهم وفرح عندهم، ويعتبرون قاتله أبا لؤلؤة المجوسي مسلما شجاعا، ويلقبونه بابا شُجاع الدين، وبنوا له في مدينة كاشَان الإيرانية ضريحًا عظيمًا زعموا أنه قبر أبي لؤلؤة المجوسي. وفي التاسع والعاشر والحادي عشر من ربيع الأول من كل سنة يحيون ذكرى أبي لؤلؤة المجوسي ويشدون الرحال إلى قبره. وألف أحد علمائهم كتابا سماه: "عقد الدرر في بقر بطن عمر"، ذكر فيه أشعارًا كثيرة قيلت فرحًا بمقتل عمر، بل إن الرافضة قالوا عن الفاروق كلام سوء يُستحيَى ـ والله ـ من قوله وتدنيس الأسماع بذكره.
أيها المسلمون، عائشة رضي الله عنها هي أم المؤمنين بنصّ القرآن، حازت على قصب السبق إلى قلب رسول الله من بين سائر أزواجه، برأها الله من فوق سبع سماوات، ولم يتزوّج النبي بكرا غيرها، وقبض رسول الله ورأسه بين سحرها ونحرها، وقبر في بيتها؛ لأنها كانت من أحب الناس إليه، فهل يحب الشيعة عائشة وينزلونها المنزلة التي أنزلها الله وأنزلها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟!
لقد آذى الرافضة رسول الله في أهله كما آذاه المنافقون حيا في عرضه، يزعم أحد كبار علمائهم أن عائشة هي المعنية بقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل: 92]. وذكر القمي أشهر مفسريهم عند قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم: 10]، فقال: "والله، ما عنى بقوله: فَخَانَتَاهُمَا إلا عائشة". ووصف الرافضة أم المؤمنين بأم الشرور والشيطان، وأنها تسافر مع الرجال، وأنها كانت تكذب على رسول الله ، بل اتهموها ـ والعياذ بالله ـ بالزنا، ونسبوا إليها أقوالا في غاية الخسة والدناءة.
إن الروافض شر من وطئ الحصى من كل إنس ناطق أو جان
مدحوا النبيَّ وخوّنوا أصحابه ورموهم بالظلم والعدوان
حبوا قرابته وسبّوا صحبه جدلان عند الله منتقضان
عباد الله، هذه بعض مواقف الرافضة مع هؤلاء الثلاثة، وشيء من أقوالهم، وكتبهم مسودّة بمثل هذه الشنائع وأعظم؛ ولذا فإن التحذير من الرافضة وأقوالهم من أولى الواجبات؛ لأنهم دعاة هدم الإسلام وتشويهٍ لصورة رعيله الأول. قال الإمام احمد رحمه الله: "إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام".
أيها المسلمون، ويزعم الرافضة اليوم أو بعضهم أنهم لا يسبون الصحابة، ونحن ـ والله ـ نتمنى أن يكونوا صادقين في دعواهم، لكن لسان الحال والواقع يكذب دعواهم، فلا زال الرافضة يحيون المذهب الإمامي وينشرون تراثه، ويطبعون كتبهم القديمة المليئة بالكفر والزندقة، لا زال معاصروهم ينقلون من هذا التراث الأسود، لا زال بعض آياتهم كالخميني والخوئي وغيرهم يعلنون السباب واللعن للصحابة. "دُعاء صَنمي قريش" طبع في إيران والهند قبل سنوات. لا زال علماؤهم المعاصرون يدبجون أنواع المدح والثناء للكليني والقمي والمجلسي والعاملي وغيرهم الذين أعلنوا كفرهم صراحة بتكفير الصحابة ولعنهم.
إن كان الرافضة صادقين في دعواهم فليتبرؤوا من علمائهم الذين لعنوا الصحابة وكفروهم، وليقولوها صراحة: إن غالب روايات كتبهم في المذهب فيها كذب واختلاق. أما أن يعيدوا طباعة كتب علمائهم القديمة وينشروها ويمجدوا مؤلفيها فهذا لا نجد له إلا تفسيرا واحدا، هذا التفسير هو من صُلب عقيدتهم وأساس دينهم، إنها التقيَّة التي اعتبروها تسعة أعشار الدين، ولا دين لمن لا تقية له.
ولذا لا يمكن أن نتقارب معهم أو نتعايش معهم سلميّا حتى يكفوا عنا قَيأَهم وسبَّهم لصحابة رسول الله ، ويتبرّؤوا صراحة من أئمتهم وآياتهم.
لا تركنن إلى الروافض إنّهم شتموا الصحابة دونَما برهان
لعنوا كما بَغَضُوا صحابة أحمد وودادُهم فرضٌ على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة ألقى بها ربي إذا أحياني
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
(1/5063)
مظاهر وعلامات ضعف الإيمان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, التربية والتزكية, فضائل الإيمان
محمد بوهو
آزرو إقليم إفران
6/10/1425
مسجد الراحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية بالتقوى. 2- انتشار ظاهرة ضعف الإيمان عند كثير من الناس. 3- مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسباب ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله جل وعلا، اتقوا الله حق التقوى، فقد أمرنا ربنا بذلك في كتابه الكريم حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، فتقوى الله نورٌ في القلب وذخرٌ في المنقلَب، وهي خير شيء نلقى به الله تعالى يوم لا ينفع مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم، واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، فكل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
عباد الله، ظاهرة من الظواهر الخطيرة انتشرت وعمّت بين صفوف المسلمين، ظاهرة جعلت من المجتمع المسلم يتحوّل إلى مجتمع بعيد عن تعاليم دينه وروح مقاصده، إنها ظاهرة ضعف الإيمان مما عمّ وانتشر في المسلمين، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتتردّد عباراتهم: "أحس بقسوة في قلبي"، "لا أجد لذة للعبادات"، "أشعر أن إيماني في الحضيض"، "لا أتأثر بقراءة القرآن"، "أقع في المعصية بسهولة". وكثيرون آثار المرض عليهم بادية، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية.
وموضوع الإيمان والضعف الذي يمكن أن يعتريه موضوع مرتبط ب القلوب، وهو موضوع حسّاس ومهم، وقد سمي القلب قلبًا لسرعة تقلبه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهرًا لبطن)) رواه أحمد. وه وشديد التقلب كما وصفه النبي بقوله: ((لقلبُ ابن آدم أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا)). والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله يقو ل : ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)) ، ثم قال رسول الله : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم.
وحيث أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وأنه لن ينجو يوم القيامة إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وأن الويل لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وأن الوعد بالجنة لمَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ كان لا بد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عل ي ه الران فيهلك.
أيها المسلمون، ما مظاهر مرض ضعف الإيمان ؟ وما أسبابه ؟ وكيف السبيل للعلاج؟
في هذه الخطبة نتناول فقط مظاهر ضعف الإيمان ، فعنوان خطبة هذا اليوم الأغر السعيد هو: ظاهرة ضعف الإيمان المظاهر والعلامات.
عباد الله، إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر وعلامات متعددة فمنها:
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات، ف من العصاة من يرتكب معصية يُصرّ عليها، ومنهم من يرتكب أنواعًا من المعاصي، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها إلى عادة مألوفة، ثم يزول قبحها من القلب تدريجيًا، حتى يقع العاصي في المجاهرة بها، ويدخل في قول رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) رواه البخاري.
2- ومنها الشعور بقسوة القلب وخشونته، حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجرًا صلدًا لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء، والله جل وعلا يقول: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [ البقرة: 74 ]. وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار.
3- ومنها عدم إتقان العبادات، ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة، هذا إذا حافظ عليها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السُّنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء، والله سبحانه وتعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ، كما قال في الحديث الذي رواه الترمذي (3479) وهو في السلسة الصحيحة (594).
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان التكاسل عن الطاعات والعبادات وإضاعت ُ ها، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [ النساء: 142 ]. ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة، وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يتأخر عن صلاة الجماعة ولا يبالي، وقد يتأخر عن صلاة الجمعة، قال رسول الله : ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله)). ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته، وكذا يتعمّد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية، فربما لا يشهد صلاة العيد، ولا يهتمّ بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها، فهو راغب عن الأجر مستغن عنه، على النقيض ممن وصفهم الله بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الأنبياء: 90 ]. ومصيبة التكاسل لها صور ومظاهر هي الأخرى في الطاعات، ك التكاسل عن فعل السنن الرواتب وقيام الليل والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل ، فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال، فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة.
5- ومن مظاهر ضعف الإيمان ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع، حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيرًا ينوء به، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله، وتذهب سماحة نفسه، وقد وصف النبي الإيمان بقوله: ((الإيمان الصبر والسماحة)) ، ووصف المؤمن بقوله: ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)).
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان عدم التأثر بآيات القرآن، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته، فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه.
7- ومنها الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى، فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يديه للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي، وقد وصف الله المنافقين بقوله: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [ النساء: 142 ].
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل؛ لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ، فتعطلت الجوارح عن الإنكار، فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يتمعّر وجهه قط في الله عز وجل، والرسول يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح: ((تعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها ـ أي: دخلت فيه دخولاً تامًا ـ نكت فيه نكتة سوداء)) أي: نقط فيه نقطة ، حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: ((أسود مربادا ـ أي: بياض يسير يخالطه السواد ـ كالكوز مجخيًا ـ مائلاً منكوسًا ـ ، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)) رواه مسلم. فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر، واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي؟! بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به، فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقرّه، كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال: مرة: أنكرها ـ كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) رواه أبو داود (4345) وهو في صحيح الجامع (689). فهذا الرضا منه ـ وهو عمل قلبي ـ أورثه منزلة الشاهد في الإثم.
9- ومنها حب الظهور، وهذا له صور منها ، ك الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر ، ومحبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام، وفرض الاستماع على الآخرين، وأن يكون له محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حبّ التعاظم في نفسه المريضة، وقد قال رسول الله : ((من سره أن يمثل له عباد الله قيامًا فليتبوأ بيتًا من النار)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
10- ومنها الشح والبخل، ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]، وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شحّ أنفسهم، ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح، بل قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا)) رواه النسائي. أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي بقوله: ((إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) رواه أبو داود.
11- ومنها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3 ]. ولا شك أن هذا نوع النفاق، ومن خالف قوله عمله صار مذمومًا عند الله مكروهًا عند الخلق، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه وينهاهم عن المنكر ويأتيه.
12- ومنها السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه.
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط، وغض البصر عن فعل المكروه، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر، وإنما يسأل: هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط؟ وهذه النفسية تؤدّي إلى الوقوع في شرَك الشبهات والمكروهات، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يومًا ما، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرمًا، وهذا عين ما أخبر عنه النبي بقوله: ((من وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)) ، ب ل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم يسأل: هل حرمته شديدة أو لا؟ وكم الإثم المترتب عليه؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات، بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام، واستهانة بمحقرات الذنوب؛ مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية، ولذلك يقول الرسول في الحديث الصحيح: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورًا)) ، قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا جلِّهم لنا؛ أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال عليه الصلاة والسلام : ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) رواه ابن ماجه. فتجده يقع في المحرم دون تحفّظ ولا تردد، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج، وكلا الشخصين على خطر، ولكن الأول أسوأ من الثاني، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئًا منكرًا، ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا) أي: دفعه بيده. رواه البخاري.
14- ومنها احتقار المعروف وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة، وقد علمنا أن لا نكون كذلك، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله قال: جاء رجل إلى رسول الله فق ال: يا رسول الله، إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئًا ينفعنا الله تبارك وتعالى به، فقال: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)). فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيرًا لا ينبغي احتقاره، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد وحتى ولو كان قشة ، فلعل هذا العمل يكون سببًا في مغفرة الذنوب، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له، ألم تر أنه قال: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله، لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فادخل الجنة)) رواه مسلم ؟!
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه ا سوء وخلل، ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دلّ عليها قوله : ((من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة، ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة)) رواه البخاري في الأدب المفرد. وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجرًا من الطريق فقال ـ أي: الرجل ـ ما هذا؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: ((من رفع حجرًا من الطريق كتب له حسنة، ومن كانت له حسنة دخل الجنة)) رواه الطبران ي في المعجم الكبير.
فاللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ارزقنا إيمانا صادقا وعملا متقبلا وكن لنا بتوفيقك وكرمك وليا ونصيرا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأجارني الله وإياكم من عذابه المهين، وغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه كان للأوابين غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وفَّق من شاء من عباده للإنابة، وهداهم لسبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن سلوك أهل الزيغ والضلالة، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، نصح الأمة وأدَّى الأمانة وقام بالرسالة خيرَ قيام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله وكونوا مع لصادقين.
من مظاهر ضعف الإيمان كذلك:
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة، ف صاحب الإيمان الضعيف تجده بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم؛ من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث، فيكتفي بسلامة نفسه، وهذا نتيجة ضعف الإيمان، فإن المؤمن بخلاف ذلك، قال النبي : ((إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) رواه أحم د.
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان انفصام عرى الأخوة بين المتآخين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما توادَّ اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب يحدثه أحدهما)) ، وفي رواية: ((ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)) أخرجه البخاري في الأدب المفرد. فهذا دليل على أنّ شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحيانًا هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي؛ لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده، فيعيش بينهم أسوأ عيش، ساقطَ القدر، زريَّ الحال، لا حرمة له، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 39].
17- ومنها عدم استشعار المسؤولية في العمل لهذا لدين، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته ، على النقيض من أصحاب النبي الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسؤولية على الفور، فهذا أبو بكر عندما دخل في الإسلام أسلم على يديه عدد من خيرة الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الطفيل بن عمرو كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه، فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى. والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل والنصح لله ولرسوله ولكتاب الله تعالى.
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة، فتراه مرتعد الفرائص مختلّ التوازن شارد الذهن شاخص البصر، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية، فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم، فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت وقلب قويّ ، وهذا كله بسبب ضعف إيمانه، ولو كان إيمانه قويًا لكان ثابتًا، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات.
19- ومنها كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل)) رواه أحمد في المسند. فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل، يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويكفي دافعًا لترك هذه الخصلة الذميمة قوله : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)) رواه أبو داود.
20- ومنه التعلق بالدنيا والشغف بها والاسترواح إليها، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها، كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبونًا سيئ الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده ويتمنى زوال النعمة عنه، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي : ((لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد)) رواه أبو داو د.
21- ومنها أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية، حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثرًا لنصّ من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله.
22- ومنها المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشربًا وملبسًا ومسكنًا ومركبًا، فتجده يهتم بالكماليات اهتمامًا بالغًا، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه، وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة، مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال، ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعّم والترفه المنهي عنه، كما في حديث معاذ بن جبل لما بعث به النبي إلى اليمن وأوصاه فقال: ((إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين)) رواه أبو نعيم في الحلية.
تلكم ـ يا عباد الله ـ بعض مظاهر وعلامات ضعف الإيمان، نسأل الله العظيم الجليل أن ينفعنا بما سمعنا، فاللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلوبنا على دينك، اللهم زينها بالإيمان والصادق، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، نبي الهدى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي ? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعن الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/5064)
أسباب آفة ضعف الإيمان ووسائل علاجها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, التربية والتزكية, خصال الإيمان
محمد بوهو
آزرو إقليم إفران
13/10/1425
مسجد الراحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامات ومظاهر ضعف الإيمان. 2- أسباب آفة ضعف الإيمان. 3- الاستشفاء من هذه الآفة ممكن وبحاجة لمجاهدة. 4- ذكر بعض الوسائل لعلاج آفة ضعف الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله جل وعلا، اتقوا الله حق التقوى، فقد أمرنا ربنا بذلك في كتابه الكريم حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. فتقوى الله نورٌ في القلب وذخرٌ في المنقلَب، وهي خير شيء نلقى به الله تعالى يوم لا ينفع مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم. واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واتقوا يوما ترجون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون، فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أيها المسلمون، عنوان خطبة هذا اليوم الأغر السعيد: أسباب آفة ضعف الإيمان ووسائل علاجها.
تناولنا في الخطبة السابقة علامات ومظاهر آفة ضعف الإيمان، واليوم نتمم هذا الموضوع الخطير، سائلين المولى عز وجل أن يجعلنا من الذي يستمِعون القول فيتبعون أحسنه.
وخلاصة ما قلناه هو أن لضعف الإيمان علامات ومظاهر هي: الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات، ومنها الشعور بقسوة القلب وخشونته، ومنها عدم إتقان العبادات، ومنها التكاسل عن الطاعات والعبادات وإضاعتُها، ومنها ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع، ومنها عدم التأثر بآيات القرآن، ومنها الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى، ومنها عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل، ومنها حب الظهور، ومنها الشح والبخل، ومنها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، ومنها السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة، ومنها النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه، ومنها احتقار المعروف وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة، ومنها عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها، ومنها انفصام عرى الأخوة بين المتآخين، ومنها الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة، ومنها كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، ومنها التعلق بالدنيا والشغف بها والاسترواح إليها... إلى غير ذلك من المظاهر التي تعبر إذا ظهرت في صاحبها عن ضعف في الإيمان وخلل في رسوخه.
فما هي يا ترى أسباب ضعف الإيمان؟ وما السبيل لعلاج هذه الآفة الخطيرة في نفوسنا؟
عباد الله، إن لضعف الإيمان أسبابًا كثيرة، منها ما هو مشترك مع الأعراض، مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا وغيرها، وهذا ذكرٌ لبعض الأسباب مضافًا إلى ما سبق:
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة، وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس، يقول الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]. فدلت الآية الكريمة على أن طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إخواننا أغلى عندنا من أهلينا؛ فأهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة".
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة، ولا يخفى أثر وجود قدوة صالحة بالنسبة للفرد.
3- ومن الأسباب وجود الإنسان المسلم في وسط يعجّ بالمعاصي، فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها، وثالث يدخن، ورابع يبسط مجلة ماجنة، وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المغنين والمغنيات فمما لا يحصى كثرة، فبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم، فأحاديث التجارة والوظيفة والأموال والاستثمارات ومشكلات العمل والعلاوات والترقيات والانتدابات وغيرها تحتل الصدارة في اهتمامات كثير من الناس وأحاديثهم، وأما البيوت فحدث ولا حرج، حيث الطامات والأمور المنكرات، مما يندى له جبين المسلم وينصدع قلبه، فالأغاني الماجنة والأفلام الساقطة والاختلاط المحرم وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض وتصبح قاسية ولا شك.
4- ومن الأسباب الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبدًا لها، والرسول يقول: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم)) رواه البخاري. وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عمَّ فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا، وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات، وهذا مصداق ما أخبر به : ((إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون إليه ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب)) رواه أحمد.
5- ومن الأسباب أيضًا الانشغال بالمال والزوجة والأولاد، يقول الله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28]. ويقول عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14]. ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء ـ وفي مقدمتها النساء والبنون ـ إذا كان مقدمًا على طاعة الله ورسوله فإنه مُستقبح مذموم صاحبه، أما إن كان حب ذلك على وجهه الشرعيّ المعين على طاعة الله فهو محمود صاحبه، وقد قال النبي : ((حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجعل قُرة عيني في الصلاة)) رواه أحمد.
وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات، وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله، وقد قال النبي : ((الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة)) رواه الطبراني. فقوله: ((مبخلة)) إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكره الشيطان بأولاده؛ فيقول: أولادي أحق بالمال أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي، فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله. أما قوله: ((مجبنة)) أي: إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول: تقتل وتموت فيصبح الأولاد ضياعًا يتامى، فيقعد عن الخروج للجهاد. وقوله: ((مجهلة)) أي: يشغل الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه وقراءة كتبه. وقوله: ((محزنة)) أي: إذا مرض حزن عليه، وإذا طلب الولد شيئًا لا يقدر عليه الأب حزن الأب، وإذا كبر وعق أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم.
وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب، ولا ترك تربية الأولاد، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات.
وأما فتنة المال فيقول عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي. والحرص على المال أشد إفسادًا للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم، وهذا معنى قول النبي : ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الترمذي؛ ولذلك حث النبي على أخذ الكفاية دون توسّع يشغل عن ذكر الله، فقال رسول الله : ((إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله)) رواه أحمد.
6- طول الأمل، قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3]. وقال علي رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)، وجاء في الأثر: (أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا). ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف، والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب؛ لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكّر الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة، كما قال تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد: 16]. وقيل: "من قصُر أمله قلّ همه وتنور قلبه"؛ لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة.
7- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة وكثرة الضحك، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن، وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان، وكما قيل: "من أكل كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، وخسر أجرًا كبيرًا". أما الإفراط في الكلام فيُقسِّي القلب، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه ابن ماجه. وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلبًا صلدًا، لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان.
عباد الله، إن أسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرُها، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها، والعاقل يدرك ذلك من نفسه.
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه عن النبي أنه قال: ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)) ، يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديمًا، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم، وهذه الصورة صورها لنا رسول الله بقوله في الحديث الصحيح: ((ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء)) رواه أبو نعيم في الحلية. فالقمر تأتي عليه أحيانًا سحابة تغطي ضوأه، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحيانًا سحب مظلمة من المعصية، فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يضيء كما كان.
ومن المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها معرفة أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، فإنهم يقولون: إن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان ـ أي: القلب ـ وعمل بالأركان ـ أي: الجوارح ـ، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. وأثر الطاعة والمعصية في الإيمان زيادة ونقصانًا أمر معلوم مشاهد ومجرّب؛ فلو أنّ شخصًا خرج يمشي في السوق ينظر إلى المتبرجات ويسمع صخب أهل السوق ولغوهم ثم خرج فذهب إلى المقبرة فدخلها فتفكر ورق قلبه، فإنه يجد فرقًا بينًا بين الحالتين، فإذًا القلب يتغير بسرعة. يقول بعض السلف: "من فِقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه، ومن فِقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أو ينقص، وإن مِن فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه".
ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدّى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم، يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه، أما إذا لم يؤدّ الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعًا في عمل مستحبات مثلاً فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدّد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة، وهذا مما يستفاد من قوله : ((لكل عمل شرة ـ يعني نشاط وقوة ـ، ولكل شرة فترة ـ يعني ضعف وفتور ـ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك)) رواه أحمد.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويقينا شر أنفسنا، اللهم ارزقنا إيمانا صادقا، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا من عبادك الصالحين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأجارني الله وإياكم من عذابه المهين، وغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله تتمّ الصالحات بنعمته، وتكفّر السيئات وتُقال العثرات بمنَّته، وتضاعَف الحسنات وترفع الدرجات برحمته، سبحانه، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ [الشورى: 25]، أحمده تعالى وأشكره على جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، ومن اقتفى أثرَهم ما تجدَّدت المواسم ودامت الأرض والسماوات.
عباد الله، قبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن ذكر ملاحظة أساسية، وهي أن كثيرًا من الذين يحسون بقسوة قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد فيها على الآخرين، مع أن بمقدورهم ـ لو أرادوا ـ علاج أنفسهم بأنفسهم، وهذا هو الأصل لأن الإيمان علاقة بين العبد وربه.
وفيما يلي أذكر عددًا من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه، ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على المجاهدة:
1- الاتصال بالقرآن العظيم وتدبر آياته، القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل تبيانًا لكل شيء، ونورًا يهدي به سبحانه من شاء من عباده، ولا شك أن فيه علاجًا عظيمًا ودواء فعالاً، قال الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]. أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر.
2- استشعار عظمة الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها وعقل معانيها، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح، لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب، فهو ملكها وسيدها، وهي بمثابة جنوده وأتباعه، فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت.
3- لزوم حلق الذكر، وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب؛ منها ما يحصل فيها من ذكر الله وغشيان الرحمة ونزول السكينة وحف الملائكة للذاكرين وذكر الله لهم في الملأ الأعلى ومباهاته بهم الملائكة ومغفرته لذنوبهم كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ومنه قوله : ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)) صحيح مسلم.
ومما يدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حنظلة الأسَدي قال: لقيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله يذكّرنا بالنار والجنّة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ـ يعني المعاش من مال أو حرفة أو صنعة ـ فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فو الله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله : ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن ـ يا حنظلة ـ ساعة وساعة)) ثلاث مرات. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمونه إيمانًا، قال معاذ رضي الله عنه لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة).
4- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج، وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلاً عظيمًا لما سأل الرسول أصحابه: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم.
فهذه القصة تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصًا على اغتنام الفرص وتنويع العبادات، ولما وقع السؤال من النبي مفاجئًا دل ذلك على أن أيام أبي بكر رضي الله عنه كانت حافلة بالطاعات. وقد بلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها مبلغًا عظيمًا، ومثال ذلك عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف منهم حماد بن سلمة، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا".
5- تنويع العبادات، من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معًا كالحج، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء. وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع وكذلك السنن، مثل الصلاة فيها رواتب ثنتي عشرة ركعة في اليوم، ومنها ما هو أقل منزلة كالأربع قبل العصر وصلاة الضحى، ومنها ما هو أعلى كصلاة الليل، وهو كيفيات متعددة، منها مثنى مثنى، أو أربع ثم أربع ثم يوتر، ومنها خمس أو سبع أو تسع بتشهد واحد، وهكذا من يتتبع العبادات يجد تنويعًا عظيمًا في الأعداد والأوقات والهيئات والصفات والأحكام، ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها، وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)) رواه البخاري.
6- ومن علاجات ضعف الإيمان الإكثار من ذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة وقصر الأمل مع التفكر في حقارة الدنيا، فذكر الموت يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب، يقول الرسول : ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات)) يعني الموت. رواه الترمذي. وتذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي، ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه، ومن أعظم ما يذكر بالموت زيارة القبور، ولذلك أمر النبي بزيارتها فقال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا)).
أما قصر الأمل مع التفكر في حقارة الدنيا فهذا مهم جدًا في تجديد الإيمان، يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن أعظم ما فيها هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205-207]، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ [يونس: 45]، فهذه كل الدنيا، فلا يطول الإنسان الأمل يقول: سأعيش وسأعيش، قال بعض السلف لرجل: صلِّ بنا الظهر، فقال الرجل: إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر، فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر، نعوذ بالله من طول الأمل". ويصاحب هذا التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد، قال الله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]، وقال النبي : ((إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً، فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه، قد علم إلى ما يصير)).
7- ومن الأمور التي تجدد الإيمان بالقلب تذكر منازل الآخرة، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة، فهي نور في القلب، يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش وقلّ الوارد، ونصب الجسر للعبور ولز الناس إليه، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها".
8- ومن الأمور التي تجدد الإيمان التفاعل مع الآيات الكونية، روى البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه، فقالت عائشة: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف: 24] )) رواه مسلم. وكان يقوم فزعًا إذا رأى الكسوف كما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: خسفت الشمس فقام النبي فزعًا يخشى أن تكون الساعة. فتح الباري. ولا شك أن تفاعلَ القلب مع هذه الظواهر والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويذكر بعذاب الله وبطشه وعظمته وقوته ونقمته.
9- ومن الأمور بالغة الأهميّة في علاج ضعف الإيمان ذكر الله تعالى، وهو جلاء القلوب وشفاؤها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة، وقد أمر الله به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41]، ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10].
وذكر الله أكبر من كل شيء، قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45]. وهو وصية النبي لمن كثرت عليه شرائع الإسلام فقال له: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)). وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان. قال بعض السلف كما في مدارج السالكين: "إذا تمكن الذكر من القلب فإذا دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان، فيجتمع عليه الشياطين ـ أي: يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يتقرب من قلب المؤمن ـ فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي". وأكثر الناس الذين تمسهم الشياطين هم من أهل الغفلة الذين لم يتحصنوا بالأوراد والأذكار، ولذلك سهل تلبس الشياطين بهم.
10- ومن الأمور التي تجدد الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعًا كان إلى الله أقرب، ولهذا قال رسول الله : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) رواه مسلم؛ لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع، فلما ألزق العبد جبهته في الأرض ـ وهي أعلى شيء فيه ـ صار أقرب ما يكون من ربه. يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله: "فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المساكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه وذلّ لك قلبه"، فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجيًا ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافًا مضاعفة. وكذلك إظهار الافتقار إلى الله مما يقوي الإيمان، والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بفقرنا إليه وحاجتنا له فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].
11ـ من الأمور المجددة للإيمان في القلب تعظيم حرمات الله، يقول الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]. وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى، وقد تكون في الأشخاص وقد تكون في الأمكنة وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق الرسول مثلاً، ومن تعظيم شعائر الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً، ومن تعظيم شعائر الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان مثلاً، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30]. ومن التعظيم لحرمات الله عدم احتقار الصغائر، وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)). وإن رسول الله ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، فأججوا نارًا وأنضجوا ما قذفوا فيها. رواه أحمد.
12- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)، ويقول الحسن: "لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه"، وقال ميمون بن مهران: "إن التقيَّ أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح". وقال ابن القيم رحمه الله: "وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها". فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه، فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد.
13- وختامًا فإن دعاء الله عز وجل من أقوى الأسباب التي ينبغي على العبد أن يبذلها، كما قال النبي : ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، نبي الهدى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي ? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار...
(1/5065)
القدس أمانة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
21/1/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيت المقدس في القرآن الكريم. 2- فضائل المسجد الأقصى وبيت المقدس. 3- الارتباط الوثيق بين المسجد الأقصى والحرمين الشريفين. 4- قضية القدس هي قضية كل مسلم. 5- القدس أمانة في أعناق المسلمين. 6- الحث على الوحدة والائتلاف والتحذير من الفرقة والاختلاف. 7- الابتهاج بنجاح اتفاق مكة بين القادة الفلسطينيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصِيكم ونَفسي بتَقوَى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
وصَف القرآنُ الكَريم في كثيرٍ مِن آياتِه بيتَ المقدِس ومَسجدَه بالبَرَكةِ، وهي النّمَاءُ والزيادةُ في الخَيرات، قالَ سُبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1]، وقالَ تَعَالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 71]، وهذا حكاية عن الخليل إبراهيمَ عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلادِ الشام، قال تَعالى: وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137]. وفي قصّة سليمانَ عليه السّلام يقول سبحانَه: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81]، وقالَ تعالى عَلى لسانِ موسَى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21]. وعندَ حديثِ القرآنِ عن رغَد عيشِ أهلِ سبَأ يقول سبحانَه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18]، وهي قُرى بيتِ المقدس كما روى العوفيّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما.
وصَف القرآن أرضَها بالرَّبوَة ذَاتِ الخصوبَةِ، وهي أحسَن ما يكون فيه النَّباتُ، وماءَها بالمعينِ الجاري، قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون: 50]، قالَ الضَّحاك وقتادةُ: "هو بيتُ المقدس".
وفي قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة: 114] قالَ كَثيرٌ من المفسِّرين: "هو مسجِد بيتِ المقدس". وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء: 7]، أجمَع المفسِّرون على أنَّ المسجِدَ المذكورَ ها هنا هو المسجدُ الأقصى.
المسجِد الأقصى هو ثاني مسجِدٍ بُنِيَ في الأرض، لما في الصّحيحين عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ مسجِدٍ وضِع في الأرض أوّل؟ قال: ((المسجدُ الحرام)) ، قال: قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعونَ سَنةً، ثمّ أينما أدرَكتكَ الصلاة بعدُ فصلِّهِ فإنّ الفضلَ فيه)) [1].
بيتُ المقدس لا يدخُلُه الدجّال، فقد روَى جُنادة بن أبي أميّة قال: أتينا رجلاً من الأنصارِ من أصحابِ رسول الله فدَخَلنا عليه، فقلنا: حدِّثْنا ما سمعتَ من رَسولِ الله ، فذَكَر الحديثَ وفيه: ((عَلامتُه يمكُث في الأرضِ أربعين صَباحًا، يبلغ سلطانُه كلَّ مَنهلٍ، لا يأتي أربعةَ مساجِدَ: الكعبةَ ومسجِدَ الرّسولِ والمسجِدَ الأقصَى والطّور)) رواه أحمد ورجاله ثقات [2].
وعَن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: تَذاكَرنا ونحن عندَ رسول الله أيّهما أفضَل: مسجِد رَسولِ الله أم بيت المقدس؟ فقالَ رسولُ الله : ((صلاةٌ في مسجِدِي هذا أفضَلُ من أربَعِ صَلوات فيه، ولَنِعمَ المصلَّى هو، وليوشكَنَّ أن يكونَ للرّجل مثلُ شطنِ فرسه من الأرضِ حيث يَرَى منه بيتَ المقدِس خيرٌ له من الدّنيا [جميعًا])) أو قال: ((خيرٌ له من الدّنيا وما فيها)) أخرجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيّ [3].
وفي مسندِ أحمدَ وسُنَن أبي داود وابن ماجَه عن ميمونةَ مولاةِ النبيِّ قالت: يَا نبيَّ الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال: ((أرضُ المنشَر والمحشَر، ائتوهُ فصلُّوا فيه؛ فإنَّ صلاةً فيه كألفٍ فيما سواه)) [4].
تُشَدّ الرحال إلى المسجِدِ الأقصى، فعَن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عَنه قال: قال رسولُ الله : ((لا تَشُدُّوا الرحالَ إلا إلى ثلاثةِ مساجِدَ: مسجدي هذا والمسجدِ الحرام والمسجدِ الأقصَى)) رواه البخاري ومسلم [5]. حديثُ شدِّ الرّحال يدلُّ على الاهتمامِ الذي أولاه الرَّسول للأقصَى المبارك، وربَط قيمتَه وبركتَه مع قيمةِ وبركة هذين المسجدين.
إِتيانُ المسجدِ الأقصى بقصدِ الصَّلاة فيه يُرجى أن يُكفِّر الذنوبَ ويحُطّ الخطايا، فعَن عبدِ الله بن عمرو عَن النبيِّ قال: ((لمّا فرَغ سليمانُ بن داودَ من بناءِ بيتِ المقدس سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادِف حكمَه، ومُلكًا لا ينبغي لأحَدٍ من بعدِه، وأن لا يَأتيَ هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصَّلاةَ فيه إلاّ خرَج من ذنوبه كيومَ ولدَته أمُّه)) ، فقال النبيّ : ((أمّا اثنَتَان فقد أُعطِيَهما، وأرجو أن يكونَ قد أعطِيَ الثالثة)) رواه أحمد والنسائيّ وابن ماجه [6].
بَشَّر النبيُّ بِفتحِ بيتِ المقدِس، ومِن مؤيِّداتِ هذهِ البِشارةِ حديثُ عوفِ بنِ مالكٍ عن النبيِّ قال: ((اعدُد ستًّا بين يدَيِ الساعةِ: موتِي ثمّ فتحُ بيت المقدِس)) رواه البخاري [7].
القدسُ حاضِرَةُ الخلافةِ الإسلاميّة في آخرِ الزَّمان، فعن عبد الله بنِ حَوالَة الأزديّ قال: وضَعَ رَسول الله يدَه على رَأسِي أو قَالَ: عَلَى هَامَتي، ثمّ قَالَ: ((يَا ابنَ حَوالة، إذا رَأيتَ الخلافةَ قد نَزَلَت الأرضَ المقدَّسَة فقد دنَت الزلازلُ والبلابِل والأمورُ العِظام، والساعةُ يومئذٍ أقربُ من النّاس [من] يدِي هذِه مِن رأسِك)) رواه أبو داود وأحمد [8].
إنَّ شأنَ القدسِ شأنُ المسلمين كلِّهم بنصِّ كتابِ اللهِ وسنّة رسولِه ، فلِكلِّ مسلمٍ حقٌّ في تلك الأرضِ المباركة، يقابِلُه واجِبُ النُّصرةِ بكلِّ صوَرِه، فالحجَّة تبقى قائمةً معَ الحقِّ وأهلِه، وعلى الظلمِ وأهلِه إلى يَومِ الدّين.
ولعلَّ في استقبالِ بيتِ المقدِس أوّلاً تنبِيه المسلمِين إلى ما يجِبُ عليهِم القِيامُ به نحوَ بيتِ المقدِس مِنَ الحِفاظِ عليه مِن أن يُدَنَّسَ برِجسِ الوثنيّة أو المعاصِي، ولِتبقَى هذه المسألةُ خالدةً في أذهان المسلمين حتى لا تنسَى ما بقِي فيهم القرآن يُتلَى وما بقيت قلوبهم عامرةً بالإيمان.
لقَد مكَّن الله تعالى لِلمسلِمين فتحَ بيت المقدس في عهدِ الصَّدرِ الأوّل، فأقامُوا فيه الصَّلاةَ، وأمروا بالمعروف، ونَهَوا عن المنكَر، وثبَت دينُ الله في الأرضِ، وما زال والحَمدُ لله تعالى كذَلك وإن قامَ الطُّغيان فيه وصال وجَالَ، فإنّه لا بدَّ زائلٌ كما أذِن الله تبارك وتعالى بذَلك في قولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 5، 6].
هذا البيتُ المقَدَّس بقِي وسَيَبقى على الرَّغمِ مِنَ المِحَن التي عَصَفَت وتَعصِف بالمسلمين حصنَ الإسلامِ معقِلَ الإيمان إلى قيامِ السّاعة، قال : ((لا تَزَال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ظاهرين لعدوِّهم قاهِرين، لا يضرّهم من [خالَفهم] إلاّ ما أصابهم مِن لأوَاء حتى يأتيَهم أمرُ الله وهُم كذَلك)) ، قالوا: يا رسولَ الله، وأينَ هُم؟ قالَ: ((بِبَيتِ المقدِس وأكنَافِ بيتِ المقدِس)) رواه أحمد [9].
بَارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3366)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (520).
[2] مسند أحمد (5/435)، وأخرجه أيضا عبد الله في السنة (1016) عن أبيه، والطحاوي في شرح المشكل (14/376)، قال ابن حجر في الفتح (13/105): "رجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (7/343): "رجاله رجال الصحيح".
[3] مستدرك الحاكم (8553)، ورواه أيضا الطبراني في الأوسط (6983، 8230)، والبيهقي في الشعب (3/486)، قال المنذري في الترغيب (2/142): "إسناده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/7): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/2/954).
[4] مسند أحمد (6/463)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (457)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1407)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3448)، وأبو يعلى (7088)، والطبراني في الكبير (25/32) والأوسط (8445)، والبيهقي في الكبرى (2/441)، قال الذهبي في المهذب (2/869)، والألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (298): "منكر".
[5] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الحج (1864)، صحيح مسلم: كتاب الحج (827).
[6] مسند أحمد (2/176)، سنن النسائي: كتاب المساجد (693)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1408)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (8989)، والبيهقي في الشعب (3/494)، وصححه ابن خزيمة (1334)، وابن حبان (1633، 6420)، والحاكم (83، 3624)، والنووي في تهذيب الأسماء (1/233)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (4/137، 14/282)، وابن القيم في المنار المنيف (161)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1156).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3176).
[8] مسند أحمد (5/288)، سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2535)، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (9/169)، وصححه الحاكم (8309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2210).
[9] رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه (5/269) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (8/145)، وقال الهيثمي في المجمع (7/288): "رجاله ثقات"، لكن الراوي عن أبي أمامة فيه جهالة، ولذا ضعّفه المعلّمي في الأنوار الكاشفة (ص130).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وكفَى، وسلامٌ عَلَى عِبادِه الَّذين اصطَفَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له العليّ الأعلى، وأشهَد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه رسولُ الهدَى، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه ومن اقتفى.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوَى الله.
القدسُ الشّريف أمانةٌ في أعناقِ المسلمين، وإنَّ التفريطَ فيه تفريطٌ في دينِ الله، وسيسأل الله تعالى المسلمين عن هذه الأمانةِ إن فرَّطوا في حقِّها أو تقاعسوا عن نصرتها ورعايتها.
عملياتُ الحفرِ تحت المسجد الأقصى اعتداءٌ آثم وفِعل شنيع، وتعرِّض بنيانَ المسجد الأقصى للخطر. هذا العملُ أثارَ مُهَج المسلمين، وأجَّج مشاعرَهم. وعلى كلِّ مسلم أن يعرفَ للأقصى المبارك قدرَه؛ مدافعًا عن طُهرهِ، منافِحًا عن كرامتِه، باذِلاً الغالي والرخيصَ في سبيل نصرِه وعزِّه.
إنَّ الدعاء سلاح فعّالٌ لو صدَر من قلبٍ مخلِص وتكرَّر بإلحاحٍ أن ينصُرَ الله إخوانَنا ويفرِّج كربهم ويحرِّر الأقصى من دَنَس المعتدين.
ومما يؤلم المسلمَ ما يَراه من فُرقةٍ واختلاف بين المسلمين، تسهِّل على الذِّئب افتراسَهم. وليَعلَم الإخوةُ في فلسطين أن العدوَّ يتربَّص بهم الدوائر، ويعمَل جاهدًا على تغذِيةِ أسبابِ الفُرقة وتمزيقِ الألفةِ وتشتِيتِ الشّمل والصِّراع الداخليّ؛ لذا فإنّنا ندعو الإخوة في فلسطين بل في كلِّ مكان إلى الوحدة والتضامن، نحذرهم من الفرقة والتنازُع، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]؛ فإنَّ من أكبر المصائِبِ التي ابتُلِيَت بها الأمّة وأضعَفَت قواها الاختلافَ والتفرّقَ والتنازع، قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]، أي: فتضعفوا وتجبنوا وتذهبَ ريحكم. وبيَّن سبحانه أنَّ السببَ المباشر في هلاك الأمّة الفرقةُ، قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65]. وكلُّ عاقلٍ من أيّ ملّةٍ ومذهب يعلم يَقينًا أنَّ الوحدةَ طريقُ العزّةِ والنصر.
نناشِد الإخوَةَ الفلسطينيّين أن يستَثمِروا لقاءَ مكّة المبارَك في بلدِ الله الحرام، والذي أعلن مِن جوارِه نبيّ الأمة عليه الصلاة والسلام في حجَّة الوداع وثيقةً أَخويّة خالدَة: ((إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدِكم هذا)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتلِ رجل مسلم)) رواه الترمذي.
لقَد ابتهَجَ المسلمون وامتَلأت قلوبهم غِبطةً وفَرحًا باتفاق الإخوةِ في بلد الله الحرام، والذي كان استجابةً لنداءٍ كريم من خَادم الحرمين الشريفين وفقه الله. إنَّ هذا الاتفاقَ صمام أمان، وسيؤتي أُكلَه ويبلُغ غايَتَه إذا صدقَتِ النوايا وتجرَّدتِ النفوس وتحقَّقتِ الإرادة المؤمِنَة.
لقَد قدَّم الشعب الفلسطينيّ عبرَ تاريخه المشرِق تضحياتٍ باسلةً وبطولاتٍ فذّة، وكان وفيًّا لقضيَّته الكبرى بيت المقدس، فمن الخسران ومن الشنَار أن يئِدَ أصحابُ القضيّة قضيَّتهم بأيديهم ويحوِّلوها إلى مساوماتٍ رخيصة ومزايدات بخسَة وصراعٍ داخليّ يأكل الأخضر واليابس.
إنَّ الوفاق على الكتاب والسنّة سيثمرُ حِفظَ الأمن وحمايةَ المقدَّسات وحَقنَ الدماء وتعزيزَ المكتسبَات وبناءَ الوطن، وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب.
إنّنا باسم كلِّ فلسطيني وباسم كلِّ مسلم نطالب القائِمين على الشأن الفلسطيني أن يثبُتوا على الاتِّفاق مهما تربَّص متربِّص أو استفزَّ مستفِزّ أو تآمر معتَدٍ. ها أنتم قد عَاهَدتم اللهَ في البلد الحرام، فأوفوا بالعهدِ إنَّ العهد كان مسؤولاً، استشعَروا عظَمَة المكان وحُرمَتَه، وحُرمَة الزمانِ وهيبته، أرُوا الله من أنفسكم خيرًا، وأرُوا إخوانَكم مِن أفعالكم صِدقًا، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91].
اللّهمّ إنّا نسألك في هذا اليومِ العظيم وفي هذا الوقتِ المبارك أن تؤلِّفَ بين قلوب إخواننا في فلسطين، اللّهمّ اجمع كلمتهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللّهمّ اجمع كلمتهم على الكتاب والسنة، اللّهمّ ألِّف بين قلوبهم ووحِّد صفوفهم واجمع كلِمَتهم على الحقّ يا ربّ العالمين، اللّهمّ قوِّ شوكتَهم، اللّهمّ قوِّ رَميَهم، اللّهمّ قوِّ سِهامَهم، اللّهمّ ثبّت أقدامهم يا ربّ العالمين، اللّهمّ انصرهم على عدوّك وعدوّهم يا ربّ العالمين.
اللّهمّ انصر دينك وكتابك وسنّةَ نبيّك وعبادك المؤمنين، اللّهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمّر اللّهمّ أعداءَك أعداء الدين...
(1/5066)
وإن عدتم عدنا يا يهود
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
3/7/1427
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العدوان على أمة الإسلام. 2- سوء عاقبة الظلم والظالمين. 3- أسباب الهوان. 4- من حكم الله تعالى في هذا الوضع المؤلم. 5- قرب زوال قوى الشر والطغيان. 6- حقيقة الصراع.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واقتدوا برسول الله صلى وسلّم عليه مولاه، فبالتقوى والاقتداء تصِلوا الأرض بالسماء، وتجنوا الصفاءَ والوفاء والإخاء، ألا فاتقوا الله عباد الله، واقتدوا برسول الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28].
ثم اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الأمة الإسلاميّة اليوم تواجه خِصامًا بعنف وتآمرًا بحِقد وحربًا بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ والوقائع والأيام، يجرّون الضغائن، ويحملون مسمومَ الدّفائن، ملؤوا الدنيا عدوانًا، وأشعلوها نيرانا، كلّ ذلك تحت شعار تحيق السلام والحرية المزعومة، وأنى لأفّاك أثيم تحقيق سلام دائم أو سكونٍ دائب؟! وما تسمعون وتشاهدون من اتفاقيات ومعاهدات للسلام ما هي إلا أحداثٌ تُفتعَل وأدوارٌ تُمثَّل وإفكٌ وافتراء واتِّهام وادِّعاء لسفك الدماء وقتل الأبرياء.
إن الإجرام الإسرائيلي والحقد النصراني سيظل في غطرسته وغرورِه واستبداده وفجورِه، وستهيَّأ له الأجواء ويفسح أمامه المجال لارتكاب مزيدٍ من الهدم والتشريد والتقتيل ليكون ذلك خيرَ شاهد على الحقد الدفين والهمجيةِ العمياء، وليتبين للناس أجمعين حقيقةُ ما يزعمون من نشر الحرية والسلام والأمن والأمان بين العالمين.
فعين العدل والحرية والسلام عندهم أن يشرّد المسلمون من ديارهم وترمّل نساؤهم وتيتّمَ ذراريهم وأن لا ينعموا بخيراتهم التي هم يحسدونهم عليها، ولقد صدق الله إذا يقول: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 10]، وقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54]، فالحسد والبغض والكره أول دافع من دوافع الإبادة للمسلمين.
ولكن إخوتي في الله، حتى إذا ما بلغ السيل زُباه والكيدُ مداه والظلم منتهاه هنالك يأتي نصر الله لمن اتقاه ووالاه، فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، حتى إذا ما أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12].
لقد نسي أو تناسى الظالم المستبدّ أن الظلم لا يدوم ولا يطول، بل سيَضمحلُ ويزول، وعندها سيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون. ولعل الناظر المتأمل في الذين التحَفوا بالأمن والدَّعَة واستمتعوا بالثروة والسَّعة ممن سلف من الأمم الظالمة الكافرة ليرى بعين بصيرته كيف كانت عاقبتهم، لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت عليهم الصواعق وقرعتهم القوارِع، فهل تعي لهم حِسًّا أو تسمَعُ لهم ركزًا؟! عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته)) ، وقرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] حديث متفق عليه.
أيّها الأكارم، إنّ ما يجري اليوم في فلسطين والأفغان وفي أرض العِراق ولبنان من تشريد وتقتيلٍ وتفجير وتدمير ما هو إلا عنوان للظّلم الجماعيّ على مرأى ومسمع من العالم كلّه، وإن ذلك ليدعونا أن نقفَ وقفات عبرة وعظَة وتأمل في حكمة الله سبحانه، إنه عليم حكيم.
ولعلّ أولى تلك الوقفات ـ عباد الله ـ أنّ ما أصاب الأمة اليوم من تخلّف وتقهقر وضعف وتأخّر ونزع المهابة من الأعداء والهوان على الناس إنما هو عاقبة الفسوق والعصيان والابتعاد عن حقيقة الإسلام والإيمان، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك أن تداعى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: أوَمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود.
إن هذا ـ عباد الله ـ ما أخبر به رسولنا في الحديث، وهو واقع في الأمة اليوم بلا جدل ولا مراء، فهذه البنوك والمساهمات والشركات تتعامل بالعينة والربا جهارا نهارا، أسمته بغير اسمه تحايلا على الله، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142]، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9]، ناهيك عن انغماس الأمة في أوحال الرذيلة والتخلي عن الفضيلة إلا من رحم الله.
إن الأمة اليوم في عمومها أصبحت في حال يرثى لها، لقد غرقت في طمعِ يهدي إلى طبع وشهوات ومُتع ودنيا مؤثَرة وهوًى متَّبع، لقد تخلت الأجيال عن شعائر الدين، وفشت في المجتمعات قنوات الخبث والخنا، وتلاعب أهلُ الأهواء بالمرأة ليعيدوا لها حقوقها المزعومة، وتشبه بنو الإسلام بأحفاد القردة والخنازير، وشربت الخمور، واستبيحتِ الفروج، وحُكمت القوانين دون الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، إلى غير ذلك مما انغمس فيه الناس من أنواع الانحراف وأصناف الهوى، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
بذلك كله ـ عباد الله ـ سلط الله على الأمة من يستبيحُ بيضتها ويُذِوقها مرّ العذاب، ولئن غيّرنا ما بأنفسنا ليغيِّرن الله علينا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
الوقفة الأخرى هي أن نعلم أنه ما من محنة إلا وفي طياتها منحة، وأن لله في كل شيء حكمة، ففي المحن والفتن والحروب ابتلاء للأمة جمعاء؛ لتعود إلى دينها وشرعها ورشدها ولتعيَ الدروس والعبر، وفي ذلكم حكمةٌ من الله عز وجل، وفيها ـ أي: المحن والمصائب ـ تمحيص للذنوب وتكفير للخطايا والسيئات ورفع للدرجات، وليتخذ الله من الأمة شهداء، وليرى الله من يصبر ويحتسب على ما أصابه وحلّ به من فقد لحبيب أو أذى في نفسه أو في قريب، وفي ذلك يقول الله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 140-142].
وثالث تلك الوقفات: بشرى لنا ولأمةِ الإسلام أن طغيان الكفرة واستعلاءَهم في الأرض وتجبرهم وتكبرهم ما هو إلا إيذانٌ بقرب زوالهم وهلاكهم، يقول عز من قائل عليما عن اليهود من بني إسرائيل في سورة الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4]، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علوا كبيرا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا أي: أولى الإفسادتين، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً [الإسراء: 5] أي: إذا أفسدتم المرة الأولى سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، فتملّكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم وكان ذلك وعدا مفعولا".
ثم قال الله: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 6، 7]، يخبر الله بني إسرائيل: إن أحسنتم فإنما تحسنون لأنفسكم، وحينها نحسن إليكم وننصرُكم، وإن أسأتم وتكبرتم واستكبرتم فعليها، ثم قال سبحانه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ أي: أفسدتم الكرة الثانية ومرة أخرى، عدنا إلى العذاب والتنكيل بكم، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء: 7، 8]. وفي قوله تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا بيان لسنّة الله في بني إسرائيل؛ أنه سبحانه وتعالى سيحسن إليهم متى أحسنوا، وإن أساؤوا وعلوا وتكبروا سيعود إلى التنكيل بهم وتعذيبهم، ويسلّطُ عليهم من يُبيدهم ويُبيد خضراءهم، ولذلك قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.
ولقد عادوا من جديد إلى عتوهم وعنادهم ومكرهم، وليعودنّ الله عليهم كما وَعد، فسنته واقعة لا محالة، ووعده منجز بإذنه سبحانه، فاستبشروا ـ أمةَ الإسلام ـ بما ترونَ من تدمير وتشريد وتقتيلٍ تقترفه أيدي اليهود والنصارى والمشركين، ما هو إلا إيذان بزوالهم بإذن الله القوي.
فاللّهمّ إنا نسألك أن تعود عليهم بالهزيمة والتنكيل والتعذيب، فلقد عادوا إلى ما نهيتَهم عنه، ولقد عتوا وتكبروا واستكبروا في الأرض، فاللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [الأنفال: 36، 3].
نفعني الله وإياكم بآيات ذكره، وبهدي نبيه ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبيّ المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبع سبل الهدى.
وبعد: معاشر الفضلاء، فإنّ ما جرى ويجري من أحداث في ديار المسلمين ليس قضية جنديَين يهوديين، إنما هي حرب سافرة على الإسلام تدبّرها أيدٍ خفية تحمل الحقد والغل على الإسلام وأهلِه، وتودّ في ظل استغلال الفرص أن لو ظفرت بالأمة كلّها ولكن كما قال الله سبحانه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [لأنفال: 30].
إن الأحداث المؤلمة تكشِف اللّثام عن حقيقة ما يزعمُه أهلُ الكفر من أنهم جاؤوا للسلام ولنشر الحريات بين الشعوب، ولقد كذبوا وصدق الله إذ يقول: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109]، ويقول: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89].
لقد أثبتت لنا الأحداث أن العداوة للإسلام باقية في قلوب الكفار ما بقي الليل والنهار وما دامت الأرض والسماوات: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، فإن كانوا لا ولن يرضوا عنا فلِم نرضى نحن عنهم؟! ولِمَ نحبهم؟! بل الواجب علينا ـ معاشر المؤمنين ـ أن نكن لهم العداوة والبغضاء أبدا، وأن نعاديَهم في الله تحقيقا لمنهج الولاء والبراء، لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 121].
ومن دليل البراءة من الكافرين المقاطعة لهم ولمنتجاتهم ومستورداتهم، وهذا أدنى ما نقدمه لنصرة إخواننا المضطهدين، فلنقاطع منتجاتِهم إلا فيما هو ضروريٌ في الحياة، ولنستشعر قول رسول الله : ((من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه)).
ومما نقدمه للمسلمين المستضعفين الدعاء، فهو خير سلاح وأنجع وأوقع، فالدعاء الدعاء أيها الكرماء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
فاللهم ربَ السموات السبعِِ وما أظلت، وربَ الأرضين السبعِ وما أقلت، نسألك يا قوي يا عزيز أن تنزل بأعداء هذا الدين عذابك الذي لا يردّ عن القوم الظالمين، اللهم أنزل عليهم رجسك وأنجز فيهم وعدك ومزقهم شر ممزق، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم كِد لهم وامكر بهم، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فردّ كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه...
(1/5067)
فضل أعظم آية في كتاب الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, القرآن والتفسير
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
14/11/1426
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن العظيم. 2- أعظم آية في كتاب الله تعالى. 3- معاني آية الكرسي. 4- فضائل آية الكرسي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله باريكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
ثم اعلموا ـ إخوتي في الله ـ أن هذا الكتاب كتاب عظيم، فضله الله سبحانه وتعالى على سائر الكتب أجمعين، فهو خاتم الكتب المنزلة وأشرفها، وكلُّها مشرفة، ولكن الله سبحانه فضّل القرآن من بين الكتب، وفضل من القرآن بعضَ السّور على بعض، ثم فضّل من السور بعضَ الآيات على البعض، سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو الحكيم العليم.
فلقد روى الإمام أحمد والإمام مسلم رحمهما الله عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن النبي سأله فقال: ((أي آية في كتاب الله أعظم؟)) قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارا، ثم قال أبي رضي الله تعالى عنه: آية الكرسي، فقال له رسول الله : ((ليهنك العلم أبا المنذر)) ، وعند أحمد: ((والذي نفسي بيده، إنّ لها لسانا وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش)).
إنها آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، وكيف لا تكون كذلك وهي تحوي أعظم اسم لله عز وجل وتقدّس في علاه؟!
يقول سبحانه: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه: "روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله يقول في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 1، 2]: ((إن فيهما اسم الله الأعظم)) ، وروى ابن مردويه عن أبي أمامة يرفعه قال: ((اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورةِ البقرة، وآل عمران، وطه)) ، قال هشام: أما البقرة فـ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفي آل عمران: الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفي طه: وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه: 111].
والناظر في هذه الآية يرى أنها قد اشتملت على عشر جمل مستقلة كما ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى.
فأوّلها: قوله سبحانه: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إخبار بأنه سبحانه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق.
وثانيها: قوله سبحانه: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا، المقيم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيّ عنها، لا قوام لها بدون أمره، كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: 25].
وثالثها: قوله سبحانه: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ أي: لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم فقوله: لا تَأْخُذُهُ أي: لا تغلبه سِنَةٌ وهي الوسَن والنعاس، ولهذا قال: وَلا نَوْمٌ ، والنوم أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله بأربع كلمات، فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عملُ النهار قبل الليل، وعملُ الليل قبل النهار، حجابه النور ـ أو: النار ـ ، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه)).
ورابعتها: قوله سبحانه: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إخبار بأن الجميع عبيدُه وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه، كقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93-95].
وخامستها: قوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ، كقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26]، وكقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى [الأنبياء: 28]. وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة حيث قال : ((آتي تحت العرش فأخر ساجدا، فيدَعُني ما شاء الله أن يدَعَني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)).
وسادستها: قوله سبحانه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخبارا عن الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64].
وسابعتها: قوله سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ أي: لا يطلع أحدٌ من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110].
وثامنتها: قوله سبحانه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، روى وكيع في تفسيره عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدُر أحد قدره).
وتاسعتها: قوله سبحانه: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه.
وعاشرتها: قوله سبحانه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كقوله: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9]" انتهى كلام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية.
ألا فما أعظمها من آية؛ لما حوت من بيان أسماء الله وصفاته، وما له من سلطان على عباده، وقدرة على مخلوقاته، سبحانه لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وهو السميع العليم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم لقائه.
وبعد: فإن مما يزيد آية الكرسي تشريفا وتعظيما أنها آية جعلها الله حرزا لمن قرأها من الشياطين والجن والسحرة والمشعوذين، فمن قرأها من ليلته لا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لا يزال عليه من الله حافظ حتى يمسي.
وروى البخاري رحمه الله تعالى قصة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله ، قال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي : ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟)) قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً وعيالاً، فرحمته وخلّيت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله : ((إنه سيعود)) ، فرصدته فعاد المرة الثانية، ثم عاد المرة الثالثة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله ، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله.، فأصبحت فقال لي رسول الله : ((ما فعل أسيرك البارحة؟)) فقلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ((ما هي؟)) قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي : ((أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاثِ ليال يا أبا هريرة؟)) قلت: لا، قال: ((ذاك شيطان)).
وكذلك من فضائل آية الكرسي أنه من حافظ على قراءتها دبر كل صلاة ما كان بينه وبين الجنة إلا أن يموت، ففي الحديث عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)) أخرجه الترمذي وغيره وهو في صحيح الجامع.
وبعد: إخوتي في الدين، فإن آية الكرسي جدير على كل مسلم أن يحفظها ويحفِّظها ويعيها ويتفهما ويؤمن ويوقن بما جاء فيها إيمانا صادقا ويقينا خالصا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/5068)
التآخي في الله
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
محمد بن سعد الشهراني
خميس مشيط
جامع النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من الأسس التي أساسها النبي عند وصوله المدينة التآخي بين أفراد المجتمع المسلم. 2- فضل الأخوة في الله. 3- حقوق وواجبات الأخوة في الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، فعند الحديث عن تاريخ البشرية وعمرهم المديد عبر القرون على هذه البسيطة فإن التاريخ يتوقف عند فترة منه ليسطر بإعجاب وشموخ مجد البشرية وخيرها وفخرها ونورها ورقيها وهداها، ذلكم الخير والهدى الذي سطره محمد بهجرته الميمونة التي هجر فيها ديار الكفر والبغي ليقصد ديار الإيمان والهدى، تلكم الهجرة التي تعد الفتح الأكبر للإسلام وأهله والمجد الأعظم الذي به بدأت دولة الإسلام الأولى، هذه الهجرة التي انتقل بها الناس من شؤم الحياة ونكدها وشقائها إلى سعتها وسعادتها وهدوئها.
? أيها الإخوة المؤمنون، النبي في الهجرة المباركة وضع معاني وأسسا وأصولا وقيما رائعة راقية، كانت للبشرية منارا وهداية وصلاحا وسعادة، وإن من أعظم ما أثبته النبي حال وصوله أرض المدينة النبوية التآخي بين أفراد المجتمع المسلم والتآزر بينهم والتعاضد بينهم؛ حتى يبقى ودهم، وتقوى شوكتهم، ويشتد ساعدهم، حتى يصرف الأسرة المسلمة عن أسباب الشقاق وشرار النزاع التي فيها ذهاب ريحهم واختلاف كلمتهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: "وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: ((تآخوا في الله أخوين أخوين)) ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ((هذا أخي)) ". وقال ابن هشام في سيرته رحمه الله: "ثم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة".
وقد بدا هذا واضحًا لَدَى الأنصار الذين آثروا المهاجرين على أنفسهم، فاستحقوا وصف الله لهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أُهْدِيَ لرجل من أصحاب رسول الله رأسُ شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخرَ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد كانت هذه المؤاخاة من أعظم النعم التي حضّ الله المؤمنين على تذكرها ثم شكرها وتقديرها، فقال سبحانه: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103].
ولما ثار اليهود في المدينة وأشعلوا الخلاف بين الأوس والخزرج ودسُّوا بينهم شابًا يهوديًا ذكَّرهم بمعركة بعاث التي حدثت بينهم وذكَّرهم بأحقادهم وعداواتهم القديمة فاستثاروهم، وقام شاب من الخزرج وسَلَّ سيفَه، وقام آخر من الأوس، فتواعدوا خارج المدينة، وتَهيئوا للقتال، فسمع رسول الله بخبرهم، فخرج من بيته وهو يقول: ((حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم)) ، ويقال: إنه خرج حافيًا بلا نعلين، حتى وقف بين الصفين، وقال بأعلى صوته : ((يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّفَ بين قلوبكم؟!)) رواه الطبري. فلما سمع الصحابة ذلك عرفوا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، وأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: كيف تقتتلون؟! وكيف تتناحرون؟! وكيف تتباغضون؟! وكيف تتقاطعون وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100، 101]؟!
وقد كان النبي مع أصحابه مثلا رائعا للأخوة الصادقة الخالصة، فتراهم سعداءَ فَرِحينَ، وبإخوانهم مسرورين، وبمحبتهم مغتبطين، يتعاونون على البر والتقوى، ويتواصَوْن بالحق والصبر، يقضُون مصالحَ بعضهم، ويهتمُّون بأمور المؤمنين، يغفرون الزلات، ويسترون العورات، ويتجاوزون عن السيئات، ولذلك زكاهم الله في غير موضع من كتابه فقال: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بينهم [الفتح: 29]، وقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
الأخوة في الله ـ أيها الإخوة في الله ـ أدب جليل من آداب هذا الدين، جعل الله جزاءه الفوز بدار كرامته، وأمانا واطمئنانا من الفزع الأكبر، في يوم تشخص فيه الأبصار وتختلف فيه الموازين.
عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله قال: ((يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله)) ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، جلِّهم لنا، يعني: صفهم لنا، شكّلهم لنا، فسرّ وجه النبي بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله : ((هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقال: "صحيح الإسناد" وهو في صحيح الترغيب والترهيب.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ)) ، وذكر منهم: ((وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)) متفق عليه. وفي الحديث القدسي: ((يقول الله عز وجل: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)) رواه الإمام أحمد عن معاذ. وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول اللَّه يقول: ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)) رواه الترمذي.
ويقول أمير المؤمنين علي : (عليكم بالإخوان؛ فإنهم عُدَّةٌ في الدنيا والآخرة، ألا تسمعون إلى قول أهل النار: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100، 101]؟!). وجاء عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "لو أن الدنيا كلَّها لي فجعلتُها في فم أخٍ من إخواني لاستقللتُها عليه"، وقال: "إني لأُلْقِمُ اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي".
أيها الإخوة المؤمنون، للأخوة بين المؤمنين في الله حقوق عظيمة وثمرات كريمة، قد بينها الله ورسوله في الكتاب والسنة، ينبغي مراعاتها والقيام بها، ولا يحسن إهمالها والتهاون بها.
ومن هذه الحقوق الإصلاح بين المتخاصمين والمتنازعين والمتقاطعين، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى? فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى? تَفِيء إِلَى? أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9، 10].
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين تعظيم بعضهم لحرمات بعض، وعدم تنقص بعضهم لبعض، قال تعالى: ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11].
ومن حقوق الأخوة بين المؤمنين تجنب إساءة الظن فيما بينهم والتجسس من بعضهم على بعض واغتياب بعضهم لبعض وغش بعضهم لبعض والخداع والاعتداء على الحقوق والأعراض، قال تعالى: ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]، وعن أبي هريرة قال: قال : ((إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله، المسلم أخو المسلم، لا يظلمُهُ، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُهُ، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا ـ وأشار إلى صدره ـ، بحسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ؛ دمُه ومالُه وعرضُه)) رواه البخاري، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه أبو داود.
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية التناصح بين المسلمين والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]، وفي الحديث الصحيح يقول النبي : ((الدين النصيحة)) ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
ومن حقوق الأخوة الإسلامية والإيمانية أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وعن أبي هريرة قال النبي : ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)).
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض التزاور فيما بينهم وإفشاء السلام وقضاء حوائجهم والرفق بضعفائهم وتوقير كبارهم ورحمة صغارهم وعيادة مرضاهم واتباع جنائزهم، قال : ((حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
ومن حقوق المسلمين دعاء بعضهم لبعض، قال تعالى لما ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]، وقال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19].
وفي الجملة إخوة الإيمان، الأخوَّة بيننا يجب أن تقوم وتستمر على الثوابت التي أسس عليها المصطفى المجتمع الإسلامي، مجتمعا واحدا كالجسد الواحد، يتآلف ويتعاون ويترابط، يظهر فيه الإيثار والمحبة، وتسوده المودة والألفة والعفو عن الزلات والصفح عن الأخطاء والهفوات وحسن الظن، ويزول منه الحسد والقطيعة والشحناء والضغينة والاحتقار والسخرية والبغضاء والخديعة، وتختفي منه الأنانية وحب الذات.
هذه هي مقتضيات الأخوة ولوازمها، نلتزم بها ظاهرا وباطنا قولاً وفعلاً وسلوكًا وتعاملاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن من حقّ المسلم على أخيه المسلم أن يفرّج كربته ويغيث لهفته ويقضي حاجته ويلبّي دعوته، يحبّ له من الخير ما يحبّه لنفسه، ويقدّم له الخير بيمينه، ويدفع عنه الشرّ والأذى بشماله.
ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يحفظ سرّه ويستر عيبه ويعوده إذا مرض ويشيّع جنازته إذا مات ويحفظ عرضه إذا سافر وينصره إذا ظُلِم وينصحه إذا اعْوَجّ، ((ومن كان في حاجة أخيه المؤمن كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) ، وقال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
عباد الله، المسلمون أمة واحدة وإن تباعدت ديارهم وتباينت ألوانهم واختلفت ألسنتهم، يجمعهم القرآن، ويوحّد أهدافهم الإسلام، ربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، هدفهم إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، شعارهم الأخوة الصادقة والمودة الخالصة، أخوّة الإيمان ورابطة الإسلام.
على هذا كان المسلمون الأوّلون، يُسرّون إذا أصاب إخوانَهم في أي مكان من الدنيا خيرٌ، ويحزنون إذا أصابهم شرٌّ، وسرورهم وحزنهم لم يكن كلامًا ولا بكاءً، وإنما كان عملاً وإغاثةً وتلبيةً للنداء، فإذا سمع المسلم أن إخوانه المؤمنين في دولة مسلمة تسومهم دولة ظالمة سوء العذاب تقتل رجالهم وتستبيح أعراضهم سارع إلى نجدتهم، وعمل على نصرهم وإهلاك عدوّهم، هذه هي أخوة الإسلام، ومن لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم.
وإنا لنسأل الله العلي القدير أن يفرج عن إخواننا كربهم ومآسيهم، وأن يرفع عنهم ضيقهم وهمهم، وأن يبدل حزنهم فرحا.
(1/5069)