عيد الفطر 1427هـ: العيد بين الإنجازات والفرص
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
1/10/1427
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فجر العيد. 2- فرصة رمضان. 3- إنجازات رمضان. 4- الفرح بالعيد. 5- من آداب العيد. 6- معاني التكبير. 7- الثبات على الطاعة. 8- نعيم الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلم، انطلق فجر العيد، وانبثق يوم جديد في تاريخ المسلمين اليوم، بالأمس كنا نستقبل شهر رمضان ونحتفي بقدومه، واليوم بعد أن طويت صحائف ذلك الشهر وأوسدت أيامه نستقبل يومًا جديدًا عن يوم أمس، وهكذا تظل الحياة من يوم إلى يوم، ترحل أيام وتقدم أيام، وبين تلك الرحلة وذلك القدوم إنجازات عظيمة في ما فات وفرص كبيرة في ما هو آت.
أيها المسلم، لقد أراد الله تعالى أن يكتب أثرك على وجه الأرض، وأن يحقق لك ما فاتك من الخير، فجمع لك في شهر رمضان من الفضائل والأعمال ما يكون في ثلاث وثمانين سنة من العمر، وأردف لكم في طيات رمضان أبوبًا من الخير، وكل ذلك لَمٌّ لشعثكم وطمأنينة لقلوبكم ودرك لتقصيركم، فيا لله ما أعظم ربنا! وما أرحمه بنا! لقد كان رمضان فرصة لاستعادة أيام مشرقة وكتابة إنجازات عظيمة، فكان بحمد الله تعالى من كثير من المسلمين. فلو رأيت ـ أيها المسلم ـ صحفك بين يدي ربك لغبطّ بتلك الفضائل التي نلتها، ولو أذن الله تعالى لك برؤية جوائز الفوز اليوم في مصلّيات العيد لرأيت ما يخلّد ذكرك، ولك يوم بإذن الله تعالى ترى فيه تلك المكارم بين يديك.
أيها المسلم، لقد كان شهر رمضان فرصة عظيمة لتحقيق إنجازات كبيرة، فالمسلم الذي تجاوز شهوته وترك ملذات الدنيا بين يديه لا يستطيع أن يمد يديه إليها رجاء ما عند الله تعالى، مسلم حقق انتصارًا كبيرًا لا يقدّر بمثل، وإذا أردت أن تعرف حجم هذا الفوز وهذا الانتصار فتأمل قول الله تعالى في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) ، وإذا أردت أن تدركه يقينًا فتأمل حديث رسول الله : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)). والمسلم الذي بات قائمًا يصلي لله تعالى في التراويح والتهجّد مسلمٌ حقّق كذلك إنجازات كبيرة، وإذا أراد أن يعرف حقيقة إنجازه هذا فليتأمل حديث رسول الله : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه)).
أيها المسلم، لقد كان رمضان فرصة عظيمة لإنجازات كبيرة تخلَّد على أرض الواقع، وكيف لا يكون المسلم من أمثالك حقق بتلك الإنجازات وقد أعاد لصلة الأرحام رونقها وجمالها وتآلفها حين كان مثالاً للنموذج الناجح وهو يفطر هناك على أرض جاره أو قريبه أو صديقه أو زميله، متجاوزًا لكل خلاف بذره الشيطان في يوم من الأيام، إن روعة الانتصار تكمن حقيقة في مثل هذه اللحمة وهذا الائتلاف. لقد أكّد لنا رمضان أن كل إنسان قادرٌ أن يحلّق بروحه في سماء الانتصارات دون الالتفات إلى شهوات عاجلة أو أمنيات رخيصة، وكم حقق الإنسان في هذا الجانب من الإنجازات الكبيرة. إن الذي تجاوز بعضًا من العادات السلبية أو خلق نموذجًا جديدًا من العادات الإيجابية هو ممن حق له اليوم أن يفرح بتلك الإنجازات على أرض العيد من جديد، وذلك الذي كسر شهوة حب المال في نفسه فتصدق هنا وبذل هناك هو نموذج من نماذج الانتصار على النفس حقيقة.
أيها المسلم، أرجو أن تمعن النظر قليلاً في هذه الإنجازات، فلا أريدك اليوم واجمًا حزينًا على فراق رمضان وهذه إنجازاتك تضرب على أرض الواقع، إنني أدعوك ـ أيها الحبيب ـ اليوم ومن على أرض العيد أن تعيش متفائلاً مبتهجًا فرحًا مسرورًا، لا بمضي أيام الطاعات، لا، وإنما بتلك الإنجازات الكبيرة التي تمت في ثلاثين يومًا. إن الحزن على الفائت مذموم في الشرع، ذلك أنه مجلب للحسرة مؤذٍ للنفس غير جالب لشيء من الخيرات. فعش متفائلاً، وأيام الله تعالى قادمة فامض تكتب فيها إنجازاتك الكبيرة.
أيها المسلم، لقد أراد الله تعالى لك اليوم أن تبتهج فشرع لك العيد، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث أنس رضي الله عنه أن نبينا لما قدم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين فقال : ((كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)).
فتأمل رحمة ربك، وانظر إلى جمال دينك، وتمعّن شمول شريعتك، لقد خلقك الله تعالى يوم خلقك فجعل في نفسك رغبة ملحة في شهود أيام تحتفل وتفرح بها، فجعل لك مثل هذا اليوم، وباعد بين أيامها حتى تجد لها في قلبك لذة ولهفًا، وجعل يوم الفطر منها بعد شهر من العبادة والإقبال إليه، فكم لله تعالى من أسرار في هذه البهجة، وانظر فقد شرع الله تعالى لك في هذا اليوم أخذ الزينة، ثبت في البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: أخذ عمر رضي الله عنه جبة من إستبرق تباع في السوق، فأتى بها رسول الله فقال له: ابتع هذه تجمّل بها للعيد والوفود. وثبت في حديث جابر رضي الله عنه قال: كان للنبي جبة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة. وعند البيهقي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه. فاللهم لك الحمد على نعمك، ولك الشكر على عطائك وفضلك. فامض ـ أيها الحبيب ـ اليوم تكتب في عيدك صورًا من صور الفرح والسعادة التي تلبي بها حاجة نفسك وتبين عن مشاعرك في ضوء رسالة الله تعالى في الأرض.
أيها المسلم، مشاهد العيد تكتب في نفسك العزة، وتترجم في حياتك القدوة، وتكتب فيك سرًا من أسرار العبودية، فها أنت على طريق العيد تصدح بالتكبير، معلم من معالم العبودية، وسر من أسرار العزة المنشودة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر من كل معبود على وجه الأرض، الله أكبر من كل شهوة تخالف منهج الله تعالى، الله أكبر من كل أمنية تطيش في يوم العيد عن رسالة الله تعالى، الله أكبر كلمة نروّي بها أسماع الناس على الأرض، فيسمعها كل منافق أو كافر فيعلم أننا مستعلون بديننا، راضون بشريعة ربنا، قائمون على منهج الله حتى نلقاه. إن هذه الكلمة حين يصدح بها المسلم تخلق في روحه عالمًا من التميّز، وعالمًا من الروحاينة، وعالما من العلو بمنهج الله تعالى. "الله أكبر" كلمة دوّت بالأمس على لسان رسول الله ولسان صحابته رضوان الله تعالى عليهم، فحققوا بها رسالة ربهم في الأرض، وما رحلوا حتى صنعوا منها العجائب على أرض الواقع، ولا زالت إلى اليوم دول وأمم على ذكرى هذه الكلمة العظيمة. ونحن اليوم من على أرض العيد ندوّي بها نحيي بها رسالة خالدة، ونكتب بها مآثر قوم سابقين، وعلى طريقهم بإذن الله تعالى سائرون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: أيها المسلم، لئن تحقق لك بالأمس في شهر رمضان انتصارات كبيرة فإنني أدعوك اليوم ومن على أرض العيد أن تكتب انتصارات أخرى، ولتعلم ـ أيها الحبيب ـ أن الإنسان ـ كما يقول الطنطاوي رحمه الله تعالى ـ لا يعظم بقدر السنين في الدنيا، وإنما يعظم بقدر الأحداث التي يخلفها على أرض الواقع، وبإمكانك اليوم أن تكتب انتصارات أخرى مماثلة لتلك الانتصارات التي علقتها سيرتك نموذجًا من نماذج التحدي في حياة أمثالك من الحريصين. ولتعلم أننا لا نطلب منك اليوم أن تكون نسخة منك في رمضان، لا، فإن رمضان شهر واحد من العام، وقد جعله الله تعالى زمنًا للتنافس ووقتًا للسباق، وقد حشد لك فيه من الخيرات ما يسد به عجزك ويتم به تقصيرك.
أيها المسلم، جولة الانتصار الحقيقية في حياتك والانجازات العظيمة تكمن في البقاء على مبادئك والثبات على قيمك والاستمرار على طاعتك. إن أعظم إنجاز يُكتب في تاريخ الواحد منا حفاظه على قيمه ومبادئه أن تلوّثها الحياة المادية أو تخدشها تشوهات الإعلام المرئية، هذا هو سر العزة الحقيقة بهذا الدين. إننا في زمنٍ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، لكنها سنن الله تعالى في الأرض، تكتب قمة الانتصارات لأشخاص حرروا أنفسهم من ذل الخطيئة ووحل المعصية، وظل الواحد منهم يركض بدينه مستعليا على الأرض ومادياتها بعون الله تعالى وتوفيقه. إن بقاءنا ـ أيها الحبيب ـ على قيمنا ومبادئنا واستقامتنا نموذج من نماذج الاستعلاء الحقيقية على وجه الأرض، وهكذا تكون الانتصارات. واعذرني ـ أيها الحبيب ـ إن قلت لك من على أرض العيد: أن النكوص عن الفضيلة والجبن عن الحق والرضا بالدون انهزامية تخالف سرّ التكبير في مثل هذا اليوم. لقد قال الله تعالى لقوم كلوا في أرض المعركة وتعبوا في ساحة القتال وداخل نفوسهم شيء من وهن الحرب: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. ورحم الله سيد قطب حين علّق في ظلاله على الآية فقال: "عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض خلقه، ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله، ودوركم أعلى فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلّها، وهم شاردون عن المنهج ضالون عن الطريق" اهـ. نعم، أنتم كذلك حتى مع جرح الحرب وانتفاش الباطل وصولة الكافرين.
أيها المسلم، بالأمس في شهر رمضان بالذات كنت نموذجًا للمسلم المثالي، كنت عبدًا خالصًا لربك وفردًا صالحًا في مجتمعك، واليوم أنت كذلك بإذن الله تعالى، ولست أريدك أن تكون بنفس المستوى من القوة على مدار العام، فقد يكون ذلك كبيرًا عليك ولا تحتمله، لكن نريد منك أن تكون نموذجًا في الحرص على العمل وإن كان قليلاً، لئن صمت بالأمس شهرًا كاملاً وذلك بحقٍّ إنجاز كبير فاليوم يمكن أن يمتد ذلك الإنجاز بصيام ست من شوال وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولئن كنت بالأمس قوامًا لليل كله وذلك إنجاز عظيم فاليوم يمكن أن يمتد ذلك الإنجاز بقيام ركعتين أو أكثر من كل ليلة، فإن لم يكن فالحفاظ على الوتر إنجاز يمكن تحقيقه على أرض الواقع، ولئن كنت بالأمس مثالاً في الصدقة فاليوم يمكن أن يمتد ذلك المثال عن طريق دعم الجمعيات الخيرية أو حلق التحفيظ أو الالتزام في برنامج دائم من الإنفاق حتى وإن كان قليلاً، ولئن كنت بالأمس نموذجًا في صلة الرحم فاليوم يمكن أن يمتد ذلك النموذج عن طريق تخصيص يوم في الأسبوع لزيارة أرحامك، ولئن كنت بالأمس ربانيًا في قراءة كتاب ربك القرآن العظيم فاليوم يمكن أن تمتد تلك الربانية عن طريق المحافظة على ورد معيّن كل يوم ولو بضع آيات. وهكذا أيها الحبيب، يمكن أن نكون كشهر رمضان أو أكثر، وقد قال نبيك في وصية جامعة نافعة لما سئل عن أفضل الأعمال فقال: ((أدومه وإن قل)).
أيها المسلم، تمعّن ـ يا رعاك الله ـ في كلام ربك تعالى وهو يصف جنته فيقول تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15]. وتمعّن مرة أخرى في قوله تعالى في الحديث القدسي: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
لقد خلق الله تعالى الجنة، وأودع فيها من النعيم ما لا تتصوره الأعين ولا تتخيله العقول، وكل ذلك تكريمًا لك، فانظر في أيام صومك، انظر في أيام عطشك وظمئك، تصوّر قيامك بالطاعة كيف ستجد آثارها من النعيم بين يدي ربك يوم القيامة، واعلم أن نصبك وتعبك مخلوف، وعاقبتك حميدة، وفوزك كبير، حين يصوّر ذلك لك النبي فيقول: ((يؤتي بأبأس أهل الدينا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقول الله تعالى له: هل مر بك ضُر قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت بؤسًا قط، ما مر بي بؤس قط)).
واعلم ـ أيها الحبيب ـ أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. متفق عليه. وقد قال رسولك : ((في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من كذا آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن)) رواه البخاري. هذه ـ أيها الحبيب ـ أيام الجزاء لنصبك، أيام الوفاء لتعبك، أيام الراحة لمشقتك، فهي أيام مخلوفة، وغدًا بين يدي الله تعالى يتذاكر المحبون هذه الآثار، وهو المسؤول أن نكون وإياك أحدَ هؤلاء المتذاكرين.
وأخيرًا أيها الحبيب، انطلق في عيدك اليوم مبتهجًا، انطلق مستبشرًا، حلّق ـ يا رعاك الله ـ في عالم الأرواح، امض قدمًا لا يستطيع مخلوق أن يعيق هذه الفرحة، تجاوز ـ يا رعاك الله ـ هذه المرة عدوك بتقبيلك لأصحابك وجيرانك وأهلك، وانتبه أن يعكّر عليك الشيطان في يوم العيد هذه الفرحة فيقتضبها ويسلب رونقها، امض قدمًا فمن بينك وبينه سنون طواها الزمن من حرارة الفرقة يمكن لك أن تدملها اليوم مهما كانت تلك الفجوة، فقط ينبغي أن تعلم أنك أنت والشيطان اليوم في حرب، فمن ينتصر على الآخر؟ صلتك لأهلك وسلامك على أصدقائك دليل تفوّقك وعظمتك، فلا حرمك الله التوفيق.
ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4865)
عيد الفطر 1427هـ: العبودية
التوحيد
الألوهية
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
1/10/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الثقلين. 2- فضل العبودية. 3- العبودية صفة أنبياء لله. 4- دعوة الأنبياء أقوامهم إلى عبادة الله تعالى. 5- عاقبة الناكبين عن العبودية لله. 6- عبودية النبي لربه. 7- تردي حال المسلمين بتكالبهم على الدنيا. 8- التحذير من قطيعة الرحم. 9- نصائح للمرأة المسلمة. 10- الحث على صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ ونفسِي بِتَقوى اللهِ عزَّ وَجَلَّ، فَإِنها خَيرُ الزَّادِ لِيَومِ المَعَادِ، وَتَقَلَّلُوا مِنَ الدُّنيَا وَتَخَفَّفُوا مِن أَحمَالِهَا وَأَثقَالِهَا، فَإِنما هِيَ إِلى فَنَاءٍ وَنَفَادٍ، يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ اللهَ سبحانَه حِينَ خَلَقَ الخَلقَ وَأَوجَدَهُم في هذِهِ الدَّارِ فَإِنما خَلَقَهُم لأَمرٍ عَظِيمٍ وَأَوجَدَهُم لِغَايَةٍ جَلِيلَةٍ، وَحَمَّلَهُم أَمَانَةً ثَقِيلَةً ثَقِيلَةً، عَجِزَت عَن حَملِهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ وَأَشفَقْنَ مِنهَا، إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلْنَهَا وَأَشفَقْنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَإِنَّ مِن رَحمَتِهِ تَعَالى بِخَلقِهِ وَلَطِيفِ عِنَايَتِهِ بهم أَنْ حَدَّدَ لهم سبحانَه هذِهِ الأَمَانَةَ لِكَيلا يَضِلُّوا، وَبَيَّنَهَا لهم حتى لا يَضِيعُوا أَو يَتِيهُوا، فَقَالَ سبحانَه: وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعبُدُونِ ؛ وَمِن أَجلِ تحقِيقِ هذِهِ العِبَادَةِ وَالقِيَامِ بها حَقَّ القِيَامِ فَقَد سَخَّرَ لهم سبحانَه مَا في الأَرضِ جميعًا مِنهُ، وِبَيَّنَ لهم طَرِيقَ الخَيرِ وَرَغَّبَهُم فِيمَا عِندَهُ مِن أَنوَاعِ النَّعِيمِ المُقِيمِ، وَجَلَّى لهم سُبُلَ الشَّرِّ وَحَذَّرَهُم ممَّا أَعَدَّهُ لِمَن عَصَاهُ وَكَفَرَ بِهِ مِنَ الجَحِيمِ، قال سبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم فَلاَ تَجعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَإِن كُنتُم في رَيبٍ مِمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءكُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ فَإِن لم تَفعَلُوا وَلَن تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقنَا مِن قَبلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُم فِيهَا أَزوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُم فِيهَا خَالِدُونَ ، وقال تعالى: كَيفَ تَكفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُم أَموَاتًا فَأَحيَاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحيِيكُم ثُمَّ إِلَيهِ تُرجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا في الأَرضِ جَمِيعًا ثُمَّ استَوَى إِلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ العُبُودِيَّةَ للهِ تعالى هِيَ أَعلَى المَقَامَاتِ، وَهِيَ سِرُّ الوُجُودِ وَغَايَةُ الغَايَاتِ، لا صِفَةَ أَشرَفُ مِنها، وَلا وِسَامَ أَغلى مِنها، هِيَ تَاجُ الهَامِ وَالرُّؤُوسِ، وَزِينَةُ الرَّئِيسِ وَالمَرؤُوسِ، مَنِ اتَّصَفَ بها أَفلَحَ وَفَازَ وَسَعِدَ، وَمَن نَكَصَ عَنها خَابَ وَشَقِيَ وَتَعِسَ، حَقَّهَها بِلالٌ وَصُهَيبٌ وَسَلمَانُ فَسَبَقُوا إِلى الجَنَّةِ وَرَبِحَ بَيعُهُم وَشَرُفُوا بِصُحبَةِ نَبِيِّهِم، وَاستَكبرَ عَنهَا أَبو لهبٍ وَأَبو جَهلٍ وَالوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ فَتَبُّوا وَخَابُوا وَخَسِرُوا وَمَا أَغَنى عَنهُم جَمعُهُم وَمَا كَانُوا يَستَكبِرُونَ.
وَلِعِظَمِ أَمرِ العُبُودِيَّةِ للهِ وَجَلالَةِ قَدرِهَا عِندَهُ وَعُلُوِّ شَأنِهَا لَدَيهِ فَقَد وَصَفَ بها أَحَبَّ خَلقِهِ إِلَيهِ وَهُم أُنبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، وَنَعَتَهُم بها في أَشرَفِ الأَحوَالِ وَأَكرَمِ الهَيئَاتِ، قال سبحانَه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيرًا ، وقال: سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى ، وقال: أَلَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ ، وقال: ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبدًا شَكُورًا ، وقال: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمرَأَةَ نُوحٍ وَاِمرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحتَ عَبدَينِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَينِ ، وقال: ذِكرُ رَحمَةِ رَبِّكَ عَبدَهُ زَكَرِيَّا ، وقال: اصبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذكُرْ عَبدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، وقال: وَوَهَبنَا لِدَاوُودَ سُلَيمَانَ نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، وقال: وَاذكُرْ عَبدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: إِن هُوَ إِلا عَبدٌ أَنعَمنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسرَائِيلَ. وَبِالعُبُودِيَّةِ وَصَفَ اللهُ مَلائِكَتَهُ فقال: وَلَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَن عِندَهُ لا يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحسِرُونَ. وَبها وَصَفَ صَفوَةَ خَلقِهِ وَسَاكِني جَنَّتِهِ فقال: عَينًا يَشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفجِيرًا ، وقال: وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الأَرضِ هَونًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا.
وَلَمَّا كان رُسُلُ اللهِ وَأَنبِيَاؤُهُ هُم أَعلَمَ الخَلقِ بِهَذِهِ الغَايَةِ وَأَعرَفَ النَّاسِ بِرَبِّهِم فَقَد كَانَت حَيَاتُهُم كُلُّها للهِ وتحقيقًا لِلعُبُودِيَّة لَهُ، فَعَاشُوا لَهُ وَجَاهَدُوا في سَبِيلِهِ، وَدَعَوا إلى عِبَادَتِهِ وَصَبرُوا على الأَذى فِيهِ، وَبَذَلُوا أَنفُسَهُم لإِنقَاذِ أَقوَامِهِم وَمَحَضُوهُمُ النُّصحَ، وَسَعَوا لِتَعبِيدِهِم لِرَبِّهِم، فَمَا بُعِثَ مِنهُم أَحَدٌ إِلاَّ قال لِقَومِهِ: يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ ، وَلَقَد بَعَثنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنهُم مَن هَدَى اللهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا في الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ، وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلَ?هَ إِلاَّ أَنَا فَ?عبُدُونِ.
وَقَد قَصَّ اللهُ عَلَينَا في كِتَابِهِ قِصَصَ أُولَئِكَ الأَنبيَاءِ مَعَ أَقوَامِهِم وما أَجَابُوهُم بِهِ، وَبَيَّنَ لَنَا جَزَاءَ مَن كَذَّبَ مِنهُم وَمَا عَاقَبَهُم بِهِ، لِنَتَّقِيَ شَرَّ العَاقِبَةِ وَنَحذَرَ سُوءَ المَصِيرِ، قال سبحانَه: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِن مَسَاكِنِهِم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعمَالَهُم فَصَدَّهُم عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُستَبصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرعَونَ وَهَامَانَ وَلَقَد جَاءهُم مُّوسَى بِالبَيِّنَاتِ فَاستَكبَرُوا في الأَرضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاً أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنَا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، لَقَد كَانَ محمدُ بنُ عَبدِ اللهِ وَهُوَ أَفضَلُ الخَلقِ وَأَعلَمُهُم بِاللهِ، كان في مُقَدِّمَةِ العَابِدِينَ المُوَحِّدِينَ، الزَّاهِدِينَ في العَاجِلَةِ المُسَابِقِينَ إلى الآخِرَةِ، زَهِدَ في الدنيا حَقَّ الزُّهدِ، وَتَجَافى عَن دَارِ الغُرُورِ وَرَغِبَ عَنهَا، وَتَقَلَّلَ مِن مَتَاعِهَا وَسَأَلَ رَبَّهُ الكَفَافَ مِن عَيشِهَا، بَل وَحَذَّرَ مِنهَا وَقَلَّلَ مِن شَأنِهَا، وَلَمَّا خَيَّرَهُ رَبُّهُ بَينَ أَن يَعِيشَ فِيهَا عِيشَةَ المُلُوكِ أَو أَن يَكُونَ عَبدًا اِختَارَ الآخِرَةَ عَلى الأُولى، وَآثَرَ البَاقِيَةَ عَلى الفَانِيَةِ، فَمَا شَبِعَ مِن طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا حتى قُبِضَ، وَكَانَ يَبِيتُ اللَّيَاليَ المُتَتَابِعَةَ وَأَهلُهُ طَاوِين لا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكثُرُ خُبزِهِمُ الشَّعِيرَ، بَل إِنَّهُ لم يَشبَعْ مِن ذَلِكَ الشَّعِيرِ، وَلم يَأكُلْ على خِوَانٍ حتى مَاتَ، ولم يَأكُلْ خُبزًا مُرَقَّقًا حتى مَاتَ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَينِهِ قَطُّ، وَكَانَ يَظَلُّ اليَومَ يَتَلَوَّى مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَملأُ بَطنَهُ، هَكَذَا عَاشَ خَيرُ عِبَادِ اللهِ وَصَفوَتُهُ مِن خَلقِهِ، هَكَذَا عَاشَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ المُتَّقِينَ، عَاشَ عَبدًا وَمَاتَ عَبدًا، أَحَبَّ المَسَاكِينَ وَسَأَلَ الحَشرَ مَعَهُم، طَلَّقَ الدُّنيَا طَلاقًا بَائِنًا، وَاجتَهَدَ في الآخِرَةِ اجتِهَادًا عَظِيمًا، قَامَ حَتى تَفَطَّرَت قَدَمَاهُ، وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتى شُجَّ وَجهُهُ وَكُسِرَت رَبَاعِيَتُهُ، وَبَذَلَ نَفسَهُ وَمَالَهُ وَوَقتَهُ للهِ، أَكَلَ القَدِيدَ وَلَبِسَ المُرَقَّعَ، وَعَاشَ في حُجَرٍ مِنَ الطِّينِ، وَلم يَكُنْ لَهُ حَرَسٌ وَلا حُجَّابٌ، وَمَعَ هَذَا هَابَتهُ الدُّنيا وَرَعَبَت مِنهُ القُلُوبُ، وَقَضَت جُيُوشُهُ على مَعَاقِلِ الشِّركِ وَدَكَّت مَوَاطِنَ الكُفرِ، وما ذَلِكَ إلاَّ لأَنَّهُ عَاشَ العُبُودِيَّةَ الكَامِلَةَ في أَبهى صُوَرِهَا وَأَجلَى مَعَانِيهَا.
وَلم يَزَلْ أَصحَابُهُ عَلَى هَديِهِ وَطَرِيقَتِهِ، فَفَتَحُوا مَشَارِقَ الأَرضِ وَمَغَارِبَهَا، وَقَضَوا على كُبرَى دُوَلِهَا وَأَخضَعُوا أَعتى ممالِكِها، وَجَاهَدُوا لِتَخلِيصِ العِبَادِ مِن عِبَادَةِ العِبَادِ إلى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ، وَبَذَلُوا مَا في وُسعِهِم لإِخرَاجِ النَّاسِ مِن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعَةِ الآخِرَةِ، وَكَانَتِ الدُّنيا تَعرِفُ مَن هُمُ المُسلِمُونَ وَأَيّ شَيءٍ هُمُ المُجَاهِدُونَ، لماذَا؟ لأَنهم حَقَّقُوا الغَايَةَ مِن خَلقِهِم وَعَرَفُوا سِرَّ وُجُودِهِم، لماذا؟ لأَنهم سَعَوا لِمَرضَاةِ رَبِّهم وَعَاشُوا حَيَاةَ العُبُودِيَّةِ لَهُ، فَاستَغنَوا بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَرخَصُوا لأَجلِهِ النَّفسَ وَالنَّفِيسَ، وَهَجَرُوا لِلجِهَادِ في سَبِيلِهِ الأَموَالَ وَالأَهلَ وَالأَوطَانَ، ذَلُّوا لَهُ فَذَلَّ لهم كُلُّ شَيءٍ، وَاستَعَانُوا بِهِ فَلَم يُعجِزْهُم شَيءٌ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ فَلَم يَخشَوا مِن شَيءٍ، وَفَرِحُوا بِمَا يُحِبُّهُ فَلَم يَأسَفُوا مِنَ الدُّنيَا عَلَى شَيءٍ، هَكَذَا كَانُوا وَهَكَذَا أَكرَمَهُم رَبُّهُم.
ثم لم تَزَلِ الأُمُورُ مِن بَعدِهِم في تَنَاقُصٍ وَتَرَاجُعٍ وَالأَهوَاءُ تَتَشَعَّبُ بِالنَّاسِ في كُلِّ وَادٍ حتى وَصَلنَا إلى عَصرِنَا هذا الذي بَدَت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ، وَتَشَبَّثَ النَّاسُ بِحَبلِ الدُّنيَا المَهِينِ، فَتَعَلَّقَ قَومٌ بِالمَنَاصِبِ وَالرِّئَاسَاتِ، وَطَلَبَ آخَرُونَ المَالَ وَالثَّرَوَاتِ، وَاستَحكَمَ التَّنَافُسُ على الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ. ثم لم يَزَلِ الشَّيطَانُ حتى أَخرَجَ أُنَاسًا مِن بني جِلدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلسِنَتِنَا، شَكَّكُوا النَّاسَ في دِينِهِم، وَزَعزَعُوا لَدَيهِم أَقوَى مُعتَقَدَاتِهِم، وَأَدخَلُوا عَلَيهِمُ الرِّيبَةَ في رَاسِخِ مَبَادِئِهِم، وَقَلَّلُوا مِن تَمَسُّكِهِم بِعَظِيمِ قِيَمِهِم، فَخَفَت نُورُ العُبُودِيَّةِ مِن الأَعيُنِ، وَجَفَّ ماؤُها من القُلُوبِ، وَعَمِيَتِ الأَبصَارُ وَزَاغَتِ البَصَائِرُ، وَحُقَّتِ التَّعَاسَةُ على فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ، وَصَدَقَ فِيهِم قَولُ الحَبِيبِ : ((تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ وَعَبدُ الدِّرهَمِ وَعَبدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعطِيَ رَضِيَ، وَإِن لم يُعطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انتقشَ)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ، اِتَّقُوا رَبَّكُم وَاسعَوا فِيمَا خُلِقتُم لأَجلِهِ، وَلا تَغتَرُّوا بِكَثرَةِ المُتَسَاقِطِينَ الهَالِكِينَ، فَإِنَّكُم في زَمَنٍ ضَلَّ فِيهِ جمهُورُ النَّاسِ عَنِ الغَايَةِ العُظمَى مِن خَلقِهِم، وَتَنَكَّبُوا الصِّرَاطَ المُستَقِيمِ وَاتَّبَعُوا السُّبُلَ، وَابتُلِيَ فِيهِ المُتَمَسِّكُونَ بِصَوَارِفَ وَقَوَاطِعَ وَمَوَانِعَ وَصَوَادَّ وَمُنَغِّصَاتٍ وَإِرجَافَاتٍ وَشُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ، أَلا فَلا يُزَهِّدَنَّكُم في دِينِكُم كِتَابَةُ مَارِقٍ في صَحِيفَتِهِ، وَلا استِهزَاءُ فَاسِقٍ في مَسرَحِيَّتِهِ، بَل وَلا زَلَّةُ عَالمٍ في فَتوَاهُ أَو شُذُوذُهُ في رَأيِهِ، فَإِنَّمَا تُعُبِّدتُم بِمَا في كِتَابِ اللهِ وَبما جَاءَ بِهِ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، وَهُوَ لم يمُتْ حتى بَلَّغَ البَلاغَ المُبِينَ، وَاللهُ سَائِلُكُم: مَاذا أَجبتُمُ المُرسَلِينَ؟ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:6-9]، قال : ((إِنَّهُ لم يَكُنْ نبيٌّ قَبلِي إِلاَّ كان حَقًّا عَلَيهِ أَن يَدُلَّ أُمَّتَهُ على مَا يَعلَمُهُ خَيرًا لهم وَيُنذِرَهُم مَا يَعلَمُهُ شَرًّا لهم، وَإِنَّ أُمَّتَكُم هَذِهِ جُعِلَ عَافِيتُها في أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ شَدِيدٌ وَأُمُورٌ تُنكِرُونها، وَتَجِيءُ فِتَنٌ فَيُرَفِّقُ بَعضُها بَعضًا، وَتَجِيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤمِنُ: هَذِهِ مهلِكَتي، ثم تَنكَشِفُ، وَتَجِيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَن أَحَبَّ مِنكُم أَن يُزَحزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدخَلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَلْيَأتِ إِلى النَّاسِ الذي يُحِبُّ أَن يُؤتَى إِلَيهِ)) ، وَقَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ)) ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: ((المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ)) ، وَقَال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَا مِن نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أُمَّةٍ قَبلِي إِلاَّ كان لَهُ مِن أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصحَابٌ يَأخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَتَقَيَّدُونَ بِأَمرِهِ، ثم إنها تَخلُفُ مِن بَعدِهِم خُلُوفٌ يَقُولُونَ ما لا يَفعَلُونَ وَيَفعَلُونَ مَا لا يُؤمَرُونَ، فَمَن جَاهَدَهُم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِقَلبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ)) ، وَعَن حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ رضي اللهُ عنه قال: كان الناسُ يَسأَلُونَ رَسُولَ اللهِ عَنِ الخَيرِ، وَكُنتُ أَسأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَن يُدرِكَني، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بهذا الخَيرِ، فَهَل بَعدَ هَذَا الخَيرِ مِن شَرٍّ؟ قال: ((نَعَمْ)) ، قُلتُ: وَهَل بَعدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِن خَيرٍ؟ قال: ((نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ)) ، قُلتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قال: ((قَومٌ يَهدُونَ بِغَيرِ هَديِي تَعرِفُ مِنهُم وَتُنكِرُ)) ، قُلتُ: فَهَل بَعدَ ذَلِكَ الخَيرِ مِن شَرٍّ؟ قال: ((نَعَمْ، دُعَاةٌ على أَبوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجابَهُم إِلَيهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)) ، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُم لَنَا، قال: ((هُم مِن جِلدَتِنَا وَيَتَكَلَّّمُونَ بِأَلسِنَتِنَا)) ، قُلتُ: فَمَا تَأمُرُني إِنْ أَدرَكَني ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَلزَمُ جماعةَ المُسلِمِينَ وَإِمَامَهُم)) ، قُلتُ: فَإِنْ لم يَكُنْ لهم جماعَةٌ ولا إِمَامٌ؟ قال: ((فَاعتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَو أَن تَعَضَّ بِأَصلِ شَجَرَةٍ حتى يُدرِكَكَ المَوتُ وَأَنتَ على ذَلِكَ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاء الَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالمِينَ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومِ يُوقِنُونَ ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاء مَا يَحكُمُونَ وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا يُهلِكُنَا إِلاَّ الدَّهرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِن عِلمٍ إِن هُم إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُم إِلاَّ أَن قَالُوا ائتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحيِيكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يَجمَعُكُم إِلى يَومِ القِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ وَللهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَومَئِذٍ يَخسَرُ المُبطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدعَى إِلى كِتَابِهَا اليَومَ تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيكُم بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَستَنسِخُ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَم تَكُن آيَاتي تُتلَى عَلَيكُم فَاستَكبَرتُم وَكُنتُم قَومًا مُجرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيبَ فِيهَا قُلتُم مَّا نَدرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحنُ بِمُستَيقِنِينَ وَبَدَا لَهُم سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُون وَقِيلَ اليَومَ نَنسَاكُم كَمَا نَسِيتُم لِقَاء يَومِكُم هَذَا وَمَأوَاكُم النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذتُم آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا فَاليَومَ لا يُخرَجُونَ مِنهَا وَلا هُم يُستَعتَبُونَ فَلِلَّهِ الحَمدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبرِيَاء في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِصَالحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ، إِنَّكُم في يَومٍ عَظِيمٍ وَعِيدٍ كَريمٍ، فَاعرِفُوا لَهُ مَكَانَتَهُ وَاقدُرُوهُ حَقَّ قَدرِهِ، وَتَزَاوَرُوا وَتَقَارَبُوا، وَأَحِبُّوا لإخوَانِكُم مَا تُحِبُّونَهُ لأَنفُسِكُم، وَاعفُوا وَاصفَحُوا، ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضلِ مِنكُم وَالسَّعَةِ أَن يُؤتُوا أُولي القُربَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَليَعفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللهُ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
إِنَّ التَّعَلُّقَ بِالدُّنيا قَد وَصَلَ بِبَعضِ الناسِ إلى أَن يمتَلِئَ قَلبُهُ غَيظًا وَحِقدًا عَلَى أَقَارِبِهِ وَذَوي رَحِمِهِ، فَيُقَاطِعَهُم وَيَهجُرَهُم وَيُعَادِيَهُم، بَل وَيُخَاصِمَهُم في المحاكم وَيُقَاضِيَهُم، وَيَتَمَحَّلَ الحِيَلَ لإِيذَائِهِم وَيُدَبِّرَ الخِطَطَ لِتَنغِيصِ عَيشِهِم، كُلُّ ذَلِكَ مِن أَجلِ أَمرٍ تَافِهٍ حَقِيرٍ، شِبرٍ مِن أَرضٍ أَو قَليلٍ مِن حُطَامٍ أَو وِشَايَةِ لِئَامٍ، أَو زَلَّةِ لِسَانٍ أَو شِجَارٍ بَينَ أَطفَالٍ أَو نِسَاءٍ، فَتَمُرُّ الأَشهُرُ وَالسَّنَوَاتُ وَالقُلُوبُ تَغلِي، وَتَتَتَابَعُ الأَعوَامُ وَالأَفئِدَةُ تَتَقَلَّبُ، وَلا يَستَرِيحُ أَحدُهُم إِلاَّ إِذَا أَرغَى وَأَزبَدَ وَآذَى وَأَفسَدَ، أَو نَشَرَ المَعَايَبَ وَأَذَاعَ المَثَالِبَ، أَو سَرَدَ القَبَائِحَ وَذَكَرَ الفَضَائِحَ، وَتِلكَ ـ لَعَمرُ اللهِ ـ مِن دَلائِلِ الصَّغَارِ وَاللُّؤمِ وَخِسَّةِ الطَّبعِ وَقِلَّةِ المَروءَةِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الأَدِلَّةَ على فَضلِ صِلَةِ الرَّحِمِ وَخَطَرِ قَطعِها مَعلُومَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، قال تعالى: فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا في الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمَى أَبصَارَهُم ، وقال : ((مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، وقال: ((مَن أَحبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَيُنسَأَ لَهُ في أَجلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، وقال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ)) ، قال سُفيَانُ: يَعني قَاطِعَ رَحِمٍ.
فَهَنِيئًا لِمَن أَعَانَ على صِلَتِهِ بِقَبُولِ العُذرِ وَالصَّفحِ عَنِ الزَّلاَّتِ وَالتَّغَاضِي عَنِ الكَبَوَاتِ وَالهَفَوَاتِ، إِنْ أَحسَنَ فَلا يَمُنُّ، وَإِنْ أَعطَى فَلا يَضِنُّ، لا يَعرِفُ السِّبَابَ وَلا يُكثِرُ العِتَابَ، يَتَجَنَّبُ المِرَاءَ وَالجِدَالَ، وَيُحسِنُ الأَقوَالَ وَالفِعَالَ، يُشَارِكُ أَقَارِبَهُ آلامَهُم وَآمالَهُم، وَيُشَاطِرُهُم أَفرَاحَهُم وَأَترَاحَهُم، يَنصَحُ وَلا يَفضَحُ، وَيَستُرُ وَلا يُعِيِّرُ، وذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أيها المسلمون، وَثَمَّةَ كلمةٌ أخيرةٌ نخُصُّ بها أمهاتِنا والأخواتِ، ندعوهن فيها إلى التَّجَمُّلِ بِالحَيَاءِ وَالتَّزَيُّنِ بِالسِّترِ وَالحَذَرِ مِنَ البَذَاءَةِ وَالصَّفَاقَةِ، فَإِنَّ المجتمعاتِ ما عانتِ المصائبَ والمحنَ والفِتنَ إلا يَومَ ضَاعَ منها الحياءُ، فَاتَّقِينَ اللهَ يَا إِمَاءَ اللهِ، اعبدُنَ رَبَّكُنَّ وَأَطِعْنَ أَزوَاجَكُنَّ، وَحَافِظْنَ على الصَّلاةِ وصُمْنَ شَهرَكُنَّ، وَالزَمْنَ قَعرَ بُيُوتِكُنَّ، ورَبِينَ أبناءَكُنَّ وَبَنَاتِكُنَّ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَاحذَرْنَ المَلابِسَ العَارِيَةَ وَالفَاتِنَةَ، مِنَ العَبَاءَاتِ المُزَركَشَةِ وَالمُخَصَّرةِ، وَالثِّيابِ القَصِيرةِ والمَملُوءَةِ بِالفَتَحَاتِ، والأَنقِبَةِ الخَدَّاعَةِ والبَرَاقِعِ الخَلاَّبَةِ التي تُظهِرُ الخُدُودَ والوَجَنَاتِ وَتَشُفُّ عَنِ الفَمِ والشِّفَاهِ، فَإِنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ، لا يُخدَعُ بِمثلِ هذِهِ الملابسِ التي ظاهرُها السِّترُ والتَّحشُّمُ وباطنُها التَّعَرِّي والفِتنَةُ، وَإِيَّاكُنَّ وَالاغتِرَارَ بِمَا يُدَبِّرُهُ لَكُنَّ الفَسَقَةُ وَالفُجَّارُ الذين يَزعُمُونَ أَنَّكُنَّ في هذا المجتمعِ مَظلُومَاتٌ أَو مَهضُومَاتٌ، أو أَنَّكُنَّ طَاقَاتٌ مُعَطَّلَةٌ أَو أَعضَاءُ مَشلُولَةٌ، ثم يُظهِرُونَ التَّبَاكِي عَلَيكُنَّ وَالحِرصَ على مَصلَحَتِكُنَّ بِكِتَابَاتٍ خَدَّاعَةٍ وَمَقَالاتٍ بَرَّاقَةٍ، وَهُم في الحَقِيقَةِ عُبَّادُ شَهَوَاتٍ وَأَسرَى نَزَوَاتٍ، يُرِيدُونَ التَّمَتُّعَ بِالمَرأَةِ متى شَاؤُوا وَأَنَّى أَرَادُوا، فَالحَذَرَ الحَذَرَ، فَإِنها خِطَطٌ طُبِّقَت فِيمَا حَولَنَا، وَاكتَوَت بِنَارِها أَخَوَاتٌ لَنَا، وَعَانَت مِن مَرَارَتِها مُجتَمَعَاتٌ غَيرَ بَعِيدةٍ عَنَّا، وَالسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَن لم يَتَّعِظْ إِلاَّ بِنَفسِهِ،، وَإِنَّهُ لا وَظِيفَةَ أَشرَفُ وَلا أَعظَمُ وَلا أَكرَمُ لِلمَرأَةِ مِنَ القَرَارِ في بَيتِها لِتَربِيَةِ أَبنَائِهَا وَبَنَاتِها وَطَاعَةً لأَمرِ رَبِّهَا القَائِلِ: وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ.
عِبَادَ اللهِ، لا تَنسَوا صِيَامَ سِتِّ شَوَّالٍ، وَبَادِرُوا بها وَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن صَامَ رَمَضَانَ ثم أَتبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شَوَّالٍ كان كَصَومِ الدَّهرِ)). ثم عَلَيكُم بِالاستِقَامَةِ على العَمَلِ الصَّالحِ وَالثَّبَاتِ على الطَّاعَةِ، وَإِيَّاكُم وَالنُّكُوصَ وَالتَّرَاجُعَ بَعدَ التَّوبَةِ.
(1/4866)
عيد الفطر 1427هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
1/10/1427
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- مظهر الوحدة الإسلامية في العيد. 3- حقوق الأخوة الإيمانية. 4- التحذير من القطيعة. 5- فضائل صلة الأرحام. 6- أهمية الصلاة. 7- التحذير من المعاصي. 8- نصائح للفتاة المسلمة. 9- التحذير من المكاسب الخبيثة. 10- التحذير من الاغترار بالدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي تترى.
ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضّله الله وشرفه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل الإسلام، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبروه على ما هداكم من نعمة الإسلام، فهذا يوم توّج الله به الصيام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام، قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
العيد وقت لتنزّل الخيرات والبركات واستجابة الدعوات، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السّكك ينادون بصوتٍ تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا، أن توفيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم يجتمع المسلمون لصلاة العيد، وحينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى وأروع صورها، فيجتمع في العيد الصغير والكبير والذكر والأنثى والرئيس والمرؤوس، لا فارق بينهم على اختلاف اللغات الألوان.
هذا اليوم يوم مشهود من أيام المسلمين، يوم عيد وفرحة وسرور، فهو ـ وربي ـ فرصة لإزالة الضغائن والأحقاد من القلوب، فدعوا الضغائن ولا تكن من شأنكم.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك إشاعة الابتسامة والسلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه. ليقم كل واحد منكم ـ يا عباد الله ـ بحقوق الوالدين، فإن حقهما عظيم، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا ، فمن كان منكم قد أغضب والديه فليرجع إليهما، وليبك تحت أقدامهما، فلا ترجى جنة بغضبهم.
كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه من حيث الصلة والبر والإحسان، وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم وضررها كبير، يحل بصاحبها العقاب العاجل قبل الآجل، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ.
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم ويخاصمهم بل يقاضيهم ويعاديهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام، من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام أو وشاية غِرّ لئيم أو زلة لسان أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعَمر الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش.
في حادثة الإفك المشهورة التي اتهم فيه العرض النبوي وعرض أبي بكر الصديق وآل الصديق بأبشع تهمة يرمى بها الناس، وبعد أن نزلت البراءة من السماء ـ والله ينصر المؤمنين ـ ماذا كان موقف الصديق رضي لله عنه؟ قال: والله، لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان مسطح رضي لله عنه رجلاً فقيرًا من أقرباء أبي بكر، وكان الصديق ينفق عليه، فلما وقعت فتنة الإفك كان مسطح رضي لله عنه ممن تكلموا في عرض عائشة رضي لله عنها.
وظلم ذوي القربى أشد مرارة من وقع الحسام المهند
بعد حلف أبي بكر بعدم الإنفاق عليه نزل القرآن يتلى إلى يوم الدين: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ما أشده من موقف وأصعبه على النفوس ولكنه الإيمان، قال أبو بكر بعد أن سمع هذه الآية: بلى والله، أحب أن يغفر الله لي، فعفا من مقدرة وأرجع النفقة على قريبه.
أمة الإسلام إن فضائل الصلة وآثارها الخيرة لا تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ ، وهي ثمرة من ثمار الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) ، ويقول أيضًا: ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قاطع)).
فحق على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة وهذا الوعيد يقرع سمعَه قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحدًا يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبدًا يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة أو الاتصال، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) ، وجاء رجل فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)).
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جمعاء.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، أذكركم بوصية الرسول لكم في آخر لحظات حياته: ((الصلاة الصلاة)) ، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الإسلام، وصلة بينكم وبين الرحمن، فحافظوا عليها في أوقاتها جماعةً، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإنها علامة حب الإسلام.
أيها المسلمون إياكم والربا؛ فإنه يمحق البركة ويدخل صاحبه النار، فعنه : ((الربا نيف وسبعون بابًا، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والزنا فإنه عارٌ ونارٌ، وعذاب وذلة وصغار، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
أيها الشباب والفتيات، إن الصداقات والحب على وجه اللقاء والمكالمات والخيانة بين الجنسين محرم في الإسلام، قال تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ، فالحذار من الخيانة، واعلموا أن المكالمات والمواعدات معصية عظيمة وهي وسيلة الزنا ومقربة إليه، والله يقول: وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا ، ولم يقل فقط: ولا تزنوا، بل كلّ ما قرب للزنا ووسيلة إليه فهو محرم.
أيها الشاب، اتق الله، فما تفعله ببنات الناس اليوم قد يقضيه الله من عرضك غدا؛ من أختك، من زوجتك، من بنتك، والحياة سلف ودين، فاحذر من دروب الغواية. وهل ترضى أن يفعل شاب آخر بأحد من قريباتك ما تفعله ببنات الناس ولو كانت هذه الفتاة خبيثة؟!
واعلمي ـ أيتها الفتاة ـ أن من يخدعك اليوم بمعسول الكلام ويسمعك أجمل العبارات لهو نذل خسيس لا يتشرف بك غدا، فإياك والعار ودروب العار، وإياك والحرام وسبل الحرام، وابتعدي عن هذا الطريق، وعليك بالصالحات، واحذري قرينات السوء الذين يشجعون على هذا الطريق، فما مصيره إلا الخراب، واحذري الهاتف والجوال، واحفظي عرض أبيك وإخوانك وأعمامك، واجعلوا رؤوسهم مرفوعة بطهرك وعفافك، ولا تحومي أو تقربي من الردى فتردي. وإن كنت قد تورطت بشيء من هذا في أي مرحلة منه فصارحي أبويك خير من التمادي فيه.
واعلموا ـ أيها الشباب ويا أيتها الفتيات ـ أنكم وإن استترتم عن أعين الخلق ومسامعهم فأين الله؟! ألم تعلموا أن الله رقيب عليكم؟! ألم تعلموا أن معكم من الملائكة من يحصي عليكم؟! فاجعلوا الله عظيما في قلوبكم.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل: علي رقيب
ولا تَحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يَخفى عليه يغيب
عباد الله، وإياكم والمكاسب المحرمة من الرشاوى وأموال الضعفاء والأيتام وأوقاف المسلمين والغش؛ فإن ذلك ما خالط مالاً إلا أفسده، ولا دخل بيتًا إلا دمره ونكده. كم من الناس لا يتورع في الكسب الحلال، بل يلجَأ إلى ظلم النّاس بالشّتم والقذف وشهادة الزّور والحلف الكاذب والضرب والقتل لِيحصّلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدّون تحصيل ذلك شرفًا وربحًا، وهو في الحقيقة خسة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن المفلسَ من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار)). فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليمًا.
احذروا الركون إلى الدنيا وكفران النعم؛ فإنكم تعيشون نعمة الأمن والصحة والغنى في الوقت الذي يُتَخَطف الناس من حولكم في حروب طاحنة ومجاعات قاتلة وأمراض فتاكة، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
اشتهت زوجة المعتمد بن عباد ـ أحد ولاة الأندلس ـ أن تمشي في الطين وتحمل القرب، فأمر المعتمد أن ينثر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك لتخوض فيه زوجته تحقيقًا لشهوتها, وتجري السنة الإلهية وتتهاوى حصون الإسلام في الأندلس بسبب اللهو والغفلة والإغراق في الشهوات, ليؤخذ المعتمد أسيرا إلى أغمات وتبقى بناته يتجرعن كأس الفقر بعد الغنى والذلة بعد العزة يغزلن للناس يتكسبن، حتى إذا علم المعتمد بذلك تمثل يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك فِي الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) ، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته.
وتفكروا فيمن صلى معكم في سنين خلت وأيام مضت في هذا المكان من الأقرباء والمعارف والخلان، كيف اخترمتهم المنايا وأتاهم أمر الله، فإن ما نزل بهم ملاقيكم، وستذوقون طعم الموت الذي ذاقوه، فأحسنوا العمل، وأقصروا الأمل، تنجوا من عذاب عظيم، وتفوزوا بالنعيم المقيم.
أعاد الله عليَّ وعليكم وعلى المسلمين من بركات هذا العيد، وجعلنا في القيامة من الآمنين، وحشرنا تحت لواء سيد المرسلين عليه الصلاة من رب العالمين.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبي الهدى والرسول المجتبى، فقد أمركم مولاكم بذلك في محكم كتابه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
(1/4867)
وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, مواعظ عامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
28/9/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفضل الله على عباده في رمضان. 2- محاسبة المؤمن نفسه في ختام شهر رمضان. 3- الحث على الحسنات بعد الحسنات. 4- التحذير من السيئات بعد الحسنات. 5- من أحكام زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بدوامِ طاعته والحذر من معصيته.
أيّها المسلمون، لقد ولَّى شهر الصوم بأوقاتِه، وتفضَّل عليكم ربُّكم فيه ببركاته وخيراته، وأعانكم ووفَّقكم فيه للصَّالحات، وحفِظكم فيه من الموبِقات، وعجَّل لكم من الثواب، وادَّخر لكم أكملَ الجزاء في دارِ المآب، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ((كلُّ عملِ ابن آدَم له إلاّ الصيام فإنّه لي وأنا أجزي به)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولم يبقَ منَ الشّهر المبارك إلاَّ القليلُ مِن زمانِه والخاتمةُ مِن أوانِه، والمؤمنُ هنا يحاسِب نفسَه فيما عمِل، فإن أحسن حمِد ربَّه على إعانته وشكره على نعمته، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وثبتَ على الهدايةِ والاستقامة ولم يَزِغ يمينًا ولا شمالا، وفرِح بما قام به من صالح العمل، وخاف أن يُردَّ عليه عمله؛ لما عسى أن يكون أصابه من الخلل، فهو بين الخوف والرجاء، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسولَ الله، أهو الذي يسرِق ويزني؟ قال: ((لا يا ابنةَ الصديق، هو الذي يصلي ويصوم ويتصدَّق ويعمل الصالحات ويخاف أن لا يقبَل منه)). فالمحسن يتبِع الحسنة حسنات، ولا يغشَى المحرَّمات، ومَن أساء فيما سَلَف فباب التوبة مفتوح وطرُق الخيرات مُيسَّرة والهداية بيِّنةُ المعالم واللهُ يفرح بتوبة عبدِه وبإقباله عليه، ولا يهلِك على الله إلا من خاب وخسِر، والأعمال بالخواتيم. فاختموا شهركم ـ يا عباد الله ـ بالصالحات، واحذَروا التفريط وارتكابَ المحرمات، واعلموا أن عدوَّكم الشيطان يتربَّص بكم ليجعل الأعمال هباءً منثورا؛ إذ كانت الشياطين في رمضان مسلسَلَة مأسورة، فادحَروا الشياطينَ بالاعتصام بالله ودوام طاعتِه واجتناب معصيته، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ [الحجر:42].
ألا وإن الحسناتِ بعد الحسنات زيادةُ ثوابِ الله وفوزٌ وفلاح وخير وصلاح وكفّارة للآثام، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وعن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله، قل في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم.
ألا وإن المعصيةَ بعد الطاعاتِ تُنقِص ثوابها أو تُبطلها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فلا تتبَّدلوا بعد رمضان العصيانَ بالإحسان واللغو والباطلَ بالقرآن والمحرّمات بالصالحات، قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]. ولا تغترّوا ـ عبادَ الله ـ بالصّحَّة ولا بالأموال والأولادِ وامتداد الأعمار وسرابِ الآمال، فإنَّ أمر الله يأتي بغتة، فكم من مدركٍ يومًا وعامًا لم يستكمله، وكم من مؤمِّلٍ لم يدرِك أمله، وكم من مغرورٍ بشهواتِ الدنيا حيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مؤجِّلٍ للتوبة فقصِمَ قبل نَيلها.
فكونوا ـ عباد الله ـ من المسارعين إلى الخيراتِ المبتعِدين عن المعاصي والمحرَّمات، ولا تغترّوا بهذه الحياة، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر:54-59].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآن العظيم، ونَفَعَني وإياكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقولِه القويم. أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروهُ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله رَبِّ العَالَمين، الرَّحمَن الرَّحيمِ، مالِكِ يَومِ الدِّين، وَأَشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لاَ شريكَ له القويّ المتين، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عبادَ الله، إنَّ ربَّكم يقول جلّ وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14، 15]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18].
أيّها المسلمون، كان السلف رضي الله عنهم يعتنون برمضان، ويسألون الله زمنًا طويلا أن يبلِّغهم رمضان، ثم إذا انقضى سألوا الله زمنًا طويلا أن يتقبَّل منهم رمضان؛ لأنّه حسنة من الحسنات وفضلٌ من الله أنزل فيه الخير والبركات، من حُرِم هذا الشهر فقد حرِم الخير، ومن وُفِّق فيه فقد وفِّق لكل خير.
عباد الله، قد شرع الله زكاةَ الفطر للصائم من اللغو والرفث وإحسانًا للفقراء وتحقيقًا للتكافل الاجتماعي بين المسلمين، ففي الحديث: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من بر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أَقِط أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب على الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير والكبير من المسلمين. ويجزئ عن هذه الأصناف ما يقتاتُه أهل كلِّ بلدٍ من الحبوب التي يقتاتونها والتي يدَّخرونها، فإن هذا يجزئ في إخراجها، وهي صاع من هذا المقدار أو ما يعادله مما يقتاته كلُّ أهل بلد. ووقت إخراجها قبل صلاة العيد، وله أن يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين. ولا يجوز أن تخرَج دراهم.
فيا عباد الله، اعملوا بسنَّة النبي ، واختموا شهرَكم بخيرِ ما تقدرون عليه، فإنَّ الله عز وجل شكورٌ حليم، يقبل القليلَ من العباد، ويثيب عليه الكثير.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد...
(1/4868)
عيد الفطر 1427هـ
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, المسلمون في العالم, مواعظ عامة
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
1/10/1427
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة العيد. 2- نظرة في أحداث العام الماضي. 3- ذم الاستهزاء بالدين وحملته. 4- المستقبل للإسلام. 5- أمن المجتمع. 6- نصائح للزوج. 7- نصائح للمرأة المسلمة. 8- من آداب العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله سبحانه وتعالى، وداوموا شكره والزموا طريق طاعته تفلحوا.
مضت أيام الصيام والقيام، وقد كشفت عن ساجد وذاكر، وآخر في لهوه سادر، فلا ذا بقي له أنس سهراته، ولا ذاك آنس تعب صلاته، فيا فوز المجتهد المبادر، ويا حسرة الغافل السادر، مَنْ عَمِل صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبيدِ.
العيد استمرار على العهد وتوثيق للميثاق، فيا من وفى في رمضان على أحسن حال لا تغير في شوال، ويا من أدرك العيد عليك بشكر المنعم والثناء عليه ولا تنقض غزلاً بعد قوة وعناء، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92]. العيد بقاء على الخير وثبات على الجادة واستمرار في الطريق.
العيد تأكيد لتميز المسلم عن المشرك والكافر واستغنائه بالشرع المبارك عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية، ((قد أبدلكما الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) ، ((هذا عيدنا)). خير مما هم فيه من اللهو واللعب مع الغفلة والإعراض، أعيادنا لا تؤكد الغفلة بل هي مزيد اتصالٍ بالله، نفحة قدسية ورحمة إلهية، نفتتحه بالتكبير والذكر والصلاة والشكر لله على تمام عدة الصيام، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ البقرة:185].
أعيادنا ـ أهل الإسلام ـ سماوية ليست أرضية، لم تبن على أمجاد شخصية وتقاليد باليه, لسنا بولادة عظيم أو شفائه من مرض أو تربّعه على عرش الملك نجعل ذلك اليوم عيدًا. أعيادنا يشترك في تحقيق مناسباتها عامة المسلمين؛ ولذا تكون الفرحة به فرحة عامة حقيقية. إن عبادة الصيام ومغالبة الأهواء والشهوات في هذا الشهر يعتبر نصرًا شارك في القيام به كل مسلم، وفرح بتحقيقه كل مؤمن، فهو حقيق بأن يفرح، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا. لا عيد عندنا للأم ولا للزيتون ولا للحب ولا للتحرير ولا للوطن، هما عيدان يعودان في السنة لا ثالث لهما: الفطر والأضحى. عن أنس قال:قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال : ((إن الله قد أبدلكما بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
العيد فاصل ضروري في حياة المسلم يروح به عن نفسه من ثقل العمل المتتابع الجاد؛ لتعود نفسه بعد ذلك إلى الجادة أجود ما تكون، قد استعادت من القوة والنشاط ما يكون وقودًا لعبادة أخرى، والعيد في ذاته عبادة، والترويح الذي يزاوله المسلم فيه لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع فيقع في الأشر والبطر، فينقطع بذلك عن مبادئه وعقيدته، فعبادة الله لا يحدها زمان، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
العيد فرصة لتحسين العلاقات وتسوية النزاعات وجمع الشمل ورأب الصدع وقطع العداوات المستشرية، ورحم الله من أعان على إعادة مياه المودة إلى مجاريها. اجعل هدية العيد لهذا العام عفوًا وصفحًا وغفرانًا، وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ما أجمل أن يكون العيد فرصة لاتصال المتهاجرين والتقاء المتقاطعين. إن الرجل الكريم هو من يعفو عن الزلة ولا يحاسب على الهفوة، حاله كما قال الأول:
وإن الذي بيني وبين بنِي أخي وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا نهشوا لحمي وفرت لُحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
نعم، ليس زعيم القوم من يحمل الحقدا، ليس كريمًا ولا عظيمًا ولا سيدًا من يجمع الأحقاد ويحمل الضغائن ويداوم على الجفاء والقطيعة. إنه لا بد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتسع لهضم البغضاء وقضم العداوات، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]. أطفئ لهيب العداوة ببرد الصدقة، فإن ذلك من أفضل البر، فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي قال: ((أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد وغيره.
مر العام الماضي موقرًا بالأحداث العظام التي لا يصح أن تتجاهل أو تنسى، بل لا بد أن تكون العظة فيها ظاهرة والعبرة منها واضحة.
لما تجرأت الدنمرك بوقاحة على سب النبي والوقوع في شخصه المبارك انتفضت الأمة على المستهزئ العنيد، واجتمعت عن بكرة أبيها على النصرة، وضجت من أجل حبيبها ، فقطعت بالمقاطعة دابر الظالمين، وكادت تقطع بصمصامتها أكحل المجرمين، لولا اختلاف مشين وتهوين مهين أعاد منهم الكرة أخرى، وجرأ غيرهم على سلوك طريقهم، فكان العود منهم بالسب ـ على نوع من الاستهتار المكشوف والاستهانة الظاهرة ـ صفعة مؤلمة في وجه من أراد تخفيف وقع السياط عليهم بادي الأمر.
على المسلمين اليوم وهم يرون عودة الإهانات الوقحة لنبيهم أن يغضبوا له غضبة مضَرية تنهدّ لها الجبال الرواسي، وأن يصرخوا صرخة الخيل المغيرة، ويضربوا في وجه المعتدي بسيف سعد والمغيرة. ناد بالقوم المجرمين: بدأتم فدفعنا وإن تعودوا نعد؛ حتى يعرف المستهزئ العنيد أن محمدًا لم يخلف بنات بل خلّف رجالاً أشاوس يشترون الموت فداءً له وتهون عليهم الأموال من أجله.
إن الضعف في مثل هذه الحوادث لا يولِّد إلا الضعف، ويوم لم نكمل جرعة التأديب لمن له بدء الفجور وثناه ركب حمار السِبة كل مأفون ونعق بالمسبة كل ملعون، فقالة السوء الآثمة لم تخرج من أفواه جهالهم وصبيانهم بل تواطؤوا عليها حتى نعق بها الذي علمهم السوء كبير بابوات الشر فيهم.
إنه مع شدة الحدث وعظمته على نفوس المسلمين إذ هو طعن في أخص خصوصياتهم إلا أنا استفدنا منها شيئًا لم يكن لنا على بال، لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ. لقد ضج في العالم صوت الإسلام الصاعد مما جعل أعدادًا كثيرة من الناس تتوجه للتعرف على محور القضية وقطب رحاها ومن اهتزت الدنيا كلها لأجله ، وهذا في مقياس النصر الحقيقي ليس بالشيء الهين. كم سنحتاج من وقت ومن مال لإيصال الرسالة للشعوب المغيبة، وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ. لقد حفلت القنوات والمواقع الإلكترونية باسم النبي ورسمه، وازدانت حلقات النقاش بلفظه ووصفه.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
واستفدنا التعرف على حجمنا الحقيقي، والذي لا يعرف نفسه يقف عليها بالتحقير، وعرَّفنا العدو المغرور أننا قوة لا يستهان بها حين تجتمع، وسيل عرمرم لا يوقف في وجهه حين ينحدر. لقد استفدنا أن إمكانية جمع الأمة على كلمة سواء ليس من معجزات الأمور وخوارق العادات، وأن الذي يجمع المسلمين هو الاتفاق على كبار القضايا لا التنازع في صغارها، وأنها تجتمع على الثوابت المحكمات، ويوم تذوب الثوابت لا نجد أرضًا عزازًا تثبت عليها الأقدام وتلتقي فيها الأفهام. لم يكن الاعتداء على النبي هو الأوحد من فجور القوم، فقد أهانوا القرآن, وأرادوا تدنيس قبلة المسلمين يوم أقيم في أمريكا مرقص عهر وفجور على صورة الكعبة وأسموه "بنات مكة", وكل ذلك إثم وفجور يستحق المواجهة والمدافعة, ولكن ليس من المصلحة توزيع قوة المسلمين على عدة جبهات، وهي سياسة النبي حيث اختصر عدوه في المدينة أول الأمر بكفار قريش مع وجود اليهود والمنافقين فيها، وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.
جاءت حرب لبنان فأكلت الأخضر واليابس، دُك في شهر ما بني في عقود، وذهبت الأرواح وانقطعت الأفراح، واضطرب رأي الناس فيها: فمن مفتون بالحزب الدعي منخدع بشعاراته يمشي مع قاتله قد نسي أو تناسى جرائمه، وآخر معترض لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ولا يطعمه كلبه، وثالث لم يرض بها ولم تسؤه، لم يرض أن تستغل لتجيير أعمال الأمة لحزب مفتون يجد من ذلك فرصة لخدمة مشروع الهلال الشيعي الصفوي وترويج مذهبه الباطل كما هو الجاري في سوريا ومصر ولبنان وغيره، لم يرض بها لأنها اجترار لحرب سياسية عسكرية لا تراعي المفاسد الكبرى في مقابل تحصيل مصلحتها الخاصة، ولم تسؤه الضربة التي تصيب اليهود بل يفرح بها حتى لو كانت من شجاع أقرع أو كلب مسعور، وهذا عندي أحض بالصواب، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
وإذا ذكرت المجازر الدموية والجرائم النازية فاذكر مصاب أهل السنة في العراق الذين اجتمع عليهم الاحتلال الأمريكي المشترك والنفاق العميل والرافضة المارقون، ثلاثي موحش، إن نجا المسلم من أحدها نهشته الأخرى. ذبحٌ بالهوية وجرائم بربرية طالت العجائز والشيوخ والأطفال بل حتى الحمل الذي لم ير السكين والبندقية لحقته يد المجرم في بطن أمه. جرائم تجري تحت سمع العالم وبصره ولا مغيث, تواطؤ إعلامي عالمي على تعتيم الأخبار، في حين لا تقف كبيرات القنوات ولا يفتأ مراسلوها من متابعة خبر كلب جائع أو جرذ ضال.
قتل امرئ في غابة جريمة لا نغتفر وقتل شعب كاملٍ قضية فيها نظر
وإن ننسى فلن ننس فلسطين، فهي الجرح الغائر في الجسد وقضيتنا الأولى، مسرى نبيا ومصلى الأنبياء، نسمع كل يوم من أرضها فاجعة، فمن جنين إلى غزة إلى الخليل، إلا أن الأحداث في هذه السنة اختلف مسارها واشتد أوارها، فمذ وصلت حماس للسلطة بالطريقة التي سنوها هم قلبوا لها ظهر المجن ورموها عن قوس واحدة، وضعوا لها العراقيل فلم تجد، اتخذوا معها سياسة التجويع، لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا فلم يفلحوا، فكشروا عن أنياب السباع، وأعلنوا الكره الكامن في النفوس، وأصابع المكر اليهودي الأمريكي ترى بالليل، فلحق المسلمين هناك أزمة تشبه يوم الأحزاب، ولا ملجأ من الله إلا إليه عليه فليتوكل المتوكلون، فلا جيوش دوليه ولا قوى محايدة، إذا لا حياد في زمن الظلم والقوة، إنما الله العزيز الحكيم نِعمَ المولى ونعم النصير.
أين حقوق الإنسان المزعومة؟! لقد أثبتت الأحداث المتتالية في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان بما لا يدع مجالاً للشك أن الحقوق التي رسمتها القرارات ووقعتها الاتفاقيات هي لحفظ حقوق الإنسان الكافر المستعمر كي تحمي غروره, وما قصة أسرى غوانتانامو واعتقال حميدان التركي والأسرى من قبل ومن بعد إلا أكبر دليل على ذلك.
جناب الشريعة عظيم، لا يرميها بالهزء والتنقص إلا مغموص عليه بالنفاق والكفر، قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. والعلماء هم حملة الرسالة وأوعية العلم والنجوم التي يهتدي بها الساري، وتنقيصهم ورميهم بالشتيمة شنشنة منافق مأفون، "مَا رَأينا مثل قرائنا هؤلاء"، وهذا لا يعني العصمة فيهم، فكل يؤخذ من قوله ويرد, لكن هذا لا يصح أن يتخذ وسيلة للتجريح والإسقاط. إن رمي العلماء بالنقيصة في أعمدة الصحف والمجلات والولوغ في السلطات القضائية وهيئة الرقابة على السلوك والمؤسسات الخيرية والدعوية والأنشطة الطلابية ووصفها بالإرهاب والتطرف والهجمة على الحجاب والحشمة بحجة التمدن هو محاولة للتسلل لهدم الشريعة بتقويض رموزها الظاهرة وأعلامها العلية. لقد غص المنافق وشرق بريقه لما رأى اتساع الصحوة وسرعة انتشاره وقبول الناس له، وما ذنب المصلحين فيها إلا أن دعوتهم وافقت الفطرة السليمة، فشنوا حملة شعواء ورموا بكنانتهم في محاولة لإحراق المراحل ومسابقة الزمن.
إنه ومع الشدة التي يعيشها المسلمون في أصقاع المعمورة إلا أن فجر النصر قد انشق في الأفق ولمع بارقه، فأملوا وأحسنوا الظن والعمل، فعلى قدر الجهد والجهاد تعطى الأمة، والأمور معقودة بأسبابها، ولا تيأسوا من روح الله، ولا تقنطوا من رحمته، فمواكب النصر قد أقبلت، ورايات الفتح قد رفعت، والعاقبة للمتقين، والظلم مرتعه وخيم، والله لا يصلح عمل المفسدين. لا تقولوا: زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ، ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ، لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ، أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ، أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ، غيرَ أنّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ، وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ، لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ ما دام لنا فيها وَلَدْ.
لم نعد قرية صغيرة يمكن أن تغلق أبوابها مع غروب الشمس، لقد انشق الفضاء باتصالات دكت الحدود وكسرت القيود وعَدَت على القيم العوادي, وانتثرت علينا أخلاق أمم لا خلاق لها، مما جعلنا مهددين بنوع تشوهات خُلُقية سلوكية مما يؤكد على ذوي العقل والبصيرة والتدبير وضع ضمانات وقائية ومدافعة للشر بالخير، وإني أرى أن من أعظم صمامات الأمان أمام هذا الغزو السلوكي والفكري إحياء عبادتي الخوف والحياء في الأمة، فالخوف من الله يبني الرقابة الذاتية، والحياء يمنع المسلم مما يشين.
انقطعت الأمطار وغارت الآبار وكثر الغبار، وفسد الهواء واختلف الطعام وانتشر الوباء، وعم الترف واشتد النزاع، وتسلط الكافر وانتفض المنافق، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، والنعمة لا تحفظ إلا بالتوبة ولا تعود إلا بالرجوع، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
أمن المجتمع وسلامته مسؤولية الجميع، والعبث بالمصالح العامة وإهدار الثروات والاعتداء على الحرمات والتفجير والتكفير وقتل الأبرياء أمر لا يقبله عقل ولا نقل، والواجب تجفيف منابع الغلو والإفراط ونشر الوسطية والاعتدال التي تقوم على الوسط الحق لا على الرأي المعاكس، فالغلو لا يعارض بالتفريط, والتشدد لا يقابل بالتساهل، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ، ولا يحملُ البريء جريرة غيره، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى.
على الزوج أن يتقي الله في زوجته، فيحسن إليها ولا يظلمها أو يضربها، عليه أن يحفظ لها قيمتها وقدرها خصوصًا عند أولادها.
أيها الزوج، إن رباط الزوجية وثيق، فهو رباط مصاحبة لا ينقطع بالموت، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. إنه عقد صحبة لا عقد رقّ وولاء، ففي الحديث عنه قال: ((كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها)) رواه ابن السني وصححه الألباني. فالواجب احترام سيادة المرأة في بيتها، وأن لا تسقط خاصة عند أولادها. وحين يدوس الزوج كرامة الزوجة وتفعل الزوجة كذلك فهو أذان بسقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب. لا بد أن يبنى البيت على المودة والرحمة، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً ، وعلى العفو والصفح، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. وحين يرى أحد الزوجين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه، فقد صح عنه أنه قال: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم. تسامح ولا تستوفِ حقَّك كله، وأبقِ فلَم يستوفِ قطّ كريم.
أيها الرجال، إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فيها الغيرة والعاطفة والليونة، وهذا كمال في طبيعتها ومتمم لأنوثتها، فاستقامة المنجل في اعوجاجه، وَلَيِسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر النساء، أجبن نداء الله لكن حيث قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33]. إن الأصل في المرأة قرارها في البيت، إذ هي نور أركانه وسكن أرجائه، والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة. البيت هو وظيفة المرأة الأساس، فما بالنا نرى تهافت النساء على الخروج من البيت لحاجة ولغير حاجة؟! لقد اكتظت الأسواق وازدحمت المتنزهات في حين بقيت البيوت خلوًا من ساكن.
عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة، أخرج ابن سعد قال: دخلت أيم العرب أم سلمة على سيد المسلمين أول العشاء عروسًا، وقامت من آخر الليل تطحن. وعليك برعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه، فلك بذلك عظيم الثواب، ففي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلّت المرأة خمسها وصامت فرضها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) رواه الخمسة وصححه الألباني، وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي قال: ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ يعني من نساء الدنيا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الولود الودود التي إذا غضبت أو أسيء لها إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى)). إنها النفس الطيبة والروح الزكية لا التثنّي الأعوج, وفي الحديث: ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع, وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)) وهو في صحيح الجامع الصغير.
لا تكلفي زوجك من النفقة ما لا يطيق، ولا ترهقيه من أمره عسرا، ففي الحديث عنه : ((إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلِّفُهُ من الثياب أو الصيغ ـ أو قال: من الصبغة ـ ما تكلف امرأة الغني)) السلسلة الصحيحة (591).
احذري الخضوع في مخاطبة الرجال ومخالطتَهم وإبداء الزينة لهم، ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع فضلاً عن الأسواق والحدائق العامة, عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع نساء في الطريق فقال : ((يا معشر النساء، استأخرن فإنه ليس لكنّ أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق)) ، قال أبو أسيد: فقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها يعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة، فمن تشبه بقوم فهو منهم، وفي الحديث الصحيح: ((صنفان من أمتي لم أرهما قط: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) الحديث.
حافظي على عفافك وحجابك وحيائك، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]. وفي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره)) صححه الألباني.
احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء. احذري تمييع الحجاب, فالحجاب عبادة وليس عادة، الحجاب ستر وليس زينة. ليست العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجابًا شرعيًا، بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيتها المرأة المسلمة في هذه البلاد، لقد صمدتِ كثيرًا ودافعت التغريب طويلاً، فأنت آخر حصن لم يسقط بعدُ ولن يسقط بإذن الله. لقد ضاق العلمانيون المنافقون بك ذرعًا، فصاروا يحيكون المؤامرات لك ليلاً ونهارًا، فصمودًا وصبرًا وثباتًا واستعلاءً على كيد الشيطان وحزبه، إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ، وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا. أسمعينا صرخة منك تقطع طمع المستغرب وتقيم الوزن بالقسط، أسْمِعيني ـ يا أخيَّه ـ صرخةَ النفس الأبيهْ، أسمِعيني منكِ لا لن أرتضي عيش الدَّنيَّهْ، أنا بالإيمان يُمنى في دمي نارُ الحميهْ، لا تبالي بالدَّعاوى والأباطيل الدعيّهْ، ليس حبًّا أنْ تكوني حيثما كانوا بغيَّهْ، ليس حبًَّا أن تكوني مثلما كانوا غبيهْ، أنت أعلى أنتِ أغلى أنتِ أنقى يا أُخيَّهْ.
أيتها المسلمة، الله لحكمته جعل القوامة بيد الرجل، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ، فكان ذلك تكليفًا له بهذه الأمانة، مِن أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه والنفقة عليه. وإنّ التمرد على القوامة والنشوز دون حقّ شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
حذار من إفساد أحد الزوجين على الآخر والمشي بينهم بالنميمة فإن ذلك من مكر الشيطان وفي الحديث الصحيح: ((من خبّب زوجة أو مملوكًا فليس منا)) ، و((لا يدخل الجنة نمام)). وكل فساد يقع بسبب الطلاق الناتج عن التحريش بين الزوجين فعلى الجاني إثم ذلك ولا يظلم ربك أحدا.
لا بأس أن يهنئ بعضكم بعضًا في العيد لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
وكان من هدي النبي مخالفة الطريق في العيد، فعودوا من غير الطريق التي قدمتم فيها اقتداءً بنبيكم محمد ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
(1/4869)
عيد الفطر 1427هـ: والله متم نوره
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
1/10/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية الفرح بالعيد. 2- دواعي الفرح. 3- انتشار الإسلام. 4- قراءة في تطاول الأعداء على الإسلام. 5- سر سرعة انتشار الإسلام. 6- تفنيد فرية انتشار الإسلام بقوة السيف. 7- الجهاد في الإسلام. 8- جهاد محمد وأصحابه. 9- إرهاب القوى الطاغية. 10- مظاهر الرحمة والمودة في العيد. 11- زكاة الفطر. 12- الثبات على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إلهَ إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كَبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أمَّا بَعد: فأُوصيكم ـ أيّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله، فلِلَّه درُّ أقوامٍ تفكَّروا فأبصَروا، وشمَّروا عن ساعِدِ الجدِّ وما قصَّروا، ومَن علِم شرفَ المطلوب جدَّ وعزم، والسعيُ والاجتهاد على قدر الهمَم، الحازمون سارَت بهم إلى الجدِّ المطايا، فاستحقّوا جليل العطايا، ومن علاماتِ الغفلة والاستدراج العمَى عن عيوب النفس، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، العيد جزءٌ من نِظام أمَّة الإسلام، يصِل ماضيَها بحاضِرِها وقريبَها بِبعيدها، ويربط أفراحها بشرائعها وابتهاجَها بشعائرها، والفرح بالعيد من سنَن المرسلين، وإظهارُ السرور في الأعياد من شعائر الدين، ولقد أظهر نبيُّكم محمّد الفرحَ والسرور بالأعياد في شرعِه وفعله، وأذِن للمسلمين بأن يفرَحوا، وأقرَّ الفرحين على فرحهم، تقول عائشة رضي الله عنها: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بدفَّين بغناءِ بُعاث، فاضطجع على الفراش وتسجّى بثوبه وحوّل وجهه إلى الجدار، وجاء أبو بكر فانتَهَرهما، فكشَف النبيّ وجهه وقال: ((دَعهما يا أبا بكر، إن لكلِّ قوم عيدًا، وهذا عيدُنا)) ، وخيرُ الهدي هدي محمد.
أمّا ما في الأمة من مشكلات وابتلاءات وهمومٍ وما في النّاس من قصور وتقصيرٍ وخطايا فلا ينبغي أن يمنع من الفرحِ والابتهاج، فالابتلاءات والهمومُ من سنن الله في الخليقة كلِّها وفي جميع أعصارها وأمصارها، في مؤمنها وكافرها، وصالحها وفاسدها، علوٌّ وهبوط، وتمكين واستِضعاف، والأيام أيامُ الله يداولها بين الناس. وفي عهد النبوة المطهَّرة كان من أذَى الكفار ومكرِ المنافقين وعوائق الدّعوة والبلاء على المؤمنين ما لا يخفى، وذلك كلُّه لا يجرّ أمة الإسلام إلى اليأس والقنوط. العيدُ فرح وابتهاجٌ وفرصة كبرَى لتدفّق الأمَل والانطلاقِ في العمل.
الله أكبر كَبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أمةَ الإسلام، عيدكم مبارك، وعيدكم بإذن الله سعيدٌ، فكم عندكم ما تفرَحون به، فرحٌ بفضل الله ورحمتِه، وفرح بالهدَى والتوفيق يومَ ضلَّت فئام من البشَر عن صراط الله المستقيم، فرحٌ يوم هداكم واجتبَاكم، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ [الحج:78]، فرح في كمالِ العِدّة، وفرحٌ بالفِطر، ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة بلقاء ربه)).
معاشرَ المسلمين، عيدكم مبارك بإذنِ الله، أبشروا وأمِّلوا وافرحوا، فعُمر الإسلام أطوَل من أعماركم، وآفاقُه أوسع من أوطانكم، انتصَر المسلمون ببدر، وهُزموا في أحُد، وضاقَت عليهم الأرض بما رحُبت وزُلزِلوا يومَ الأحزاب، وفُتِحت مكة الفتحَ المبين، وسقطت بغداد أيامَ المغول، ثم فتِحت القسطنطينية، وسُننُ الله ماضية، وهي لا تحابي أحدًا، في تفاؤلٍ إيجابيّ مقرونٍ بالعمل، مدرِكٍ لسنن الله، آخذٍ بالأسباب، في حسنِ إيمانٍ وحسن توكّل، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيّها المسلمون، والمناسبة مُناسبةُ ابتهاج وفرحٍ فإنَّ ربَّكم متمّ نورِه ولو حاوَل إطفاءَه الكافرون والمشرِكون، في عصرِكم هذا وفي أيّامكم هذه دينُكم واسعُ الانتشار في أرجاء الدنيا كلِّها، يتغلغَل في الديانات كلِّها، بل في معاقِلها ودورِ عباداتها وبين أحبارِها ورهبانها ورجالاتِ دياناتها، فالمساجد في ازديادٍ، وارتفاع نداء الحقِّ مِن المآذن لا ينقطع، والإحصائيات في تزايُد مروِّعٍ لمن يخافون انتشارَه ولا يريدون ظهورَه.
يا أمّةَ محمد، كلّما رأيتم تطاولاً على رموزِ الإسلام في نبيِّه وقرآنه ومناهجِه وكلّما رأيتم تشديدًا بالمراقبة على أهلِ الإسلام والمتابعة في نشاطاتهم ورجالهم وأعمالهم وأعمالِ الخير فيهم بل وفي قياداتِهم وصُلحائهم وشبابهم فذلك كلُّه من المبشِّرات والمبهِجات، فابتهِجوا بعيدكم، وافرَحوا بفضل ربِّكم ورحمته، فلقد قال قائلُهم: إن انتشارَ الإسلام في نهاية القَرن الماضي ومطلَع هذا القرن ليس له سببٌ مباشر إلاّ أنّ سكانَ العالم من غير المسلمين بدَؤوا يتطلَّعون إلى الإسلام وبدَؤوا يقرؤون عن الإسلام، فعرَفوا من خلال اطِّلاعهم أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتَّبَع، وهو الدين الوحيد القادرُ على حلِّ مشكلات البشر. وقالت إحدَى دراساتهم المتخصِّصة: إنَّ مستقبل نظام العالم مستقبلٌ دينيّ، وسوف يسود النظامُ الإسلاميّ على الرغم من ضَعفه الحالي؛ لأنّه الدين الوحيد الذي يمتلك قوّةً شموليّة.
أيّها المسلمون، نُسَخ القرآن الكريم من أكثرِ المبيعات في العالم لدَى غَير المسلمين، وأعدادُ الداخلين في دين الله تَتَضاعف بشكل عندهم مُريع، بل قالوا: إنَّ هذه الزياداتِ المتضاعفةَ تتمّ على الرغم مما تتَّخِذه الحكوماتُ مِن إجراءات وتنظيماتٍ ضدَّ الرموز والشعائِر الدينيّة.
فبارك الله في عِيدكم، وزادَكم ابتهاجًا وسعادة، والله أكبر الله أكبر، والله أكبر كَبيرًا، والحمد لله كثيرًا.
أيها المسلمون، وليستَبين لكم مزيدٌ مِن عظمة دينكم وليزدادَ ابتهاجُكم بعيدكم ولتدرِكوا مزيدًا من عوامِل انتشاره وأسرارِ انتصاره هذهِ وقفات وقبساتُ المصطفى من سيرةِ نبيِّ الإسلام ورَسول الهدى وإمام الحنفاءِ سيّدنا وحبيبِنا وقرّة أعينِنا ومصدَر ابتهاجنا محمّد :
الوقفة الأولى: من أسرار الانتشار وعوامِل الانتصار ما أفاءَ الله على عبده ورسولِه محمّد مِن الخصائص والأنعُم، انظروا وتأمَّلوا في أوائل دعوتِه ومبتدأ دعوته عليه الصلاة والسلام وهو الوحيد الضعيفُ المستضعَف، ما الذي جعَل أتباعَه منذ أوَّلِ يومٍ من البعثة يزيدون ولا ينقُصون، وجعل الضعفاءَ والفقراء إليه يهرَعون وبحماه يلوذون، أمثال بلالٍ وعمار وأمِّه وأبيه، وهو الذي يعلن أمامَهم: ((لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا)) ، وهو الذي يتلو: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9]؟! وما الذي جعل العِليةَ مِن القوم والسادةَ من العشائر يتخلَّونَ عن مواقعهم ليؤمِنوا به ويتَّبعوه ويتركوا مجدَهم ومنازلَهم إلى حياةٍ تمور بالأعباءِ مَورًا وتَنوء بالصِّعاب حِملا، أمثال أبي بكرٍ وعثمانَ وعبد الرحمن بن عوف وسَعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم أجمعين؟! وما الذي جعَلهم يصدِّقونه في نبوءَاته من فتحِ الدنيا وكنوزها وانتشارِ هذا الدّين وترديدِ كتاب الله في أصقاع الدنيا وأرجائها، يحدِّثُهم بكلّ ذلك وهم يتلفَّتون فلا يجِدون سِوى [القر الساغِب] والحرّ اللافح والشجيرات اليابسة والأودِية الجافّة؟! هل كذَب مرّةً؟! هل خان مرّةً؟! هل ظلَم؟! هل كشف عورةً؟! هل خفَر ذمّة؟! هل عبد صنَما؟! هل قطَع رحِما؟! حاشَا وكلا. هذا هو محمّد، وهذه هي حياته، لم تُطوَ منه صفحة، ولم يطمَس منه سَطر، ولم يخفَ منه حَرف. السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته.
الله أكبر كَبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه، وسلَّمَ تسليما كثيرا.
تِلكم وقفةٌ في حال ضعفِه ومبتَدأ دعوته، أما بعد أن أفاء الله عليه وفتح له الفتوحاتِ ودانت له الجزيرة وأطرافُها وفتحَ عليه أبواب الرزق والغنائم ما لم يكُن أصحابُه يحتسبون فإذا هوَ هو؛ ما ازداد إلا زهدًا وورَعا وعِفّةً وتواضعا حتى لقيَ ربَّه، وهو الرسول الذي ترتفِع راياته عِزًّا ونصرًا، ينام فوق حصيرٍ يؤثر في جسدِه الطاهر الشريف، ويموت ودِرعه مرهون بطعامٍ لأهله. لا يستطيع أيُّ عاقل أو منصِف ـ فضلا عن مسلم ـ أن يتَّهم محمّدا أنه يريد برسالتِه بسطةً في مالٍ أو بسطة في جاهٍ أو حظًّا من حظوظِ الدنيا. ثمّ يتساءلون: لماذا ينتشر الإسلام؟!
أمّا السر الآخر والوقفة الأخرى: مَن أراد أن يبحثَ عن سرِّ انتشار الإسلام فلينظر في قلوبِ المسلمين ـ كلِّ المسلمين ـ ومشاعِرهم، وليفتِّش في سوَيداء قلوبهم، سوف يرَى أنها تنبضُ بحبّ محمد. إن ما يجِده المسلمون في قلوبهم من حبِّ الله وحبِّ رسوله وحب دينه حبٌّ لا يدانيه حبٌّ ولا يحيط به وصفٌ ولا تحصره عبارة، حبٌّ لمحمّد عميق وتعظيم وتوقير، ليس حبًّا ادِّعائيًّا ولا عاطفةً مجرَّدة، ولكنه حبٌّ برهانُه الاتِّباع والطاعة والانقياد والاستسلام، حبٌّ صادق عميق خالٍ من الغلوِّ والإطراء، فهو بشَر رسول، عبدٌ لا يعبَد، ورسولٌ لا يكذَّب، شرَّفه الله بالعبوديّة والرسالة، يُطاع ويتَّبع ويحبّ ويُوقَّر ويعظَّم ويُعزَّر وينصَر. نَعم وربِّ الكعبة، إنّ الذين هاموا في حبِّه لمعذورون، وإنَّ الذين بهَرتهم عظمتُه غيرُ ملومين، وإنَّ الذين يفدونه بأنفسِهم ومُهَجِهم هم المنصورون، وإنَّ الذين يتَّبعون النورَ الذي أنزل معَه أولئك هم المفلحون، وما أرخصَ الحبَّ إذا كان كلامًا، وما أغلاه حين يكون قدوةً ومسؤوليّة وإماما. السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشِرَ المسلمين، يا أحبابَ المصطفى، أمّا الوقفةُ الأخيرة والسِّرُّ العجيب فهِي في مقولةِ الخصومِ السابقين واللاَّحقين: "إنَّ دينَ محمَّدٍ انتشَر بالسَّيف". هلاَّ تساءلتم: لماذا تُثار هذه القضيَّة بين وقتٍ وآخر؟ إنّك لتعجَب مِن إثارتها، إنّه مِنَ المؤكَّد أنها لم تُثَر إلاّ لِمَا امتلأت به قلوبُ المراقِبين والمتابِعين من الخصومِ مِنَ الغيظ عَلى انتشارِ هذا الدّين وتجاوُزِه لكلّ الحدودِ والحواجز والعوائق والسُّدود وفي جميعِ الأعصار والأمصارِ وفي كلِّ الظروف. إنَّ مِن المعلوم لدَى كلِّ عاقلٍ أنّه لا يمكن لأيِّ مبدأ من المبادِئ مهما كانت قوّتُه وجاذِبِيَّته أن ينتشِر بالسَّيف، لا يمكن أن ينتشِرَ بسيفٍ أو بدبابة أو بمتفجِّرة. إن قلوبَ الرجال صناديق محكمةٌ لا تفتَحها أسِنَّة الرِّماح ولا صليلُ السيوف ولا أزيزُ الطَّائرات ولا دوِيّ المدافع ولا امتِطاء ظهورِ الدّبابات، بل ولا الفوضَى خَلاّقَة كانت أو غيرَ خلاّقة. قلوبُ البشَر صناديق مغلَقَة لا يفتَحها إلاّ الحقّ وهذا هو الإسلام، ولا يفتَحُها إلاَّ الرِّفق وهذا هُو الإسلام، ولا يفتَحُها إلاّ التعامُل الحسَن وهذا هوَ الإسلام، ولا يفتحها إلاّ الحجّة والبرهانُ وهذا هو الإسلام.
أمّا الجهادُ في الإسلام فهو مبدأٌ عظيم، لا يخجَل المسلم من إعلانِه والاعتِزاز به والدّعوة إليه، والمقَام لاَ يتَّسع للبسطِ والمحاجَّة، ولكن تأمَّلوا هذا المثَل: إذا كنتَ تمشي في الظلامِ ومَعَك مصباحٌ تستَضِيء بهِ فإنّك قد ترفَع مصباحك ليهتدِيَ معك من يرغَب السيرَ في النّور، أمّا لو كرِه أحدٌ الانتفاع بضوءِ مصباحِك فهذا شأنُه واختياره، فليتعسَّف السيرَ في الظلام وليتحمَّل الوقوعَ في الحفرِ والمهالِك، وانظروا الإشارةَ إلى ذلك في كتابِ ربِّكم: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام:104]، ولكن ما العملُ إذا حاوَل أحدٌ وتطاوَلَ ليكسرَ مِصباحك ويطفئ نورك؟! أليسَ مِن الحق ومن العقلِ ومنَ العدل أن تجاهدَ ما استطعتَ في منعه ولو وصَل الحال إلى حدِّ الشجار والقتال؛ لتستبقيَ الهدى وتحافظَ على النور لنفسِك ولغيرك؟! وانظروا التنبيهَ إلى ذلك في كتاب ربكم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:7-11]. إنَّ الذين ينتَهِجون سياسةَ تكسير المصابيحِ هم الأعداء الكارِهون للحقّ والعدل والنورِ ورسالاتِ الله.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وبعد: فابتهِجوا بعيدِكم، فإنَّ دينَ الله منتصِر، وإسلام محمّد منتشِر، وأعداءُ الدعوةِ وخُصوم الإسلامِ حين رأَوا قوَّتَها في ذاتِها هالَهم إقبالُ الناس عليها وقَبولها، بل هالَتهم حقائقُ هذا الدين؛ لأنّه دين فطرةِ الله التي فطر الناسُ عليها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هَذا، وأَستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذَنب وخطيئةٍ، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إلهَ إلا الله، والله أكبر الله أكبر وللهِ الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا. وصلّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليما كثيرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العزّةِ والجبروت والاقتِدار، أظهر آثارَ قُدرته بتصريفِ الليل والنهار، والله أكبر وهو الواحِدُ القهّار، والحمد لله مدبِّر الليالي والأيّام ومصرِّف الشهور والأعوام، لا إلهَ إلا هو قدَّر المقادير وصرَف الأحكام، أحمده سبحانه حمدًا كثيرًا يبقى على الدوام، وأشكره على جزيل الفضلِ والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقين وخضوعٍ واستسلام، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدا عبد الله ورسوله نبيّ الإسلام وشفيع الأنام، صلّى الله وسلّم وبارَك عليه وعلى آلِه المطهَّرين الكِرام، وأصحابِه الأئمّة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسارَ على شِرعة الحقّ واستقام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أمّةَ محمد، ويا أحبابَ محمّد، إنّ محمدًا رسولَ الله أسمى من كلّ مأثرة افتخَرت بها أمّة، وأعلى من كلّ وِسام اعتزَّت به أجيال، ويا ليتَ الذين نالوا من الإسلامِ وتطاولوا على مقام النبوّة المحمّدية قارعوا الحجّةَ بالحجة وقابلوا الدليل بالدليل لكانوا أهلَ إنصاف. إنَّ جهادَ محمّد وجهاد أصحابه وأتباعِه كان جهادًا في سبيل الله، لا إشباعًا لغرور، ولا بسطًا لنفوذ، ولا تمشيا مع أطماع، ولا عَصبيّة لجِنس، ولا دَعمًا لباطل، إنّه نصرةٌ للتّوحيد، ومَنع للظلم أن يجتاحَ الحقوق، ومنعٌ للقوّة أن تمحوَ العدل.
يا ليتَ العقلاء يتأمَّلون في طبائِعِ الحروبِ والاقتتال وسلوكيّات المحارِبين رِيادةً وأجنادًا، في الأمَمِ والشعوب، في تاريخِ الإنسانية كلِّها المليءِ بالدّماء والعنفِ منذ ابني آدم: قابيل وهابيل. نعم، إنَّ من العدلِ والإنصاف وتحرِّي الحقّ واكتمال الصورةِ النظرَ في سلوكيّات الآخرين في حروبهم وصِراعاتهم، بل لنَسأل: ماذا فعَلوا بالمسلمين وغيرِ المسلمين؟! كم قتَلوا؟! وكم شرَّدوا؟! وكم فجَّروا؟! بل بأيِّ وحشيّةٍ وبأيّ معايير سالَت أنهارُ الدماء؟! كم يبلُغ قَتلاَنا في فلَسطين منذ نَكبَتِها؟! وماذا جَرَى للأوطانِ في عهودِ الاستعمار؟! وحينما تمكَّنوا من القوّة ضرَبوا بكلّ معايير العدلِ والحقّ، ولم يبقَ إلا معايير المصالح الأنانيّة الجائرة، فليس ثمّةَ عندهم عداواتٌ دائمة ولا صداقات دائمة، ولكن مصالح جائِرةٌ طاغِية هي الدائمة.
إنَّ محمَّدًا هو الذي أسهَرَ ليلَه وجندَه ليحرسوا مسيرةَ الحقَّ ويقطَعَ على عِصابات النَّهب والسّلبِ غاراتِها واعتداءَاتها على حقوقِ الآمنين والمستَضعَفين. محمّدٌ الذي تفطَّرت قدماه منَ التهجّد والتعبُّد هو الذي انطَلَق في ميادين الجهادِ ليقاومَ الظلم والكفر والشركَ والطغيان. السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.
ويريدون إقناعَ المسلمين ليترُكوا رسالَتَهم ويتنكَّروا للحقّ الذي شرَّفهم الله به والتخلّف عن محمّد وركبِه خيرِ مجاهدٍ وخير جندٍ، جِهادٌ لتكون كلمةُ الله هي العليا ودينُه هو الظاهر.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أيّها المسلِمون، هذا عَرضٌ لبعض الأحوال، وتِلكم ملامح مِنَ المبشّرات، فابتهِجوا بعيدِكم، فالعيد فرحةٌ ومناسبة لاطِّراح التكلّف واستجمامِ القوى المجهَدَة في دروبِ الحياة. العيدُ يومُ الأطفال بالفَرَح، ويومُ الفقراء بالمواساة، ويوم القربى بالتَّراحم، ويومُ النّاس جميعًا بالتسامُح والتزاور، ويومُ الأصدقاء بتشدِيدِ أواصِرِ الحبِّ والمودَّة. بَشاشةٌ تخالِط القلوبَ، وانشراحٌ يملأُ الصّدور. سِرُّ العيدِ فيما يَغشَى النفوسَ مِن رحمةٍ وبِرٍّ وابتِهاج. يومُ العيد تأنَس بوالدَيكَ وتُباسِط أهلَك وتقرُّ عيناك بأبنائِك وتهشّ لإخوانك وأحبابِك. لقد حلَّ العيدُ بساحَتِكم فابتَسِموا، وافتَحوا أبوابَ الأمل، فلا يذوقُ طعمَ العيد ويعيش بهجتَه قلبٌ تأكُلُه الأحقادُ أو نَفس تستبطِن الغشَّ أو صدرٌ يجيش بالضَّغائن.
ألا فاهنَؤوا بعيدِكم، والزَموا حدودَ ربِّكم، وصوموا عن المحارِم كلَّ دهركم؛ تكن لكم أعياد في الأرضِ وأعيادٌ في السَّماء.
واعلَموا أنَّ من أعمالِ هذا اليوم إخراجَ زكاةِ الفِطر، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسُكم، ومِقدارُها صاعٌ مِن طعامٍ مِن غالب قوتِ البلَد كالأرز والتّمرِ والبُرّ عن كلِّ مسلم. ووقتُ إخراجها الفاضِلُ يومُ العيد قبلَ الصلاة.
ومِن مظاهر الإحسانِ بعد رمضانَ استدامةُ العَبد على النَّهج المستقيمِ ومداومَةُ الطاعة وإتباعُ الحسنة الحسنة، فذلك من قَبول الطاعَات. وقد ندَبكم نبيُّكم محمّد بأن تُتبِعوا رمضانَ بستٍّ من شوّال، فمن فعَل ذلك فكأنما صامَ الدّهرَ كلَّه.
تقبَّل الله منَّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وسائرَ الطاعات.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا وصلّوا وسلّموا على الرحمة المسداة والنعمة المهداة نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمَرَكم بذلك المولى جلّ في علاه، فقال عزّ قائلاً عليمًا في محكم تنزيله قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد النبيّ الأميّ المصطفى الهادي الأمين العربي القرشي، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمة المهديين...
(1/4870)
ماذا بعد رمضان؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, مواعظ عامة
سليمان بن عجلان العجلان
الرياض
5/10/1427
جامع عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحيل شهر الصيام. 2- أقسام الناس في رمضان. 3- دعوة المقصر للتوبة. 4- الحث على صلاة الجماعة. 5- دعوة لترك التدخين. 6- الثبات على الطاعة. 7- العيد وأوضاع المسلمين. 8 التحذير من النكوص بعد رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد: فقد رحلت يا شهر رمضان، يا شهر العتق من النيران، يا شهر الصدقة والإحسان، يا شهر الصيام والقيام، يا شهر الفضل والإنعام، يا شهر الخشوع والسجود والركوع، يا شهر القرآن والغفران، يا شهر الحسنات وإقالة العثرات، يا شهر التسبيح والتراويح، لقد رحلت يا شهر العتاق وأذقت الأنام مرارة الفراق.
يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق، عسى وعسى من قبل وقت التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي، يجبر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقي.
رحلت يا رمضان، رحلت ودموع المحبين من ألم الفراق تنسكب، دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار، وذر الدموع نحيبا وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار، على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار. يا لائمي في البكاء، زدني به كلفا، واسمع غريب أحاديث وأخبار، ما كان أحسننا والشمل مجتمع، منا المصلي ومنا القانت القارئ، لقد كان رحيلك يا رمضان مرًا على الجميع، نعم إن رحيلك مر على الجميع، كيف لا يكون كذلك وهو شهر الآهات والعبرات؟! كيف لا وهو شهر الإحسان والخيرات؟! كيف لا وهو شهر الابتهال إلى رب الأرض والسماوات؟! كيف لا وهو شهر الرحمات والعفو عن السيئات؟! كيف لا وهو شهر التلاوة والذكر والصدقات؟! كيف لا وهو شهر السهر على طاعة رب البريات؟! كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟!
تذكرت أياما مضت ولياليَ خلت فجرت من ذكرهن دموع، ألا هل لها يومًا من الدهر عودة؟! وهل لي إلى يوم الوصال رجوع؟! وهل بعد إعراض الحبيب تواصل؟! وهل لبدور قد أفلن طلوع؟!
عباد الله، لقد كان الناس في رمضان على قسمين:
قسم جعل رمضان للعب واللهو والضياع؛ سهر بالليل ونوم بالنهار، لا هم لهم إلا مشاهدة الشاشات ومتابعة المباريات، تنقل بين الفضائيات ومبارزة لله في المنكرات، فكان رمضان بالنسبة لهؤلاء موسمًا للهو والطرب والعبث واللعب.
وقسم جعل رمضان موسمًا للسجود والركوع والتلاوة والخشوع والإنابة والاستغفار والتوبة والأذكار والاعتكاف والسعي والطواف. فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنئه بحسن عمله، أو ليت شعري من المطرود منا فنعزيه بسوء عمله.
فيا أيها المقبول، هنيئًا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه. ويا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وظلمه وعدوانه وغفلته وخسرانه وتماديه وعصيانه، لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانك عليه، فأين مقلتك الباكية؟! وأين دمعتك الجارية؟!
عباد الله، احمدوا الله على بلوغ اختتامه، وسلوه قبول صيامه وقيامه، وراقبوه سرًا وعلانية، واعتصموا بحبل الله وسلوه الاستمساك به حتى الممات.
أيها الخاسر في رمضان، اعلم أن باب التوبة مفتوح، ووقت الأوبة ما زال مفسوحًا، فتب إلى ربك الغفور الرحيم، واستغفره من كل ذنب عظيم، وأكثر على زللك من النوح قبل غرغرة الروح، وقل لنفسك:
ترحّل شهر الصبر وا لهفاه وانصرما واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يَحصد إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصمًا
يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة وأكثرت من الذنوب والمعاصي مع قلة البضاعة، ها هو ذا رمضان قد رحل، وحافظت في رمضان على الصلاة حيث ينادى لها في جماعة، فما أن انقضى رمضان إلا وقد رجعت عنها! فها هو رمضان قد رحل، أما ترى المصلين في كل وقت إلى المساجد متجهين؟! فلماذا هم يتقدمون وأنت تتأخر؟! أما تعلم أن الجماعة واجبة في رمضان وفي غيره من الشهور؟! بل لم تسقط عنهم الجماعة حتى في حال الحرب قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، وها هو ذا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يسقط عنهم في صلاة الخوف الكيفية والعدد ويبيح لهم الحركة الكثيرة والتقدم والتأخر وحمل السلاح ومراقبة العدو، كل ذلك في صلب الصلاة، فلماذا وقد كان بإمكانهم أن يصلوا أفرادا مع الإتيان بالعدد والكيفية كاملة والخشوع والخضوع والطمأنينة؟! إن ذلك كله من أجل الحفاظ على أداء الصلاة جماعة. فاتق الله وحافظ عليها حيث ينادى لها.
أيها المدخن، لقد نجحت بترك الدخان في رمضان الساعات الطوال، ولم يخطر لك على بال، لماذا؟ لأنك أخلصت النية لله بتركه في نهار ذلك الشهر، فالله الله في إخلاص النية في الإقلاع عنه إلى الأبد. ومما يعينك على تركه أن تطرح على نفسك بعض التساؤلات وتتأمل الإجابة عليها: أيليق بإصبع يرتفع شاهدًا بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بأن يمسك بسيجارة يعصي الله بها؟! أيليق بشفة تطبق على عود الأراك أن تطبق على ما فيه الهلاك؟! أيليق برائحتك الزكية أن تعفنها برائحة البليّة؟! أتستحق أموالك الحلال أن تهدرها بأفعال الخبال؟!
أيها المقترف للآثام بجميع أنواعها، لا إخالك لم تتذوق حلاوة الإيمان وطاعة الرحمن في شهر رمضان، فما بالك تعود بعد خروجه إلى معصية الواحد الديان؟! ألا تحب أن تلقى الله وأنت على حالك في رمضان؟! لا شك أن الجواب: نعم. إذًا عليك بطاعة الله والابتعاد عن معصيته.
يا من خالطت حلاوة الطاعة بشاشة قلبه وانغرست شجرة الإيمان في شغاف فؤاده، تعاهد هذه الشجرة بالسقي، ونقها من النبت الغريب، ولا تدع فرصة لذلك النبت الخبيث أن يطغى على تلك الشجرة الطيبة، فإن فروعها الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء، ولا تزال تثمر الخير في كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها واتصافه بها وانصباغه بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة ألوهية الله التي يثبتها له ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، واستسلمت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربها ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة الطيبة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله آناء الليل وأطراف النهار.
عباد الله، لقد حضر العيد بما يحمل من سعادة وحزن، نعم نسعد فيه على توفيق الله لنا بإكمال شهر رمضان من صيام وقيام وصدقة وبر وإحسان، ونحزن على فراق رمضان وما فيه من خير ومسابقة على طاعة الرحمن.
عباد الله، لقد ظن فئة من الناس أن يوم العيد يوم التحوّل من الطاعة والصلاة والذكر والتلاوة إلى اللعب واللهو والغفلة، فتراهم وقد جعلوا آخر عهدهم بكتاب الله يوم وضعوا المصاحف في أدراجها المخصَّصة لها في المسجد مغربَ آخر يوم من رمضان، كما نراهم وقد جعلوا آخر عهدهم في قيام الليل والوتر هو آخر ليلة قاموها مع الإمام في رمضان، كما نراهم وقد جعلوا آخر عهدهم بصلاة الجماعة عندما انفضت تلك الجموع الغفيرة بعد أداء صلاة آخر مغرب في رمضان، وقل مثل ذلك في البر والإحسان ودماثة الأخلاق وغيرها من الفضائل، وقد نسوا أو تناسوا قول الله عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
عباد الله، إن العيد ليحزن، نعم يحزن العيد إذا أتى في هذا الواقع الأليم للأمة الإسلامية، يحزن العيد عندما نلبس الجديد ونأكل الثريد ونطلب المزيد ونقول لبعضنا: عيد سعيد وإخوان لنا عراة في الجليد، دماء وجروح وصديد، طفل شريد، وأب فقيد، وأم تئن تحت فاجر عنيد، صراخ وتهديد ووعيد، ونحن نقول لبعضنا: عيد سعيد، ولسان حالهم يقول: لمَ جئت يا عيد؟ غِبْ يا هلالْ، إنِّي أخاف عليك من قهر الرِّجالْ، قِفْ من وراء الغيمِ لا تنشر ضياءَك فوْق أعناق التِّلالْ، غِبْ يا هلالْ، إني لأخشى أنْ يُصيبَكَ حين تلمحنا الخَبَالْ، أنا يا هلالْ، أنا طفلةٌ مسلمه، فارقتُ أسْرتنَا الكريمَه، لي قصةٌ دمويَّةُ الأحداثِ باكيةٌ أليمه، أنا يا هلالْ، أنا مِن ضَحايا الاحتلالْ، أنا مَنْ وُلِدْتُ وفي فمِي ثَدْيُ الهزيمَهْ، إنِّي لأَعجب يا هلالْ، يترنَّح المذياعُ من طربٍ ويَنْتعِشُ القدحْ، وتهيج موسيقى المَرحْ، والمطربون يردِّدون على مسامعنا ترانيم الفرَحْ، وبرامج التلفاز تعرضُ لوحةً للْتهنئَهْ: عيدٌ سعيدٌ يا صغارْ، والطفلُ في لبنانَ يجهل منْشَأهْ، وبراعم الأقصى عرايا جائعونْ، واللاجئونَ يصارعون الأوْبئَهْ، غِبْ يا هلالْ، قالوا: ستجلبُ نحوَنا العيدَ السعيدْ، عيدٌ سعيد والأرضُ ما زالتْ مبلَّلَةََ الثَّرى بدمِ الشَّهيدْ؟! ومدى السعادةِ لم يزلْ عنّا بعيدْ، غِبْ يا هلالْ، لا تأتِ بالعيد السعيدِ مع الأَنينْ، أتظنُ أنَّ العيدَ في حَلْوى وأثوابٍ جديدَهْ؟! أتظنُ أنّ العيد تَهنئةٌ تُسطَّر في جريدهْ؟! غِبْ يا هلالْ، حتى ترى رايات أمتنا ترفرفُ في شَمَمْ، فهناكَ عيد، أقبلت يا عيد والأحزان أحزان، وفي ضمير القوافي ثار بركان، أقبلت يا عيد والظلماء كاشفة عن رأسها وفؤاد البدر حيران، أقبلت يا عيد والأحزان نائمة على فراشي وطرف الشوق سهران، من أين نفرح يا عيد الجراح وفي قلوبنا من صفوف الهم ألوان؟! من أين نفرح والأحداث عاصفة وللدماء مقل ترنو وآذان؟! من أين والمسجد الأقصى محطمة آماله وفؤاد القدس ولهان؟! من أين نفرح يا عيد الجراح وفي دروبنا جدر قامت وكثبان؟! من أين والأمة الغراء نائمة على سرير الهوان والليل نشوان؟! من أين والذل يبني ألف منتجع في أرض عزتنا والربح خسران؟! من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا منا ولا أصبحوا فينا كما كانوا؟!
أيها الأحباب، كيف حال إخواننا في هذا العيد؟! هل فرحوا كما فرحنا؟! هل فرح الأبناء بآبائهم؟! هل سعد الأزواج بأزواجهم؟! الجواب: لا، لا والله، بل هم في حروب مدمرة، غارات وحشية، قتل وتشريد، سلب ونهب، اغتصاب واغتيال. أما لهذه البلدان من يحميها ويفك أسرها؟! أين العقول المفكرة لتتدبر خطورة هذه الغارات الوحشية على العالم الإسلامي؟! أين القيادات الحكيمة لتقف في وجه هذا العدوان الزاحف على العالم الإسلامي؟! أين القوة الإسلامية لتردّ كيد الأعداء وتستنقذ الديار والأطفال والنساء؟! أين المليار مسلم من إبادة الشعب المسلم في أفغانستان؟! أين هم من قتل الأطفال والشيوخ والنساء؟! أين المليار مسلم من إبادة شعب فلسطين على أيدي إخوة القردة والخنازير وبمباركة من عباد الصليب؟! أين المليار مسلم من نصارى إندونيسيا وهم يبقرون بطون المسلمين ويخرجون أمعاءهم وأكبادهم ويأكلونها؟! كل ذالك يحصل أمام مرأى ومسمع العالم الإسلامي وغيره ولا مجيب ولا معين، وما ذنبهم إلا أنهم يقرؤون القرآن ويؤمنون بالرحمن.
جل الْمصاب وزادت الآلام وعدت على أرض الهدى الأقوام
وتأخر الركب الكريم من الونَى وتنكب الإيمان والإسلام
وتكالبت وحوش الزمان على الذي فِي ظلّه تتزاحم الأقدام
حرب على الدين الحنيف وإنَّها لطويلة ما طالت الأيام
أسفي على الإسلام ينْزف جرحه والْمسلمون عن الْجهاد نيام
لَم يغضبوا لله غضبة مؤمن رأوا العدو بأرضهم وتعاموا
ما قيمة الدمع الْهتون أصوغه شعرًا وشعبٍي للهوان يسام؟!
فِي كل أرض من ديار مُحمد ذلّ يراد وفرقة وخصام
يا من ركنت إلى الحياة وطيبها الذل فَي الدين الْحنيف حرام
والْحق أبلج والْحياة قصيرة فعلامَ خوفًا إن أتاك حَمام؟!
من لم يمت بالسيف مات بغيره ولكل نفس فِي الْحياة مرام
أين الْملايين الذين نعدهم؟! أوليس فيهم فارس مقدام؟!
بَخلت علينا الوالدات بِمثلهم وأتى على أثارهم أقزام
شقيت بنا الأيام إذا لم نحيها ولطالَما سعدت بنا الأيام
قالوا: السلام سبيلنا يا ويْحهم أو يرجع الحق السليب سلام
نَحن الأولى خير المعارك قادة أيراد منا الذل والإرغام
كيف الحقوق تضيع من أصحابها إن كان فيهم مبدأ وحسام
قم يا صلاح وشاهد القدس التي حررتها يزهو بها الحاخام
فلعل سفر المجد يفتح صفحة فيطل يوم مشرق بسام
أما أطفال المسلمين فتستغيث، تنادي تستنجد، تبكي كل يوم بل كل لحظة وبكل لغة، في فلسطين السليبة وفي الشيشان الجريحة وفي كشمير اليتيمة وفي أندونيسيا والفلبين وفي كثير من ديار المسلمين، الأطفال تنادي وتسأل: أين الحليب؟ أين الدواء؟ أين اللباس؟ أين الحذاء؟ أين المأوى؟ وأين وأين وأين...؟ وتستغيث: أين الآباء والأمهات؟ لقد شرق الأطفال بدموعهم وهم يبكون وينادون، أين الديار والأهل والأحباب؟ إنهم ينادون المسلمين فلا مجيب، فتحولوا إلى نداء عباد الصليب! أتدرون أين ينامون؟! وكيف يعيشون؟! وماذا يأكلون؟! وأين يسكنون؟! وماذا يتعلمون؟! وكيف يتعالجون؟! لقد لفحهم حر الصيف وبرد الشتاء، وأفزعهم أزيز الرصاص ودويّ المدافع وأصوات الطائرات وانفجار القنبلات، وباتت بطونهم طاوية وأبدانهم عليلة وقلوبهم حزينة ودموعهم جارية وعباراتهم عريضة وأجسادهم عارية وأقدامهم حافية وآباؤهم مقتلة وبيوتهم مهدمة وديارهم مغتصبة وعشائرهم مشرّدة وأموالهم مسلوبة، فهل من مغيث؟! وهل من مجيب؟!
إن قلبًا لا تؤلمه هذه المشاهد لقلب ميت، إن عقلاً لا يفكر بأحوال هؤلاء لعقل خرب.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فلقد أحسنت ـ أيها المسلم ـ إذ كنت في شهر رمضان منيبًا إلى ربك تائبًا من ذنبك راغبًا في رحمته وثوابه خائفًا من نقمته وعذابه، أصبت إذ كنت محافظًا على أداء الصلوات في أوقاتها حريصًا على شهود الجمعة والجماعات مقبلاً على مجالس العلم ومستعدًا لقبول النصائح والعظات، أفلحت إذ كنت محبًا للخير وأهله كارِهًا للشر وحزبه، فها هو قد انقضى شهر الصيام، فقل لي بربك: على أي شيء عزمت بعده؟ أتراك بعدما ذقت حلاوة الطاعة تعود إلى مرارة العصيان؟! أتراك بعدما صرت من حزب الرحمن تنقلب على عقبيك إلى حزب الشيطان؟! أتراك بعدما حسبت في عداد المصلين تترك الصلاة وهي عماد الدين؟! هل يليق بك بعدما كنت في جملة الطائعين المرحومين أن تصير في زمرة العاصين المحرومين؟! أيليق بك بعدما كنت في رمضان برًا تقيا أن تصير في الإفطار جبارا عصيًا؟! كلا ثم كلا، ما هكذا المؤمنون، بل ما هكذا العقلاء المتبصرون ولا السعداء الموفقون، إنما المؤمنون الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.
اللهم لم شعثَ قلوبنا، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان...
(1/4871)
مصارع الأمم
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
عبد الكريم بن محمد الغيثي
حائل
6/6/1417
جامع العفري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم الجمعة. 2- إهلاك الله تعالى للأمم الكافرة. 3- وجوب شكر النعم وحقيقة الشكر. 4- قصة النبي صالح مع قومه. 5- التحذير من الاغترار بالدنيا وزينتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، نحن جميعا ولله الحمد ما أتينا إلى هذا المكان الطيب الطاهر في هذا الوقت إلا طاعة لله عز وجل ولرسوله ؛ حيث إنه أمرنا بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]. وجعل الله هذا اليوم عيدا لنا وفرحة إيمانية، ففيه نذكر الله، ونتناصح فيما بيننا، ويذكر بعضنا بعضا، ونحمد الله على نعمه، ونسأله من رحمته، ونعوذ به من عذابه.
وتعلمون ـ أيها المسلمون ـ أن جميع الأمم التي كانت قبل أمة محمد منهم من أهلكه الله بالغرق، ومنهم من أهلكه الله بالريح العاتية، ومنهم من أهلكه الله بالسنين، ومنهم من أهلكه الله بالصاعقة من السماء، ومنهم من خسف به الأرض. وهذه الأمم لم يهلكها الله عز وجل ظلمًا، تعالى الله عن ذلك، ولكنه أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فمن الرسل من دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومنهم من دعا قومه خمسمائة عام، أمهلهم الله زمنًا طويلا حتى إذا استيأس الرسل أنزل الله بهم أنواع العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما هذه الأمة التي نحن منها، أمة محمد ، فما زلنا في إمهالٍ من الله، ووالله ليس بيننا وبين الله نسب ولسنا معصومين من عذاب الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، بل إن الله عز وجل قال في حق بني إسرائيل: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
ونحن كما تعلمون في هذا الزمن نتقلب في أنواع النعم التي لا تعد ولا تحصى، ولم تأتِنا هذه النِّعم لكثرة صلاتنا وصيامنا وعبادَتنا وإخلاصنا، ولكن الله يبتلينا بهذه النعمة فينظر هل نشكره عليها أم لا.
والشكر ـ يا عباد الله ـ ليس قولا في اللسان فقط كما يزعمه كثير من الناس، فمن الناس من إذا قيل له في ذلك قال: الشكر لله، وليس غير هذه الكلمة شيء، فيجب أن نشكر الله قولا وعملا، ولا نكون كمن كان قبلنا الذين أنعم الله عليهم ولم يشكروه بل كفروا به واستمرّوا في كفرهم وعنادهم وطغيانهم حتى جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون.
فهذا نبي عربي من أنبياء الله أرسله الله إلى قومه، فدعاهم للإسلام دعاء المخلص الأمين، وقال لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فكفروا بالله وما آمن معه إلا قليل. أتعلمون من هذا النبي؟ إنه عبد الله ورسوله صالح بن عبيد بن سامح بن ثمود، وينتهي نسبه بآرم بن نوح عليهما السلام. كان يسكن مع قومه في هذه الجزيرة العربية، هذا النبي الذي تحمّل مشاق الرسالة وهو وحيد على أرض قومه، فاجتمع زعماء قومه ضده، يستهزئون به ويعذّبونه، حتى إنهم هموا بقتله ولكن الله معه. وفي أحد الأيام اجتمعوا وتشاوروا بينهم كيف يتخلصون من هذا الرجل الذي أفسد عليهم عبادةَ أصنامهم وقالوا: نريد أن نأمره بشيء لا يقدر عليه أبدا لكي نهزمه ونطرده؛ لانهم خافو أن يكثر أتباعه من المسلمين ويتقوى الإسلام عليهم. قالوا: يا صالح إن كنت حقًا تدعي النبوة وأن ربك الذي تقول: يقدر أن يستجيب لك نريدك أن تخرج لنا من هذا الجبل أو قالوا: من هذه الصخرة ناقة عشراء تخرج ونحن ننظر، فإذا فعلت ذلك فأنت صادق، قال: يا قوم إنما أنا بشر والخلق بيد الله، قالوا: إذا لا نصدقك. وهنا ـ يا عباد الله ـ يأتي دور التوكل على الله الذي بيده ملكوت كل شيء رب الأرباب ومسبب الأسباب وخالق الخلق من تراب الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال لهم صالح عليه السلام: إذا حصل لكم ذلك أتؤمنون بالله وحده لا شريك له وتتركون عباداتكم الباطلة؟ فنظر بعضهم إلى بعض قالوا: نعم. ثم انصرف عليه الصلاة والسلام وأخذ يصلي ويدعو الله عز وجل أن ينصره عليهم ويرزقه هذه المعجزة العظيمة بأن يخرج لهم ما يريدون، وبينما هم واقفون جميعا ينظرون للصخرة فإذا بها تهتز بقدرة الله وتخرج منها ناقة عظيمة، ثم نزلت عليهم قال تعالى: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، فقال لهم صالح عليه السلام: هذه ناقة الله تشرب يوما ولكم يوم، وكانت عندما تأتي يحلبونها جميع القوم فتكفيهم لبنا، ولكنهم مع هذا كله لم يؤمنوا برسالة التوحيد، قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر:80]. وهذه القبيلة كانت تسكن في غرب الجزيرة، وما زالت آثارهم حتى الآن تسمى بمدائن صالح، وكان منهم امرأة كافرة لها بنات، وقيل: إنها كانت تبيع اللبن فأفسدت ناقة الله تجارتها، فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوا ناقة الله التي جعلها لهم آية، فقالت المرأة: من يعقر الناقة وأزوجه ما يريد من بناتي؟ وكان هناك رجل يقال له: قدّار بن سالف لعنه الله الذي قال عنه النبي : ((أُحيمر ثمود)) ، وذكر أنه أشقى الناس يوم القيامة، قال هذا الرجل: أنا أعقرها، وأخذ معه رجلا وترصّدوا للناقة في وردها، فضربوها بالسهام وعقرها هذا الشقي بسيفه، وكان ابنها وراءها. قيل: إنه صعد الجبل ونادى: يا رب، أين أمي، ثم دخل الجبل، فعلم صالح عليه السلام وغضب عليهم وقال لهم: يا أعداء الله، اعلموا أن الله يقول لكم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، فلما توعدهم خافوا من هذا الوعيد لأنهم الآن يعرفون أن له ربًا يستجيب الدعاء، وكان ذلك في يوم الأربعاء، وتركوا أعمالهم وصاروا ينظرون إلى السماء ينتظرون عذاب الله، فلما جاء يوم الخميس فإذا وجوههم مصفرة، ولما جاء يوم الجمعة فإذا وجوههم مسودّة، وفي صبح السبت والعياذ بالله أخذت السماء تصعق والأرض تهتز والرياح تزفر، فجاء وعد الله إنه لا يخلف الميعاد، صاعقة من السماء جعلتهم خبرا بعد عين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال لهم صالح عليه السلام: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79].
أيها الإخوة في الله، هذه حال أمة واحدة من مِئات الأمم التي أهلكها الله بسبب المعاصي والذنوب.
أيها المسلمون، والله لو كانت الدنيا بغير طاعة الله تنفع صاحبها لنفعت أبا لهب عمّ النبي ، ولو كان المال بغير طاعة الله ينفع لنفع قارون، ولو كان النسب بغير طاعة الله ينفع لنفع أبا جهل، ولو كان الملك بغير طاعة الله ينفع لنفع فرعون، ولو كانت الرتبة بغير طاعة الله تنفع لنفعت هامان، ولو كانت الفصاحة والجدال بغير طاعة الله ينفع لنفع النمرود.
فاتقوا الله يا إخوة الإسلام، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، وإياكم والغفلة والتفريط وطول الأمل، فإن العمر معدود والأجل محدود، واحذروا أن يأتيكم الموت وأنتم عنه غافلون. جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم، إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4872)
وداع رمضان وأحكام زكاة لفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
عبد الكريم بن محمد الغيثي
حائل
28/9/1427
جامع العفري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- ذم التفريط في مواسم الطاعات. 3- الحث على اغتنام ما بقي من رمضان. 4- ألم فراق الشهر. 5- من أحكام زكاة الفطر. 6- الحث على المداومة على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني ونبارك لبعضنا بدخول شهر رمضان المبارك هذا الموسم العظيم للمسلمين، وها نحن الآن على مشارف وداعه ونتلقى التعازي على فراقه، وهذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا الشهر المبارك لهذا العام، فسبحان مصرف الشهور والأعوام ومدبر الليالي والأيام، وسبحان الذي كتب الفناء على كل شيء وهو الحي القيوم الدائم الذي لا يزول، الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]. فلا إله إلا الله كم من الذين يتمنون حضور هذا الشهر ولكن حال بينهم وبينه هادم اللذات ومفرق الأحباب والجماعات، وكم من الذين حضروه ولكنهم لم يقيموا له قدرًا ولا وزنًا، سهر بالليل على المحرمات أو المكروهات، ونوم بالنهار عن الذكر والتلاوة وجميع الطاعات، قد بلغوا الغاية في التفريط بأثمن الأوقات، ألا يعلم كل مفرط في هذا الموسم العظيم أنه ربما يأتيه رمضان القادم وهو تحت أطباق الثرى؟! فهل ينفع الندم على التفريط بعد فوات الأوان؟! حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]. يقول المفرطون بعد الموت إذا رأوا الحسرات على التفريط، يقولون: ربنا أعدنا إلى الدنيا فسوف نجتهد بالأعمال الصالحة، بالصلاة والصيام والقيام والصدقة ولا نفرط في شيء أبدا، فهل يعودون؟ لا والله، بل هم مرتهنون في حياة برزخية، إما في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله من ذلك. فلو كان أهل القبور ينطقون لقالوا للأحياء: تزوّدوا فإن خير الزاد التقوى.
وأوصيكم ونفسي المقصرة باغتنام ما بقي من ساعات هذا الشهر، فما بقي منه إلا القليل، فاجتهدوا رحمكم الله، وارفعوا أكف الضراعة إلى الله، وادعوه مخلصين له الدين؛ لعلكم أن توافقوا ساعة إجابة، فتكون سعادتكم في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة في الله، إن رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق من ساعاته إلا القليل.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبِي عليك بفان
أيها الإخوة في الله، إن قلوب الصالحين إلى هذا الشهر تحنّ، ومن ألم فراقه تئن، وكيف لا وقد نزلت فيه رحمة رب العلمين؟! كيف لا تدمع على فراقه عيون المحبين وهم لا يعلمون هل يعيشون حتى يحضرونه مرةً أخرى أم لا يعيشون؟!
تذكرت أيامًا مضت ولياليا خلت فجرت من ذكرهنّ دموع
ألا هل لَها من الدهر عودة؟! وهل لي إلى وقت الوصال رجوع؟!
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل؟! وهل لبدور قد أفلن طلوع
نعم ولله يا إخوة الإسلام، إن القلوب لتحزن عند فراق هذا الحبيب، شهر الصيام والقيام، شهر المحبة والألفة شهر الرحمة والغفران، شهر البركة وانشراح الصدور، شهر رفع أكف الضراعة إلى الله، شهر العبرات والبكاء من خشية الله، فكم من معرض عن الله عاد إلى الله في هذا الشهر، وكم من إنسان مستوجبٍ دخول النار أعتقه الله من دركاتها، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من العتقاء من النار.
أيها المؤمنون، وإن مما شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك صدقة الفطر لتكون آية على الشكر وسببا لتكفير الإثم والوزر وتحصيل عظيم الأجر وطعمة للمساكين ومواساة لفقراء المسلمين، وهي زكاة بدن تلزم كل مسلم يفضل عن قوته وقوة أهله ومن تلزمه نفقتهم، وهي صاع من طعام تخرج عن الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، وخصها رسول الله من القوت لأنه هو الذي تحصل به المواساة، فتخرج من قوت البلد، وإن كان من الأنواع المنصوصة فهو أفضل، ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نعطيها ـ يعني صدقة الفطر ـ في زمان رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب. فالأفضل الاقتصار على هذه الأصناف المذكورة، فإن لم توجد يخرج من بقية أقوات البلد، فإن المقصود مواساة الفقراء وسد حاجة المساكين يوم العيد لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم عن الطواف)) ، ولكن تذكروا قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
عباد الله، المقدار الواجب من زكاة الفطر صاع، وذلك يساوي حوالي كيلوين ونصفًا تقريبًا، وأفضل وقت لإخراجها بعد غروب شمس ليلة العيد، ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وتدفع لمستحقيها من أصناف الزكاة الثمانية، وأولاهم الفقراء والمساكين.
فاتقوا الله عباد الله، وتقربوا إلى الله بما شرع لكم، وتذكروا أن الآجال قواطع الآمال، واستحضروا سرعة الوقوف بين يدي الكبير المتعال، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إنكم الآن في ختام الشهر، ولم يبق منه إلا القليل، فمن كان في شهره مسيئا فليتب إلى الله توبة نصوحًا، وليلج باب التوبة ما دام مفتوحا، قبل غلق الباب وطي الكتاب.
إخوة الإيمان، اعمروا المساجد بالمحافظة على الصلوات وحضور الجمع والجماعات والتزود من النوافل وجميع الطاعات، وتذكروا قول المصطفى : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كمن صام الدهر)).
ومن فضل الله علينا أن شرع لنا في ختام هذا الشهر المبارك عبادات نتزود بها من الله قربًا ونعمل بها شكرًا، فمن ذلك التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد، وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، وذلك في المساجد والأسواق والبيوت وغيرها، يجهر بها الرجال ويسرّ بها النساء، وهذه السنة قد أميتت عند كثير من المجتمعات.
اللهم اجعلنا عندك من المقبولين، ولا تردنا خائبين، واختم بالصالحات أعمالنا يا رب العالمين.
عسى وعسى من قبل وقت التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي
فيجبَر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقي
عباد الله، إن الله يأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى...
(1/4873)
تاريخ مؤامرات اليهود
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
خالد بن محمد مجرشي
ثول
مسجد أبي بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تخطيط يهودي. 2- تاريخ اليهود الأسود. 3- عداوة اليهود وكيدهم بالمسلمين. 4- اليهود نقضة العهود. 5- اليهود في العصر الحاضر. 6- تفرق اليهود. 7- أهمية معرفة طبيعة العدو.
_________
الخطبة الأولى
_________
ففي مدينة فرانكفورت الألمانية وفي مصرف ربوي وبالتحديد في عام 1859م اجتمع ثلاثة عشر رجلاً من سادة الذهب المسيطرين على مؤسسات وشبكات مالية عالمية الانتشار، ووضعوا مخططًا عسكريًا لإقامة ثلاث حروب عالمية وثلاث ثورات كبرى في العالم بهدف هدم الأديان وتقويض صرح المجتمعات وكسب الأموال. هل تعلمون من هؤلاء المجتمعون؟ إنهم يهود.
وبعدها بدأت مؤامرات كبار أحبار اليهود لتنفيذ هذا المخطط لإثارة الحروب وسفك دماء الألوف بل الملايين من الأبرياء، وقرروا الإطاحة بالأنظمة الملكية في أوربا والقضاء على جميع الحكومات القائمة في العالم، ونحن في هذه الأعصار المتأخرة والأزمان المتأخرة في زمن استنوقت فيه الجمال واستنسرت فيه البغاة إعلام الغرب وفكره وأدبه يصور العدو صديقًا والناصح شريرًا والرافض للانحلال رجعيًا.
فلنتقلّب معًا ـ أيها الأحباب ـ لنقلب صفحات التاريخ الأسود لليهود مما جاء في القرآن والسنة النبوية والتاريخ القديم والحديث. وإن في التاريخ لعبرة وعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهي معالم سوداء تبين خطرهم على المسلمين جميعًا، وإن نظرة فاحصة في القرآن الكريم تبين لنا التركيز الواضح على اليهود، فقد تكرر ذكرهم وبيان حالهم في أكثر من ثلث سور القرآن بسطًا وإجمالاً وتصريحًا وتلميحًا. فها هي أول سورة في القرآن الكريم فاتحة الكتاب يرد البيان الإلهي عن انحراف اليهود والنصارى، ويلتجئ المسلم إلى الله أن لا يسلك طريقهم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الآية، وأول سورة بعد الفاتحة سورة البقرة وهي بقرة بني إسرائيل، وتسمى السورة الثالثة: سورة آل عمران، وآل عمران لأسرة فاضلة من أسر بني إسرائيل وإن كانت تختلف عنها في توحيدها وعبادتها لربها فاصطفاها الله، وتسمّى السورة الرابعة: سورة المائدة وهي المائدة التي طلبها بنو إسرائيل، بل خصّص سورة بأكملها وهي سورة الإسراء والتي تسمى: سورة بني إسرائيل، ناهيك عن قصص موسى عليه السلام مع اليهود وقصصهم مع الأنبياء من بعده، وكل ذلك يدل على أن الصراع مع بني إسرائيل سيستمر إلى قيام الساعة، وكلما خمدت جذوة الصراع في منطقة أو عصر من العصور فإنها سوف تتجدد في منطقة أخرى حتى يأتي الموعد، يوم يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. وهذا الحديث يفسر زرعَ اليهود للغرقد اليوم في فلسطين، ومن تموت له شجرة يجب عليه أن يزرع بدلا منها أخرى وإلا تقطع الكهرباء عن منزله.
إن عداوة اليهود تشهد بخسّتها القرون الغابرة، وتؤكّدها الأعصار اللاحقة، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82]. فقد حاولوا أكثر من مرة قتل المصطفى ولكنهم لم يفلحوا، سموا الطعام الذي قدموه للنبي ولكنهم لم ينجحوا، جمعوا عليه الأحزاب يوم الخندق ولكنهم لو يوفّقوا، بل أعلنوها كراهية حتى الممات، فهذا حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير لما قدم الرسول للمدينة قال أخوه أبو ياسر: أهو هو؟ قال: نعم والله إنه محمد، أعرفه وأثبته أنه نبي الله المنتظر، فقال أبو ياسر: إذًا ما عزمت في نفسك؟ قال: عداوته والله ما بقيت. وحين أمكن الله من عدو الله حيي بن أخطب وجيء به مجموعةً يداه إلى عنقه قال له النبي: ألم يمكِّنّي الله منك يا عدو الله؟ قال: بلى، أبى الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي ولم أتحسّر يومًا في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل.
واستمرت عداوة اليهود للإسلام والمسلمين، فبعد وفاة النبي وفي عهد الخلفاء الراشدين خرج ذلك القرد القذر عبد الله بن سبأ اليهودي ليشعل نار الفتنة ويبذر الخلاف بين المسلمين.
ثم دعونا نتجاوز الزمن قليلاً ونقف عند دولة الخلافة، عند الدولة العثمانية، فقد حاول اليهود واجتهدوا مع الدولة العثمانية ليسمح لهم بالهجرة إلى أرض فلسطين، فأصدر السلطان عبد المجيد خان أمرًا بمنع اليهود القادمين لزيارة بيت المقدس أكثر من ثلاثة أشهر، وتكللت جهودهم بالفشل الذريع، ولكن اليهود لم يستسلموا ولم ينثنوا عن عزمهم. ثم يعيدون الكرة مع السلطان عبد الحميد الثاني برئاسة أبي الصهيونية والذي كان السبب الرئيسي في المأساة التي نتجرّع آلامها ونتذوق مرارتها إلى يومنا هذا "تيودور هرتزل"، فقد وعد هذا الصهيوني الخبيث سلطان المسلمين عبد الحميد الثاني بتسديد ديون الدولة العثمانية وتقديم القروض الإنمائية لتطوير الزراعة والاقتصاد وإنشاء جامعة في إستانبول لتغنيَ الطلبة المسلمين عن السفر إلى أوروبا، كل هذه الوعود ـ أيها الأحباب ـ مقابل ماذا؟ مقابل إنشاء مستعمرة قرب القدس، فغضب السلطان عبد الحميد غضبًا شديدا ورد عليهم بقوله: "لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من البلاد، لأنها ليست لي بل لأمّتي، لقد حصلت أمتي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائها، وسوف تحميها بدمائها قبل أن تسمح لأحد باغتصابها منا، ليحتفظ اليهود بملايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنها والله لن تقسم إلا على جثثنا".
عندها استعان اليهود بالدول الكبرى في إسقاط الخلافة العثمانية، ووضعوا بدلاً منه العميل اليهودي مصطفى كمال أتاتورك الذي أعلن العلمانية ومزق العمامة وأسكت المنارة، فقد قام بإلغاء الخلافة العثمانية، وفصل المعقل الإسلامي الكبير تركيا عن باقي دول العالم الإسلامي، فحطم الدولة الإسلامية العظيمة، وقام بمنع الزي الإسلامي، وحرم الأذان والصلاة، ومنع الحروف العربية، واستبدلها بالحروف اللاتينية، وحول جامع أيا صوفيا إلى متحف.
ولم ينته الحد عند هذا، بل إن عداوتهم عقيدة راسخة يلقنها الآباء للأبناء، فهذا مناح بيجن يقول: "أنتم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تشعروا بالشفقة حتى تقضوا على عدوكم، ولا عطف ولا رثاء حتى تنتهوا من إبادة ما يسمى بالحضارة الإسلامية التي سنبني على أنقاضها حضارتنا"، ويقول ديفيد بن جوريون: "نحن لا نخشى الاشتراكيات والثوريات ولا الديمقراطيات، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ"، وعندما سئل عن عودة اللاجئين إلى أراضيهم قال: "إن عقارب الساعة لا ترجع الوراء، والحل العاجل هو إسكان الفلسطينيين في الدول المجاورة"، ويقول إسحاق شامير في حفل استقبال اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل: "إن إسرائيل الكبير من البحر إلى النهر، وهي عقيدتي وحلمي شخصيا، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة والصعود إلى أرض الميعاد، ولن يتحقق أمننا ولا سلامنا"
وهذا يفسر أنه حينما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة أصرّ اليهود على أن يكون موقع السفارة على الجهة الغربية من النيل، لماذا؟ لأن حدودهم تنتهي عند الضفة الشرقية، ولذلك رفض اليهود إقامة السفارة على الضفة الشرقية، وأصروا على أن تكون على الضفة الغربية احترامًا لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من النيل، فهكذا يخططون، وهكذا يأمّلون ويتمنون، ويأبى الله أن يحقق لهم ما يريدون.
أيها الأحباب، إن نقض العهود معلم بارز من معالم اليهود، قال الله مجلِّيا هذه الحقيقة: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ الآية [الأنفال:56]. ولقد عاهدهم الرسول وكتب بينه وبينهم كتابا حين وصل إلى المدينة، فهل التزم اليهود العهد؟ هل احترموا الميثاق؟ هل نفّذوا بنود السلام؟ كلا، فقد غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر ولم يمض على المعاهدة أكثر من سنة، ثم غدر يهود بني النضير بعد غزوة أحد، ثم يهود بني قريضة غدرت بالرسول في أشد الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الأحزاب، يقول عبد الله بن سلام الصحابي الجليل الذي كان يهوديا ثم أسلم رضي الله عنه: قوم بهت خونة.
فإذا كان هذا حالهم مع من يعدونه نبيًا فكيف يكون حالهم مع من يعدونه ذنبًا؟! إذا كان هذا حالهم في وقت عز المسلمين فكيف يكون حالهم في وقت ضعفهم وتفرقهم؟! نسأل الله أن يعز دينه وجنده.
دعونا نقلب صفحة الحاضر بعد أن رأينا ماضيهم الأسود في الخيانة، فعندما اندلع القتال بين اليهود والعرب عام 1948م سعت الجمعية العامة ومجلس الأمن إلى إيقافه، واستطاعتا ذلك على أن لا يتجاوز أي من الطرفين حدود الأراضي التي احتلها عند توقف القتال، ولكن إسرائيل ولكن اليهود كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم، ففي عام 1967م هاجمت إسرائيل كلا من مصر وسوريا والأردن، واحتلت الضفّة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء والقدس بكاملها ومرتفعات الجولان ومنفذ خليج العقبة، وضربت بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن عرض الحائط، وسمي ذلك الزمن نكسة 67م.
عباد الله، إن اليهود ينظرون إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها أنها للضرورة أو لأغراض مرحلية أو مصلحة آنية، فإذا استنفدوا كل ذلك نقضوا الميثاق من غير استشعار لا بقيم أدبية ولا باعتبارات أخلاقية ولا بمواثيق دولية، ولنا في صفحات التاريخ عبرة، ففي عام 1973م قامت القوات المصرية بهجوم مفاجئ على إسرائيل، وعندما أدرك اليهود أن الخطر أحدق بهم وأن الهزيمة حالة بدولتهم لجأ رئيس القرود الإسرائيلية آنذاك مناحم بيجن إلى اتفاقية مع رئيس مصر آنذاك أنور السادات، فإنما هم يلجؤون إلى المعاهدات في الحالات الاضطرارية.
إن التفرق والشتات ماض فيهم إلى يوم القيامة، وَقَطَّعْنَاهُم فِي الأَرْضِ أُمَمًا ، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى. نعم أيها الأحبة، هذه حقيقة يعرفها من سبر تاريخ اليهود، ففي دولة ما تسمى بإسرائيل يوجد من التفرقة العنصرية بينهم ما الله به عليم، فاليهود الذين جاؤوا من الشرق يعادون ويكرهون اليهود الذين جاؤوا من الغرب، ويهود أوروبا ينظرون إلى يهود العراق واليمن نظرة دونية، فكيان دولتهم أوهن من بيت العنكبوت، وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا شك أن العلم بهذه الحقائق التاريخية مهمّ في كل زمان ومكان، وفي أزماننا هذه أهمّ، فلكي تعرف حقيقة العدو لا بد أن ترجع لتاريخه وخططه، فقد قيل: إن معرفة المسلمين بحالهم وحال أعدائهم نصف المعركة. فالنظر للمشكلة ومعرفة اتجاهات العدو ومخططاته نصف الصراع، وهذا منهج القرآن، فقد تكلم عنهم في آيات كثر، لماذا؟ هم العدو فاحذرهم، فهم أرضَونا بألسنتهم من الكلام المعسول والمصالحة وحقوق الإنسان، ولكن ما تخفي صدورهم وما تخبئ لنا نواياهم من الحقد والكره أعظم. فلن تعود فلسطين بوعودهم ولا بأمانيهم ولا مواثيقهم، ولن يعود المسجد الأقصى إلى مكانته وعزته إلا بغضبة كغضبة المعتصم، ولله در الشاعر القائل:
يا أمّة الحق والآلام مقبلة متى تَعِينَ ونار الشر تستعر؟!
متى يعود إلى الإسلام مسجده؟! متَى يعود إلى مِحرابه عمر؟!
أكلَّ يوم يُرى للدين نازلة؟ وأمّة الْحق لا سمع ولا بصر؟
أبالرياضة نبني مجدَ أمتنا؟ أم بالفنون وبالأفلام ننتصر؟
والله، لن تقوم للدين قائمة إلا إذا عدنا لكتاب ربنا وسنة نبينا ، فنحن المسلمون نصنع واقع بني إسرائيل، فهم لا يجتمعون إلا إذا تفرقنا، ولا يتشجعون إلا إذا جبنا، ولا يقوون إلا إذا ضعفنا، ولكننا نسأل الله أن يكشف الغمة ويزيل الظلمة، وأن يخرج اليهود من فلسطين أذلة وهم صاغرون، اللهم أخرجهم أذلة وهم صاغرون، اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تغادر منهم أحدًا، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، اللهم سدد سهامهم واجمع شملهم وقوي شوكتهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم ارفع علم الجهاد واقمع أهل الزيغ والفساد وانشر رحمتك بين العباد الله ووفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، اللهم انصرهم بالإسلام وانصر الإسلام بهم...
(1/4874)
ماذا بعد رمضان؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, مواعظ عامة
محمد بن ماجد القحطاني
القويعية
7/10/1425
جامع الفرشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات لا بد منها بعد رمضان. 2- حقيقة التوبة. 3- التحذير من النكوص عن الطاعة. 4- التخلص من مفسدات القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى الله أقوم وأقوى، وتوكلوا على الله، ومن توكل عليه كفاه وأغناه، وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، في الأيام الماضية ودّعنا شهر الصيام، ولكن ألسنتنا لا تزال طرية بالقرآن، وقلوبنا عامرة بالتقوى والإيمان، أو على الأقل نعتقد ذلك. ومن المفترض أن لا تحيط الغشاوة بأبصارنا فتعميها من رؤية المحتاج، وتقبض أيدينا عن وجوه الإنفاق والبر والإحسان. ترى هل تستطيع الشياطين بعد أن أطلقت قيودها أن تحجبنا عن حضور جماعات المسلمين آناء الليل وأطراف النهار وقد كنّا في رمضان من المبادرين إلى الصلوات وفي مقدمتها صلاة الفجر والعشاء؟! وإذا كان من فضل الله علينا في رمضان أن تبعَّدْنا عن سمات المنافقين أفنتخبّط في الظلمة في شوال أو في غيره من أشهر العام فننام عن بعض الصلوات المكتوبة ونفرّط في صلاة الجماعة؟!
وإني سائلٌ نفسي وإياك يا أخا الإسلام: كم جزءًا من كتاب الله قرأنا بعد انقضاء شهر الصيام؟ وكم ركعةً لله من غير الفريضة ركعناها بعد انقضاء رمضان؟ وهل صمنا شيئًا من ست شوال التي جاء في فضلها ما نعلم بعد انقضاء شهر الصيام؟ إلى غير ذلك من أعمال عمرتْ بها قلوبنا واستقامت بها حياتنا في شهر رمضان، فإن قلنا: إن تقصيرنا هذه الأيام لفرحةِ العيد وظروفه، فيردنا السؤال الآخر: وهل أضمرنا نية الخير ومواصلة الطاعة وعدم الركون للكسل بعد شهر رمضان؟ وهل سنأخذ أنفسنا بالعزيمة أم يمضي العمر بالأماني الفارغة وركوب بحر التمني؟
عباد الله، إذا كنا قد عزمنا على التوبة في شهر التوبة والغفران، فمن المفاهيم الخاطئة أن نقصر التوبة على شهر رمضان، ومن الخطأ كذلك أن نقصر التوبة على الإقلاع عن الذنب والندم عليه وعدم الرجوع إليه مرةً أخرى، ولكن التوبة لا تتم إلا بأمورٍ عدة منها: 1- الإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه، 2- التوبة من الذنب، 3- الندم على ما فات، 4- العزم الصادق على عدم العودة إلى الذنب، 5- أن يكون تركها لأجل الله تعالى لا لخوفٍ أو مصلحة أو غير ذلك. يقول الله سبحانه وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فكل تائبٍ مفلح، ولا يكون مفلحًا إلا من فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. وتارك المأمور ظالم، كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للشروط السابقه. يقول ابن القيم رحمه الله: "فالتوبة إذًا هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخلٌ في مسمّى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، والتوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، لهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته... ـ إلى أن يقول رحمه الله: ـ وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلاً عن القيام بها عِلمًا وعملاً وحالاً، ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم".
أيها المسلمون، إذا كان هذا عن معنى التوبة وقدْرها فاعلم أن التوبة محفوفة بتوبة من الله على العبد قبلها وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولاً إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبد فتاب الله عليه قبولاً وإثابة، وتأملوا قول الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117، 118]. فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتفي لانتفاء علته.
فبادر ـ يا أخا الإسلام ـ إلى التوبةِ عاجلاً، واسأل الله أن يوفقك إليها ابتداءً، وأن يقبلها منك ويثيبك عليها انتهاءً، والزم الاستغفار ففيه خيرٌ عظيم، ولا يزال لسانك يلهج بالاستغفار.
أيها المسلمون، مداواة القلوب بهذه الأدوية الناجحة لا يتوقّف على رمضان، فمصيبةٌ أن يعود المسلمون إلى ربهم في رمضان ويصبحوا ضالين عن هُداه في سائر العام، مصيبةٌ عظمى أن يقصر المسلم إجابته لداعي القرآن في شهر الصيام ويظلُّ هاجرًا للقرآن طوال العام. إن التوبة إلى الله إن فُضّلت في زمانٍ دون زمان، فهي باقية صمام الأمان لمن ابتغى الأمن ورضا الرحمن، ولست تدري ـ يا أخا الإيمان ـ متى يحين الرحيل فتنتقل من دار الفناء إلى دار المقام، وإن الإنابة إلى الله ليست محدودةً بزمان ولا بمكان، بل دعيت إليها قبل حلول العذاب، وحينها يعزّ الناصر وتنتهي فترة الإمهال، وإذا أنبت بها صادقًا فأظهر من الذلِ والافتقارِ بين يديه ما يشهد بعبوديتك للواحد الديان. يُحكى عن بعض العارفين أنه قال: "دخلتُ على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من بابٍ إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول، حتى جئتُ باب الذلّ والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه سبحانه وأوسعه، فلا مزاحم فيه ولا معوق"، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:53، 54].
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المستحق للعبادة على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك رب الشهور والأعوام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاءه الوحي من ربه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: إخوة الإسلام، قد عودكم شهر رمضان على الاقتصاد في الطعام والشراب، ومدرسة الصوم علمتكم الإقلال من الكلام الفارغ معوضين عن ذلك بكثرة الذكر وتلاوة القرآن، كما كان من فضل رمضان التخلّص من مفسدات القلب وهي خمسة أشياء:
الأول: كثرة الاختلاط بالسيئ من الناس، فإن كثرة الاختلاط بهم تورثه همًا وغمًا وتعينه على الشر إلا من حافظ على الرفقة الصالحة.
الثاني: التمني، فإن التمني يجبر الإنسان على الأحلام، ويُقعده عن العمل النافع الجاد المثمر الذي يرضي ربه ومن خلاله يكسب رزقه.
الثالث: التعلق بغير الله، فإن من تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به وخذله، ومن وكله الله إلى غيره فقد ضاع.
الرابع من أسباب مفسدات القلب: كثرة الطعام، والمفسد له نوعان أحدهما: ما يفسده لعينه كالمحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها، والثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حدّه كالإسراف في الحلال حتى الشبع، فإن البِطنة تثقله عن الطاعات، وتزيد عليه الشهوة، وتوسع عليه مجاري الشيطان، والرسول يقول: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، فحسب ابن آدم لقيماتٍ يُقمْنَ صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفسه)).
الخامس: كثرة النوم، فإنه ـ كما قال العارفون ـ يميت القلب ويثقل البدن ويضيّع الوقت ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدًا ومنه الضار، فالنوم أول الليل أنفع وأحسن من آخره، والنوم وسط النهار أفضل من طرفيه.
عباد الله، يا من روضتم أنفسكم خلال شهر الصوم على كثير من خلال الخير، إياكم أن تمحوا أثرها. ويا من خرجتم من شهر رمضان وصحائفكم بيضاء، إياكم أن تسودوها فيما تستقبلون من أيام، أجل لقد هذّب الصيام نفوسكم وساهم قيام الليل في إصلاح قلوبكم، فلا تفسدوها بالبطر ولا تدنسوها بالفساد وسيئ الأخلاق. وأكثروا من الاستغفار، فمن أكثر منه جعل الله له من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، كذلك ورد الخبر عن نبيكم : ((واتبع السيئة الحسنة تمحها)).
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن تتقبل صيامنا وقيامنا، وتصلح فساد قلوبنا، وتحفظنا في سائر أيامنا وأحوالنا، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تفتح لنا خزائنك ما به تغنينا وتصلح أحوالنا، وأن تفيء على إخواننا المسلمين من جودك ما تفرّج به همومهم وتطعم جائعهم وتكسي عاريهم وتفك أسراهم، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، صلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/4875)
كونوا ربانيين ولا تكونوا رمضانيين
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
5/10/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد العبودية لله. 2- تعلق الناس بالدنيا في هذا الزمان. 3- سؤال لا بد منه. 4- الثبات على العبودية والاستقامة على العمل الصالح. 5- التحذير من النكوص والفتور بعد موسم الخيرات. 6- مدار الاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ ونفسي بِتَقوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ، فَإِنها وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَبِها تَكُونُ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ يَومَ الدِّينِ، وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ ، وَإِن مِنكُم إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتمًا مَقضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. اتَّقُوا اللهَ وَاستَمِرُّوا على تَقوَاهُ، فَقَد أَمَرَكُم بِذَلِكَ فَقَال جَلَّ في عُلاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ اللهَ سُبحانَهُ حِينَ خَلَقَنَا وَأَوجَدَنَا على هَذِهِ الأَرضِ وَاستَخلَفَنَا فِيهَا فَإِنما أَوجَدَنَا لِتَحقِيقِ غَايَةٍ عَظِيمَةٍ وَكَلَّفَنَا بِمُهِمَّةٍ شَرِيفَةٍ، مَن سَعَى إِلَيها وَجَعَلَهَا هَمَّهُ وَغَايَةَ قَصدِهِ أَفلَحَ وَنجَحَ سَعيُهُ وَفَازَ، وَمَن تَشَعَّبَت بِهِ السُّبُلُ وَنَكَصَ عَنهَا وَضَلَّ طَرِيقَهَا لم يُبَالِ اللهُ بِأَيِّ الأَودِيَةِ كَانَ هَلاكُهُ، وَتِلكَ المُهِمَّةُ هِيَ عِبَادَتُهُ سبحانَهُ وَتَوحِيدُهُ وَالعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَالسَّيرُ فِيمَا يُرضِيهِ وَالحَيَاةُ لهُ وَالمَوتُ في سَبِيلِهِ، قال سُبحانَهُ: وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ.
وَإِنَّ مَا أَصَابَ الأُمَّةَ اليَومَ مِن مُصِيبَاتٍ وَنَكَبَاتٍ وَمَا بُلِيَت بِهِ مِن فَسَادٍ وَقِلَّةِ بَرَكَاتٍ وَمَا انتَشَرَ فِيهَا مِن شُرُورٍ وَنَقصٍ في الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ لَمَرَدُّ كُلِّ ذَلِكَ إلى أَنَّ النَّاسَ قَصَّرُوا في عِبَادَةِ مَولاهُم، وَتَعَدَّدَت هُمُومُهُم في دُنيَاهُم، وَغَفَلُوا عَن أَمرِ أُخرَاهُم، فَوُكِلُوا إلى أَنفُسِهِم، فَتَجَهَّمَهُمُ العَدُوُّ وَهَانُوا على النَّاسِ، وَلم يَدرُوا مِن أَيِّ السُّبُلِ لَحِقَتهُمُ التَّعَاسَةُ، قال : ((مَن جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنيَاهُ، وَمَن تَشَعَّبَت بِهِ الهُمُومُ في أَحوَالِ الدُّنيَا لم يُبَالِ اللهُ في أَيِّ أَودِيَتِهَا هَلَكَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ وَعَبدُ الدِّرهَمِ وَعَبدُ الخَمِيصَةِ، إِن أُعطِيَ رَضِيَ، وَإِن لم يُعطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انتقشَ)).
يُقَالُ هَذَا الكَلامُ ـ أَيُّها المُسلِمُونَ ـ وَنحنُ قَد مَرَرْنَا بِمَوسِمٍ عَظِيمٍ وَشَهرٍ كَرِيمٍ، مَوسِمِ تَعَبُّدٍ وَتَدَرُّبٍ عَلى صَالحِ العَمَلِ، مَوسِمِ تَوبَةٍ وَأَوبَةٍ وَرُجُوعٍ، وَشَهرِ بِرٍّ وَتَقَرُّبٍ وَتَزَوُّدٍ، وَقَد ثَبَتَ لِكَثِيرٍ مِنَّا فِيهِ أَنَّهُ متى مَا أَرَادَ وَعَزَمَ وَأَصَرَّ على نَفسِهِ وَأَخَذَهَا بِالجِدِّ فَإِنُّهُ قَادِرٌ بِإِذنِ اللهِ على أَن يُقَدِّمَ لِنَفسِهِ وَلأُمتِهِ خَيرًا كَثِيرًا وَعَطَاءً وَاسِعًا، لَكِنَّ السُّؤَالَ الذي يَبرُزُ وَقَد خَرَجَ رَمَضَانُ وَوَلَّى: هَل نحنُ رَمَضَانِيُّونَ وَقتِيُّونَ، أَم رَبَّانِيُّونَ مُستَقِيمُونَ؟ لِيَنظُرْ كُلٌّ مِنَّا فِيمَا مَضَى مِن عُمُرِهِ وَأَيَّامِ دَهرِهِ، وَلْيَحكُمْ على نَفسِهِ بِنَفسِهِ، وَإِنَّنَا لَو صَدَقَنَا مَعَ أَنفُسِنَا ـ وَاللهُ المُستَعَانُ ـ لَوَجَدَنَا كَثِيرًا مِنَّا رَمَضَانِيِّينَ وَقتِيِّينَ، ننشَطُ في رَمَضَانَ وَنُنَوِّعُ الطَّاعَاتِ، فَإِذَا خَرَجَ تَكَاسَلنَا وَتَرَاجَعنَا، فَكَأَنَّنا لم نُحِسَّ لِلأَعمَالِ الصَّالحةِ بِلَذَّةٍ فَنُدِيمَهَا، وَكَأَنَّنَا لم نَجدْ لِلطَّاعَاتِ انشِرَاحًا في صُدُورِنا فَنَستَمِرَّ عَلَيهَا، وَذَلِكَ مُنذِرُ خَطَرٍ وَمُؤَشِّرُ عَدَمِ إِتقَانٍ لِلعَمَلِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ مَن ذَاقَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ وَخَالَطَت بَشَاشَتُهُ قَلبَهُ لم يَزَلْ في ازدِيَادِ مِنَ الخَيرِ حتى يَلقَى رَبَّهُ، ولم يَزَلْ نَشَاطُهُ في تَوَسُّعٍ حتى يَأتِيَهُ اليَقِينُ، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: وَسمِعتُ شَيخَ الإِسلامِ ابنَ تَيمِيَّةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ يَقُولُ: "إِذَا لم تَجِدْ لِلعَمَلِ حَلاوَةً في قَلبِكَ وَانشِرَاحًا فَاتَّهِمْهُ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تعالى شَكُورٌ، يَعني أَنَّهُ لا بُدَّ أَن يُثِيبَ العَامِلَ عَلَى عَمَلِهِ في الدُّنيَا مِن حَلاوَةٍ يَجِدُها في قَلبِهِ وَقَوَّةَ انشِرَاحٍ وَقُرَّةَ عَينٍ، فَحَيثُ لم يَجِدْ ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَدخُولٌ، وَالقَصدُ أَنَّ السُّرُورَ بِاللهِ وَقُربِهِ وَقُرَّةَ العَينِ بِهِ تَبعَثُ على الازدِيَادِ مِن طَاعَتِهِ وَتَحُثُّ على الجِدِّ في السَّيرِ إِلَيهِ" انتَهَى كَلامُهُ.
أَيُّها المسلمون، لَقَد أَمَرَ سُبحانَهُ نَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ حِينَ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ أَن يَكُونَ ذَلِكَ مِنهُ على سَبِيلِ الدَّوَامِ وَالاستِمرَارِ وَالثَّبَاتِ، قال جل وعلا: وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ ، وقال سُبحانَهُ: قُلْ إِنَّ صَلاَتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ ، فَلَم يَجعَلْ لِعِبَادَتِهِ نهايَةً وَلا حَدًّا دُون المَوتِ، وَلا لِلعَمَلِ لَهُ وَقتًا دُونَ وَقتٍ وَلا طَاعَةً دُونَ أُخرَى، وَلَقَد وَعَى هذا الأَمرَ وَامتَثَلَهُ، فَكَانَت حَيَاتُهُ مِثالاً لِلعُبُودِيَّةِ الكَامِلَةِ في كُلِّ جَوَانِبِها، وَكَانَ مِن شَأنِهِ المُدَاوَمَةُ على العَمَلِ الصَّالحِ وَإِثبَاتُ مَا اعتَادَ عَلَيهِ مِنهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ((أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُها وَإِنْ قَلَّ)) ، وَهَكَذَا وَصَفَت زَوجَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ عَمَلَهُ، فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: كَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ، وَقَالَت رَضِيَ اللهُ عنها: وَكَانَ نبيُّ اللهِ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَحَبَّ أَن يُدَاوِمَ عَلَيهَا، وَعَن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ حتى كان أَكثرُ صَلاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَكَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَيهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ العَبدُ وَإِن كَانَ شَيئًا يَسِيرًا.
وَلمَّا كُنَّا مُتَعَبَّدِينَ بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَالتَّأسِي بِهِ وَالسَّيرِ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَسُنَّتِهِ فَإِنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَينَا أَن نَكُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ مَا استَطَعنَا، لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لمن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا. وَمِن هُنَا ـ أَيُّها المسلمون ـ فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ الذي يُرِيدُ لِنَفسِهِ الفَوزَ وَالنَّجَاةَ أَن يَسلُكَ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ وَيَثبُتَ عَلَى الدِّينِ القَيِّمِ مِن غَيرِ مَيلٍ عَنهُ يَمنَةً وَلا يَسرَةً وَلا تَذَبذُبٍ أَو تَمَلمُلٍ، فَيَفعَلَ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا ـ ما استطاع ـ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، وَيَترُكَ المَنهِيَّاتِ كُلَّهَا صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، وَيَتَّقِيَ اللهَ قَدرَ استِطَاعَتِهِ، فَإِذَا زَلَّت بِهِ قَدَمٌ أَو حَادَ عَن طَرِيقِ الاستِقَامَةِ تَابَ وَرَجَعَ وَأَنَابَ، قال تعالى: فَاستَقِيمُوا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ ، وقال : ((اِتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنتَ، وَأَتبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسنَةَ تَمحُهَا)).
إِنَّّ الاستِقَامَةَ هِيَ طَرِيقُ تَحقِيقِ العُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا فَقَد أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ وَمَن مَعَهُ بِتَحقِيقِهَا، وَأَمَرَ بها مَن كَانَ قَبلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فقال سُبحانَهُ: فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ، وقال جل وعلا: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ ، وَقَالَ في حَقِّ موسى وَأَخِيهِ عليهِمَا السلامُ: قَد أُجِيبَت دَعوَتُكُمَا فَاستَقِيمَا ، وَبِالاستِقَامَةِ أَمَرَ مَن استَوصَاهُ، لمَّا جَاءَهُ سُفيَانُ بنُ عَبدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللهُ عنه وقال له: قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا غَيرَكَ، قَالَ لَهُ : ((قُلْ: آمَنتُ بِاللهِ، ثم استَقِمْ)) ، فَلا إِيمَانَ إِلاَّ بِاستِقَامَةٍ وَمُدَاوَمَة على صالحِ الأَعمَالِ.
أَيُّها المسلمون، لَقَد كُنتُم في شَهرٍ كَرِيمٍ، تُبتُم فِيهِ إِلى رَبِّكُم، وَرَجَعتُم فِيهِ إلى مَولاكُم، وَصَلَّيتُم وَقُمتُم وَدَعَوتُم، وَقَدَّمتُم وَبَذَلتُم وَعَمِلتُم، فَاللهَ اللهَ بِسُلُوكِ كُلِّ مَا يُعِينُكُم عَلَى الثَّبَاتِ وَالاستِقَامَةِ، مِن إِخلاصٍ للهِ وَاستِمرَارٍ عَلَى العَهدِ وَصِدقٍ في التَّوبَةِ وَمُحَاسَبَةٍ لِلنَّفسِ صَادِقَةٍ وَمُحَافَظَةٍ عَلَى الصَّلَواتِ الخَمسِ في جماعَةٍ وَاستِكثَارٍ مِنَ النَّوَافِلِ وَتَزَوُّدٍ مِنَ السُّنَنِ وَلُزُومٍ لأَهلِ الخَيرِ وَمُصَاحَبَةٍ لِلصَّالحِينَ وَحَذَرٍ مِن أَهلِ التَّفرِيطِ وَالإِضَاعَةِ وَالبَطَّالِينَ وَمِنِ اتِّبَاعٍ لِخُطُواتِ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قال تَعَالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعمَلُونَ ، وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاء وَالمُنكَرِ ، وقال : ((استَقِيمُوا وَلَن تُحصُوا، وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ أَعمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلَن يُحَافِظَ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤمِنٌ)) ، وقال جل وعلا في الحدِيثِ القُدسِيِّ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ ممَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الذي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصرَهُ الذي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبطِشُ بها، وَرِجلَهُ التي يمشِي بها، وَإِن سَأَلني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ)) ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وقال جل وعلا: وَاصبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلا تَعْدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغفَلْنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا.
أَلا مَا أَجمَلَ الاستِقَامَةَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوبَة وَالإِنِابَة وَالازدِيَاد مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ! وَمَا أَعظَمَهَا حِينَ تَكُونُ بَعدَ الطَّاعَةِ! فَهَذِهِ حَالُ المُؤمِنِ الصَّادِقِ في إِيمَانِهِ، الذِي لاَ يَغتَرُّ بمَا قَدَّمَ مِن عَمَلٍ، وَلاَ يَركَنُ إِلاَّ إِلى رَحمَةِ اللهِ تَعَالى وَفَضلِهِ؛ لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ عَمَلَهُ في جَنبِ مَعَاصِيهِ وَغَفلَتِهِ عَنِ اللهِ تَعَالى قَلِيلٌ، وَأَنَّهُ مَهمَا عَمِلَ في جَنبِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ وَفَضلِهِ وَإِحسَانِهِ وَسِترِهِ فَلَن يُوَفِّيَ ذَلِكَ بَعضَ حَقِّهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنَ المُتَّقِينَ الَّذِينَ هُم مِن خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ. رَوَى عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ)) ، ثمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَن يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنهَا شَيطَانٌ يَدعُو إِلَيهِ)) ، ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ.
مَا أَتعَسَ المَرءَ حِينَ يَهدِمَ مَا بَنَى وَيُفسِدَ مَا أَصلَحَ! وَمَا أَقَلَّ حَظَّهُ إذْ يَرتَدَّ إِلى حَمْأَةِ المَعصِيَةِ وَظُلمَةِ الكُفرِ بَعدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّةَ الإِيمَانِ وَحَلاَوَةَ الطَّاعَةِ! وَلَقَد كَانَ مِن دُعَاءِ المُصطَفَى في صَلاَتِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشدِ)) ، بل كان أَكثَرَ دُعَائِهِ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلبِي عَلَى دِينِكَ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى، وَتمسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقى، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ رَبِّكُم جل وعلا؛ فَإِنَّ أَجسَامَكُم على النَّارِ لا تَقوَى.
عِبَادَ اللهِ، يَا مَن ذُقتُم حَلاوَةَ الإِيمَانِ وَتَنَعَّمَت به قُلُوبُكُم في شَهرِ رَمَضَانَ، يَا مَن تَلَذَّذتم بِالسَّهَرِ فِيهِ على الصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ القُرآنِ، يَا مَن قَهَرتم وَأَرغَمتُم عَدَوَّكُمُ الشَّيطَانُ، اِحذَرُوا الفُتُورَ عَنِ الطَّاعَةِ وَالتَّكَاسُلَ في العِبَادَةِ، حَذَارِ مِنَ الإِعرَاضِ عَنِ اللهِ بَعدَ الإِقبَالِ، وَإِيَّاكُم وَالإِدبَارَ بَعدَ الإِقدَامِ، فَواللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلُّوا. لَقَد كَانَت أَعنَاقُكُم مُشرَئِبَّةً إلى المَعَالي مُرتَفِعَةً عَنِ السَّفَاسِفِ، وَنُفُوسُكُم نَشِيطَةً في الخَيرِ مُعرِضَةً عَنِ الشَّرِّ، فلا تَستَعبِدنَّكُمُ الشَّهَواتُ وَقَد تَحَرَّرتم مِن رِقِّهَا، وَلا تَرجِعُوا إلى النَّزَوَاتِ وَقَد طَلَّقتُمُوهَا، لا تَستَبعِدُوا الغَايَةَ وَلا تَستَبطِئُوا الوُصُولَ، وَلا تَستَطِيلُوا الطَّرِيقَ وَلا تَمَلُّوا مِنَ البَذلِ، وَاستَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الضَّلالَةِ بَعدَ الهُدَى، وَمِنَ الحَورِ بَعدِ الكَورِ، فَإِنما هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَةٌ وَسَنَوَاتٌ مَحدُودَةٌ، ثم تَعُودُونَ إِلى مَولاكُمُ الحَقِّ، فَيُجَازِي كُلاًّ بِمَا عَمِلَ، فَاصبروا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاستَقِيمُوا تَفُوزُوا وَتُفلِحُوا.
واعلَمُوا أَنَّ مَدَارَ الاستِقَامَةِ عَلَى أَمرَينِ عَظِيمَينِ هُمَا: حِفظُ القَلبِ وَاللِّسَانِ، فَمَتَى استَقَامَا استَقَامَت سَائِرُ الأَعضَاءِ، وصَلَحَ السُلُوكُ والحَرَكَاتُ والسَّكَنَاتُ، ومَتَى اعوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَت الأَعضَاءُ كُلُّها، قَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلبُ)) ، وقَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لاَ يَستَقِيمُ إِيمَانُ عَبدٍ حَتَّى يَستَقِيمَ قَلبُهُ، وَلاَ يَستَقِيمُ قَلبُهُ حَتَّى يَستَقِيمَ لِسَانُهُ)) ، قَالَ بَعضُ السَّلَفِ: صُمِ الدُّنيَا وَاجعَلْ فِطرَكَ المَوتَ، الدُّنيا كُلُّها شَهرُ صِيَامِ المُتَّقِينَ، يَصُومُونَ فِيهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَاتِ، فَإِذَا جَاءَهُمُ المَوتُ فَقَدِ انقَضَى شَهرُ صِيَامِهِم وَاستَهَلُّوا عِيدَ فِطرِهِم. مَن صَامَ اليَومَ عَن شَهَوَاتِهِ أَفطَرَ عَلَيهَا بَعدَ ممَاتِهِ، وَمَن تَعَجَّلَ مَا حُرِّمَ عَلَيهِ قَبلَ وَفَاتِهِ عُوقِبَ بِحِرمَانِهِ في الآخِرَةِ وَفَوَاتِهِ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَولُهُ تعالى: أَذهَبتُم طَيِّبَاتِكُم في حَيَاتِكُمُ الدُّنيَا وَاستَمتَعتُم بِهَا.
أَنتَ فِي دَارِ شَتَاتٍ فَتَأَهَّبْ لِشَتَاتِكْ
وَاجعَلِ الدُّنيَا كَيَومٍ صُمتَهُ عَن شَهَوَاتِكْ
وَلْيَكُنْ فِطرُكَ عِندَ الله فِي يَومِ وَفَاتِكْ
(1/4876)
ماذا بعد رمضان؟!
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير
سلطان بن سعود الشهراني
قرية قنيع
5/10/1427
جامع الملك عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- ارتحال شهر رمضان. 3- الحث على إتباع الحسنات بالحسنات. 4- المداومة على العمل الصالح. 5- علامة القبول والخسران. 6- الأعمال الصالحة لا تنقضي بانقضاء رمضان. 7- صوم النافلة في غير رمضان. 8- مداومة الذكر والدعاء وقراءة القرآن. 9- المداومة على قيام الليل أو بعضه. 10- المداومة على الطاعة دليل المحبة. 11- أسباب قسوة القلوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]
أيها المسلمون، إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثًا وتمضي جميعًا، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم.
لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئًا فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيبًا وفي عمله مصيبا فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثًا، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.
أيها المسلمون، كنتم في شهر البر والخير، تصومون نهارَه، وتقومون ليلَه، وتتقرَّبون إلى ربكم بأنواع القربات طمَعًا في الثواب وخشيةً من العقاب، وقد رحلت تلك الأيام، وكأنها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود، هذا هو شهركم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمله، وكم من مؤمِّل أن يعودَ إليه لم يدركه، وهكذا أيام العمر مراحلُ نقطعها يومًا بعد يوم في طريقنا إلى الدار الآخرة.
إن استدامةَ أمر الطاعة وامتدادَ زمانها زادُ الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأرواحهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل، ويجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم يعبدون الزمان لا يعرفون الله إلا في رمضان.
أيها المسلمون، إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمرات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها، إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن)) رواه الترمذي.
ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.
أيها الأحبة، إن كان رمضان قد ودعنا فإن الأعمال الصالحة لا تودع، فمن ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى العظيم المنشود من وراء تشريع الصيام وهو تحقيق تقوى الله تعالى كما قال جلَّ من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فليعلم أن الباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصرًا على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر كله)) ، وسن لنا أيضًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله)) رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري عن أن النبي قال له: ((يا أبا ذر، إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)) رواه أحمد والنسائي.
وسَنّ لنا أيضًا صيام يوم عرفة، وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية, وسَنَّ لنا صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، ومن كان يقوى على أكثر من ذلك فقد سُن لنا أفضل الصيام وهو صيام داود عليه السلام؛ كان يصوم يومًا ويفطر يوما.
وكذلك ـ عباد الله ـ من استشعر حلاوة المناجاة مع رب العالمين في صلاته وسجوده وأبصر الأثر الجميل في الدعاء والإلحاح على الله تعالى بطلب المغفرة والعفو فليعلم أن ربه تعالى يناديه في كل وقت: (ادعوني أستجب لكم)، وهو سبحانه القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) ، فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: ((الله أكثر)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وقول السائل: (نُكْثِرُ) أَيْ: مِنْ الدُّعَاءِ لِعَظِيمِ فَوَائِدِهِ، وقوله : ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) قَالَ الطِّيبِيُّ: "أَيْ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ أَيْ: مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ".
وكذلك ـ عباد الله ـ من تعطر فمه بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب الله حتى سهلت عليه القراءة واطمأنّ قلبه بذكر الله والتأمّل في معاني القرآن الكريم، فهذا كتاب الله تعالى معه في كل وقت وزمان، فليكن له ورد يومي من القرآن الكريم، فقد كان هذا هدي السلف رحمهم الله، ومن قرأ في كل يوم جزءًا فسيختم القرآن في شهر، ومن قرأ في كل يوم عشر صفحات لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة فسيختم في شهرين، ومن مضت أيامه ولياليه بلا تلاوة للقرآن فقد حرم نفسه خيرًا كثيرًا، فالحرف الواحد من القرآن يقابله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وهكذا، ومن أراد كثرة حسناته فعليه بكتاب الله، ومن أراد أن يكون القرآن شفيعًا له عند الله فعليه بالقرآن، ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)). وقد علمنا أن الشفيع كلما كان ذا شأن ومكانة كانت شفاعته أحرى بالقبول والإجابة، إِنَّ ?لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ?رَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]. وإن كان لا إلا صدودًا وهجرا فاتق الله أن تكون ممن يشكوهم رسول الله يوم القيامة إلى الله جلَّ في علاه كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
أما أنت يا من قمت لربك مصليًا في الليل التراويح والقيام لوحدك أو مع المصلين فقد صففت قدميك وقمت لربك وركعت وسجدت ودعوت الله وأتعبت بدنك وشعرت بشيء من التعب، وربما استطلت صلاة إمامك، هل تذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ وهل استشعرت ذلك التعب والنصب الذي كان يلاقيه حبيبنا محمد في قيام الليل؟ فلقد صلى من الليل حتى تفطرت قدماه أي: تشققت من طول القيام، هذا مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيا ترى، ما حالنا نحن المساكين الضعفاء المفرطون؟! وهل تحسست ـ أيها القائم ـ في الليل تلك المعاني المطوية في قيام الليل التي أشارت إليها آيات كريمة: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، وَ?ذْكُرِ ?سْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ ?لَّيْلِ فَ?سْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:25، 26]، فَ?صْبِرْ عَلَى? مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ?لَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ?لنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى? [طه:130]؟! وهل علمت لم قال محمد عن عبد الله بن عمر وهو لا يزال شابًا في مقتبل عمره: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) ، وهذا النبي يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
واعلم ـ أيها الأخ الحبيب ـ أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، مع أن نبينا وقدوتنا ومن هو لنا أسوة حسنة تقول عنه عائشة رضي الله عنها ما زاد رسول الله عن إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غير رمضان.
عباد الله، للصدقة على المسكين والقريب أثر حميد، وفي بذل المال في البر لذة في العطاء وسعة في الرزق ووعد من الكريم سبحانه بالخلف، فهل نستمر في هذا العمل الجليل ولو بالقليل؟! وواللهِ، لو عقلنا كلام ربنا حقًا لكان لنا ولمالنا شأن، يكفي في ذلك قوله تعالى: وَأَقْرِضُواُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، ولكنها النفوس المجبولة على الشح والإمساك والخوف من الفقر هي التي تحرمنا من الخير الكثير: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
عباد الله، إن في الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان علامة على حب العبادة والتعلق بها، وهي قرينة واضحة على أن المسلم ضاعف العمل في رمضان رغبةً فيما عند الله تعالى، أما ذاك الذي انقطع اتصاله بالعبادات والقربات بعد رحيل رمضان فربما كان علامة على أنه صام وقام لما رأى الناس كلهم يصنعون ذلك، فكان حاله كحال من نهى النبي أن نكون مثله فيما روي عنه: ((لا يكن أحدكم كالإمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت)).
فلننتبه لهذا الأمر أيها المسلمون، واتقوا الله أيها المؤمنون، واعمروا أيامكم وشهوركم وأعماركم كلها بما يقربكم من ربكم ويزيد في رصيدكم عند مولاكم، والكل محفوظة خزائنه ودواوينه، وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر فيه تلك الصحائف، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمة الصيام، والحمد لله على نعمة القيام، والحمد لله على نعمة القرآن وتلاوته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الواحد المنان والقوي الجبار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خير من تعبد لربه فصام وقام، وعلى الصراط المستقيم قام وأقام، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم واستقيموا على طاعته تسعدوا.
عباد الله، كلنا تلا كتاب ربه واستمع إلى القرآن خلال رمضان، ألم تمر بنا آيات كثيرة وكلمات كثيرة لا ندري ما معناها، ولا ندرك المقصود من سياقها؟! ألا تمر بنا أمثال وقصص في القرآن الكريم لا نفهم بعضها؟! وكم من الآيات يفهمها القارئ أو المستمع على غير المراد بها أو ينزلها على غير مواقعها؟! كم تمر بنا الآيات والسور ونحن لا نتأثر بها ولا تتحرك قلوبنا لها لجهلنا بتفسيرها ومعانيها؟! أظنّ أننا جميعًا نتفق على هذا الأمر ولا نختلف في وجوده، فيا ترى ما السبيل إلى تلافي هذا الخلل، فآيات القرآن الكريم تتلى على مسامعنا ونقرؤها فلا تتأثر قلوبنا ولا تتحرك مشاعرنا، وهي الآيات التي لو أنزلت على جبل راس لتصدع وهو الحجر القاسي والجامد المتحجر، وكلنا يأسى لحاله مع كلام الله تعالى حين يذكر القرآن أن في آياته عظة وعبرة لأولي الألباب والعقول والبصائر فلا يكون منهم، وحين نسمع قوله تعالى: وَتِلْكَ ?لأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت:43]، ما موقفنا من هذه الأمثال التي تضرب والقصص التي تسرد في أروع أسلوب وأرفعه إيجازًا وتفصيلاً ومع هذا كأن المخاطب غيرنا وكأن القرآن لم ينزل بلغتنا؟! فهل تنبهنا لذلك أيها المسلمون؟! وأين هذا مما طلب منا حيال كتاب الله تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29].
ولا ريب أن لهذه القسوة أسبابًا، من أهمها جهلنا بمعاني القرآن الكريم وبعدنا عن تفسيره، فقليلاً ما نطالع في كتب التفسير أو نسأل عن معاني كلام الله تعالى، ومما يزيد في ذلك استعجالنا في التلاوة وترك التأمل فيما نتلو، ولو تأنى أحدنا وبذل جهده في معرفة المراد بكلام الله تعالى وتعاهد نفسه بذلك واطلع في كتب التفسير وخاصة الكتب المختصرة منها لاستفاد علمًا غزيرًا ولتلذذ بكلام الله، ألا نستحي من الله حين نقرأ كلامه ولا نعي منه إلا القليل، ولو قرأنا صحيفة أو مجلة أو قصة لما فاتنا من معانيها شيء ولسألنا عما نجهله؟!
إن الحاجة ماسة إلى معرفة معاني وتفسير القرآن الكريم، وإن الحاجة لماسَّة إلى العناية بدروس التفسير في مدارسنا ومساجدنا وقراءاتنا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن، الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلَق عن كثرة الترديد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء.
ويجب أن يعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا; ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، وذلك أن الله تعالى قال: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ [ص:29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ [محمد:24]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ?لْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟!" اهـ.
(1/4877)
عيد الفطر 1427هـ
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الشرك ووسائله, الصلاة, مواعظ عامة
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
1/10/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بإتمام صوم رمضان. 2- حاجة العبد عون الله تعالى وتوفيقه. 3- حق الله تعالى على العباد. 4- ذم الشرك والتحذير منه. 5- من صور الشرك. 6- وجوب التعلم والتفقه في الدين. 7- من أين يؤخذ العلم الشرعي؟ 8- أهمية الصلاة والتحذير من التهاون بها. 9- صيام التطوع. 10- الوصية بالإحسان إلى النساء. 11- نصائح للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، يقول نبينا محمد : ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)). حقا إنه ليوم عظيم يفرح فيه العبد الطائع بأدائه لشعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركانه وهو الصوم، فالحمد لله الذي وفق عباده للصيام والقيام وقراءة القرآن. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فمن أعانه الله فهو الموفق، ومن خذله الله وترك إعانته فهو المخذول، ولذلك فنحن نسأل الله الإعانة على العبادة في كل صلاة في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات وترك المحظورات، فاحتاج إلى عون مولاه وخالقه له في دينه ودنياه.
وأنت ـ أيها المسلم ـ محتاج للعون من ربك لأنك مأمور بعبادة ربك على الوجه الذي أمر به، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، ولأجل العبادة خلقك الله، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولأجل العبادة أرسل الله الرسل كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فما خلقك الله عبثا في هذه الدنيا، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
فإذا علمنا هذا فالواجب على العاقل الذي يبتغي الفوز في الدارين أن يوحد الله ويخلص له في جميع أفعاله الظاهرة والباطنة كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
وتوحيد رب العالمين حق على العبد لربه، لا يسقط عنه بحال من الأحوال، فروى البخاري ومسلم عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقه أن يعبوده ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقهم عليه أن لا يعذبهم)).
فإن لم توحد الله وتخلص له فأنت في خسارة عظمى ومحنة كبرى؛ إذ ستقع في الذنب الذي لا يغفر وهو الشرك بالله كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وبالتالي لا تقبل أعمالك بل تصير أدراج الرياح، وقد توعد الله أنبياءه بأن تحبط أعمالهم إن هم أشركوا بالله ـ وهم أولو عصمة من الوقوع في الشرك ـ فقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65، 66].
ومن الشرك بالله دعاء غير الله سواء كان صنما أو شجرا أو ملكا أو نبيا أو وليا صالحا، فكل من دعاهم من دون الله فقد وقع في الشرك؛ لأن الله قد أبطل نفعهم للخلق، بل هم لا يملكون لأنفسهم جلب الخير ولا دفع الضر، فكيف بك أيها العبد ترجو منهم ذلك وهم عاجزون عن ذلك؟! قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14].
والله قد أرشدنا إلى دعائه مباشرة ودون واسطة فقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، ثم توعد الذين يتركون دعاءه ويتوجهون إلى غيره بالعذاب فقال في تتمة الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
ومن الشرك الحلف بغير الله كالحلف بالوالدين أو الكعبة أو الأمانة وغيرها، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. ومن الشرك تعليق التمائم والحروز والتعاويذ والأحجبة المصنوعة من الجلد أو النحاس أو العظام وغيرها، وتعليقها على البيوت والمركبات والمزارع وعلى جسد المريض أو الطفل لدفع الحسد والعين وجلب الخير. ومن الشرك الذهاب إلى السحرة والكهان والعرافين وتصديقهم.
كل ذلك يدفعنا إلى الخوف من الوقوع في الشرك والحذر منه، كيف لا وقد خافه نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي كسر الأصنام وحارب قومه لأجل التوحيد وتبرأ منهم ثم يقول: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، قال إبراهيم التيمي رحمه الله: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!".
ولا يمكن للعبد أن يعرف كيف يعبد ربه ويوحده ويعرف الشرك ويحذر منه إلا بالعلم الشرعي، أن يتعلم ما أمر الله به فيفعله، ويتعلم ما نهى الله عنه فيجتنبه، وهذا العلم إنما يؤخذ من العلماء الربانيين الذين يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، يعلمون الناس كيف يتطهرون وكيف يصلون وكيف يعبدون الله على الطريقة التي جاء بها نبينا محمد.
ولا يؤخذ العلم عن أصحاب القصص، ولا عمن يخالف قوله فعله فيدعو إلى اتباع السنة وهو من أبعد الناس عنها قولا وعملا، ولا يعلمهم أحكام العبادة ولا توحيد رب العالمين، وإنما يجذب الناس بالقصص والحكايات، وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عوف بن مالك أنه دخل مسجد حمص فإذا الناس على رجل فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: كعب يقص، قال: يا ويحه! ألا سمع قول رسول الله : ((القصاص ثلاثة: أمير أو مأمور أو محتال)).
ألا فأقبلوا على تعلم أحكام دينكم، تعلموا كيف تصلون الصلاة الصحيحة، فرب رجل يصلي ستين سنة لا يقبل الله له صلاة بسبب الإخلال بأركانها، تعلموا أحكام زكاتكم وصومكم وحجكم وسائر أمور دينكم تفلحوا في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين والمسلمات، أوصيكم بوصية نبيكم وحبيبكم سيد ولد آدم محمد بن عبد الله ، فقد أوصى أمته قبل موته فقال: ((الصلاة الصلاة وما وملكت أيمانكم)) ، أي: لا تضيعوا الصلاة فهي الصلة بين العبد وربه، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادة، من تركها منكِرا لها كفر بإجماع المسلمين، ومن تركها تهاونا وتكاسلا فقد اختلف أهل العلم في إسلامه، فطائفة على أنه كافر خارج من الملة، إن مات لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وطائفة أخرى قالت: بل هو فاجر ضال على شفا حفرة من كفر، فهل ترضى لنفسك ـ أخي في الله ـ أن يكون إسلامك محل شك عند العلماء؟! بالطبع لا يرضى بذلك أحد أبدا. فصلّ الصلاة لوقتها، ولا تتهاون فيها، واسمع إلى ربك وهو يتوعد المتهاون في الصلاة حيث قال: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، والغي هو العذاب الأليم، وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، قال العلماء: هم الذين أخروا الصلاة عن وقتها لغير عذر ثم صلوها في غير وقتها، فلهم تهديد وعذاب من الله. وقد رأى النبي صورة من صور العذاب في القبر لمن يترك الصلاة بسبب النوم، فقال : ((وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر، فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) ، قال: ((قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قال الملكان: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)) ، فهل تطيق ـ يا عبد الله ـ هذا العذاب؟! صخر يضرب به رأسك فيتهشم الرأس ثم يعود كما كان ليضرب ثانية وعاشرة ومائة، لأجل ماذا؟ لأنك تركت الصلاة بسبب النوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وربك المنان قد تفضل عليك بأربع وعشرين ساعة في يومك وليلتك، ثم طلب منك خمس صلوات في اليوم والليلة، لو حسبت هذا الوقت الذي تقضيه في الصلاة لما زاد على الساعة، أتبخل على ربك بساعة وقد أعطاك ثلاثة وعشرين ساعة؟!
أين أنتم من صلاة الفجر التي تهاون فيها أغلب الناس؟! كم سنة مرت عليك لم تصل الفجر مع الجماعة ونبينا يقول: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) متفق عليه، لا أعتقد عاقلا يسمع هذا الحديث ثم يتكاسل عن صلاة الفجر وعن بقية الصلوات
عباد الله، إن الله تعالى قد شرع لكم بعد رمضان أعمالاً صالحة تكون تتميمًا لأعمالكم، وقربى لكم عند مليككم، وعلامة على قبول أعمالكم، فكان يصوم الست من شوال والاثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض، وقال : ((أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)).
جملوا عيدكم بالطاعات وبمواصلة فعل الخيرات وبر الوالدين وصلة الأرحام والفقراء والأيتام، وسارعوا إلى إصلاح ذات البين، فإن العيد أعظم مناسبة لذلك، فمن كانت له خصومة مع أخيه المسلم فليبادر إلى التسامح منه والعفو عما بدر منه، فخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
معاشر المسلمين، استوصوا بالنساء خيرا، فهذه وصية الرسول لنا نحن الرجال فقال: ((وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) ، وقال : ((خيركم خيركم لأهله)). فأدوا إليهن حقهن، وخاصة من كان متزوجا من اثنتين فأكثر، اعدلوا بين زوجاتكم، وإلا فإن الله قد توعد من لا يعدل بين الزوجات بأن يحشر يوم القيامة وأحد جنبيه مائل، واصبروا عليهن، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
أخواتي النساء، أدين حق الله عليكن بأداء ما فرضه الله، وانتهين عما نهاكن عنه، تكنَّ من أهل الفوز والسعادة، قال : ((إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ))، والله يقول: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]، فهذا سبيل الجنة قد بين لك فاسلكيه.
ولتحذر المرأة المسلمة من التبرج فإنه سبب لورود النار، قال : ((وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)) ، وقد لعن النبي المتبرجات. ومن التبرج إظهار الزينة وكشف الشعر أو جزء منه أو الخروج متعطرة أو لبس الملابس الضيقة الفاتنة، فكل ذلك من التبرج.
والحذر ـ أختي المسلمة ـ من السفر بلا محرم؛ فإنه إثم كبير ومعصية كبرى ولو كان لعمل خير أو للعمل والوظيفة أو غيرها.
اللَّهُمَّ إِنا عَبِيدُكَ وَأبناء عَبيدِكَ وَأبناء إماءكَ، نواصينا بِيَدِكَ، مَاضٍ فينا حُكْمُكَ، عَدْلٌ ففينا قَضَاؤُكَ، نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قلوبنا وَنُورَ صدْورنا وَجلاءَ أحزاننا وَذَهَابَ همومنا.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْناُ مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْنا مِنْهُ وَمَا لَمْ نعْلَمْ...
(1/4878)
ذم العجب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم أسباب القبول. 2- حقيقة العجب. 3- تحريم العجب وذمه. 4- من أقوال السلف في ذم العجب. 5- العجب بريد الكفر. 6- أسباب العجب. 7- مظاهر العجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أعظم أسباب قبول الأعمال شهود منة الله سبحانه في كونه، أقامه في هذا المقام، ووفقه لذلك، فلولاه سبحانه لم يكن شيء من ذلك، يقول الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، فيجب عليك أن تعلم أن الله سبحانه هو صاحب الفضل والمنة عليك أن وفقك لأداء هذه العبادة وهداك للإسلام، حتى وإن عبدته وصليت وصمت وزكيت فليس لك فضل، فالفضل له وحده. فلا تعجب بعملك، ولا تقل: إن ذلك من ذكائك وفطنتك، فإن العُجب من الآفات الخطيرة التي تصيب كثيرًا من الناس، فتصرفهم عن شكر الخالق إلى شكر أنفسهم، وعن الثناء على الله بما يستحق إلى الثناء على أنفسهم بما لا يستحقون، وعن التواضع للخالق والانكسار بين يديه إلى التكبر والغرور بالأعمال، وعن احترام الناس ومعرفة منازلهم إلى احتقارهم وجحد حقوقهم.
والعجب هو الزهو بالنفس، واستعظام الأعمال والركون إليها، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنعم سبحانه وتعالى. وإن من مساوئ العجب أنه يحبط الأعمال الصالحة ويخفي المحاسن ويكسب المذام.
قال الماوردي: "وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ويظهر المساوئ ويكسب المذام ويصد عن الفضائل، وليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من الجهل غاية، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر، ويسلب من الفضائل ما اشتهر، وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة، وبمذمة تهدم كل فضيلة، مع ما يثيره من حنق ويكسبه من حقد".
إن العجب محرم؛ لأنه نوع من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكثيرًا ما يقرن الرياء بالعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، والمعجب لا يحقق قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فمن حقق قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ خرج عن الإعجاب".
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله وسنة رسوله ، قال الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]، ذكر ذلك في معرض الإنكار. وقال عز وجل: وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:21] على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم. وقال تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] أيضًا يرجع إلى العجب بالعمل، وقد يعجب الإنسان بالعمل وهو مخطئ فيه، كما يعجب بعمل وهو مصيب فيه".
وقال : ((ثلاث مهلكات: شحُّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) أخرجه البيهقي وحسنه الألباني. وثبت عنه أنه قال في ذم العجب: ((بينما رجل يمشي في حلةٍ تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) متفق عليه.
قال ابن حجر في الفتح: "قال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. وقوله: ((إذ خسف الله به)) يدل على سرعة وقوع ذلك به. وقوله: ((فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) وفي رواية الربيع: ((فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة)) رواه مسلم. قال ابن فارس: التجلجل أي: يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد، ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي: ينزل فيها مضطربًا متدافعًا".
ومن الأدلة كذلك على ذم العجب حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، فعن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أيّةُ آية؟ قال: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، قال أبو ثعلبة: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله فقال: ((بل ائتمروا بينكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شّحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوامَّ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب".
ومن أقوال السلف في ذم العجب ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: (الهلاك في اثنين: القنوط والعجب). قال أبو حامد: "وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى". وقال مطرف: "لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إليّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا". وكان بشر بن منصور من الذين إذا رؤُوا ذُكِرَ الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة، فأطال الصلاة يومًا ورجل خلفه ينتظره، ففطن له بشر، فلما انصرف عن الصلاة قال له: "لا يعجبنك ما رأيت مني، فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله مع الملائكة مدة طويلة، ثم صار إلى ما صار إليه". وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: (إذا ظن أنه محسن).
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الإعجاب ضدّ الصواب وآفة الألباب). وقال بزدجمهر: "النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه منه العجب".
وربما طغت آفة العجب على المرء حتى وصل به الحدّ إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام، كما هو الحال مع إبليس اللعين، حيث أعجب بأصله وعبادته، ودفعه ذلك إلى الكبر وعصيان أمر الرب تبارك وتعالى بالسجود لآدم عليه السلام.
وحكي عن عمر بن حفص أنه قال: قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو كان الله بلغني قتل أربعة فتقربت إليه بدمائهم، قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع؛ ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما عُزل دخل مسجد البصرة، فبسط له الناس أرديتهم، فمشى عليها، وقال لرجل يماشيه: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وعبد الله بن زياد بن ظبيان التميمي؛ خوّف أهل البصرة أمرًا فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من المسجد: أكثر الله فينا مثلك، فقال: لقد كلفتم الله شططًا، ومعبد بن زرارة؛ كان ذات يوم جالسًا في الطريق، فمرت به امرأة فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى موضع كذا؟ فقال: يا هناه، مثلي يكون من عبيد الله؟! وأبو سمّال الأسدي؛ أضل الله راحلته، فالتمسها الناس فلم يجدوها فقال: والله إن لم يَرُد إليّ راحلتي لا صليت له صلاة أبدًا، فالتمسها الناس فوجدوها، فقالوا له: قد ردّ الله عليك راحلتك فصلِّ، فقال: إن يميني يمين مُصِرّ.
قال الماوردي: فانظر إلى هؤلاء كيف أفضى بهم العجب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين ومثلاً في الآخرين، ولو تصور المعجب والمتكبر ما فطر عليه من جِبِلّة وبُلي به من مهنة لخفض جناحه لنفسه، واستبدل لينًا من عُتوه وسكونًا من نفوره.
قال الأحنف بن قيس: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟!
يا مظهرَ الكبر إعجابًا بصورته انظر خلاك فإن النتْن تثريب
لو فكر الناس فيما فِي بطونهم ما استشعر الكبْر شبان ولا شيب
هل فِي ابن آدم مثل الرأس مكرُمةً وهو بِخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريْحها سهك والعين مرفضة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدًا أقصر فإنك مأكول ومشروب
قال ابن قدامة: "اعلم أن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق. فأما مع الخالق فإن العجب بالطاعات نتيجة لاستعظامها، فكأنه يمنّ على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها، وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها، دون من رضيها وأعجب بها".
ومن أسباب العجب الجهل، ومن الناس من يعجب بعمله ومعرفته لمسائل الخلاف وأقوال العلماء، ولو علم أن إعجابه بعلمه يدل على جهله لما كان من المعجبين بأنفسهم، قال بعض السلف: ما يزال العبد يطلب العلم حتى إذا ظنّ أنه قد علم فهو جاهل. قال أبو حامد: "وعلّة العجب الجهل المحض وقلة الورع والتقوى وضعف المراقبة لله عز وجل وقلّة الناصح وسوء النية وخبث المطية وإطراء الناس للشخص وكثرة ثنائهم عليه مما يعين عليه الشيطان والافتتان بالدنيا واتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وقلة الفكر وقلة الشكر لله عز وجل وقلة الذكر لله عز وجل وعدم تدبر القرآن والسنة النبوية والأمن من مكر الله عز وجل والركون إلى عفو الله ومغفرته، ولو تفكر العبد لعلم أن كل نعمة عنده هي من الله سبحانه.
ومظاهر العجب كثيرة، منها رد الحق واحتقار الناس، تصعير الخد، عدم استشارة العقلاء والفضلاء، الاختيال في المشي، استعظام الطاعة واستكثارها، التفاخر بالعلم والمباهاة به، الغمز واللمز، التفاخر بالحسب والنسب وجمال الخِلقة، تعمد مخالفة الناس ترفعًا، التقليل من شأن العلماء الأتقياء، مدح النفس، نسيان الذنوب واستقلالها، توقع الجزاء الحسن والمغفرة وإجابة الدعاء دائمًا، الإصرار على الخطأ، الفتور عن الطاعة لظنه أنه قد وصل إلى حد الكمال، التصدر قبل التأهل، قلة الإصغاء إلى أهل العلم.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4879)
الأخوة الإيمانية
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الآداب والحقوق العامة
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأخوة الإيمانية. 2- الأخوة الإيمانية من أعظم العبادات. 3- فضل الأخوة الإيمانية. 4- فضل سلامة الصدر. 5- أسباب معينة على سلامة الصدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الأخوّة الإيمانية نعمة من أعظم النعم التي يمتن الله بها على عباده، هي رابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي يصعب أن نجد مثلها في المجتمعات الأخرى، إنما هي أخوّة لله بين القلوب والأرواح، تربط المؤمنين برباط وثيق لا يمكن فصمه.
الأخوّة الإيمانية من أوثق عرى الإيمان، وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)) رواه الترمذي وأحمد واللفظ له. فهذا شرح نبوي للأخوّة الإيمانية، تحب لله، وتبغض لله، وتعطي لله، وتمنع لله.
إن الشيطان قد يعجز عن الإنسان العابد لله أن يجعله يتجه بالعبادة لغير الله، ولكنه مع ذلك يحتال في إيقاد نار العداوة والبغضاء في القلوب، فإذا اشتعلت هذه النار استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم وتقطع أواصرهم, ويقوم شياطين الإنس بعد ذلك بإلهابها كلما خمدت أو كادت. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم)) رواه مسلم.
ولهذا فإن دين الإسلام يسعى لعلاج بوادر الجفاء وما يثير البغضاء وينمي الشحناء لكي يكون المجتمع مجتمعًا متماسكًا يحب أفراده الخير لبعضهم، مجتمعا تسوده المحبة والألفة والأخوة.
وإن الأخوّة الإيمانية بمفهومها الشمولي والعميق هي التي يمكن أن تحل محل العداوة والبغضاء والتنافس غير الشريف، وهي التي يمكن أن تجعل المجتمع صفًا واحدًا متماسكًا يصعب خرقه.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بهن حلاوة الإيمان)) ، ذكر منها: ((أن تحب المرء لا تحبه إلا لله)) رواه البخاري (16) ومسلم (43). نذوق طعم الإيمان إذا أحب بعضنا بعضًا ابتغاء وجه الله.
بل إن الأخوّة الإيمانية تؤدي إلى محبة الله للمجتمع المسلم، والعداوة بين المجتمع وتناحرهم والبغض الذي بينهم يستجلب سخط الله عليهم جميعًا، يفهم هذا الكلام من خلال المفهوم العكسي لقوله في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه: ((يقول الله عز وجل: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)) رواه الإمام أحمد عن معاذ، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)) رواه الترمذي.
إن الأخوّة الإيمانية سبيل إلى ظل عرش الرحمن جل جلاله يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث المشهور عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ)) ، ذكر منهم: ((وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)) متفق عليه.
فما أجمل أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا تسوده المحبة والألفة بين أفراده، لا شحناء ولا تباغض بينهم.
وليعلم أن مما يعين على التلذذ بالعبادة والخشوع فيها أن يحضر المسلم إليها وليس في قلبه غل أو حقد أو حسد على أحد من إخوانه المسلمين؛ لأن من يحضر إليها وقد امتلأ قلبه بهذه الأمراض يكون بعيدًا كل البعد عن الخشوع؛ ولهذا امتن الله على المؤمنين بأن ألف بين قلوبهم، وهذه النعمة العظيمة فقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
بل امتن على نبيه بأن أوجد له طائفة من المؤمنين تألفت قلوبهم، فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62، 63]. وحتى توجد الألفة والمودة في المجتمع لا بد من سلامة الصدور وصفاء القلوب، ونقصد بسلامة الصدور طهارتها من الغل والحقد والحسد والشحناء والبغضاء.
وقد أخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة فقال: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43]، وقال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]. والله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قد أثنى على الأنصار وعلى من تبعهم بإحسان ويصفهم بسلامة الصدر فيقول: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:9، 10].
فهذه دعوة إلى أن نطهر قلوبنا من الحقد والغل والحسد حتى نسعد بصحبة الأبرار الصالحين، ونفوز بالقرب من رب العالمين، فإن النبي أخبر عن عبادٍ ليسوا بأنبياء ولا شهداء على منابر من نور يوم القيامة، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله، فلما سئل عنهم أخبر أنهم أُناس لم تصل بينهم أرحام متقاربة، لكنهم تحابوا في الله وسلمت صدورهم وقلوبهم من الحقد والغل والحسد. فانظروا إلى عظم ما أعده الله لهم بسبب هذا الخلق الكريم، فصاحب الصدر السليم يفوز بكل هذه الفضائل، والنتيجة المباشرة في الدنيا هي راحة البال والبعد عن كل ما يكدر القلب من الهموم والغموم.
نسأل الله أن يرزقنا قلوبًا سليمة طاهرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
هذه بعض الأسباب المعينة على سلامة الصدر:
1- الدعاء فإنه من أعظم الأسباب لتحقيق المقصود، وكان من دعاء نبينا : ((وأسألك قلبًا سليمًا)) ، فمن رزق الدعاء فإن الإجابة معه. كما أثنى الله على المؤمنين لدعائهم: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا.
2- حُسن الظن وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً)، وقال الشافعي: "من أراد أن يقضي له الله بخير فليحسن ظنه بالناس"، ولما دخل عليه أحد إخوانه يعوده قال: قوّى الله ضعفك، فقال الشافعي رحمه الله: لو قوى ضعفي لقتلني، قال الزائر: والله ما أردت إلا الخير، فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.
3- التماس الأعذار وإقالة العثرات والتغاضي عن الزلات، يقول أحد السلف: التمس لأخيك المسلم سبعين عذرًا، فإن لم تجد فلعل له عذرًا لا تعلمه، ويقول ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل:لعل له عذرًا لا أعرفه". فأين المعصوم من الخطأ والزلات؟! ومن منا لا يخطئ؟! قال بعضهم: المروءة هي التجاوز عن زلات الإخوان. فإذا حصلت من أخيك المسلم زلة فتذكَّر سوابق إحسانه، فإنه مما يعين على التماس العذر وسلامة الصدر، واعلم أن الرجل من عُدَّت سقطاته، واستحضر أن المؤمن يلتمس المعاذير والمنافق يلتمس العثرات.
4- ادفع بالتي أحسن، فليس هذا من العجز، بل من القوة والكياسة، قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
5- البعد عن الغيبة والنميمة وتجنب كثرة المزاح.
6- معاملة النمام بما يستحقه، فهو فاسق هماز مشاء بنميم، فالنمام بريد الشيطان.
7- الهدية والمواساة بالمال، فإنها من دواعي المحبة.
8- الإيمان بالقدر، فإن العبد إذا آمن أن الأرزاق مقسومة مكتوبة رضي بما هو فيه، ولم يجد في قلبه حقدًا ولا غلاً ولا حسدًا لأحد من الناس على خير أعطاه الله إياه. وليعلم العبد أنه ليس له من الحسد إلا الهم والغم والحسرة، وفوق ذلك كله أن هذا الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب كما ثبت ذلك عنه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يجتمع في قلب عبد الإيمان والحسد)) رواه ابن حبان في صحيحه.
9- أخيرا تذكر حال النبي وسيرته وكيف تعامل مع من آذوه وسبوه وشتموه وحاربوه، ومع كل ما فعلوه لم ينتقم لنفسه أبدًا، بل عفا وأصلح.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4880)
ولا تنازعوا
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
28/9/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على اغتنام ما بقي من رمضان. 2- حث العلماء على عمارة الأقصى ونشر العلم والدعوة إلى الله. 3- من صور الفساد المنتشرة في المجتمع. 4- التحذير من الإعلام الفاسد. 5- الحث على الوحدة والائتلاف. 6- الاستفزازات الإسرائيلية. 7- التحذير من الفرقة والتناحر. 8- أمريكا حليفة إسرائيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيتها الجموع المؤمنة التي شدّت رحالها إلى هذا المسجد الأقصى المبارك الذي تشدّ الرحال إليه، يا من أتيتم لتشهدوا الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، شهر المغفرة والرضوان، يا من تتوجهون إلى الله العلي القدير التواب الرحيم السميع المجيب بأكف الضراعة ودموع التوبة وصدق الدعاء، ليسبل عليكم رحمته، ويتقبل منكم الصلاة والصيام والقيام والصدقة وصالح الأعمال، ويعتقنا من النار، ويفرج كربة أمة الإسلام، يا أبناء هذه الأرض المباركة الطيبة، يا من شرفكم الله بشرف الرباط دون سائر الأمم في هذه البقعة المباركة، أعلمكم أن جمعكم هذا هو الضمان الأوحد لسلامة وطهارة مسجدكم من أن يدنسه المحتلون، اعقدوا العزم على الاستمرار بهذا الزخم وهذا الزحف وهذا الجمع ما خفقت القلوب وجرت الدماء في العروق، فوِّتوا الفرصة على أعدائكم الذين يتربصون بكم للنيل من هذا المسجد المبارك، مسرى رسولنا الأكرم ومعراجه إلى السموات العلى.
عباد الله، نحن اليوم في الثامن والعشرين من أيام شهر رمضان المبارك، ولم يبق منه إلا اليسير، فاغتنموا ما بقي منه، فهي نفحات إلهية طيبة وعطرة. رمضان انفرط عقده، وتناثرت حبات لياليه وأيامه، وهو الآن يجهز نفسه ليصعد إلى الله تعالى، ربح من ربح، وخسر فيه من خسر.
وبعدك ـ أيها الشهر الكريم ـ تحزن المساجد وتطفأ المصابيح وتنقطع صلاة التراويح، والمساجد تشكو إلى الله تعالى ويقل فيها الساجد والعاكف والراكع، تقل فيها دروس العلم ووجود العلماء.
فيا أيها العلماء، اعمروا الأقصى، اعمروه بالعلم وحلقاته، اعمروه بالذكر والعبادة وتعليم القرآن وتفسيره والحديث وتأويله. فأنتم ـ أيها العلماء ـ سرج الدنيا التي تضيء لأهل الجهل، أنتم من يدلّ الناس على الله، فكونوا مع الله ولا تخشوا في الله لومة لائم، كونوا على قدر المسؤولية في هذه الأيام الصعبة التي تمر فيها الأمة، نريد منكم أمثال العز بن عبد السلام الإمام الكبير الذي وقف مواقفه المشهورة أيام الزحف التتري على أرض الإسلام والمسلمين، نريد منكم أمثال الإمام المجاهد ابن تيمية الذي وقف أمام الغزو التتري الذي اكتسح بلاد المسلمين، نريد منكم أمثال أبي الحسن الدراوردي الذي كان لا تسكن شفتهاه من ذكر الله عز وجل، وإن مُزَينا جاء ليقص شاربه ويحلق رأسه فقال: أيها الإمام، يجب أن تسكن شفتيك، فقال: قل للزمان حتى يسكن.
هذا الإمام دخل عليه يوما نظام الملك، وتواضع معه غاية التواضع، فلم يزده على أن قال: أيها الرجل، إن الله سلطك على عبيده، فانطر كيف تجيبه إذا سألك عنهم. فهل في علمائكم اليوم أمثال هؤلاء؟! إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا بهم، إن التشبه بالكرام فلاح.
عباد الله، أين العلماء يحاربون الفساد الذي نعيشه هذه الأيام؟! بعض المدارس في بلادنا يمنعون بنات المسلمين من لبس الحجاب، ويوقعون أولياء الأمور على كتب رسمية يتعهدون فيها أن لا يلبس البنات الحجاب، فيا لله! ويا للعجب! أيحصل هذا في بيت المقدس؟! يريدون من بناتنا أن يسرن في مهاوي الردى وإلى هدم كيان الأسرة الإسلامية.
فيا أيها المسلمون، صونوا أعراضكم، وكفوا عن مظاهر الفساد نساءَكم، وأمروهن بالحشمة في اللباس، فالمرأة يجب أن تكون مستورة، فلا يجوز بأي حال من الأحوال لأي مدرسة أن تمنع بنات المسلمين من اللباس الإسلامي، ولا يجوز لأولياء الأمور الرضا بذلك والتوقيع على أمر محرم.
أيها المسلمون، راقبوا البيوت، راقبوا أجهزة الإعلام في البيوت، أصبحت بيوتنا دورا للسينما بعد أن كانت يذكر فيها اسم الله كثيرا، إنه تدمير للأخلاق، وإنه تدمير للبيوت. اتقوا الله أيها الناس، قد اهتزت البيوت من أعماقها، بيوتنا قد خربت، أولادنا تركوا تعاليم ربنا، احرصوا على أولادكم فالتيار جارف، والغرب يحاربنا في أخلاقنا وديننا.
أيها المسلمون، عندما أنظر إلى الفساد الاجتماعي في أمتنا اليوم أعجب كل العجب، نحن في أيام مباركات طيبات، في أيام شهر رمضان، الأعمال تضاعف، الصيام يضاعف، القيام يضاعف، كل الأعمال الطيبة يضاعفها الله. ولقد جلس النبي ذات يوم مع أصحابه فقال لهم: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)) ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أفشى السلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)).
حسنوا أخلاقكم أيها المسلمون، حسنوا معاملاتكم مع الله ثم مع الناس، أظهروا أنفسكم بتطبيقكم لمنهج الله في الحياة، كونوا وحدة واحدة، صفا واحدا، لا نريد خلافا، ما لي أرانا في خلاف؟! ما لي أرانا في شقاق؟! هم يتحدثون ونحن نختلف. إن مصائبنا لم تأت إلا منا، وأنا لا أخشى على الإسلام من أعدائه، إنما أخشى على الإسلام من أدعيائه، فتوبوا إلى الله أيها المسلمون.
عباد الله، تذكروا دائما أن الله معكم إذا كنتم معه، وتذكروا أنه نصركم يوم بدر وأنتم قلة، وفتح مكة المكرمة، ونصركم في مواطن كثيرة، في يوم حنين، وفي عمورية وعين جالوت، وفتح عليكم بيت المقدس، وجعلكم قادة العالم يوم تمسكتم بدينكم ورسالتكم، أعزكم الله بنصره وأيدكم بجنده، وأنزل السكينة عليكم، فكنتم خير أمة أخرجت للناس. أقيموا ـ أيها المسلمون ـ دولة الإسلام تعد لكم عزتكم وكرامتكم، وسوف تحكمون الدنيا بعدلكم وسماحة دينكم وعقيدتكم وعلوِّ همتكم وإيمانكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد ذكرت الصحف المحلية الأسبوع الماضي أن أحد زعماء المتطرفين قام بزيارة استفزازية لساحات المسجد الأقصى، وعقب زيارته أعلن أنه قد أعد خرائط لبناء كنيس في ساحات الأقصى.
عباد الله، إن هذا الإعلان الخطير الحاقد يبين لكم وللعالم أجمع أنهم يتربصون بكم، وأنهم لن يكفوا عن محاولاتهم للنيل من قدسية الأقصى.
عباد الله، إن الرد على هذا المتطرف وأمثاله لا يكون إلا بالرباط والثبات والتواجد وشد الرحال من أنحاء فلسطين إليه، فعاهدوا الله أن تبقوا الأمناء الأوفياء لهذا المسجد، واصلوا حضوركم وعمروه بهذه الوجوه النيرة النضرة، شدوا الرحال إليه كل يوم حتى تثبتوا أنكم أهله وأصحابه.
يا أبناء شعبنا المسلم، يا من قدّمتم في سبيل وجودكم في هذه الأرض المقدسة ما يربو على نصف مليون شهيد على امتداد أيام الاحتلال، وها أنتم تقدمون قوافل الشهداء يوما بعد يوم، أناشدكم الحفاظ على وحدة العقيدة ووحدة الدم ووحدة الصف ووحدة الكلمة والهدف، فما يجري على الساحة الفلسطينية اليوم من تفاقم للأوضاع وتزايد حالات الاحتقان وتبادل الاتهامات وإغلاق مؤسسات رسمية والامتناع عن صرف رواتب الموظفين وإغلاق المدارس وأماكن التعليم وبشكل متعمد إنما ينذر بمخاطر لا يحمد عقباها.
عباد الله، لا يمكن لهذا الشعب المسلم الأبي أن يتحول إلى معسكرين متحاربين، فتقام الحواجز والمتاريس وتشيع حالة الفوضى وعدم الاستقرار ونكتوي بنار حرب أهلية لا تبقي ولا تذر لا سمح الله. وإذا كانت كل القوى والفعاليات والتجمعات تحرم سفك الدماء فإن المعطيات على أرض الواقع خلاف ذلك للأسف الشديد.
عباد الله، إن الشقاق والنزاع والخصام يضعف الأمم القوية، ويميت الأمم الضعيفة، فالعدو لا يتمكن منا ما دمنا متحدين، ما دمنا مجتمعين، يد واحدة. واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن أعداءكم لا ينامون ولا يغفلون، وأن سياسة الغرب في احتلال الشرق تقوم على قاعدة: "فرق تسد".
فهلا اعتصمنا بحل الله وتمسكنا بكتاب الله؟! ألم تسمعوا قوله تعالى: وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
تنبه ـ يا شعبنا العظيم ـ من مخاطر الإعلام المعادي التي تحمل الفلسطينيين مسؤولية تدهور الأوضاع وعدم الاستقرار ومعاناة الناس وإغلاق دور العلم، دون أن تتحدث عن جوهر الصراع، والسبب الرئيسي المباشر هو الاحتلال. فبعد فشل الوساطة القطرية والمصرية وتقريب وجهات النظر بين الحكومة والسلطة أصبحت الأضواء تتسلط على النفق المظلم الذي لا يمكن أن تؤول إليه الأوضاع، اسمعوا ماذا قال القنصل الأمريكي الأسبوع الماضي، قال بالحرف الواحد: "ليس مهمًّا من يشكل الحكومة الفلسطينية، المهمّ هو الاعتراف بإسرائيل تمهيدا لقبول الحوار والتعامل معها"، إذًا فأمريكا وإسرائيل لا يفرّقان بين هذا الفصيل وذاك إلا بمدى الاعتراف أو عدم الاعتراف بها.
أمريكا تعتبر إسرائيل هي الحليف الإستراتيجي الوحيد والذراع العسكري لها في المنطقة، ولا تعطي اهتماما للتحالف مع بعض الأنظمة العربية، فهذه تحالفات مرحلية، أما مع إسرائيل فتحالفها أبدي، لأن الشعوب الإسلامية والعربية تمقت المواقف والسياسة الأمريكية المناهضة لآمال وتطلعات الشعوب.
لقد تجاهل القنصل الأمريكي كما تجاهل معه الوسطاء العرب التصعيد العسكري المبرمج الذي تشنه إسرائيل ضد الفلسطينيين برا وبحرا واستمرار عمليات القتل والتدمير والحصار وما يقوم به المستوطنون من اعتداءات واستفزازات سيما هذه الأيام مع موسم قطف الزيتون.
يا أبناء فلسطين، المؤامرة خطيرة، المؤامرة تستهدف الأرض وتستهدف الإنسان الفلسطيني بغَضِّ النظر عن انتمائه، فوّتوا الفرصة على الأعداء، اعلموا أننا الخاسرون في أية مصادمات، ليضع كلّ فلسطيني صادق غيور على مصلحة الأمة وحرمة الدم الفلسطيني قول الله تعالى بين عينيه: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28].
فاحذورا من الاقتتال الداخلي، واعلموا أن الله يقول في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]. فالله سبحانه وتعالى يمقت أن تكون الأفعال مغايرة للأقوال، ويمقت المؤامرات، ويمقت الخيانة.
وتذكوا ـ يا أحباب المصطفى ـ خطبة الرسول عليه السلام عند فتح مكة حيث قال: ((إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
عباد الله، علينا أن نبرهن للعالم أجمع أننا شعب واحد فوق الجراح، وشعب على قدر من الوعي والمسؤولية واحترام الذات والإيثار، وشعب متمسك بالعقيدة الإسلامية ولا يفرط بأرض فلسطين والأقصى...
(1/4881)
سلامة الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/10/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة والطمأنينة غاية كل أحد. 2- فضل سلامة الصدر. 3- مفاسد الخصومة والأحقاد. 4- سد الشرع الحنيف أبواب التباغض والشحناء. 5- ذم الحسد والتحذير منه. 6- بيان البغض المذموم والبغض المحمود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها المسلمون، إنّ سعادةَ القلب وسرور النفس وطيبَ العيش وصفاء الحياة غايةٌ يسعى إليها الناس جميعًا، وهدفٌ ينشده الخلق كافة، وأملٌ يرجو بلوغَه العقلاء عامّة، فتراهم يعملون كلَّ وسيلة ويتَّخذون كلَّ سبب ويركبون كلَّ مركب يبلغون به هذه الغايةَ ويصلون به إلى هذا المراد. غيرَ أنّ من أنار الله بصيرتَه وألهمه رشده يعلم أن سلامةَ الصدر مِن الأحقاد وبراءَته من الضغائن وصيانته من الشحناء هو من أعظم ما يدرك به المرء حظَّه من السعادة، وينال به نصيبه من النجاح.
إنها سلامة الصدر التي تبدو واضحةً في حبه الخير للناس جميعًا وسروره بما يسوق الله إلى عباده من نِعم، وفي براءة نفسه من حمل الحقدِ على إخوانه وإضمار الضغينة لهم، وفي طهارة قلبه من الفرح بآلامهم والسرور بما ينزل بهم من مصائب. ولِمَ لا يكون هذا شأنَه وهو يتلو قول ربه الأعلى سبحانه في كتابه حكايةً عن دعاء المؤمنين الصادقين المخبتين في دعائهم الصادق المخبت: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، ويقرأ قولَ النبي حين سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أيّ الناس أفضل يا رسولَ الله؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) ، قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيّ النقيّ، لا إثم فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسد)) أخرجه ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
وهذا لأنه يستيقن ـ كما قال بعض أهل العلم ـ أن الخصومةَ وما ينشأ عنها من أحقاد إذا نمت وغارت جذورها وتفرَّعت أشواكها شلَّت زهراتِ الإيمان الغضِّ وأذوَت ما يوحي به من حنانٍ وسلام، وعندئذ لا يكون في أداء العبادات المفروضة خير، ولا تستفيد منها النفس، فكثيرًا ما تطيش الخصومة بألبابِ ذويها، فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقِطة للمروءة والكبائر الموجِبة للَّعنة؛ ذلك أن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودُّها وانكسرت زجاجتها ارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، إنه لما كان فساد القلب بالأحقاد ناشئا عن طبيعة فردية طاغية وأنانية مستحكِمة فلا عجب أن يغدوَ معولَ هدم في بنيان المجتمع المسلم القائم على قواعد الإيمان ووشائج الحبّ المشترَك والودّ المشاع والتعاون الوثيق. ومن المعروف أن الناس متفاوِتون في أفهامهم متبايِنون في مشاربهم مختلِفون في صفاتهم، وأن التقاءهم في دروب الحياة ومشيَهم في مناكب الأرض قد ينشأ عنه ضيقٌ وانحراف بل صِدام وتنافر؛ ولذا كان درء بوادر الخصومات قبل أن يستفحلَ أمرها وإهالة التراب على أسباب العداوات قبل أن تضطرم نيرانها، كان هذا مقصدا شرعيًّا عظيما ومنهجا إسلامِيّا قويما، شرعَ الله فيه لعباده من المبادئ والمسالك ما يدفع عنهم عوادي الفرقة وبواعث الشحناء.
فمن ذلك النهيُ عن التحاسد والتدابر الذي جاء فيه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ـ واللفظ للبخاري ـ عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوق ثلاثة أيام)). وهذا التوقيت ـ كما قال أهل العلم ـ مدةٌ تهدأ فيها الحدّة ويسكت الغضبُ فيها عن المتغاضِبَين، ثم يكون لِزامًا على المسلم بعدَها أن يصِلَ إخوانه وأن يعودَ معهم سيرتَه الأولى من الألفةِ والمحبة في الله، كأنّ القطيعة العابرة غمامة ما إن تجمَّعت حتى هبَّت عليها الرياح فبدَّدتها وصفَا الجوّ بعد عبوس.
وكلّ نزاع يكون فالمرء فيه أحد اثنين: إما أن يكون ظالما، وإما أن يكون مظلومًا، فإن كان ظالما متعدِّيًا على أخيه في نفسه أو أهله أو ماله وجب عليه الإقلاع عن ظلمه والتجافي عن عدوانه، وأن يستلَّ مِن قلب من ظلمه الضّغن بأن يعودَ عليه بما يرضيه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكونَ دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). وإن كان مظلومًا فقد رُغِّب في اللين والسماحة وغفران الزلَّة والتجاوز عن الهفوة وقَبول المعذرة وعَدم ردِّها؛ لأن ردَّها وعدمَ قبولها رذيلة خُلُقيَّة وعِلّة نفسية دالّة على صَغار وفسادِ طبع وسوء طويّة وإصرارٍ على حبس النفس في سجن الأحقاد وأغلال الضغائن.
ومن ذلك تحريم الغيبة التي أوضح رسول الله حقيقتَها بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) أخرجه مسلم في صحيحه.
ومما جاء تحريمه لكونه ذريعةً إلى تكدير صفوِ النفوس وتغيير القلوب النميمةُ، فقد قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) أخرجه البخاري في صحيحه، وهو الذي ينقل الحديثَ بين الناس لقصد إفساد وقطع حبل الود بينهم؛ ولذا نهى صلوات الله وسلامه عليه أن يبلَّغ عن أصحابه بما يسوؤه فقال: ((لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
عباد الله، إن سلامةَ الصدر من الأحقاد باعث للمسلم على الفصل بين حظوظه التي نالها من الحياة وبين مشاعره تجاه إخوانه، فلا يجعل فشلَه فيما نجح فيه غيره سببًا لتمنّي الفشل والخسران للنّاس جميعًا؛ إذ هو أزكى نفسًا وأرقى فِكرًا مِن أن ينظرَ إلى الأمور نظرةً شخصيّة خاصّة، لكنه ينظر إلى الصالح العامّ مهما فاته من حظوظِ الدنيا؛ لأنّه يعلم أن الحسدَ داء عُضال وخصم لا يجتمع مع الإيمان في قلب مؤمن، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((لا يجتمع في قلب عبدٍ الإيمان والحسد)) ؛ ولذا حذر منه صلوات الله وسلامه عليه أشدَّ تحذير بقوله: ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن تردى في حمأة هذا الخلق الذميم والخصلة المقبوحة أدخل النقص على نفسه من جهتين: الأولى: أنه جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، لها يقاتل ولأجلها يخاصم، والثانية: أنه ساقط الهمة حيث قعد عن طلب المعالي واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكان حقه أن يلجأ إلى ربه فيسأله من فضله، ثم يجتهد في إدراك ما قدّر له ويسعى في نيل ما كتب له مما يماثل ما حظِيَ به غيره، فإنَّ هذه هي الغبطة التي بينها رسول الله بقوله: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكتِه بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها)) أخرجه البخاري في صحيحه، فهو تمني مثيل النعمة، وليس تمني زوالها.
والمقصود ـ يا عباد الله ـ أن يكون المثَل الأعلى الذي يقصِده الإنسان ساميًا والهدف جليلا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على سلامة الصدور أن تفسدها الأحقاد وتعكِّرَ صفوَها الضغائن التي يتنغّص بها العيشَ وتتكدَّر بها الحياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبِسنّةِ نبيِّه ، أَقولُ قَولي هَذَا، وَأستَغفِر اللهَ العَظيمَ الجَليلَ لِي وَلَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ للهِ الولي الحميد، الفعّال لما يريد، أحمدُه سبحانَه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه المبدئ المعيد، وأَشهَد أنّ سيِّدَنا ونَبيَّنا محمّدًا عَبد الله ورَسولُه صاحب الخلق الرشيد والنهج السديد، اللَّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولك محمّد وعلى آلهِ وصَحبه.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إن البغضاءَ التي حرَّمها الله ورسوله هي تلك التي تكون لأجل الدنيا والتزاحم عليها والتنافس في متاعها، أما الغضب لله والبغض لأجل الحقِّ فهذا ليس من ذلك، بل هو مأمور به لأنه من دلائل صحَّة الإيمان وأمارات الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ، فقد أمر الله بمجافاة أعدائه حتى لو كانوا أقربَ الخلق فقال عزّ اسمه: لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [التوبة:23]، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّةِ على هذا.
فاتقوا الله عبادَ الله، واعملوا على كلِّ ما تبلغون به رضوانَ الله.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتَمِ رسلِ الله محمّدِ بن عبد الله، فقَد أمِرتم بذلِك في كتابِ الله حيث قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4882)
وقفات مع قصة سبأ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, القرآن والتفسير, القصص
يعقوب بن يوسف البوحسن
الهفوف
جامع السلمانية الشرقية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرد لقصة سبأ. 2- أثر الذنوب والمعاصي. 3- دروس وعبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا? أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والعلن والنجوى.
سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع آيات من القران مع قصة قوم سبأ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19].
أخرج ابن أبي حاتم أن فَرْوة بن مُسَيْك الغَطَفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ((ما أمِرتُ فيهم بشيء بعد)) ، فأنزلت هذه الآية: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ.
أمة الإسلام، إن سبأ قبيلة معروفة في اليمن، ومسكنهم بلدة مأرب. ومن نعم الله ولطفه بالناس عمومًا والعرب خصوصًا أن قصّ عليهم في القرآن أخبار المهلَكين من الأقوام التي كانت تجاورهم وأبقى آثارهم شاهدة على جحودهم وهلاكهم؛ علّهم بذلك يعتبرون ويؤمنون.
كانت سبأ في أرض مخصبة، وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تنحدر إليهم من الجبال عبر وديان عظيمة، فأقاموا خزّانًا طبيعيًا يتألف جانباه من جبلين عظيمين، وجعلوا بينهما على فم الوادي سدًا كبيرًا به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها وفق حاجتهم، فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم أطلق عليه سد مأرب.
وكان من أثر ذلك الرخاء والوفرة والمتاع الجميل جنتان عن يمين وشمال، قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار، تسرُّ الناس بظلالها، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه، فكانت آية تذكرهم بالمنعم الوهاب سبحانه وتعالى، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق ربهم شاكرين له، وذكرهم بنعمة البلد الطيب، ومن زيادة نعمه المغفرة على التقصير والتجاوز عن السيئات.
فلا إله إلا الله، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء، وسماحة بالعفو والغفران من رب الأرض والسماء، فماذا يقعدهم عن الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام؟!
ولكنهم أعرضوا عن شكر الله، ولم يعملوا بما أمرهم الله، وأساؤوا فيما أنعم الله عليهم، وما أحسنوا، فكانت العقوبة من الله بأن سلبهم تلك النعم والوفرة والخضرة، فأرسل عليهم سيل العرم الجارف الذي حطم ذلك السد العظيم. قال الطبري: وحين أعرضوا عن تصديق الرسل ثقب ذلك السدّ الذي كان يحبس عنهم السيول، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها، وخرَّب أرضهم وديارهم، فتفجرت المياه المحتجزة، فأغرقت ودمرت ذلك النعيم، وبعدها جفت الأرض واحترق الزرع، فبدلت الجنان الفيحاء والبساتين الغناء بأرض قاحلة مقفرة، بها نبات ذو شوك وأثل ذات أُكل مرٍّ بشع وشيء من سدر قليل التي لا ينتفع بثمرها، وضيق عليهم الرزق، وبدلهم من الرفاهية والنعماء بالشدة والخشونة واللأواء.
عباد الله، هذا النذير الأول، ثم يأتي النذير الثاني، ما هو؟ لكنه سبحانه لم يمزقهم ويفرقهم، بل كان عمرانهم متصلاً بينهم وبين القرى المباركة: مكة والشام، فيخرج المسافر من قرية ويدخل القرية الأخرى ولما يظلم الليل عليهم وهم آمنون مطمئنون. ولكن غلبت على قوم سبأ الشقاوة فلم يتعظوا بالنذير الأول، ولم يرجعوا إلى ربهم ويستغفروه، بل دعوا دعوة الحمق والجهل قائلين: رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. واستجاب الله دعوتهم، ففرقهم في الأرض وبدد شملهم بعد أن كانوا مجتمعين، وصاروا أحاديث يرويها الرواة وقصة يعاد ذكرها على الألسن والأفواه، فأزالهم الله بعد أن كانوا أمة لها شأنها بين الأمم، ولكن ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.
وبعد ذلك كله تختم القصة بتوجيه من الله العليم الحكيم لمن يقرأ هذا القرآن ويعتبر بما فيه من الأحكام والشرائع والأخبار أن ما ذكر في هذه القصة آية وموعظة لكل صبار شكور، فيحذر المعتبر من الجزع وهو ضد الصبر، ومن الكفر وهو ضد الشكر.
معاشر المؤمنين، تأملوا أثر المعاصي والذنوب كيف حولت أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها بطيب أرضها وتقارب أسفارها ومغفرة ربها لتقصيرها، فصارت أحوالها منكوسة، فبُدلوا بالفرقة بعد الاجتماع وبمحق البركة بعد طيب البقاع وبتباعد الأسفار بعد تقاربها، واستُبدلوا بعد الأمن خوفًا وبعد العز ذلاً. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات المعاصي أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب"، وقال أحد السلف رحمه الله تعالى: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة"، وقال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ. ولقد أحسن القائل:
إذا كنت فِي نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
صلوا بالْجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعًا من أهل محبته ورضوانه، وصدق الله: ذ?لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال الأكبر، عز في علاه فغلب وقهر، أحصى قطر المطر وأوراق الشجر وما في الأرحام من أنثى وذكر، خالق الخلق على أحسن الصور، ورازقهم على قدر، ومميتهم على صغر وشباب وكبر، أحمده حمدا يوافي إنعامه ويكافئ مزيد كرمه الأوفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أناب وأبصر، وراقب ربه واستغفر، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الطاهر المطهّر، المختار من فهر ومضر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذويه ما أقبل ليل وأدبر، وأضاء صبح وأسفر، وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أما بعد: ونستلهم وإياكم ـ عباد الله ـ أهم الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة:
أولاً: عظم فضل الله على عباده ورحمته بهم وتيسير أمورهم وتذليل الصعاب لهم كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا.
ثانيًا: تفرد الله بتصريف أمور العباد والبلاد، وأن لله جنود السموات والأرض، فيسخر الله جندًا من جنده على عباده ما يكون فيه رحمته ونعماؤه، وتارة يسخرها على قوم فيكون فيها عذابه ونقمته، فيجازي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته، فإِن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرَّب الله ملكهم، وشتَّت شملهم، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر وهو أحكم الحاكمين.
ثالثًا: عدم الأمن من مكر الله جل وعلا والحذر من طول الأمل، ولا يغتر المرء بنعم الله وهو على معاصيه، فإن ذلك استدراج لهلاكه ولنتنبه لذلك.
أيها الإخوة، إن الفرد منا ـ نسأل الله العافية ـ قد يعاجل بالعقوبة في ولده، ماله، عمره، وقد يؤخر، بينما هلاك الشعوب قد يكون أكثر إمهالاً. خذ مثالاً: ظل الاتحاد السوفياتي 72 سنة ثم كتب الله له الزوال والتفكك، فليس معنى ذلك أن الله غافل عما يعمل الظالمون ، فهو تحذيرٌ لنا بأن لا نغتر بتقلب الذين كفروا في البلاد فإنه متاع قليل، وتذكيرٌ للأمة أن الجحود والنكران لنعم الله وعدم شكرها يعرضها للزوال وانقلاب الأحوال كما سمعنا من حال قوم سبأ، وهذه السنة ثابتة لا تتبدّل أبدًا، وتنزل على كل من كفر بنعمة الله تعالى ولم يؤد حقها من الشكر العملي التطبيقي لا الشكر باللسان فقط، وصدق الله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
رابعًا: الحذر من الغفلة عن آيات الله ووجوب الأوبة والإنابة إلى الله تعالى عند نزول البلاء وربط ذلك بالذنوب والمعاصي. والحذر من تزيين الشيطان للمعصية وتسهيلها لك، وتذكر رحمة الله بك أن عدوك ليس له سلطان عليك، ولكن إياك ـ يا محب ـ أن تغفل عن كيد الشيطان، قال الحسن في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ واللهِ ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إِلاّ غرورًا وأماني دعاهم إِليها فأجابوه
خامسًا: الحذر من التبذير والإسراف، وأنهما من أسباب سخط الله تعالى على عباده، وأنهما من كفر النعمة وجحودها.
سادسًا: الحذر من الإعراض عن دين الله تعالى وعدم مبارزته بالمعاصي أو المجاهرة بها، فإن الله لا غالب له. وتأمل في قوله تعالى: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ، قال المفسرون: وتسمية البدل "جنتين" فيه ضربٌ من التهكم؛ لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإِنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة.
سابعًا: الصبر على البلاء وعدم السخط على أقدار الله تعالى والرضا بقضائه وقدره، ولتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) أخرجه أحمد وقال الألباني: "حديث صحيح". يقول أحد السلف: إذا أصبحت فأصبت بخير أو شرّ لم أحزن، لماذا؟ قال: لأني لا أعلم الخير من الشر الذي كتبه الله علي.
وقفت على هذه الحادثة بنفسي: رجل وضعت زوجته عدسات على عينيها، ثم أصبحت لا ترى، لم تجد عند الطبيب علاجا، ظنت أنها عين، قُرئ عليها وذكّرت بالله وبنعمة البصر بَكت وتابت وأكثرت من الاستغفار والقيام، وهي التي ظلت سنة ونصفا لا تنجب بعد هذه الحادثة، وبعد التوبة والاستغفار أحست بجنين يتحرك في أحشائها، فسبحان الله! جعل هذه الحادثة سببا للحمل.
قال ابن القيم رحمه الله: "قال بعض الصالحين: يا بني، إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بني، القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة".
ثامنًا وأخيرًا: الدعاء، فما من عسير إلا يسره، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كرب إلا نفسه، فعليكم به فإنه السلاح الذي لا يثلم، ومما دعا به النبي قوله: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين...
(1/4883)
موءودة العصر: حادثة اختطاف الطفلة ابتهال
الأسرة والمجتمع, فقه, موضوعات عامة
الأبناء, الحدود, جرائم وحوادث
ياسر بن صالح العصباني
تبوك
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تواصل البحث عن الطفلة المفقودة. 2- قصة يوسف عليه السلام. 3- قسوة قلوب المجرمين. 4- ظاهرة اختطاف الأطفال. 5- توجيهات بين يدي الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تواصل شرطة منطقة الرياض عملياتها البحثية عن طفلة مفقودة في محافظة المجمعة, تفاعلت الصحف ووسائل الإعلام مع هذه الطفلة البريئة فنشرت قصة اختفائها في الصحف والتلفاز، تفاعلت مواقع الشبكة العنكبوتية مع هذه المأساة فخصّصت صفحات تفاعليه لمتابعه تطورات المأساة، تفاعل المجتمع مع هذه القضية وأصبحت الحادثة حديث المجالس لما تمثّله هذه الحادثة من بشاعة وقسوة من قلوب لا تعرف الرحمة ولا تؤمن بالإنسانية والشفقة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر على أولئك الظالمين، الله أكبر الله أكبر الله أكبر على أولئك الذئاب. حادثة بشعة بكل المقاييس، حادثة هزت المجتمع من هول بشاعتها. الله أكبر الله أكبر على من خطف تلك البريئة. اللهم يا رب السماء والأرض ردّ البريئة إلى أمها ردًا جميلاً، اللهم يا رب يوسف يا من رددت يوسف إلى أبيه رد الطفلة إلى أبيها، اللهم يا ربنا يا حي يا قيوم إنك تعلم مكانها وتعلم سبب اختفائها اللهم اكشف مكانها واكشف من خطفها، اللهم إنك تعلم ما أصاب أهلها من بؤس وفجيعة، اللهم ارفق بهم وارزقهم الصبر والسلوان وأفرحهم بعودتها إليهم سالمة.
لقد خُطف يوسف عليه السلام ولكن هل قتل؟ هل دفن؟ هل مثُل به؟ هل فعل به الأفاعيل؟ لا، إنما جعل في بئر ليأخذه بعض السيارة، لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:7-10]. إن ضميرًا واحدًا في إخوة يوسف يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه، فيقترح حلاً يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم ولكنه لا يقتل يوسف ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك، إنما يلقيه في الجب وهو البئر على ممر القوافل، حيث لا بد للقافلة أن تمر بالبئر فيعثروا على يوسف فينقذوه ويأخذوه معهم بعيدًا.
لقد خُطفت ولا نعلم حتى هذه الساعة عن حالها شيئًا، خطفت تلك الطفلة البريئة ويا ليتهم وضعوها في سوق أو مسجد أو أي مكان لكان وجدَها أصحاب القلوب الرحيمة. ماذا يريدون بطفلة لا تتجاوز الأربع أو الخمس سنين؟! إن لم نجد تلك البريئة فهي موءودة العصر. هكذا ينزغ الشيطان, وهكذا يسوّل لبعض النفوس المريضة عندما تمرض قلوبهم وتعمى بصائرهم وتمتلئ أفئدتهم بالحقد على الأطفال الأبرياء الجهال الذين لا يعرفون أن الحياة من حولهم غابة مليئة بالذئاب.
إن قسوة قلوبهم وذلك الران حجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها، وإن أنانية تلك النفوس زينت لهم الجريمة على نكارتها وضخامتها. الطفلة فقدت ظهر يوم الأربعاء 7/3/1427هـ، شهران من الاختفاء لا بدّ يقينًا أنها فعل فاعل، ولا أحسن من جواب يعقوب عليه السلام: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].
ربِّ إني متفائل بلطفك, ربِّ إني متفائل بأننا سنرى الآية قد تحققت، وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ [يوسف:19]، يا بشرى لقد وجدنا الطفلة، يا بشرى قد قبضنا على الجناة، يا بشرى، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، نعم هذا جزاء رادع لمن روَّع عباد الله, يا بشرى ما أعظم شريعتنا وما أرحمها بالخلق وما أحزمها وما أشدها على أهل الفساد والزيغ والعناد.
لقد كثرت جرائم الاختطاف للأطفال، ولقد حدثني عدد ليس قليلاً ممن أثق به أنه قد شاهد وعاين حادثة اختطاف، ولقد عاينت في المحكمة ثلاثا من قضايا الاختطاف، ولا يخفاكم ما انتشر في الجوالات من مشاهد مؤلمة لأطفال خطِفوا وقتلوا قتلة شنيعة، ولا أنسى تلك الطفلة البريئة التي لا تتجاوز السبع سنين وقد خطفت وقيّدت يداها ورجلاها وخنقت بحبل حتى لفظت أنفاسها. ما ذنب هذه المسكينة حتى يفعل بها هكذا؟!
والله أيها الإخوة، إن هذه الجرائم لتشيب منها الرؤوس، أيعقل أنه بين أظهرنا من هو أشد من اليهود في جرائمهم وأشد من الذئاب في افتراسها؟! إن من يحمل هذا القلب الأسود على أبناء وأخوات المؤمنين ليس له الحقّ في أن يعيش بيننا، بله لا حقّ له في الحياة.
بين يدي الخطبة عدة توجيهات:
الأول: قال عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من فجور". ومن خلال مراجعة القرآن الكريم والأحاديث النبوية باعتبارهما المصدر الأساسي للتشريع نجد أن الإسلام أجاز استخدام العقاب الرادع لحفظ المال والعرض والدين في الجماعة الاجتماعية؛ فتبدأ من الجلد والإيذاء الجسمي إلى قطع الأيدي والأرجل والرجم حتى الموت، وهذا وارد في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، لا تنكيلاً بالإنسان الذي كرمه الله، بل ردعًا للجريمة وترهيبًا من مغبتها؛ فقسوة العقوبة هدفها منع الجريمة لا تعذيب البشر.
ولقد ذهب جماهير الفقهاء إلى جواز التعزير بالقتل في كل من لم يندفع فساده إلا بالقتل، وفي كل من تكرر منه الفساد ولم تردعه الحدود ولم تمنعه الزواجر، وقد جاء في السياسة الشرعية لابن تيمية رحمه الله في التعزير ما ملخصه: أنه حكي عن مالك وغيره أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، وحكي ذلك عن أبي حنيفة. قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى بعد بيان الأقوال في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قال: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في حماية المسلمين وذمتهم والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة، أما قوله: وَيَسعَوْنَ فِي الأَرضِ فَسَادًا فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا والتوثب على حرماتهم فجورًا وفسوقًا" انتهى كلامه رحمه الله.
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على الضرورات الخمس من حفظ الدين والنفس والعرض والمال والعقل، ومن سبل حفظ هذه الضرورات سن العقوبات الرادعة.
إن الشريعة الربانية حريصة كل الحرص على استتباب الأمن والقضاء على الفوضى والاضطراب في البلاد وترويع الآمنين، فإن المجرمين الذين اعتادوا الإجرام ولا يرجى منهم توبة ولا إقلاع عن السكر والخطف وترويع الآمنين وإدمان المخدرات يجوز أن تشرع لهم عقوبة القتل تعزيرًا وسياسة للخلق بشرع رب الخلق.
العقاب في حد ذاته نظام يستحيل الاستغناء عنه، فهو موجود في أي نظام جنائي، وهنا يجب استعمال هذا الإجراء في حذر وبما يؤدي وظيفته الاجتماعية، وأن يخلق الضمانات التي من شأنها أن تمنع من أجرم مرة ودخل السجن من أن يصبح مجرمًا تسري الجريمة في دمه بعد إطلاق سراحه.
ثانيًا: لا بد من تعاون الجميع صغارًا وكبارًا شيبًا وشبابًا مع الجهات الحكومية من مؤسسات أمنية وهيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سبيل القضاء على الفساد والمفسدين وإراحة البلاد والعباد من شرورهم. هذا المجتمع المبارك يكثر فيه ويزينه وجود أغيار كثر وأخيار تحلوا بالمبادرة والفاعلية والإيجابية حيال هذه الحوادث، فتجدهم عند رؤيتهم لمثل هذه الحوادث يسارعون في الأخذ على يد السفيه وتسكين الناس عند المشاحنات وتهدئة ثائرة الفوضى والتعاون مع الجهات الأمنية وإخطارها بملابساتها وحقائقها. فجزى الله كل من احتسب الأجر في نصر إخوانه مظلومين وظالمين، نصر المظلوم في رفع الظلم عنه, ونصر الظالم في كفه عن سدوره في الظلم والتمادي فيه.
وفي الجانب الآخر نجد قلة سلبيين لا في العير ولا في النفير، ولا تدبير لهم ولا فعالية، يرون حالات المعاكسات وإيذاء الناس فكأن لم يكن، ويرون محاولات الخطف والاعتداء ولا يحركون ساكنًا. إن هؤلاء غير أوفياء لدينهم، وغير أوفياء لمجتمعهم، حجزهم الجبن وصرفتهم الأنانية عن وضع الحق في نصابه. فهؤلاء غثاء لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة لهم، وفي الحكمة: إن لم تزد شيئًا على الدنيا كنت زائدًا عليها.
ثالثًا: لقد حرصت هذه الدولة المباركة على تطبيق الشريعة واستتباب الأمن، ولا أدل على ذلك من حزمها في التعامل مع أسباب الفوضى والترويع. إننا نعلم أن هناك عيونًا ساهرة تسهر على راحة هذه الأمة واطمئنانها، مما يوجب التعاون مع المسؤولين في سبيل إنجاح كل ما من شأنه تعزيز الأمن في البلاد، بارك الله في ولي أمرنا ورزقه الله البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: رابع التوجيهات: يجب توعية الأطفال بالأساليب التي يلجأ لها المجرمون لخداع الأطفال في تحقيق مآربهم وجرائمهم، ولا بد من وقفة حازمة في خروج الأطفال من المنزل، لا أدعو إلى أن يكون البيت سجنًا لهم يتشوّفون إلى الخروج منه وإلى الانفلات من المكث فيه، بل أدعو إلى جعل المنزل جنّة الطفل المليئة بالملهيات والمرغبات المباحة، والتي تجعل الطفل لا يتوق للخروج منه. لا بد من تعليم الطفل رقم البيت والعنوان وما سيفعله عند تعرّضه لمكروه بصورة تضمن له التصرّف السليم عن تعرضه لذلك. لا بد من الحرص على تنشئة الأبناء التنشئة الصالحة واصطفاء الصحبة الصالحة لهم والمبادرة في تسجيله في الحلقات القرآنية التي تجعل محيطهم صالحًا وبيئةً فاضلةً. لا بد من تنقية البيت من القنوات الفضائية المبتذلة التي تزين للنشء الجريمة وتجرئهم عليها. لا بد أن لا يغيب عن أذهاننا أن أغلب أسباب وقوع الأفراد في حوادث الاختطاف هي صحبة السوء التي تزيّن للحدث هذه الخطيئة.
خامسًا: نشرت بعض الصحف اختطاف الطفلة، وتفاعلت وسائل الإعلام معها، وتفاعل المجتمع مع هذه الحملة، والجميل أن يجد المصاب من يقف معه في مصابه ومن يسليه في محنته ومن يقف معه قلبًا وقالبًا حتى يجاوز ما ألم به، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)) رواه الطبراني في الكبير والحديث في صحيح الجامع.
والمتأمل في هذا الحديث العظيم يرى أن هذه الأعمال مما يتعدّى نفعها إلى الآخرين، فأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأما أحب الأعمال إلى الله فسرور تدخله على قلب مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعا، وقيامك مع أخيك في حاجته أفضل من الاعتكاف في مسجده عليه الصلاة والسلام شهرًا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام، والساعي على المحاويج من الضعفاء والمساكين كالمجاهد في سبيل الله. قال عليه الصلاة والسلام: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار. ومعنى الساعي: الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين، قاله ابن حجر رحمه الله. وما ذلك إلا لتعدي نفعه إلى غيره، خاصة من أصحاب الحاجات من الأرامل والمساكين.
هل رأيتم أفضل من هذا؟! وإنما بلغت هذه الأعمال هذه الرتبة لتعدي نفعها. وهكذا يحرص الإسلام على روح التآخي والتكاتف، وعلى نبذ الأنانية وحب الذات، فالموفّق من وُفِّق للمبادرة لمثل هذه الأعمال.
سادسًا وأخيرا: من خلال تفاعل المجتمع مع هذه الحادثة تبرع أهل الخير بجائزة مالية ضخمة، وهذه الجائزة لا بد أن نقف معها وقفة يسيرة، جزى الله تلك القلوب العطوفة التي وضعت هذه الجائزة التي إن دلت على شيء إنما تدل على أن خلفها نيات مخلصة وقلوب مشفقة أرادت تحفيز المجتمع في التسابق والمسارعة في الدلالة على أي خيط يكشف غياب تلك الطفلة البريئة.
إن خطف الطفلة أمرٌ مروّع ومؤلم لأي إنسان يملك مثقال ذرة من إيمان, وأعتقد أن أيّ إنسان يملك أبسط درجات الإيمان والحبّ والعطف والإنسانية لن يبخل بأي مساعدة وإن لم يكن هناك مقابل مادي. أخشى أن يفتح ذلك علينا بابًا جديدًا لنوع جديد من الجرائم وأسلوب جديد من أساليب الخداع، أن يتم خطف طفلة فهذه جريمة، وأن يتم مكافأة من يدل على الخاطف لتخليص الضحية أمر جميل، ولكن إعلان المكافآت بهذه الصورة المبالغة قد يجعلنا في المستقبل نتفاجأ بأن الخطف قد شمل الأطفال والرجال والنساء والمسؤولين، وقد يكون جزءًا من لعبة منظّمة بغرض جني المال واحتيال بين الخاطف والمخطوف.
اللهم احمِ هذه البلاد في دينها واستتباب أمنها وصلاح أمرها، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وردّ ضال المؤمنين، واشف مريضهم، وردَّ غائبهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4884)
والفتنة أشد من القتل
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الفتن, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
5/10/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقن الإسلام للدماء. 2- مفاسد الاقتتال بين المسلمين. 3- عقوبة القاتل بغير حق. 4- هل للقاتل توبة؟ 5- لا داعي للاختلاف. 6- الإشادة بالاتفاق على عدم التصعيد. 7- ظاهرة إطلاق النار في المسيرات وتشييع الجنائز. 8- التحذير من لغة السلاح. 9- الحث على المحافظة على الوتر وسنة الفجر. 10- الحث على التكافل الاجتماعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رسولنا الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد حرص ديننا الإسلامي الحنيف على حفظ الدماء وعدم إزهاق الأرواح، وعدّ الاقتتال الداخلي أشد من القتل وأكبر خطرا، فإن الاقتتال الداخلي يمثل فتنة هوجاء وضلالة عمياء، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة البقرة: وَالفِتنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتلِ ، ويقول عز وجل في السورة نفسها: وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ ، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث مطول: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ذلك لما في الاقتتال الداخلي من آثار سلبية وتبعات سيئة، ألا يدري أولئك المتقاتلون الذين يستعملون السلاح لغة تفاهم فيما بينهم، ألا يدرون أنهم يرتكبون آثاما متعددة؟! إنهم يشيعون الفوضى في المجتمع، إنهم يدبون الذعر فيما بين النساء والأطفال، إنهم يثيرون الثارات بين الناس، بالإضافة إلى ما يترتب على الاقتتال من ترمل للنساء وتيتّم للأطفال، ثم نقول للمتقاتلين بأن النصوص تحكم عليكم بالكفر والعياذ بالله.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ألا يدري القاتل الإثم الذي يلحقه نتيجة ارتكابه هذه الجريمة الكبرى؟! فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، ويقول تعالى في سورة المائدة: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، ويقول عز وجل في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
فهذه الآيات الكريمة وغيرها من الآيات الكريمة تحذر من القتل العمد؛ وذلك لحفظ الدماء وعدم إزهاق الأرواح. ويقول رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، ما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس، التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) ، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، سؤال يطرح نفسه: هل للقاتل العمد توبة؟ والجواب: يصف عليه الصلاة والسلام حال القاتل والمقتول بقوله: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة؛ رأسه بإحدى يديه، متلبِّبا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دما، فيقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟ فيقول الله تعالى للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، وقد سئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن المصير الأخروي للقاتل العمد هل له توبة؟ فتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، ثم قال عبد الله بن عباس: ما نسخت هذه الآية ولا بدلت، وأنى للقاتل توبة؟! أي: ليس للقاتل العمد توبة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، وسؤال آخر يتبع السؤال الذي قبله: متى تقبل توبة القاتل العمد؟ والجواب: تقبل توبته في إحدى حالتين:
الحالة الأولى: إذا أقيم على القاتل العمد حد القصاص، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]. وذلك على اعتبار أن العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر.
أما الحالة الثانية: فحين تتم مراسم الصلح ويعفو أهل القتيل عن القاتل شريطة أن يندم على فعلته ويعلن توبته أيضا.
أما إذا لم تتحقق إحدى هاتين الحالتين فلا توبة للقاتل العمد، والفتنة تكون أشد من ذلك، إنها تخرج المسلم من ربقة الإسلام والعياذ بالله.
لنتساءل: على أي شيء يختلف المختلفون على الساحة الفلسطينية؟ هل بقي لنا شيء حتى نختلف عليه؟! هل نختلف على المستعمرات والمستوطنات السرطانية التي نهبت البلاد وشتت العباد؟! هل نختلف على الطرق الالتفافية التي حاصرت المدن والقرى والمخيمات وضيعت الأراضي والبيوت؟! هل نختلف على الجدار العنصري الذي عزلنا عن بعضنا البعض وجعلنا كنتونات؟!
أيها المتصارعون والمتناحرون، اتقوا الله في شعبكم المرابط الصابر، اتقوا الله في بلادكم أرض الرباط والمصابرة، احذروا من الطابور الخامس والعملاء الذين يثيرون الفتن ويقومون بالاغتيالات حتى أدى إلى أن يتهم بعضنا بعضا زورا وبهتانا. إننا نبارك ما تم الاتفاق عليه بين الأطراف المتنازعة على عدم التصعيد وعدم التشهير وعدم الاقتتال. إذا فكل من ينقض هذا الاتفاق يجب أن يحاسب من قبل المسؤولين عنه، ويجب أن يتعاون الجميع لكشف هوية من يقوم بنقض هذا الاتفاق بهدف معرفة العملاء والمندسين ووضع حد لهم ومحاسبتهم، ولوضع حد للفوضى والانفلات الأمني.
ونتساءل بمرارة واحتجاج: لماذا تبرز المظاهر المسلحة في الشوارع والطرقات وفي المسيرات وتشييع الجنائز؟ هل مثل هذه المظاهر السيئة موجود في دول العالم؟! يجب أن تختفي هذه المظاهر في بلادنا والتي تؤدي إلى نتائج سلبية على المجتمع، والتي تثير الرعب والخوف لدى المواطنين، ثم ضدّ مَن نشهر هذا السلاح ونطلق الرصاصات في الهواء؟! إنها تصرفات غير مسؤولة، ويجب أن يوضع حد لهذه التصرفات الطائشة الشاذة.
أيها المسلمون، يا أهلنا، ويا قومنا المرابطين، إن لغة السلاح لن تكون لغة تفاهم وتحاور فيما بيننا، ولتتعظوا بما حلّ بالمسلمين سابقا من الخلافات الدموية، اتعظوا بما حصل في معركة الجمل سنة 36 للهجرة وما حصل في معركة صفين سنة 37 للهجرة، ولا يزال المسلمون في العالم يعانون من النتائج السلبية لهاتين المعركتين.
يا إخوتنا في غزة ونابلس وجنين وخان يونس ورفح وسائر المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، كونوا على قدر المسؤولية، ضعوا المصلحة العامة فوق جميع الاعتبارات الفصائلية والحزبية والشخصية، وإننا لمنتظرون ووفّقكم الله لما فيه خير للبلاد والعباد، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، وبعد أن ودعنا الشهر الحبيب شهر رمضان المبارك نذكّركم بحكمين فقهيّين هما:
الحكم الفقهي الأول: ويتعلق بصلاة الوتر التي تعدّ من قيام الليل، فعلى المسلمين أن يحرصوا على مواظبة أدائها فيما بعد رمضان وخلال ليالي السنة كلها، وهي واجبة لدى السادَة الحنفية، وسنة مؤكدة لدى المذاهب الفقهية الأخرى، وإنها تقضى إذا لم تؤدّ في وقتها، وبهذا نفتي. ونلفت نظر المصلين إلى أن النية لصلاة الوتر تكون لوتر اللّيل وليس لوتر العشاء كما يتوهم بعض الناس، لأن الوتر من قيام الليل، ويقول رسولنا الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام: ((الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا)).
الحكم الفقهي الثاني: ويتعلق بسنة صلاة الفجر، وهي سنة مؤكدة، وإنها تقضى لمن فاتته ولم يصلها في وقتها، وبهذا نفتي. فعلى المصلين أن يحرصوا على أداء سنة الفجر قبل تأدِيتهم لصلاة الفجر في جميع أيام السنة في رمضان وغير رمضان.
أيها المصلون، يا أهلنا في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لقد تجلى التكافل الاجتماعي في أبهى صوره الإيمانية خلال شهر رمضان المبارك في فلسطين، ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك نطالب جميع المواطنين بمختلف فئاتهم وتوجّهاتهم وفصائلهم وأحزابهم بضرورة التكاتف والتعاضد والتآلف وبضرورة الاستمرار في التكافل الاجتماعي الذي هو من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ وذلك حتى نتمكن من كسر الحصار الظالم اللاإنساني المفروض على الشعب الفلسطيني من قبل قوى الظلم والبغي والعدوان، وليكن رسولنا الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام قدوتنا في ذلك حيث حوصِر عليه السلام هو وأصحابه رضوان الله عليهم في شعب من شعاب مكة مدة ثلاث سنوات، لقد صبروا وتصبّروا وثبتوا وتثبّتوا حتى أكلوا ورق الشجر ولم يتنازلوا عن مبادئهم وثوابتهم ولم يساوموا عليها.
أيها المرابطون، أيها المحتسبون، إن العالم ينظر إليكم بترقب ليروا ماذا أنتم فاعلون، ولا يخفى عليكم أن أعداء الإسلام يخططون ويبرمجون لافتعال الصراع الداخلي ولينشغل بعضنا ببعض، فكونوا على قدر من المسؤولية، وأثبتوا للعالم بأنكم أتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنكم أحفاد أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وخالد وبلال وسلمان وصلاح الدين.
اكسروا الحصار رغم أنف المتآمرين، ولن يتخلى الله عنكم ما دمتم معه، والله مع العاملين المخلصين، وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
(1/4885)
حرمة كتاب الله
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
26/4/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن العظيم. 2- تعظيم السلف للقرآن الكريم. 3- الأدلة على وجوب تعظيم القرآن الكريم. 4- الدروس والعبر المستفاد من حادثة تدنيس المصحف الشريف. 5- صور من الامتهان يقع فيها كثير من الناس. 6- وجوب تربية الأنباء على تعظيم القرآن الكريم وكتب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، إن المؤمن الحق يعظم حرمات الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، ويقول سبحانه: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]؛ لأن المؤمن الحق الذي رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً يحب ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويبغض ما يبغضه الله، ولذا تجده معظمًا ومقدرًا ومحترمًا لشعائر هذا الدين ولحرمات هذا الدين؛ لأنه يغار لله سبحانه وتعالى. ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله)) رواه الترمذي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. ولذا كان نبينا يغار لحرمات الله إذا انتهكت، فلا ينتصر النبي لنفسه أبدًا ولكن ينتصر لحرمات الله أن تنتهك، قالت عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم لله بها) متفق عليه. ومن هنا نجد المؤمن الحق يغضب لغضب الله ويرضى لما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وإن من الأمور التي هي عند المسلم بمكان وهي عند الله تعالى بمكان وقد حرمها وأعزها ورفع مقدارها المولى عز وجل شعائر الله كلها، وإن من شعائر الله التي لها المكانة العظمى كل ما فيه ذكر لله سبحانه وتعالى، وإن من أعظمها ـ يا عباد الله ـ كتاب ربنا عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. كتاب الله الذي فيه خبر ما قبلنا وحكم ما بيننا هو العدل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أذله الله. كتاب الله العظيم الذي تعهد الله بحفظه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. هذا القرآن العظيم الذي لا يمسه إلا المطهرون، هذا القرآن العظيم الذي أوصى النبي في رسالته التي أرسلها إلى أهل اليمن، ورواها عنه عمرو بن حزم : ((ألا يمس القرآن إلا طاهر)) رواه الأثرم والدارقطني متصلاً واحتج به أحمد وصححه الألباني في إرواء الغليل.
ولذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسلكون هذا المنهج، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر ابنه أن يتوضأ لمس المصحف، وهكذا صنع سلمان وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وإن من لا يحترم القرآن ولا يقدره ولا يكون عنده بتلك المنزلة العظيمة يخشى عليه أن يندرج في قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، يخشى على من لا يقدر كتاب الله ولا يحترم آياته ولا يحترم كتب الحديث وكتب أهل العلم والكتب التي فيها ذكر لله سبحانه وتعالى يخشى عليه أن يندرج في تلك الآية العظيمة التي ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن تعظيم القرآن تندرج فيه أنواع كثيرة من تعظيم كتاب الله تعالى، فمن ذلك تلاوته والتحاكم إليه وعدم امتهانه وعدم استهجان شيء فيه كتاب الله سبحانه تعالى.
أيها الإخوة الكرام، ذكر العلماء رحمهم الله تعالى هذه القضية وأطالوا فيها، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "أجمع المسلمون قاطبة على وجوب تعظيم القرآن العظيم". وذكر ابن عبد القوي أحد أئمة الحنابلة وأحد الفقهاء الكبار أن الأئمة أجمعوا على تحريم الاتكاء على المصحف أو على ما فيه ذكر لله سبحانه وتعالى. أجمع العلماء على تحريم الاتكاء على ما فيه ذكر لله سبحانه وتعالى. وكذلك قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى، وهكذا قال القاضي عياض وغير واحد من أئمة السلف: "إنه لا يجوز الاتكاء أو الجلوس أو وضع شيء فيه ذكر لله سبحانه وتعالى في مكان يمتهن فيه أو مكان لا يحترم فيه". قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "واعلم أن من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه أو بجزء منه أو بكلمة منه أو بشيء مما صرح فيه فقد كفر إجماعًا". من احتقر القرآن أو لم يحترم القرآن أو امتهنه عالمًا بالحكم فإنه يكفر يا عباد الله.
وإذا كانت الأمة قاطبة من مشرقها إلى مغربها قامت قومة رجل واحد لما قام نفر من الصليبيين بانتهاك كتاب الله تعالى فقامت الأمة كلها وغضبت تلك الغضبة لكتاب ربنا عز وجل، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون، وإن كنا ـ يا عباد الله ـ قد غضبنا لذلك العمل، وغضب كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، لكن ظهر لنا من هذا العمل أمور عدة؛ فقد ظهر لنا حقيقة أعدائنا، وأن هؤلاء قد ظهر وجههم الكالح، وأنهم أعداؤنا الحقيقيون الذين كان يظن البعض غباءً أو تغابيًا أنهم أصدقاء، أنهم أحبة لنا، لقد ظهرت عداوتهم، لقد ظهر بغضهم عندما احتقروا واستهجنوا وامتهنوا أفضل شيء عند المسلمين وهو كتاب الله سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر ـ يا عباد الله ـ يعلمه المسلمون، ولكن البعض يتغافلون عن ذلك، فإن هذا أمر في كتاب الله تعالى عندما يقول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]. فاليهود معلوم عداوتهم، والذين أشركوا المقصود بهم المشركون من جزيرة العرب، ويدخل فيهم عامة النصارى؛ لأنهم كانوا مشركين في وقت بعثة النبي ، حيث قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: إن الله قد ولد له، وإن الله هو الأب والابن وهو روح القدس، واحد بالذات وثلاثة بالأقنوم، إلى غير ذلك من تخليطهم وشركهم وابتداعهم في دين الله تعالى.
لقد ظهرت لنا ـ يا عباد الله ـ هذه العدواة التي كانوا يضمرونها وإن اعتذروا عن ذلك، فإن هذا الاعتذار لا ينفعنا في قليل ولا كثير ولا قبيل ولا دبير، إنهم أعداؤنا رضوا بذلك أم لم يرضوا، إنهم أعداؤنا رضي بعض المسلمين الذين يسيرون في فلكهم أم لم يرضوا بذلك.
والفائدة الثانية التي نفيدها من هذا الأمر: نعلم حقيقة منزلة كتاب الله تعالى في نفوس المسلمين، وما الذي ينبغي أن يكون عليه هذا القرآن، لأن أعداء الإسلام عمدوا إلى أقدس شيء عند المسلمين فدنسوه، إنهم يعلمون منزلة القرآن في نفوس المؤمنين فدنسوه.
يا عباد الله، وإننا بهذه المناسبة عندما نتكلم عن هذه القضية ليس المقصود تلك القضية بحد ذاتها، فإنها قضية قد تناقلتها وسائل الإعلام، وقد استنكر العلماء والدول الإسلامية ومنها هذه البلاد المباركة قد استنكروا هذا الصنيع الذي لا يرضاه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو أنهم على منهج النصرانية الصحيح غير المبدل ما احتقروا كتاب الله تعالى، فإن المؤمنين لم ينقل أن مسلمًا قد احتقر أو امتهن كتابًا من الكتب السماوية، وإن كان فيها شيء من التحريف سواء الإنجيل أو التوراة، فإن المسلمين يحترمون الأنبياء قاطبة ويؤمنون بجميع أنبياء الله تعالى، ولكن هذا يدل على أنهم ليسوا أصحاب دين، وقد بين النبي في الصحيح: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) رواه مسلم وأحمد، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
بهذه المناسبة ـ يا عباد الله ـ إذا ظهر لنا هذا جليًا ينبغي أن ننبه إلى قضية مهمة ربما يتغافل عنها بعض المسلمين، وربما يقع فيها البعض عن جهل والجاهل يُعلّم؛ وهي ما يفعله بعض الناس من امتهان لآيات القرآن الكريم أو لكتب أهل العلم من حيث يشعر أو لا يشعر، سيما في المطاعم والمنتزهات وفي المدارس من بعض الطلاب الجهلة، فبعض الطلاب ـ هداهم الله ـ يجلس على كتبه وفيها كتاب الله وفيها كتب الحديث وفيها كتب الفقه، ويجلس عليها أو يتكئ عليها، وقد نقلت لكم قول الإمام ابن عبد القوي أنه يحرم الاتكاء على ما فيه ذكر الله تعالى. وبعض الناس قد يستخدم هذه الصحف التي انتشرت وعمت وطمت وفيها آيات من القرآن الكريم وفيها ذكر الله وفيها اسم عبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز وفيها إعلانات فيها ذكر الله تعالى، بعض المسلمين يتخذ هذه الصحيفة سفرة للطعام.
يا عباد الله، وهذا من امتهان ذكر الله تعالى، والمطلوب أن يحترم المسلم كتاب ربه عز وجل، ونحن مقبلون على الامتحانات ينبغي أن ننبه أبناءنا إلى ذلك، فإنه ـ يا عباد الله ـ مما عمت به البلوى أن نرى الصحف والكتب وقصاصات الأوراق التي فيها ذكر الله تعالى وفيها أسماء إسلامية وفيها أسماء فيها ذكر الله وفيها آيات من القرآن الكريم، نراها تتطاير هنا وهناك في البيت أو في الشارع أو في المحلات التجارية، فعلينا أن ننتبه لهذه المسألة المهمة، فإن ذلك من تعظيم حرمات الله، فإن ذلك من تعظيم شعائر الله، فإن ذلك من تقديس كتاب الله تعالى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، فإن الواجب على كل مسلم أن يستشعر هذا الأمر، وأن يحافظ على حرمات الله، وأن يحافظ على ما فيه ذكر لله سبحانه وتعالى، سواء كان ذلك في كتب أو صحف أو مجلات أو نحو ذلك، وأن يحفظها في مكان طاهر إذا انتهى منها، إذا استغنى عنها دفنها أو أحرقها، كما أفتى جمهور العلماء بذلك أن المسلم إذا استغنى عما فيه ذكر لله من كتاب أو نحو ذلك فإنه يدفنه أو يحرقه.
وإننا ينبغي أن ننبه أبناءنا على ذلك ونحن قادمون على الامتحانات، واذهب إلى أي مدرسة ستجد عشرات الكتب تتطاير هنا أو هناك بعد أن يفرغ الطالب من امتحانه، يرمي بهذا الكتاب أو تلك المذكرة وتدوسها الأرجل يا عباد الله، وفيها ذكر لله تعالى، وفيها آيات من القرآن الكريم، وفيها أحاديث المعصوم ، فأين تعظيم شعائر الله؟! وأين تعظيم حرمات الله؟! ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
إن المسؤولية مشتركة تبدأ من ولي الأمر بأن يمنح جائزة لابنه إذا أحضر له الكتاب بعد الامتحان، أعطاه جائزة ليحفظه في مكان طاهر، ثم يجمع أبناءه بعد ذلك قبل الامتحان يجمعهم قبل الامتحان ويبين لهم هذا الأمر وفضل تعظيم حرمات الله وحرمة امتهان القرآن أو آيات القرآن أو أحاديث المصطفى أو ما فيه ذكر لله تعالى؛ لينشأ جيل الأمة محترما لكتاب الله مقدسا لحرمات الله تعالى. كما ينبغي على المعلمين والمدرسين والمسؤولين في المدارس أن يعمموا هذا الأمر على الطلاب قبل بداية الامتحان، ويعطوا جوائز مجزية لمن يحافظ على الكتب المدرسية ويسلمها لمسؤول في المدرسة، ثم تحرق بعد ذلك أو تدفن تعظيمًا لحرمات الله تعالى، حتى لا ينزل عذاب الله ونحن غافلون يا عباد الله.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4886)
الأمة وتوقير كتاب الله
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
26/4/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم الله تعالى للقرآن العظيم. 2- تدنيس الكفار للمصحف الشريف وهبة المسلمين لذلك. 3- حال المسلمين مع القرآن الكريم. 4- حال الرسول مع القرآن الكريم. 5- فضل القرآن الكريم. 6- أصناف الناس مع القرآن. 7- واجب الأمة تجاه كتاب ربها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن القرآن كتاب الله، الخاتم لما سبق من كتب الله سبحانه، والمحتوي على سعادة البشر في الدنيا والآخرة، قال عنه سبحانه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77-80]. هذا كتاب كرمه الله سبحانه، وجعل فيه الهداية والنور، ما ترك شيئا إلا وذكره فيه، فهو القائل سبحانه: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ. هذا الكتاب فيه فلاح الأمة ونجاحها، فيه عزّها ونصرها؛ لهذا فإن أعداء الأمة من الكفار لما أرادوا أن يهينوا المسلمين ورأوا أن المسلمين يحبّون هذا الكتاب ويجلّونه توجّهوا إلى هذا الكتاب بالأذية لينالوا من شعور المسلمين، فسمعنا وسمعتم عن وقائع تدنيس كتاب الله وإهانته من قبل هؤلاء المتخلِّفين.
ولقد هبّ المسلمون في كل مكان دفاعا عن كتاب الله وحمية لدين الله، وهذا الهجوم من الكفار على كتاب الله ليس غريبا، فهم يستهدفونه دائما، فيحاولون النيل منه، ويحاولون إبعاده عن حياة المسلمين؛ لأنهم علموا من خلال دراستهم للتاريخ أن المسلمين كلّما تمسكوا بكتاب الله وبقيمه التي تدعو إلى توحيد الخالق وعبادته وحده وتدعو إلى الطهر والعفاف والصدق والأمانة وغيرها من مكارم الأخلاق، كلما تمسكوا بهذا الكتاب وفقوا وانتصروا؛ لهذا جعل أعداء الله هذا الكتاب هدفا لهم ليعبروا عن غيظهم منه، وليزعزعوا من إيمان المسلمين بهذا الكتاب، وكما أسلفنا إن هبّة المسلمين هذه تثلج الصدر وتبين أن الأمة لا زالت بخير ما دامت تدافع وتنافح عن مقدساتها.
ولكن ثمة سؤال يقول: إذا كان الغربيون قد دنّسوا هذا الكتاب فهل حفظناه وصنّاه؟! وإذا كانوا أهانوه فهل أكرمناه؟! وإذا كانوا استهزؤوا به فهل وقرناه؟!
إن الغربيين ـ أيها الإخوة ـ وفي هذه الحوادث الأخيرة التي سمعنا عنها قد اعتدوا على القرآن ماديا ولكننا اعتدينا عليه معنويا، فالغربيون اعتدوا على أوراقه ونحن كرمناه كتابا وأوراقا واعتدينا على تعاليمه فلم نطبقها، لم نأتمر بأمره وننتهِ بنهيه، وحولناه من كتاب أنزل ليكون منهاجا للحياة كلها إلى كتاب يُتبرك به فقط، إن فينا من يضع المصحف المزخرف في أحسن مكان في بيته ويفتخر به ولكنه لا يقرؤه ولا ينظر فيه أبدا ولا يفقه من تعاليمه إلا القليل، وفينا من يعلقه في رقبته بسلسلة ـ كما يفعل النصارى بالصليب ـ ولكنه لا يصلي ويفعل الموبقات، فهل هذا من تكريم كتاب الله؟! وهل هذا من معرفة حقه؟!
يقول تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، هذا رسول الله يشكو إلى الله من أن قومَه هجروا هذا الكتاب، وهذه الآية لا زلنا نقرؤها ونسمعها تتلى، فهلا نظرنا هل نحن واصلون لكتاب الله أم نحن هاجرون له؟! وهل عرفنا ما هو الهجران لكتاب الله أصلا؟!
يقول ابن كثير في تفسيره عن هذه الآية: " يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسمَعُوا لِهَذَا القُرآنِ والْغَوْا فِيهِ الآية، فكانوا إذا تلِي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناءٍ أو لهوٍ من هجرانه" انتهى. إذًا فهذا هو هجران كتاب الله، وهذه هي أنواعه التي لا يسلم منها معظم المسلمين إلا من رحم الله.
لقد كان رسول الله مكرما لكتاب الله رافعا له حافظا لمكانته، فقد كان متبعا لما فيه متخلِّقا بهديه، وصفت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلقَه فقالت: كان خلقه القرآن. أخرجه مسلم. ومن تكريمه لكتاب الله أنه جعل الخيرية في تعلم هذا الكتاب وتعليمه، فقال فيما أخرجه الترمذي من حديث علي رضي الله عنه: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). ومن ذلك أيضا أنه زوج أحد أصحابه امرأة وجعل مهرها ما مع هذا الصحابي من القرآن، فعن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي قال: ((من يتزوجها؟)) فقال رجل: أنا، فقال له النبي : ((أعطها ولو خاتما من حديد)) ، فقال: ليس معي، قال: ((قد زوجتكها على ما معك من القرآن)) أخرجه ابن ماجه.
هكذا كان تقديره لهذا الكتاب، بل إنه كان متفاعلا مع آيات الكتاب متدبّرا لها، إذا تليت عليه استشعر خشية الله وعظمته، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله وهو على المنبر: ((اقرأ علي)) ، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيفَ إِذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَّجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا قال: ((حسبك الآن)) ، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه. ولم يكتف بتكريم القرآن، بل حثّ على إكرام حامل القرآن وجعل إكرامه من إجلال الله عز وجل، عن أبي موسى أن رسول الله قال: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط)) أخرجه أبو داود.
إن هذا القرآن ـ أيها المسلمون ـ ليس له إلاّ أحد موقفين منا لا يرضى بغيرهما، إما أن يكون معنا إن كنا مسترشدين به عاملين بما فيه، وإما أن يكون ضدّنا إن كنا غافلين عنه مخالفين لأوامره ونواهيه، قال : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) أخرجه أحمد عن أبي مالك الأشعري، والشاهد قوله: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) ، ويقول أيضا فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود: ((القرآن شافع مشفّع وماحل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)). هكذا هي العلاقة مع هذا الكتاب، إمّا أن تجعله أمامك في هذه الحياة فيكون أمامك يوم الحساب ويأخذ بيدك إلى الجنة، وإما أن تجعله خلفك في هذه الحياة فيكون خلفك يوم الحساب ليدفع بك إلى النار.
لا بد ـ عباد الله ـ أن نصلح العلاقة بهذا الكتاب، لا بد أن نحكمه في حياتنا ونعمل به، لا بد أن نسترشد به ونستأنس به، ولن نعدم في ذلك الأجر الوافر والنعيم الدائم، لا بد أن نكون مخلصين في طلبه وحمله وأن لا نطلب به جاها أو مالا أو متاعا من متاع الدنيا الفانية.
القرآن ـ أيها المسلم ـ يجعلك من أهل الله، فيا لها من منزلة عظيمة فلا تضيّعها، قال : ((إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) أخرجه النسائي عن أنس.
القرآن ـ أيها المسلم ـ يفتح لك بابا من الأجر المضاعف الذي لا يخطر لك على بال، قال : ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) أخرجه الترمذي عن أنس.
القرآن ـ أيها المسلم ـ يشفع لك عند ربك، فلا تضيعه فتخسر هذه الشفاعة، قال : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: ربِّ، منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) أخرجه أحمد عن ابن عمرو.
القرآن ـ أيها المسلم ـ يطلب من الله أن يزينك ويحليك يوم القيامة، فتحلى بالحلل والتيجان، وتكون منزلتك بقدر ما تحفظ منه، قال : ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه فيقول: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، وفي رواية أخرى يقول : ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) أخرجه أحمد عن ابن عمر.
هذه أفضال ورحمات وخيرات ينالها كل مسلم نهل من معين هذا الكتاب ووقف يرتله في الليل بين يدي العزيز الوهاب، وكابد في سبيل حفظه المتاعب والأوصاب، مخلِصا في ذلك لله، طالبا مرضاته وثوابه.
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لكتاب ربكم حقه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، القرآن كلام الله أنزله على قلب نبينا ، وأمره بتبيلغه وتلاوته ليهتدي به المهتدون ويزيغ الضالون، قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
والناس أمام هذا الكتاب فريقان: فريق يزدادون به هدى ويكون لهم شفاءً، وآخرون يكون عليهم عمى ويزدادون خسارا، قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وقال عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، فالسعيد السعيد من تمسك بهذا الكتاب واهتدى بهديه، فمن فعل ذلك فلن يضل أبدا لأن القرآن يربطه ويصله بمولاه عز وجل، قال : ((أبشروا أبشروا؛ أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به؛ فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا)).
إن من أهم وأوجب واجبات الأمة أن تعرف لهذا الكتاب قدره، وأن تسارع إلى الصلح معه والرجوع إليه إن كانت تريد العز والتمكين، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه واصفا كتاب الله عز وجل: (كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم) أخرجه الترمذي.
ارجعوا ـ عباد الله ـ إلى كتابكم، وانظروا فيه، وعطروا أفواهكم بتلاوته؛ ينالكم الأجر والثواب، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) أخرجه أبو داود. كل من حافظ على تلاوة هذا الكتاب لا بد أن يناله الأجر والثواب حتى الذي يجد صعوبة في التلاوة فله أجره عند الله سبحانه، قال : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاقّ له أجران)) أخرجه أحمد عن عائشة.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تضيّعوا كل هذا الفضل وهذه البركات التي أحاط الله بها هذا الكتابَ الكريم.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا عبيدك بنو عبدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا...
(1/4887)
العمل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
5/10/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهنئة الفائزين في موسم الخير. 2- جزاء العمل الصالح في الدنيا. 3- من علامات القبول. 4- الحث على الثبات والمداومة على الخير. 5- مفهوم العبادة في الإسلام. 6- تعدد سبل الخير. 7- الحث على صيام التطوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتَقوَى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
هنيئًا لمن وفِّق للصيام، هنيئًا لمن تقبَّل الله منه، هنيئًا لمن جأَر إلى الله بأصدق الدَّعَوات، هنيئًا للتّائبين، هنيئًا للمستغفِرين. كم من تائبٍ قُبِلت توبتُه ومُستغفِرٍ مُحيَت حَوبَته، كم من مستوجِب للنار أجارَه الله منها وأسعَده. يا من صُمتم رمضانَ، هنيئًا لكم قولُه : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، للعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاءُ في الدنيا حُسنُ رعايةِ الله، ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي عليها)) رواه البخاري.
جزاءُ العمل الصالح المودَّةُ في قلوبِ المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((إذا أحبَّ الله العبدَ نادى جبريلَ: إنَّ الله يحب فلانا فأحبِبْه، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبُّ فلانا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض)).
حسن الذكر جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [العنكبوت:27]، أي: جمع الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بين سعادة الدنيا الموصولَة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزقُ الواسع الهنيّ والمنزِل الرَّحب والمورد العَذب والثناء الجميل والذكرُ الحسَن وكلُّ أحدٍ يحبّه ويتولاَّه.
تفريجُ الكروب جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وفي الحديث عن النبي : ((بينما ثلاثةُ نفَر يمشونَ أخذَهم المطر، فآوَوا إلى غار في جبل، فانحطَّت على فمِ غارهم صخرةٌ منَ الجبل فانطبَقَت عليهم)) رواه البخاري ومسلم، فلم يُنقِذهم إلاّ توسّلُهم إلى الله بأعمالهم الصالحة.
مَن صام رمضان وظنَّ أنَّ الصيام والقيامَ قد انقضى بانقضاء رمضانَ فقد أخطأ، فمِن علامة الحسنة فِعلُ الحسنة بعدها، ونهايةُ العمل يكون بالموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. ومِن علامة قبول التوبة والأعمالِ أن يكونَ العبد أحسنَ حالا بعد الطاعة عمَّا قبل. ومن علامةِ القبول التوفيقُ بعد العمَل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاء الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاء السيئة سيّئة بعدها"، فالأعمال الصالحة تجرّ بعضُها بعضًا، والأعمال السيّئة يسوق بعضها بعضًا، قال بعض السلف: "من وجَد ثمرةَ عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القَبول آجلا".
أيها المسلمون، داوِموا على الخير الذي قدَّمتموه والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، وفي مقدّمة هذه الأعمال الصالحة الصلاةُ، الزكاة، الصيام، الحجُّ، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاونُ بها مطلقًا والتقليلُ من أهمِّيَّتها.
العمل الصالح لا يقتصر على عباداتٍ معيّنة وحالات مخصوصة، بل هو عامّ واسع ومفهومٌ شامل، فمن بنى مسجدًا أو أنشأ مدرسةً أو أقام مستشفى أو شيَّد مصنعًا ليسُدَّ حاجةَ الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحا وله به أجر. من وَاسَى فقيرًا وكفل يتيما وعاد مريضًا وأنقذ غريقًا وساعد بائسا وأنظر معسِرا أرشد ضالاًّ فقد عمل صالحا، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلُّ معروف صدقة)) رواه البخاري.
كل عمل صالح ينتفع به الآخرون أنت مأجور عليه وهو من الصالحات. الإحسانُ إلى البهائم عمَلٌ صالح، رجل سقَى كلبًا فشكر الله له سعيَه فغَفر له. غرسُ الأشجار إماطةُ الأذى عن طريق الناس عمَل صالح. الخِدمة العامّة للمجتمع صيانةُ مرافق المسلمين العامّة عمل صالح بالنِّيَة الصادقة، فقد قال : ((مرَّ رجلٌ بغصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله، لأنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمِين؛ لا يؤذِيهم، فأُدخِل الجنةَ)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو: بضع وستون ـ شعبة)) ، وفيه: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
على المرء أن لا يحقِرَ المعروفَ وعمَل الخير مهمَا كان صغيرًا، فالله يجازي على وزن الذَّرَّة من الخير، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، وفي الحديث: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلق)).
وإذا قعدَت بالعبد قلَّةُ ذات اليد وكان يملك نفسًا توَّاقةً للعمل الصالح فتَح الله له من ميادين الخيرِ حسبَ طاقته، فعن أبي موسى عن النبي : ((على كلِّ مسلمٍ صَدقة)) ، قالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم يجد؟! قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف)) ، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة)) أخرجه البخاري ومسلم.
كلُّ من يؤدي رسالةً لأمته فهو في عملٍ صالح؛ الكاتبُ بقلمه الصالح، والطبيب بأدويتِه النافعة، والباحث في معمَله، والفلاح في مزرعَتِه، والمعلِّم بين يدَي طلاَّبه، والمسؤول يؤدِّي ما ائتُمِن عليه، كلُّ هؤلاء ينصرون الدين ولهم فضل عظيم.
أيها المسلمون، المداومة على الأعمال الصالحة من أحبِّ الأعمال إلى الله، ومن هديِ رسول الله المداومةُ على العمل الصالح، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نامَ من الليل أو مرضَ صلَّى من النهار ثِنتَي عشرةَ ركعةً. رواه مسلم.
بارَك الله لي ولَكم في القُرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه عَلَى توفِيقِه وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنِه، وأشهد أنَّ سيّدَنَا ونَبيَّنا محمّدًا عَبده ورسوله الدَّاعي إلى رِضوانه، صلى الله علَيه وعلَى آله وأصحابه وأتباعه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، ورَاقِبوه في السرّ والنجوَى.
قال : ((أفضل الصلاة بعد الصلاةِ المكتوبة الصلاةُ في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيامُ شهر الله المحرَّم)).
ومن العمل الصالح ـ إخوةَ الإسلام ـ صيامُ ستٍّ من شوال، فقد قال : ((من صام رمضانَ ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهر)) أخرجه مسلم.
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4888)
دركات الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
24/7/1427
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الظلم وبيان خطره وضرره. 2- عقوبة الظالم وسوء عاقبته. 3- مواقف الظالمين. 4- تسلية المظلومين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
اتقوا الله واحترموا محارمه، وقفوا عند حدوده، وكفُّوا عن الظلم وأقلعوا عنه، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
ولقد بلغ من شأن الظلم وشؤمه أنَّ ربَّنا سبحانه وتعالى قد نفاه عن نفسه القدسية، وحرَّمه على ذاته العليَّة، وما كان الله ليظلم أحدًا حبَّةَ خردل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه: ((قال الله تعالى: يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
وبلغ من شأنه وضرره وخطره أنَّ نبينا كان يستعيذ بالله منه، وما كان نبيُّنا ليظلم، ولقد كان يستعيذ بالله منه كلما خرج من بيته، فكان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجْهل عليَّ)) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وبلغ من شؤم الظلم وخطره أن جزاء الظالم وعقابَه لا يقفُ على نفسه، بل يتعدى غيرَه من كل من قدر على ردع ظالمٍ فلم يفعل أو نصر مظلوم فلم يعمل، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]؛ ولذا فالقرآن الكريم تحدث عن الظلم في نحوٍ من مائتين وسبعين موضعًا، ذمًَّا له، وبيانًا لشؤمه وعاقبته، وتحذيرًا وتهديدًا من الوقوع فيه.
والظالم من أحرى الناس بلعنة الله تعالى وناره وغضبه، اسمعوا ما قال الله عز وجل: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]، وقال: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].
والظالمُ لا يحبه الله، ولا يهديه، ولا يغفرُ له، إلا إذا شاء ربنا تبارك وتعالى، وما أكثرَ ما تجدُ في القرآن الكريم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:7]، وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57]، وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً [نوح:24]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا [النساء:168، 169].
وأنت ـ يا أخي المسلم ـ إذا تأملت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والسنن الكونية والتاريخ والواقع والحياة وجدت أن عامة ما يصيبُ الناس من شؤمٍ وبلاء وشقاءٍ ونكد وحروب تدمِّرُ كل أحد وما يحيقُ بالأمم والمجتمعات والأفراد والدول من كوارث وقوارع وزلازل وعذاب ونكال فإنَّ مرد ذلك إلى الظلم في غالب الأحيان، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160، 161]، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:47]، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
والآياتُ في هذا والشواهدُ كثيرةٌ وعديدة، فكيف بعد هذا يجرؤ ظالمٌ على ظلم الناس في أنفسهم وأعراضهم ودمائهم وأطرافهم وأموالهم وفي خواصهم وعوامهم وهو يتلو مثل هذه الآيات ويتأمل تلك السنن ويشاهد تلك الحوادث؟! كيف يجرؤ على ظلم الناس؟! كيف تمتدُّ يده وتجسرُ نفسه عليه؟! كيف وهذا شيءٌ وطرفٌ قليلٌ من عاقبته وجزائه عند الله عز وجل؟!
أيها الظالم فردًا كنتَ أو دولةً، تظلمُ شخصًا أو شعبًا، قبل أن تظلم أحدًا في قليل أو كثير صغير أو حقير تفكر في مواقفَ تقفُها يوم تجد جزاء ظلمك محضَرًا معجَّلاً بدعوةِ مظلوم جلجلت في الآفاق، واخترقت السبع الطباق، وجاءت إلى رب الأرباب، فأقسمَ بعزته وجبروته وجلاله لينصرنَّ صاحبها ولو بعد حين، فحاقَ بك العذاب والنكال بسبب تلك الدعوة، بسبب ظلمك.
لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا فالظلمُ عاقبةُ باغيهِ إلى النَّدمِ
تنامُ عيناكَ والْمظلومُ منتبهٌ يدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ
دعوةُ مظلومٍ تصيبكَ في نفسك ومالك وعيالك وأهلك وصحتك وعافيتك ودارك وعقارك وملكك وسلطانك ودولتك وجيشك، فتعلم حينئذٍ أن ذلك بسبب شؤم الظلم والجور، وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:4، 5].
وكم في التاريخ الحاضر والغابر من قصص وعبر، يذكر الرواةُ أن جعفر بن خالد بن يحيى البرمكي جاء إلى أبيه وهما في السجن مصفدين مغلولين مقهورين مأسورين، قال: يا أبتِ، بعد هذا العز والأمر والسلطان والصولجان صرنا إلى هذه الحال والمآل؟! فقال: يا بني، دعوةُ مظلومٍ سرتْ بليلٍ، غفلنا عنها وعين الله لا تنام. ثم قال:
رُبَّ قومٍ أصبحوا فِي نعمةٍ زمنًا والدهرُ ريَّانُ غَدِقْ
صمطَ الدهرُ زمانًا عنهمُ ثم أبكاهم دمًا حين نطقْ
فإن أخطأك هذا الموقفُ والمكان فإنّ أمامك ـ أيها الظالمُ كنتَ فردًا أو جيشًا ـ مقامًا آخر ستقومه وتقفه، وستبصرُ الخبر اليقين، إنه مقامُ الموت، الموتُ الذي طالما فررتَ وفزعتَ منه، حين تُذكر وتوعظ به، يوم ترقدُ على فراش الموت وقد انقطعت بك الأسباب، ولاقيتَ رب الأرباب، وفارقتَ الأهل والأصحاب، وواجهتَ الحساب، يوم تُعالج غمرات الموت وسكراته، تلك التي كان النبيُ يتوجعُ ويتأوّهُ ويستعيذُ بالله منها، وهو خير مخلوق عليه الصلاة والسلام، تأخذه الرّحضاءُ ثم يقول: ((الله أكبر، إن للموت لسكرات)). هذا نبينا فكيف بمن ظلم إذا واجه الموتَ بظلمٍ تضجُ منه الأرض والسماءُ؟! وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:93، 94]. نعم، تقطعت العلائقُ بالخلائق، وواجهتَ الحساب والخالق.
ثم لك ـ أيها الظالمُ ـ مقامٌ وموقفٌ ثالث، إنه موقفُ القبر ومقامه، فهل فكرتَ ـ أيها الظالمُ كنتَ فردًا أو جيشًا ـ قبل أن تمتدَّ يدُك بالظلم، هل فكرتَ بالقبر وظلمته واللحد وضمَّته؟! وهل علمتَ أن الظالمَ يفرشُ له في قبره فراشٌ من جهنم ويغطى بغطاءٍ من جهنم، حينما تصعد روحه فتردُّ دونها أبوابُ السماء، فيؤمر بروحه إلى سجين، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40، 41]. ثم هذا ليس بشيء لما يكون في جهنم بعد البعث والنشور، أعاذنا الله من النار.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الظالمُ ـ كنتَ فردًا أو جيشًا ـ هل فكرت قبل أن تمتدَّ يدُك وتجسر نفسُك إلى الظلم بمقامات الحشر والجزاء والحساب؟! أولُ ذلك مقامُ الحشر، يومَ يحشرُ كلُ ظالم مع جنسه، السارقُ مع السارق، والمرابي مع المرابي، والزناةُ مع الزواني، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ [الصافات:22-25]. نعم، في هذا الموقف: ما لكم لا تتناصرون كما كنتم تتناصرون في الدنيا بقرارت دولية ومعاهدات ومواثيق برلمانية وإمدادات عسكرية ومالية؟! ما لكم لا تتناصَرون بشهادات الزور ومستندات الزور والأيمان الكاذبة الغموس؟! بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:26]، وكيف لا يستسلمون وقد عاينوا الحساب وأخذوا الكتاب؟! وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ [النمل:83-85]، يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:102-111].
عباد الله، إن الظلمَ ظلمات يوم القيامة، وهو خزيٌ وعارٌ وشنارٌ على صاحبه، ولا تظنوا أن الله غافلٌ عمَّا يعملُ الظالمون، بل إنه سبحانه يؤخرهم ليوم القيامة فيحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا نكرًا. وإن هذا الوعيد يشمل المسلم الموحد لله رب العالمين إذا ظلم غيره بدون وجه حق، فكيف ـ يا عباد الله ـ بالكافر الفاجر المشرك بالله الكافر برسوله المكذب لدينه الذي يسفك الدماء ويهلك الحرث والنسل ويسعى في الأرض فسادًا؟! فهل تظنون أن الله تاركهم وما يعملون؟! فلا وربك، إن الدماء التي أريقت على ثرى فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان لله فيها مطالب، فإن أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ثم تسمعُ الربَّ جل جلاله يقول لملائكته عن الظالم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، وحينئذٍ تسمعه ينادي بصوتٍ مبحوحٍ متألم: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
هذه نهاية الظالمين أيها المظلومون، فلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا تيأسوا من رحمة الله، فإن نصرَ الله قريب، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...
(1/4889)
إرهاب من نوع آخر
الأسرة والمجتمع, فقه
الحدود, قضايا المجتمع
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المفهوم الصحيح للإرهاب. 2- أعظم الإرهاب. 3- السرقة إرهاب. 4- أسباب تحد من وقوع السرقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإلى نفسي وإليكم وصية رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
أيها المسلمون، لم يأنِ بعدُ أن تضع الحربُ على الإرهاب أوزارها، ولا أن يخبوَ أُوارها، فلا زلنا نرى في بلادنا إرهابيين متطرفين، يستعلنون به ولا يستخفون، ولا يوارون ولا يترددون، فلتمضِ الحربُ على فلول الإرهابِ بالقوة التي شهدناها، وبالعزم الذي عهدناه، وأن يُمدَّ النَفَسُ في الحرب عليه ما امتدّ بيننا أثرُه؛ حتى لا يبقى له مدَدٌ ولا تبيعٌ؛ فالإرهاب شرٌ يجب أن يُجتثَّ، وبابُ فسادٍ يجب أنْ يُوصد، إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
إن الإرهاب قاعدةٌ عريضةٌ، لا ينحصر في فئةٍ محدودة فيزول بزوالها، ولا في أشخاصٍ لهم سيماهم الخاصة فيُقضى عليه بالقضاء عليهم. إن الإرهاب أوسع نطاقًا من أن يكون كذلك، فله صفاته التي تتشكل في أشخاص مختلفة المشارب متباينة التوجهات.
وكيفما اختلفت صور الإرهاب فهي تتفق في معناه الجامع الذي لا يتخلّف في صورةٍ منها؛ ألا وهو ممارسةُ أشدِّ الاعتداء على إحدى الضروريات الخمس، تلك الضروريات التي تكفّل الإسلام بحفظها وشرع حدوده وأحكامه لحمايتها، وهي: الدين والنفس والمال والعقل والعرض أو النسل. فصد الناس عن سبيل الله والتشكيكُ في أصول الدين أعظم الإرهاب على الإطلاق؛ لأن الفتنة في الدين أشد وأكبر من جريمة القتل، وترويعُ الآمنين وزعزعة أمن البلاد الآمنةِ إرهاب، وقتلُ المعصومين بغير حقٍ إرهاب، وهدم منازلهم واغتصاب أرضهم واحتلال بلادهم من أعظم الإرهاب، والتعدي على أموال المواطنين بالسرقة أو الغصب إرهاب، وهتكُ أعراضهم بفاحشة من الفواحش إرهابٌ ولا شك، وممارسةُ تغريبِ العقول والوصايةِ عليها ما لم تتوجّه وِجهةَ الغرب على حدِّ قولهم: "إن لم تكن معي فأنت ضدي" هي بلا شك إرهابٌ فكريٌ، يزيدنا درجةً في التخلف ويبعدنا درجات من التحضر.
وحين نفهم الإرهاب بمعناه الصحيحِ الواسع ينكشفُ لنا جانبٌ آخرُ من خطورته ربما لم يتفطّن إليه بعضنا، وهو أن الإرهاب لا يدخل علينا من باب واحد، الذي هو باب الغلو فحسب، ولكنه بات يدخل علينا الآن من أبوابٍ متفرقة، التي لا ينبغي أن يعزب عن أبصارنا منها شيء حين نتطرَّق للحديث عن الإرهاب.
فمنها الغلو وقد تقدم الحديث عنه في حينه، ومنها بابٌ يلج منه الكفرُ والفجورُ، وبابٌ يدخل علينا منه الاعتداءُ على أموال الناس ونفوسهم وأعراضهم، ومنها باب يطرقه علينا إرهابٌ فكريٌ تباشره أيدٍ أثيمةٌ وأقلامٌ مسمومة، تظللها هيمنة أمريكية، تباركُها وترعاها وتدعمها.
فلا يصح شرعًا ولا عقلاً أن نتشاغل بباب واحدٍ ونغفل أو نتغافل عن أبوابٍ أخرى مُشرَعة تأتينا منها الفتنة والأذى والخوف. ومن منطلق شرعي وعقلي نرى لزامًا علينا أن تلتقي الأيدي وتتضافر الجهود على سدِّ الأبواب كلها، البابِ الذي ينفذ منه الغلو، والباب الذي ينفذ منه الكفر، وما ينفذ منه الاستخفاف بأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم.
ومهما يكن فإن أشد الإرهاب الذي لا تبلغ مثلَ شدته شدةٌ هو الإرهاب في الدين بصد الناس عنه وتشكيكهم فيه، فهو عند الله أشد من إرهاب القتل والترويع، وما إرهاب القتل والترويع بالهين، بل هو كبير عظيم، بَيْدَ أن فوقه ما هو أعظم منه، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217]. وهنا قرّر سبحانه أن القتال في الشهر الحرام كبيرٌ، ثم قال جل جلاله في جملة أخرى مستأنفة: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ، أي: والصد عن سبيل الله والصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه كلُّ ذلك أكبر عند الله، ثم يقول سبحانه معللاً ذلك: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ ، أي: وفتنة الإنسان عن دينه أعظم وأكبر عند الله من جريمة القتل.
ولهذه الآيات سبب نزولٍ يؤيد هذا التأويل، وهو أن النبي قد بعث سريةً قِبل مكة لترصد له كفارَ مكة حتى تأتيَه منهم بخبر، فساروا حيث أمرهم، فمرّت بهم عير لقريش تحمل تجارة من تجارتها، وكان ذلك في آخر يوم من رجب أحدِ الأشهر الحرم، فتشاوروا فيهم، فقال بعضهم: إن تركناهم هذه الليلة ليدخلُن الحرم، فيتمنعوا به منا، ولئن قتلناهم فقد قتلناهم في الأشهر الحُرُم، فترددوا، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، فقتلوا أحدهم، وأسَرُوا اثنين، وغنموا العير، فقال : ((ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم)) ، فوقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فأُسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم المسلمون، وقالت قريش تعيِّرُ النبي وأصحابه: قد استحل محمدٌ وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسَروا فيه الرجال، فنزل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:217]، أي: لئن كنتم ـ أيها المسلمون ـ قتلتم في الشهر الحرام فقد صدكم كفار قريش عن سبيل الله مع الكفر به، وصدوكم عن المسجد الحرام، وأخرجوكم منه وأنتم أهلُه، وما فعلوه من هذا أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، والفتنة أكبر من القتل.
ولنفطن إلى أن الله سبحانه لم يهوِّن من جريمة قتل الكفار في الأشهر الحرم، مع أنهم كفارٌ مستحقّون للقتل، بل قرَّرَ عِظم هذا الذنب فقال: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ، فاستنكار هذا وما هو من قبيله من قتل النفس المعصومة واجبٌ بلا شك، وأولى منه بالإنكار ما يفعله المنافقون من فتنةِ الناس عن دينهم وصدِّهم عن سبيل الله، فاستنكار هذا أوجب من ذاك بدلالة الآية.
وهل يصح في العقول أن يُحارب إرهابٌ بإرهابٍ أشد، فيُحارب إرهاب الغلو بإرهاب الكفر والفجور؟! فتظل الأمة كما كانت في معاناة من الإرهاب تتجاذبُها أطرافه المتباعدة.
ثم نأتي إلى إرهاب آخر، هو دون إرهاب الغلو وإرهابِ الكفر بدرجات، لكنه يظل جريمة يصدق عليها وصف الإرهاب؛ لما فيها من عظيم الاعتداء، وشديدِ الاستخفاف بأعراض الناس وأموالهم.
هذا الإرهاب تمارسه عصابات السطو والسرقة والغصبِ والنهب، تمارسه ممارسةَ من أمِن العقوبة، بل اتسعت قاعدة هذه العصابات الإرهابية، فتنوعت طرائقها في الجريمة تنوعًا يُبين استخفافها الشديد بما يمكن أن تخوَّف به، كانوا يسرقون خفية، فأصبحوا يغتصبون المال عَنوة، وقد كانوا يستخفون بالليل، فصاروا لا يبالون أن يستظهروا بها في النهار.
كانت سرقة السيارات هي الظاهرة، فأصبحت ظاهرةً من ظواهر السرقة، وبدأ الناس يتسامعون ضروبًا أخرى للسرقة لم تكن في حُسبان أحد أن تقع.
ولهذه العصابات الإرهابية متعاطفون ومتواطِئون، لا يبالون في تعاطفهم أن يترتب عليها تضرر الناس وتزعزعُ الأمن وشيوع الخوف في المجتمع.
من هؤلاء المتعاطفين أولئك الشفعاء الذين يشفعون للسراق ليُخلّى سبيلهم، بدعوى أنهم مراهقون سفهاء، ويبذلون في ذلك جاهَهم ليشفعوا شفاعة سيئة تجعلهم شركاء مستترين في الجريمة، ألا شاهت وجوهُهم.
إن محاربة هذا الإرهاب لن تنجح حتى نعطيه قدره من الاهتمام والصرامة، وأن نتعامل معه على أنه إرهاب يخوف الآمنين ويتهددُ أعراضَهم وأموالهم وبيوتهم، لا على أنه جريمة فردية يطالب فيها بالحق الخاص دون العام.
ومن الصرامة الواجبة في هذا أن تطال المحاسبة والعقوبة مَنْ يظهر منه التعاطف مع أولئك الإرهابيين من الشفعاء والمحرِّضين، بل والمسئولين المتساهلين الذين ترتخي قبضتهم عن المجرم وتسبق إليهم الرأفةُ به حين يلقي إليهم معاذيرَه التي لا يعذر بها لو صحت، فكيف وهي مختلقة؟! وينسون في لحظة العطف آلامَ من ابتلوا بأذية هذا الإرهابي وعدوانِه.
ولشيوع هذا الإرهاب أسبابه الأمنية والاقتصادية والاجتماعية إلى غير ذلك من الأسباب، ومهما عددنا من الأسباب والحلول فإن الحل الأمني يظل من أولى حلوله، ومن الحل الأمني تشديد العقوبة على هؤلاء، ولا أبلغُ في الزجر ولا أقوم للعدل من إقامة الحد على من يستحقّه، ومحاسبة كل من يحول دون إيقاع العقوبة بمن يستحقها، أو يحاول تعطيل الحدود على ذوي قرابته والأشراف من الناس، ولو أذيع أن حدّا أقيم على أحد هؤلاء الإرهابيين لا نزجر بذلك الباقون وكُفينا شرهم.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فما ذكرته من إرهاب تلك العصابات أُراني مسبوقًا إليه، فقد كتبت في مظاهر هذا الإرهاب الصحف، وتخوّف من انتشارها بعض الكتاب، فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحدِ.
وقد يكون بيننا من يعارض هذه الطريقة، حتى لا نخوِّف الناس وهم آمنون، وحتى لا تزول الثقة عن رجال الأمن أو يُشك في قدراتِهم، ويرى أن المنهج الصحيح في هذا مخاطبةُ المسئولين؛ لأنهم هم المعنيون بحل هذه المشكلات.
أما مسألة الحذر من أن نخوِّف الناس وهم آمنون فهذا صحيح لو لم تكن جرائم السطو والسرقة جريمةً ظاهرة، وهذا الحذر صحيح أيضًا لو كنّا نخوِّف الناس بشائعات لا مستند لها، أما وقد كان هذا تحاذرًا تفرضه ظاهرة متفشيةٍ بشهادة أجهزة الأمن فهو تحاذر توجبه النصيحة في الدين، وليس ببعيد أن يكون من بيننا مَن مسّه هو أو قريبٌ له أذى تلك العصاباتِ الإرهابية، فسُرقتْ سيارتُه، أو سُطي على بيته ورُوِّع أهله.
وأما التخوّف من أن تزول الثقة في رجال الأمن فيفضي ذلك إلى سقوطِ هيبتهم في أنظار الناس فأقول: قد كان هذا تخوفًا في الماضي، فأصبح حقيقةً مؤلمة، نراها في استخفاف المراهقين بالأنظمة واستطالتِهم في أعراض الناس وحريمِهم وأموالهم. فلماذا زالت من قلوب هؤلاء الشباب هيبةُ رجال الأمن؟! ولماذا أصبحوا يستخفون بالنظام في جرأة عجيبة؟! الأسباب كثيرة، ومنها بركةُ شفاعة الشافعين، بل قل: أولئك المتعاطفين مع الإرهابيين الذين يبذلون جاههم ليقفل ملف القضية في أول مراحلها، أو ليُخرج المذنب من سجنٍ ما أُعدَّ إلا له ولأمثاله، ولو لم يتساهل بعض المسئولين لما نالتْ أولئك السفهاءَ شفاعةُ الشافعين، ولا نفعتهم في ذلك صلةُ الأقربين.
فمن الذي أسقط هيبة رجال الأمن؟ أهم الذين يحذِّرون من هذه الظواهر، أم هم أولئك الشافعون المتواطئون الذين يجعلون من شفاعاتِهم السيئة رمزًا للنخوة والرجولة؟!
وأما الزعمُ بأن هذه القضايا لا يصح أن يُفاض بالحديث عنها إلا إلى المسئولين المختصين فهو زعم يصح لو كانت القضية لا تمتّ إلى المجتمع بصلة، فكيف إذا كانت من أعظم مشكلاته التي يعاني منها ويشكوها كثير من الناس؟! ولذا يجب أن يحيا همُّ معالجتها في قلوبنا جميعًا، وأن تكون قضية مطروحة بقوة في منتدياتِنا ووسائل إعلامنا، نتقصّى فيها أسبابها، ونتباحث فيها سُبل علاجها.
كما أن في طرحها على أعواد المنابر دعوةً إلى وجوب أخذ الحيطة في حفظ العرض والمال، وتحذيرًا من مغبة التساهل في ذلك، كيلا تصبح مطمعًا لعصابات السرقة. وحين نتحاذر هذه الظاهرة فلا يتضمن هذا إشعارَ الآخرين بأن بلادنا تعيش أزمة أمنية، إلا أن يكون توهمًا يتوهمه بعض الموسوسين.
إن تحسين الصورة لا تكون بتزييف الحقائق والتعامي على المشكلات، وإنما بالمسارعة إلى حلِّها ومنع استفحالها، والغيور على وطنه لا شكَّ أنه يسعى إلى تحسين صورة بلده، ولكن ليعلم أن تحسين الصورة لا يكون على حساب الحقيقة المُعاشة، وإلا أصبح تزييفًا وترقيعًا.
اللهم أصلح أحوالنا...
(1/4890)
التدين والمقاييس الاختزالية
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة المسلم. 2- إنما المؤمنون إخوة. 3- الآفات المترتبة على تقسيم المسلمون وتفريقهم. 4- مفهوم التدين الصحيح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، يتفاوت المسلمون الموحدون فيما بينهم في مقدار الاستقامة والصلاح، وعلى ما بينهم من التفاوت إلا أنهم مشتركون في القاعدة الجامعة وهي التوحيد والإيمان، وهذا يمنحهم اشتراكًا في الحرمة والحقوق، ((فكل المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وماله وعرضه)) ، فلم يفرِّق بين الصالح والفاسق، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ولم يفرق بين المؤمن التقي والمؤمن المسرفِ على نفسه، فكلهم إخوة ولو اقترف بعضُهم أكبرَ الكبائر عدا الشرك بالله.
فها هو ولاءُ الإسلام بدائرته الواسعة قد وسِع المسلمين جميعًا، محسنَهم ومسيئهم، ليفرض على كل مسلمٍ أن يوالي كلَّ مسلم مهما أسرف على نفسه، وأيًا كان مظهرُه، وأينَما كان بلدُه. ولم تَضِقْ دائرة الولاء هذه إلا عن المشركين والمنافقين، وليس للمسلم أن يوِّزع ولاءاته حسَبَ مصالحِه وأهوائه.
وإذا كان المسلمُ ممنوعًا من أن يسع ولاؤه غير المسلمين فمن الخطأ المنكر كذلك أن يحجِّمَ ولاءَه في دائرةٍ أضيقَ من دائرة الإسلام، فيجعله مخصوصًا بطائفةٍ أو بلدٍ أو عِرقٍ أو حزب.
إن أحدَنا ليس بأغيرَ من الله على دينه حتى يضيق ولاؤه عن بعض عصاة المؤمنين، فهذه غَيرةٌ لا تُحمد؛ فهي تحجِّرُ واسعًا وتنفِّر قريبًا، فلا تزيد هذا العاصي القريب إلا بُعدًا عن الطاعة وإسرافًا.
تأملوا قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]. فها هم المؤمنون كلُّهم بمُحسنِهم ومسيئهم ومسرفِهم ومقتصدِهم وأولهم وآخرِهم قد أشركهم الله جميعًا في وصفٍ تشريفيٍ يمتازون به على غيرهم، وهو الاصطفاء، فكيف لا يكونون كلُّهم في أصل المحبة والولاء مشتركين؟!
أيها المسلمون، لقد كانت مجتمعات المسلمين ولا تزالُ أمشاجًا مختلطةً، ففيها الظالمُ لنفسه، وفيها المقتصدُ، وفيها السابق بالخيرات بإذن الله، وستظلُ كذلك كما هي سنة الاختلاف. فالأَولى أن يكون هذا التفاوتُ في درجة الصلاح داعيًا إلى التناصحِ، لا إلى التنافرِ والتضاد؛ فإن هذه الأمشاجَ على تفاوتِها في الدرجات تلتقي في قاعدةٍ مشتركةٍ عريضةٍ هي خيرُ وأعظمُ ما يمكن أن يلتقيَ عليه المختلفون، ألا وهي قاعدة الإيمان والتوحيد.
ونحن معنيون أن نبحث عما يُجمِّع من الأصول، لا أنْ نُفرِّقَ بالفروع، فذلك يفقدنا خيرًا كثيرًا موجودًا بين الناس.
والقدْرُ المشترك الذي يلتقي فيه المسلمون كلُّهم في هذا المجتمع متمثِّل في دائرةِ التوحيد وأصول الإيمان العريضة التي لا يمكن أن يندّ عنها فرد من المسلمين مهما أسرفَ على نفسه بالمعاصي؛ لأن الخروج عنها يعني الخروج من دائرة الإيمان إلى دائرةِ الكفر.
وهذا القدر المشترك هو أعظم شيءٍ جاءت به الرسل والأنبياء، والتقت عليه رسالاتهم، وهو أعظمُ الأمور التي يمكن أن نلتقي عليها.
فلماذا لا نجعل هذا القدر المشترك هو الرابطةَ التي يجتمع حولها المسلمون ظالمُهم ومقتصدُهم وسابقُهم، يأتلفون عليها ويتحابون في ظِلالها، كما كان النبي يُذكِّرُ بهذا القدْرِ المشتركِ كلما بدتْ بين المسلمين نُفرةٌ أو ظهرت منهم على أحدٍ غِلظةٌ أو جفوةٌ.
أخرج البخاري ومسلم عن عِتبان بن مالك أنه أتى النبيَ فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصليَ لهم، ووددت ـ يا رسول الله ـ أن تأتيَني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فأتى فقال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت إلى ناحية من البيت، فصلى ، وآب إلى البيت رجال من أهل الدار، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُنِ؟ فقال بعضهم: ذلك منافقٌ لا يحب الله ورسوله، وود بعضُهم أن النبي دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شرٌ، فقال : ((أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!)) فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فقال : ((لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخلَ النار أو تطعمه)).
وفي صحيح البخاري عن عمر أن رجلاً على عهد رسول الله كان يشرب الخمر، فيؤتى به إلى النبي فيجلدُه، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال : ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله)).
فهذا الذي ذكّر به النبيُ من حال ذلك الرجل لم يكن شيئًا متميِّزًا يبز به أقرانه، إنما ذكّر بذلك القدر المشترك الذي يجمعهم به في رباط واحد ووشيجة واحدة، إنه محبةُ الله ورسوله. فكأنه يقول: إنه مثلُكم يحبُّ الله ورسولَه.
على أننا نلحظ أن الرسول لم يَقُل هذا الكلام والرجلُ يقارف المعصية، فذلك مدعاةٌ إلى أن يحتقر تلك المعصية ويفرطَ في التوبة، ولكن قالها بعد أن كفر عن ذنبه بالحد؛ ليشعره ويشعرهم أن قلبه ما زال طيب الغراس حسن المنبت، وفي الإمكان أن يكون خيرًا مما كان.
إنَّ تحجيمَ الولاء في دائرة ضيقةٍ تحكمُها سماتُ الصلاح الظاهر يُفضي إلى تشطير المجتمع إلى فئاتٍ متنافرةٍ، أو على أقل تقدير غيرِ متعاونة، تتسع بينها الفجوةُ والجفوة، وتصبح كأنّها لا تلتقي على شيء.
فيجب أن توضع هذه السماتُ الظاهرة حيث وضعها الشرع بلا تهويل ولا استهانة، والذي يعني أنها شعيرة من الشعائر، لا شارةَ كمال تُضفي على صاحبها الصلاحَ المطلق، ولا أن تُجعلَ أصلاً من أصول الإسلام يُجعل فرقانًا بين الولاء والبراء والمحبة والبغض. وإذا أُعطيتْ أكثر من ذلك تواردتْ عليها اللوازمُ الباطلة، من إطلاق الصلاح بإطلاق، أو نفيِه بإطلاق.
يجب أن نفطنَ إلى أن وجود بعضِ سمات الصلاح الظاهر لا يدل على كمالِ صلاحِ الباطن بالضرورة، وعدمُ وجودها لا يدل بالضرورة على فساد الباطن، فلماذا يجعلها بعضُنا حَكَمًا يفرض عليه طريقةَ التعامل ويصرِّف العلاقات؟! وكيف يُعوِّل على أمرٍ لا يدل إلا على نفسه؟!
إنك قد تفتقدُ في بعض الناس بعضَ السمات الظاهرة للصلاح، لكنّك لا تفتقد فيه معالم أخرى للصلاح؛ كطيبة القلب وعِفَّة اللسان وسلامة الفكر ولين الجانب وسخاء اليد في المعروف والحرص على الصلاة والتذمُّمَ للناس وأداء حقوقِهم، فهل تلغى هذه المعالم العظيمة للصلاح لأجل افتقاد شيءٍ من السمات الظاهرة للصلاح؟!
يجب أن يصحح مفهوم التديّن لدى الناس، حتى يدركوا أن وصفَ التدين لا تحتكرُه سماتٌ خاصةٌ بالمظهر تمنحُ هذا اللقب كلَّ من قامت به وتخلعُه عن غيره، ولا يختص بطائفة تتميَّز بمظهرها.
إن مفهوم التدين الذي ينبغي أن ننصاع إليه وتتّزن بها النظرة هو غلبةُ خيرِ الإنسان مع تحقيق أصول الإسلام وأركانِه، فإذا تحقق فيه ذلك كان أهلاً أن يضفى عليه هذا الوصف الممدوح.
ونحن نقصد من تصحيح مفهوم التديّن إلى أن نزيلَ النفرة التي قد تبدو من بعض الناس تُجاه آخرين، ولأجل أن نبطلَ طريقة التمييزِ الخاطئة، والتي تعوِّل على أول نظرة للظاهر دون سبرٍ للأخلاق والفكر والمشاعر.
وتصحيح مفهوم التدين وتوسيع دائرته يجعلنا جميعًا مسؤولين أمام كل هجمة تُراد بها عقيدة بلادنا ومؤسساتُنا الدعوية وما يسمى بالثقافة السائدة.
لقد بدأت بعض الأقلام المسمومة في بعض وسائل الإعلام تساوم على بعض القيم التي ما زال المجتمع مقيمًا عليها، واجترأتْ على لمز مناهج الدعوة والنيل من أعلام الأمة، فتوجهت في خطابها إلى فئة مخصوصة قصدتهم قصدًا؛ لتجعل منهم مطيةً إلى تلك الغايات الدنيئة، وأطلقت عليهم وصفَ (الإسلاميين)، لتجعل باقي المجتمع في وضع الحياد معها، وكأننا في مجتمع يحتكم إلى مجالس تشريعية ونيابية تتصارع فيها تيارات سياسية من إسلامية وعلمانية وقومية.
فهم من خلال هذه التسميات ومن خلال توجُّهِ نقدها ولمزها إلى فئة مخصوصة يريدون أن يجعلوا باقي فئات المجتمع بمعزل عن المواجهة والمسؤولية في دفع هذه الحملة المغرِضة.
وهم يخطئون عن عمد وخبث بهذا الإطلاق، ويخطئ معهم من يفهم أن الإسلاميين فئةٌ لها سمات معينة هي المعنية بهذه الهجمة، ويظل غيرُهم في مأمن من الفتنة.
إن هذا القدر المشترك بيننا من أصول التوحيد وأركان الإيمان يحمِّلنا جميعًا مسؤولية الدفاعِ عن هذا الدين والذبِّ عن منهج المصطفى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الأحبة، وهذه مسألة تتصل بالمسألة السابقة اتصال الفرع بأصله، وهي أنه إذا كان ظاهر الإنسان لا يدل على باطنه ولا على فكره ولا أخلاقه بإطلاق، فمن باب أولى أن لا يدلَ على باطن غيره وفكره وأخلاقه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يؤخذ أحد بجريرة غيره، إنما من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
وقد نرى شخصًا واقعًا في فاحشة أو مرتكبًا لكبيرة موبقة، وقد تفتقد فيه بعض سمات الصلاح الظاهر، فهل يعني هذا لزامًا أن يكون كل من شاكله في الظاهر مشاكلاً له في السلوك والفكر والباطن؟! كلا، ولا أظن عاقلاً يرى غير هذا. فإذا كان هذا فكذلك الأمر بالعكس، إذا رأينا شخصًا قد وقع في موبقة أو غلو وعليه شيء من سمات الصلاح الظاهر، فهذا لا يعني أن كل من شاكله في هذا الظاهر مشاكِلٌ له في الفكر والسلوك والباطن. وعلى هذا لا يجوز أن تُجعل بعضُ السمات ميسمًا يُعرف به الإرهاب والغلو، لا سيما إذا كانت سنةً ثابتةً عن المصطفى.
وأخيرًا، فكل شعيرة من شعائر الإسلام صغيرةً كانت أو كبيرةً هي جزء من هذا الدين لا يجوز الاستهزاء بها، ولا الاستهانة بقدرها، ولا السخرية من أصحابها، فإن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر مخرج من الملة، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66].
وأما الاستهزاء بمن قامت فيه تلك الشعيرة فهو سخرية بإنسان محفوظ الكرامة والعرض في الإسلام، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
(1/4891)
ودوا لو تدهن فيدهنون (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, حقيقة الإيمان, قضايا دعوية
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من يسر الشريعة. 2- أصول الشريعة ثوابتُ لا يجوز التنازل عنها ولا المساومة عليها. 3- من صور المساومة على دين الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، في الشريعة من اليسر والرخصة ما يبيح للمسلم أن يتفوّه بكلمة الكفر إذا أُكره عليها، وأن يشرب الخمرة أو يأكل الميتة إذا اضطر إليها؛ فإنه إن قال كلمة الكفر فإنما يقولها مُكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان، وإن شرب الخمر أو أكل الميتة عند الضرورة فإنما يفعل ذلك استبقاءً لنفسه ودفعًا لمخمصته غيرَ باغٍ ولا عادٍ، فهو يفعل ما يفعله مكرهًا لا مختارًا، ومستبطنًا لعقيدته بيقين واطمئنان لا مبدلاً ولا ناكثًا.
إن للإسلام من سعة الرخصة والتيسير ما يرفع عن الناس الحرجَ في دينهم، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
وعلى ما في الشريعة من سعة التيسير والترخيص فإن منها ما لا سبيل للترخيص فيه مهما عصفت المحن واشتدت الأحوال، إنها العقيدة المستكنّة في القلوب والتي تقع فيها موقع اليقين والإيمان الخالص.
إن للمسلم المضطهد في دينه أن يستخفي بعقيدته فلا يبديها، ولكن ليس له أن ينسلخ منها فيستبدل في قلبه الكفر بالإيمان والشك باليقين والضلالة بالهدى؛ ولذا لم يرخص الإسلام في التلفظ بكلمة الكفر إلا أن يقولها المكرَه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان.
إن أصول الشريعة ثوابتُ لا يجوز التنازل عنها، ولا المساومة عليها، ولا إعادةُ النظر فيها، فليست محلاً للاجتهاد والنظر، فتتغير لتغير الزمان والمكان، بل هي أصول ثابتة لا تختلف في حال الضعف عنها في حال القوة، ولا في حال الرخاء عنها في حال الشدة. وإن إبطال أصل منها هو إبطال للشريعة كلِّها، والخروج عن أصل منها خروج عن أصولها كلها.
أيها الأحبة في الله، قد يكون المسلمون في فرقة وضعف فيسقط عنهم بعض الشعائر التي تشترط لها القدرة كجهاد الطلب مثلاً، وقد يكونون أقليةً في بلد كافر فتسقط عنهم إقامة الحدود، ويعذرون أن لا يقوموا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع لا يدين أصلاً بالإسلام، وقد يباح للمرأة منهم أن تتخفف من بعض الحجاب كارهةً غيرَ راضية إذا خافت على نفسها وعرضها. ولكن ليس لأحد مهما كانت الظروف أن يبدّل شريعة الإسلام، فينكر شيئًا من الحدود كحد السرقة أو الزنا، أو ينفي عن الإسلام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يزعم أن الحجاب إنما هو عادةٌ عرفها الناس في الجاهلية فاستصحبها المسلمون وأقرهم الإسلام لظروف معينة.
إن المسلم قد يعذر أن لا يقوم بإحدى الشعائر عند الحرج والاضطرار، ولكنه ليس بمعذورٍ أن ينكرها في دينه؛ فيعتقدَ أنها مما أُضيف للإسلام وليست منه.
لقد أكمل الله لنا دينَه فليس لنا أن نزيد فيه، وأتم علينا نعمته بإتمام دينه فليس لنا أن ننتقص منه شعيرة أو ننكر منه حكمًا، ولقد رضي لنا الإسلامَ دينًا فليس لنا أن نستبدل به غيره فنرضى بدينٍ غيره، ولا يجوز لنا إلا أن نرضى بما رضيه الله لنا.
إن أحكام الشريعة القطعية ليست قناعاتٍ شخصية حتى تخضع للمساومات أو المزايدات والمناقصات، ولكنها دينٌ لا يسع المسلم إلا التسليم بها والإذعان لها، فقد نص عليها الوحي وانعقد عليها الإجماع.
وهذا التسليم والإذعان لقطعيات الشريعة هو أصل آخر من أصول الإسلام، أكد عليه القرآن وقرّره كثيرًا، كقوله جل جلاله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وقولِه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقوله عن المنافقين: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [النور:47-50]، ثم قال عن المؤمنين: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
أيها الأحبة في الله، إن التأكيد على هذا الأصل الذي لا يجهله مسلم إنما هو للتواصي بالاستمساك به أمام حملات المساومة في دين الله، والتي صار أعداؤنا يشُنّونها علينا بإلحاح، ويمتطون لها ضعاف الإيمان ومرضى القلوب، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، والمعنى أنكم إن أطعتموهم في تبديل حكم الله والعدولِ عنه إلى حكم غيره وأجبتموهم إلى ما يدعونكم إليه إنكم إذن لمشركون، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]. قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، ما عبدوهم! فقال: ((بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)).
إن المساومة على دين الله لم تكن بدعًا في هذا العصر، ولكنها طريقة ابتدعها كفار مكة حينما شعروا بخطر دعوة النبي عليهم، فاقترحوا عليه أن يعبد معهم آلهتهم سنةً على أن يعبدوا معه إلهه سنةً أخرى، وقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون].
ومنها مساومة بعضهم من غير أهل مكة له أن يجعل أرضهم حرامًا كالمسجد الحرام الذي حرمه الله. ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء.
وينهى الله نبيه أن يداهنهم في دينه أو يقبلَ المساومة في شيء منه، فيرضى بأنصاف الحلول معهم، والالتقاء بهم في منتصف الطريق: فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:8، 9]. ودوا لو تلينُ لهم وتداهِنُهم وتتنازلُ لأجلهم عن بعض الإسلام، ليُدهنوا لك ويَلِينوا؛ فيتخلوا عن بعض دينهم.
ولكن النبي كان حاسمًا في دين الله، لا يداهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا ذلك ألينُ الناس جانبًا وأحسنُهم معاملة وأحرصُهم على اليسر والتيسير.
لقد كاد النبي أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما لا يمس العقيدة بتشويه ولا إنقاص، كأن يجعل لكبراء المشركين عنده مجلسًا لا يجلس فيه معهم فقراء المسلمين، فهَمَّ بذلك ترغيبًا لهم في الإسلام لولا أن ثبّته الله، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً [الإسراء:74].
ويا ترى! ما الجزاء الذي سيلاقيه النبي لو أنه ركن إليهم شيئًا قليلاً، فداهنهم وأجابهم إلى بعض ما يطلبون؟ قال تعالى: إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:75]. هذا جزاؤه لو ركن إليهم شيئًا قليلاً، فأجابهم إلى بعض ما يسألونه مما لا يمس جوهر العقيدة، فكيف هو الجزاء لمن ركن إليهم شيئًا كثيرًا؟!
واليوم يُعاود أعداء الإسلام مساومة الأمة على دينها بطرق خبيثة ماكرةٍ، فهي لا تعمِد إلى العقيدة في جوهرها، ولكنها تنقُصُ الشريعةَ من أطرافها تشكيكًا وتشغيبًا، حتى إذا كثُر الطَرْقُ والإلحاح أصبح كل شيء في دين الله قابلاً لإعادة النظر والمنازعة.
وللأعداء في هذه المساومة أعوانٌ مستخدَمون لهم مغرَّرون، ينوبونهم في المساومة وهم لا يشعرون، يقصدون بزعمهم تحسين صورة الإسلام، فيهدمون بعضًا من قطعياتِه في الفروع وربما في الأصول؛ لأن أحكامها لم تَرُقْ للغربيين، وراموا تبديلها أو تعطيلها إرضاءً لهم، ولكن الله يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. فمهما تنازلتَ عن شيء من شرائع الإسلام ومهما عطلت من أحكامه فلن يرضوا عنك حتى تنسلخَ من دينك، وليس ذلك كافيًا، بل حتى تتبع ملتهم، فما لم تتبع ملتهم فلن يرضوا عنك.
غير أنه لا غرابة أن يفعل هذا أناسٌ افتقدوا شعورَ الاعتزاز بالإسلام، وأحاطت بهم عقدةُ الشعورِ بالنقص، فجعلوا نظر الغرب ميزانًا للتحسين والتقبيح، وجعلوا البرهان ما اهتدت إليه بصائر أولئك، لا ما دل عليه نص الوحي وهدي النبي.
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4892)
ودوا لو تدهن فيدهنون (2)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الولاء والبراء, قضايا دعوية
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النهي الشديد عن المداهنة في الدين. 2- الحكمة من تحريم المداهنة في الدين. 3- من صور المداهنة في دين الله. 4- شبه وردها في التعايش مع الكفار. 5- صور ليست من المداهنة في شيء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، مما يزيدنا يقينًا بديننا واستمساكًا بأصوله واعتزازًا بقيمه ما نجده في كتاب الله من النهي الشديد عن المداهنة في دينه، ومن التحذيرِ الرهيب من المساومة على شيء من أحكامه ولو في أحلك الظروف، ولو بقصد خدمة الدين والحفاظ على مسير دعوته.
ولم يكن النهي عن المداهنة ليبلغ ما بلغه من الزجر والتخويف لولا أن المداهنة تناقض حقيقة التسليم والإذعان لله، ولولا أن ما يُساوم عليه حقٌ ليس بعده إلا الضلال، ولولا أن المداهنة في ذلك تشويهٌ للحقيقة فإعادة النظر فيها تشكيك في اليقينيات، فلا يقبل المداهنة في أصول الشريعة إلا من وقع في روعه أن أحدًا يسعُه الخروجُ عن بعض الشريعة.
والتأكيد على هذا التحذير والنهي يُحيي في قلب المسلم شعورَ الاعتزاز بالإسلام، ويزيدُه يقينًا بأصوله بعد يقين، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79].
وتأمل كيف أن النهي عن المساومة في أصول الدين وقطعياتِه جاء في أول أمر الإسلام، يوم كان أهلُه مستضعفين مضطهدين، وبهم من الحاجة إلى مصالحةِ المشركين ومهادنتهم واتقاء مصادمتهم ما ليس بأحد سواهم، ومع ذلك لم يُرخّص لهم وهم في تلك الحال العصيبة أن يساوموا في دينهم، لترفع عنهم قريش من وطأتها واضطهادها؛ لأن مصالحتهم من خلال المساومة في الدين لا يكون إلا على حساب العقيدة والإذعان المطلق لله.
لقد جاء النهي عن المساومة في الدين مصاحبًا لتنزّل أصول التوحيد؛ لأنه نهي متمم لبناء العقيدة، ولا قيام لبنائها إلا بالنهي عن كل ما يضادها ويقوِّض أصولَها، فلم يكن بدٌ أن يتقدم النهي عن المساومة حيث تقدمَ تنزّل العقيدة.
وهكذا لم يُردِ الله أن يُرجئ نهيه عن المداهنة في دينه حتى تظهر للإسلام شوكة وتقوم له دولة وقوة، بل جاء مصاحبًا لتنزل العقيدة أول الوحي؛ لأن النهي عن المداهنة ليس نهيًا عن شيء استغنى عنه الإسلام بقوته ومنعته، فلا يتوهم متوهم أن النهي عن المساومة في قضايا العقيدة إنما هو من أجل أن الإسلام قد استقوى فاستغنى عن مداهنة المشركين وقبول مساومتهم.
إن أصول الدين وقطعيات الشريعة وحدة متصلة الحلقات، بعضها آخذ ببعض، وإن انتقاص حلقة منها هو في الحقيقة فصمٌ للعروة الوثقى. وما المداهنة في دين الله إلا صورةٌ من صور الانتقاء والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.
أيها الأحبة الكرام، ليس بالضرورة أن تقع المداهنة في صورة المفاوضة والمساومة المباشرة مع أعداء الإسلام على غرار معاقدات الصلح والهدنة، أو كما وقع للنبي مع قومه حين سألوه أن يُدهن لهم فيُدْهِنوا له، وعرضوا له تنازلات ليعاوضهم بتنازلات في دينه.
فليس بالضرورة أن تقع المداهنة في هذه الصور التفاوضية، فقد تقع المداهنة في دين الله والمساومةُ على العقيدة مبادرةً من ضعاف النفوس، استجابةً لضغوط الواقع ورهبةً من تخويف الأعداء.
وقد تأتي المساومة في أصول الدين من خلال قولبه الإسلام في صورة جديدة تطفئ غضبَ الغرب! وهل ستكون تلك الصورةُ الجديدةُ إلا صورةً مجتزئةً مشوَّهةً مُنكرَةً، تقلِّب فيها ناظريك فتفتقدُ منها عقيدةَ الولاء والبراءِ، وتتحسّس فيها شعيرةَ الجهاد فلا تجد من مراتبها إلا جهادَ النفس والشيطان؟!
وقد تأتي المساومة في أصول الشريعة من خلال الدعوة إلى انتهاج منهج الشك في البحث عن كل حقيقة ولو في مسلمات العقيدة، وحقيقة هذا المنهج الخبيث هو أن لا تؤمن حتى تكفر، وكم من راكبٍ لهذا المنهج بدأ بالشك في كل شيء حتى في مسلمات العقيدة فما ازداد إلا حيرة، وما انتهى إلى يقين يطمئن إليه، وحار عليه سلاحه، واستهدى بطريق مضل، حتى اخترمته منيتُه وهو بعدُ في ريبه يتردد وفي شكه يتقلب، وَودَّ لو يموت على عقيدة عجوزٍ أُمِّيَّة، تقبّلت وحي ربها بقبول حسنٍ، وصدقت بكلمات ربها وكتبه، وسلمت تسليمًا، وما بدلت تبديلاً، فوجدت من بَرْدِ اليقين ما يحفظها من حرقة الشك، وذاقت من حلاوة الحق ما يحجب عنها مرارةَ الضلال.
وللمداهنة في دين الله صورها الكثيرة التي ترسمها رغبات الأعداء، ويملونها على ذوي القلوب المنخوبة من أبناء المسلمين ليُدهنوا لهم في دين الله.
ومن صور مداهنة الأعداء في دين الله اليوم عدم تكفير اليهود والنصارى، واعتقاد أنه يَسَعُهم أن لا يدخلوا في الإسلام، بحجة أنهم أتباع نبيٍ كما نحن أتباع نبي آخر، فيسع كل واحد أن يعبد ربه بأي ملة يختارها ما دام أنه يتبع فيها نبيًا من الأنبياء، وهي حيلة يحتالونها ليسُلُّوا سخائمَ قلوب المسلمين على اليهود والنصارى، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
ولا جرم أن الغاية من ابتعاثِ هذا المذهب الجديد هي تقويض عقيدة البراء في الإسلام، فإذا كان اليهود والنصارى على دين حقٍ فلِمَ إذًا بغضُهم والبراءةُ منهم؟!
وكم نحن في غنى عن التكلف لإبطال هذا المذهب الخِداج، أو الانشغالِ بدحض شُبهه وتقوّلاتِه لولا اغترارُ بعضِ الأغرارِ بزخرف قولهم وتصديقُهم لشبههم.
ومن شُبههم في ذلك ما استدلوا به من ظاهر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]. قالوا: لم يُبطل الله دين اليهود والنصارى والصابئين بل وعدهم والمؤمنين بالجنة في الآخرة، فكيف تحكمون بكفرهم وهم بالجنة موعودون؟!
والجواب: أن الله لم يعدهم بالأجر ودخول الجنة إلا بثلاثة شروط: أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح وأن يعملوا صالحًا. وأهل الكتاب اليوم لم يحققوا توحيد الله كما جاءت به رسلهم، ولم يؤمنوا به الإيمان الصحيح، بل اعتقدوا فيه جل جلاله ما يتعاظم أحدُنا أن يحدث به نفسه فضلاً أن يتفوّه به أو يعتقدَه. كما أنهم لم يحققوا شرط العملِ الصالح، كيف وهم يتبعون كتبًا محرفة مليئة بالأباطيل والضلالات؟! فإذا حققوا تلك الشروطَ الثلاثة فقد دخلوا لزامًا في حقيقة الإسلام الذي جاء به النبي ؛ لأنه لا سبيلَ لتحقيق تلك الشروطِ إلا باتباع النبي ، فالوحي الذي جاء به يكشف تحريفَ ما عند اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فمن اتبعها فقد ضل عن التوحيد الخالص والإيمانِ الصحيحِ والعملِ الصالح. ولأن من شرط الإيمان بالله الإيمان برسله جميعًا، وأولئك لا يؤمنون بالنبي ، بل يحاربونه ويجرِّمونه ويصفونه بأقذع الألقاب ويسعون لتشويه صورته بكل سبيل.
وليعلم المتعلقون بهذه الشبهة أن سياق الآية أنما هو لبيان أن العبرة ليست بالانتماء الظاهر والانتسابِ الصوري، وإنما العبرة بتحقيق ما أمر الله به من توحيده وعبادته واتباع رسله، فمن حقق ذلك فقد أسلم وجهه لله وهو محسن.
كما أن من مفاد الآية أن دخول الجنة ليس قصرًا على أتباع النبي ، بل يدخلها معهم أتباع الرسل والأنبياء من قبله باستثناء من أدركوا بعثته ولم يؤمنوا به. فالآية على هذا إخبار عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به الرسل من غير تحريف ولا تبديل ولا عصيان، وماتوا على ذلك قبل بعثته.
أما من أدرك بعثته أو بلغته رسالته فلا يسعه إلا اتباعه ، وقد صرح النبي في ذلك تصريحًا لا يحتمل التأويل فقال: ((والله، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار)) ، وقال: ((لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي)).
ثم يستدل أولئك بشُبهةٍ أخرى، في قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. قالو: ها قد أثنى ربنا على النصارى، وأخبر أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ولولا أنهم أتباع دين حقٍ ما أثنى عليهم، فلماذا إذن معاداتهم وتكفيرهم؟!
والجواب: أنهم على دين حقٍ لو لم يحرفوا ويشركوا بالله. وكونهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا لا يلزم منه أن يكونوا على ملة صحيحة ولا عدم تكفيرهم، فأبو طالب كان أقرب الكفار مودة للنبي ، بل كان أكثر الناس له نصرةً وحماية، وما شفع له ذلك أن يستغفر له النبي ؛ لأنه مات على غير ملة الإسلام، ولقد قال عند وفاة عمه: ((لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه)) ، فأنزل الله قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]. فإذا لم يجز ذلك للنبي وهو أحرص الناس على دين الله وأرأفهم بخلقه فأولى أن لا يجوز ذلك لغيره، ومن فعل ذلك فترحم على من مات على غير ملة محمد فقد أخطأ وخالف الحق ورُدَّ عليه أمره ولو كان عالمًا، فإنما نحن بما في الكتاب والسنة متعبّدون ولما فيهما متبعون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فليس من المداهنة في دين الله في شيء مصالحة الأعداء تحصيلاً لمصلحة أو درءًا لمفسدة؛ فقد صالح النبي كفار قريش بشروط رآها بعض الصحابة عند أول وهلة من إعطاء الدنية في دين الله، وصالح اليهود في المدينة، وكان لهم فيها ديارٌ وأملاك، ولم يكونوا محتلين كما هو شأن يهود فلسطين.
لقد سأل المشركون النبي الصلح فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه ليس في الصلح مداهنة تجعل الشريعة عَرَضًا للمزايدات، ولأنه لم يكن قتالهم غايةً يهدف إليها، ولم يكن ليسلك سبيل المواجهةِ والحربِ وهو يجد إلى السلم والصلحِ سبيلاً، فإنْ أحد حال بينه وبين تبليغ الناس دعوةَ ربه فما من مواجهته وحربه من بُدٍ.
كان سمحًا رحيمًا صبورًا حليمًا، يَلينُ في أيدي الناس ولا يرد سائلاً، ولكنها سماحة من غير مداهنة في دين الله، كان موقفه فيها الحزم والصرامة، لا يختلف في حال الضعف عنه في حال القوة والمنعة, وأظهر ما يدل على ذلك ما رُوِي في سيرته أنه لما سأله كفارُ قريش أن يترك سب آلهتهم وأن يسكتَ عن تعييبِها والحكمِ على دينهم بالضلالة، وله عليهم إن فعل ذلك أن يتركوه وما اختار من دين يتعبد به ربه، قال مقولته الشهيرة التي قطعت أمل كل مريدٍ له على المداهنة والمساومة في دين الله، قال: ((والله يا عمِّ، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلكَ فيه، ما تركته)).
واليوم يسألنا أهلُ الكتاب ما كانت قريشٌ تسأله رسول الله ، يسألنا أهل الكتاب أن نداهن في دين الله، فنعتقد أننا وإياهم على دين حقٍ وإن اختلفت الملل، وأن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
على أنه يجب أن يُعلم أنه ليس من المداهنة في دين الله أن نقيمَ علاقات تجارية مع دول كافرة، ليس في شيءٍ من ذلك مداهنة ولا مساومة؛ لأنها متحققة من غير تقديم تنازلات في العقيدة أو براءة من بعض الأحكام الثابتة.
وحين نرفض أيَّ صورة من صور المداهنةِ والمساومةِ فلا يقعنَّ في حسبان أحدٍ أننا نسعى بذلك أن نعيش عزلةً عن العالم بقطع علاقاتِنا بالدول الكافرة، ومن يفهم هذا الفهم الخاطئ فليتَّهم فهمَه لمعنى المداهنة في دين الله.
اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/4893)
الشباب والزواج (1)
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النكاح فطرة. 2- مراعاة الإسلام للفطرة. 3- الإسلام ينهى عن الكبت الجنسي. 4- الوصية بتيسير أمور الزواج. 5- كيف يعظّم شبابُنا رباطَ الزواجِ المقدّسَ؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، الذكر والأنثى طرفا الزوجية، وقاعدة في الخلق عريضة، تتجاوز بني الإنسان لتشمل الحيوانات والنبات وما سوى ذلك، ولا يخلق أحدهما إلا وله شطر، وله بقية تقتضي وجوده ضرورة لامتداد الحياة وعمارة الأرض، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
لقد ركب في الذكر ميله الفطري للأنثى، كما ركب في الأنثى ميلها الغريزي للذكر، ولله في ذلك الحكمة البالغة، فهو ميلٌ فطري طبيعي، له وظيفته في الحياة، وظيفةُ بقاء النوع وحفظِ النسل.
ولا بد لهذه الوظيفة أن تُؤدَّى؛ ضمانًا لبقاء النوع، ومن أجل ذلك ركب في فطرة الإنسان دوافعُ غريزية جعلته يؤدي هذه الوظيفةَ وهو في أغلب الأحوال غيرُ شاعرٍ بها ولا قاصدٍ لها، إنما قصده إفراغُ شهوته وقضاءُ نَهمته، مدفوعًا إليها بدافع الفطرة.
والإسلام يمتاز بواقعيته ومراعاته للفطرة، فجاءت تشريعاتُه وتكاليفُه لتهذِّب الفطرة وترفعَها، لا لتكبتَها وتقمعَها؛ فراعتْ ذاك الميلَ الفطري الذي يحسه كل طرف تجاه الآخر، وأقرّته إقرارًا يضمن السلامة ويأمن العاقبة، وليس هو بالإذن المطلق الذي يُفضي إلى الفوضى، وأخذت تشريعاته ترتقي بهذه الفطرة صُعدًا إلى حيث تكون كرامة الإنسان في علياء بعيدًا عن النزوات البهيمية، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29].
والإسلام حين شرع حد الزنا لم يكن غافلاً عن الدافع الفطري أو محاربًا لها، فقد علم الله جل جلاله أن لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول الغريزية، ولا خير لهم في كبتها واستئصالها، إنما أراد سبحانه أن يهذب هذه الفطرة ويوجهها الوجهة التي لا يكون معها فسادٌ ولا فوضى، والنفس حين تجمح بها الفطرة عن سواء الصراط لا بد من قسرها وزجرها، ولا بد أن يقام لها زاجر يردّها إلى الصراط كلما ندّت.
والغريزة لا ترتقي إلا بالتهذيب والضبط وبتضمينها غاياتٍ أسمى من مجرد إتيان الشهوة وإشباع الرغبة، ولا يكون ذلك إلا حين تحاط الغريزة نفسُها برباط مقدسٍ يقيِّدها ويقرنها بتبعاتٍ ومسؤولياتٍ، تجعل الإنسان مؤديًا لوظيفة لا مجرد ستمتعٍ بشهوة.
لقد شرع الإسلام الزواج طريقًا أوحدَ لإشباع هذه الغريزة، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، وهذا في نظر العقلاء ضبطٌ للغريزة لا كبتٌ لها.
إن الكبت يعني حبس النفس عن إشباع غريزتها، وما هو إلا الترهبُ الذي حرّمه الإسلام، وأنحى على فاعليه الراغبين عن الزواج تعبدًا لله وتقربًا إليه، فقال : ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
والذين يحذِّرون من الكبت وما ينشأُ عنه من إضرارٍ وعقدٍ نفسيةٍ سيجدون الإسلامَ قد سبقهم إلى محاربة الكبتِ والتحذيرِ منه، وذلك بالنهي عن التبتل، وحثِّ الشباب على الزواج، ودعوةِ المجتمع إلى تيسيره. فقد صح عنه أنه كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: ((تزوجوا الودود الولود؛ إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) ، وصح عنه أنه قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وِجاء)) ، وقال الله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
لقد سمّى اللهُ الزواجَ إحصانًا أي: وقايةً وصيانة، ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاءَ بدون إحصانٍ ولو فترة قصيرة أمر لا يحبذه الشرع؛ فهذا الإمام علي يقول وقد سارع بالزواج بعد وفاة زوجِه فاطمة: (لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب).
إن أقوى ما تكون هذه الشهوة في سن الشباب، فإن لم يتيسّر له وضعُها في الحلال فيوشك أن يضعها في الحرام؛ لشدة منازعتها وتأججها إلا من عصم اللهُ، فلما كان في النكاح استعفافٌ عن الحرام كان مبتغيه مأجورًا عليه لهذا المعنى.
وكما يكون مأزورًا إن وضعها في الحرام فهو مأجورٌ إن وضعها في الحلال، وجاء في الحديث: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
أيها الآباء الكرام، ما منا أحدٌ إلا وهو يكره أن يرى شابًا من شباب المسلمين قد زلّت به قدمه إلى فاحشةٍ؛ فأصبح غرضًا مستهدفًا لشبكات البغاء والدعارة، وما منا من أحد إلا ويغار على حرمات المسلمين أن تنتهكَ وتَلغَ فيها الذئاب، وما منا من أحد إلا وهو كارهٌ أن تشيعَ الفاحشةُ في مجتمعات المسلمين. فلماذا إذن كل هذا الإشقاق والإعناتِ في الزواج؟! لماذا إذا جاءنا أحدُهم يطلب الأمر من حِلّهِ ويطرقُ الحلال من بابه أوصدناه دونه وأقمنا له من الأحمال ما يثقل كاهله ويعوزُه للديون ويكرِّهُه في طِلبته؟! أهكذا تكون إعانتُنا له على ابتغاء الحلال وتيسيرُه له؟!
سيقول بعض الآباء: معاذَ الله أن نكون قد قصدنا كل هذا الإشقاقِ والإعنات للخاطب ونحن الذين قد رضيناه لبنتِنا زوجًا، وفرِحْنا لرغبته في الحلال عن الحرام.
ونحن نقول: وما الفائدة أن نكون قاصدين له العنت أو غيرَ قاصدين فرحِين لابتغائه الإحصان أو غير فرحين إذا كان الواقع هو هذا؛ مغالاةً في المهور، وبذخًا في الأعراس، وإعناتًا في الشروط؟!! وما أثرُ سلامةِ النية وبراءتِها عن هذا القصد إذا كانت النتيجةُ واحدة؟!
كم هو عجيب أمرنا! نتذاكر سماحة الإسلام ويُسرَه إذا توجّهت إلينا تكاليفُه، فإذا جاءنا خاطبٌ يبتغي العفاف في النكاح نسينا سماحةَ الإسلام ويُسرَه، وتذكّرنا شيئًا واحدًا، وهو أن بناتِنا لسْن بأقل حظًا ولا قدرًا من غيرهن، وكأننا في سباق مضاهاةٍ وسمعة.
فلندرك أن سماحة الإسلام في تكاليفه ويُسرَه في تشريعاته فيه تربية لنا على السماحةِ وتعويدٌ لنا على التيسير؛ فلْنتَحَلَّ بحُلّة الإسلام، ولنجعل من سماته سَمتًا لنا في سلوكنا وأخلاقنا.
لنتذكّر ـ ونحن مصرّون على تعسير الزواج ـ أنَّ الفاحشةَ قد ذلِّلتْ أسبابُها للشبابِ تذليلاً، وكثرت أمامَهم مُغرياتُها، وبرزت للعِيان إغراءاتُها، وصارت غرضًا قريبًا، والسفر إليها قاصدًا غيرَ بعيد الشقة؛ فلنجعل من سُبُلِ مجاهدة الفاحشة تيسير عقبات الزواج؛ تطهيرًا للمجتمع من نتنِها وفتنتها.
ولنتذكر أن تواطؤَنا على هذا الإعنات قد يدفع كثيرًا من شبابِنا إلى ابتغاء الحرام؛ فالحلال قد تعسَّر لهم، ولا بد لهم من إشباع الغريزة، وهم مع ذلك ملومُون غيرُ معذورين، فلا نكن عونًا للشيطان عليهم.
وأين نحن من فعل لوط عليه السلام يوم دعا قومَه للزواج ببناتِه ليصرفهم عن الفاحشة؟! وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:78، 79].
إن الأمر الذي يعالجه نبينا لوطٌ عليه السلام هو ولا شك مغايرٌ للأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه بعضَ المغايرةِ، من حيث دعوته قومه إلى الزواج ببناتِه الطاهرات العفيفات، وهو الذي لم يَخْفَ عليه فجورُهم، وما اضطره إلى ذلك إلا درءُ مفسدةٍ أكبر، وهي عزمهم الصارم على فعل الفاحشة بضيفه، إلا أنه مع ذلك تَبقى له دلالتُه الظاهرةُ على أن من سبل محاربة الفاحشة تيسيرَ أمر الزواج.
إن الدعوةَ إلى تيسير الزواج لا تعني الرضا بأي خاطب، بحيث تُزفُّ العفيفةُ للفاجر، وتُزوَّجُ ذاتُ الخلق بسيئ الخلق، إنما هي دعوة تتمثّل وصيةَ رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض)).
نعم، نريد من شبابِنا أن يُعظِّموا رباطَ الزواجِ المقدَّس، وأن يقدُروه حقَّ قدره، ويستشعروا مسؤوليتَه، ولكن ليس من تعظيم رِباطه المقدّسِ أن نُشقّ على طالبيه بفرض الرغبات ونجعلَ من أموالهم مادةً للمباهاة. وليس من تعظيم مسؤوليتِه في أعينهم أن نُعْنِتَهم بفرضِ الشروط والمغالاة والبذخِ، بل ما أكثر ما يكون ذلك سببًا في الشقاق وتأجيجِ النزاعِ لأتفه الأسباب.
لو كانت المغالاةُ في المهور والبذخُ في الأعراس يزيدُ من تعظيم الشباب لرباط الزواج المقدس إذن لشرعه الإسلام سبيلاً يهدف إلى هذا المقصد الشرعي، ولَمَا قال : ((خير النساء أيسرهن صداقًا)) ، ولما نهى عمر عن المغالاة في المهور تأسّيًا برسول الله : (ألا لا تغالوا في صُدُق النساء ـ أي: مهورهن ـ، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسولُ الله ، ما أصدق امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأةٌ من بناته أكثرَ من ثنتي عشرةَ أوقية).
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن تعظيم الرباطِ المقدس لا يكون بالإشقاق والمغالاة، كما أن تذليلَ الطريقِ إليه لا يكون سببًا للاستخفافِ به.
إن من تعظيم رباط الزواج المقدس أن لا يرضى الولي لفتاته إلا من رضي منه دينَه وخلقَه، وإن من الاستخفاف بالرباط المقدس أن يزوجَها من يعلم أنه ليس لها بأهل في دينٍ ولا خُلُقٍ.
وإن من الاستخفاف برباطِ الزواجِ المقدس أن يزوج الولي فتاته لأول خاطبٍ قبل أن يتحرَّى بالسؤال عن دينه وخلقه، فهذا استخفاف به ولا شك ولو غالى في مهرها أو بذخ في زفافها.
ولا بد هنا من لفتة إلى مسألة مهمة وهي أن التحري عن الخاطب يجب أن يكون في الخلق كما يكون في الدين، فلا يدفع الولي إعجابُه بِشَارَتِه وسَمْتِه وصلاحِ ظاهرِه إلى أن يتساهلَ في التحري عن خُلُقِه، فالدين معاملةٌ، كما هو عبادة، وإنما قال الرسول : ((من ترضون دينه وخلقه)) ، فنصَّ على الخُلق، لأن الزواج علاقة وطيدة بين روحين وجسدين، ولا صلاح لهذه العلاقة إلا بحسنِ الخلق والمعاملة، ولذا قال بعض السلف: "إذا زوَّجت ابنتك فزوجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها".
إذا أردنا أن يعظّم شبابُنا رباطَ الزواجِ المقدّسَ فلنُهيِّئهم لذلك بعُدَّتِه الصالحة، وبالتربية الفاضلة التي تجعلهم يُعظّمون حقَّ كلِّ ذي حق، ويأخذون الإسلام بشموليته، فلا يقدّمون مفضولاً على فاضل ولا مهم على أهم.
ولن يعظم شبابنا رباطَ الزواجِ المقدس ما لم يفهموا طبيعة العلاقة بين الزوجين، وأن يدركوا مقاصد الزواج، ويعرفوا حقَّ كلِّ طرف على الآخر.
ينبغي قبل أن يُقدمَ الشاب على الزواج أن يتذكّرَ أن الله سمى النكاح ميثاقًا غليظًا، وجعله سكنًا يتبادل فيه الزوجان المودةَ والرحمةَ، وأن يتذكّر بأن الزواج علاقةٌ بين روحين ونفسين قبل أن يكون علاقة بين جسدين، وأن يتفهّم مع ذلك طبيعةَ المرأة وأن يستحضرَه كلَّ حين؛ حتى يعرفَ كيف يعالجُ الأمور ويسددُ النقص والخلل.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم حبب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين...
(1/4894)
الشباب والزواج (2)
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التريث والتأني في طلب الزوجة. 2- وصايا للأزواج. 3- حكم النظر للمخطوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، من صفات الناجحين في الإدارة والتجارة التخطيطُ للعمل قبل التنفيذ، والدراسة قبل الممارسة، والتأني قبل الإقدام، واستشراف المستقبل بمُعْطَيات الحاضر، حتى إذا أقدموا أقدموا بخطى راسخةٍ ورؤيةٍ واضحة، وينفرد مؤمنهم بتوكّلٍ على الله متينٍ يمده بالثقة والطُمأنينة واليقين.
فإذا كان كل هذا التخطيط والاحتياط والاهتمامِ في مشروعاتٍ قد لا تمتدُّ مُدّةَ بقيةِ العمر، فكيف إذا كان المشروعُ هو مشروعَ العُمُرِ، المشروعَ الذي يُبنى فلا تُراد له نهايةٌ إلا نهاية العمر نفسِه؟! ذاك المشروع الذي يتجاوز غنمه وغرمه المال والمادة إلى ما هو أعظم وأعمق، إلى النفس وما ينشأ عنها ويتولد منها. أليس أحقَها بكل هذا الاجتهاد والاحتياطِ هذا المشروعُ الذي يتغيّر به مسارُ الحياةِ ويختلف به نمطُها، فيُدلف بصاحبه إلى حياةٍ جديدةٍ لم يَعِشْها إلا في عالم الخيال، إلى حياة لها مذاقها الخاصُ وطبيعتُها الخاصة؟!
إنه مشروع الزواج، سنةُ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. إنه المشروع الذي ينسلخ به الشاب من حياةٍ ليلبس حياةً جديدة تستغرق حياته الباقية، فيبني فيها الشاب علاقتَه الخاصةَ ولكن على طريقٍ مباحة، والتي هي أعمق وأخص من كل علاقة، علاقةٌ تقتحم الخصوصيات، وترتفع فيها الكلفة، ويزول فيها الحرج؛ وهذا يتقاضاه أن تكون بدايتها صحيحة، لا يخطو فيها خُطوةً إلا وقد فكّر وقدّرَ، واتَّأدَ وتأنّى، وعرف أين تتوجّه به خُطاه.
ولا يتطلب هذا الاهتمام والتأني أن يستغرق الشاب في تحريه لصاحبته سنواتٍ تذهب فيها زهرةُ شبابه دون أن يقع على طِلبته، ولا يستدعي هذا الاهتمام أن يشترط شروطًا تعِزُّ عند الطلب وقد لا توجد إلا في خياله. كما لا ينحصر الاهتمام المطلوب في الاجتهاد في البحث عن طلب أفضل النساء فحسب، فمن الاهتمام المطلوب أن يستعدَّ للزواج بالقراءة في ثقافتِه وآدابِه وأحكامِه الشرعية الخاصة، وأن يتعرف على طبيعة العلاقة فيه، وعلى ما لكل زوج على صاحبه من حق، وأن يكون مدركًا لأهدافه الرفيعة، والتي يضمن إدراكُها والطموحُ إلى تحقيقها أن يتسامى الشاب في معاملةِ زوجه عن كل ما لا يليق من خُلُقٍ وسلوك.
فهذه القضايا هي أولى ما يجب أن يهتم له الشاب، وأحرى أن تتوجّه إليه نصائحُ الوالِدَين أكثرَ من أيِّ قضيةٍ أخرى.
إن لهذه القضايا المهمة أوثقَ العلاقة بصلاح الحياة الزوجية أو فسادها، ولا نحسب الجهل بهذه القضايا إلا عاملاً مهمًا في فشلها، يجب أن يُذكرَ إذا ذُكِرتْ أسبابُ فشلِ الحياةِ الزوجية.
وإذا إقيمتْ دوراتٌ تدريبية في فن التعامل مع الناس فلتُقَمْ من باب أولى دوراتٌ في فن التعامل مع الزوجة ومع الزوج. وإذا دُعي الشباب إلى دورات تأهيلية في بعض العلوم والفنون فما أحراهم أن يُدعوا إلى ما يؤهلهم إلى حياة زوجية كريمة، يعيش في كنفها زوجان متوادّان متراحمان.
وهذه جملة وصايا نوصي بها كل مدلفٍ إلى حياته الأخرى إلى الحياة الزوجية، عسى أن تنفعه فتكونَ له كالنبراس الذي يهتدي به السُّراة.
اعلم ـ أيها الشاب ـ وأنت على أشرافِ هذه الحياة أنك مقبلٌ على عمل لك فيه أجرٌ عظيم لو أحسنت النية، فأحسن النية تُوفّق إلى حُسن العمل والمعاملة، ويُيسَّر لك مبتغاك، وتذلَّل لك صِعابُه.
صحيح، إنه لمن المستبعد أن يكون لأحد في ذلك نية خبيثةٌ، ولكن من الوارد جدًا أن يذهل الشاب عن احتساب النية الصالحة في زواجه، فلا تذهلنّ عنها، فقصد الاستعفافِ بالحلال عن الحرام نيةٌ صالحةٌ، وابتغاءُ الولد من المنبت الحسن نية صالحة، وإحصانُ المرأة وإعفافُها نية صالحة، وكل قصد صالح فهو نية صالحة تؤجر عليها ولو وجدت فيها لذّتَك ومُتعتك، فذلك من واسع فضل الله ورحمته.
أيها الشاب، إن في كل أمة عظماء تفتخر بهم، وتتبنَّى منهجهم ودعوتهم، وتصدرُ عن آرائهم وحِكَمِهم، وتتخذ منها معيارًا تحتكم إليه وميزانًا تزِن به. وفي أمتنا عظماءُ، أعظمُهم وأشرفُهم هو أشرفُ البشر كلهم وأزكاهم وأتقاهم، فأين نحن من وصاياه ؟! وأين نحن من فيض حكمته وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى؟!
هذه وصاياه مبثوثةٌ في كتب الصحاح والسنن، محفوظةٌ معصومةٌ لم تخرج إلا من مشكاة النبوة، فهل استقرّت في أذهانِنا واستودعناها في صدورنا فجعلناها منطلقًا لنا في ابتغائنا لأم أولادنا وسكنِ نفوسنا؟!
فتذكّر ـ أيها الشابُّ ـ وأنت تلتمسُ من بين النساء رفيقةً لدربك أنك تبحث عن أمٍّ لأولادك ورفيقًا لدربك وراعيةٍ لبيتك؛ فلتكن حاضرةً في ذهنك وصيةُ رسول الله : ((تُنكح المرأة لأربع: لجمالها ولمالها ولنسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبتْ يداك)). ورسول الله لم يُلغِ المطلوبات الأخرى حين رغّبك في ذات الدين، وإنما جعلها مطالب لا يجوز أن تتقدمَ هذا المطلب المهم، ولا أن يُتغاضى عنه لأجلها.
إن لك ـ أيها الشاب ـ أن تبتغي الجميلة، ولكن اطلبها بشرطها، وشرطها أن تكون ذات دينٍ وخُلق، فهذا هو المطلب الوحيد الذي لا مجال فيه للإغضاء أو التنازل.
وكثيرًا ما تطيش بالخُطَّابِ الرغباتُ وتستبدُ بهم الشهوات؛ فتجرفُهم في ويلاتها بسبب جمالٍ فاتن أو مالٍ وافر أو جاهٍ بازٍّ لا يكون وراء ذلك حصانة من دين أو خلق، فتكون الحياة الزوجية شرًا ونارًا تنفذ جمراتُه في جوانح الزوجين، ثم ينتقل أثره إلى الذرية، فتتصدع أواصر الزوجية، وتتقطع روابط الأسرة، ويتسع الشقاق والنزاع، ثم يحصل أبغض الحلال؛ لأن الأساس الذي قام عليه الزواج كان طمعًا دُنيويًا لم يُراعَ فيه وازعُ الدين.
إذًا فالاختيار الصحيح سياجُه الدين والخلق الكريم الذي هو أعظم العواصم من قواصم المشاكل الزوجية؛ لأن ركيزةَ الدين هي القاعدة السليمة لحل أيّ خلاف بعد نشوئه، ولاجتنابه قبل وقوعه، ولا أمان لمن لا إيمان له.
أيها الشاب، من حقك أن تعرف حقوقك التي منحك إياها نبيك ، وأن تأخذها كاملةً غيرَ منقوصة، ولا غضاضة عليك أن تطالب بها.
فمن حقك أن ترى مخطوبتك، فالحاجة إلى النظر إليها داعيةٌ، والتوكيلُ في مثل هذا لا يجدي جدواه المرجوة؛ فالأذواق تختلف، والوصفُ لا يبلغ مبلغَ الرؤية، وما يعجب غيرَك قد لا يعجبك، وقد يستحسن ما لا تستحسنه، والجمال أمر نسبي، وللنظر وقعه في النفس، فقد تنقبضُ النفس من شخص بمجرد رؤيته، كما تنشرح لآخر برؤية مجردة، فالأرواح جنود مجندة.
أيها الشاب، إن النظر إلى المخطوبة رخصةٌ مستحبةٌ، وليست مباحةً فحسب؛ فقد حث عليها رسول الله غير مرة، فهذا رجل يخبره أنه قد خطب امرأة من الأنصار، فيقول له: ((هل نظرت إليها؟)) ، فقال: لا، فقال: ((اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئًا)) ، ويقول لآخر: ((اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)).
والرخصة أن ينظر إلى ما يظهر منها غالبًا عند محارمها؛ كالوجه والشعر والجِيدِ والساق والذراع، وله أن يكرر النظر، وأن تجلس معه يسيرًا فيحادثها من غير خضوع بالقول ولا مسّ، بشرط حضور وليها، ولا تجوز الخلوة ولا المصافحة ولا المضاحكة؛ لأنها لا تزال أجنبيةًً عنه.
أيها الآباء والأولياء، اقبلوا من نبيكم رخصته، ولا خير لنا في التشديد في أمر وسّع فيه، كما لا خير لنا في التساهل في شيء شدد فيه. ولنعلم أن التشديد في هذه الرخصة أو منعَها قد يحمل الخاطب على سلوكِ طرقٍ غير مشروعة ليرى خطيبته ويتعرف عليها.
والغيرة على الأعراض ممدوحة محمودة ما لم تأبَ رخصة رسول الله وترفضْ ما رضيه لنساء أمته. والذي يفخر بغيرته هذه فيرفض رؤية الخطاب لبناته إنما يتمدح بأمر ذمه الشرع ورخص بخلافه. ولا يجوز للولي أن يتخذ موقفَه هذا من حجب نسائه عن الخطاب دينًا يدين الله به ويحتسبه قربة عنده.
على أن محل هذه الرخصة هو بعد الخِطبةِ التي تتضمن القبول المبدئي؛ حتى لا تصبح نساء المسلمين فرجةً للمتشهِّين والمتلاعبين.
إن ذمنا للتوسع في الرخصة يجب أن يقابله ذمٌ وإنكارٌ لكل تشديد في أمر جاءت الرخصة فيه ووسع فيه الشرع.
ينبغي أن ندركَ أن من الخير لنا ولنسائنا أن ينظر إليهن الخُطّابُ؛ فلأَن ينظر الخاطب إليها ثم يصرف النظر عن نكاحها ويترك خطبتها أهونُ من أن يُحرمَ النظرَ إليها فلا تعجبه إذا دخل بها فيطلِّقها ويردها حسيرةً حزينة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن ضرورةَ الاستعداد للنكاح تقتضي من الشاب استعدادًا نفسيًا وثقافيًا وأخلاقيًا. أما الاستعداد الجسدي فشيءٌ دون هذه المطالب، فالشاب لا يخوض معركة تتطلب بسطةً في الجسم، ولا يطلب مجرد شهوة.
إن الشاب يبني بالنكاح أسرةً ويقيمُ به بيتًا، وهو في ذلك يعامل إنسانًا له روحه وعقلُه اللذان كُرِّم بهما عن الحيوان؛ فالاستعداد لبناء العلاقة بهذا الإنسان بقوة الجسد وكثرة المال لا يكفي ولا يغني. فيكفيك ـ أيها الشاب ـ من هذين أن تكون معافىً في بدنك، عندك قوتُ يومك، لا تستدعيك الحاجة أن تسأل الناس.
إن الأمر في المال أهون، وحاجةُ الشاب إليه أقل من حاجته إلى نضج العقل وسداد الأخلاق، فقد قال الله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
أيها الشاب، إن لكل جديد لذة، ولكل داخلٍ رهبة؛ وحتى تكتمل اللذة وتذهبَ الرهبةُ لا بد من الحكمة وضبط النفس والسيطرة عليها وإعدادِها الإعدادَ المناسبَ لما هي مُقدِمةٌ عليه.
ولتعلمْ أن الحلم هو سيدُ الأخلاق، فمن لم يكن حليمًا بطبعه فليتحلّم بترويض نفسه عليه، وإذا كان العلم بالتعلم فإن الحلم بالتحلم. إن التحلم يعني ضبط النفس أن تُستفَزَّ لأدنى شيء، وهو يفضي إلى الصبر، وحينها يملك المرءُ في ساعة المغاضبة لسانَه ويدَه، فلا يقول سوءًا ولا يبطش بظلم.
ولتعلمْ ـ أيها الشابُ ـ أن سرعة الغضب هو مادة الحمق، وهو وئيدُ الصبر والحكمة، فامْلكْ نفسك عند الغضب تكن شديدًا مسددًا، فليس الشديد بالصُرَعَةِ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
ولو تأملت ـ أيها الشاب ـ نزاعاتِ الأزواج لوجدت مردَها إلى العناد وسرعة الغضب في غياب من الحكمة والحلم والصبر، فتسلّح بسلاح الصبر والحلم يَسْلمْ لك بيتك بإذن ربك.
واعلمْ أنك واجدٌ في حليلتك مناقصَ وعيوبًا، وليس من تسديد النقص ولا من إصلاح العيب أن تلمِزَها بنقصها وتعيِّرَها بعيبها، وتذكر قبل أن ينطلق في ذلك لسانُك أنك ذو عيوبٍ ومناقصَ، ومن كان بيتُه من زجاج فلا يرمِ غيرَه بالحجر.
فاهدفْ ـ يا رعاك الله ـ إلى أن تكمل نقصَك بما لديها من كمال في جانبه، وأن تكمل نقصها بما لديك من كمال في بابه، فالرجل غالبًا ما يكون نقصُه في الجانبِ العاطفي، وسيجد كمال هذا النقص في عاطفتها الفياضة، والمرأة غالبًا ما تكون ناقصةً في عقلها، وستجد كمال هذا في رجحان عقل الرجل، فلتكن العلاقة بينكما علاقةَ تكاملٍ لا علاقة تضادٍ وتماثلٍ.
ثم اعلم أنك لو فتّشتَ في البيوت لوجدت المشكلات قد دخلت كلَّ بيت، وإنما اختلافها في القلة والكثرة؛ حتى بيوتَ النبي ، ولكن كانت أسبابُها في زوجاته بما ركب فيهن من نقص فطري، وعلاجها في كماله.
إن المشكلات لا تحل إلا بسلاح الحكمة والصبر والحلم، والتعاملِ معها بواقعية تراعي طبيعة المرأة وضعفها، فهذا رسول الله يأتيه غلامٌ بطعام من إحدى نسائه وهو عند عائشة، وكانت صغيرةً لا تحسن الطهي، وربما عجنت عجينها فنامت عنه حتى أكلته الداجن، فلما رأته عائشة غارت وأسرعَ إليها الغضبُ، فقامت ورمت بالإناء فانكسر وتناثر الطعام. فانظر كيف تعامل النبي مع هذا الموقف، كان موقفُه موقفَ الحكمة والأناة والحلم، لقد تعامل مع الموقف بواقعية تستحضر طبيعةَ المرأة وما ركب فيها من غَيرةٍ، فحَلم وما زاد عن أن قال: ((لقد غارت أمكم، إناء بإناء وطعام بطعام)).
هذا نزر يسير من معين سيرة النبي ، إنما هي إشارات وإيماءات من دلالة القليل على الكثير، فإن شئت المزيد فقلب ناظريك في سيرة حبيبك ونبيك محمد.
اللهم أصلح أحوالنا...
(1/4895)
وفاة النبي
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الصحابة للرسول. 2- بداية مرضه. 3- قصة وفاته. 4- الأحداث والوقائع التي حصلت بعد سماع نبأ وفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد من الله على صحابة رسول الله بمنةٍ خصّهم بها وهيأهم لها واصطفاهم بها، فرفعهم بها على غيرهم درجات؛ إنها الصحبةُ، صحبةُ رسول الله ، وكان لها ثمنها من المخاطرة والتضحية والابتلاء، فما نالوا شرفها بالراحة، ولم يُعطَوها بالأمنية، لقد كان الثمن الذي بذلوه لذلك الشرف غاليًا نفيسًا، لا يقوى عليه إلا الصادقون المخلصون، أخرجتهم الصحبة من ديارهم وأموالهم فثبتوا وما وهنوا، وأوذوا في أنفسهم وأهليهم وأولادهم فصبروا وما نكصوا، ومسّتهم البأساء والضراء فاحتملوا كل ذلك بصبرٍ جميلٍ، تغذّيه محبتُهم لرسول الله.
لقد علقت محبتُه بأفئدتهم حتى كان أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم، فذبّوا عن عرضه وحملوا دعوته، وبلّغوا رسالته ونصروا سنته. وبقدر ما كانوا يجدون من الأنس والراحة والانشراح برؤية النبي والجلوس معه وسماع حديثه كان ألم فراق الصحبة، كان شديد الوقع على نفوسهم، فما أصيبوا بمصيبةٍ مثل مصيبتهم برسول الله ، فقد غطت عقولهم وحارت لها فهومهم، وأحلت الدهشة والذهول محل الوعي والبصيرة، وكاد ينهزم لها الصبرُ والثباتُ لولا رحمة الله، مصيبة أنسَتْ ما تقدمها ورقَّقت ما بعدها.
إنها مصيبتهم بوفاة رسول الله ، كان مبدؤها غدرةً من غدرات يهود؛ فإن النبي لما فتح خيبر واطمأن بها أهدت له زينب بنت الحارث شاة مصلية، وقد سألتْ: أي عضوٍ أحبُّ إلى محمد؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيه من السم، ثم سمَّتْ سائر الشاة، ثم جاءت بها، فتناول النبي الذراعَ فلاكَ منها مُضغة، فلم يُسغها ولفظها، ثم قال: ((ارفعوا أيديَكم؛ فإن هذا العظم ليُخبِرُني أنه مسموم)) ، ثم مات بالسُّم بِشرُ بنُ البراء، فدعا بها فاعترفت، فقال: ((ما حملكِ على ما صنعتِ؟)) فقالت: قلتُ إن كنتَ ملكًا استرحنا منك، وإن كنتَ نبيًا فستُخبرُ، ثم أمر بها فقُتلتْ ببشر بن البراء. ثم قال في مرض موته: ((ما زلتُ أجدُ من الأكلة التي أكلتُ بخيبر، فهذا أوانُ انقطاع أَبْهَري من ذلك السُّم)). فكان موته غدرةً من غدرات يهودَ قتلةِ الأنبياء والرسل، وهي غدرةٌ سبقتها غدراتٌ.
ثم ما زال النبي يجدُ ألمَ تلك الأكلة المسمومة يعاوده كل حين؛ حتى إذا حجَّ حجّة الوداع وبلّغ رسالة ربه وأكمل الله للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورجع النبي إلى المدينة ومكث بها أكثر من شهرين إذا بالألم يعاوده كأشد ما يكون، كان ذلك في يومٍ شهد فيه جنازةً في البقيع، فلما رجعَ أخذه صداعٌ في رأسه، واتقدتْ الحرارة؛ حتى إنهم ليجدون سَوْرتَها فوق العِصابةِ التي عُصب بها رأسُه الطاهر.
تقول عائشة: رجع رسول الله من البقيع، فوجدني وأنا أجدُ صُداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: ((بل أنا واللهِ ـ يا عائشةُ ـ وارأساه)). ثم تتامَّ به وجعُه وهو يدور على نسائه؛ حتى اشتد عليه وهو في بيت ميمونةَ، فدعا نساءه فاستأذنهنّ أن يُمرَّضَ في بيت عائشة، فأذِنَّ له.
ثم غُمر رسول الله واشتد به وجعه فوق ذلك، فقال: ((أهريقوا عليّ سبْعَ قِربٍ من آبارٍ شتى حتى أخرج للناس فأعهدَ إليهم)). قالت عائشة: فأقعدناه في مِخضبٍ لحفصة، ثم صببنا عليه الماء، حتى طفق يقول: ((حسبكم، حسبكم)). فخرج عاصبًا رأسَه؛ حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن دعا لأصحاب أحدٍ وترحّم عليهم واستغفر لهم، ثم أوصى بالأنصار خيرًا، فقال: ((أوصيكم بالأنصار خيرًا؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنِهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) ، ثم قال: ((إن عبدًا خيرّه الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ، فبكى أبو بكرٍ وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتِنا. قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ! يخبرُ رسول الله عن عبد خيّره الله بين أن يُؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتِنا! فكان رسول الله هو المخيرَّ، وكان أبو بكرٍ أعلَمنا.
ثم قال : ((إن أمنَّ الناس علي في صحبته ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقينّ في المسجد بابٌ إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر)).
ومكث رسول الله يصلي بالناس وهو مريض أحدَ عشرَ يومًا، كان آخرَها يومُ الخميس، قبل موته بأربعة أيام، فصلى بهم المغرب ذلك اليوم، ثم اشتد به المرض حين حضرتِ العشاءُ، فلم يستطع الخروج إلى المسجد، تقول عائشة: فقال : ((أصلَّى الناسُ؟)) فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب)) ، ففعلنا فاغتسل، فذهبَ لينهض فأُغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب)) ، ففعلنا فاغتسل، فذهبَ لينهض فأُغمي عليه، ثم كانت الثالثةُ كذلك، فقال: ((مُروا أبا بكرٍ فليُصلِّ بالناس)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ ضعيفُ الصوت كثيرُ البكاء إذا قرأ القرآن، فقال: ((مروه، فليُصلِّ بالناس)) ، قالت: فعُدتُ بمثل قولي، فقال: ((إنكنّ صواحبُ يوسف، مروه فليُصلِّ بالناس)) ، قالت عائشة: فوالله، ما أقول ذلك إلا أني كنتُ أحبُّ أن يُصرفَ ذلك عن أبي بكر، وعرفتُ أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبدًا، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدثٍ كان، فكنت أحبُ أن يصرف ذلك عن أبي بكر.
ثم إنه قبل وفاته بيومٍ أو يومين وجد في نفسه خِفّةً، فخرج يُهادى بين رجلين ورِجلاه تخُطّان الأرض من الوجع، وأبو بكرٍ يُصلي بالناس الظهر، فأراد أن يتأخر لما أحس بالنبي ، فأومأ إليه أنْ مكانَك، ثم أُتي به حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فكان يصلي، وأبو بكرٍ يصلي بصلاة النبي، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، في صورة تحكي خلافة أبي بكر للنبي في صحابته.
وفي ذلك اليوم أعتق غِلمانَه، وتصدّق بمالٍ كان عنده، ووهب المسلمين أسلحته.
ولم تكن تلك الأيام الثلاثة التي غاب فيها رسول الله عن إمامته بصحابته إلا ثقيلة شديدة الوقع في نفوسِهم؛ فإنهم لم يعتادوا أن يَفقِدوا رسول الله مُدّةً كتلك المدة.
ثم جاء يوم الاثنين، وما أدراك ما يوم الاثنين، آخرُ يومٍ في حياة الحبيب المصطفى ، ذلك اليوم المشهود الذي كان له شأنٌ آخر ليس كشأن أيام مرضه الأخرى، لقد كان يومًا أولُه فرحٌ واستبشارٌ وابتهاجٌ، وآخرُه حُزن وغمّ وحيرة.
يقول أنس: بينا المسلمون في صلاة الصبح من يوم الاثنين وأبو بكرٍ يؤمهم، لم يفجأْهم إلا رسول الله قد كشف سِتر حجرةِ عائشة، فنظر إليهم وهم صفوفٌ في الصلاة، ثم ابتسم يضحك، فهَمَّ الناس أن يُفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله الذي غيّبته عنهم حُمى المرض، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن الرسول يريد أن يخرج للصلاة، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتَكم، ثم دخل الحجرةَ وأرخى السِتر، وما شعر الناس أن تلك النظرة الحانية الضاحكة الباسمة كانت هي آخرَ نظرةٍ ينظرها رسول الله إليهم، وآخرَ مشهدٍ يرونه فيه.
لقد انصرف الناس وهم يرون أن النبي قد برئ من مرضه، ولكنها كانت آخر صلاةٍ يشهدُها رسول الله بنظره، فلم يأتِ عليه وقتُ صلاةٍ أخرى حتى قضى نحبه وفاضت روحه الطاهرة.
ولما ارتفع الضحى اشتد الوجع برسول الله فدعا بفاطمة رضي الله عنها، فسارّها بشيء فبكتْ، ثم سارّها بشيء فضحكت، تقول عائشة: فسألناها بعد موته عن ذلك، فقالت: سارّني النبي أنه يُقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيتُ، ثم سارّني وأخبرني أني أولُ أهله يتبعه فضحكتُ.
ولما رأت فاطمةُ ما برسول الله من الكرب الشديد الذي يتغشّاه قالت: واكرب أبتاه! فقال: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)) ، ثم دعا بالحسن والحسين فقبّلهما قبلة الوداع، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظن وذكّرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السُّمِ الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: ((يا عائشة، ما أزال أجدُ الأكلة التي أكلتها بخيبر، فهذا أوان انقطاعِ أَبْهري)). تقول عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على رسول الله ، فلا أكره شدةَ الموت لأحدٍ أبدًا بعد رسول الله.
ولما نزل برسول الله طفق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ؛ يحذِّرُ ما صنعوا. وكان يكثر في تلك الساعة العصيبة من قوله: ((الصلاة الصلاةَ وما ملكتْ أيمانكم)) ، حتى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانُه.
ثم حانت ساعةُ الاحتضار حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت؛ دخل أخي عبدُ الرحمن على النبي وبيده سواك وأنا مُسندةٌ رسول الله، فرأيته ينظر إلى السواك فعرفت أنه يحب السواك، فقلتُ: آخذه لك؟ فأشار برأسه أنْ نعم، فتناولته وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فمضغته حتى ليّنتُه ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشد ما رأيته يستنُّ بسواكٍ قط.
وكان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يُدخل يديه في الماء ويمسحُ بها وجهه الشريف، وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)).
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه ، فأصْغتْ إليه عائشة فإذا هو يقول: ((مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)) ، وكرر كلمته الأخيرة ثلاثًا، ثم مالت يدُه وفاضتْ روحُه الطاهرة.
فلما علمت فاطمةُ بموت أبيها بكتْ وقالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. وشاع النبأ الفادحُ العظيم في الناس، وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها.
واشتد بالناس الكرب والحزن وثقل ألمه في نفوسهم، فتركتهم لوعةُ الثكل حيارى لا يدرون ما يفعلون، وغطت المصيبة عقولهم، وسكّرتْ أبصارَهم، وحارت ألبابهم، وغابت عنهم تلك الحقيقة البسيطة أن الرسول بشرٌ من البشر وقد كتب عليه ما كتب على البشر جميعًا، فإن يمت فقد مات قبله رسلٌ وأنبياء، ونسوا في غمرة الفجيعة آياتٍ صريحات كانوا يتلونها في هذا الشأن: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].
ولكنّ موت النبي يعني ما لا يعني موت غيره من الناس؛ إنه يعني انقطاع النبوات، انقطاع خبرِ السماء عن خبر الأرض، إنه ذهاب المفزع بعد الله سبحانه، فما كان الصحابةُ يحزُبهم أمرٌ إلا ويفزعون إلى النبي بعد الله تعالى، يسألونه المشورة والحكم. كان نصحه وأمرُه لأصحابه شفاءً لقلوبهم وهداية لحيرتهم وتعزيةً لمصابهم وأحزانهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ووقف عمر في تلك الساعة العصيبة يخطب في الناس وقد أخرجه الخبر عن وعيه، فقال: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بنُ عِمران، ووالله ليرجِعنّ رسول الله كما رجع موسى، فليُقطِّعنّ أيديَ رجالٍ وأرجلَهم زعموا أن رسول الله مات).
وأقبل أبو بكر من العالية حتى نزل على باب المسجد وقد بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء، حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة مسجّى في ناحية البيت، فأقبل حتى كشف عن وجهه الشريف، ثم أكب عليه يقبّله ويبكي ثم قال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيّا وميتًا، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدًا، أما الموتةُ التي كتبها الله عليك فقد مُتَّها).
ثم خرج إلى الناس وعمر يكلمهم، فقال: اجلس يا عمرُ، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]. قال ابن عباس: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر عليهم، فتلقاها الناس منه كلّهم فما أسمعُ بشرًا إلا وهو يتلوها. وأما عمر فقال: والله، ما هو أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفتُ أنه الحق، فعقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله قد مات.
إنه موقف عظيم ولكن كان له أبو بكر، فما وقف أحد في هذه المصيبة موقفه، ولا أبصر أحدٌ فيها الحق كما أبصره أبو بكر، فزاد ذلك من تعظيم الناس وتوقيرهم لأبي بكر.
اللهم توفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة النبيين مع الذين أنعمت عليهم...
(1/4896)
بين مولد الحبيب ووفاته
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, معجزات وكرامات
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب اختيار الخطبة. 2- أسباب بدعية المولد. 3- تمحيص الروايات المذكورة في شأن المولد. 4- ضرر التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة. 5- حادثة الهجرة أعظم من حادثة المولد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: كان حديثُ الجمعة الماضية عن وفاة النبي ، في وقتٍ كان كثيرون قد تهيؤوا للاحتفلال بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام بمدائح نبوية لا تخلو غالبًا من غلوٍ في الإطراء كان النبي ينهى عنه حتى في مرض موته، وفي جو تحيط به طقوسٌ لم يأذن بها الله.
وعمدًا فعلتُ ذلك، أن أعطف بالحديث عن المولد إلى الحديث عن الوفاة، حيث انقطاع الرسالة وإكمال الدين وإتمام النعمة، ولكن لم يكن صرف الحديث عن المولد إلى الوفاة قصدًا إلى معارضة الاحتفال بالتأبين والتناوح، ولا إلى مقابلة الأفراح بالأتراح، ولكنه الحديث الذي تقتضيه مناسبته، فمن مفارقات الأقدار أن يكون مولدُ النبي وهجرتُه ووفاته في شهر واحدٍ، في شهر ربيعٍ الأول، ولكن في أيام مختلفة.
على أنه ليس من البدعة في شيء أن يُجرى الحديث عن حادثة عند مرور مناسبتها أيا كانت الحادثة، فلكل حادثة حديثُها الذي نجده أنسبَ ما يكون عند مرور مناسبته، وإذا كنا نستحسن الحديثَ عن التوبة وحسنِ الخاتمة أو عن أهميةِ الوقت في أول كل سنةٍ هجرية؛ فليكن الحديثُ عن هجرة النبي ووفاته أمرًا حسنًا هذه الأيام، كما يحسنُ كلُّ حديث يُساق عند مناسبته. ولا يندرج هذا في البدع، ولا يسوغ أن تبلغ بنا الحساسية من البدع أن نتخوف من مجرد الحديث عن حادثةٍ ما متى مرّت مناسبتُها وسنحت ذكراها.
ولْنفهم حقيقة البدعة ولنميّز حدودَها حتى لا نخلطَ غيرها بها، وننسبَ إليها ما ليس منها، وحتى لا نُدخلَ في دائرة المحظور الممنوعِ العملَ الحسنَ المشروع.
إن منزع البدعة في احتفالات المولد هو في تعظيم اليوم نفسه تعظيمًا يجعله مُشاكلاً لصورة العيد، ومن صور تعظيمه اعتقادُ فضلِ يومِه أو ليلتِه وتفضيلُهما على ما فضله الله من الأيام والليالي. ومن صور تعظيمه الاحتفالُ بذكراه وإحياءُ ليلته وصيامُ يومه اعتقادًا بمزيتهما، فذلك تعظيمٌ لما لم يعظِّمه الشرع، فلم يثبت عنه أنه أحيا ليلة مولده أو ليلة إسرائه أو هجرته، مع عظيمِ توقيره لشعائر الله وحرصه على التقرب إلى الله بأحب الأعمال إليه سبحانه.
أما الحديثُ عن وفاته أو هجرته أو بعثته أو حجته إلى غير ذلك من مشاهد سيرته فإنما هو حديثٌ يُساق لمناسبته، واستلهامٌ للدروس والعبر من حدثٍ يُذكر كلما لاح للخيالِ طيفُ ذكراه, فالأمر لا يعدو أن يكون ذكرى وتذكيرًا وحديثًا مجردًا عن تخصيص المناسَبةِ بمزيد تعبدٍ وتعظيم.
أيها الأحبة في الله، في شهر ربيعٍ الأول وُلدَ النبي ، وفيه هاجر، وفيه لحِق بالرفيق الأعلى، فلماذا إذًا يُقصر بالحديث على المولد دون الوفاة؟! ولماذا تُصرفُ الأنظار إلى مشهدِ مولده وما يحتف به وهو المشهد الصامت الذي لا يُلهمنا بأي صورة من صور التأسي والاتباع؟! إنما هو مشهد صامت غايةُ ما فيه أنه مولدُ نبيٍ كريم، وبشرى بفجر جديد يبدد ظلمة الشرك والظلم والجهل. فلماذا لا تستذكر العقول إلا إشراقةَ البداية وتنسى مواطن التأسي في النهاية؟!
إن الحديث عن المولد ليس بأولى من الحديث عن الهجرة والوفاة، بل لك أن تقول ما هو أبعدُ من ذلك؛ لينقلب الأمر على خلاف ما يبدو ولكن على صورته الصحيحة. لك أن تقول: إن الحديث في هذه الأيام عن دروس الهجرة والوفاة أولى من الحديث عن قصة المولد بسبعين مرة. وقد يعجب لهذا من يعجب، ولكن ليستأنِ بنا فلعل أن يبدو له ما يُذهب عنه عجَبَه.
إننا لننظر بعين التحقيق والتمحيص في شأن مولد النبي ، فلا يزيدُ ما نراه عن أن يكون مولدَ نبيٍ عظيم مُؤذِنًا بزوال ظلمة الشرك بنور الدين الخالص واندكاك معالم الظلم بظهور شارات العدل الإلهي. هذا كل ما تُريناه عين التحقيق والتمحيص في أمر المولد، وأما ما يحكيه المؤرخون والقصاصون من إرهاصات المولد ومعجزاته وكراماته فأقاويل باطلة مروية بأسانيد مظلمة، ونحن مُلزمون بالقاعدة الشرعية؛ وهي أن كل ما لا يصح سنده فلا يسوغ قبوله، فكيف إذا خالف منطق صريح العقل؟!
لا يعز علينا أن يكون لمولد نبينا إرهاصاتٌ من كرامات ومعجزات، فهو سيد البشر وأكرمهم على الله، إنما الذي يعز علينا هو أن نخالف المنهج الشرعي بتصديق كل ما يقال بلا تثبّت ولا تمحيصٍ لسنده، لمجرد أنه يزيد في الإجلال والتعظيم ويشبع نهمة الإعجاب والتوقير.
إن الإسلام بمنهجه العلمي الفريد يمنعنا أن نندفعَ بعاطفة التعظيم لجنابه الأكرم إلى أن نصدق كل ما قيل لأجل أقاويلَ تقال فتُقبل بلا تثبّت، فلا بد قبل تصديق أي خبر أن يصح سنده.
روى المؤرخون أنه لما كانت الليلةُ التي ولد فيها النبي ارتج إيوان كسرى ـ أي: رجف ـ، وسقطت منه أربع عشرة شُرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضتْ بحيرة ساوة، وأنه قد خرج معه عند ولادته نورٌ أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى أضاءت له قصور الشام وأسواقُها، إلى آخر تلك الروايات التي هي أشبه ما تكون بالأحاجي والقصص.
وقد محص علماء الجرح والتعديل المهرةُ بتمييز الخبر الصحيح من الضعيف، محصوا ما يروى من إرهاصات المولد فلم يجدوا لها سندًا صحيحًا تحتمل به التصديق.
على أننا حين نرفض ما نرفض من ذلك فلا نرفضها لأنها خارقة للعادة مخالفة للسنن ومنطقِ العقل، فقد آمنا بما هو أعظم منها وأبعدُ في هذا الشأن، لقد آمنا وما ارتبنا في شأن الإسراء والمعراج، مع أن العقول لا تحيط به ولا يجري على سنن العادة، فآمنا به من غير تردد؛ لأنه ثابت بآيات محكمات وأحاديث صحاح، وكذلك كان شأنُنا مع المعجزات الثابتة الأخرى، صحّ خبرُها فآمنا بها وصدّقنا ولم نلتفت إلى منطق العقل المحدود.
وليس في إبطال تلك المرويات إبطالٌ لما صح من معجزات النبي الأخرى؛ لأن إبطال تلك المرويات إنما هو من أجل ضعف أسانيدها لا لمخالفتها لمنطق العقل. فحسبنا ما صحّ من معجزات النبوة وكرامات الرسالة، ففيه الغنية والكفاية عن الاستكثار بما لم يصح والتزيدِ بما لم يثبت. وحسبنا أن نقول عن مولده : إنه إيذانٌ بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه، وإشراقٌ لنور العدل والهداية، وبشرى بانشراح الصدور بدين الله الخالص من لوثات الشرك والخرافات، وإنه لمولد الرحمة للإنسانية كلها بعربها وعجمها وأبيضها وأسودها ومسلمها وكافرها، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
هذا كل ما نستطيع أن نقوله عن مولد النبي ، وليس في وسعنا أن نتكلف ما لا يثبت ولو بحجة تعظيم النبي ، وأن مولدَه ليس كمولد أحدٍ من البشر إلى غير ذلك من حجج العاطفة، ولا يصح التساهل في رواية إرهاصات المولد المكذوبة بحجة أنها إن لم تنفع فهي لا تضر، ونذهل عن مضرتها الكبرى وهي الإخلال بالمنهج الحق في تلقي المرويات ونقل الأخبار.
وإن التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة والأقاويل المكذوبة تشوّش وتشغب على قبول الأخبار الصحيحة، وشأن من يتساهل في رواية ذلك كشأن من يتساهل في حكاية الأخبار الكاذبة أو يُكثِر من الغرائب، فيقف الناس منه موقفَ الشك والريبة في كل ما يرويه، فلا يصدقون منه حتى الأخبار الصحيحة.
ومن أراد أن يتتبع معجزات النبي ليزداد إيمانًا بالله وتعظيمًا لنبيه فبين يديه أعظمُ معجزةٍ جاء بها نبيٌ من عند الله، بين يديه معجزةٌ خالدةٌ يراها ويسمعها ويتلوها كل من شاء، بين يديه كتابُ الله العظيم المعجزة الخالدة المحفوظة بحفظ الله، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42]، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
وفي القرآن من العبر والآيات واللطائف ما لا نحتاج أن نتكلف معه معجزاتٍ أو كراماتٍ لا تثبت عند التحقيق. وفي صحاح السنن من الأحاديث من دلائل عظمة النبي وشرف نفسه ونقاء سيرته وحسن هديه وسمته ما يغنينا عن تتبع غرائب الأخبار وأحاديثِ القُصّاص.
وإذا غلب الناس الجهل وأخلّوا بمنهج الشرع وضوابطه فلا تعجبنّ أن تراهم واقعين في أحابيل الشيطان من حيث أرادوا الخير أو قصدوا التعبد وزيادة الإيمان، فها نحن نراهم في احتفالات المولد قد أصابوا الشر من حيث أرادوا الخير، ووقعوا في المأثم من حيثُ طمعوا في الأجر والمغنم، وظنوا أن حسن القصد يضمن لهم عدم الوقوع في الزلل، وقعد لهم الشيطان هذا المرصد، يصنع لهم من حُسن نواياهم أعمالاً باطلة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذهبوا ليتحدثوا عن محبتهم لرسول الله وتوقيره وتعظيمه فيأبى الشيطان إلا أن ينحرف الحديث عما كان يهدف إليه من التوقير للنبي والتأسي به ومحبته إلى الغلو في إطرائه بما كان ينهى عنه من وصفه بما لا يليق إلا بالرب جل جلاله. وشغلهم الشيطانُ بالحديث عن إرهاصاتِ المولد وكراماته عن تدبر المعجزات الحقة الثابتة، والتي هي محل الاعتبار والتفكر، وصرفهم عن الحقائق إلى الدجل والخرافات.
إن في هجرة النبي من الدروس والعبر ما هو أولى بالحديث من المولد وإرهاصاته المكذوبة، فإذا كنا نعيش في هذه الأيام ذكرى المولد فنحن نعيش معها ذكرى الهجرة والوفاة، بل في الهجرة ما ليس في المولد من مواطن التأسي والاقتداء، ويكفي أن تنفرد حادثة الهجرة بهذا عن المولد أعني بما تحمله من صور التأسي والاقتداء.
ولن نجاوز القولَ المنصفَ الحق إذا قلنا: إن حادثة الهجرة هي أعظم حادثة في سيرة النبي ، وقد فطن لذلك الفقيه المحدَّثُ الملهم عمرُ بنُ الخطاب حين عمد إلى التأريخ بالهجرة، ولم يؤرخ بالمولد ولا بالبعثة ولا بالوفاة، واستحسن الصحابة ذلك.
إن هذه الأيام ميقاتُ الحديث عن سيرة النبي بما فيها من حادثة الهجرة والبعثة والوفاة والمولد، وليست ميقاتًا لتعظيم هذه الأيام بإحياء ليل ومزيد عبادة واعتقاد فضل يضارع فضل أيام أخرى، وليس ميقاتًا للاجتماع بقصد التهييج على الفرح والطرب لذكرى المولد، أو مأتمًا للتناوح على ذكرى وفاته ، أو غير ذلك مما تختلط فيه لواعج الفرح بالحزن.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4897)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, مكارم الأخلاق
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الخُلق الحسن. 2- فضائل الأخلاق الحسنة. 3- الأخلاق الفاضلة منها ما هو جبلي ومنها ما هو مكتسبٌ بالتخلق والمجاهدة. 4- العبادات وأركان الإسلام العملية تسهم في تهذيب النفس وترويضها على الأخلاق الفاضلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، كما اجتمعت أبداننا في هذا المكان المباركِ فقد اجتمعت قلوبنا على أمر لا تختلف فيه، كان من أثره هذا الاجتماعُ في هذه الساعة، ألا وهو محبة النبي ، فأيُّنا لا يحب النبي ؟! وأينا لا يطمع أن يكون من أحب الناس إليه؟! وأينا لا يود أن يكون قريبَ المجلس منه يوم القيامة؟!
ما منا من أحد إلا وهو يحبه ، وما منا من أحد إلا وهو طامع أن يكون من أحب الناس إليه، وما منا من أحد إلا وهو يرجو أن يكون من أقرب الناس إليه مجلسًا يوم القيامة، فما القرب إليه في ذلك اليوم إلا قرب من الجنة وبعد عن النار ودُنوٌّ من رحمة الله.
ولكن الأماني لا تُنال بالتمني، وما كل ما يتمنى المرء يدركه، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].
فأي شيء هذا الذي يضمن القرب إلى الحبيب يوم القيامة ويجعل المرءَ محبوبًا إليه؟ أَمَا إنه ليس بكثرة الصلاة والصيام والحج، وليس هو بالمبالغة في الزهد والإعراض عن الدنيا، فيكفيه من ذلك القدرُ المفروض، وما زاد عن الواجب فتركه لا يحرم فضيلةَ القرب من الحبيب.
إن هذا الذي يضمن له القرب من الحبيب مع التزام الفرائض لا يتطلب بسطة في الجسم ولا بسطة في العلم ولا جاهًا ولا وقتًا تفرغ فيه له، إنما هو حُلّةٌ يلتزم المرءُ لُبسَها فلا ينزعها عنه حتى يتوفاه الله، وهذا هو شرطه الوحيد.
أما هو فما عساه أن يكون إلا حُسْنَ الخُلُق؟! قال : ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)) ، والخطاب كما هو ظاهر متوجه للمؤمنين ممن أكملوا شروط الإيمان وأتوا بأركان الإسلام، وإلا فحسن الخلق وحده لا ينفع. كما يدل مفهوم الحديث على أن سيئ الخلق من أبعد المؤمنين مجلسًا عن رسول الله ولو فَضَل غيرَه بكثرة عبادة وزهد.
أما حقيقةُ حسنِ الخلق فهو طلاقة الوجه وبذل الندى وكف الأذى، أي: بذل الخير وكف الشر.
وأما فضائله فإليكموها في هذه الأحاديث الثابتة: قال : ((أكمل الناس إيمانًا أحسنهم خلقًا)) ، وقال: ((أنا زعيم ـ أي: ضامن ـ ببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه)) رواه أبو داود بسند صحيح، وقال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) أخرجه أبو داود بسند صحيح، وسئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) ، وقال: ((البر حسن الخلق)) ، وقال: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حَسَن، وإن الله ليبغضُ الفاحش البذيء)).
حسن الخلق قِوام صلاح الدنيا والآخرة، تقوم عليه مصالحهما، وهو ضمانة لعُشّ الزوجية ولاستقرار الحياة الأسرية، ففي الحديث الصحيح: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)). ولا يهدم البيوت شيء كما يهدمها قلة الوازع وسوء الخلق، من العناد والبخل والغلظة والخيانة والكذب والحمق والفجور في الخصومة، ولا يصلحها شيء كما يصلحها تقوى الله والمخالقة بالخلق الحسن، من الرحمة والصبر والحلم والتواضع وحسن الظن ولِين الجانب وطيب النفس وسخائها.
على أن الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة لا تولد مع الإنسان بالضرورة، فالواقع يشهد أن منها ما هو جِبلِّي، كما في قوله لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلمُ والأناة)) ، قال: يا رسول الله، أشيءٌ تخلقتُ به أم شيءٌ جبلني اللهُ عليه؟! فقال: ((بل الله جبلك عليهما)) ، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. رواه مسلم.
ومنها ما هو مكتسبٌ بالتخلق والمجاهدة، وهذا من ضروب التكليف التي يجب على كل مسلم أن يجتهد في امتثاله غايةَ وسعه.
فمن جبل على خصلة فاضلة فليحمد الله، وليقم بواجب شكرها، وليجتنب كل ما يزاحمها أو يهددُ بقاءها، على أنه ليس كل ما جبل عليه الإنسان مضمونَ البقاء، فإن منه ما يضعف أو يذهب بطول المخالطة للصحبة السيئة وبتبوّءِ البيئة الفاسدة.
ومن افتقد في نفسه خصلةً من دعائم حسن الخلق فليجتهد في التخلق بها وليجاهد نفسه على التزامها، فإن ذلك من أوجب جهاد النفس، ومن جاهد في الله ولله كان الله معه هاديًا ونصيرًا، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
وليس كل من افتُقدتْ فيه خصلة من خصال الخير معذورًا أن لا يتخلق بها لأنه لم يُجبل عليها، وما كل من وجدتْ فيه خصلة سيئةٌ معذورًا أن لا ينفك عنها وينبذَها، بل من افتُقدتْ فيه خصلة من خصال الخير مأمورٌ أن يجاهد نفسه على التخلق بتلك الخصلة المحبوبة، ومن وجدتْ فيه خصلة سيئةٌ مأمور أن يجاهد نفسه في الانفكاك عنها.
وكما يكون العلم بالتعلم فإن الأخلاق بالتخلق والصبر بالتصبُّرِ والحِلمَ بالتحلم، وفي الأثر: ((إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه)) ، وقال : ((من يستعفف يعفّه الله، ومن يستغنِ يُغنهِ اللهُ، ومن يصبر يصبِّره الله)) متفق عليه.
فإذا اجتهدا في ذلك حتى استفرغا غاية وسعهما فعسى أن يكون ما بقي مما عَجَزا عنه معفوًا عنه مغفورًا برحمة الله الذي قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
والمهم صدقُ المجاهدة والمتابعة والإخلاص والالتجاء إلى الله والاستعانة به بصدق. وما منا من أحد إلا وفيه من الخصال السيئة ما يوجب عليه مجاهدتها والتعالي عليها، فالنقص مركّب فينا بما تقتضيه الطبيعة البشرية، غير أنها لا تعفينا من ضرورة تهذيب الأخلاق بالتربية والمجاهدة.
وقد أرشدنا المصطفى إلى خير ما يعيننا على ذلك، وهو اللجوء إلى الله والتضرع إليه بدعائه بلهجةٍ صادقة وقلب حاضر، وكان من دعائه قوله: ((اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت)) ، وفي الدعاء المأثور: ((اللهم كما حسَّنت خَلْقِي فحسِّن خُلُقي)).
وفي تكاليف الشريعة ما يعين على التخلق بالأخلاق الفاضلة وتهذيب النفس من سيئها، فها هي العبادات وأركان الإسلام العملية تهدف فيما تهدف إليه إلى تهذيب النفس وترويضها على الأخلاق الفاضلة.
فهذه الصلاة شرعتْ لتنهى عن الفحشاء والمنكر، والفحشاء كل ما يفحش من قول أو عمل، وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر ِ [العنكبوت:45].
وهذه الزكاة شرعت تزكيةً للنفس وتطهيرًا لها من الخصال المذمومة كالبخل والشح والحرص والشرَهِ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وهذا الصوم فيه تربيةٌ على الاستعفاف وكف الأذى، وما فُرض الإمساك عن الطيبات إلا تربيةً للنفس لتمسكَ عن المحرمات، ولا يليق بالشرع الحكيم أن يأمر الناس بالإمساك عن الطيبات ويُغضي عن المحرمات ليرتعوا فيها، فما نُهوا عن الطيبات في زمن مخصوص إلا لترويض نفوسهم على الانتهاء عن المحرمات التي منها سوء الخلق، ولذا قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، وقال : (( إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث ولا يجهل ـ أي: لا يغضب ولا يسفه ـ، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم)).
وهذا الحج جعله الله ميدانًا تُبلى فيه النفوس وتمتحن فيه الأخلاق، ولم يَخْفَ عليه سبحانه ما سيكون في الحج من الضنك والزحام والمشاحاةِ، ولو شاء لجعل ميقاتَه العامَ كله، ولكنه بحكمته البالغة أراد للنفوس أن تمتحن وتمحّص أخلاقها في موطن لا يحتمل التصنع ولا يقوى فيه الادّعاء بشيء من فاضل الأخلاق على الثبات، فقال تبارك وتعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] وقال نبيه : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدتُه أمُّه)).
فها هي أركان الإسلام وعباداتُه على اختلافها تلتقي في هذه الغاية من تهذيب الأخلاق وترويض النفس عليها، كما تلتقي في غايات أخرى. فهل يدهَشُنا أن تكون بعثةُ النبي إنما هي لتتميم مكارم الأخلاق وقد ظهر جليًا أن ما أمر به من العبادات الظاهرة والباطنة تربي على مكارم الأخلاق وتهذيب النفوس؟!
ومن هنا كان أولى الناس وأحراهم بحسن الخلق هو من كان أكثرَهم عبادة وألزمَهم للطاعة؛ إذ الطاعة والعبادة تقتضيان تهذيب الأخلاق وتربيةَ النفس على الفضائل وزمَّها عن الرذائل، كما أنه أولاهم بالعتب والتبكيت حين يتطبع على سوء الخلق؛ لأنه قد داوم على ما يربي على التخلق بالأخلاق الفاضلة من شعائر الإسلام، ثم لم يظهر أثرها عليه.
أيها الأحبة، ولا يزال سوء الخلق بصاحبه حتى يدعه مفلسًا في ساعة لا تعويض فيها عن لحظة تفريط، ولا استطاعة له أن يستزيد من الخير ولو بذرةٍ، وأغبن الإفلاس ما يأتي به سوء الخلق؛ لأن سيئَ الخلق قد تكون له أعمال صالحة، فتذهبُ حسناتُها عليه بسوء خلُقِه، قال : ((فيأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرِحتْ عليه، ثم طرح في النار)). فهذا هو المفلس حقا ولو كانت له أعمالٌ صالحةٌ، فسوء خلقه أذهبها، فأصبح كأنما تطوع لغيره.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن التأكيد على التخلقِ بالخلق الحسن وبيانَ منزلته لا يعني التزهيدَ في واجبات الشريعةِ الأخرى، فمهما كانت منزلةُ حسن الخلق فإنها لا تهوِّن من شأن فرائضِ الإسلام الأخرى وشعائره، من صلاة وصيام وصدقةٍ ونسك والتزام للسنة ولهجٍ بذكر الله، إلى غير ذلك.
إن أهم ما يعنيه هذا التأكيد على أهمية الأخلاق هو لفت الأنظار إلى أن الإسلام ليس عبادة فحسب، وأنه يقتضي حسن الخلق كما يقتضي التقوى والعبادة. وقد جمع بين الأمرين في الأهمية قولُه : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)). يقول ابن القيم: "جمع النبي في هذا الحديث بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته".
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق...
(1/4898)
سياسة الإسلام في المال (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المال في الحياة. 2- الحكمة من جعل الناس متفاوتين في أرزاقهم. 3- المقصود بالتسخير في قوله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. 4- الإسلام لا يقِر احتكار الغنى. 5- ذكر بعض الضمانات التي ضمنها الإسلام ليسد حاجة الفقير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، المال عصبُ الحياة، به تتحرك دَفّتُها، وتقوم للبشرية مصالحها، فالناس لتملُّكه محتاجون، وبسببه مسخّرون، وإنما يختلفون في طلب الفضل والزيادة، فحاجتهم إليه لتحقيق حوائجهم وضمان معاشهم، ولو خلق الناس كلهم أغنياء لاستغنى بعضهم عن بعض، ولشلت حركة الحياة، ولو جعلوا جميعًا فقراء لكان عجزهم عن تملك المال عجزًا عن تحصيل الحوائج مؤذنًا بتعطل الحياة وفساد المعيشة.
فما أحوجهم أن يجعلهم الله متفاوتين في عقولهم وقدراتهم، وفي درجات مختلفة فقرًا وغناءً، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، والمقصود بالتسخير ليس تسخير الأدنى للأعلى، أو الأضعف للأقوى، أو الفقير للأغنى، فينحو منحى واحدًا، فما هذا بالتسخير الذي تصلح به الحياة وتتحرك به دفّتها، فيكون لأجل ذلك مأذونًا به، فما هذا إلا تسخير الاستعلاء والتسلط والتكبر والتجبر، مؤذن بخراب الحياة وفساد الأرض، أُهلك بسببه هابيل وفرعون وقارون وأشياعهم من الجبارين المتكبرين.
فليس المقصود التسخيرَ الذي يغري إليه الكِبر والاستعلاء والتحقير والاستضعاف، وإنما المقصود التسخيرُ الذي تدفع إليه الحاجة وتقوم به المصالح، وهو التسخير المتبادَل بين كل طرفين متفاوتين في القدرات أو المهارات أو الرزق.
وبهذا المعنى يكون الغني مسخَّرًا للفقير كما سخِّر الفقير للغني، يسخر الغني ليجمع المال، فيتوسع به ويرتزق منه ذاك المحتاج، ويطلب المحتاجُ المالَ فيسخِّره الله لخدمة الغني، والتفاوت في الرزق هو الذي يسخِّر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا لتكتمل دورة الحياة.
وعلى هذا فليس الغني مذمومًا بغناه، ولا الفقير مذمومًا بفقره، وليس مطلوبًا من الغني أن يتحول عن غناه ويتحلل من ماله لأجل أن غيره فقير، وليس ممدوحًا من الفقير أن يقيم على فقره لأن غيرَه قد تكبَّر بغناه، بل مطلوب منه أن يسعى للانفكاك عن الفقر، بل طلبه للخلاص من الفقر يحقق التسخير المذكور.
وإذًا فطبيعي أن يكون في المجتمع فقراء، كما يكون فيه أغنياء، وطبيعة الحياة تفرض هذه السنة كما تفرض سننًا أخرى غيرها، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
غير أن هذه السنة توجب على الناس خلقًا يجب أن يقوم بينهم، فوجود الفقير يوجب على الغني أن يعطف عليه ويجبر كسرَه وضعفَه، ولا يجوز له أن يقول متحججًا لإمساكه وبخله: هذه سنة الحياة، وما علينا من سبيل أن لا نغيثَ الفقراء.
فإن يكن في المجتمع فقراء فتلك سنة الحياة التي تتطلب تسخير الناس بعضَهم لبعض، أما أن يكون المجتمع سماطين: فئة قليلة تحتكر الغنى، وأخرى كثيرة تعيش الفقر ولا تستطيع الفكاك منه، فليس من الإسلام في شيء، وما هو إلا بسبب تعطيل نظام الإسلام وسياسته في المال.
لا يقر الإسلام مثلَ هذا الوضع المزري؛ أن يكون المجتمع على فئتين لا ثالث لهما، فئة قليلة تمتلك ثراءً فاحشًا وتحتكر سبل الغنى، وأخرى فقيرةٌ كادحة، كثيرة العدد قليلة الحيلة، مسروقةُ الجهود مضيَّعةُ الحقوق، تعطى من الأجور أقلُ مما تستحق، تعاني فقرًا ومسغبة، لا تستطيع منه فكاكًا، قد سُدَّت في وجهها طرق الكفاف كلُّها.
فإن يقُلْ أحدٌ حين يرى المجتمع على هذه الطريقة: هذه سنة طبيعية مفروضة فلا محيد عنها ولا مسوغ لتبديلها فقد أعظم على الإسلام الفرية، وكشف عن جهله بوظيفة الإسلام ورسالته في الخلق. وكذلك من قال: إن مطالبة المجتمع بتغيير هذا الوضع هي دعوةٌ إلى الاشتراكية فقد أساء للإسلام؛ إذ جعله نظامًا تابعًا لنظام حادث رأسمالي أو اشتراكي، وجهل أن الإسلام له نظامه الاقتصادي الفريد المستقل، فما هو بالمذهب الملفَّق بين الرأسمالية والاشتراكية.
إن الإسلام يقر سنة الفقر، فالناس متفاوتون في أرزاقهم وقدراتهم، ولكنه لا يقِر احتكار الغنى، بحيث يكون المالُ دُولةً بين الأغنياء، ((ولا يحتكر إلا خاطئ)). وهو كذلك لا يقر في مجتمع المسلمين أن تُستغل حاجة الفقير، فيسرقَ جهده ويعطى أقل من أجره.
وما أظلمَ أولئك الذين يجتزئون الحقائق فيبدون منها ما يروق لهم ويخفون منها ما لا يرضون، كما يفعل أسلافهم كفرة أهل الكتاب، يبدون بعض الكتاب ويخفون منه كثيرًا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويكتمون بعض ما أنزل الله.
قد تسمع من بعض الأثرياء من يسوغ استغلاله للفقير الاستغلال المجحف بحقه، فيقول متحججًا: من السنن التي يقرها الإسلام أن الفقير مسخر للغني، فيقف عند هذا الجزء من الحقيقة كما يقف بعضهم عند قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، ويريد من وقوفه عند هذا الحد من الحقيقة أن يخفيَ بقيتَها التي تحجه وتبطل اعتذاره.
فلا بد أن تذكر الحقيقة كاملة، وإلا تشوّهت صورة الإسلام، فالحقيقة الكاملة هي أن الإسلام يقر أن يكون الفقير مسخرًا للغني، ويقر مع ذلك أن الغنيَ أيضًا مسخَّر للفقير، وتسخير الغني للفقير هو أن يكون بابًا يسترزق منه الفقير ويسد منه جوعته بعملٍ ينتفع به الغني ويستأكل منه الفقير، وأن يكون الغني منصفًا معه، مؤديًا لحقه الذي استحقه بخدمته، فإذا ظلم الغني الفقير ولم يؤد إليه حقه المستحق واستغل حاجته فغشه وهضمه لم يكن حينئذ مسخَّرًا للفقير، بل مستغل له آكل لحقه.
طبيعي أن يكون في المجتمع أغنياء وآخرون فقراء، لكن ليس من الطبيعي في نظام الإسلام أن يكون المجتمع كلُه فقيرًا إلا قلة قليلةً تعيش غنى فاحشًا. ليس من الإسلام في شيء أن يكون المجتمع سماطين: بئر معطلة وقصر مشيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن نظام الإسلام العادلَ يجعل بين هاتين الطبقتين طبقةً ثالثةً وسطى بين الفقر والغنى، تعيش حياة الكفاف. وضوابط الكسب في الإسلام تضمن أن تكون هذه الطبقة الوسطى هي الطبقة العريضة في المجتمع؛ لأن الإسلام يحرم احتكار وسائل الكسب، ويمنع أن يكون المال دولة بين الأغنياء، فيزداد الغني غنى والفقير فقرًا، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7].
والضمانات التي ضمنها الإسلام ليسد حاجة الفقير لا تنحصر في فرض الزكاة والترغيب في الصدقة والإحسان، فما هذا إلا بعضُ أبوابها، ولكنه جعل من ضمانات سد حاجة الفقير فتح أبواب الرزق والكسب أمامه حتى يكون هو وغيره من ذوي الجاه والغنى، في ولوج ذلك الباب سواء، لا تنافس بينهم إلا بالمهارات والقدرات والحذق، يلتغي معها شرف النسب ونفوذ الجاه وكثرة المال.
وضمن للفقير ذلك الحق كذلك بتحريم الرشوة، حتى لا يحتكره عليه غني يشتري ذمم الناس بماله.
وضمن له ذلك كذلك بأن جعله هو وغيره من الناس سواء في الاستحقاق من بيت المال، وقطع الطريق على أصحاب الجاه والثراء أن يستأثروا ببيت المال ومقدَّرات المجتمع، فمن أخذ شيئًا من بيت مال المسلمين بغير عمل يفيد منه المجتمع فهو غاصب كما يغصب الظالم مال أخيه المسلم، وقال : ((إن أقوامًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)). وعن أبي هريرة قال: افتتحنا خيبر ثم انصرفنا مع رسول الله إلى وادي القرى، ومعه عبد، فبينما هو يحُط رحل رسول الله إذ جاءه سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله : (( بل ـ والذي نفسي بيده ـ إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا)) ، فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي بشراك أو بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله : ((شراك أو شراكان من نار)) أي: لو لم تردَّه. فإذا كان هذا في شملة محقرة فكيف سيكون الأمر لو كانت ملايين طائلة؟!
لقد ضمن الله لكل مخلوق رزقه، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]. فإن يُحرم أحد رزقه ويسلمه الحرمان إلى الهلاك فليس ذلك لأن الله لم يضمن له الرزق، وإنما ذلك لأن غيره قد اغتصب حقه واستحوذ على رزقه، كما تفعل الدول العظمى بشعوب الدول الأخرى، تسرق ثرواتهم وتستأثر بمقدراتهم وخيراتهم وتفسد في أرضهم وتمنعهم حقوقهم، وانظر شاهدًا على ذلك حال الشعوب الإفريقية الفقيرة المستضعفة، وحين تمن عليهم ببعض الإغاثة فإنما ترد إليهم نزرًا من حقهم المستلب.
وإذا وقع اختلال في الحياة واستئثار بالمال واتساع لدائرة الفقر وتفاحش في ثراء الأغنياء فإنما سبب ذلك الظلم وغياب العدل وقلة الوازع، يلحقه تقصيرٌ من بعض من وقع عليه شيء من ذلك، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
(1/4899)
سياسة الإسلام في المال (2)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نظر الإسلام إلى المال. 2- النصوص الدالة على حفظ أموال الناس في الإسلام. 3- نماذج تدل على حفظ حقوق الناس. 4- وقفات مع آية الدَّين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث عن شأن المال في الإسلام، وتقدم الحديث عن الحكمة في خلق الناس متفاوتين في أرزاقهم، وتصحيحِ معنى التسخير في قوله: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، وبيان أن التسخير المقصود هو التسخير المتبادل بين الطرفين؛ فالغني مسخر للفقير كما سخر الفقير للغني، وليس تسخيرًا يستفيد منه طرف على حساب طرف.
ونعرّج بالحديث على نظر الإسلام إلى المال لاستجلاء سياسته فيه.
أما نظر الإسلام إلى المال فهو أن المال في حكم الإسلام نعمةٌ قد تفتن وتبطر؛ كما تفتن وتبطر أي نعمة، وأن المال في نفسه لا يلحقه ذم ولا مدح لذاته، وأشد ما جاء في وصفه في القرآن أنه فتنة، كما قال ربنا تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15]. ووصف الشيء بأنه فتنة لا يعني أنه ليس بنعمة، ولا أن الناس جميعًا مفتونون به، ووصفه بذلك لا يستوجب ترك تحصيله، ولو صح ذلك لوجب التبتل والعزوف عن ابتغاء الولد من أجل أن الولد فتنة! ولا قائل بذلك إلا من رغب عن سنة النبي. فإذا كان وصف الأولاد بأنهم فتنة لا يقتضي ذمًا لابتغائهم بالنكاح، فكذلك المالُ قرينُ الأولاد في الوصف بالفتنة. وصفُه بالفتنة لا يعني أنه نقمة، ولا يقتضي ذم تحصيله، إنما يوجب تحري طلبه من حله.
وهذا ما يقرر أن المذموم ليس هو المال، وإنما المذموم عمل الناس في المال حين يتعدون حدود الله في كسبه وإنفاقه.
ومن أجلى ما يدل على أن المال نعمة تستوجب رعايتَه والحفاظَ عليه وتعظيمَ شأنه ما جاء في الكتاب والسنة من أدلة مستفيضة، تجعل حفظَ المال مقصدًا من مقاصد الشرع الضرورية، وأن مقاصد الشرع لا تنحصر في إقامة الدين، وأن مراعاتَه لا تقتصر على المصالح الأُخروية، فقد جاء الشرع لإقامة الدين وسياسة الدنيا، ومراعاة المصالح الأخروية وكذلك المصالح الدنيوية التي لا تصلح حياة الناس إلا بها.
لقد جاء الإسلام بحفظ الضرورات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وجاءت تشريعاتُه للحفاظ على هذه الضروريات ورعايتها كلها، وأن شيئًا منها ليس متروكًا حفظه لاجتهادات الناس التي تقدر فتخطئ التقدير لعدم سلامتها من نزغات الأهواء والمصالح الشخصية.
إن حرص الناس على أموالهم طلبًا لها وحفظًا لا يغنيهم عن شريعة تحكم لهم سبل الطلب والحفظ، والتعويلُ على حرصهم لا يضمن لهم حفظ المال ولا العدل في طلبه وكسبه، فقد يزيد حرصهم على حفظ المال فيحملهم على الشح والبخل مبالغةً في حفظه، وقد يزيد طمعهم فيه فيدفعهم إلى كسبه من غير حله وأكل أموال الناس بالباطل، وقد ينقص حرصهم على حفظه فيدفعهم إلى الإسراف والتبذير، وقد ينقص حرصهم على كسبه فيغلون في زهدٍ تبرأ منه الشريعة.
إذًا لا بد لهم من تشريع عادل معصوم من الأهواء وحظوظ النفس، ولا سالم من ذلك إلا شرائعُ الله، فهي التي تضمن للناس أحكامًا وسياسة وسطية عادلةً لا وكس فيها ولا شطط.
ونستعرض من النصوص بعض الأمثلة على حرص الإسلام على حفظ المال، يقول الله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، وقال مادحًا بعض عباده المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27].
لقد جاء هذا التقنين في الإنفاق حفظًا للمال، وحفظًا لكرامة النفس أن تدنسها خسيسة البخل والشح، يرفع اليد عن البخل ويقصرها عن الإسراف حتى يكون المرء في ماله بين الإمساك ببخل وإنفاق بسفه.
والإسلام يقر حق الفرد في التملك والتصرف في ماله، لكنه حفظًا للمال يوجب الحجر على السفيه، فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا [النساء:4]. فهو إذًا حَجر لمصلحتهم وحفظٌ لأموالهم، ولولا الحجر عليهم لأودى سفههم بأموالهم وأسلمهم إلى الفقر. ثم هو حجر لعلَّة، فإذا ذهب السفه ارتفع الحجر، وردت إليهم أموالهم يتصرفون فيها تصرف الراشدين، قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6].
وشرع الإسلام حد السرقة حفظًا للأموال، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. ومعلوم أن اليد معظمة الحرمة في الشرع، فمن قطعها عمدًا قطعت يده، ومن قطعها خطأ فعليه نصف الدية، فهي إذًا غالية معظمة الحرمة في الشرع، لكنها إذا خانت فقد هانت على الشرع، ووجب قطعها بخيانتها بالسرقة ولو في ربع دينار.
ويعترض بعضهم فيقول: يدٌ تُودى بخمسين من الإبل لو قُطعتْ، فكيف تقطع في سرقة ربع دينار؟!
والجواب: أن تغليظ العقوبة ليس سببُه عظم ثمن المسروق، وإنما سببه عظم حرمة مال المعصوم، والذي يسرق القليل لا يتورع عن سرقة الكثير، وما منعه عنه إلا العجزُ.
يقول أحد الضالين عن حكم الشرع في تشريعاته المستسلمين لتلبيس إبليس:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟!
فأجابه من حصّن العلم قلبه وفكرَه عن الشبهات والتلبيسات فقال:
عِز الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافهَم حكمة الباري
ومما شرعه الله لحفظ أموال الناس وحقوقهم توثيق المبايعات والديون بالكتابة أو الإشهاد، فأنزل أطول آية في كتابه في تشريع طرق حفظ الأموال وتوثيق المبايعات والديون، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، ثم قال: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ، ثم قال: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ، ثم قال: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
وفي هذه الآية بعض الوقفات:
أولاً: لم يكِل الشرع حفظ الأموال إلى حرص الناس عليها، ولم يعول في ذلك على الثقة التي يجدونها فيما بينهم، بل جعل لحفظها ضماناتٍ أخرى غيرها هي التوثيق بالكتابة أو الإشهاد. ولم يقل كما يقول بعض الوعاظ: في الناس من الحرص على حفظ حقوقهم وأموالهم ما يغنيهم عن التوكيد والدلالة على طرق التوثيق.
وإنك لتجد من الناس من تحمله الثقة بمن يتعامل معه على أن يتساهل في التوثيق والضمان، ثم يتبين له أن الاستغناء بالثقة عن التوثيق قد ضيعت حقه وأدخلته دهاليز كان في غنى عنها لو أخذ بطريقة القرآن وإرشاده.
ثانيًا: لنتذكر أن الله قد نادانا في أول الآية باسم الإيمان فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ ، وهو وصف تشريفي يفترض الصدق والأمان في المنادى، فلا يكون غاشًا ولا كاذبًا في تعاملاته، ومع ذلك لم يجعل الله هذا الوصف كافيًا في ضمان الحق أن لا يُبخس ولا يضيّع، ولم يجعل في الثقة غنية عن الضمان بالتوثيق.
ثالثًا: امنح ثقتك بمن شئت من الناس، لكن إياك إياك أن تستغني بها عن طلب الضمان والتوثيق، ولا تظن أن طلبك للتوثيق والإثبات والضمان يطعن في الثقة أو ينافيها، فالقرآن نادانا باسم الإيمان ومع ذلك أمرنا بأن نحفظ حقوقنا بطرق ليس منها الثقة والائتمان.
ثم إن الأسباب التي تضيع بها الحقوق والأموال لا تنحصر في جحد الحق والخيانة، فمن عارض النسيان الذي يعرض للثقة الأمين كما يعرض للخائن الجاحد.
فاحفظ حقك بإرشادات القرآن وتوجيهاته، ولا يمنعنك الحياء ممن تثق بهم أن تطالبهم بتوثيق معاملتك معهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فننفذ مما سبق من تقرير حفظ الشرع للأموال إلى التذكير بواجب لا بد أن نحتسب بالقيام به، وهو أن نحتسب في حفظ الأموال كما نحتسب في حفظ الأعراض والدين والنفس، وأن نعلم أن الإنكار لا يقف عند حدود قضايا العرض والأخلاق ومسائل العبادات؛ فإن الاقتصار على ذلك إخلال ببقية الاحتساب والإنكار الذي يجب أن يقوم في المجتمع، وهو الإنكار في مسائل المال والاحتساب فيه.
وعملاً بهذا فإننا نحذر من أمر ينبغي على المسلم أن يحذره، فالمسلم كيس فطن، وهو أن ائتمانك بمن تتعامل معه بيعا وشراء وغير ذلك لا ينبغي أن يكون سبيلك فيه ما ترى من مظهر الرجل وهيئته؛ فإن كانت مما يحبه الله فذلك بينه وبين ربه وهو أعلم بنيته، وهو الذي يجازيه على امتثاله إن كان صادقًا وعلى مخادعته إن كان كاذبًا، أما أن تجعل ذلك محلاً للاطمئنان والائتمان فذلك تفريط لم يأذن به الله، واجعل سبيل ذلك في سبر حاله وسؤال الناس عنه وتوثيق كل معاملة معه.
اللهم احفظ للناس حقوقهم، وعليك بمن ضيع لهم حقا أو غشهم فيه...
(1/4900)
وخلق الإنسان ضعيفا (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, التوبة, الكبائر والمعاصي, قضايا دعوية
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضعف البشري طبيعة. 2- مراعاة الشرع للضعف البشري في تكاليفه وتشريعاته. 3- للضعف البشري حدود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الأحبة في الله، ثمة أمر نُحِسّه جميعًا في ذواتِنا، فلا يخفف عنا ثِقْله إلا أننا نراه في غيرنا، كما نحسه في أنفسنا، وكلما ذهبنا نتحسّسه في الناس أيقنا أننا إنما نتحسّس طبيعةً بشريةً لن تخطئنا في أحد من البشر، إلا من كمَّله الله وشرّفه بشرف وحيه من الأنبياء والمرسلين.
تلكم الطبيعةُ هي الضعفُ الذي يقصرُنا عن الكمال، ليردَّنا إلى طبيعتنا الواحدة التي لن نبرحها وإن حاولنا الخروج عنها. فما نحن إلا مظانٌّ لما دون الكمال، مظانٌ تشخص فيها الأخطاء، ويتجسد فيها النقص، ويُرى خلالها الخلل. وما جاوزنا وصف الخالق سبحانه الذي هو أعلم بأنفسنا منا، أَلاَ يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ. وصفنا ـ ومن أصدق من الله حديثًا؟! ومن أصدق من الله قيلاً؟! ـ فقال: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا.
ومن المفارقات العجيبة أننا كثيرًا ما نحتمي بهذا الضعف لتسويغ أخطائنا ولِيعذرَنا به الناس، فإذا أخطأنا أعلنّا في الملأ أننا بشرٌ، وكلهم يخطئون إلا المعصومين من الأنبياء والمرسلين.
ولكننا لا ننظر النظرة نفسَها في أخطاء الناس، لا سيما إذا أخطؤوا في حقِّنا، ويا لها من مفارقة مضحكة؛ أن ننسب أخطاءنا إلى ضعفنا لا إلى تمادينا في التقصير وعدمِ المبالاة، وننسبَ أخطاءهم إلى تقصيرهم وفساد ضمائرهم وخبثِ نفوسهم، لا إلى الطبيعة التي جُبِلوا عليها، وكأنهم ليسوا كهيئتنا وخُلقوا على جِبلَّتِنا، فنحن نخطئ لأننا ضعافٌ مجبولون على الخطأ، أما الناس في نظرنا فيخطِئون لأن طواياهم خبيثة وقلوبهم مريضة، ولا نرى في أنفسنا هذا الذي نراه في الناس ونسْخَطُهم عليه، وربما كانوا كذلك، ولكن لماذا لا نكون نحن أيضًا كذلك إذا أخطأنا خطأهم وزلقْنا مزلَقَهم؟!
ومدخل الخطأ في هذه النظرة المزدوجة أننا وسَّعنا من قدر الضعف الجِبلِّي في حقنا، وضيقناه في حق الآخرين، فنظرنا إلى بعض أخطائنا وذنوبنا على أنها ضعفٌ جِبلِّي، بينما هي في الحقيقة تفريط واغترار وإصرار على الخطيئة لا يقتضيه الضعفُ الجبلِّي.
ومن المفارقات العجيبة أيضًا أن يعتذرَ الإنسانُ بضعفه كلما زلت به قدمه إلى معصية أو تقصير، إلا حينما تنازعه نفسه إلى الكِبر والطغيان، فتذكِّرُه بقوة جاهه وكثرةِ ماله وولده ونفوذِ سلطانِه، فيحدوه هذا التذكر إلى الكِبر والطغيان، ثم يتناسى في غمرة الكِبر هذه تلك الطبيعةَ التي طالما تذكرها وتحجج بها ليسوغ خطأه وتقصيرَه، يتناسى في نشوة الكبر ضعفَه الذي جُبل عليه، وأنه عبد من عباد الله، ضعيفٌ مفتقر إلى الله.
ويا لها من مغالطة مضحكة؛ أن يظل الضَعفُ الجبلي عذرًا يُعتذر به لتسويغ الوقوع في الزلات، ثم لا يكون مانعًا من النزوعِ إلى الكِبر الذي هو شعور بالقوة والكمال. أليس من المغالطات المضحكة أن يعتذر الإنسانُ كلما عصى أو أخطأ بأنه عبدٌ ضعيفٌ مجبول على الخطأ والنقص لا حول له ولا قوة إلا بالله، ثم بعد هذا الاعتراف كلّه تراه في عُتُوٍّ وغرور، والذي هو شعور كاذب بالكمال والقوة والرفعة؟! كيف يجتمع هذان الشعوران المتناقضان: شعور بالنقص والضعف وشعورٌ بالقوة والكمال؟!
وحتى لا نقع في هذه المشاعر المتناقضة، وحتى لا يصبح الشعورُ بالضعف الفطري ملجأً لتسويغ الخطيئة ومغريًا للإسراف والتفريط في جنب الله، فإننا معنيون بمعرفة نظرة الإسلام إلى هذا الضعف وقدرِ مراعاته له.
الذي لا نختلف فيه هو أن هذا الضعف الذي نجده متمثِّلاً في بعض أخطائنا وزلاتنا هو طبيعة بشرية لا يخرج عنها أحد إلا باصطفاء من الله، والذي ينازع في هذا إنما ينازع في أمر قرّره الشرع وأثبته، فهي منازعة في حقيقة شرعية قرآنية، هي قوله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا.
وها هنا سؤال في غاية الأهمية: هل كل زلةٍ لا تخرج عن هذه الطبيعة؟ وهل يصح كلما زل الإنسانُ أو قصر أن ينسب ذلك كله إلى ضعفه الجِبلِّي ويجعله معذرةً له؟
وأقول في الجواب: إن من تتبّعَ الشرع في تكاليفه ووعدِه ووعيده يعرف الجوابَ الحقَّ لهذا السؤال الكبير. فالذي نعرفه من معرفتنا لشرعنا في أمره ونهيه ووعده ووعيده أن للضعف الجبلي الذي يُعذر به الإنسانُ حدودًا ينتهي عندها العذر، ولو كان الضعف الجبلي مراعى بلا حدٍ ولا قيد لما كان من حاجةٍ إلى نصوص الوعد والوعيد، ولا إلى فرض الحدود والتعزيرات الشرعية، بل لما كان من سائغٍ أن يكون ثمة جنةٌ أو نار.
من هنا نعلم أن من الاغترار والجهل أن يسرف المرءُ على نفسه بالخطايا وأن يفرط في جنب الله ثم يعتذر عن هذا كله بضعفه الذي فُطر عليه، فهذا اغترار وحيلة من حيل الشيطان الرجيم، ولو صح هذا لما بكّت اللهُ المسرفين على أنفسهم بمعصيته.
إن وجود المحسنين السابقين بالخيرات دليل على أن للضعف حدوده الطبيعية، وما زاد عنها فتقصير وتفريط وفساد.
فيقال للظالم لنفسه بالمعاصي والتفريط في الطاعة: لو كان تفريطُك وخطؤك من مقتضى الضعف البشري لما سبقك غيرك من المحسنين وهم كثير.
إن الضعف البشري يقتضي أن لا يبقى أحد بلا خطيئة، ولكنه لا يقتضي الإصرار على الخطيئة وتسويف التوبة، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
وحين يثني الله على المتقين فليس لأنهم بلا خطيئة، وإنما أثنى عليهم بصفات منها أنهم لا يصرون على ما فعلوا من كبيرة أو صغيرة.
قد يبدو لبعضنا أن المتقي هو ذلك الرجل الذي لا تبدرُ منه هنَةٍ ولا يُرى في مكانِ معصية، أو هو ذلك الرجل الذي لا يبرح المسجد تعلُّقًا بالآخرة وحبًا للطاعة. وهذا ظنٌ خاطئٌ بنص القرآن، فالمتقي بشر من البشر، له حاجات وفيه ضعف، ينازع الرغبات والشهوات، ويجاهد نفسه لتلتزم الجادة وتدحض الشيطان.
فليس المتقي بالذي لا يقع في الفاحشة أو الموبقة، بل هو الذي إذا فعل ذكر واستغفر وأقلع ولم يُصِرَّ وأسرع إلى التوبة، وهذه من أظهر صفات المتقين: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]. ووصْفُهم بـ الْعَامِلِينَ يدل على تزودهم بالأعمال الصالحة غير مغترين ولا آمنين ولا قانطين.
فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون الذين لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، وكما قال المسيح عليه الصلاة والسلام : (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).
إذًا الضعف طبيعة بشرية، ولكنها طبيعة لا تسوغ كل الأخطاء، ولا تشرع التفريط والتسويف والإسراف.
والشرع قد راعى هذاه الطبيعة في تكليفاته وتشريعاته، فجاءت وِفقًا لهذه الطبيعة الضعيفة في كل تكليف، أمرًا كان أو نهيًا، وعدًا كان أو وعيدًا.
فمن ذلك يُسرُه في التكليف، فشرع الصلاة خمسًا وجعلها بأجر الخمسين، وأراد الله بحكمته أن يراجعه نبيه لما فرضها خمسين صلاةً تمهيدًا لهذا التخفيف ومراعاة لهذا الضعف، فمن فرط في الخمس فقد جاوز حدود الضعف إلى الكسل والتهاون، وربما بلغ درجة الاستخفاف. وفرض الحج مرة واحدة في العمر، فمن لم يحج وقد استطاع فقد جاوز الضعف إلى التفريط والكسل. وفرض الزكاة قدرًا يسيرًا في كل حول، فمن لم يخرجها طيبة بها نفسُه فقد جاوز الضعف إلى البخل والشح.
كما يظهر مراعاةُ الضعف البشري في فتح أبواب التوبة للخاطئين، بل وللخطّائين كذلك، حتى ولو بلغت ذنوب المرء عنان السماء، فإنه متى تاب إلى الله توبة نصوحًا تاب الله عليه، وقد يبدّل سيئاته حسنات، الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال:66].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: للضعف حدود، وما وراءه فميل عظيم يمليه ويريده أولئك المفسدون في الأرض، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]. هذا ما يريده أصحاب الشهوات؛ أن تسرفوا في المعاصي، وأن تزهدوا في الطاعة، وأن تكونوا كما هم إسرافًا وتفريطًا، وأما ما يريده الله فهو أن يخفف عنكم، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
وفرق بين التخفيف والميل العظيم، التخفيف درجة تناسب قدر ما رُكِّب في الإنسان من ضعف جبلي، وأما الميل العظيم فيحطم في الإنسان كلَ قوة، حتى قوة الإرادة، ويصبح منخوبًا مستلبَ الإرادةِ خائرَ القُوى، قد أسلم قِياده لداعي الهوى والشيطان، يقودانه شر قياد، ويوردانه شر مورد، وما هذا ـ وربي ـ بالضعف المعذور، ولكنه الميل العظيم والتجانف للإثم بإصرار ليس فيه أدنى مقاومة أو مجاهدة.
الضعف الذي ركب في الإنسان هو حاجته، ضعف النفس مع قوة الوارد، وضعف مقاومة الإغراء؛ إغراء الجاه وإغراء المال وإغراء الفاحشة. وما خلَقه ضعيفًا إلا ليكون ضعفُه دافعًا له إلى باب الله، ليتَّصل به، ليلوذَ بحماه، ليقْبِل عليه، ليلجأ إليه، ليحتمي بحماه، ويستعين بقوته، ويلجأ إلى حوله.
وإذا كان من طبيعة البشر الضعف فهو الضعفُ الذي يدفع المرءَ إلى الاجتهاد في جبرِه واستدراكه وقصره وحصره في نطاقه المغتفر، لا على تطبيع نفسه على الاسترسال في التساهل والتمادي في التفريط، فما كل تقصير يُغتفر، ولا كل ضعف يُتجاوز ولو أن يتطبع الإنسان بهذه الطبيعة، فكلما وقع في معصية أو بدر منه تقصير وسوستْ له نفسُه، أو لبّس عليه الشيطان أن هذا الذي بدر منه إنما هو من الضعف الجبلِّي الذي يغفره الله، فيسكن إليها، وتتخدر أطرافه وتسلمها هذه الحيلة الخبيثةُ للكسل والتهاون، حتى إذا بغته أمر الله وحضره الموت بان له كأبينِ ما تكون الشمس أن هذا الذي ظنه ضعفًا إنما هو بعينه التفريطُ في جنب الله، ويندم ولات حين مندم، وتتقطع نفسه حسرات: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
(1/4901)
وخلق الإنسان ضعيفا (2)
العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, المرضى والطب
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف الإنسان البشري. 2- من صور الضعف البشري. 3- حال الإنسان في البأساء والضراء مقرونًا بحاله في الرخاء والسرّاء. 4- المرض سبب للهداية والتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المتحابون بجلال الله، ويمضي بنا الحديث عن إحدى طِباعنا البشرية، عن الضعف الذي هو جُزءٌ من تكويننا، فلا ينفكّ عنّا إلا وقد أخذ معه قُوانا كلَّها، بل وأرواحنا معه، فمحالٌ أن يفارقنا إلا إذا فارقتنا الأرواح وودَّعنا الحياة.
خُلقنا ضِعافًا، وسنموت كما خُلقنا ضعافًا؛ لأن نفوسَنا طُبعتْ على الضعف، وللضعف صوره المختلفة، تتقاسمُها الأجسادُ والنفوسُ، فالأجسادُ تعترضُها الأمراض، فإن أخطأتها لم يُخطئها ضَعفُ الهَرَم، يردها إلى أرذلِ العمر، والنفوس تعتريها غفلةٌ أو فتورٌ أو يمسُّها طائف من الشيطان يغويها ويسوِّل لها، ويتذكر الإنسان صورَ الضعف هذه فيدرك لحظتها كيف أنه مُطوَّقٌ بالضعف من كل جانب، ويرى كيف تتجلّى عظمة الخالق وقوتُه وغناهُ أمام عجزِه وضعفه وحاجته وفقرِه.
ما أحرى تذكُّر الضعفِ أن يباعد بيننا وبين الكِبر درجات بعد درجات. وما أجدرَ أن يذكِّرَنا ضعفُنا بقوة الله التي لا تغالبها قوة ولا يخالطها ضعف، فلَهُ سبحانه القوةُ الغالبةُ والقدرةُ النافذة والإعانة المسددّة.
ولبعض الناس بأس، ولبعضهم قوة، غير أنها ليست قوةً مطلَقَةً، بل هي في الحقيقة أدنى الضعف، فمهما بسط له من الجسم أو العلم أو المال أو الجاه، ومهما أوتي من الحيلة فسيظل كما كان، ذاك العبدَ الضعيفَ إلا بقوة الله، الفقير إلا إلى الله، وسيظل ضعيفًا مهما أوتي من القوة؛ لأنه لا يملك لها ردًا لو أذهبها الله، فما به من قوة فمن الله، والقوة من أنْعُمِ الله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46].
وكفى به ضعفًا أن لا يأمن الإنسانُ ذهابَ قوته، ولا يملك ردَّها بعد زوالِها، كما لا يملك كشف الضرِّ عنه إذا مسه، ولا تحويله إلى غيره، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
وهذه وقفة مع إحدى صور الضعف في الإنسان، مع صورةٍ هي من أظهر ما يُرى الإنسانُ فيها ضعيفًا، هي الحالة التي لا يواري ولا يداري أن يبدوَ فيها ضعيفًا، بل هي الحالة التي يقصد أن يُظهرَ فيها ضعفه وافتقارَه وحاجتَه، بعد أن كان يواريها بكِبرِه وغروره، ويتنكّرُها بما كان يُظهر من قوته وقدرته.
إنها حالة المرض، عارضٌ يُنهِك البدنَ ويضعِفُه؛ فتضعفُ معه النفس، ويذهب عنها كبرياؤها، وينطفئ طغيانُها، وتتهاوى أمامه أوتادُ القوة المزعومة، فتعودُ النفسُ سيرتَها الأولى، إلى فطرتها التي تنكّرتْها بكبريائها وطغيانِها، ووارتْها بأوهام القوة؛ لتدِبَ فيها أعراضُ الضعف من جديد، تلك الأعراضُ الطبيعيةُ التي أرادتْ نفسُه يوم كانت في بحبوحة العافية والرخاء أن تتنكَّرها وتتلبسَ بغير لَبوسها؛ فكشف المرض المغطّى، وأظهر الطبيعة التي لا يجوز للنفس أن تتكلفَ غيرَها. لقد أظهر المرضُ ضعفها وحاجتها وافتقارها إلى حول مولاها وقوته ولطفه.
حالة المرض ضَعْفٌ يسرِب إلى النفس، فينتزع منها كبرياءَها، وينزع عنها مغالطتها للحق والحقيقة، تلك المغالطة التي كانت تمارسها والبدنُ موفور الصحة والقوة؛ فتُظهِر الشيء وقد سلّمتْ بضده، وتجحدُ الحق وقد استيقنته ظلمًا وعلوًا، فينقلب جحودُها استيقانًا وإدبارُها إقبالاً.
المرض ضعف يُنهِكُ البدن حتى يتركه هزيلاً، ولكنه لبعض القلوب قوةٌ يَصقُلها بالإيمان، ويردُّها إلى الفطرة ويوقظُها من الغفلة، وينفي عنها خبَثَ الشبهات والشهوات، ويزيل من فوقها رُكامَ التيه بعد أن ران عليها طويلاً.
ومع المرض تسارع النفسُ إلى التوبة سراعًا لا يخطئ بابها، ذاك البابُ المفتوحُ الذي ظلت عنه كثيرًا في سِنيِّ العافية، فها هي توفض إليه سِراعًا بعد أن كانت تزعم أنها لم تكن على خطيئة فتحتاج معها إلى التوبة. فكم هو قبيحٌ أن يتمظهر الإنسانُ بغير حقيقته، ويدعيَ ما ليس له، ويضعَ نفسه فوق قدرِها.
ويا عجبًا للإنسان! ما أظلمه لنفسه وما أجهله! كيف ينسى ضعفه؟! وكيف يغترُّ بقوته التي يرى منها في نفسه ما لا يراه في الناس من حوله؟! أوَنسي أن الناس إنما هم أغراض شاخصةٌ للمنايا وما دونها من الأدواء؟!
ويقول قائل: ليس بمستغرَب أن يكون حال الإنسان في الرخاء غيرَه في الشدة، فمن الطبيعي جدًا أن يكون إقباله في شدته وضرائه أكثرَ منه في صحّتِه ورخائه، وهذا التباين بين حاليه في الرخاء والشدة والصحة والمرض يوجبه ما تُحدِّثُنا عنه من الضعف الجبلّي الذي فُطر عليه الإنسان، فلِم يُنكر منه هذا الاختلاف؟! هل نريد منه في مرضه أن يمد في غلوائه ويُمعنَ في طغيانه كما كان في صحته؟! أليس في إقباله على الله معنى التوبة التي نحبها لكل أحد؟!
وقائل هذا مُحقٌّ في تساؤله وتقريرِه، ولكنه ترك بعضَ الحق لم يَقُلْه، وأجرى اعتراضَه في غيرِ ما نعرضه الآن. نعم، ليس عيبًا ولا عارًا أن يُظهرَ العبدُ عند مرضه ضعفَه، ويعرض عند شدته حاجته بين يدي ربه، ويرفع إليه عند ضرائه أكفّ الضراعة، ويلحَ في الدعاء في ساعة البلاء، ويكثر حين ذلك من التوبة والاستغفار. ليس شيء من هذا معيبًا؛ فباب التوبة مفتوح، ورحمة الله واسعة، وهو يحب التوابين ويحب الملحين في الدعاء، ويحب أن يرى عبدَه منطرحًا بين يديه في مظهر مسكنةٍ وإخبات، كل هذا يحبه الله من عبده، ولو كان من قبل ساعة الشدة غافلاً مفرطًا. ولكن الذي يبغضه الله ويمقته من عبده أن يدع هذا التضرعَ ويترفّعَ عن هذه المسكنة وينسلخَ من هذه الحالة ويتنكر نعمة الله عليه حين يكشف عنه ضُرَّه وحينما يذهب عنه ما كان يجد من الشدة والبلاء؛ كأنما لم يُصبْه مرضٌ قط، وكأنما لم يَدعُ ربَّه ساعة، فهذا هو الذي يمقته الله، وهو الذي ننكره ونتواصى على تطهير نفوسِنا منه.
ويحدثنا القرآن عن حال الإنسان في البأساء والضراء مقرونًا بحاله في الرخاء والسرّاء ليصوِّر لنا قدر ضعفه وعجزه، وأن فرحَه وفخره وكبرياءَه في حال الصحة إنما هو اغترار، وأن إعراضه بعد انفراج الشدة ليس إفلاتًا من قبضته سبحانه، ولا هربًا من سلطانه، ويُبين لنا هذا العرض للتباين بين حال الإنسان في السراء والضراء كم هو مغرورٌ حين يعتدُّ بقوته، وكم هو جاهل حين يركن إلى علمه، وكم هو شقي حين يُطغيه الرخاء والصحة.
يحدثنا القرآن عن ذلك في غيرِ ما آية، فيقول سبحانه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51]، وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8]، وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].
قَلَّ من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن ثمةَ ضعفًا، وأن هناك عجزًا، فساعات الرخاء تُنسي، والإحساسُ بالغنى يطغي، ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو ذو دعاء عريض، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. حتى إذا كشف الله عنه ضُرَّه وأجاب دعوتَه ولى مدبرًا ولم يعقب، ولم يتفكر ولم يتدبر، وعاد إلى ما كان عليه من قبل من غفلة وإعراض.
والعاقل يدرك ببصيرته أن زوال المرض وانكشاف الضُّرِ ورجوع العافية تسري في بدنه من جديد، ليس انسلاخًا من حال الضعف ولا ارتدادًا إلى حال القوة، بل هو في الحقيقة انتقال من ضعف أشد إلى ضعف أخف، ومن ضعف أعلى إلى ضعفٍ أدنى.
أيها الأحبة في الله، كثيرٌ من الناس من يتبنى أفكارًا ويتخذ أهواءً ثم تُبدي لنا الأيام أن كثيرًا مما يقوله ويعتقده لم يكن عن قناعة، بقدر ما هو مدفوعٌ بشهوةٍ مخلوطة بهوى ومصلحةٍ عاجلة، وما يدعيه من استيقانه لأفكاره وآرائه وسلوكه كفيلٌ أنْ يُبطِلَه مَسٌّ من مرضٍ مخوف، وحين ذلك يبرأ من بعض قناعاته التي كان يدعيها حقائقَ يناضل عنها، ويطّرحُ عنه شُبُهًا كان يبثها ويلقيها ليفتن بها الناس، فإذا مَسٌ من مرض مخوف يمر به فيترك قلبه صلدًا من كل هذا الركام والران، ويردّ نفسه إلى فطرتها الأولى إلى الإيمان بالله وتصديق رسالاته واتباع رسله، وينقشع عنه غمامُ الشُبَهِ وتتهاوى من عقله فلسفاتٌ ضالة وآراءٌ فاسدة.
ويحدثنا التاريخ شواهد كثيرة تُثبت هذه الحقيقة، لا عن عوامٍ يقلدون ويُخدعون، بل عن مفكرين عظماء وفلاسفةٍ أذكياء، أرهقهم ذكاؤهم حيرةً وضلالاً، فهداهم إلى الحق مَسٌ من مرضٍ مخوف، أذهب عنهم رجس الشيطان، وربط قلوبهم بالكريم الرحمن، وكان المرض شدةً خيرًا لهم من عمرٍ قضوه في الرخاء، وهداية في ضراء خيرٌ من ضلالةٍ في سراء، وعلى العبد أن يسأل ربه الهداية في الرخاء، ولا يجوز له أن يسأل لأجل الهداية الضراء.
اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتولّ أمرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهذا شاعرٌ من شعراء العصر الحديث، خاض في متاهات كثيرة، وتقلب بين أفكار خبيثة، ونظم فيها قصائد كثيرة متأثرًا بها، تدعو إليها، كان بعيدًا عن هدي الإسلام، وفي سنواته الأخيرة أصيب بمرض عُضال كان الجسرَ الذي عبر فوقه إلى الهداية.
حينما أحس بدبيب المرض في جسمه راح يبث شكواه لربه محسنًا به الظن، ذاكرًا لأنعُمه التي كانت تترى عليه من قبل وهو في غفلة، وقاوم المرض بنفس محسنةٍ الظن بالله، صابرةٍ لبلائه غيرِ قانطة ولا يائسة، وما لبث أن قصد الباب الذي كان يمر به ولا يقف عنده، بابَ الله الذي لا يغلق لطالب، وجثا على أعتابه يبث عنده همومه، ويشكو إليه آلامه المبرحة، ذاكرًا لفضله وعطائه، راجيا ضارعا متساميا في شكواه، وفي وهدة المرض بدأت تنزاحُ عنه التصورات المختلطة المضطربة، ويتألق في قصيدةٍ رائعة يصوِّر لنا فيها أدبه مع ربه وحسن ظنه به ورجاءه له وإقرارَه لنعمه السابقة، تصور ناصع يكشف الفطرة السوية في لحظات المحنة.
وفي ثناياها دعوة لكل غاوٍ شرد بعيدًا عن دروب الهدى كي يؤوب إلى ربه متطهرًا من التصورات الضالة، وسيجد الأبواب مفتوحة للتوبة والعودة، وسيجد أن وقفته هذه هي الوقفة الصادقة، وكل ما سواها باطل.
وقصيدته مناجاة لله عز وجل، تقدم الحمد شافعًا بين يدي الشكوى، وتقرن صور الألم بالصبر والتجلد، وفيها مشاعر إيمانية فياضة يمتزج فيها الصبر بالشكر، يقول الشاعر:
لك الحمدُ مهما استطالَ البلاءُ ومهما استبدَّ الألَم
لك الْحمد إن الرزايا عطاء وإن الْمصيباتِ بعضُ الكرم
ألَم تعِطنِي أنت هذا الظلام وأعطيتَني أنت هذا السَّحَر
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ الغمام؟! وتغضبُ إنْ لم يَجُدْها المطر
شهور طِوالٌ وهذي الجراحُ تُمزِّق جَنْبِي مثلَ الْمدى
ولا يهدأ الداءُ عندَ الصَّباح ولا يمسحُ الليل أوجاعَه بالرَّدى
ولكنَّ أيّوبَ إنْ صاحَ صاح لك الْحمدُ إن الرزايا نَدى
وإنَّ الْجراح هدايا الْحبيب أَضمُّ إلى الصدر باقاتِها
هداياكَ فِي خافقي لا تَغيبُ هداياك مقبولةٌ هاتِها
اللهم ارحم ضعفنا واجبر...
(1/4902)
وصايا لكل مسافر
موضوعات عامة
السياحة والسفر
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جملة من الوصايا للمسافرين. 2- عظم حقوق الآدميين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الأحبة في الله، ويشتدّ الحر فيشتدُّ نفير الناس للاستجمام بالسفر، تحفِّزهم إليه إغراءات الدعايات والتسهيلات، ولكلٍ وجهةٌ هو مولِّيها، وأينما توجّهت تلك الجموعُ فالله هو وليُّها ومولاها، وهو يعلم سِرَّها ونجواها، ومهما أبعدتْ في أسفارها فهي لا تخرج عن ملكه، ولا تعزُبُ عن عِلمه، ولا تخفى عليه منها حركةٌ ولا نأمةٌ ولا خالجة.
فإلى كلِّ من عقد عزيمةَ السفر، هذه جملةُ وصايا نذكِّر بها، عسى أن تنفعَنا وإياه، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. وإننا لنجد في قلبه من خشية الله وإجلالِه وتعظيمِ أمره والإذعانِ لحكمه ما يُغرينا بتذكيره بوصايا نجدُنا وإياه في الحاجة إليها على سواء.
الوصية الأولى: فليتذكّرَ المسافرُ وقد أخذ للسفر أُهبته وأزوادَه أنَّ كلَّ زادٍ يتزود به في سفره فخيرٌ منه وأولى وألزمُ وأحرى تقوى الله، فهي الزاد الذي لا يستغني عنه مؤمنٌ في حِلٍّ ولا ترحال، وهو لزيمةُ العبدِ لا ينفكُّ عنه بحال، وتلك وصيةُ الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، وهي أعظم وصية وصّى بها المصطفى ، وما وصى إلاّ بعظيم: ((اتق الله حيثما كنتَ)) ؛ اتق الله في السرِّ والعلن، وفي الإقامةِ والظعْن، حيث يراك الناس وحيث لا يرونك.
إنَّ تقوى الله ليست كلامًا يُلاكُ بالأَلسُنِ، ولكنَّه شعورٌ يتروَّى منه القلبُ، فيفيض بآثاره على الجوارح، ليُرى واقعًا محسوسًا مشهودًا في سلوكِها وعملها.
وليعلمْ كلُّ مسافرٍ أنَّ من علامات صدق التقوى أن لا يزيده خشيةً لله حضورُ الناس، ولا يَنقصه منه غيابُه عنهم، فاستواء خشيةِ العبد لله في سره وعلانيته وفي اجتماعه بالناس وخلوته لهو من أعظم دلائل صدق التقوى، وهي من كمال خشية الله؛ ولذا كان المصطفى يدعو ربّه كثيرًا بقوله: ((اللهم إني أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة)).
فليتذكّرِ المسافر أن غيابَه عن نظر من يبالي بهم من الناس هو نوعٌ من الخلوة من هذا الوجه ولو كان بمحضر غيرهم، ذلك أن الرجل قد يمتنعُ من فعل الذنب في شهادة من يباليهم من الناس، فيشوب إخلاصه في ذلك شائبةُ الحياء منهم، ولكنَّه يكون امتناعُه خالصًا لله وحدَه حين يكون في غَيبتهم.
فليُخلِصِ المسافرُ خشيتَه لله، وليحذرْ أشدَّ الحذرِ أن يكونَ حياؤه من الناس أعظمَ من حيائه لربه، فإن العبدَ إذا بيَّتَ المعصية عند عزيمةِ السفر أو كانت المعصية هي الباعثَ على السفر كان ذلك أدلَّ على أنه لم يمنعه من الحرام إيمانٌ ولا تقوى، وإنما هو خشيةُ الناس أو تعذُّرُه عليه. وهذا أقبحُ وأشد نكرًا ممن لم يقصد إلا سفرًا مباحًا لم يبيِّت فيه نيةً على معصية، ولم يقصدْ بالسفر أمرًا منكرًا، ثم يَعْرِضُ له، فلا يلبث أنْ ينهزمَ لإغرائه، ويقع في حبالة الشيطان وإغوائه.
ألا وإنّ من أعظم ما يعينُ المسافرَ على الأخذ بوصية حبيبه المصطفى : ((اتق الله حيثما كنت)) أن يستشعر دقَّةَ مراقبةِ الله إيّاه، فذلك أدعى أن يستجيشَ في قلبه تقوى الله حيثُما كان ومراقبتَه في السر والعلن، وليتدبَّرْ تلك الآياتِ التي تُبين في أحسن بيان عن سعة علم الله وقربِه من خلقه، كقولِه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، وقولِه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، وكقولِه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:19-23].
فمهما استتر العبد من الناس فلن يستتر من أبعاضِه التي يباشر بها المعصية، ولئن استعان بها على معصية الله فلسوف تعصيه في اليوم المشهود، لتكون عليه من الشهود.
وما كان سبحانه ليعزُبَ عن علمه شيءٌ حتى يحتاجَ إلى مخبرين وشهود، ولكنه أراد أن يقطعَ عن عبادِه المعاذيرَ، ويقيم عليهم الحجة. عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله فضحك، فقال: ((هل تدرون مم أضحك؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: ((أضحكُ من مخاطبة العبد ربَّه ـ أي: يوم القيامة ـ ، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟! قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فِيِهِ، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطقُ بأعمالِه، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحْقًا! فعَنْكُنَّ كُنتُ أناضل)) رواه مسلم.
وهذه النصوص وغيرُها مما هو في معناها تُلقي بظل الرقابة المباشرة على كل نفس، وحينها تستشعر النفسُ أنها غيرُ منفردةٍ لحظة واحدة، وغيرُ متروكةٍ لذاتِها لحظةً واحدةً، فهناك حفيظٌ عليها رقيبٌ، يحصي كلَّ حركة، ويحفظ ما يصدر عنها فلا يند عنه شيء.
فإذا راقب العبد ربَّه في سِرِّه وعلنه وإقامته وظعنِه فقد حقّق مرتبه الإحسان التي هي أعلى مراتبِ الإسلام، وهي ثمرةُ معرفةِ الله وخشيتِه، ((الإحسانُ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة فإنها تفعل الطاعاتِ وتنتهي عن المعاصي ولو لم يكن عليها رقيبٌ من غيرها، فهي تراقبُ اللهَ في الصغيرة والكبيرة وفي السر والعلن على السواء.
ولا ينسى المسلم وهو يُعظم خوفَه من الله وحياءَه منه، لا ينسى ضعفَه وإسرافه في أمره وتفريطه في جنبِه سبحانه، فلا يترددُ أن يستعينَ على ملازمةِ تقوى الله أينما حلَّ وحيثما كان بالدعاء المأثور الذي علَّمَنَاه حبيبُنا : ((اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل..)). فإذا دعا بهذا الدعاء بتدبُّرٍ وحضورِ قلبٍ استشعر حينها رقابةَ الله عليه وشهادتَه إياه واطّلاعَه على نواياه.
الوصية الثانية: ينبغي للمسافر وهو يطوِّف في أرجاء الأرض أن يستشرفَ في سفره مشاهدَ الاتعاظ والاعتبار والنظرِ والتفكر، فلا يدعُها تفوتُه بعد سنوحِها، فإنَّه مهما اختلفت وجهتُه لن يخلو سفرُه من بعض المشاهدِ التي تستدعي منه لحظاتِ تأملٍ وتفكُّر.
فسرِّح طرْفَك ـ أيها المسافر ـ بقلبٍ متحفِّز وحِسٍّ متيقِّظ فيما أودعه اللهُ في أرضه من عجيب خلقه وبديع آياته وجميل صنعه، فإنها لو نطقت لنطقت بعظمة الله وقدرتِه، ولو شهِدتْ لشَهِدَتْ بربوبيته وقوَّتِه، قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101]، إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6].
إن هذا النظر والتفكر مأمورٌ به كلُّ أحد، ولكن أولى الناسِ به أولئك السائحون؛ فهم أفرغُ قلبًا وأقلُّ شغلاً وأروحُ فكرًا وأنسبُ حالاً.
ثم سرِّح طرفك كرَّاتٍ أخرى في آثار الغابرين ومصيرِ المترفين، فإنها آثارٌ تنطقُ بالآيات وتوحي بالعظات، فليكن لك في كلِّ أثرٍ نظرٌ، تستنطقُ منه المواعظَ والعبر، فها هم عامِروها قد أُهلكِوا، لم تمنعْهم قوتُهم ولا جبروتهم من بأسِ الله الشديد، وها هي آثارهم شاهدةً عليهم، فلا يستهوينَّك ما توحيه آثارُهم من قوة عمارةٍ أو روعةِ حضارةٍ وما تشهد لهم به من دِقَّةِ الصَّنْعةِ وشدةِ البأس والقوةِ، لا يستهوينَّك ذلك عن التفكُّرِ في بطش الله الشديد وبأسِه القويِّ الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين.
إنَّ النظرَ في آثار الغابرين يهُزُّ القلوبَ حتى قلوبَ المتجبرين، وإن هذه التأملاتِ في مآلهم لتهُزُّ القلبَ هزًا مهما كان جاسيًا غافلاً قاسيًا.
ولذا نجد القرآن كثيرًا ما يأخذ بأيدينا إلى أن ننظرَ في مصارع القوم لنتقي ونتذكّر، كما في قوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم:9].
ولقد عاب الله على أقوامٍ لا يتفكرون في خلق الله، ولا يعتبرون بآثار الذين خلوا من قبلهم، وما أكثرَ الذين لا يتفكرون ولا يتذكرون، فليحذرِ المسافرُ أن يكون ممن عناهم الله بقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
الوصية الثالثة: أَمَا وقد اختار كلُّ مسافرٍ وجهتَه عن إرادة واختيار ولم يُسَقْ إليها عن كُرهٍ واضطرار وكان في سعة أن لاَّ يخرج إليها، فإننا نذكِّره وأنفسنا بضرورةِ استشعارِ العزَّةِ بالإسلام حيثُما حلَّ، وأن يعتزَّ بمبادئه وقِيَمِهِ أينما كان، وأنْ يأخذَ بها على اختلاف الأحوال.
وحقٌ عليه أن يستعْلِن بما أوجب عليه الإسلامُ من الاستعلان بالشعائر الظاهرة، فلْيُصلِّ الصلاة لوقتها أينما أدركته، يقيمُها كما أمرَ الله من غير حياءٍ ولا استخفاء، ولكنْ بعيدًا عن الفوضى والمضايقة.
والحجابُ شعارُ المؤمناتِ العفيفاتِ الغافلات، لا تتحرَّج المؤمنة أن تمتازَ به بين النساء وإن جحظتْ إليها العيون ولمزتها الألسُنُ، فهي تدرك أنه لن يضيرَ الغمامَ طنينُ الهوام. فعارٌ على المسلمِ وقد هُديَ إلى الحقِّ أن يتحرجَ أوْ يخجلَ من استعلانِه بشعائرِ دِيْنِهِ، فالحق أحقُّ أنْ يُتَّبعَ، وهو أولى بالمجاهرة والاستعلان.
إنَّ التقليد والتشبُّه لا يهبُ الضعيفَ العزَّة، ولا يردُّ للمظلوم حقَّه، ولكنه سلوكٌ يفعله المنهزمون ويوفِض إليه المرتابون، فيحتقِبون عظيمَ الإثم بما لا يحظَوْن معه بنفع أصلاً، وهذا التقليد المَقيتُ يشي بلا شك بهزيمة نفسية وضعْفِ إيمانٍ وتزعْزُعِ يقين.
فارفعْ ـ أيها المسلم ـ بدينك رأسًا، واشمَخْ به أنفًا، ولا تلفَّت إلى كلِّ همَّاز لمَّاز، فما أنت بأكرم عند الله من نبيه، وهو الذي أوذي بالهمز والغمز واللمز، فما زاده ذلك إلا ثباتًا ويقينًا واعتزازًا بالإسلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوصية الرابعة: السفر مظنة الأخطار، وطول السلامة لا تمنح ضمان الرجوع، وإذا كان المسلم مأمورا أن يكتبَ وصيته وهو في الأمن والاستقرار فكيف إذا كان على جناح سفر تعترضه المخاوف وتنوشه الأخطار.
والوصية مستحبة، ولكنَّها تجبُ لمن كان للناس ديونٌ وحقوقٌ عليه، وقد قال : ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)). فحقٌ على كل من كان في ذمته حق لأحد أن يكتب وصيته، آمنًا كان أو خائفًا، صحيحًا أو مريضًا.
إن حقوق الناس أمرها عظيم خطير، نستجلي ذلك من جملة أحاديثٍ عن المصطفى ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن الرسول قام فيهم، فذكر لهم أنَّ الجهادَ في سبيل الله والإيمانَ بالله أفضلُ الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله تُكفَّرُ عني خطاياي؟! فقال: ((نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرُ مدبر)) ، ثم قال : ((كيف قلت؟)) فأعاد عليه، فقال: ((نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك)) ، وفي الحديث الآخر: ((يغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين)) أخرجه مسلم، وعنه أنه أتي بجنازة ليصلي عليها فقال: ((هل عليه من دَين؟)) قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازةٍ أخرى فقال: ((هل عليه مِن دَين؟)) قالوا: نعم، فقال : ((صلُّوا على صاحبكم)) ، فقال أبو قتادة: عليَّ دَينُه يا رسول الله، فصلى عليه. متفق عليه. وعن محمد بنِ جحشٍ قال: كنا جلوسًا عند رسول الله ، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: ((سبحان الله! ماذا نُزِّل من التشديد)) ، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نُزل؟! فقال: ((والذي نفسي بيده، لو أنَّ رجلاً قُتل في سبيل الله، ثم أحيي ثم قُتل، ثم أحيي ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينُه)) أخرجه النسائي بسند صحيح.
فعلى من في ذمته حقٌ لأحدٍ أن يوصي بقضائه وأدائه إلى أهله، لا سيَّما إذا عزم على السفر؛ إبراءً للذمة وتحلُّلاً من التبعة.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة...
(1/4903)
حكم قتل رجال الأمن وغيرهم من الآمنين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
نايف بن أحمد الحمد
غير محدد
28/11/1426
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حادثة الاعتداء على رجال الأمن. 2- عقوبات القتل بغير حق. 3- جريمة إيواء المحدثين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد وقعت حادثة منكرة قبل أيام، قام بها بعض الجهلة، وهي الاعتداء على رجال الأمن، حيث قُتل منهم خمسة وهم يؤدّون عملهم في حفظ الأمن، ولا شك أن هذا العمل منكر ومحرم بأدلة شرعية مشهورة ومعروفة. إننا إذا رأينا أين وقعت تلك الحوادث نجدها قد وقعت في بلد آمن يحكم شرع الله تعالى في شؤونه، ومَن الذي قُتل غدرا وظلما؟ إنهم عدد من رجال الأمن الذي يبذلون الغالي والنفيس لحفظ الأرواح والأموال، ويسعون جاهدين لمكافحة الجريمة واستتباب الأمن. أهكذا يعاملون؟! وهكذا يُشكرون؟!
إننا بالرجوع لما جاء في الكتاب والسنة من آيات وأحاديث نجد أن هذا العمل من كبائر الذنوب، وقد توعّد الله تعالى مرتكبه بعقوبات عظيمة منها:
أولا: قال الله تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. فتأمل هذه العقوبات التي ذكرها الله جل جلاله: خلود في جهنم، وغضب الجبار عليه، ولعنه له، والعذاب العظيم. إن هذه العقوبات لا تكاد تجدها مجتمعة في ذنب واحد، فكيف وقد توعد الله تعالى من قتل مؤمنا متعمدا بها؟! لذا ذهب ابن عباس إلى أن القاتل عمدا لا توبة له، فعن سالم بن أبي الجعد قال: سئل ابن عباس عن قاتل مؤمن متعمدا، قال: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية، قيل له: أرأيت له إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: أنى له الهدى؟! قال رسول الله : ((ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا، يجيء يوم القيامة حاملا رأسه بإحدى يديه، يلزم صاحبه باليد الأخرى، تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن جل وعزّ، يقول: سل هذا فيم قتلني؟)) والذي نفسي بيده لقد نزلت وما نسخها من آية حتى قبض نبيكم ، وما أنزل بعدها من برهان. رواه أحمد (1/240) والنسائي (3999) وعبد بن حميد (680) واللفظ له.
ثانيا: قال تعالى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69].
ثالثا: أن قتل المسلم من الموبقات والمهلكات، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) رواه البخاري (2615) ومسلم (89).
رابعا: أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
خامسا: زوال الدنيا عند الله تعالى أهون من قتل المسلم، عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) رواه النسائي (3987) وابن ماجه، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (933): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (3/201).
فتصور أخي الكريم، زوال الدنيا كلها أهون وأيسر من قتل مسلم واحد، ألا تدرك معي عظم هذا الذنب؟! قال ابن العربي رحمه الله تعالى: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟! فكيف بالمسلم؟! فكيف بالتقي الصالح؟! ". ينظر: فتح الباري (12/189) وفيض القدير (4/506).
بل جاء في رواية البراء بن عازب : ((لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أنَّ أهلَ سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار)) رواه الأصبهاني وهو في صحيح الترغيب والترهيب (1/629).
سادسا: لعظم هذا الذنب فإنه أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة فيما يتعلق بحقوق العباد، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) رواه البخاري (6471) ومسلم (1678).
سابعا: أنه لا يقدم على هذا العمل من وقر الإيمان في قلبه، عن عبد الله بن عمر عن النبي قال: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) رواه البخاري (6480). فهذا الوعيد لمن حمل السلاح فكيف بمن باشر القتل؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (7/41): "وكذلك قوله: ((من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا)) كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفى عنه الاسم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد السالمين من الوعيد".
ثامنا: أن من وقع في ذلك فقد ضيق على نفسه رحمة الله تعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)) رواه البخاري (6469). قال ابن العربي رحمه الله تعالى: "الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول" ينظر: فتح الباري (12/188).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) رواه البخاري (6470)، والورطات جمع وَرْطة بسكون الراء، وهي الهلاك، يقال: وقع فلان في ورطة أي: في شيء لا ينجو منه.
تاسعا: أن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة.
عباد الله، لا يخفى على أحد من المسلمين حرمة الكعبة المشرفة، أتدري أن حرمة دم المسلم عند الله أعظم من حرمتها؟! فلو رأينا رجلا يهم بهدم الكعبة لقامت قيامتنا غيرةً على بيت الله الحرام فكيف ونحن نرى من يقتل أبناء المسلمين؟! فقد نظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك! وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي (2032) وحسنه.
عاشرا: أن الكافر في أرض المعركة إذا نطق بالشهادة حرم قتله مع أن ظاهره إنما نطق بها خوفا من القتل، عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا اله إلا الله، فكفَّ الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي ، فقال: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا اله إلا الله)) ، قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. رواه البخاري (4021) ومسلم (96). وفي لفظ لمسلم: فقال رسول الله : ((أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟!)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!)). قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم (2/107): "فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر".
ومما جاء في قرار لهيئة كبار العلماء تعليقا على هذا الحديث: "وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال، لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي عذره وتأويله، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها".
أما ما يتعلق بحكم إيواء المحدثين فاسمع ـ أخي الكريم ـ للحديث الذي رواه أمير المؤمنين علي قال: قال رسول الله : ((لعن الله من آوى محدثا)) رواه مسلم (1978)، وعنه عن النبي قال: ((المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل)) رواه البخاري (1771). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري (4/84): "وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء، والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه الله ورسوله، روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله : ((لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا)) ، وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به، فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث، كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب، فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها، ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه، ولا يجوز كتمانه، فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل، فإنه لا يحل الإعلام به؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، بل يجب الدفع عنه لأن نصر المظلوم واجب". ينظر: السياسة الشرعية (67) ومجموع الفتاوى (28/323).
لذا الحذر الحذر من إيواء المحدثين، بل الواجب نصحهم وإرشادهم ودلالتهم إلى الطريق المستقيم، ومن تلبَّس بشيء من ذلك فالواجب عليه تسليم نفسه لولاة الأمر، وليعلم أن ذلك خير له من التمادي في الباطل، فالرجوع إلى الخير خير وأبقى، فلعل الله تعالى أن يكرمه بتوبة نصوح تكفر عنه ما اقترفت يداه، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
وأختم بأمر مهم وهو أن بعض الغيورين وفقهم الله تعالى يظنون أن من حقهم إقامة الحدود سواء بالقتل أو غيره، ولا شك أن هذا مخالف لهدي النبي ، ففي قصة حاطب عندما خاطب أهل مكة يخبرهم بخروج رسول الله لحربهم وهذا بلا شك ظاهره خيانة لله ورسوله، حتى قال عمر : يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال له النبي : ((إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه البخاري (2845) ومسلم (2494). فهنا نلاحظ أن عمر قد استأذن النبي في قتله ولم يبادر إلى تطبيق الحكم الشرعي الذي ظنّه وهو قتل المرتد؛ مما يدل على أن إقامة الحدود منوط بولي الأمر لكونه أعلم بشروط إقامتها وانتفاء الموانع، ولا أعلم حادثة واحدة قام فيها صحابي بقتل رجل بدون إذن النبي مع وجود المنافقين في عهده، وقد نزلت فيهم آيات كثيرة، وقد أخبر النبي حذيفة بن اليمان بأسمائهم، ولو أن إقامة الحدود منوطة بعامة الناس لقتل بعضهم بعضا، وكل مَن وقع بينه وبين أحد خصومة أو نزاع بادر بقتله مدعيا أنه رأى المقتول مرتكبا لما يوجب قتله من سب أو استهزاء أو زنا وغيرها من موجبات القتل، ولانتشر بسبب ذلك الخوف والقتل وانعدم الأمن الذي حفظه من مقاصد الشريعة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4904)
العداوة والهجران بين الأفراد والجماعة سلوك ممقوت
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
محمد بن علي المسعودي
تاوريرت
5/10/1427
مسجد خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام لتمتين عرى المحبة والأخوة. 2- إبداء العداوة وإغراؤها انحراف نفسي وخلقي إلا في ما أذن فيه الشرع. 3- الصلح بين الناس خلق الأنبياء والصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد دعا الإسلام إلى تمتين العرى وتقوية الصلات بين أفراد المجتمع، وشرع لذلك شرائع تهدف لتحقيق هذا الخلق العظيم الذي به تستقيم الحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات. ومما شرعه الإسلام في هذا المجال:
1- وجوب المحبة بين المرء وأفراد مجتمعه، سواء أكانوا من الأقارب بالنسب أو المصاهرة أو الرضاع أم كانوا أجانب، والنصوص في هذا المجال كثيرة، عن أنس أن رسول الله قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) رواه النسائي، وعن أنس عن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) رواه البخاري.
2- مبدأ الأخوة: ومما شرعه أيضا مبدأ الأخوة وهي مبدأ عظيم، ورابط ديني أساسي في تقوية العلاقات البشرية الاجتماعية، وتحقيق المصالح العاجلة والآجلة، قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. عن عبد الرحمن بن شماسة أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، العداوة والهجران بين أفراد المجتمع المسلم خلق قبيح وتصرف مشين، حذر الإسلام من الوقوع فيه، والعداوة سلوك ينم عن أمراض قلبية خطيرة كالبغض والكراهية والحقد والحسد، عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) ، وذكر سفيان أنه سمعه منه ثلاث مرات. رواه البخاري. فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها: معاملةٌ بجفاء أو قطيعة أو إضرار؛ لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإنّ مشتقّات مادة (ع د و) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام.
أيها الإخوة المؤمنون، العداوة بين أفراد المجتمع لا تأتي إلا بالشر، فهي تنشأ عن البغض والكراهية الشديدة، وتؤدي إلى الفرقة وتعطيل المصالح وتفويتها، وإلى قطيعة الرحم التي أمرنا الشرع بوصلها، وإلى الظلم وهضم الحقوق والتفريط في الواجبات، وإلى محق الحسنات وإحباط أعمال الخير، عن أبي الدرداء عن النبي قال: ((ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((صلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) رواه البخاري في الأدب المفرد. فالمقصود بفساد ذات البين العداوة والبغضاء، والمقصود بالحالقة إزالة الحسنات وإحباطها.
والعداوة والهجران سببان في عدم رفع الأعمال وقبولها، ففي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه مالك.
اللهم طهر قلوبنا من البغض والكراهية، وأصلح ذات بيننا، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن كثيرا من الأمراض التي ظهرت في مجتمعنا التي أضرت بعلاقاتنا سببها العداوة والهجران، لذلك اعتبر الإسلام صلاح ذات البين من أهم العبادات، بل أفضل من الكثير منها كما ورد في الحديث السابق عن النبي قال: ((ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((صلاح ذات البين)) الحديث، فالمسلم الحق من يصلح علاقاته مع الناس، ويعتذر عما صدر منه من أذى أو خشونة في المعاملة أو فظاظة في القول أو غلظة في القلب. وصلاح ذات البين يتطلّب جهدا كبيرا وصبرا جميلا وغضا للطرف عما صدر عن الخصم من سوء المعاملة، وربما في بعض الأحيان يستوجب التنازل عن بعض الحقوق، قال تعالى: وَلاَ تَسْتَوِي ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيِّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يلقاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
والصلح بين الناس قيمة خلقية عالية، باشرها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأهل الخير من هذه الأمة والأمم السابقة، قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:14]، قال الإمام الرازي رحمه الله: "هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير. ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ، وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: أَوْ مَعْرُوفٍ ، وأما إزالة الضرر، فإليها الإشارة بقوله: أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ ، فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية"، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا)) رواه ابن حبان.
وللصلح مجالات مختلفة، قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين.
ومن صور الصلح:
1- الصلح بين الزوجين اللذين وقع بينهما نشوز أو خصومة، وهذا النوع من الصلح أصبح مُلِحًّا وضروريا لكثرة وقوع الخصومات والمشاكل في الحياة الزوجية، مشاكل قد تؤدي إلى الفراق وحلّ العصمة الزوجية، فينتج عن ذلك أضرار ومخاطر أسرية ومجتمعية، قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوِ اعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يَّصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 127].
2- الصلح في الحقوق المالية، وهذا النوع هو الذي عنون له الفقهاء في كتبهم وخصصوه بالحديث، وعرفه ابن عرفة بأنه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه.
3- الصلح في الجنايات.
4- الصلح في النيل من العرض أو الطعن في الشخصية.
وهناك أنواع أخرى من الصلح، كالصلح بين الدول والصلح بين المسلمين وغير المسلمين.
أيها الإخوة المؤمنون، قد تبين لنا جميعا ما ينتج عن العداوة والفرقة والشقاق والخصومات من الضرر الديني والنفسي والاجتماعي والاقتصادي؛ لذلك حرم الإسلام تلك السلوكيات الذميمة كلها، كما تبين لنا أيضا فضل إصلاح ذات البين والصلح بين الناس، وما له من ثمار ونتائج كريمة؛ كرفع الضرر ولمِّ الشمل.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ذات بينكم، والحمد لله رب العالمين.
(1/4905)
المراقبة: آثار وعواقب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثَل للمراقبة. 2- حاجة الناس إلى مراقبة الله تعالى. 3- سعة علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء. 4- فضل خلق المراقبة. 5- آثار المراقبة وثمارها. 6- البواعث على مراقبة الله تعالى. 7- من آثار ضعف المراقبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، طالبٌ نجيب يتقد حماسًا ويثور ذكاءً، اهتم به معلمه، وظل يحسن تربيته ورعايته نظير هذا الذكاء وتلك الحماسة، وظل ذلك المعلم يمارس دورًا فقِد في أزماننا هذه كثيرًا، حين ظل يعمّق القيم في تدريسه، يهتم بالمعاني والآثار المترتبة على تعليمه، ويجهد في ذلك جهدًا عظيمًا. وفي يوم من الأيام أراد أن يجرّب أثر ذلك التعليم على أرض الواقع، فجمع الطلاب حوله وأعطى كلاّ منهم طائرًا، وقال لكل واحد منهم: اذبح هذا الطائر حيث لا يراك أحد، مضى كلّ منهم إلى جهة، وتستّر ما استطاع، وغيّب كل منهم نظر الناس والدواب والحشرات عما يريد وذبح طائره، ورجع هؤلاء الطلاب وكلّ قد تخلّص من ذلك الطائر غير طالب واحد عاد بطائره بين يديه، فسأل المعلم المربي كل واحد من أولئك الطلاب: أين ذبح طائره؟ فكلهم ذبحوا ذلك الطائر واجتهدوا أن لا يراهم أحد، وكانوا كلهم يتطلعون لثناء معلّمهم، فالتفت المعلّم إلى صاحب الطائر وقال له: لماذا عدت بالطائر بين يديك؟ فقال قولاً فصلاً قال فيه: إنك أمرتني أن أذبحه في مكان لا يراني فيه أحد، وقد اجتهدت غير أني لم أجد مكانًا يندّ عن نظر الله تعالى، فعدت إليك بالطائر حيًّا، أنّى لي أن أجد مكانًا خاليًا من نظر الله تعالى؟!
وصدق في ما قال، ونجح في الاختبار نجاحًا رائعًا حين أدرك أن عين الله ترقبه، وأن ظلام الليل الحالك مهما اشتدّ سواده لا يعفي من نظر الله تعالى إليه. ورسب أولئك الناظرون إلى أعين الآخرين حين غفلوا عن هذه الرقابة وراقبوا أعين المخلوقين.
أيها المسلم، ما أحوجنا إلى هذه المراقبة! ما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم في حياتنا حين ينطلق المسلم في بيته وسوقه، في حله وسفره، في نهاره وليله، عند وجود الناس أو في الخلوة عنهم، ما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم!
أيها المسلم، تعال نتأمّل في كتاب ربنا، تعالَ نقلب صفحاته لنرى علم الله تعالى ورقابته لسيرنا في ساحة الدنيا الفسيحة، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "يقول تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث ما كانوا وأين ما كانوا... فيطلع عليهم، ويسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله تعالى به، وسمعه لهم" اهـ.
والله تعالى قد قرر هذا المعنى في كتابه كثيرًا، ولفت أنظار المتفكرين في كتابه إليه، كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، وقال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم" اهـ، وقال السعدي رحمه الله تعالى: "الشهيد المطلع على جميع الأشياء، سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه" اهـ.
كما قال تعالى وهو يخبر عن يوم القيامة واطلاع الله تعالى على أعمال الأمم: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6، 7]، قال الأصبهاني رحمه الله تعالى: "فينبغي لكل عامل أراد عملاً صغر العمل أو كبر أن يقف وقفة عند دخوله فيه، فيعلم أن الله تعالى شهيد عليه، فيحاسب نفسه، فإن كان دخوله فيه لله وإلا رد نفسه عن الدخول فيه وتركه" اهـ.
وقال الله تعالى وهو يقرر هذه الرقابة الربانية: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، وقال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108].
أيها المسلم، إن هذه الرقابة دليل على الخشية والتعظيم لله تعالى، ومتى ما انفرط عقدها من حياة الإنسان وخلي منها القلب ضاع مصير هذا الإنسان، وضل عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم، وقد عرض النبي حالة توجل منها القلوب وتذرف منها الدموع حين قال: ((ليأتين أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تهامة بيض، يكبهم الله تعالى على وجوههم في النار)) ، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلهم لنا! فقال : ((يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) صححه الألباني.
أيها المسلم، هذا الخلق ـ أعني خلق المراقبة ـ خلق عظيم، متى ما تدثّر الإنسان به فاح ذكره وطيبه، ونال من خيري الدنيا والآخرة ما تكون سعادته. قال ذو النون: "علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظّم الله، وتصغير ما صغّر الله"، وقيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه"، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سرّه حفظه الله في علانيته" اهـ، وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وفي الجملة فتقوى الله في السر هي علامة كمال الإيمان، وله تأثير في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين. قال أبو الدرداء: ليتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين. وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته. وقال غيره: إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله تعالى ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه... فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله، فإنّ من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق. ومن أعجب ما روي في هذا عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيب أبو محمد تاجرًا يكري الدراهم، فمرّ ذات يوم بصبيان فإذا هم يلعبون فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا، فنكّس رأسه وقال: يا رب، أفشيت سري إلى الصبيان، فرجع وجمع ماله كله وقال: يا رب، إني أسير وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدّق بالمال كله وأخذ في العبادة، ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد، فبكي رحمه الله" اهـ.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب لعالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: إن منزلة المراقبة منزلة عظيمة جدًا في طريق السائرين إلى الله تعالى، وهي عون المؤمن على الوصول إلى درجات الجنان ومنازل رضا الرحمن.
أيها المسلم، المراقبة سرّ بين الله تعالى وبين العبد، يعظم العبد ويعزّ في عين الله تعالى وأعين المخلوقين على قدر عظمة هذه المنزلة وصغرها في قلبه، فإذا أراد أن يتكلّم بكلمة نظر لماذا يخرجها الآن؟ وما المصالح المترتبة على إخراجها؟ وهل هي في مرضاة الله أو سخطه وغضبه؟ وهل هي في ميزان الحسنات أو ميزان السيئات؟ وهكذا كل أعماله التي يعملها ينبغي أن ينظر لها بمثل هذا النظر، وهذا هو العمل بمقتضى اسم الله تعالى الرقيب، ونظرٌ خاص إلى الأعمال التي يعملها، فيصحح أولاً مقصدها والمراد منها، ويخلص فيها القيام لرب الأرض والسماء، فإذا صحح نظر البداية اهتمّ بالأداء وصححه على وفق السنة، وعالج فيها أسباب القبول، وحرص على أن يقدمها لله وهي في أزكى صورة وأبهى حلة، ونظر في نهايتها بالاستغفار والتوبة ليختم نهايتها بالقبول، وهكذا المؤمن في صلاته وصدقته وصيامه وحجه وسائر أعماله الظاهر منها والباطن، ومتى كان المؤمن يستشعر عظيم مراقبة الله تعالى صحت منه الخواطر، وسلمت الظواهر، وكان القبول أحرى وأولى وأعجل. وقد أحسن القائل حين قال:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تَحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوبٌ على آثارهنّ ذنوب
سئل بعضهم: بم يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟ فقال: بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره إلى ذلك المحظور. قال زيد بن أسلم: مرّ ابن عمر براعٍ فقال: هل من جزرة؟ فقال الراعي: ليس ها هنا ربها، قال ابن عمر: إذا سألك عن غيابها فقل له: أكلها الذئب، قال: فرفع بصره إلى السماء وقال: فأين الله يا ابن عمر؟! فأعتقه وأعطاه الغنم. جوّد إسناده الألباني في مختصر العلو (1/127).
وفي الصحيح أن امرأة ألمت بها حاجة في سنة من السنين، وطافت من يغيثها فلم تجد إلا ابن عم لها، فاشترط عليها أن تخلّي بينه وبين نفسها، فرفضت ورضيت بالحاجة على أن تخون عرضها أو تكسر حياءها وعفتها، ودارت الأيام فازدادت بها الحاجة فعادت إليه مجبَرة تطلب مالاً، فعرض عليها مرة أخرى نفس الطلب، فوافقت لحاجتها، ولما جلس منها ما يجلس الرجل من امرأته لم تغب عنها مراقبة الله تعالى فذكّرت بها صاحبها وقالت له: اتَّق الله، لا تفض الخاتم إلا بحقه، فتذكّر مراقة الله تعالى وقام وتركها. وهكذا هي المراقبة تظلّ كالجبل الأشمّ في أعين الخائفين، وظلت ماثلة في عين هذه المرأة رغم السنون التي ألمّت بها، وهكذا هو المؤمن التقي.
راود رجل امرأة حتى وافقته على ما أراد، فأدخلها قصرًا مشيدًا، وحين أرادها طلبت منه أن يحكم الأبواب، فأحكم غلقها جميعًا، وعاد إليها فرحًا بموافقتها، وحين جلس إليها وقد استحكمت شهوته على خاطره قالت له: أقفلتَ جميع الأبواب؟ قال: نعم، قالت: بقي باب لم يقفل، قال: أي باب؟ قالت: الباب الذي بيننا وبين الله تعالى، فاقشعر جلده وتركها وقام.
ويقع آخر تحت وطأة الشهوة حتى انفرد بتلك الحسناء في ليلة مظلمة لم تبدُ فيها غير تلك النجوم فقالت: ألا يرانا أحد؟ قال: ومن يرانا في ظلام كهذا غير الكواكب؟! فقالت: وأين مكوكِبها، فقام وتركها.
قلوب العارفين لَها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنة بسرٍّ قد تناجي تغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمينا
فتسقيها شراب الصدق صرفًا وتشرب من كؤوس العارفينا
أيها المسلم، المراقبة خلق عظيم يأتي من تعظيم أمر الله تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته، وإدراك سر ربوبيته وألوهيته عز وجل، وكثير من أولئك الذين يتجاوزون هذا الستر بينهم وبين الله تعالى لم يدركوا معاني هذه الأسماء والصفات.
أيها المسلم، نحن في أمس الحاجة إلى التربية العظيمة على هذا الخلق في حياتنا أولاً، وطريق ذلك دراسة أسماء الله تعالى وصفاته: الرقيب، الشهيد، المحيط، العليم، فإن هذه دلائل ربوبية الله تعالى. ومتى ما أولاها المسلم عنايته عرف عظيم سلطان الله تعالى عليه. وهذه الأسماء وغيرها هي في كتاب الله تعالى، ومن قرأ القرآن متأملاً في هذه الأسماء ووقف عند كل اسم أو صفة متفكرًا متمعّنًا أدرك ذلك بيّنًا واضحًا، وعظم الله تعالى في قلبه، وعظّم أوامر الله تعالى في حاله. ومن ثم فالمسؤولية عظيمة جدًا، ولا طريق للخلاص منها إلا بتعظيم أمر الله تعالى.
لقد حكى الله تعالى أحوال قوم يقدمون على الله تعالى فتفضحهم جوارحهم، وتشهد عليهم بما عملوا كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:20-23]. وليس هناك بين يدي الله تعالى يوم القيامة غير هذه المواقف عافانا الله وإياكم شر الغفلة عن رب العالمين.
وإذا كان هذا يوم القيامة حين لا ينفع الندم ولا الحسرة فإن بين يدي الدنيا آثارًا عاجلة لضعف هذا الخُلُق، فلا تجد في الغالب الأعم ممن يقع في حرمات الله تعالى إلا وقد ضاع صيته بالسوء، وانتشرت عليه القالة بين الناس، وعاد حامده ذامًّا، وأنت تراه لا تقبله القلوب، بل تفرّ منه، ولا تقوى على السكن إليه، وهذا سر من أسرار الله تعالى، وهو واضح مشاهد لا يحتاج إلا دليل.
ومن آثار ضعف هذه الرقابة العقوبات التي تلمّ بالإنسان من آثار ذلك، وأوضح الأمثلة على ذلك أكل الربا والتهاون بالحرمات ونحو ذلك، وما الأسهم إلا مثال من أمثلة كثيرة هي خلف هذه الآثار، وكذلك ما العقوبات التي تنتشر في البيوت من الطلاق أو الخلاف والتنازع والمخدرات ونحو ذلك إلا بعض آثار ذلك، والله المستعان.
ألا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4906)
حفظ القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل مجالس الذكر. 2- فضل أهل القرآن. 3- الحث على دعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، عضّوا بالنواجذ على حبله المتين ونوره المبين، استمسكوا بكتابه واستنّوا بهدي حبيبه.
أيها المؤمنون، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادَوا: هلمّوا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: وكيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا، فيقول: فما يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة، فيقول: فمِمَّ يتعوَّذون؟ فيقولون: منَ النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فرارا وأشدَّ لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم)).
هذه رحمة من الرحمات التي تغشى حلقات تحفيظ القرآن كل ليلة بين المغرب والعشاء، كلما اجتمعوا يتكرر هذا الحوار الجليل، ويُختتم بفيض الإحسان وعطاء المنان: ((أشهدكم أني قد غفرت لهم)) ، كلما اجتمعوا على مأدبة الله، ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم.
إنهم العاكفون على كتاب ربهم، يردّدون آياته فيحفظونها، ويتعلمون تلاوته ويتقنونها، يتغنون بخير الكلام يوم تشاغل غيرهم بغيره، و((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) رواه البخاري. ألسنتهم رطبة بذكر الله، أفواههم معطرةٌ بكلام الله، جلودهم في مأمن من عذاب الله، فقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله قال: ((لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق)) حسنه الألباني، قال أبو أمامة : (إن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن).
إنهم أسعد الناس بصحبة القرآن، يقرؤونه في كلّ أحوالهم، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، أنى كانوا وحيث توجهوا، في البيت والسيارة، وفي أوقات الانتظار، وحين يزدحم الطريق أو يطول المشوار، في الليل والنهار. إن مثلهم ومثلَ من لا يحفظ القرآن كمثل مسافرين: الأول زاده التمر, والآخر زاده الدقيق, فالأول متى ما جاع أخذ التمر وأكل, والثاني لا بد له من النزول والعجن وإيقاد النار والخبز والانتظار، ولربما استثقل هذه الأعباء فآثر الجوع، فحافظ القرآن متى اشتاق ترنم، ومتى ضاق تنسّم، خير ما في الدنيا مجموع في صدره، نعيم الحياة ولذتها بين جنبيه، علمه وسعادته وهداه ولذته وأنسه بين عطفيه.
إنهم الذين أوتوا العلم، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، حفظ الله بهم كتابه، وثبت حجته، فقال في الحديث القدسي: ((إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان)) رواه مسلم. قال النووي: "معناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مرّ الزمان".
إنهم الرجال حقًّا وإن كانوا صغارا، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ.
إنهم المقتفون أثر سيد المرسلين الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ويراجعه مع جبريل عليه السلام، ويترنم به آناء الليل وأطراف النهار.
يصلون المغرب ثم يجلسون ينتظرون العشاء، فتصلي عليهم الملائكة، فعن أبي هريرة مرفوعا: ((فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) رواه البخاري.
إنهم أحق الناس بالإمامة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله : ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)).
المقدّمون حتى على من هو أكبر سنا وأكثر فقها وأشرف نسبا وأوجه مكانة، فعن عمرو بن سلمة قال: كان أبي وافدا إلى رسول الله في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة فقال: ((يؤمكم أقرؤكم)) ، وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدموني فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني. وروى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة ـ موضع بقباء ـ قبل مقدم رسول الله كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا.
وهم المقدَّمون في الدفن أيضا، فعن هشام بن عامر قال: لما كان يوم أحد أصاب الناس جهد شديد، فقال النبي : ((احفروا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر)) ، قالوا: يا رسول الله، فمن نقدم؟ قال: ((قدِّموا أكثرهم قرآنا)) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
وهم الذين جعل الله إكرامهم من إجلاله جل في علاه، فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط)) رواه داود وحسنه الألباني، وصدق رسول الله : ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين) ) رواه مسلم.
ولكنهم في الآخرة أعظم رفعة وأكثر حظوة عند الله، وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني. قال ابن حجر الهيتمي: "الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران)) متفق عليه، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا ربِّ حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ زده، فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق وتزاد بكلِّ آية حسنة)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ولك أن تتأمل هذا المشهد العجيب، وتتملى تلك الحفاوة العظيمة التي تتلقى حافظ القرآن ووالديه معه يوم القيامة، عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك، وإن كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب، أنّى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وفي رواية أحمدَ عن بريدة : ((ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ)).
إنهم أولى الناس بشفاعة القرآن؛ لأنهم أكثر الناس تلاوة له، عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) رواه مسلم.
ويكفيهم من كل ذلك أنهم أهل الله وخاصته، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إن لله أهلين من الناس)) ، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
كل هذا يجنونه بعمل مُيسّرٍ، قد أعين صاحبه عليه، حتى إننا لنرى مِن الأعاجم مَن لا يقيم من العربية جملة واحدة، ولكنه يقرأ القرآن غضا طريا كما أُنزل، وصدق الله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، فإنه لمن المحال أن نحيط بفضائل حفظ القرآن أو نحصيها، فهي فوق ما تحتمل أذهاننا أو تعي عقولنا أو تدرك أسماعنا، كم مرة يردّد أحدُهم الآية ليحفظها وله بكل حرف منه حسنة والحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء. إن جلسة ما بين المغرب والعشاء وحدها تعود عليه بما لا يحصى من الحسنات، فوق المغفرة والرحمة والسكينة وشهود الملائكة، وإن الله جل في علاه يذكرهم، ثم إذا وفدوا عليه يوم القيامة أكرمهم أيما إكرام، كيف لا وهم أهله وخاصته؟! جعل إكرامهم من إجلاله تعالى، ووعدهم بالمزيد. إنه والله خير لهم من كل ما في هذه الدنيا، من متاعها الزائل ونعيمها الراحل وزينتها الخداعة وتجارتها الكاسدة، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ، يقول النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) رواه البخاري ومسلم.
فيا من يريد أن يجني مثل جنى الحفاظ ويفوز بما فازوا به يوم المعاد، بادر بحفظ ما تستطيع، وادفع بنيك وشجعهم ليكونوا في ركاب الفائزين، وأعن على حفظ القرآن بمالك تجده عند الله غدا، فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله : ((من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت)) أخرجه أبو سهل القطان وصححه الألباني. من علمها بنفسه أو علمها بماله فله أجرها ما تليت، كلما رددها حافظها وتغنى بها، كلما راجعها أو سمعها، كلما رتلها أو قام يصلي بها، كلما تلاها عاد إلى صحيفتك مثل أجرها، الحرف بحسنةٍ، والحسنة بعشرٍ إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء.
ما أعظمه من أجر وما أجزله من ثواب، تعين على حفظ آية من كتاب الله، فيكون في ميزانك أجر تلاوتها كلما تليت، ربما تكون أو تكونين بين المغرب والعشاء في البيت أو في السوق أو في أودية الدنيا، تستمتع من حلالها الفاني، وعداد حسناتك يعمل كما لو كنت في المسجد تقرأ القرآن، فكيف لو كان لك أجر عشرة حفاظ أو عشرين؟! إنهما النعمتان اللتان لا يحسد إلا من ظفر بهما، ذاك يتلوه، وهذا له مثل أجره، وصدق رسول الله : ((نعم المال الصالح مع الرجل الصالح)) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
إن مسيرة حفظ القرآن وتربية الأجيال على هديه في هذا المسجد المبارك تنتظر دعمكم، فلا تبخلوا على أنفسكم بخير تحمدوه غدا...
(1/4907)
لهيب أسواق المال يحرق القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, موضوعات عامة
الفتن, جرائم وحوادث, قضايا فقهية معاصرة
وليد بن وصل المغامسي
جدة
مسجد الإمام أبي حنيفة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آثار انهيار الأسهم على المساهمين. 2- فتنة المال. 3- ذم الجشع والطمع والحرص على الدنيا. 4- تحذير النبي من فتنة الدنيا. 5- فضل القناعة والرضا بقسم الله تعالى. 6- حث الإسلام على التجارة الراشدة. 7- الأرزاق مقسومة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قام بربط حبل في أصل مروحة غرفته، ثم قام بلف الحبل على رقبته كما تلتف الحية الرقطاء على فريستها، وهو يقف على كرسيه الذي طالما جلس عليه وهو متسمر أمام شاشة حاسوبه يتابع بشغف مؤشر السوق الذي أوصله إلى هذه الحالة الكارثية، فما هي إلا لحظات بعد أن أزاح الكرسي برجليه إذ بجسمه يتدلى في الغرفة، وإذ برقبته تنعقف إلى الأمام، وإذ بلسانه يخرج من فمه طريحا على شفته، معلِنا خروجَ روحه من جسده، وإذ بعينيه تجحظ وتحكي عن صَولات وجولات في عالم الأسهم، أغلبها مأساوي.
وثان أصيب بجلطة دماغية ـ حمانا الله وإياكم ـ عندما راء الشاشة تتشحّط في دمائها، بل في دماء أمواله التي وصل نهاره بليله في سبيل تحصيلها.
وثالث ضربته نوبة قلبية مفاجئة، فأحالته جثة هامدة لا حراك فيها، عندما رأى أمواله التي اقترضها من البنك، ورهن في سبيلها مستقبله ومستقبل أسرته، أصابها إعصار فيه اختلاس فاحترقت.
ورابع سالت روحه على جنبه حسرات وآهات عندما أخطره البنك أن رصيده الذي كان يعدّ بعشرات الملايين أصبح بضعة من الألوف، فنزل من قمّة موجة كان يعدّ فيها من الأثرياء، إلى قاع موجة أصبح فيها من أهل الزكاة.
وخامس رهن مشاعِرَه ومشاعر أبنائه ومن حوله بلونين تعرفونهما جيدا، فإن كسي سهمه بحلّة خضراء بلون الربيع رأيته فرحانا جذلا آمنا مطمئنّا، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وإن كانت الأخرى التي تعرفون رأيت في وجهه غمّة البؤس وفي عينيه حمرة الموت بحمرة سهمه، فكأنما قد فقد كل أحبابه بل وكل أصدقائه وجيرانه وفصيلته وعشيرته.
وسادس وسابع وثامن إلى آخر تلك السلسلة الطويلة من المصائب والمآسي التي لا تخفى عليكم، حتى إنك لا تكاد تجد بيتا أو أسرة إلا وقد أصابها شيء من حرّها وقرها، وتلوّثت بشيء من دنسها وحرامها، وتمثّل فينا قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14، 15]، وقول نبيه : ((إن لكل أمّة فتنة، وفتنة أمتي المال)) ، وقوله: ((يهرم ابن آدم ويشبّ منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال)).
وحتى أكون صريحا مع نفسي ومعكم، لا أجد سببا لهذه المصائب التي حلّت بمجتمعنا ـ وذلك فيما أستطيع أن أتحدث عنه ـ إلا الجري واللهث في طلب الدنيا والتسابق المحموم في تحصيل المال بأيسر الطرق وأسهلها والتنافس المذموم في القفز إلى عالم المال والثراء بأسرع الوسائل الشرعية وغير الشرعية، المنطقية وغير المنطقية، حتى أصبحنا كالفراش والجنادب التي رأت نارا مستوقدة في ظلمات الليل المدلهم، فظنت أنها تباشير الإصباح، فألقت نفسها في أجيجها، فاصطلت بلهيبها وما هو بلهيبها ولكنه لهيب الطمع، واحترقت بأوارها وما هو بأوارها ولكنه أوار الجشع. فعلت ذلك دونما تبصّر أو تفكر، ودونما إصغاء لتحذير العقلاء على قِلَّتهم، والذين كثيرا ما حذَّروا من نتائج هذا الاندفاع الأهوج، ومن آثار هذا الإقدام غير المحسوب. وهذا هو حال أسواق المال، فإن المتاجرة فيها مخاطرة ما بعدها مخاطرة، والاستثمار بها مع الجهل كغالب بني قومي شبيه بالانتحار، بل إنه من أسباب إهلاك الحرث والنسل وحلول والدمار، وعامل من عوامل البوار السريع في لمح البصر والإفقار المدقع بين غمضة عين وانتباهتها.
قد يقول أحدكم: إنك تبالغ كثيرا وإن هناك من حقّق ثروات كبيرة، أقول له: كم نسبة هؤلاء الذين حقّقوا الثروات الهائلة إلى الذين سرِقت أموالهم من أمام أعينهم وهم يؤملون. الإحصاءات العالمية تقول: إن 10 بالمائة في أسواق المال يربحون، و90 بالمائة يخسرون، ثم كيف ربح أغلب هؤلاء الرابحين إلا بالغش والتدليس غالبا ومعرفة الأخبار وبثّ الإشاعات كثيرا وعقد الصفقات خلف الكواليس دائما ضدّ المساكين الذين يسمَّون بالقطيع، وليس للقطيع إلا التسمين ثم الأكل، وهذا كلّه يحصل في جميع أسواق العالم على تفاوت بينهم في النصب والاحتيال.
ثم إنني أقول أيضا: ألا توجد الكثير والكثير من الشركات أسعار أسهمها لا تعكس قيمتَها الحقيقية؟! ألا توجد شركات بلغ سعر السهم الواحد فيها 200 ريال، وهي تقوم مشكورة مأجورة بتوزيع نصف ريال على السهم الواحد كأرباح سنوية؟! أي: أنك تستردّ رأس مالك المستثمر فيها خلال 400 سنة فقط، فقولوا لي بالله عليكم أيّ تجارة هذه؟! وأي تلاعب هذا؟! وأي إهدار للأموال والأوقات يحدث؟! وأي اختلاس وسرقة للأموال تتكرر؟! بل أين عقول من يشترون مثل هذه الأسهم؟! أقول لكم: إن عقولهم مأسورة بالحلم الزائف بالكنز الموعود والجنة الوارفة والراحة الدائمة الذي يعِد به منافقو المنتديات المنتشرة انتشار السوس وأبواق القنوات المستأجرة ويصدقه المساكين الذين يفرون من الفقر، ألا في الفقر سقطوا، بل إنه التنافس المسعور في الدنيا، الذي حذرنا منه نبينا وحبيبنا.
أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي ، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم، ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء)) ، قالوا: أجل يا رسول الله، وكانوا فقراء لا يجدون قوت يومهم، قال: ((فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) ، وفي رواية عند مسلم: ((وتلهيكم كما ألهتهم)).
نعم أيها الإخوة الكرام، نبينا لم يخشَ علينا الفقر الذي نفرّ منه فرارنا من الأسد، ونحن والله في نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر، ولكنه خشي علينا من هذا التنافس الأزعر على الدنيا، الذي بتنا نحسّه ونلمسه بل ونراه رأي العين في مجتمعنا، ووالله إن الحرص الشديد على الرزق لن يقدمه، ولن يؤخره، ولن يزيد فيه، ولن ينقص منه.
وليس الرزق عن طلب حثيث ولكن ألقِ دلوك في الدلاء
ورزقك ورزقي مكتوب جرى به القلم قبل أن يجعل الله هذه الأرض فراشا وهذه السماء بناء، فعلى رسلي ورسلك، فلنجمِل في الطلب، ولنقنع بما كتبه الله لنا، فإن القناعة والرضا بما كتبه الله علينا من خير ما أوتيه الإنسان.
أفادتني القناعة كل عز وهل عزّ أعزّ من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال وصيّر بعدها التقوى بضاعة
تحز ربْحا وتغنِى عن بَخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعة
ويقول ابن القيم رحمه الله: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمنًا، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية على الناس تخفى والبلايا مواهب
ولنصبر على ما كتبه الله علينا، فإن الصبر على أقدار الله من علامة الفلاح في الدنيا والآخرة، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
أيها الإخوة النبلاء، إنني أرجو أن لا يظن ظان أنّني أزهد في التجارة وطلب المال وتحصيله، حاشا أن يكون ذلك مقصدي، فإن المتتبع لشريعة الإسلام في كتاب الله وسنة نبيه يرى حثا على تحصيل المال الصالح الحلال وأنه قوام الحياة، ويرى ندبا على حسن تدبيره وتثميره، يقول نبينا : ((ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) ، وقال: ((ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) ، وقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على وُلده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)) ، بل إن رسول الله عمل في التجارة مع خديجة، وشارك بعض الصحابة في المتاجرة، يقول السائب بن أبي السائب رضي الله عنه: كان رسول الله شريكي، وكان خير شريك؛ لا يداري ولا يماري.
إذًا نحن لا نحذر من طلب المال، ولا نزهد في استثماره وتنميته، وإنما نحذر من إلقائه في أتون محرقة أسواق المال دون علم ولا دراية. نحن نحث الناس على الاستثمار الحقيقي، والذي يتمثل في الإنتاج الصناعي والتطوير التقني والمعرفي وما يتبعه من خدمات وتأسيس بنية صناعية تقنية معرفية قوية داخل وطننا الغالي على قلوبنا، تساهم في تطوير البلد والرقي به إلى مصاف الدول المتطورة وحمايته من طوارق المستقبل الذي لا يبشر بخير، وتساهم في تشغيل وتثمير الأموال الفائضة عن حاجة الناس، والتي تكدست عبر قنطرة المتاجرة في الأسهم في يدي ثلة قليلة من الناس، فتكرست الطبقية المقيتة، وأطلت علينا الرأس مالية بوجهها الكالح، ومن أراد إلا أن يستثمر أمواله في أسواق المال وأن يتعامل بأصفار رقمية تصنعها الدوائر الكهربائية في شاشات التداول فعليه أن يتقي الله في ماله، فيجنبه الحرام والمختلط من الأسهم والمعاملات، وما أكثر الحرام والمختلط فيها، وعليه أن يتسلح بالعلم والمعرفة، وأن يتترس باليقظة وبعد النظر، وأن يتمنطق بالصبر وسعة الصدر والقناعة، والكلام في هذا الباب يطول.
وختاما أقول لكل من يخاف عوادي الأيام ومفاجأة الأقدار بالفقر: إن ذلك مكتوب على جبينك كما يقولون، ولن يغني حذر من قدر، فأجمل في الطلب، وإن كنت تظن أن الفقر في الدنيا عيب ومنقصة ومذلة فنبيك كان فقيرا وعزيزا، تقول عائشة رضي الله عنها: ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير، وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: أكل رسول الله النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه. واعلم أن الفقر الحقيقي هو فقر الآخرة يوم يودُ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4908)
القوامة والحافظية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
النكاح, قضايا الأسرة, محاسن الشريعة
بن سالم باهشام
خنيفرة
مسجد أم الربيع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقدمة حول حسن اختيار الزوج والزوجة. 2- معنى القوامة وأهميتها في حفظ الأسرة والزوجة من الانحراف. 3- من معاني قوامة الرجل في بيته. 4- متطلبات القوامة. 5- لكل من الرجل والمرأة وظيفة تناسبه. 6- الرجال والنساء بين القوامة والحافظية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحباب الكرام، إذا كان الإسلام قد حث على الزواج ورغب فيه صيانة للناس من الزنا وللمجتمع من الخراب، وأمر باختيار الزوج والزوجة، وبين أن الطيب هو الذي يتزوج الطيبة وأن الخبيث لا يتزوج إلا خبيثة فقال عز وجل في سورة النور: الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ ، وبيَّن أن من تضييع الوقت أن يدّعي أحد أنه سيتزوج غير ذات الدين وسيدعوها للدين، بعد هذا كله جاء ليصونَ لنا هذا البيت الذي دعا إلى تكوينه. فكما نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين الذكور والإناث في عالم الحيوانات والحشرات أراد سبحانه وتعالى من الإنسان المكلف سيد هذا الكون رجلا وامرأة أن ينظّما علاقتهما في وسط الأسرة، فكلف الرجل بالقوامة، وحمَّل المرأة مسؤولية الحافظيّة، فموضوعنا اليوم هو: القوامة والحافظية.
لنتحدث عن معنى القوامة وأهميتها في حفظ الأسرة والزوجة من الانحراف:
قال سبحانه في محكم كتابه من سورة النساء: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ به بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ. لقد أعطى الإسلام للزوج حق القوامة على المرأة ليكون رجلا حقا، يعرف كيف يقود سفينة الحياة في أسرته نحو شاطئ السلامة والهدى والرشاد، وحذّر الرجال قاطبة مِن أن تأخذهم الفتنة بالنساء، فتعشو أبصارهم وتخور عزائمهم ويرق دينهم، فيتغاضون عن انحراف النساء عن جادّة الشرع ثم يفلت من أيديهم الزمام، فإذا المرأة المنحرفة كل شيء في البيت، لا يُعصى لها أمر، ولا تُردّ لها كلمة، ولا تُرفض لها رغبة، وصدق رسول الله إذ جعل هذا آخر فتنة تصيب الرجال فيما روى البخاري ومسلم: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)).
إن الزوج المسلم ـ أيها الأحباب الكرام ـ هو الرجل الذي لا يضعف أمام فتنة زوجته المنحرفة مهما طغت تلك الفتنة، ويفهمها بكلّ لطف ولباقة أن فتنتها إذا كانت حبيبة إلى نفسه فإن مرضاة الله أحب، وأن مودة الرجل لزوجه مهما عظمت فهي دون حبّ الله ورسوله ، قال تعالى في سورة التوبة: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ. ومن ثم تنتفي من حياة المسلم الحق الصادق هذه المخالفات النسائية التي نجدها في بيوت كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.
أيها الأحباب الكرام، إن الرجل الذي يرى بأم عينه ـ وهو القائم على شؤون البيت ـ زوجته تخرج إلى الشارع متبرجة كاسية عارية وقد أبدت شعرها وكشفت عن صدرها وساعديها ولا يبادر إلى تغيير هذا الواقع المنحرف عن هدي الله وأدب الإسلام إنما فقَدَ رجولته، وانحسر عن إسلامه، وباء بغضب من الله، ولن ينتشله من هذه الوَهدة التي ارتكس فيها إلا توبة نصوح توقظ ضميره وهزّة عنيفة تحرّك رجولته وتردّه إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
إن بيت الزوجية ـ أيها الأحباب الكرام ـ يكون مبنيا على المحبة بين الزوجين، وإذا كان ذلك كذلك فإن المرأة تبادر بالقيام بما يرضي زوجها في برّه، روى ابن هشام أن الطفيل بن عمرو الدوسي لما دخل في الإسلام وهو شيخ قبيلة أتته امرأته لكي تقترّب منه فمنعها وقال لها: لقد أصبحتِ عليّ حراما، قالت: ولم؟! قال: أسلمتُ، فكان ردّها: أنا منك وأنت مني وديني دينك، وأسلمت. إن هذه المرأة لم تحتجِب فقط كما نطالب الكثير من النساء المصليات، بل اعتنقت الإسلام والتزمت بكلّ تعاليمه بسبب محبّتها لزوجها واتخاذه قدوة لها حيث قالت: أنا منك وأنت مني.
إن من قوامة الرجل المسلم في بيته سعيه بكل الوسائل المجدية الإيجابية إلى توجيه زوجته وإرشادها إلى الحق بدل إهمالها وتركها عرضة لوسائل الإعلام الهدامة، ولنا في الجيل الأول من رجال الأنصار في سلوكهم مع نسائهم أسوة حسنة، روى أبو داود عن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها ذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ولا أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة، فما منهم امرأة إلا قامت إلى مِرْطِها المُرحّل ـ وهو كساء من صوف نقشت فيه تصاوير الرحال ـ فاعتجرت به ـ أي: تلفّفت به ـ تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
أيها الأحباب الكرام، إن كل مسلم مسؤول عن التزام زوجته بآداب الإسلام في الخروج من البيت بالإذن، ومسؤول عن ارتداء زوجته اللباس الشرعي الذي يصون عورتها، ويوم تغلب الزوجَة زوجها على أمره وتحمله على تخطّي هذا الحكم الشرعي ويقف عاجزا أمامها لا يبدئ ولا يعيد فسلام على دين هذا الرجل، وسلام على رجولته.
ثم إن مسؤولية الزوج عن زوجته لا تقتصر على مظهرها الخارجي المتمثل في اللباس، وإنما تتعداه إلى عبادتها وسلوكها في الحياة، فهو مسؤول عنها إن قصّرت في عبادة أو فرطت في جنب الله بتهاون أو معصية، ومسؤول عن حسن سيرتها واستقامة سلوكها وقيامها بواجباتها الشرعية، وأيّ تقصير منها في جانب من هذه الجوانب يكون سببا في الإخلال برجولة الزوج، ويقدَح في حسن إسلامه، ويخدش القوامة التي أكرمه الله بها.
اعلموا ـ أيها الرجال المؤمنون ـ أن الإسلام جعل المرأة أمانة في عنق الرجل، وليست مجرّد متاع يتمتع به الزوج، وغالبا ما تكون المرأة على دين زوجها يقودها معه، إما إلى الجنة وإمّا إلى النار، ومن ثمّ كان أمر الله للمؤمنين في وقاية أنفسهم وأهليهم من النار. وقد جاء مصوّرا العاقبة المخيفة المروّعة في مشهد رهيب تنخلع لشدّته القلوب، وتدار من هوله الرؤوس إن هم تهاونوا في أمر نسائهم وذويهم ولم يأطروهم على الحق أطرا، قال تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وفي إطار أداء هذه القوامة على أحسن وجه والحفاظ عليها على الزوج أن يكون على اطلاع بحقيقة المرأة وحالتها النفسية، وليعلم أن حاجتها المادية قد تدفع بها إلى عدم صيانة عرضها، ففي حديث البخاري الذي يتحدّث عن النفر الثلاثة الذين سُدّ عليهم الغار نستخلص هذه الحقيقة، وهي أن المرأة التي تحدّث عنها الحديث لم يكن عندها أيّ رغبة في الانحراف بدليل أنها رفَضت في المرة الأولى أن تمكِّنه من نفسها، وذكَّرت ابن عمها في المرة الثانية بتقوى الله، وهذا معناه أن ذهابها إليه كان قهرًا بسبَب الاحتياج. إن من طبيعة المرأة أنها تخضع وتضعُف أمام احتياجِها المادّيّ، ومن أجل خطورة احتياج المرأة نجِد أن النبيَّ يجيز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها دون علمِه وبقدر حاجتها إذا كان بخيلاً، فقد روى البخاري أن هندا زوجة أبي سفيان جاءته وقالت: إن أبا سفيان رجل مسيك فهل يجوز لي أن آخذ من ماله دون علمه؟ فأذن لها النبي بقدر حاجتها، هذه حقيقة.
الحقيقة الثانية أنه يجب على الزوج أن لا يستهين برغبة الزوجة النفسية، بل عليه الاستجابة ما دامت مشروعة، فهذا الرسول يترك عائشة رضي الله عنها مسنِدة وجهها إلى خده وتنظر من فوق منكبيه إلى الحبشة يلعبون حتى شبعت. نستخلص من هذا أن الاستجابة لرغبة الزوجة في المجال المادي يجب أن تتحقق بقدر الاحتياج لإذن الرسول لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ بقدر حاجتها، أما في المجال النفسي المشروع فيجب أن يكون التحقيق حتى الإشباع.
ومن أهم الأمور التي تحقّق للمرأة إحساسها مع زوجها ورضاها عن بيتها هو أن لا ترى زوجها يعيبها في تصرفاتها ووظيفهتا بصفتها زوجة، وعلى هذا يجب على الرجال القوامين أن يتخلقوا بأخلاق الرسول ، في هذه الناحية تقول عائشة رضي الله عتها عن الطعام: ما عاب رسول الله طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه.
وكذلك لا ترى الزوجة زوجها يعيبها في شكلها ومظهرها، ولذلك نهى النبي عن أن يقبح الرجل زوجته فيقول لها: قبحك الله، كما يجب على الرجل أن يستجيب لطبيعة المرأة التي لا يمكن أن تتغير فيها، مثال ذلك طبيعة حب الحديث، لهذا يحتم عليه سماع حديث زوجته، وأن يظهر تجاوبا واهتماما لذلك، فهذا الرسول يسمع من عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع الطويل كما روى البخاري في حسن المعاشرة، ويقول لها: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)).
أيها الأحباب الكرام، إن قوامة الرجل على المرأة لا تتحقق كما أرادها الإسلام إلا إذا كان الزوج رجلا ناجحا في قيادته لبيته وأسرته، والزوج المسلم لا يكون رجلا بغلظته وفظاظته وقسوته وعنفه وبطشه وسلاطة لسانه، فهذه رجولة الجاهلية، والرجولة في الإسلام شيء آخر غير هذا كله.
الرجولة في الإسلام شخصية قوية جذابة محببة، وخلق عالٍ نبيل، وتسامح وإغضاء وعفو عن الهفوات الصغيرة، ووقوف حادّ جازم عند حدود الله، وتطبيق لأحكامه على أفراد الأسرة جميعا، وقيادة بارعة لبقة نحو الخير، وبذل وسخاء في غير إسراف ولا تبذير، ونباهة ووعي وشعور بالمسؤولية في الدنيا والآخرة، وإدراك للحالة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها البيت المسلم الراشد. هذه هي القوامة التي أناط الإسلام بها الرجل، فما هي الحافظية؟
أيها الأحباب الكرام، تعالوا بنا لنرى صنع الله الذي أتقن كل شيء لتظهر لنا عظمته سبحانه وتعالى، وبالتالي نستجيب لهديه وتكون الثمرة سعادة الدارين.
لقد خلق الله سجانه وتعالى الناس من ذكر وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، قال عز وجل في سورة الذاريات: ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهذه الوظائف هي ضخمة أولا، وخطيرة ثانيا، هذه الوظائف ليست هينة ولا يسيرة يمكن أن تؤدّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى. ونظرا لكون الرجل والمرأة من خلق الله وأنه سبحانه وتعالى لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة فإنه زود المرأة فيما زودها به سبحانه وتعالى من الخصائص بالرقة والعطف وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية لتسهل تلبيتها فورا، وجعل سبحانه وتعالى في ذلك لذة لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى، وإن كان في ذلك مشقة وتضحية.
وفي إطار العدل الإلهي ونظامه المحكم الذي يتجلى في الكون كله وصنعه سبحانه وتعالى المتقن جعل من وظائف الرجل كي تتفرغ المرأة لوظيفتها الخطيرة توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى بدل أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية طفلها في آن واحد.
وكان من العدل الإلهي أن يمنح سبحانه وتعالى الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن يمنح سبحانه وتعالى المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان مما زود به سبحانه وتعالى الرجل من الخصائص الخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجه عام، وكل هذه الأمور عميقة في تكوين الرجل مثل عمق خصائص المرأة في تكوينها.
رغم كل هذا لم يترك سبحانه وتعالى هذا الإنسان لهذه الخصائص تعمل عملها، فهناك الأهواء والشهوات والعادات التي قد تحرّف الفطرة عن مسارها الصحيح، لهذا أنزل سبحانه شرعة ومنهاجا يراعيان هذه الاستعدادات الموهوبة لأداء الوظائف المنوطة بكل من الرجل والمرأة وفق هذه الاستعدادات ويراعيان العدالة في توزيع الأعباء بين الرجل والمرأة، ويراعيان العدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، وأن الله عز وجل لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، بل إننا نجد في شرعة الله ومن منهاج رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه خصائص الرجل وخصائص المرأة، كما نجد فيهما العقوبة المترتبة على كل مخالفة لهذا التشريع الإلهي والهدي النبوي، وهذه العقوبة تشمل ثلاثة أنواع: عقوبة فطرية تكون نتيجة مخالفة هذا القانون الإلهي الذي نظم سبحانه وتعالى عليه خلقه، وعقوبة شرعية بيَّن الإسلام مقدارها، وعقوبة أخروية وهي أشد أنواع العقوبات إن لم يتب الشخص من معصيته سواء كان ذكرا أو أنثى.
ومن المهام التي كلف بها سبحانه وتعالى الرجل والمرأة لتستقيم الأسرة التي هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية، الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق، والأولى من ناحية الأهمية؛ لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي. إن من هذه المهام التي كلف بها هذا الإنسان هي القوامة والحافظية، فمن هو الأهل للقوامة، ومن هو الأهل للحافظية حسب استعدادات كل واحد؟
إن القاعدة العلمية تقتضي منا أن نرد الصنعة إلى الصانع، فهو الأعلم بوظيفة كل واحد، ففي سورة النساء نجد قول الحق عز وجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.
إن الخصائص ـ أيها الأحباب ـ التي أودعها الحق عز وجل في الرجل تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها، كما أن تكليفه بالإنفاق وهو فرع من توزيع الاختصاصات يجعله بدوره أولى بالقوامة؛ لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة ووظيفة الرجل فيها. إن القوامة ـ أيها الأحباب الكرام ـ لا تقتصر على النفقة وحماية الجانب الدنيوي فقط، بل تشمل حتى الأخروي، ففيها حماية المرأة من أذى الدنيا والآخرة، فالرجل مسؤول عن رعيته يربيها ويطعمها ويكسوها ويحميها ويقيها نارا وقودها الناس والحجارة بتوجيهها إلى الإيمان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ.
أيها الأحباب الكرام، إن الإسلام وهو يقرّر قوامة الرّجال على النساء في المجتمع الإسلامي لا يقرّر ذلك تبعا للأهواء، وإنما لذلك أسباب من التكوين والاستعداد، وأسباب من توزيع الوظائف والاختصاصات، وأسباب من العدالة في التوزيع من ناحية، وتكليف كل شطر في هذا التوزيع بالجانب الميسر له والذي هو مُعان عليه من الفطرة.
أما الأفضلية الواردة في الآية القرآنية المتحدثة عن القوامة والحافظية فهي في مكانها في الاستعداد للقوامة والدربة عليها والنهوض بها بأسبابها؛ لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة كسائر المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا من مؤسسة الأسرة؛ ولأن أحد شطري النفس البشرية والذي هو الرجل مهيأ لها ومُعان عليها، مكلف بتكاليفها، في حين أن الشطر الآخر الذي هو المرأة غير مهيأ لها ولا مُعان عليها، ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.
وإذا حاولنا أن نهيئ المرأة للقوامة ودربناها عليها بالتدريب العلمي والعملي فإننا سنفسد لا محالة استعدادها للقيام بالوظيفة الأخرى التي هي وظيفة الأمومة والتي لها مقتضياتها واستعداداتها، وفي مقدمتها سرعة الانفعال وقرب الاستجابة، بالإضافة إلى الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي وآثارها في السلوك والاستجابة، لهذا فالوظيفة اللائقة بالمرأة في إطار التكليف الإلهي هي الحافظية.
إننا ـ أيها الأحباب الكرام ـ نريد أن نعطي نماذج للأمة في الحياة الزوجية نبين من خلالها صلاحية الدين الإسلامي وأنه هو السبيل الوحيد دون غيره لسعادة الزوجين، لهذا نصحنا الشباب ونحن نريد تأسيس مؤسسات قوية ونريد بناء مجتمع سليم طاهر من البدء أولا بتخصيص الطيبين للطيبات بدل أن نبدأ البناء على أرض هشة وذلك بعدم تزوج المرأة الصالحة الطيبة، حتى إذا ما علا البنيان بعقد النكاح وولادة الأولاد تصدعت الجدران وبدأنا في الترميم والترقيع خشية سقوطه. وكلكم ـ أيها الأحباب الكرام ـ يلاحظ أن جل بنيان أسرنا هش ومتصدع الجدران؛ لأنه لم يبن على أرض صلبة وذلك باختيار الزوجة ذات الدين والتي هي من خير متاع الدنيا بل ومن أسباب السعادة، روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه أن الرسول قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة؛ إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)) ، وفي رواية ابن ماجة من حديث أبي أمامة أن النبي قال: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)).
فتقوى الله زاد المؤمن إلى الآخرة، والمرأة معينة له على ذلك بطاعتها له في المعروف طاعة محبة بدون إكراه، لهذا وصفها سبحانه وتعالى في القرآن بأنها قانتة، والقنوت هو الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة لا عن قسر وإرغام، تطيعه إذا أمرها بعبادة ربها والمحافظة على صلواتها وفرائضها، تطيعه إذا أمرها بعدم الخلوة بالأجانب من عائلته أو عائلتها تفاديا للوقوع في الزنا واستجابة لمن لا ينطق عن الهوى سيدنا محمد الذي قال: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) رواه الترمذي. وتطيعه إذا أمرها بصيانة جوارحها وخصوصا لسانها وعينيها، وكيف لا تطيعه وهو قائد السفينة، وهو الربان في وسط أمواج بحار فتن الدنيا، إذ في طاعتها له محافظة على سلامة سير السفينة؟! كما أنها تسره إذا نظر إليها فلا ينظر منها إلا جميل اللباس وأنظفه، ولا يرى منها إلا حسن المنظر، كما تسره إذا نظر إليها بحسن خلقها الذي يزيدها جمالا في الخلقة، إذ لا تبدي زينتها لغيره من الأجانب حفاظا على عدم فتنتهم، كما أنها تحافظ على سير السفينة التي يقودها الربان والذي هو الزوج بمحافظتها على ماله، فلا تضيعه ولا تبذره، كما تحفظ نفسها وعرضها.
وعلينا أن نعلم ـ أيها الأحباب الكرام ـ أن ما لا يباح مما يجب حفظه لا تقرره هي ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه وتعالى، لهذا قال الله عز وجل في محكم كتابه: بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ، فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها في غيبته أو في حضوره ما لا يغضب هو له، أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع، وخصوصا إذا انحرف المجتمع عن منهج الله. إن هنالك حكما واحدا في حدود هذا الحفظ فعليها أن تحفظ نفسها بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ، والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر، بل بما هو أعمق وأشد توكيدا من الأمر، إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله هو من طبيعة الصالحات ومن مقتضى صلاحهن، وعلى الرجل القوّام في إطار القوامة أن يساعد زوجته على هذه الحافظية، فينبغي أن تكون له غيرة على زوجته في حدود المشروع، وينبغي أن لا يدخل عليها من يحرّم الإسلام، ولنا في الرسول القدوة الحسنة إذ قال لما اتهم المنافقون أم المؤمنين عائشة الصديقة الصالحة الطاهرة القانتة رضي الله عنها في حادثة الإفك، قال عليه الصلاة والسلام في دفاعه عن عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري ومسلم: ((يا معشر المسلمين، من يعذرني في رجل ـ ويقصد به عبد الله بن أبي بن سلول ـ بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)) ، ويقصد صفوان بن المعطّل الذي اتهموه إفكا مع عائشة رضي الله عنها وبرّأها الله عز وجل.
كما على الرجل القوام ـ وهو يساعد زوجته الحافظة لحدود الله على الحافظية ـ أن لا يصف لها الرجل كأنها تراه؛ إذ يفضي بها الشوق إلى رؤية الموصوف، لهذا روى الترمذي أن الرسول قال: ((لا يصف الرجل الرجل لزوجته كأنها تراه، ولا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه يراها)) ، وعندما يكون الوصف من الزوج نفسه لزوجته تشعر المرأة بأن لها حقّ الاستمتاع بصفات الرجل الذي يصفه زوجها والاهتمام بأمره والسؤال عنه باعتبار أن المتحدّث هو الزوج، وبعد ذلك تقارن بين زوجها والرجل الموصوف.
كما ينبغي على الزوج أن لا يدخل بيتَه إلا المؤمن، ولا يأكل طعامه إلا التقي، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تُصَاحِبْ إِلاّ مُؤمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاّ تَقِيّ)) رواه الترمذي؛ إذ المؤاكلة تقرّب بين النفوس بالطبيعة الإنسانية، لهذا لا بد أن تتوفّر التقوى التي تجعل هذا التقارب النفسي طاهرا نقيا.
كما ينبغي على الرجل أن يعرف طبيعة المرأة، وأن الله عز وجل خلق لها مزاجا يوافق دورها في البيت، ولقد وصفها الرسول بالضِلَع الأعوج، وليس في هذا الوصف من عيب إذ اعوجاجها الضلعي هو استقامتها، وهو انحناء معنوي وحنو، وهو عاطفة ورحمة.
هذا هو نظام الأسرة أيها الأحباب الكرام؛ حقوق متبادلة بين الزوجين، لهذا يجب على كل واحد أن يعرف حقه وواجباته، وأن يعرف وظيفته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4909)
إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر, مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
26/10/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب إيغال الناس في المعاصي. 2- فضل تذكر الآخرة. 3- خطورة التعلق بالدنيا وزهرتها ونتائجه. 4- إنذار الأنبياء أقوامهم عذابََ الله. 5- ثمار تذكر الآخرة. 6- نماذج ممن ضعف في قلوبهم الإيمان باليوم الآخر. 7- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ الذِي أَنتُم بِهِ مُؤمِنُونَ، وَالعَمَلِ لِمَا أَمَامَكُم وَالاستِعدَادِ لِمَا أَنتُم عَلَيهِ مُقبِلُونَ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَيَتلمَّسُ الرَّقِيبُ السَّبَبَ لِمَا مُنِينَا بِهِ في مُتَأَخِّرِ السَّنَوَاتِ مِن إِيغَالٍ في المَعَاصِي وَاستِسلامٍ لِلشَّهَوَاتِ وَوُقُوعٍ في الكَبَائِرِ وَارتِكَابٍ لِلمُوبِقَاتِ وَهَضمٍ للآخَرِينَ وَتَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ المُسلِمِينَ وَعِبَادَةٍ لِلدُّنيا وَنَهَمٍ في جَمعِ الأَموَالِ مِن كُلِّ وَجهٍ، فَيَجِدُ لِذَلِكَ أَسبَابًا مُتَدَاخِلَةً وَدَوَاعِيَ مُتَعَدِّدَةً، وَيَكتَشِفُ بَوَاعِثَ كَثِيرَةً وَعِلَلاً مُتَنَوِّعَةً، غَيرَ أَنَّ مِنَ القَضَايَا الجَامِعَةِ وَالخُطُوطِ العَرِيضَةِ التي كان نِسيَانُهَا وَالغَفلَةُ عَنهَا مِن أَعظَمِ الأَسبَابِ لِمَا وَقَعنَا وَنَقَعُ فِيهِ مِن مُخَالَفَاتٍ في حَقِّ رَبِّنَا وفي حَقِّ أَنفُسِنا وَإِخوَانِنا خُلُوَّ القُلُوبِ مِن صِفَةٍ عَظِيمَةٍ عَظِيمَةٍ وَخَوَاءَ الأَروَاحِ مِن خَصلَةٍ جَلِيلَةٍ جَلِيلَةٍ، صِفَةٌ أَثنى اللهُ بها على المُتَّقِينَ وَالأَبرَارِ، وَخَصلَةٌ خَصَّ بها أَنبياءَهُ المُصطَفَينَ الأَخيَارَ، قال سُبحَانَه: وَاذكُر عِبَادَنَا إبرَاهِيمَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ أُولي الأَيدِي وَالأَبصَارِ إِنَّا أَخلَصنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكرَى الدَّارِ وَإِنَّهُم عِندَنَا لَمِنَ المُصطَفَينَ الأَخيَارِ. قال مُجَاهِدٌ رحمه اللهُ: "أَيْ: جَعَلنَاهُم يَعمَلُونَ لِلآخِرَةِ لَيسَ لهم غَيرُها"، وقال مَالِكُ بنُ دِينارٍ رحمه اللهُ: "نَزَعَ اللهُ تعالى مِن قُلُوبِهِم حُبَّ الدُّنيا وذِكرَهَا، وَأَخلَصَهم بِحُبِّ الآخِرَةِ وذِكرِها". وقال سُبحَانَهُ عَن محمدٍ عليه السَّلامُ حِينَ جَادَلَهُ الكُفَّارُ المُكَذِّبُونَ بِالآخِرَةِ: وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا ائتِ بِقُرآنٍ غَيرِ هَذَا أَو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلقَاءِ نَفسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ ، وقال جل وعلا عَنِ الأَبرَارِ: إِنَّ الأَبرَارَ يَشرَبُونَ مِن كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَينًا يَشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذرِ وَيَخَافُونَ يَومًا كَانَ شَرُّهُ مُستَطِيرًا وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَومًا عَبُوسًا قَمطَرِيرًا ، وقال في وَصفِ عِبادِهِ المُتَّقِينَ المُهتَدِينَ بِكِتَابِهِ المُحَافِظِينَ على طَاعَتِهِ: والَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ ، وقال جل وعلا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَن حَولَهَا وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤمِنُونَ بِهِ وَهُم عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافِظُونَ ، وقال عن مُؤمِنِ آلِ فِرعونَ إِذْ وَعَظَ قَومَهُ: وَيَا قَومِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم يَومَ التَّنَادِ يَومَ تُوَلُّونَ مُدبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللهِ مِن عَاصِمٍ وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخوَةُ، إنها ذِكرَى الدَّارِ، إِنَّهُ تَذَكُّرُ يَومِ القِيَامَةِ، إِنَّهُ اليَقِينُ بِالآخِرَةِ، إِنَّهُ خَوفُ يَومِ التَّنَادِ، وَلَقَد عَرَفَ أُولَئِكَ المُصطَفَونَ الأَخيَارُ وَمَنِ اقتَدَى بهم طَرِيقَهُم وَسَبِيلَهُم، وَحَدَّدُوا الغَايَةَ مِن عَمَلِهِم وَالهَدَفَ مِن حَيَاتِهِم، وَجَعَلُوا الآخِرَةَ هي مُبتَغَاهُم وَقَصدَهُم، فَكَانَ العَمَلُ لها هُوَ دَيدَنَهُم، وَذِكرُهَا لا يُفَارِقُ قُلُوبَهُم، وَالخَوفُ مِنها يُفزِعُ أَفئِدَتَهُم وَيُطِيرُ نَومَهُم، وَلمَّا عَرَفُوا أَنْ لَيسَ لِلنَّجَاةِ فِيهَا إِلاَّ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَلَجُوهُ وَسَلَكُوهُ مُطمَئِنِّينَ، ولم يَلتَفِتُوا إلى بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ أَو يَأخُذُوا بِمُتَشَعِّبَاتِ السُّبُلِ، وَمِن هُنَا فَازَ مِنهُم مَن فَازَ وَوَصَلَ مِنهُم مَن وَصَلَ، وَبَقِينَا نحنُ في أَعقَابِ هَذِهِ الدُّنيا نَزدَادُ بها تَعَلُّقًا، وَمِنَ الآخِرَةِ تَنَصُّلاً وَتَفَلُّتًا، وَلِلمَوتِ استِبعَادًا وَنِسيَانًا، فَنَسأَلُ اللهَ أَن يُحيِيَ مَوَاتَ قُلُوبِنَا، وَأَن يَبعَثَ لِطَاعَتِهِ نُفُوسَنَا، وَأَن يُزَكِّيَ عُقُولَنَا وَيُبَارِكَ في أَجسَادِنَا وَيَنفَعَنَا بِجَوَارِحِنَا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد أَفَاضَ القُرآنُ في الحَدِيثِ عَن خَطَرِ التَّعَلُّقِ بِالحَيَاةِ الدُّنيا وَالرِّضَا بها وَالاطمِئنَانِ إِلَيهَا مَعَ الغَفلَةِ عَنِ الدَّارِ الآخِرَةِ وَنِسيَانِها، وَتَعَدَّدَتِ الآيَاتُ في جَعلِ ذَلِكَ مِن أَسبَابِ الكُفرِ بِاللهِ وَالتَّكذِيبِ بِآيَاتِهِ، وَبَيَانِ أَثَرِهِ في مَوتِ القُلُوبِ وَعَمَى الأَبصَارِ وَصَمَمِ الآذَانِ، وَتَجلِيَةِ تَأثِيرِهِ في رَدِّ الحَقِّ وَالمُضِيِّ في الضَّلالِ، وَمِن ثَمَّ الخُسرَانُ وَوُلُوجُ النِّيرَانِ، قال سُبحَانَهُ: وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ، وقال تعالى: إِنَّمَا يَفتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَّن شَرَحَ بِالكُفرِ صَدرًا فَعَلَيهِم غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ استَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَسَمعِهِم وَأَبصَارِهِم وَأُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُم في الآخِرَةِ هُمُ الخَاسِرونَ ، وقال جَلَّ ذِكرُهُ: إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُنكِرَةٌ وَهُم مُّستَكبِرُونَ ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَت أَعمَالُهُم هَل يُجزَونَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ، وقال سُبحَانَهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُم أَعمَالَهُم فَهُم يَعمَهُونَ ، وقال جل وعلا: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذَابِ وَالضَّلالِ البَعِيدِ ، وقال سُبحَانَهُ: وَوَيلٌ لِلمُشرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُم كَافِرُونَ.
يَا لَهَا مِن نَتَائِجَ وَخِيمَةٍ وَمَصَائِرَ وَبِيلَةٍ، وَأَعرَاضٍ خَطِيرَةٍ وَأَمرَاضٍ مُزمِنَةٍ، تُسَبِّبُهَا الغَفلَةُ عَنِ الدَّارِ الآخِرَةِ، قُلُوبٌ لا تَفقَهُ، وَأَعيُنٌ لا تُبصِرُ، وَآذَانٌ لا تَسمَعُ، وَعُقُولٌ كَعُقُولِ الأَنعَامِ، وَافتِرَاءٌ لِلكَذِبِ وَكُفرٌ بَعدَ الإِيمَانِ، وَاستِكبَارٌ عَلَى الحَقِّ وَتَنَكُّبٌ لِلصِّرَاطِ، فَمَاذَا بَقِيَ لِهَؤُلاءِ الغَافِلِينَ مِن مَدحٍ بِآدَمِيَّتِهِم؟! وَأَيَّ شَيءٍ يَحمِلُونَ مِن مَعَاني الإِنسانِيَّةِ وَخَصَائِصِها إِذًا؟! وَيَا لها مِن تَعَاسَةٍ وَقِلَّةِ بَرَكَةٍ! يَرَى الإِنسَانُ الآيَاتِ فَلا يَتَفَكَّرُ، وَيُبصِرُ العِبَرَ فَلا يَعتَبِرُ، وَتَمُرُّ بِهِ الأَحدَاثَ فَلا يَعِي، وَتَرِدُ المَوَاعِظُ عَلَى سَمعِهِ فَلا يَنتَفِعُ وَلا يَعقِلُ، وَلَقَد وَصَفَ اللهُ أُولَئِكَ الغَافِلِينَ عَنِ الآخِرَةِ بِالجَهلِ الحَقِيقِيِّ وَإِنْ تَرَاءَى لهم أَو للآخَرِينَ أنهم يَعلَمُونَ، فقال سُبحَانَهُ: وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ أَوَلَم يَتَفَكَّرُوا في أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِم لَكَافِرُونَ أَوَلَم يَسِيرُوا في الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرضَ وَعَمَرُوهَا أَكثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَستَهزِئُون.
وَإِنَّ مِن سُوءِ حَظِّ أُولَئِكَ الغَافِلِينَ المُتَنَاسِينَ لِلآخِرَةِ أنهم لا يَتَنَبَّهُونَ لِهَذَا الأَمرِ إِلاَّ إِذَا عَايَنُوا أَثَرَهُ وَشَاهَدُوهُ، قال تعالى: وَاقتَرَبَ الوَعدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيلَنَا قَد كُنَّا في غَفلَةٍ مِن هَذَا بَل كُنَّا ظَالِمِينَ ، وَمَاذَا يَنفَعُهُمُ الاعتِرَافُ بِظُلمِهِم حِينَئِذٍ؟! وَأَيَّ شَيءٍ يُغني عَنهُمُ التَّذَكُّرُ وَقَد نَسُوا هَذَا اليَومَ العَظِيمَ اغتِرَارًا بِدُنيَاهُم؟! إِنَّهُ لا جَزَاءَ لأُولَئِكَ إِلاَّ مِن جِنسِ عَمَلِهِم، قال سُبحَانَهُ: وَنَادَى أَصحَابُ النَّارِ أَصحَابَ الجَنَّةِ أَن أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاء أَو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُم لَهوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا فَاليَومَ نَنسَاهُم كَمَا نَسُوا لِقَاء يَومِهِم هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد كان الأَنبِيَاءُ في دَعوَتِهِم لأَقوَامِهِم يُنذِرُونَهُم اليَومَ الآخِرَ وَيَخَافُونَ عَلَيهِم عَذَابَهُ، قال سُبحَانَهُ لِنَبِيِّهِ محمدٍ عليه الصلاة والسلامُ: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحشَرُوا إِلى رَبِّهِم لَيسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُم يَتَّقُونَ ، وقال: وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ إِلى اللهِ مَرجِعُكُم وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، وقال تعالى: لَقَد أَرسَلنَا نُوحًا إِلى قَومِهِ فَقَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ ، وقال سُبحَانَهُ: وَإِلى مَديَنَ أَخَاهُم شُعَيبًا قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ مُحِيطٍ ، وقال عن هُودٍ عليه السلامُ: وَاذكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَومَهُ بِالأَحقَافِ وَقَد خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُون، إِنَّ تَذَكُّرَ الآخِرَةِ وَجَعلَ يَومِ القِيَامَةِ على البَالِ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ لَهُوَ ممَّا يُحيِي القُلُوبَ وَتَتَفَتَّحُ بِهِ البَصَائِرُ، وَيُنتَفَعُ بِسَبَبِهِ بما في القُرآنِ مِنَ الآيَاتِ وَالعِظَاتِ، قال سُبحَانَهُ: وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِمَن خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ ، وقال جل وعلا في وَصفِ الرِّجَالِ المُستَحِقِّينَ لِوَصفِ الرُّجُولَةِ الحَقِيقِيَّةِ: في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ.
هَذِهِ هِيَ الرُّجُولَةُ الحقِيقِيَّةُ، حِينَ يَعلَمُ المَرءُ أَنَّ وَرَاءَهُ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ، فَيَدفَعُهُ ذَلِكَ إلى أَن يُقَدِّمَ لِنَفسِهِ مَا يَكُونُ بِهِ فِكَاكُ رَقَبَتِهِ، مِن تَوحِيدٍ خَالِصٍ وَعَمَلٍ صَالحٍ، وَزُهدٍ في الدُّنيا وَتَخَلُّصٍ مِن حُقُوقِ النَّاسِ، أَمَّا أَولَئِكَ الغَافِلُونَ السَّادِرُونَ المَاضُونَ في دُرُوبِ المَعَاصِي وَمَسَالِكِ الشَّهَوَاتِ المُعتَدُونَ على الحُقُوقِ وَالحُرُمَاتِ فَقَد آثَرُوا العَاجِلَةَ لِحُمقِهِم، وَزَهِدُوا في الآجِلَةِ لِخُذلانِهِم، إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُم يَومًا ثَقِيلاً ، كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ، وَيلٌ لِّلمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَستَوفُونَ وَإِذَا كَالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَبعُوثُونَ لِيَومٍ عَظِيمٍ يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ، إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النُّارُ بما كَانُوا يَكسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ وَلَو يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ استِعجَالَهُم بِالخَيرِ لَقُضِيَ إِلَيهِم أَجَلُهُم فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا في طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِدًا أَو قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّم يَدعُنَا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ وَلَقَد أَهلَكنَا القُرُونَ مِن قَبلِكُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤمِنُوا كَذَلِكَ نَجزِي القَومَ المُجرِمِينَ ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ في الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا ائتِ بِقُرآنٍ غَيرِ هَذَا أَو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلقَاء نَفسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَّا كَسَبَت وَهُم لاَ يُظلَمُونَ ، وَلا تَركَنُوا إلى هَذِهِ الدُّنيَا وَكُونُوا فِيهَا عَلَى حَذَرٍ، فَقَد قال : ((كَيفَ أَنعَمُ وَقَدِ التَقَمَ صَاحِبُ القَرنِ القَرنَ وَحنى جَبهَتَهُ وَأَصغَى سَمعَهُ، يَنتَظِرُ أَن يُؤمَرَ أَن يَنفَخَ فَيَنفَخَ؟!)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَذَكَّرُوا الآخِرَةَ وَاجعَلُوا يَومَ لِقَاءِ اللهِ عَلَى قُلُوبِكُم، فَوَاللهِ لَو جَعَلَ كُلُّ مُسلِمٍ ذِكرَ الآخِرَةِ على بَالِهِ وَهُوَ يَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ لمَا زَلَّت عَنِ الصِّرَاطِ قَدَمٌ، وَلمَا امتَدَّتْ إِلى مَا عِندَ الآخَرِينَ عَينٌ، وَلمَا بَطَشَت في ظُلمٍ يَدٌ، ولا سَارَت إلى عُدوَانٍ رِجلٌ، لَو جُعِلَ ذِكرُ الآخِرَةِ عَلَى القُلُوبِ لمَا تَخَبَّطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في أَوحَالِ هَذِهِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ، يَعصُونَ وَيَفجُرُونَ وَيَفسُقُونَ، وَيَرتَكِبُونَ الكَبَائِرَ وَيَتَخَوَّضُونَ، يَأكُلُونَ أَموَالَهُم بَينَهُم بِالبَاطِلِ، وَيَتَعَدَّونَ عَلى الحُقُوقِ بِأَدنى الحِيَلِ، وَيُقَصِّرُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِم مُستَسلِمِينَ لِلتَّسوِيفِ والكَسَلِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، أَتُرَونَ هَؤُلاءِ الذينَ يَخُوضُونَ في وَسَائِلِ الإِعلامِ فِيمَا لا يُحسِنُونَ قَد تَذَكَّرُوا الآخِرَةَ؟! هَؤُلاءِ المُستَهزِئُونَ بِالدِّينِ، أُولَئِكَ المُتَنَقِّصُونَ لِسُنَّةِ سِيِّدِ المُرسَلِينَ، مُرتَزِقَةُ الصَّحَافَةِ الذين يُحَارِبُونَ الحِجَابَ، مُنَافِقُو الجَرَائِدِ الذين يَتَبَاكَونَ على المَرأَةِ وَيَدَّعُونَ أنهم يُرِيدُونَ تَحرِيرَهَا وَإِيجَادَ عَمَلٍ لها، المُنتَقِدُونَ لِهَيئَاتِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، اللاَّمِزُونَ لِلقَضَاءِ الشَّرعِيِّ وَالحُكمِ بما أَنزَلَ اللهُ، الذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الذِينَ آمَنُوا، المُتَخَوِّضُونَ في أَسهُمِ الشَّرِكَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالمُختَلطَةِ، تَارِكُو الصَّلَوَاتِ وَمانِعُو الزَّكَاةِ، الخَائِنُونَ لأَمَانَاتِهِم وَالمُضَيِّعُونَ لِعُهُودِهِم، شُهُودُ الزُّورِ وَبَاذِلُو الرِّشوَةِ لِتَضيِيعِ الحُقُوقِ، المُتَلَمِّسُونَ لِلبُرَاءِ العَيبَ البَاغُونَ لهمُ العَنَتَ، المُؤذُونَ لِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا، أَتُرَونَ أَيًّا مِن هَؤلاءِ المجرِمِينَ مُتَذَكِّرًا لِلآخِرَةِ مُوقِنًا بِيَومِ الحِسَابِ؟! قال جل وعلا: كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصحَابَ اليَمِينِ في جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ المُجرِمِينَ مَا سَلَكَكُم في سَقَرَ قَالُوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُم عَنِ التَّذكِرَةِ مُعرِضِينَ كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُّستَنفِرَةٌ فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ بَل يُرِيدُ كُلُّ امرِئٍ مِنهُم أَن يُؤتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ، قَالَ الحَسَنُ البَصرِيُّ رحمه اللهُ: "إِنَّ للهِ عز وجل عِبَادًا كَمَن رَأَى أَهلَ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَكَمَن رَأَى أَهلَ النَّارِ في النَّارِ مُخَلَّدِينَ، قُلُوبُهُم مَحزُونَةٌ وَشُرُورُهُم مَأمُونُةٌ، حَوَائِجُهُم خَفِيفَةٌ وَأَنفُسُهُم عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا قِصَارًا تُعقِبُ رَاحَةً طَوِيلَةً، أَمَّا اللَّيلُ فَمُصَافَّة أَقدَامُهُم تَسِيلُ دُمُوعُهُم على خُدُودِهِم، يَجأَرُونَ إِلى رَبِّهِم: رَبَّنَا رَبَّنَا، وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ بَرَرَةٌ أَتقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ القِدَاحُ، يَنظُرُ إِلَيهِمُ النَّاظِرُ فَيَحسَبُهُم مَرضَى، وَمَا بِالقَومِ مِن مَرَضٍ، أَو خُولِطُوا وَلَقَد خَالَطَ القَومَ مِن ذِكرِ الآخِرَةِ أَمرٌ عَظِيمٌ".
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَشَيِّعُوا الجَنَائِزَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ في الفَانِيَةِ، وَتَذَكَّرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ، فَقَد قال : ((كُنتُ نَهَيتُكُم عَن زِيَارَةِ القُبُورِ، أَلا فَزُورُوها؛ فَإِنَّها تُرِقُّ القَلبَ وَتُدمِعُ العَينَ وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَكثِرُوا ذِكرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوتَ؛ فَإِنَّهُ لم يَذكُرْهُ أَحَدٌ في ضِيقٍ مِنَ العَيشِ إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيهِ، وَلا ذَكَرَهُ في سَعةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيهِ)).
(1/4910)
علامات حب العبد لربه
الإيمان
حقيقة الإيمان, فضائل الإيمان
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
24/11/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل محبة الله تعالى للعبد. 2- علامات محبة العبد لربه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الغاية القصوى والمطلب الأسنى والمقصود الأعظم هو أن يحظى العبد بمحبة الله تعالى له؛ لأن من يحبه الله تهون عليه المشاق وتنقشع عنه سحائب الظلمات، وتنكشف عن قلبه الغموم والأحزان ويعمر قلبه بالسرور والأفراح. وكل من يحبه الله تعالى فإنه عز وجل يحفظ جوارحه عليه ويعصمه من الوقوع فيما يكره، ويصير مستجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى، فإذا سأل الله شيئا أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء أعاذه منه. وبالإضافة إلى كل ما سبق فإن الملأ الأعلى يتوجهون إليه بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم عز وجل، فمن أحبه الله تعالى فإن أهل السماء يحبونه، ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم، وبالجملة فمن أحبه الله فقد ظفر بالخير كله.
ولكن كيف يحظى بمحبة الله من عقله مأسور في بلاد الشهوات، وآماله قاصرة على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوأ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات؟! فهو في الشهوات منغمس وفي الشبهات منتكس.
إننا ـ عباد الله ـ في أمس الحاجة إلى حب الله تعالى لنا؛ لأنه لو تحققت علاقة الحب هذه فإن الله تعالى يتولانا برحمته وحفظه ورعايته، وآنذاك تنحل كل مشاكلنا وتنشرح صدورنا، فبالله تعالى يهون كل صعب ويسهل كل عسير ويقرب كل بعيد، وما من أحد إلا ويدعي محبة الله تعالى؛ لأن من نفى عن نفسه حب الله كفر.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن لمحبة الله تعالى علامات تدل على ذلك، ينبغي للمسلم أن يعرض نفسه عليها ليعلم حقيقة حبه لله تعالى.
فمنها حب لقاء الله تعالى في الجنة، فإن من يحب الله فلا بد أن يكون متشوقا للقائه، جاء عن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)). ونحن للأسف الشديد قد تغلغلت الدنيا في قلوبنا وتمكنت منها، حتى أصبحنا نحب الدنيا أكثر من حبنا لأي شيء آخر، ولذلك عندما سأل الخليفة الأموي أبا حازم فقال له: لماذا نكره الآخرة ونحب الدنيا؟! قال له: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب. وكم من المسلمين اليوم عمروا دنياهم أفضل تعمير، ولكنهم قدموا من السيئات والذنوب ما الله به عليم؛ لذا هم يشغلون أنفسهم بسماع ومشاهدة الحرام وبقول وفعل الحرام، ليشغلوا أذهانهم هربا عن التفكر في أمر الآخرة وما أعد الله تعالى لمن عصاه، عوضا عن الإقلاع عن تلك الذنوب والتوجه إلى الله تائبين مستغفرين.
ومن علامات حب الله تعالى أن يكون العبد مولعا بذكر الله مواظبا عليه عن حب ورغبة فيه، لا يفتر لسانه عن ذلك ولا يخلو قلبه منه؛ لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره، ولذلك يكثر عند الغافلين في مجالسهم ذكر الكرة والأفلام والتوافه من الأمور، فإذا ما ذكرهم أحدهم بالله انتفضوا غاضبين وأسكتوه كي لا ينغص عليهم مجلسهم، أما المحب لله تعالى فهو يذكر الله عز وجل على جميع أحواله، وفي أصعب الأماكن وأخوف الأوقات، لذلك أمر الله تعالى محبيه أن يذكروه وهم يقاتلون أعداءه في ساحات الوغى، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]. والمسلمون اليوم انشغلوا بالأغاني والموسيقى على مدار الساعة، وأعرضوا عن ذكر الله والقرآن، فشغلهم الله بأنفسهم، فهل من متعظ أو معتبر؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن من أهم علامات محبة الله تعالى اتباعَ الرسول ، ولقد ادعى أقوام محبة الله تعالى فامتحنهم الله عز وجل بهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. فكل من ادعى محبة الله عز وجل فإننا ننظر في أعماله وأقواله، فإن كان متبعا للنبي فإن ذلك دليل على صدقه في محبة الله، أما إن كان مبتدعا أو مخالفا لسنة النبي في لباسه أو مظهره أو أقواله وأفعاله فإن ذلك قدح في ادعائه محبة الله تعالى.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يُحب مطيع
والمسلمون اليوم ـ عباد الله ـ قد خالفوا سنة النبي ، فهم قد هجروا المساجد بيوت الله، وملؤوا بيوتهم بما يغضب الله ويسخطه من وسائل الإعلام الهدامة، وتعاملوا بينهم بسوء الأخلاق، وظهرت فيهم علامات النفاق من كذب وإخلاف للوعد وخيانة للأمانة، وتشبهوا بالكفار في ملابسهم ومظهرهم وحلقهم اللحى وقصات الشعر، ومنهم من تشبه بالفتيات في إطالة الشعر، وأقبلوا على أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات، وغير ذلك من الأمور التي يندى لها الجبين، وتدل بلا شك على ضعف محبة الله في قلوبهم، والمصيبة كل المصيبة كما قال بعض السلف: "ليس الشأن أن تُحِبَّ، ولكن الشأن أن تُحَبَّ"، فأنت مهما زعمت وادعيت محبة الله فإنك لن تنال محبة الله حتى تتبع النبي في أفعالك وأقوالك.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ما بينكم وبين ربكم، وأحبوا الله بكل قلوبكم، واجعلوا أعمالكم تصدق ادعاءكم محبة ربكم، يحببكم الله تعالى ويغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا لحبك...
(1/4911)
الجهاد وإصلاح الفرد
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, القتال والجهاد
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
14/12/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكم من بعثة النبي. 2- منزلة الجهاد في الإسلام. 3- آثار الذنوب والمعاصي. 4- آثار ترك الجهاد في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: ((بُعِثْتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعل الذل والصَغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
عباد الله، لقد اشتمل حديث النبي على فوائد عدة، فمن ذلك سبب بعثته ، وأنه ما بُعث إلا لكي يأمر الناس بعبادة الله تعالى وتوحيده، وليطهر الأرض من الأوثان والأصنام وكل ما يتخذه الناس أربابا من دون الله تعالى، وقتال من يأبى ويعاند. والدعوة إلى التوحيد وقتال الناس عليه هي دعوة الرسل والأنبياء جميعا، إلا أن الله تعالى أباح لنبينا ولأمته من بعده الغنائم، وجعلها الله سبيل رزق لهم؛ ذلك لأن الأمم السابقة كانوا يجمعون الغنائم في صعيد واحد فتأتي نار من السماء فتأكلها، أما أمة محمد فكما جاء في الحديث: ((وأُحلت لي الغنائم ولم تُحل لأحد من قبلي)).
فالجهاد إذاً هو قدَر هذه الأمة ومصيرُها، وليس الأمر باختيار المسلم؛ لأن النبي يقول: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)). والجهاد طريق الجنة والنعيم المقيم، فعن أبي موسى أن النبي قال: ((إن أبوابَ الجنةِ تحت ظلال السيوف)).
ولقد أخبرنا نبينا أن من خالف أمره أصابه الله بالذل والهوان والصغار، وهذا يشمل الكفار الذين يجاهدهم المسلمون، ويشمل أيضا المسلمين الذين يتلبسون بالذنوب والمعاصي ومخالفة النبي ، فهل يستوي أصحاب الحفلات والأفلام والغناء مع أصحاب المحاضرات والدروس؟! وهل يستوي شباب الأسواق والملاعب والمعاكسات مع شباب حلق حفظ القرآن وأهل العمرة والاعتكاف؟! وهل تستوي المتحجبة العفيفة مع التي أبرزت مفاتنها وكشفت عن وجهها لكل ناظر؟! وهل يستوي من أقام سنة النبي في مظهره ومخبره ومعاملاته وأخلاقه مع من يُنَفِّر الناس من الإسلام بتعامله وأخلاقه ولا يتشبه بالنبي في مظهره بل يتشبه بالكفار والفساق؟! أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36].
يقول الحسن البصري رحمه الله متحدثا عن العصاة من أمة محمد : "لئن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في وجوههم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه". يقول الحسن رحمه الله: إنه مهما سارت بهم بغالهم وبراذينهم بطريقة جميلة ومشية فارهة، لا يقدر عليها إلا عِلية القوم، فإنهم على غناهم وثروتهم وجاههم إلا أن الذل ظاهر على وجوههم وسواد المعصية لا يخفى على عين، ولا شك أن عز الطاعة يظهر واضحًا وجليًا على الوجوه، كما قال الله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [محمد:29]، وكذلك ذل المعصية يظهر جليًا وواضحًا للذين أنار الله بصائرهم، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن ترك الجهاد يصيب المسلمين بالذل والصغار كما قال نبينا : ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله عليهم ذلاً لا يرفعه عنهم حتى يُراجعوا دينهم)).
فالمسلمون اليوم قد بخلوا بأموالهم عن إنفاقها في سبيل الله، ترى المسلم منا يتنعم بملذات الحياة ويأبى أن ينفق نزرًا يسيرًا من ماله في سبيل الله تعالى، والمسلمون قد تبايعوا بالعينة وتحايلوا على الربا، بل إن من المسلمين من يتعامل بالربا جهارا نهارا، وهم قد رضوا بالزرع والدنيا وانشغلوا بها عن الآخرة، جاء في سنن الترمذي وأبي داود عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينيّة وعلى الجماعة عبد الرّحمن بن خالدٍ بن الوليد، والرّوم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجلٌ على العدوّ فقال النّاس: مه مه، لا إله إلاّ الله يلقي بيديه إلى التّهلكة، فقال أبو أيّوب: إنّما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمّا نصر الله نبيّه وأظهر الإسلام قلنا: هلمّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فالإلقاء بأيدينا إلى التّهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيّوب يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ حتّى دفن بالقسطنطينيّة. لقد كان أبو أيوب الأنصاري في ذلك الوقت شيخًا كبيرًا قد عمي بصره، فقيل له: إن الله قد جعل لك رخصة، فأجاب: إني أحب أن أُكثِّر من سواد المسلمين.
هم نصروا دين الله وجاهدوا في سبيله فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم، أما نحن فخذلنا دين الله وخذلنا جنده، لذا كانت النتيجة ـ عباد الله ـ أن سلط الله علينا ذلاً لا يُرفع إلا بالرجوع إلى الدين وإحياء فريضة الجهاد، وهذا يُفهم من قول النبي : ((وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري)). فالعزة والنصر يكونان لمن أطاع أمر النبي ، وأي ذل أعظم من رؤية المسلمين يُقتلون ويُضطهدون ويُشردون، ومساجد الله تُهدم وتُدنس، بينما الأوثان والأصنام تُقدس ويُدافع عنها؟!
لقد دخل نبينا الحرم يوم الفتح وجعل يهدم الأصنام حول الكعبة قائلا: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وبعث سراياه لهدم اللات والعزى، ولقد قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَىَ مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ؟ أَنْ لاَ تَدَعَ تِمثْالاً إِلاّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاّ سَوّيْتَهُ.
فهذه هي سنة النبي التي بعث عليها عليا: أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، فأين المسلمون اليوم من أمر النبي ؟! اليوم نجد ممن ينتسب إلى الإسلام من يُطالب بحماية الأصنام وصيانتها، فهل بعد هذا الذل ذل؟!
فاتقوا الله عباد الله، وارجعوا إلى دينكم، واستقيموا على شرع الله، وادعوا الناس إلى التوحيد الذي بعث به رسول الله وأُمر بقتال الناس من أجله، فإنكم إن فعلتم ذلك حقيقة أعاد الله عليكم العز والنصر، ورفع عنكم الذل والصغار.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4912)
حنين وجمع النبي للأنصار
سيرة وتاريخ
غزوات
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
18/6/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحداث غزوة حُنين. 2- الوصية بالاعتناء بدراسة السيرة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء في كتب الحديث والسير والمغازي أن النبي بعد أن فتح مكة ذهب لقتال ثقيف التي حشدت له قواتها، ومعها جمع من القبائل خرجوا بأموالهم ونسائهم وذراريهم، فقال النبي بعد أن سمع بذلك: ((تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله)) ، وخرج النبي في جيش قِوامه عشرة آلاف رجل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، وألفان من طلقاء قريش، والتقى الجمعان بين مكة والطائف بواد حنين في أول النهار في غلس الصبح، وكان المشركون قد كمنوا للمسلمين، فلما اقتربوا منهم رشقوهم بالنبال من الشعاب والمضايق والمداخل على حين غفلة من المسلمين، ثم حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد وهم مصلتو السيوف، فانجفل المسلمون مدبرين وانشمروا راجعين لا يلوى أحد على أحد، حتى فرح مسلمة الفتح فقالوا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، ألا بطل السحر اليوم، فهرب جميع المسلمين، وثبت سيد المرسلين ، ولم يكن على فرس سريع أو جمل شديد، بل كان على بغلته البيضاء لثقته بنصر الله له، فلما رأى جموع المسلمين مدبرة وفلول المشركين مقبلة طفق يركز بغلته قِبَل المشركين وهو يصيح بأعلى صوته: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)). فما هرب وما ولى، وما تحرف لقتال وما تحيز إلى فئة، وكان عمه العباس وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ممن ثبتوا معه، يمسكان بغلته يكفانها أن لا تُسرع، فأمر النبي العباس أن ينادي في الصحابة وكان جهير الصوت، قال العباس: فناديت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟! يقول: فوالله، لكَأنَّ عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، فلما اجتمع إليه مائة استقبلوا الناس واقتتلوا، ثم صُرفت الدعوة إلى الأنصار، وقُصرت على بني الحارث من الخزرج، وعندما تجالد الفريقان مجالدة شديدة وقد عاد المسلمون قال عليه الصلاة والسلام: ((الآن حمي الوطيس)) ، ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها القوم قائلاً: ((شاهت الوجوه)) ، فما خلق الله إنسانا إلا مُلئت عيناه ترابا من تلك القبضة، وهُزم الجمع وولوا الدبر، وخلفوا وراءهم أموالهم وأنعامهم ونساءهم وذراريهم، وكانت الغنائم كثيرة جدا.
فمن السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، فبدأ النبي بعد ذلك بتوزيع الغنائم، وكان للمؤلفة قلوبهم النصيب الأوفر، فأعطى أبا سفيان أربعين أوقية ومائة من الإبل، وأعطى ابنيه معاوية ويزيد ورؤوس قريش مثل ذلك، وأعطى حكيم بن حزام ضعف ذلك، حتى شاع بين الناس أن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، إلا أنه لم يعط الأنصار شيئا، فتكلم أقوام منهم حتى قال قائلهم: غفر الله لنبينا، يقسم بين قريش الغنائم وسيوفنا تقطر من دمائهم، فأمر النبي أن يُجمع الأنصار في حظيرة، ثم جاءهم فقال: ((يا معشر الأنصار، مقالةٌ بلغتني عنكم، وجِدَة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وأعداء فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟!)) ، فقالوا: بلى، الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل، فقال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!)) فقالوا: بما نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله الْمَنُّ والفضلُ، فقال: ((أما لو شئتم لقلتم، ولَصَدَقتُم ولصُدِّقتم: أتيتنا مُكَذَّبا فصدَّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك. أوجدتم ـ يا معشر الأنصار ـ في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون ـ يا معشر الأنصار ـ أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)). فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن سيرة النبي قبل أن تكون علما يُدرس هي موضوع شيق محبب إلى النفوس، وما ذلك إلا لأن النبي هو أحب الخلق إلى قلوب المؤمنين، فكلما قرأ المؤمن شيئا من سيرته ازداد له حبًا وشوقًا إلى رؤيته ولقائه، فهو أجود الناس وأشجعهم وأحلمهم وأجملهم، ولا شك أن في مغازي النبي من الفوائد والعبر وترقيق القلوب وربطها بالله تعالى ما لا يوجد إلا في القرآن الكريم. إلا أن الملاحظ أن أكثر الناس أعرضوا عن دراسة سيرته ومغازيه، كما أعرضوا عن القرآن وهجروه، ولهذا السبب زادت الغفلة بين المسلمين وقلت محبة الله ومحبة رسوله في قلوب الناس، حتى ظهر ذلك جليا في ترك الانصياع لأوامر الله وفي الإعراض عن سنة المصطفى.
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى تعليم أبنائنا ونسائنا بل وأنفسنا سيرة النبي ، عوضا عمّا يحشى في أدمغتنا من تقديس للكرة وتقدير للفن الهابط وكل ما يُسخط الله ولا يرضيه، ولو أن أحدنا سُئل عن مقدار محبته للنبي لعجز عن وصف مشاعره، ولكن تهافته على الدنيا وتعامله بالربا وأكله أموال الناس بالباطل وتهاونه في الصلاة وعدم اهتمامه بدين أبنائه وبناته وتهاونه في حدود الله كل ذلك يكذب زعمه محبة النبي ، وإنه من المؤسف أن ترى جهل الناس بسيرة نبيهم وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، حتى إنه يندر أن نسمع ببيت توجد فيه كتب تفسير القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة، فضلا عن أن تجد فيه سيرة المصطفى.
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بتعلم سيرة خير خلق الله، عسى إن نحن فعلنا ذلك أن يرد الله علينا عِز الإسلام وكرامته.
(1/4913)
الأموال والأولاد
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
8/7/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء يكون في الخير والشر. 2- المال يكون نقمة وابتلاء. 3- الأولاد نعمة وشقاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الدنيا دار عمل وابتلاء، والآخرة دارُ محاسبة وجزاء، ففي الدنيا بحسب أعمالنا يتحدد فريق كل منا، ففريق في الجنة وفريق في السعير، والابتلاء والامتحان والاختبار كلها كلمات بمعنى متقارب، والابتلاء قد اقترن في أذهان أكثر المسلمين بالأمور السيئة على النفس، كالمرض والفقر والعذاب، لكنه حقيقة يكون أيضا بالأمور المحببة والتي تعجب النفس، كالصحة والعافية والمال، يقول الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
فقد يبتلي الله عبدا بالفقر أو المرض، فيصبر ذلك العبد ليكفر عن سيئاته في الدنيا وليرفع من درجاته في الآخرة، كما قال النبي : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)). وقد يبتلي الله تعالى عبدا بالمال والولد، يقول تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].
فالمؤمن ـ عباد الله ـ ينجح بتوفيق الله له في هذا الاختبار الذي يرسب فيه كثير من الناس، ذلك أن الله تعالى إذا ابتلاه ورزقه المال شكر اللهَ تعالى أن وسع له في رزقه وصان وجهه عن سؤال الناس، فتراه ينفق شُكْرًا وامتنانًا وعِرفانًا في مرضاة الله، ويتجنب إنفاق المال فيما يُغضب الله. وأما إذا رزقه الولد فإنه يشكر الله تعالى ويستعين به عز وجل في تربية ذلك الولد، لينشأ عالمًا أو داعيةً إلى الله أو مجاهدًا في سبيله، أو على أقل تقدير عضوا نافعًا في مجتمعه، ويجعل هم وفكر أولاده من ذكور وإناث منصبا على خدمة الإسلام والمسلمين وإعلاء كلمة الدين.
عباد الله، إن فتنة المال والولد فتنة عظيمة، والواقع يشهد أن أكثر المسلمين قد فشلوا في هذا الاختبار نسأل الله العافية.
إن الله تعالى قد وصف الكفار والمنافقين في كتابه الكريم بأنهم أهل الدنيا والنعيم، فقال: ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل:11]، وقال تعالى عن المكذبين أصحاب الشمال: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45]، ووصف الله تعالى الإنسان بأنه يطغى إذا كثر ماله وحلاله فقال: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7].
فالغالب أن المال يكون نقمة وابتلاء، وسببا للطغيان إن لم يتحلّ العبد بتقوى الله ومخافته، وإن لم يؤد حق الله في تلك النعمة، فأنت ترى بعض من أنعم الله عليهم بالمال لا ينفقونه في الغالب في مرضاته، فمنهم من ينفق عشرات الآلاف في سفر إلى الخارج ليعود هو وأبناؤه بآثام كثيرة وتأثُّر وإعجاب بالغرب الكافر، ومنهم من ينفق المبلغ نفسه أو أكثر منه في فرح فاجر، يستجلب إليه المغنين والمغنيات الفاسقين والفاسقات، ليُغْضِب الله تعالى وهو لا يبالي، ويدعو إلى فرحه وجهاء القوم ويترك الفقراء والمساكين من قرابته ومعارفه للفروق الاجتماعية التي بين الفريقين، وصدق النبي إذ يقول: ((شر الطعام طعام الوليمة؛ يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها)). ومنهم من ينفق مئات الألوف على سيارة أو ساعة، ورحم الله عمر بن عبد العزيز عندما علم أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب له: "قد بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم، فإذا بلغك كتابي فبع الفصّ وأشبع به ألف جائع، واشتر خاتما بدرهمين، واجعل نقشه: رحم الله امرؤا عرف قدر نفسه". فأين عمر رحمه الله ممن يشتري ساعة بستين ألف أو يفصل ثوبا بألفي ريال؟! أما ما ينفقه الناس في تعمير بيوتهم والبذخ الذي يصرفونه في المظاهر الكاذبة من أجل إرضاء الناس ولكي يحوزوا على إعجابهم وانبهارهم فالحديث عنه يطول ويدمي القلوب، ورحم الله امرؤا عرف قدر نفسه فأنزلها منزلها.
وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الولد ـ عباد الله ـ أيضا من الفتنة والابتلاء والاختبار الذي فشل فيه الكثيرون، فنحن نعلمهم في أحسن المدارس الدنيوية، ونلبسهم أفخر الثياب وأغلاها، ونطعمهم أجود الطعام، ونقتني لهم الألعاب الإلكترونية الغالية، وربما أرسلناهم في الإجازات إلى الخارج ليكتسبوا لغة أجنبية أو ليتعلموا ثقافات جديدة، ولكننا للأسف الشديد أهملنا أهم الأمور وهو ما أمرنا الله تعالى به إذ يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فكثير من أولاد المسلمين اليوم مِن أردأ الناس خُلُقا ودينا، تراهم في كلّ شارع وسوق، لا يوقّرون كبيرا، ولا يعرفون لجار حقّه، ولا تكاد تراهم في بيت من بيوت الله تعالى. يُروى أن هشام بن عبد الملك افتقَد ابنا له في صلاة الجمعة ذات يوم، فأرسل إليه فقال الولد معتذرا: إن بغلتي استعصت عليّ، فقال له: أما استطعت أن تأتي ماشيا؟! فحرمه من الركوب إلى الجمعة شهرا كاملا. فأين أنتم يا أولياء الأمور من هذا؟! وهلا حرمتم أبناءكم من الأمور التي تحجزهم وتؤخرهم عن صلاة الجماعة؟!
إن أكثر شباب اليوم حسن الملبس والمظهر الخارجي، قد ينظر الجاهل إليهم فينبهر من غناهم ويسرّ لمنظرهم، فيقول كما قال السابقون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، أما المؤمنون فيقولون: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ [القصص:80].
فاتق الله ـ يا عبد الله ـ في مالك وولدك؛ لأن الله تعالى قادر على أن يعذبك بها في الدنيا، وذلك بأن يكون المال والولد لك مصدر قلق وهم وإزعاج، فلا تدري كيف تحافظ على ما عندك من مال وكيف تنميه، ولا تدري متى يعود ابنك إلى البيت إن خرج مع رفاقه، وهل يعود يا ترى سالما، وكم من مهمل مفرّط تخرج ابنته مع صويحباتها، فلا يعرف مع من ولا إلى أين، اتصلت به هيئة الأمر بالمعروف لاستلام ابنته والعياذ بالله، وصدق الله تعالى إذ يقول عن المنافقين وأشباههم: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]. لقد خسر وخاب من جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده، لقد خسر وخاب لأنه يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ويُسأل عن أبنائه وبناته: على أي دين وملة رباهم وأنشأهم؟
فاتقوا الله عباد الله، فإن لكم ربا أنتم ملاقوه، وسيسألكم عن كل صغيرة وكبيرة، أحصاه الله ونسوه.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4914)
رضا الله وسخطه على العبد
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, خصال الإيمان
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
21/8/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إثبات صفتي الرضا والسخط لله تعالى. 2- المؤمن يرضى في الدنيا والآخرة. 3- رضا الناس غاية لا تدرك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرضى ويسخط، فالرضا ضد السخط، ولذلك جاء في الحديث أن النبي كان يدعو في سجوده فيقول: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)). ففي هذا الحديث استعاذ نبينا بالشيء من ضده، فالله تعالى يرضى ويسخط، فهو عز وجل يرضى عن عباده المؤمنين المتبعين أوامره، ويسخط على أعدائه وعصاته ومن عادى أولياءه، فالله تعالى رضي لنا هذا الدين فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، والله تعالى رضي لنا الشكر والأعمال الصالحة فقال: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وكل من يعمل عملا صالحا مخلصا فيه لله تعالى فإن الله يرضى عن ذلك العبد، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:24]، بل إن العبد إذا تمتع بلذات الحياة المباحة وشكر الله تعالى عليها فإن الله يرضى عنه، قال النبي : ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأَكْلة أو يشرب الشَرْبة فيحمد الله عليها)).
والله تعالى لا يرضى عن القوم الفاسقين، كما لا يرضى عن الأقوال التي تخالف شرعه وهدي نبيه ، وعلى رأس ذلك أقوال المنافقون الذين يعملون لهدم الدين ونشر الإلحاد والفساد، سواء كان ذلك عن طريق قناة فضائية أو صحيفة أو مجلة هدامة، يقول تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ [النساء:108]، ويقول عن المنافقين في آية أخرى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96].
ورضا الله تعالى ليس كرضا الخلق؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، فالملائكة ترضى كما قال النبي : ((إن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم)). والمؤمن كذلك يرضى، بل إن رضاه في بعض الأحيان يكون سببا لغفران ذنوبه، قال النبي : ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمّد رسولا وبالإسلام دينا غُفر له ذنبه)).
واعلموا ـ عباد الله ـ أن المؤمن يرضى رضائين، رضا دنيوي ورضا في الآخرة، فأما رضا الدنيا فهو ما يشعر به المؤمن من طمأنينة القلب عند ذكره لله تعالى، وما يتبع ذلك من انشراح الصدر وراحة البال، فهو يرضى وإن كان فقيرا مبتلى؛ لأنه شاهد نعم الله الكثيرة عليه فرضيَ عن ربه ورضي بقضائه، بخلاف الفاسق أو المنافق الذي استحوذ عليه الشيطان، فهو لا يرضى إلا بالدنيا؛ لذا لا يجد طمأنينة لقلبه، إنما هو الضيق في الصدر والران على القلب، فهو أبد الدهر متسخط لا يرضيه شيء، دائم القلق، سريع السآمة من كل شيء، لا يسعد إلا بما يوبق له دنياه وآخرته، وهذا من صفات الكفار والعياذ بالله، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8]. وأما الرضا الذي ينتظر المؤمن في الآخرة فهو كقول الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8]، أي: بما وعدهم من الكرامة والنعيم المقيم والرضا الذي لا سخط بعده.
أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن رضا الناس غاية لا تُدْرَك؛ لذلك فإن المؤمن العاقل أولوياته في الدنيا طلب رضا الله عز وجل، لأن النبي يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس)). ثم بعد ذلك يطلب المؤمن إرضاء من أمر الله بإرضائهم في غير معصية كالوالدين، ويُرضي الزوجان كل منهما الآخر، ولا يسخطُ أحدهما الآخر؛ لأن النبي قال: ((لا يفرِكن مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها غيره)).
ولا بد للعبد أن يرضى عن ربه، ورضاؤه عن ربه يكون بأن لا يسخط ويتذمر من قضائه وأن يرضى بقدر الله تعالى، كما قال ابن مسعود في قول الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، قال: (هو الذي إذا أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من الله).
ورضا العبد بقدر الله لا يعني أن يستسلم ويتواكل ولا يغير واقعه أو يحاول إزالة الضرر، بل يبذل جهده لدرء تلك المصيبة مع رضاه بقدر الله وعدم التسخط أو الجزع، ولذلك قيل: الرضا هو الصبر على البلوى بلا ظهور الشكوى.
ونحن نرى ـ عباد الله ـ أن من بني جلدتنا من يحاول إرضاء الناس على حساب دين الله ولو أدى ذلك إلى إسخاطه تعالى، فمنهم من يطالب بمنع رفع الأذان لكي لا نزعج الكفار فيتهموننا بالتشدد والتطرف، ومنهم من أباح التعاملات البنكية الربوية، وربما أصدر فتوى بجواز أخذ الربا والاقتراض به ولو بصوره المغلفة بالطابع الإسلامي لأن المجتمع يريد ذلك، ومنهم من خضع لضغط الواقع فأجهد نفسه وأتعب غيره إرضاء للشيطان عن قصد أو بغير قصد، فأصبحنا نرى القوانين الوضعية تحكم بين الناس في قضايا الاقتصاد والتجارة وغيرها عوضا عن تحكيم الشريعة، وأصبحنا نسمع من يطالب بنبذ الجهاد علانية، ويدعو إلى سفور النساء وخروجهن للعمل والاختلاط مع الرجال في كل المجالات، إذ غاية ما يتمنى أولئك أن يرضى عنهم الصليبيون والمنافقون بغض النظر عن رضا الله وسخطه، وهل اختفت البطالة بين الشباب الذين يعيلون أسرهم وهم في أمس الحاجة حتى نوظف ونحلَّ مكانهم فتيات يصرفن رواتبهن في الغالب على الثياب والعطور ومتابعة الموضة؟! جاء في سنن الترمذي أن معاوية كتب إلى عائشة أن اكْتُبِي إِلَي كِتَابا تُوصِينِي فيه ولا تُكْثِرِي عَلَيّ، قال: فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أَمّا بعد: فإِنّي سمعت رسول الله يقول: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا الله بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رَضَا النّاسِ بِسَخَطِ الله وَكَلَهُ الله إِلَى النّاسِ)) ، وَالسّلامُ عَلَيْكَ. فما أبلغها من وصية وما أقصرها، وما أحوجنا نحن لتطبيقها في حياتنا.
فاتقوا لله عباد الله، واسعوا في طلب رضاه، واحذروا من أولئك الذين يزينون لأهل الباطل باطلهم ويصبغونه بصبغة إسلامية مع مخالفته للكتاب الكريم والسنة المطهرة، ورضي الله عن ابن مسعود إذ قال: (إن كنت مقتديا فاقتد بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4915)
آثار الذنوب على المجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الكبائر والمعاصي
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
4/10/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام الذنوب. 2- آثار الذنوب الدنيوية الخاصة. 3- آثار الذنوب الدنيوية العامة. 4- آثار المجاهرة بالمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن للذنوب آثارًا عظيمة ومخاطر كبيرة في الدنيا والآخرة، والذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، ولقد سمى نبينا الكبائر بالموبقات والمهلكات، وهن كل ذنب توعد الله مرتكبه بعذاب أو لعن أو حد في الدنيا، ولقد ذكر لنا نبينا أصناف العذاب المختلفة التي يلقاها مرتكبو الكبائر، كشاربي الخمر ومن يزني ويسرق ويتكبر على الخلق ويعرض عن كتاب الله ودينه.
أما الصغائر فقد حذر منها نبينا إذ يقول: ((إياكم ومُحَقّرات الذنوب، فإنما مثل محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقّرات الذنوب متى يُؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
ومن رحمة الله تعالى بنا أنه من اجتنب الكبائر غفر له الصغائر، يقول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]. ولكن من يستطيع أن يقول: إنه من أهل هذه الآية؟! فالكذب كبيرة، وكذلك الغيبة، والإصرار على الصغائر والمداومة على فعلها كبيرة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أما آثار الذنوب الدنيوية فهي آثار عامة وخاصة، فأما الآثار الخاصة فهي كثيرة جدا، فمنها محق البركة في العمر والرزق، ومن آثار المعصية أنها تجلب غيرها من المعاصي فتتوالد وتتكاثر، وكم من متهاون بصغيرة من الصغائر لم تزل به حتى أوقعته في الكبائر. ومنها هوان العاصي على ربه وعلى الناس، كما يقول تعالى: وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، فليس العاصي بكريم على ربه وإلا لعصمه الله من الوقوع في المعصية. ومنها ذهاب الغيرة والحياء، وأنها تورث صاحبها الذل والغم والهم، وتوقع الرعب والخوف والقلق والضيق في القلوب، فلا يهنأ العاصي أبدا، إنما هي سعادة مؤقتة لحظة المعصية، كتأثير المسكن مع الألم، وسببها الغفلة التي يلقيها إبليس في قلبه، فإذا ما انقضت وانتهت تلك المعصية رجع ما كان يجده من ضيق وقلق، ولا يذهب ما به من ضيق وقلق إلا بجرعة تلو الأخرى من تلك المعاصي إلى أن يلقى ربه على تلك الحال والعياذ بالله، أو يوفقه الله تعالى إلى التوبة، ومثاله الذين ابتلوا بمشاهدة الأفلام أو سماع الأغاني، فإن أحدهم لا طاقة له بمفارقة تلك الأجهزة التي تكون حائلا بينه وبين التفكر والتدبر. وكفى بالذنوب إثما أنها تُنسي صاحبها الله تعالى فلا يذكره، وإن ذُكر عنده رغب عن ذكره إلى الاشتغال بمعاصيه، فهذا شيء من الآثار الخاصة.
أما الآثار العامة وهي التي يظهر آثارها على المجتمع فمثالها انعدام الأمن وكثرة الجرائم وانتشار الفواحش والفقر والجهل والأوبئة والأمراض وذل الشعوب وتسلط الكفار عليهم وظهور ما يسمونه بالكوارث الطبيعية؛ كالزلازل والفيضانات والأعاصير وغير ذلك من الآثار المدمرة التي هي من كسب الناس أنفسهم، يقول الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ولقد شبه نبينا هذا المجتمع الذي نعيش فيه بسفينة تقاسمها أصحابها، فأقام بعضهم أسفلها والبعض الآخر أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقَهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، يقول النبي : ((فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)). وما تلك السفينة إلا مجتمعنا نحن عباد الله، لذلك لو أراد شخص أن يرتكب جريمة أو يجاهر بمعصية وجب علينا منعه ووقفه عن فعل منكره، وليس لأحد أن يجاهر بمعصيته صغرت أم كبرت ثم يحتج بالحرية الشخصية؛ لأن شؤم المعصية العلنية يعم المجتمع كله كالخرق في أسفل السفينة، ونحن ـ عباد الله ـ لمَّا سكتنا ورضينا بالمنكرات تُرتكب جهارا نهارا وصل مجتمعنا إلى ما هو عليه الآن من تفكك أسري وارتفاع في نسبة الطلاق والعنوسة وحدوثِ جرائم القتل والسرقة بسبب ضعف الدين في القلوب وبسبب الظلم الذي يظهر في تعاملات الأفراد والجماعات والمؤسسات وظهور الزنا واللواط والخمور والمخدرات، سواء في الداخل أو في الخارج. نسأل الله أن يعافينا وإياكم منها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: كثيرًا ما نقرأ لبعض كتاب المجلات والصحف تبريرًا لظهور المنكرات، وأن ذلك أمر طبيعي، محتجين بأنه قد كان في عصر النبي من الصحابة مَن زنى وسرق وقتل، ونحن لسنا بأفضل منهم، وهذه كلمة حق أُريد بها باطل، لقد كان في الصحابة مَن زنى كماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، وهنالك من سرق كالمخزومية رضي الله عنها، إلا أنها حالات تُعد على أصابع اليد الواحدة، وفي مدة تقارب العشر سنوات، ثم إن تلك الذنوب لم تكن طبيعية ولا علنية، بل كانت مخفية وشاذة بين المسلمين، ولم يكن المجتمع الإسلامي يعظم العصاة ويُجِلُّهُم كما هو الحال الآن مع الفنانين والمرتشين والمرابين وآكلي الحرام؛ لأن الأصل في المجتمع الإسلامي أن لا تظهر فيه الذنوب ولا يُجاهر بها، فإن حصلت المجاهرة ولم يقم المسلمون بواجبهم من الإنكار فهذا نذيرٌ بنهاية المجتمع، فإن سنة الله أن تنزل العقوبة على ذلك المجتمع، ولا عبرة بوجود الصالحين والعلماء إذا لم ينهوا عن المنكر، يقول تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
فواجبنا نحن ـ عباد الله ـ أن نقاوم انتشار المنكر بكل ما أوتينا من قوة، وبحسب ما يسمح لنا به ديننا من غير عنف ولا إضرار، وبالموازنة بين المفاسد والمصالح، وأول ما يجب عليك البدء به أهلك، فابدأ بنفسك وبمن تعول، ولو أصلح كل منا نفسه وأهله وجيرانه وأصدقاءه لصلحت الدنيا كلها.
فاتقوا الله عباد الله، وانهوا عن المنكر، ولكم في من حولكم عبرة وعظة، ممن سلط الله عليهم الحروب والزلازل والفواحش والعياذ بالله.
اللهم احفظنا بحفظك، واسترنا بجميل سترك يا أرحم الراحمين...
(1/4916)
الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
18/10/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة على تحريم الغناء. 2- ما يباح من الغناء. 3- انتشار الغناء. 4- الوصية بالمحافظة على الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، ما من أحد يقرأ القرآن إلا ويعلم يقينا أن الله سوف يسأله يوم القيامة، لأن الله تعالى أقسم في القرآن العظيم بنفسه على ذلك إذ يقول: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]. ومن جملة ما سيسأل عنه العبد يوم القيامة حاسة السمع، يقول الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]. واليوم سوف نتدارس أمرا قد شاع وانتشر بين المسلمين، حتى إنه لا يكاد تخلو منه البيوت والفنادق والمستشفيات والأماكن العامة ووسائل الإعلام.
حديثنا اليوم عن أمر كان منكرا بالأمس ولكنه أصبح اليوم معروفًا محبوبًا، يعظم الناس أهله ويحبونهم ويجلونهم، وهم أولى وأحق بالازدراء والاحتقار. حديثنا اليوم ـ عباد الله ـ عن الغناء وحكمه في دين الله، وهل هو من الحرام أم من الحلال؟ هل هو من رضا الرحمن أم من رضا الشيطان؟ سأل رجل عبد الله بن عباس عن الغناء، فأجاب السائل بقوله: أرأيت إن كان يوم القيامة، وجيء بالحق والباطل، مع من يكون الغناء؟ قال السائل: مع الباطل، فقالوا له: اذهب فقد أفتيت نفسك.
إن الغناء ـ عباد الله ـ محرم بالكتاب والسنة والإجماع، يقول تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]. فسر ثلاثة من علماء الصحابة وهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وابن عباس لهو الحديث بالغناء. وأقسم عبد الله بن مسعود على أنه الغناء، وعلى هذا جمهور المفسرين. ويقول تعالى أيضا مخاطبا إبليس: وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64]، أي: أخرجهم واستخفهم واستنهضهم بمزاميرك وملاهيك، ولقد ثبت عن إمام التفسير مجاهد بن جبر أنه قال: "صوته الغناء والمزامير".
ومما لا شك فيه أن الأغاني تؤثر على الإنسان، فالذي يسمع الأغاني ذات الإيقاع السريع فإنه يجد في نفسه القوة والنشاط، وربما أسرع وتهور بسيارته، فكانت سببا في حتفه ومقتله، أما إن استمع إلى أغنية هادئة فإنه يغلب الحزن على ملامحه، وينتابه الهدوء والسكينة، وهذا من تسلط إبليس مصداقا لقول الله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ [المجادلة:19].
أما تحريم الغناء في السنة المطهرة فقد جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود أن النبي قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، وهذا نص صريح في تحريم آلات العزف والطرب بأنواعها. ويقول النبي كما في سنن الترمذي: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).
وأما الإجماع فقد نقل الإمام أبو بكر الآجري الإجماع على تحريمها، وأجمع الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل على تحريم المعازف وآلات الطرب والموسيقى، واختلفوا في حكم إنشاد الشعر الخالي من الموسيقى، وهو ما يعرف باسم الغناء كالأناشيد والموشحات الخالية من المعازف، فمن قال بإباحته اشترط أن يكون بلا معازف، وأن يكون الشعر مما لا يثير الغرائز، وأن لا يخالف تعاليم الإسلام، وأن لا يكون بصوت امرأة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قد يستخف ويسخر البعض من تأثير الأغاني والموسيقى، فيقول: إنها من الذنوب الحقيرة الصغيرة، وليست كالزنا وشرب الخمر، فنقول: إن النبي عندما حرمها فإنه قرنها بالزنا والحرير وشرب الخمر، مما يدل على خطرها على النفس البشرية. وكم سمعنا من يشتكي من ترديده للأغاني أثناء الصلاة والعياذ بالله؛ لأنها كانت آخر ما سمعه قبل دخوله المسجد، ولا يخفى عليكم ـ عباد الله ـ أنه ما من طفل إلا ويحفظ الأغاني ويرددها بل ويرقص على أنغامها، ويضع صور المغنين على ثيابه، باستثناء أبناء الذين استقاموا على شرع الله وأخرجوا آلات اللهو والمعازف من بيوتهم. وعندما ينشأ الطفل على الأغاني التي تدعو صراحة إلى الزنا والعلاقات غير الشرعية ثم يترعرع على الأفلام والمسلسلات وتكون ثالثة الأثافي صحبة سيئة وقدوة رديئة فإن النتيجة الطبيعية لذلك معاكسات وأرقام هاتفية تُلقى على من يرضى باستقبالها وعلى من لا يرضى، ومضايقة ومطاردات بالسيارات وأذية للمسلمين، وساعات على الهاتف فيما يسخط الله، وما يتبع ذلك عادة من زنا أو لواط، ومن ثم أمراض وأوبئة جنسية ونفسية، وأما ما ينتظرهم عند الله من العذاب فهو أدهى وأمر، نسأل الله تعالى العافية.
عباد الله، إن أهل الفسق والضلال قد أنشؤوا قنوات فضائية وإذاعية خاصة ببث الأغاني على مدار الساعة، بل وأدخلوا الغناء والموسيقى على قنواتهم التي يدعون أنها إسلامية، والله تعالى يقول: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]، وغوايتهم لم تقتصر على ملء الأسماع بالحرام، بل تعدى ذلك إلى وضعها في إطار مصور ضمن قصة حب وغرام أو هجر وخصام، وحشدوا فيها الغانيات من الشقراوات والسمروات في أوضاع راقصة وفاحشة، قد لا تُرى إلا في مخدع الزوجية، ينظر إليها الأولاد والفتيات ليلا ونهارا سرا وجهارا، بحيث تتناسب قصة تلك الأغنية مع أمنيات وتخيلات المشاهد الدفينة، فكأنما يرى نفسه في تلك الأغنية.
فاتقوا الله عباد الله، وطهروا أسماعكم وبيوتكم وسياراتكم من هذه القاذورات، علموا أبناءكم احتقار أولئك الفنانين الذين تبجلهم وتعظمهم وسائل الهدم الإعلامية، علموهم عظم إثم الذين يغنون ويساعدون على نشر الأغاني بين المسلمين، قاطعوا بضائع الشركات التي إعلاناتها هي الممول الرئيسي لتلك القنوات الخبيثة، أنكروا أنتم إذا سمعتم الموسيقى في متجر أو مستشفى أو فندق ومطعم، وأنكروا على من يحضرها في صالات الأفراح والاحتفالات، فإن لم تَزُل تلك المعازف والموسيقى لإنكارك ـ يا عبد الله ـ فلا أقل من أن تغادر المكان وتنجو بنفسك ودينك، ولا تُقم وزنا لرضا صاحب الدعوة أو سخطه؛ لأنه خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله. راقبوا تصرفات أبنائكم، واجتهدوا بتغيير ما يخالف دين الله، واحموهم من المنكرات كما يُحمى المريض، عسى إن نحن فعلنا ذلك أن يجنبنا الله وإياكم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
(1/4917)
موقفنا من مآسي المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
18/3/1425
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال المسلمين في العالم. 2- موقف الناس تجاه ما يحل لإخواننا المسلمين. 3- إنما المؤمنون إخوة. 4- لماذا كل هذه المصائب والابتلاءات ونحن خير أمة أخرجت للناس؟ 5- واجبنا تجاه ما يحصل لإخواننا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن أمة الإسلام أمة مبتلاة، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فما إن يطلق المسلم بصره في أرجاء الدنيا إلا ويرى المسلمين يُذبحون أو يضطهدون أو يشردون، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. فالمسلمون مضطهدون في جنوب الفلبين، والمسلمون مستضعفون في الهند وكشمير المسلمة التي يحتلها عباد البقر الذين يحرقون إخواننا وهم أحياء، والمسلمون في سيريلانكا يقتلون في مذابح لا يدري عنها العالم لفقر تلك البلاد ولبعدها، ولا يخفى عليكم جميعا ما فعله الصرب الصليبيون في البوسنة والهرسك وفي إقليم كوسوفا، وقبل ذلك كله هنالك فلسطين التي يدنسها اليهود وقد نسيها المسلمون، وأصبح فينا من لا يهتم بما يجري فيها خاصة بعد مؤامرات الاستسلام والدعوات للتعايش السلمي، ومحاربة الجهاد في سبيل الله.
وبالأمس القريب نقرأ ونسمع عن مذبحتين للمسلمين في تايلاندا ونيجيريا، وعن تعذيب وانتهاك القوات الأمريكية المحتلة بالعراق لأبسط حقوق الإنسان لإخواننا وأخواتنا، ولا نسمع استنكارا من أحد من المسلمين.
إذًا القاسم المشترك بين كل ذلك الظلم هو الإسلام، فهو المطارد وهو الهدف، وللمسلم عند مثل هذه الأنباء وقفات:
أما الوقفة الأولى: فهي مع حديث النبي : ((يوشِك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: ((لا، لكنكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم)) ، قيل: وما الوهن؟ فقال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
عباد الله، ما أشد ما يصف هذا الحديثُ واقعَنا، إن المسلمين اليوم أكثر من ألف وخمسمائة مليون مسلم، لكنهم متفرقون متشرذمون، لا يحكمون شرع الله ولا يتحاكمون إليه، بل يتحاكمون إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، وهم أبعد وأخوف ما يكونون من الجهاد في سبيل الله لغفلتهم وانشغالهم بالدنيا، ومن دعا إلى الجهاد فهو الإرهابي المتطرف، والمسلمون اليوم طرفان ووسط: فطرف قد تجاوز الحد وغلا وتطرف، فأصبح يستحل دماء المسلمين والمعاهدين، فيقتل ويسفك الدم في بلاد الإسلام ويفجر المنشآت ويكفر المسلمين ويروع الآمنين، ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)). وأما الطرف الآخر فهم يوالون الكفار ويحبونهم ويكرمونهم، ويرغبون في أن تصبح بلادنا مثل بلادهم في التحرر والتفسخ الديني والأخلاقي، ويرون أن ما يفعله الكفار في إخواننا المسلمين من تعذيب وانتهاك للأعراض وقتل ما هو إلا من باب السياسة الشرعية التي لا يحق لنا الحديث عنها، فيشيحون بوجوههم كأن الله لن يسألهم عنهم، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
وأما الوسط فهم الغالبية العظمى وهم أهل السنة والجماعة الذين يبغضون ويعادون أهل الملل المختلفة، ولكنهم لا يعتدون على أحد من أهل الذمة فضلا عن أن يكون من أهل القبلة، وبغضهم ومعاداتهم لا تمنعهم من المعاملة الحسنة والتلطف في القول مع الكفار، رجاء أن يعجبوا بالأخلاق الإسلامية فيسلموا.
الوقفة الثانية: يقول النبي : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). إن أعضاء أمتِنا الإسلامية قد اشتكت وطالت شكواها، فهل تداعينا لها بالسهر والحمى؟! هل شعرنا بما يشعر به إخواننا في فلسطين والعراق وهم يضطهدون ويعذبون ولا يعرفون للأمن معنى؟! إن النفوس قد أصابها الشح والبخل والعياذ بالله، فالناس أصبحوا لا يجودون بما يملكون كما كان السلف، وصدق الله تعالى إذ يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوقفة الثالثة: لماذا كل هذه المصائب والابتلاءات ونحن خير أمة أخرجت للناس؟!
والجواب هو: إن كان السؤال للتذمر والتشكي فهو أمر محرم؛ لأنّه اعتراض على قضاء الله وقدره، أما إن كان السؤال لمعرفة الداء ومكمنه فإن الله تعالى يقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. إذًا هذه المذابح والمصائب هي بسبب ذنوب المسلمين، كما يقول تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فما من دولة إسلامية إلا وفيها دعوة صريحة أو مبطنة إلى الشرك، كتعظيم القبور والأضرحة ودعاء النبي والأولياء والاستغاثة بهم لتفريج الكرب وكشف الغم، وهذا إضافة إلى ما في تلك البلاد من إقصاء لشرع الله وتعظيم للفواحش والمنكرات بأنواعها.
أما الوقفة الأخيرة: فقد يتساءل المسلم: ما واجبنا مع ما يحصل لإخواننا؟
هنالك الكثير مما يمكننا فعله، فمن ذلك وجوب تفعيل الولاء والبراء، فيجب علينا أن نتبرأ من اليهود والنصارى وملل الكفر كلها بلا استثناء، وأن نجعل ولايتنا للمسلمين فقط، فنخرج من بلادنا من لم يكن على ملتنا، ولا نستقدم إلا المسلمين، ولا ننفع إلا المسلمين، يجب علينا أن نثير هموم المسلمين في مجالسنا وننشر الوعي بيننا كي يستطيع المسلم تحديد أعداء الإسلام من أوليائه، بدلا من ملء مجالسنا بشجار اللاعب الفلاني مع آخر وضربه له، وتنصيب أنفسنا قضاة في أمر لن يحاسبنا الله تعالى عنه إلا لأننا خضنا فيه مع الخائضين.
كذلك من الواجب إن أردنا أن يغير الله ما حل بنا أن نغير ما بأنفسنا، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعلينا أن نمنع الأمور التي تجلب علينا غضب الله، علينا ترك المنكرات ومنعها من أسواقنا وبيوتنا وطرقاتنا ومكاتبنا، علينا بتفقد أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا؛ إذ لو ضمن كل منا صلاح نفسه ومن يعول فإن المجتمع كله يصبح صالحا، أما بوجود التبرج والسفور والاختلاط وترك الرجال والصبيان للفروض في المساجد وتعطيل حلق حفظ القرآن وانتشار المنكرات في كل مكان على مرأى من الناس وبرضاهم وبدون من ينهى عن المنكر فإن ما أصاب إخواننا سيصيبنا لا محالة، كما قال تعالى: وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].
فاتقوا الله عباد الله، وساعدوا إخوانكم المضطهدين في كل مكان بالمال والسلاح والدعاء، ابذلوا الجهد في نصرتهم وإحياء قضيتهم، كي ينصرنا الله على قوى الشر والكفر والعلمنة، وبذلك نكون قد استفرغنا جهدنا، والله حسبنا ونعم الوكيل.
(1/4918)
المؤمن القوي
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, التربية والتزكية, القضاء والقدر
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
11/7/1425
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إثبات صفة المحبة لله تعالى. 2- المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. 3- مفهوم القوة. 4- احرص على ما ينفعك. 5- الإيمان بالقدر وثماره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قَدَر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
عباد الله، في هذا الحديث العظيم العديد من الفوائد، فمن ذلك إثبات صفة المحبة لله تعالى وأنها تتفاضل، فمحبة الله للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف، والقوة التي يتفاضل بها المؤمنون هي عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فالتفاضل يكون بالإيمان والتقوى كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. فإذا تساوى الرجلان في الإيمان والتقوى فآنذاك تنتقل المفاضلة بينهما إلى أمور أخرى، كالقوة البدنية والحربية والقدرة المادية، فالمؤمن الغني إن كان يدَّخر أمواله ويكدِّسها فلا شك أن المؤمن الفقير الذي هو في مرتبته من الإيمان أفضل منه عند الله يوم القيامة؛ لأن ذلك الغني لم ينفق المال في سبيل الله وبخل به، وهو سيحاسب ويسأل عن ذلك المال: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ بينما الفقير يدخل الجنة لخفة حمله من أوساخ الدنيا، كما جاء في الحديث: ((قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار)) ، وفي رواية أخرى: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)). أما إذا أنفق الغني من ماله في تفريج كربات المسلمين ودعم النشاطات الدعوية وفي سبيل الله ذات اليمين وذات الشمال فهو قطعا أحب إلى الله من الذي لا ينفق ماله في سبيل الله، وهو أيضا أفضل من الفقير الذي في درجته من الإيمان؛ لقول النبي في حديث الدثور: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
والمؤمن القوي الذي يظهر للناس معتقده وينافح عن سنة نبيه ويظهرها في كل مكان وينكر المنكر حيث ما كان فيتصل بالصحف والمجلات ويراسل المسؤولين وولاة الأمر أحب إلى الله من ذلك الخامل الذي يستحي من إقامة شعائر الله، ويتردد في تبيين سنة النبي وتطبيقها؛ كي لا يناله شيء من النقد أو السخرية، ولا هم له إلا تحصيل طعامه وشرابه وشهوته.
والمؤمن القوي في جسده وقدراته القتالية والحربية أفضل عند الله تعالى من ذلك الخامل الذي يطير قلبه إذا سمع الجهاد أو ذُكر عنده الموت؛ ولذلك قال نبينا : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق)).
ولا يفهم أحدٌ من العقلاء أن المؤمن القوي هو الذي يكون فظا غليظَ القلب متجهِّم الوجه، بل المؤمن القوي في إيمانه وعقيدته هو المؤمن الذي يكون سهلاً لينًا متبسِّمًا، كما جاء في كلام النبي : ((حُرِّم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس)). والمؤمن رفيق بالخلق، والرفق لا يخالف القوة، فالقوة والرفق مطلوبان، ولكن العنف هو الممنوع، قال النبي : ((إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)). ولقد قال نبينا مصححًا للمسلمين مفهوم القوة: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)). وللأسف ما يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن شجار أو عراك في مدرسة أو في الشارع بسبب أتفه الأمور وأحقرها، فما ينبغي ـ عباد الله ـ لمسلم أن يمد يده على مسلم مثله؛ لقول النبي : ((كل المسلم على المسلم حرام؛ ماله وعرضه ودمه)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يقول النبي : ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)).
إن الأصل ـ عباد الله ـ عند المسلمين أنهم مسؤولون عن أعمارهم وأوقاتهم؛ لذا أرشد النبي الصحابة أن يحرصوا على ما ينفعهم من علوم الدنيا والآخرة، وأن لا يشغلوا أنفسهم بالتوافه من الأمور التي لا قيمة لها، فضلا عن انشغالهم بالمحرمات، وقد جاء عن ابن مسعود أنه قال: (إني لأكره أن أرى الرجل فارغا، لا هو في عمل الدنيا ولا الآخرة). وللأسف الشديد فإن جل أوقات المسلمين تمضي في اللهو الفارغ إن لم يكن في اللهو المحرم، بينما أعداء الله من اليهود والنصارى ملؤوا أوقاتهم بالنافع لدنياهم من علم وعمل فسادوا العالم.
لذا يجب على المسلم أن يحرص على ما ينفعه من العبادات والطاعات والعلوم النافعة، مستعينا في ذلك بالله تعالى، فنحن نقول في صلاتنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقد علم نبينا معاذا أن يقول دبر كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) ؛ لذا فالعبد منا أحوج ما يكون إلى مولاه في طلب إعانته على فعل المأمورات وترك المحظورات، بل وفي الصبر على ما قدره الله تعالى، ولذا قال نبي الله يعقوب: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، فمن أعانه الله تعالى على ذلك فهو الموفق، وأما من خذله الله تعالى فيسر له سبل المعصية وترك الطاعة ورأيته يتذمّر على أقدار الله فهو المخذول المهان، وقلة مِن المسلمين من يصبر ويرضى بقدر الله وقضائه ولا يعترِض عليه؛ لذا سد الشارع الحكيم باب الاعتراض على القدر فقال عليه الصلاة والسلام: ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قَدَر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
إن أكثر من يشتكي من الاكتئاب والقلق والتوتر وسائر الأمراض النفسية هم أقوام ما آمنوا بقدر الله؛ لذا تراهم يتحسّرون على ما فات منهم، فتسمع من يقول: لو أني فعلت كذا لما أفلست ولما صدمت ولما مات الولد ولما خسرت الجائزة، وهذا فيه اعتراض على قدر الله؛ لذا المشروع أن تُسَلِّم وترضى بقدر الله بعد أن تبذل الأسباب، أما من يتحسر على فوات الطاعة فهذا لا بأس به؛ لأن هذا النوع من التحسر عبادة كما قال : ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي)).
فاتقوا الله عباد الله، وقوّوا إيمانكم بالله تعالى، استعينوا بالله على فعل الواجبات وترك المحرمات والصبر على المقدورات، ولا تكسلوا في طلب ما ينفع وما يرضي الله تعالى، وآمنوا بالقدر، وسلِّموا لأمر الله آخذين بالأسباب كما أمر الله تعالى، تصلح لكم دنياكم وآخرتكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة المطهرة...
(1/4919)
أنواع الظلم
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
3/8/1425
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الظلم. 2- الشرك أعظم الذنوب. 3- عِظم ظلم العباد بعضهم بعضًا. 4- من صور ظلم العباد بعضهم بعضًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عن عبد الله بن عمر أن النبي قال: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)). والظلم هو الجور ومجاوزة الحد والميل عن القصد ومنع أهل الحقوق حقوقهم. وقد حذر الله تعالى منه أشد التحذير، وبينه لنا نبينا إذ قال: ((الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه. فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. أما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم. وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يُدْبِرَ ـ يقتص ـ لبعضهم من بعض)).
فهذه ثلاثة أقسام، القسم الأول هو الذي لا يغفره الله أبدا، وهذا النوع هو أكثر ما يشير إليه القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وكقوله: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. فالشرك والكفر لا يغفره الله تعالى أبدا إلا بالتوبة، فالذي يعبد الأحجار والأشجار أو الذي يتمسح بالقبور ويستغيث ويطلب المدد من الموتى أو يؤمن بالكهان والعرافين والسحرة ويتعامل معهم أو يستهزئ بشرع الله ويأبى تحكيمه، فأولئك ـ وغيرهم كثير ـ هم الظالمون الذين إن لم يتوبوا فلن يغفر الله لهم أبدا، وهم في الآخرة من المخلدين في النار.
وأما الظلم الذي يغفره الله تعالى فهو ما بين العبد وربه، وأغلب الذنوب والمعاصي من هذا النوع، كالنظر إلى الحرام وسماعه وشرب الدخان ونحوه، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، ويقول: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]. وهذا النوع من الظلم أمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر، وتكون المغفرة أقرب إذا أعقب الذنب استغفارا، يقول تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].
وانظر إلى قول موسى عليه السلام بعد أن قتل القبطي ماذا قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص:16]، وهذه المغفرة مقيدة بشرط، وهو عدم المجاهرة، لقول النبي : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون)) ، وفي الصحيح أن النبي قال: ((إن الله يدني المؤمنَ فيضع عليه كنفَه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه هلك قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين)).
وأما الظلم الذي لا يتركه الله تعالى، فهو ظلم العبد أخاه المسلم، يقول النبي : ((يقول الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا)). وهذا النوع من الظلم يقتص الله من المسيء إلى المظلوم يوم القيامة بقدر ظلمه وإساءته، ففي الصحيح أن النبي قال: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه)). فانظر كم من مسلم ضربت أو شتمت، وكم من مسلم أكلت ماله أو نظرت أو عاكست أهل بيته، جاء في صحيح مسلم أن النبي قال: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه فطرح في النار)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن الأدعية التي علمنا إياها نبينا حين الخروج من المنزل: ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلّ أو أُضَلَ أو أَزِل أو أُزَلّ أو أَظلم أو أُظلَم أو أَجهَل أو يُجهَل عليّ)). وكان النبي قلما يقوم من مجلسه إلا دعا بدعوات فيها: ((واجعل ثأرنا على من ظلمنا)).
وظلم العباد بعضهم البعض أمر خطير، ولا تكفيه خطبة أو خطبتان، ولكنها إشارة وتذكير، وسيذكر من يخشى. وإن من أبشع الظلم ما يفعله البعض من إساءة معاملة الزوجات والأبناء، فلا ينفق عليهم ولا يحسن تربيتهم ويضربهم ويهينهم، وربما أجبرهم على معصية الله، والنبي يقول: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)). وإن من إضاعتهم أيضا تركهم دون رعاية ولا قوامة ولا تفقد لأحوالهم، وذلك بإعطائهم ما يرغبون فيه من أموال وتيسير لسبل الفساد والغواية، وهذا هو عين الظلم إذ يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فمن لم يمنع أهله من اقتحام النار بل وسهل لهم ذلك فقد ظلمهم.
كذلك ما تفعله بعض الشركات والأفراد من منع الموظفين رواتبهم ومستحقاتهم، شهرين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، والنبي يقول: ((مطل الغني ظلم)) ، ويقول: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)).
ومن الظلم كذلك ما يفعله البعض من استقدام العمال وأخذ نسبة معلومة من رواتبهم الشهرية، وهذا سحت محرم. ومن الظلم أن تستقدم خادمة أو سائقا، فتحمله ما لا طاقة له به مما لا يجوز عرفا، كأن يعمل لثلاثة أو أربعة بيوت، مع تكليفه بالعمل المتواصل من السادسة صباحا إلى الثانية بعد منتصف الليل، ولا يحلو لربة المنزل الخروج إلا وقت الصلاة كي تفوته صلاة الجماعة، وربما ضرب بعضهم سائقه أو خادمته إن أخطآ، وهذا الذي تظلمه ـ يا عبد الله ـ وتسخر منه سوف يأخذ من حسناتك يوم القيامة حتى يرضى، وما أظنه يرضى بالقليل، فهو يخدمك الآن وسوف تخدمه يوم القيامة، وحتى لو كان هذا الذي تظلمه كافرا فإن ظلمه حرام، يقول النبي : ((اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا، فإنه ليس دونها حجاب)) ، فكيف ـ عباد الله ـ بدعوة المسلم المظلوم؟!
وإن من الظلم أن نسمع وشاية الواشين وغيبة وبهتان النمامين في شخص ثم نصدق إفكهم ونيسر لهم إيغار صدورنا على أحد من المسلمين دونما تثبت أو تحقق، وكم من أوقات ظلمنا فيها وأخطأنا بسبب قيل وقال.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وبادروا بالتوبة وإنصاف الناس وإعطائهم حقوقهم قبل فوات الأوان، فإن المتقين يسعى نورهم أمامهم يوم القيامة وهم على الصراط ليضيء لهم، والظالم لا نور له؛ لأن الظلم ظلمات، فربما مشى فزلت قدمه فسقط في النار لظلمه، والعياذ بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، ربنا ظلمنا أنفسنا...
(1/4920)
الفرج بعد الشدة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الفتن, قضايا دعوية
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
17/8/1425
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار ابتلاء. 2- صور من ابتلاء الله لأنبيائه الكرام. 3- الشدة لا تدوم. 4- من أسباب رفع البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الدنيا دار ابتلاء وعمل، يصيب الإنسانَ فيها المصائبُ والأمراضُ وما يكدر خاطره، وكل ذلك بتقدير الحكيم العليم، وهذه المصائب والشدائد في الغالب سببها الذنوب، فهي إما لتكفير سيئات العبد، وإما أن تكون رفعا لدرجاته ومكانته عند رب العالمين كما هو الحال مع أنبياء الله تعالى، يقول النبي : ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)).
فهذا الحديث ـ عباد الله ـ أوضح دليل على أن الابتلاء هو حقيقة علامة محبة الله تعالى لعبده، فإن كان العبد صالحا كان ذلك رفعا لدرجاته، وإن كان عاصيا كان الابتلاء نذيرا له كي يعود إلى رشده، فإن لم يتب ويقلع عن ذنوبه كان البلاء عقوبة من ربه، يقول نبينا : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم)).
فابتلاء الله للمؤمن تكفيرٌ لسيئاته كي يقدم على الله ولا ذنب عليه، فهذا نبي الله آدم يبتليه الله تعالى بالأكل من الشجرة فيُحرم من البقاء في الجنة. وهذا نبي الله نوح عليه السلام يكاد يحترق فؤاده على ابنه الذي أبى أن يركب معه السفينة، فكان من المغرقين ومع الكافرين. وهذا نبي الله موسى عليه السلام يدافع عن رجل من شيعته فيُقتل المعتدي على يده ويكون سببا لغربته عشر سنوات في بلاد غريبة عنه. ونبي الله يوسف عليه السلام يُبتلى في عرضه ويُراود عن شرفه فيأبى أن يستجيب لدعاء الرذيلة، فيُمضي أحلى سني عمره في السجن. ونبي الله إبراهيم عليه السلام يرزقه الله بغلام على كِبَرٍ وقد يئس من حصوله على الذرية، فلما بلغ معه السعي وأصبح قادرا على المشي معه وإعانته على العمل، لما أصبح قرة عين تُعد له الخطط وتُعقد عليه الآمال أتاه الأمر من الكبير المتعال أن اذبح ابنك ذبحا، فصلى الله على نبينا إبراهيم، لم يجزع ولم يراجع ربه في الأمر بل صمد للاختبار، وأذعن لأمر العزيز الجبار، فكان أن فرج الله كربته وفداه بذبح عظيم.
عباد الله، إن المتدبر لآيات الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين وقصص السابقين ليجد جليا أن الشدة لا تدوم، ولا بد أن يعقب الإعصار سلام وهدوء، يقول تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6]، ويقول تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7].
لقد أسلم الصحابة الأوائل في مكة، فخسروا بإسلامهم ثرواتهم وقبائلهم وقراباتهم وأصبحوا منبوذين، ولقد سامهم المشركون سوء العذاب مع أنهم على الحق المبين، وكان آخر ذلك حصارهم للمسلمين في شعب بني هاشم، لم يحاصروهم يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا، لقد حاصروهم ثلاث سنين كاملة، يمنعون عنهم الطعام والمعونة، حتى إن الصحابة كانوا يأكلون أوراق الشجر من الجوع، يخبرنا سعد بن أبي وقاص عن أحوالهم العصيبة يومئذ أنه ذهب يبول مرة فسمع قعقعة تحت بوله، فإذا هو بقطعة جلد بعير، فأخذها ونفض عنها التراب وغسلها ثم أحرقا وسفها فتقوى بها ثلاثة أيام. ثم أعقب الله الشدة بفرج، إذ أصبح سعد أحدَ أثرياء المدينة.
ويكفينا في ذلك أن نبينا ابتلاه الله تعالى بشتى أنواع الابتلاءات، فمن اضطهاد المشركين له ولأتباعه وقتلهم لعمه حمزة، إلى أذية المنافقين وقذفهم أحب الناس إليه بالزنا، ومع ذلك فقد صبر لأمر الله تعالى، فكان عاقبة صبره أنه ما مات إلا وقد دانت له العرب كلها، وما عند الله خير وأبقى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يقول نبينا : ((النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا)).
عباد الله، إن حياة أحدنا لا يمكن أن تستمر على وتيرة واحدة، فلا بد للمرء منا أن يبتليه الله يوما من الدهر، ولا بد لهذا البلاء أن يرتفع يوما ما أيضا.
وإن من أهم أسباب تفريج الكرب وزوال الشدة أن يكون العبد قبل وقوع الضائقة من الصالحين، وذلك لقول النبي : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) ؛ لذا جاء في التفسير أن الملائكة سمعت صوتا في جوف الحوت، فسألت عنه ربنا، فقال لهم: إنه يونس، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ فقال: نعم، فشفعوا له فأنجاه الله من الحوت. ومثل ذلك أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسل كل واحد منهم إلى الله تعالى بأرجى عمل عمله، ففرج الله كربتهم وأخرجهم من الكهف. فالأعمال الصالحة في أوقات الرخاء والعافية من أهم الأسباب في رفع البلاء، لذا ينبغي على كل منا أن يسأل نفسه: هل له من الأعمال الصالحة ما يفرج الله بها عنه كرب الدنيا؟
إن ابتلاءات الله تعالى من النعم على العباد؛ لأنها تعيد العبد الآبق إلى سيده، وتوقظ الغافل من غفلته، ولا يعني هذا أبدا أن يتمنى العبد البلاء، فقد قال النبي : ((سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يُعط بعد اليقين خيرا من العافية)). ولكن إذا حصل البلاء ووقع الكرب فإن على العبد أن يصبر ويحتسب وأن لا يجزع، يقول النبي : ((ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به ففُرِّج عنه؟ دعاء ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)).
فيا من ابتلاه الله بمرض أو بدين أو بمصيبة، يا من ابتلاه الله بزوجة سليطة اللسان سيئة الخلق أو ابن عاق فاشل أو ابنة سافرة متبرجة، اعلم أن ذلك بسبب ذنوبك، فتب إلى الله وأقلع عنها، فإن اشتدت ظلمة الليل فأبشر بالفجر، وإن ضاقت بك الأرض بما رحبت فاعلم أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، واربط قلبك بربك ولا تربطه بأحد غيره، فقد قال نبينا عن نبي الله يوسف: ((ولولا الكلمة لما لبث في السجن حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل)).
وأما أنت يا من حباه الله بما يحب من مال وجمال وعافية، إن كنت مقيما على معصية الله فلا تظنن أن ذلك لكرامتك على الله، لا تغتر بما آتاك الله؛ لأن نبينا يقول: ((إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج)). فسارع إلى التحرز من ذلك البلاء بالتعرف إلى الله في الرخاء كي يعرفك في الشدة، بادر بالمحافظة على الصلوات الخمس في المسجد وإلى صلة الأرحام وتطهير لسانك من فاحش القول وقلبك من ضغائن الأخلاق، تكون بذلك من أولياء الله الصالحين.
(1/4921)
مكفرات الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الفتن, الكبائر والمعاصي
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
13/11/1425
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الكبائر. 2- أعمال توجب تكفير الذنوب. 3- الحث على التوبة. 4- المصائب من أسباب تكفير الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)).
عباد الله، في هذا الحديث العظيم نجد أن النبي يقسم الذنوب إلى صغائر وكبائر، ويشهد لذلك قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31]. والكبيرة هي كل ذنب توعد الله مرتكبه بعذاب أو نار أو لعن أو حد في الدنيا، وليست الكبائر منحصرة في السبع الموبقات، بل هي ـ كما يقول ابن عباس ـ إلى السبعمائة أقرب.
ولقد أرشد الله تعالى العصاة إلى ما يمحو به الذنوب ويكفر السيئات، فأوجب عليهم التوبة والاستغفار، قال الله تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود:3]، فالاستغفار دعاء، بمعنى طلب المغفرة من الله بمحو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره. وأما التوبة فهي الإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة والندم الشديد على التفريط في جنب الله.
عباد الله، لقد جُبل الإنسان على الخطأ والنسيان وعلى الذنب والعصيان، ومن رحمة الله تعالى بنا أن فتح لنا بابًا نلج منه لطلب الصفح والغفران من الرحيم الرحمن، فالصغائر والسيئات يمحوها اجتناب الكبائر وفعل الأعمال الصالحة المستغرقة للأوزار، ومن هذه الأعمال هذا الحديث الذي بين أيدينا، فالصلوات الخمس والجمعة ورمضان وغيرها من الأعمال تكفر السيئات إذا اجتنب الإنسان الكبائر، كذلك الحج المبرور ونحن مقبلون على موسم الحج، ومن توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، وأيضا من وافق تأمينه في الصلاة تأمين الملائكة. والصلاة التي يتهاون بها أكثر المسلمين هي من أعظم ما يكفر الله به السيئات، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
والله تعالى ما شرع لنا تلك العبادات إلا لعلمه بضعف عباده وتقصيرهم، فشرع لهم ما يتقربون به إلى الله تعالى ويتوبون به عن غيهم وعصيانهم، ولقد حث الله تعالى عباده على التوبة، بل إن الله تعالى عرض التوبة على من خد الأخاديد وملأها نارا وأحرق عباده وأولياءه، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، وعرضها على من أشرك به وقتل النفس التي حرم ووقع في فاحشة الزنا، فقال عز من قائل: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]. فعلى كل من أذنب وأسرف في جنب الله أن يعجل بالتوبة؛ لأن الله تعالى يبدل سيئات من عصاه حسنات إن كانت توبته نصوحا، بمعنى أن الله يبدل شركه إسلامًا وإيمانًا، وبطشه وقتله سلمًا وأمانًا، وزناه عفةً وإحصانًا. وقيل: بل تبديل السيئات على ظاهره، فبعد أن يمحص الله عباده المذنبين في نار جهنم وينقيهم فإنه يبدل مكان كل سيئة حسنة، وقد يكون التبديل بلا عذاب في الآخرة إذا تطهر العبد من ذنوبه في الدنيا.
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يقول ابن القيم: "لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا، نهر التوبة النصوحة، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفرة، فإن أراد الله بعبده خيرًا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة، فإن لم تف بتطهيرهم في الدنيا طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نهر المصائب العظيمة المكفرة ما نجا مؤمن من وروده، بل ربما تكون كثرة المصائب دليلا على مكانة العبد عند ربه أو لكثرة ذنوبه، يقول النبي : ((إذا أحب الله قوما ابتلاهم)) ، ويقول النبي : ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)). فينبغي على المسلم أن يصبر ويحتسب؛ لأن سيد الخلق ابتلي بالعظيم من المصائب رفعا لدرجته ومكانته، فقد تعرض له المشركون بالأذية باللسان واليد، بل واتُّهِم في عرضه الطاهر الشريف، وهذا هو حال المسلم عند مجابهته لمثل تلك المصائب، الصبر والاحتساب رغبة فيما عند الله، وتيقنا أن ما أصابه فهو بسبب ذنوبه، قال النبي : ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حُزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)). فالفقر والمرض من المصائب العظيمة، والابتلاء في الدين من المصائب التي لا يملك المسلم إلا الصبر عليها، فكم من صالحة ابتُليت بزوج فاسق ينهاها عن الحجاب ويأمرها بالاختلاط ويُدخل بيتها ما لا يرضاه الله ويأباه دينها والعياذ بالله، وكم من شاب صالح تعرض له أقاربه بالأذية؛ لأنه التزم بشرع الله وترك كل ما يخالف دين الله تعالى.
عباد الله، إن ديننا دين عظيم، فإن ضعفت نفسك يوما وعصيت الجليل الجبار فبادر بالتقرب إليه تعالى بالأعمال الصالحة من صوم وصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام، وعلى رأس ذلك كله تقرب إلى ربك بالصلاة؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]. فإن كانت الصلاة تُقام والمسلمون يصلون وأنت لا تصلي معهم فكيف تريد من الله تعالى أن يغفر لك إساءتك وتفريطك؟!
ويكفيك ـ يا عبد الله ـ في خضم الأمواج المتلاطمة من الذنوب والفتن أن تخلص وجهك لله وأن تتبع سنة نبيه ، وبعد ذلك كله فهنالك رحمة الله الواسعة؛ إذ هو تعالى الذي يجبر النقص ويقبل التوبة ويغفر الذنب ويفتح الباب أمام العائدين إلى ربهم الطامعين في ولوج جنته ومستقر رحمته.
(1/4922)
الرفق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
22/2/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الرفق. 2- الرفق مطلوب في كل شيء. 3- من مظاهر العنف في المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الرفق صفة من صفات الرحمن، والله تعالى رفيق كما قال نبينا : ((إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)). والله تعالى يحبّ من عباده أيضا أن يزدانوا بهذا الخلق الكريم، كما قال نبينا : ((إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله)).
والرفق ـ عباد الله ـ ضد العنف، فإن كان العبد مقيمًا للصلاة مؤديًا لحقوق الله ومجتنبًا لمحرماته وكان فيه هذا الخلق المبارك خلق الرفق فإن ذلك علامة على حب الله تعالى له، قال النبي : ((إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق)).
والرفق يكون في كل شيء، فالرفق مطلوب حتى مع الحيوان، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَرِيقِ اشْتَدَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمّ خَرَجَ، فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثْ يَأْكُلُ الثّرىَ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الّذِي كَانَ بَلَغَ مِنّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَهُ مَاءً، ثُمّ أَمْسَكَهُ بِفيهِ حَتّىَ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ)).
بل إن الرفق يتعدى ذلك إلى قتل الحيوانات والبهائم، فحتى في هذه العملية المؤلمة التي لا بد منها فإن المسلم مطالب بالرفق، جاء في صحيح مسلم عن شداد بن أوس أن النبي قال: ((إنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ الإِحْسانَ على كُلَ شَيْءٍ، فإذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)). فإن كان الرفق مع البهائم مطلوبا فهو مع البشر عامة والمسلمين خاصة من باب أولى.
والرفق مطلوب مع النفس أيضا، فيجب على الإنسان أن يرفق بنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وأولى ما يكون رفق الإنسان بنفسه عند الأخذ بتعاليم الدين وتطبيقها؛ لأن من أخذ هذا الدين بعنف وبصورة غير طبيعية كانت نهايته محزنة مؤلمة وسريعة، لذلك حذرنا نبينا من ذلك فقال: ((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)). وهذا الحديث ليس فيه حجة لمن يستمر في فعل المحرمات بحجة الرفق، أو يترك صلاة الفجر مع الجماعة بحجة أن ذلك أرفق به؛ لأن النبي يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)). فما حرمه الله تعالى ورسوله فأنت مطالب بالامتناع عنه فورًا وبدون تردد، وما أمرنا الله تعالى ورسوله به فعليك أن تفعله بحسب استطاعتك.
فالعنف الذي يخالف النفس والفطرة يضر ولا ينفع، ولذلك عندما قال ثلاثة من أصحاب النبي : أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أصلي الليل ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أنكح النساء، عندما بلغ ذلك رسول الله غضب وقال: ((أما ـ والله ـ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
والرفق يكون أيضا في تعليم العباد ودعوتهم إلى الحق، يقول الله تعالى لسيد المرسلين : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. فهذا رجل يبول في مسجد النبي ، فيتعالى صياح الناس ومنهم من يريد أن يقوم إليه، والنبي يقول: ((لا تزرموه، دعوه)) ، فلما فرغ دعاه فقال له: ((إِنّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا اِلْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، إِنّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزّ وَجَلّ وَالصّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن أرفق الناس بالناس هو نبينا ، ومنه نتعلم الرفق بأقرب الأقربين منا، من والدين وزوجات وأولاد، وللأسف فإن هذه سنة أخرى هجرها بعض المسلمين، فما يكاد يخلو يوم إلا ونسمع بعراك خارج أسوار المدارس بل وداخلها، ونتلمس هذا العنف في تعاملات الأولاد في الشارع والمدرسة، والذي في الغالب اكتسبوه من الوالدين، حيث ينتشر العنف المنزلي، وعلى الرغم من أن الله تعالى يقول: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]. إلا أننا كثيرا ما نسمع عن طاغية جبار يُصَبِّح امرأته ويمسيها بالضرب المُبَرِّح كل يوم على أتفه الأمور، بجانب استخدامه لكل مفردات البذاءة والشتم وعلى مرأى من أولاده وبناته، وليته أظهر رجولته على أخيها أو أبيها أو على رجل يرد له الكيل كيلين، ولكنه كما قال الشاعر:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
بل إن العنف انتشر حتى قرأنا عمن ضرب وعذب خادمته وحبسها شهرًا، حتى تردت صحتها وأدى إجرامه إلى بتر أطرافها الأربعة، وقد أخبرنا النبي : ((عُذّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتّىَ مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)). وأما ضرب الأولاد وشتمهم وإهانتهم والتقتير عليهم وتحريم كل شيء عليهم بسبب وبلا سبب فحدث ولا حرج، وما على هذا ربى النبي أهل بيته، وصدق النبي إذ يقول: ((إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق)).
فاتقوا الله عباد الله، وراجعوا أنفسكم ومعاملاتكم، وعليكم بالرفق في جميع أموركم، عليكم بالرفق مع الأهل والأقارب والصدقاء، وعليكم بالرفق مع الصغار والكبار ومع الطلاب والمراجعين وكل من تحتكون به في حياتكم اليومية، لأن النبي يقول: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4923)
الشياطين
الإيمان
الجن والشياطين
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
24/5/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جملة من أحوال الشياطين. 2- جملة من الأوامر والآداب التي تعين على إبعاد الشياطين. 3- الشيطان يثبط المسلم عن الصلاة وذكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد أرسل الله تعالى نبيه إلى الثقلين الجن والإنس، فالجن خلق من خلق الله، خُلقوا من نار، منهم المؤمنون ومنهم الكافرون، يفضلون الأماكن الخالية من الناس كالصحراء، ومنهم من يسكن مع الإنس في البيوت، ومنهم من يسكن المزابل والقمامات؛ لأنهم يأكلون فضلات طعام الإنس، قال عليه الصلاة والسلام: ((لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم)).
والشياطين تنفر من البيوت التي يُذكر الله فيه ويُقرأ القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة)). والبيت الذي خرجت منه الملائكة فإن الشياطين تدخله وتستقر فيه، وقد تؤذي أهله بشتى أنواع الأذية، بالصرع والحزن والوسوسة، وما من أحد يحب أن يدخل بيته الشياطين وتخرج منه الملائكة، ولكن هذه هي حال أكثر البيوت اليوم، يقول النبي : ((قال لي جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير)). وكم من بيوت المسلمين اليوم لا تدخلها الملائكة لوجود الكلاب والصور والتماثيل فيها. لقد أخبرنا نبينا بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه جرس، وقال أيضا كما في صحيح مسلم: ((الجرس مزامير الشيطان)). والجرس المقصود في الحديث هو الذي يكون على شكل ناقوس النصارى، وكم من بيوت المسلمين اليوم يوجد فيها ما هو أخطر من الجرس، كآلات الطرب والموسيقى وغيرها من الأمور التي تطرد الملائكة طردا، فيحل مكانها الشياطين والعياذ بالله.
فمثل هذه البيوت لا شك أن الشياطين تستولي وتستحوذ على أهلها بدون أن يشعروا هم بذلك، خاصة إن كانوا من المبذرين، وإن من التبذير تلك البيوت الفارهة التي تزيد بكثير عن حاجة الإنسان الطبيعية، قال نبينا : ((فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان)). بل إن من المسلمين من لم يكتف بتواجد الشياطين في بيته، فقام بإدخالهم معه في سيارته، قال نبينا : ((ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رَدِفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان)). ولعل هذه الأغاني التي يسمعها الناس في سياراتهم ويرفعون الصوت بها، لعلها هي من أهم أسباب حوادث السيارات، حيث إنها تزيد من حماس السائق وتجعل فيه قوة وعدوانية وطيشا، فتكون المحصلة النهائية حادثًا مروعًا نسأل الله العافية، ولعل هذا مصداق قول الله تعالى مخاطبا إبليس: وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، فصوته المزامير والمعازف.
عباد الله، سوف أقرأ عليكم حديثا رواه البخاري ومسلم يجهله الكثيرون منا، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا كان جُنحُ الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تَعرُضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم)).
في هذا الحديث جملة من الأوامر والآداب التي تعين على إبعاد الشياطين، فمن ذلك حبس الأطفال ما بين غروب الشمس إلى أذان العشاء؛ والسبب ـ كما جاء في رواية ـ أن للشياطين في ذلك الوقت خطفة وانتشارا، ومن المؤسف أننا نرى الأطفال يلعبون في الشارع في هذا الوقت، وربما لبس أحدهم ثيابا عليها تصاوير ورسومات، فيكون هدفًا سهلاً لتلبس الشياطين والعياذ بالله.
ولقد أمرنا نبينا بأن نغلق الأبواب وأن نربط القرب وأن نخمر الآنية مع ذكر اسم الله مع كل تلك الأفعال، فيجب تغطية الآنية ولو بوضع عود عليها كما جاء في الحديث؛ لأن النبي قال والحديث في مسلم: ((إن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاءٌ أو سقاءٍ ليس عليه وكاءٌ إلا نزل فيه من ذلك الوباء)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الشيطان يحاول جاهدًا أن يمنع المسلم من فعل ما يقربه من ربه ويبعده عن النار، جاء في صحيح البخاري أن النبي قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)).
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف يثبط الشيطان المسلم عن الصلاة وذكر الله، وهذا الحديث فيمن نام عن قيام الليل فلم يستيقظ للتهجد، أما من نام عن صلاة الفجر فقد أورد البخاري أيضا أنه ذُكر عند رسول الله رجلٌ، فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بال الشيطان في أُذنه)). قال الحسن البصري رحمه الله: "إن بوله والله لثقيل". قال الطيبي رحمه الله: "وخص الأذن بالذكر لأن المسامع هي موارد الانتباه، وخص البول لأنه أسهل مدخلا في التجاويف وأسرع نفوذا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء".
وكم من المسلمين اليوم من يضبط المنبه على دوام العمل أو المدرسة، ويأبى أن يضبطه على وقت صلاة الفجر، فلا شك أن هذا وأمثاله ـ كما أخبرنا الصادق المصدوق ـ أصبح كالمرحاض يبول الشيطان في أذنه كل صباح، فأي خير يُرتجى من هذا الشاب وقد استحوذ الشيطان عليه في بيته وسيارته بل وفي نومه أيضا؟! لذلك تجد القلق والتوتر والاكتئاب وجميع الأمراض النفسية لدى من اجتمعت عندهم أسباب السعادة الظاهرية من صحة ومال ومنصب، ولكنهم لا يجدون طعم السعادة لاستحواذ الشيطان عليهم وهم لا يشعرون.
فاتقوا الله عباد الله، وتجنبوا كل ما يجعل سلطان إبليس عليكم عظيما، فإن الله قد وصف كيده بقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وإياكم واتباع خطواته لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر والبغي.
اللهم أجرنا من الشيطان ووساوسه وهمزه ولمزه ونفثه...
(1/4924)
زيارة المريض
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
16/10/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رد السلام. 2- فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. 3- فضل عيادة المريض. 4- بعض الآداب المشروعة عند زيارة المريض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)).
عباد الله، إن هذه الحقوق التي فرط فيها المسلمون يترتب عليها الأجر الكبير عند الله وحصول النفع العظيم بين العباد، فإلقاء السلام ورده سبب للمحبة والمودة الموجبة لدخول الجنة، كما قال النبي : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
ولا يخفى على أحد ما يتبع السلام من تحية وبشاشة توجب التآلف والرحمة، وتزيل الوحشة والتقاطع، وللأسف فإن من المسلمين من أعرض عن تحية الإسلام، فإما أن يحييك بتحية لا تمت للإسلام بصلةكقوله: صباح الخير، وإما أن لا يرد عليك السلام إذا ألقيته عليه، بل يكتفي بقوله: مرحبا أو نحو ذلك، وإما أن لا يسلم إلا على من يعرف وهذا فعل المتكبرين، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن سأله عن أي الإسلام خير: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
وأما اتباع الجنائز فيقول النبي : ((من تبع جَنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معها حتى يُصلِّي عليها ويُفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين من الأجر، كل قيراط مثل أُحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تُدفن فإنه يرجع بقيراط من الأجر)). ومع عظم هذا الأجر إلا أنه قلة من المسلمين اليوم من يتحرى الذهاب إلى المقابر لزيارتها والاعتبار بحال أهلها والبحث عن جنازة ليصلي عليها ويشهد دفنها.
وأما إجابة الدعوة فلا يخفى على أحد ما فيها من جبر خاطر المسلم الذي خصك بدعوته وأكرمك، لذلك يجب عليك إجابة دعوته إلا لعذر، كوجود منكر أو كون الدعوة في منتصف الليل أو بعده.
وأما تشميت العاطس فهو مشروط بقول العاطس: الحمد لله، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي قال: ((إن الله يحب العطاس، فإذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله)). ولعل سبب حب الله تعالى للعطاس لما فيه من حمد الله ودعاء الرحمة ومن ثم دعاء بالهداية وصلاح البال.
وأما عيادة المريض فهذه عبادة قد هجرها الكثيرون منا ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول النبي : ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مَخْرَفَةِ الجنة حتى يرجع)) ، بمعنى أنه ما يزال يجني من ثمار الجنة ونعيمها حتى يعود من تلك الزيارة، وفي رواية أخرى: ((فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان عشيا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح)). إذًا عيادة المريض فيها أجر عظيم، وفيها أيضا تطييبٌ لقلب المريض وإدخالٌ للسرور عليه، كما أن فيها عظة وعبرة للزائر.
وينبغي للمسلم أن يُنفس عن المريض ما هو فيه، بتبشيره بالعافية والصحة العاجلة، وأن الله يغفر له بمرضه ويطهره من ذنوبه. ويُسن للمسلم أن يدعو بدعاء أمر به النبي بقوله: ((إذا عاد أحدكم مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك، ينكأ لك عدوا أو يمشي لك إلى صلاة)). فالمسلم يدعو الله أن يشفي مريضه كي يقهر ويؤذي أعداء الله، أو ليذهب إلى المسجد لأداء الفروض الخمسة كما أوجبها الله.
فاحرص ـ يا عبد الله ـ أن تكون متمسكًا بدينك معتزًا بإسلامك، قاهرًا لأعدائك محافظًا على صلاتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يشرع للزائر أن يحمد الله على العافية التي هو فيها، قال النبي : ((من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء)).
عباد الله، لقد كان أصحاب النبي يعودونه إذا مرض، وكان هو يعود أصحابه إن مرضوا، فلقد عاد سعد بن معاذ عندما أُصيب في غزوة الخندق، وعاد سعد بن أبي وقاص عندما مرض وأوشك على الهلاك في حديث الوصية المعروف، والأحاديث في عيادته لأصحابه كثيرة.
وينبغي للمسلم ـ عباد الله ـ أن يغتنم زيارته للمريض بالدعوة إلى الله، كأن يضع عنده كتيبات وأشرطة إسلامية تنفعه وتنفع من يجلس عنده، عوضًا عن إهدائه باقات الورد إذ تلك عادة دخيلة وليست هي من عادات المسلمين. ولقد عاد النبي صبيًا يهوديًا فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.
وينبغي على المسلم أن يغض بصره إذا دخل المستشفيات، خاصة أن التبرج فيها هو السمة الغالبة، وليت الأمر اقتصر على الكافرات كما كان من قبل، لكنه انتشر وعمت به البلوى حتى أصبحنا نرى المواطنات المسلمات ـ اللاتي كن يصدرن العفة والحجاب إلى بلاد الإسلام الأخرى ـ سافرات ومتبرجات، وما ذلك إلا بكسب أيدينا، فإن المنكر إذا رضي به المسلمون وسكتوا عن إنكاره ولو بالمقاطعة عظُم وكبُر وانتقل إلى منكر أكبر منه، وهكذا حتى تصبح بلادنا كالبلاد التي نحذر دائما من السفر إليها، أما إذا أنكروه في بدايته ومهده زال وانمحى أو على الأقل صغر واضمحل.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في نسائكم، وكونوا رجالا ذوي غيرة، فإن الذي يرضى بالمنكر في أهله كما نرى في الشوارع والأسواق والمستشفيات سوف يعض أصابع الندم والحسرة بعد الفضيحة، ولا ينفع آنذاك الندم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4925)
أحب الناس إلى الله أنفعهم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
23/10/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل قضاء حوائج المسلمين. 2- فضل إنظار المعسر. 3- ضوابط في نفع المسلم لأخيه المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى ابن عمر أن النبي قال: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشيَ مع أخي المسلم في حاجة أحبُّ إلي من أن أعتكف في المسجد شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل)).
عباد الله، في هذا الحديث العظيم نجد أن النبي يشدد على نفع المسلم أخاه، فأحب الناس إلى الله هو ذلك العبد الذي جعل الله تعالى حوائجَ عباده تُقضى على يديه، فهو ينفع المسلمين بمشورته ومعونته أو ماله وجاهه وسلطانه، وهو يفعل ذلك ابتغاء وجه الله ومرضاته، لا طلبا لمديح مادح ولا لمنفعة أو مصلحة من أحد، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على قلب مسلم، ولو قلنا بمفهوم المخالفة فإن أبغض الناس إلى الله هو الذي يدخل على المسلمين الغم والهم والكرب، ويضرهم ويؤخر مصالحهم ويعطل معاملاتهم، جاء في صحيح مسلم عن هشام بن حكيم أن النبي : ((إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا)).
ولك أن تسأل نفسك يا عبد الله: متى كانت آخر مرة أدخلت فيها سرورا على مسلم، أو كشفت عنه كربة، أو طردت عنه جوعا؟ وكفى بنا عارا وخزيا أن نرى إخواننا يحاصرون ويجَوَّعون في كل مكان، بينما أبناؤنا قد نخر السوس أسنانهم من كثرة الحلوى! متى آخر مرة قضيت عن أخيك دينا وما أدراك ما الدَيْن؟ فهو الذي قال فيه النبي : ((من أقرض وَرِقاً مرتين كان كَعَدْل صدقة مرة)) ، فمن أقرض عشرة آلاف ريال كان ذلك مساويا للتصدق بخمسة آلاف ريال. بل جاء في المسند عن بريدة أن النبي قال: ((من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة)).
ثم ذكر النبي عظم أجر وثواب من كف غضبه وكظم غيظه، فأخبر أن الله تعالى يستر عورته فلا يفضحه في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه تعالى يملأ قلبه رضا يوم القيامة، وذلك كما جاء في حديث معاذ بن أنس عند أصحاب السنن: ((إن الله تعالى يدعوه على رؤوس الخلائق فيخيره من أي الحور العين شاء)). ولا شك أن أولى من تكف عنهم غيظك وغضبك أهلُ بيتك.
ثم إن النبي ذكر مرتين فضل المشي مع أخيك المسلم في حاجته في هذا الحديث، فذكر في الأولى أن المشي معه خير من الاعتكاف في المسجد شهرا، وذكر في الثانية أن من مشى معه حتى يقضي حاجته ويثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، ولقد كان نبينا وأصحابه القدوة في ذلك، فقد كانت الجارية الصغيرة تأخذ بيد النبي فتمشي به في طرقات المدينة تشكو له حالها، والنبي عليه الصلاة والسلام مصغٍ لها، وهذا حكيم بن حزام يقول: (ما أَصْبَحْتُ وليس ببابي صاحبُ حاجة إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله عليها الأجر). فهو يرى أنه إن مر عليه يوم ولم يقض لمسلم حاجة أو مصلحة فقد أصابته مصيبة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن من المسلمين من يتحدث الناس عنهم في مجالسهم بالمديح والثناء والشكر؛ لشهرتهم بقضاء حوائج الناس ومساعدتهم بكل الطرق الممكنة، فإن لم يستطيعوا المساعدة لم يعدم المرء منهم مواساة ودعوة صالحة، وقديما قيل: "البر شيء هين؛ وجه طلق ولسان لين". وعلى النقيض من ذلك، فمن المسلمين من يقضي لك حاجتك، ولكن مع عبوس الوجه أو مع التمنن ورؤية النفس على العباد وإشعار الأخ بالمذلة والحاجة، ولو أنهم ردوهم بكلمة طيبة دون قضاء حوائجهم لكان خيرا لهم من تلك المعاملة، ولذلك قال النبي : ((وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)) ، ويقول الله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].
عباد الله، إن الضابط في نفع المسلم أخاه أن يكون العمل من البر والطاعة أو من المباحات، ولا يجوز إعانة المسلم على محرم أو مكروه، لقول الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
ونحن اليوم في زمن الواسطة، حيث لا تتم أعمالك إلا بمعرفةٍ أو توسطٍ من وجيه، وهذا أمر خطير يدل على خلل في المجتمع، ويدل على ظلم الناس بعضهم بعضا، وهو من تضييع الأمانة التي قال فيها نبينا كما في صحيح البخاري: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) ، وفسر تضييعها بقوله: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).
وليس كل مسلم يعرف من يتوسط له في إنجاز معاملته، وكم من رجل يتوسط لإحقاق باطل أو إبطال حق، لا لشيء إلا ليزداد وجاهة ومكانة عند فلان الذي بدوره يخدمه في إدارة أو مؤسسة أخرى، وهذا أمر محرم، ففي الصحيحين عن عائشة أن النبي قال: ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)). فيجب عليك ـ يا عبد الله ـ أن يكون المسلمون عندك سواسية، وأن تمشي في حاجة أخيك الضعيف المسكين قبل مشيك في حاجة الغني الشريف؛ لأن هذا يجد من يخدمه ويعينه، وذاك ليس له أحد سوى الله.
فابذل نفسك ـ أخي المسلم ـ ومالك وجهدك وسمعتك ووساطتك في فعل الخير، فإنه لا يبقى للمسلم بعد موته إلا سمعته، فإن كانت حسنة ترحم الناس عليه وذكروه بخير، وإن كانت سمعته سيئة لعنوه كلما جاء ذكره.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4926)
اتق الله حيثما كنت
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مكارم الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
14/11/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة التقوى. 2- فضل الخُلق الحسن وحقيقته. 3- من أخلاق المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء في مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبي قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
عباد الله، في هذه الوصية النبوية يأمرنا نبينا أن نتقي الله عز وجل في كل مكان وزمان وفي السر والعلانية، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، سواء كان المرء منا بمفرده أو في جماعة. فالتقوى هي من أعظم أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، والجنة ما أعدها الله تعالى إلا للمتقين، قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
وحقيقة التقوى هي أن يجعل المرء بينه وبين عذاب الله تعالى وقاية، فكل من تهاون في صلاة الجماعة أو أَكَلَ الحرام من ربا ورشوة وسرقة وقمار أو وقع في الحرام كالزنا وشرب الخمر وتعاطي المخدرات فقد تجرأ على الله تعالى ولم يكن من المتقين.
ولقد علم الله تعالى أن عباده ضعاف النفوس تسهل غوايتهم، فلم يغلق عليهم باب الرجعة، بل جعله مُشْرعا لكل من أراد أن يلجه تائبًا نادمًا، يقول نبينا : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، أي: ألحق أي سيئة ضَعُفتَ وارتكبتها بحسنة، كصلاة أو صدقة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وهذا ـ عباد الله ـ من فضل أرحم الراحمين؛ أن رحم ضعفنا وأكرمنا بهذه الميزة، قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، لذا فإن من المفترض أن يكون العصاة أكثر الناس فعلاً للخيرات تكفيرًا عن سيئاتهم، إلا أن الواقع بخلاف ذلك.
يقول ابن القيم: "إن من أضرار المعاصي أنها تُضعف القلب عن إرادة الخير، فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا، إلى أن تنسلخ من قلبه بالكلية، فيأتي هذا المذنب من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان الشيء الكثير، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه". لذا يجب على كل مسلم أن يراجع أعماله وأن يتفطن إلى عدد الحسنات التي فعلها في يومه وليلته، وإن كانت تكفي لمحو السيئات التي اجترحتها يداه ونظرت إليها عيناها.
وأما وصية النبي الأخيرة بعد أمره بتقوى الله حيثما كنت فهي: ((خالق الناس بخلق حسن)) ، والعجيب أن الخلق الحسن هو من تقوى الله، وهو من الحسنات التي يُذهب الله تعالى بها السيئات، ولكن لما كان كثير من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حق العباد أفرد النبي حسن الخلق بوصية خاصة، يقول نبينا : ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا)). ولقد ضمن نبينا بيتا في الجنة لمن حسن خلقه فقال: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).
وحسن الخلق كلمة تتضمن معاني سامية كثيرة، فقد فسر الإمام ابن المبارك حسن الخلق بقوله: "هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى". أما الإمام أحمد فقال: "حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحتد، وأن تحتمل ما يكون من الناس". وبالجملة فحسن الخلق يشمل طلاقة الوجه ولين الجانب وعدم أذية الناس مع احتمال أذاهم والتودد لهم وملاطفة الكبير والصغير ومعاملة الناس بمثل ما يحب المرء أن يعاملوه به، كما قال نبينا : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لقد كان المشركون العرب يتحلون ببعض الأخلاق الحميدة التي يفتقدها البعض منا، كالكرم والجود والشهامة والغيرة، فجاء الإسلام ليضبط الأمور ويتمم الناقص، كما قال نبينا : ((إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق)). وما يأمر النبي المسلمين بأمر إلا ويكون هو الذروة والقمة فيه، وصدق الله تعالى إذ يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، ولقد وصفته أم المؤمنين عائشة النبي فقالت: كان خلقه القرآن. فكان سهلاً لينًا قريبًا مجيبًا في حياته لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه ولا يرده خائبًا، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ما لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم فيه، وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. إن أحدنا قد يستشيط غضبا إن تجرأ أحد على مناداته باسمه مجردا من الألقاب، بينما نبينا يجذبه أعرابي من ردائه جبذة تؤثر على صفحة عاتقه، ويناديه باسمه مجردا فيقول: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فلا يبطش به النبي ، بل يلتفت إليه ضاحكا ويأمر له بعطاء.
لقد أخبرنا نبينا أن نبيًا ضربه قومه حتى أدموه، فقال وهو يمسح الدم عن وجهه: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). نبي ويدمون وجهه ومع ذلك يدعو الله تعالى لهم، بينما نحن ما إن نرى منكرا حتى ندعو على فاعله بالويل والثبور والهلاك العاجل، عوضا عن الدعاء لهم بالهداية أو التفاعل الإيجابي لتغيير ذلك المنكر. إن نبينا من حسن خلقه ما انتقم لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى، كما تقول أم المؤمنين عائشة.
فأين نحن من هذا الحديث؟! كم من أحقاد وأضغان في قلوبنا على إخواننا المسلمين، بل وعلى قراباتنا وأرحامنا لأسباب تافهة وسخيفة، كم من الرجال من يغضب على امرأته إن لم تُحسن طهي الطعام أو كي الثياب، بينما لا يهتز له رمش ولا يخفق له قلب ولا يتغير وجهه إن رآها تخرج متعطرة أو متزينة أو سافرة، أو رآها تعود إلى بيتها بعد منتصف الليل مع السائق وثالثهما الشيطان.
عباد الله، لقد تغيرت المقاييس واختلت الموازين، فالناس يغضبون ويثورون للدنيا بخلاف ما كان عليه نبينا ، الذي كان ينتقم لحرمات الله لا لنفسه، وما ذلك إلا لبعدهم عن تقوى الله وعن كتاب الله وسنة نبينا.
فلنتق الله ـ عباد الله ـ في أنفسنا وأهلينا، ولنتبع السيئة الحسنة كي تمحوها، ولنبدأ من الآن التخلق بالخلق الحسن الذي بيّن نبينا فضله العظيم إذ يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم...
(1/4927)
إسعاف ذوي الحاجات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/10/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأواصر الاجتماعية في الإسلام. 2- مشكلة الفقر. 3- المال مال الله. 4- فضل رعاية الفقراء. 5- الوصية باليتامى. 6- الحث على العناية بالأرامل والأيامى. 7- عناية الرسول بالفقراء والمساكين والمحتاجين. 8- الحث على رعاية المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة. 9- سبق بلاد الحرمين في هذا المضمار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فخير ما يوصَى به ـ أيها المؤمنون ـ ويساق ويُلحَن من الوصايا الأعلاق تقوى البارئ الخلاق، فتقوى الله هي النور الهادي ليس به خفا، والبصيرة لمن اقتفى فاكتفى، والشِفا لمن كان من الفاقة على شَفا، والغنى لمن أعوَز واعتفى، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
أيها المسلمون، من إشراقات عظمة الإسلام وجلاله وخصائصه الباهرة التي أضاءت في شموله وكماله وجلَّت بمُنّةٍ عن رحماتِه في جماله تلكمُ الأواصر الاجتماعية السامية والوشائجُ الروحية والخُلُقية النامية والعلائق الهطِلَة بالإنسانية الحانية، لا سيما في أوان الماديات الذي حُجِبَت فيه كثير من القلوب بغلائل الذاتية الجَموع والفرديّة اللحيدة المنوع التي أصدرتها في غيابات الجشَع الجموح.
نعم، في أوانٍ أجدبت فيه المشاعر حتى غدت هشيما تذروه الرياح، وطوّحت الجسومُ من جواهرها الرأفة، فآضت لصفاقتها كالأشباح بعد أن برَأها الباري جلّ في علاها موئلاً لزكيِّ الطِّباع ومَنهَلاً للبِرِّ المشاع والإخاءِ المتقارض النّفَّاع.
إخوةَ الإيمان، ومن القضايا التي ترزح تحت مُرهقِها كثير من الأمم والأقطار والمجتمعات والأمصار وكان أن طبَّ لَها الإسلامُ بأحكامِه ونورِه قضيةُ الفقر وشأن الفقراء، يقول عزّ اسمه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19].
ولِمَا يجلبه الفقر من كلٍّ ولِما فيه من فلٍّ ونأيٍ وكَلكَل استعاذ منه الحبيب المصطفى بقوله: ((اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِلَّة)) أخرجه أبو داود والنسائي. ألم تروا إلى الفقير بين الناس مريضَ الجناب منكسِر الجناح حليفَ همومٍ وأتراح دونَ اقتراف إثم أو جُناح؟! يحمِل بين أضلاعه من لواعب العيلة ما أقبر أُنسَه وأنشر بؤسَه وقضَّ مضجعه وفضَّ من الحُرقة مدمَعَه، يقتاتُ من تباريحِ العَوَز ما أطال سُهادَه ورضَّ من الأسى أمانيَه ومراده. يعيش الفقير وحُشاشتُه بجمار العدم والخصاصة تُنهَب، وزفراتُه الكاوِيَة في [الأصفاء] تلهَب.
قد عضه البؤس الشديد بنابِه في نفسه والجوعُ في الأحشاء
في قلبِه نارُ الخليل وإنَّما في وجنَتَيه أدمع الخنساء
ولكن يا أمة العقيدة لكن، لا يغيبَنَّ عن شريفِ علمكم أن المال مال الله، وأن الله مستخلفكم فيه، وأن الذي أغنى هو الذي أقنى، وأن التفاوتَ في الأرزاق حكمةٌ من المولى الرزاق؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32]. يمحِّص بها الأغنياء، ويبتلي الفقراءَ، وتلك الحكمة المطوية في قضائه وقدره، لا يتنوَّرُها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة والإيقان؛ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7].
أما الذين استرقَّتهم شهواتهم وذواتهم وبارح اليقين أنحاءهم فهم الذين يجوبون في سجوف الحيرة والضلال. ونأيًا بالمسلمين عن هذا المَهْيَع المهين توافقت الآيات والبراهين على ترسيخ حق المحاويج والضعفاء والمساكين والفقراء واحترام شخصهم والتنويه بحالهم؛ تحسينًا لمستوياتهم وحلاًّ لمشكلاتهم.
ومن لطائف الترابط في قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 33، 34] يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: "وفي جعل هذا قرينًا لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم وحثِّ النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشدِّ المآثم" انتهى كلامه رحمه الله.
وفي هذا الاستنباط دليل على عظيم فضل رعاية الفقراء، ودِعامةٌ أساس في عظمة الإسلام وخصائص مجتمعه المنشودة وألويةِ تكافله وتآزره المعقودة، وعلى هذا الغِرار يُذكَّر ذوو اليسار أن الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل بينهم ميثاق الرحمة والتعاطف وعقد التكافل والتكاتف، وذلك بأن يمنح القادر العاجزَ رَوحًا من قواه، ويَنفحَ الواجد الفاقدَ قليلاً من جَدواه، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل: 71].
إِبَّان ذلك فيشيع في الأمّة الرخاء ويرتفع بقلوبها بَهِيُّ الإخاء، وستنعَم النفوس في الدارين في منهج مُسدَّد وفعل موفَّق مُرشَّد بين عاجلٍ ممجَّد وآجِل مخلَّد.
فإلى أمة الإسلام، وإلى المجتمعات المستغيثة من غوائل الفقر وشروره التي يجرها لخراب العالم ومعموره، إن كنتم تشفقون على نَعيم عَيشكم من البؤس والبؤساء وتدرؤون عن جمال حياتكم دمامة الفقر والفقراء فاقتحموا على الفقر مكامِنَه في الأكواخ والأعشاش، ولكن بعينٍ واكفة وفؤاد بالرحمة جَيَّاش، ثم قيِّدوه بالاكتنان في إيتاء الزكاة وسائر القربات كالصدقات الجاريات والأوقاف الساريات والهبات الباقيات والكفالات الواقيات.
إنِّي أرى فقراءَكم فِي حاجةٍ لو تعلمون لقائل فعَّالِ
وجزاء رب المحسنين يجل عن عدٍّ وعن وزن وعن مكيال
واغرسوا حب ذلك في قلوب الناشئة تكن منكم بإذن الله أمّة متراصّةُ البناء على قلب الأودّاء، تقطع مراحل الحياة رافهة مطمئنة، لا يمسها عناء ولا نصب، ولا يرهقها عَوَز ولا تعب، حينئذ لن تروا بإذن الله عينًا تحسد ولا قلبًا يحقد ولا يدا تجترح وتفسِد، ولا تكادون ترون في البيوت عائلا ولا في السجون قاتلاً ولا في الطرقات متسولاً ولا سائلاً، جاعلين قاعدة التكاتف والتكافل طيلسانَ بُرُدكم، أين ما يكن العيش الكريم يكن الأمن والسلام والحب والودُّ والوئام.
إخوة الإيمان، ومن فئات المجتمع الذين كلأتهم الشريعة بعين أحكامها وضَمَّخَتهم برُداعِ لُطفها وحنانها ولهم في قلوبنا والمسلمين مكانة أثيلة فئةٌ فقدت حنان الأبوة المشفقة الحادِبَة، ولَوَّعهم فقدُ الأمومة الحانية ووجدانِها الدافق بمشاعر الحب الحالم الجذلان، فباتوا في مسيس الحاجة إلى مرفإِ حبِّكم ولطفكم وحنانكم وعطفكم ومَهدكم المفعَم بالرحمة والرفق والسلوان، تواسون جفونهم القريحة، وتؤاسون قلوبهم الجريحة، تلكم هي فئة أحبتنا الأيتام، رحم الله يتمهم وعوضهم بمن فقدوه خيرا. فذو المرتَبَة يحنو على ذي المترَبَة، فتتبلَّجُ في حياتهم الرحمة في أسمى معانيها والسعادةُ في أجلى مراميها، قال سبحانه ممتنًا بكلاءة نبيه عليه الصلاة والسلام: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى: 6]، ويقول فيما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما.
رَباه ربَّاه، ما أعظم هذا الشرف وما أرباه لمن احتضن يتيمًا فأحسن مَربَاه، فرحم الله من رحم الأطفال والأيامى، وهنيئًا لمن زرع بسمة حانية على وجوه اليتامى، ومسح على رؤوسهم مسحة حادِبة، ورَبَّتَ على أكتافهم عِصاميَّةَ المستقبل وآفاق الأمل المشرق الوضاء.
وفي تعظيم حرمة اليتيم يقول سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9]. وللمؤتمنين على أموال القُصَّر واليتامى يُلفَت النظر إلى خطورة التعرُّض لحقوقهم وأموالهم، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].
وهكذا يا أمّة الإحسان، صان الإسلام منزلة الفقراء والأيتام، واحتفظ لهم بالوجود المعتبر في مسيرة الأمم، وكفل لهم الشخصيةَ الموفورة التي من حقِّها أن تشارك في العلياء وتؤُمّ.
لله درُّ الساهرين على الأُلى سهِروا من الأوجاع والأوجال
أهلِ اليتيم وكهفه وحُماته وربيعِ أهل البؤس والإمْحال
الذين أضاؤوا دياجيرَ المدقِعين والمعسرين بنور الود الهادي والحنان الرائح الغادي.
كاد اليتيم يموت لولا معشرٌ حاكَوا جدودَهم الكرامَ خِلالا
وقَفوا الجهودَ لنشلِه من بؤسه وغدَوا أبًا يَحنو عليه وخالاً
أروَيتمُ ظمَأَ النفوس بصيِّبٍ مِن برِّكم فعَبَقتمُ إفضالاً
معاشر الأحبة، وينتظم في سِلك الأحِقَّاء بالمرحمة والمواساة والتعاطف في هذه الحياة فئة ثالثة جديرة بالذكر والعناية والاهتمام والرعاية، فئة صَهَر جوانحها فَقدُ أحبابها، فعاشت ضيقَ الإعسار ووَكتةَ الإقتار وهَمَّ تنشِئة الأبناء الأخيار، تلكم هي فئة الأرامل والأيامى، يقول في وكيد رعاية حقِّها: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتُر)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومن بدائع الفاروق الملهَم رضي الله عنه وأرضاه في شفقته على الأرامل وكفالة معايشهن خشيةَ أن [تُبَرِّثَهن] الفاقة بنابها العضود ما رواه البخاري رحمه الله أن امرأة قالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صِبية صغارًا، وليس لهم زرع ولا ضرع، فوقف معها عمر ولم يمضِ ثم انصرف إلى بعير ظهير، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعامًا وحمَل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه وقال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. الله أكبر، إنها المسؤوليّة البرَّة الناطقة والعاطفة الرّاحمة الوادِقة حِيال الأمومة اللهيفَة السّاغِبة. وهكذا من ازدَانَ به عصر سُلالته العادلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ حيث لم يوجَد في عصره فقير يعطَى من الزكاة، فللَّه درّه لله.
أيها المؤمنون، وستظلّ كثير من المجتمعاتِ أمثولةَ أثرةٍ مقيتة وفرديّة شحيحة غداةَ ذَوَت فيهم أزاهيرُ الإحسانِ والمعروف ما لم يعمد عُقَلاؤها وسُراتها إلى ربطها بجوهر نصوص الشريعة الحاضّة على التواصي بالتراحم والتلاحم استيعابًا وفهمًا وتطبيقًا؛ إذ هي الأَلَقُ والنور، وهي الشفاء لما في الصدور؛ لِما تضطرِب فيه الأمم من عوائق اجتماعية وضوائق مادّية وإنسانية. ويومئذ تستروح البشرية الكالّة واحةَ الإسلام الفيحاء، وترتوي بالعذبِ الزُّلال من نميره. ألا فلتهد [العنابل] الرحمة والإخاء بين بني الإنسان، ولتَهدِ الفيوض المواساة [والمرور] على روابي أفئدة المسلمين الندية الخضراء حيال أحبتنا الأيتام والأرامل والفقراء والمحاويج والمساكين والضعفاء.
وبعد: أيها الإخوة، فللطامحين لنيل أعلى الدرجات ومرضاة رب البريات، إنها لفرصة قارّةٌ ونَفحة عُلوِيّة بالحسنات دارَّة وأعمال بارّة يحسن اهتبالُها مداومةً على الأعمال الصالحة التي قصدها النهج الرباني، وسكبها في أرواحنا الفيضُ الرمضانيّ والعيد الإيمانيّ، والموفَّق من وفَّقه الله، والمحروم من حرمَ نفسَه فضلَ الله.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين، اللهم خذ بأيدي أغنيائنا لعون فقرائِنا، وكن للفقراء واليتامَى والأرامل والأيامَى؛ إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافّة بني الإسلامِ مِن جميع الخطايا والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدّوام، فيا لَفَوز المستغفرين، ويا بشرى للتائِبين، جعلنا الله وإيّاكم منهم بفضلِه وكرمه، اللّهمّ آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وفّق من شاء للإحسان وهدى، وتأذن بالمزيد لمن راح في المواساةِ أو غدَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً نرجو بها نعيمًا مؤبَّدا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أندى العالمين يدًا وأكرمهم محتِدا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أهل التراحم والاهتدا وبذل الكف والندى، ومن تبعهم بإحسان ما ليلٌ سجَى وصبح بدَا، وسلّم تسليمًا سرمدا أبدًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ومدُّوا لإخوانكم المفؤودين رِفدًا ويدًا، تفلِحوا في دنياكم وغدا.
إخوة الإسلام، وهؤلاء الفئام في مجتمع الإسلام قد احتفى بهم سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، فكان يزورهم ويعود مرضاهم ويسدّ خلتهم وفاقتهم، وما من فئة منهم إلا ولها آمالُها التي ترنو إليها، وهي أعزُّ ما تطمح إلى تحقيقه؛ كي تتفيّأ مرابِع الطمأنينة والهناء وتشاركَ في الإعمار والبناء والنماء، فعلى ذوي القرار والمسؤولية والتوجيه أن تكون لهم بصيرة نافذة، وذلك هو المؤمل بحمد الله في تعاملٍ أمثَل وسعيٍ أنبَل يحقِّق الحرص على إيثارهم ونفعهم وإيصال الخير والعون إليهم مهما كانت الظروف والحتوف، والارتفاع بمنافعهم فوق كل الروابط والضوابط، في رعايةٍ مسددة شاملة نفسيًا وتربويًا واجتماعيًا وعلميًا، ويخصُّ المحبُّ بمزيدِ القول والتأكيد دعمَ رعاية أعزتنا المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة الذين لم يزدهم قضاء الله وقدره إلا عزمًا على المعالي وإباءً وتفاؤلاً بالآمال ومضاءً، ودمجِهم في مسيرة المجتمع الوثاب وميادين بنائه ورقيه بما يتواءم وقدراتهم الجسدية، وتلمُّحٍ لملكاتهم المتميِّزة ومواهبهم المبدعة في تكافل وتمازج يسمُوان إلى علوِّ المشاركة الأخوية الوجدانية التي تتَّحد في الحاضر المجيد والعيش الرغيد والأفق المديد السعيد، وأنهم من المجتمع وإليه، ولهم الحق كلُّ الحق في العناية والاهتمام والرعاية والزمام، وتلك مسؤولية مشتركة بين كافة أطياف المجتمع وشرائحه ومؤسساته، عندها ستدرك الأمة أن الإعاقة رسالة بالعطاء دفّاقة، وأن من يُنسَبون إليها قد يفوقون بعضَ الأسوياء إذِ المعاق المسبوك معاقُ الرّوح والفِكر والسلوك.
إخوةَ الإيمان، وفي هذا المضمار دَبَّجت ـ بفضل الله وعظيم منِّه ـ بلادُ الحرمين السَّنِيّة ومملكة الإنسانية دروبَ التكافل والإحسان والمواساة أيّانَ مرساها، ووشَّت دروبَ التراحم والتراؤف كيف مجراها، في تعاضد سَبّاق وبذلٍ غَيداق، وفق سنن الإحسان الشرعية وقواعد اللُحمة الوطنية والإسلامية، عبر المؤسسات الخيرية والهيئات الإغاثية ودور الرعاية الاجتماعية، وما هي ـ وايمُ الحق ـ ببِدعٍ في ذلك؛ ففي ربوعها أزهر الإيثار وسار، وفي هذه البطاح والديار انبجسَت ينابيع الرحمة المحمدية المهداة والنعمة المسداة، ومن هذه البقاع امتارتِ الدنيا أزوادَ الأرواح واستبضعت الإنسانية المرزَّأة بلاسِمَ الكلومِ والجراح.
وإن ترِد ـ يا رعاكَ الله ـ البرهان الساطع والدليل القاطع فسَيرنو ذلك جليًّا في أطفال ومحتاجي فلسطين ويتامى لبنان ومتضرِّري العراق ومنكوبي الحوادث وضحايا الفيضانات والكوارث، مع ما يُؤمَّل من بذلِ المزيد، ولِرجال الأعمالِ ولذوِي اليسار والمالِ في ذلك الأنموذَجُ الأكيد والرِّفد الرفيد، أبقاها الله للأمن والإيمان أبهى واحة، وللتراحم والإحسانِ رَوضة فوّاحة؛ إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
هذا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على المرسل بالرحمة التامة والرأفة العامّة والإحسان الغامِر والبر الهامر، نبيِّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك مولاكم ومولاه، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيِّنا الحبيب المصطفى...
(1/4928)
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
12/10/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلاوة الحديث عن الشمائل المحمدية. 2- رحمة النبي. 3- فضائل النبي وعظمته وكريم خصاله. 4- افتراء المعتدين على النبي. 5- براءة الدين من افتراءات الحاقدين. 6- قوة الإسلام وسعة انتشاره. 7- حاجة العالم إلى الرحمة المهداة. 8- واجب المسلمين تجاه هذه الهجمات الشرسة على الإسلام ورسوله. 9- اتحاد المسلمين في الذب عن النبي الأمين. 10- دعوة لإقامة إعلام إسلامي. 11- وشهد شاهد من أهلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ.
معاشرَ المسلمين، إنَّ في تاريخ العظَماء لخَبرًا، وإنَّ في أحوالِ النّبَلاء لمُدَّكرا، وإنّه ليحلو الحديث ويطيب الكلام حينما يكون عن الشمائلِ المحمديةِ والحياة النبويّة والسيرة الزّاكيَة لخيرِ البشرية. كيف لا يحلو الحديثُ عن رسولٍ منَحَه ربُّه من الشمائل أحسنَها وأبهاها، ومِنَ الفضائل أسماها وأرضَاهَا، ومِن محاسنِ الأخلاق أعلاهَا وأزكاها، ومن الآدابِ أشرَفَها وأكرَمَها، ومن الخصالِ الحميدة أتمَّها وأكملَها؟! فربنا جلّ وعلا يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. روى أحمد أنَّ النبيَّ قال: ((إنما بعِثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق)).
نبيٌّ وصفَه ربُّه جلّ وعلا بقولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، قال المفسرون: "رحمة للجنِّ والإنس ولجميع الخلق". روى أحمد أنّ رسولَ الله وقفَ عند بعيرٍ وقال: ((أينَ صاحبُ البعير؟)) فجاء فقال: ((بعْنِيه)) ، قال: بل أهبُه، فقال رسولُ الله : ((إنّه شكَا كثرةَ العمل وقِلَّةَ العلَف، فأحسنوا إليه)) رواه أحمد.
كيف لا يكون رَحيمًا وقد أحسَّ برحمته حتى الجمَاد، ففي قصّةِ جِذع النخلة الذي كانَ يتّكئُ عليه وهو يخطب أنَّ الجذعَ حَنَّ لرسولِ الله لمَّا تَرَكَه، قال الرَّاوي: حَنَّ ذلك الجذعُ حتى سمِعنا حنينه، فوضع رسولُ الله يدَه عليه فسكَنَ، وفي روايةٍ: أنّه لما حنَّ احتضَنَه وقال: ((لَو لم أحضِنه لحنَّ إلى يومِ القيامة)) رواه الدارمي.
نبيٌّ بعثه الله بشِيرًا بالخيراتِ والمسرَّات، ونذيرًا عن الشرورِ والموبقات، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]. له الخصائصُ الجليلة التي تتَّفق مع مكانتِه العظمى عند ربِّه ومنزلته العُليا عند خالقِه، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ [الحج:75]. يأمُر بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وينهى عن القبائح والموبقات، فوصفه ربُّه بقولِه: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]. روى البخاريّ عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبدَ الله بنَ عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفةِ رسولِ الله ، قال: أجَل، والله إنَّه لموصوفٌ في التوراةِ ببعض صفته في القرآن: (يا أيّها النبيّ، إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا وحِرزًا للأمّيّين، أنت عبدِي ورَسولي، سميتُك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفَع بالسيئة السيئةَ، ولكن يعفو ويغفِر، ولن يقبِضَه الله حتى يقيمَ به الملّةَ العوجاء، بأن يقولوا: لا إلهَ إلا الله، ويفتح به أعيُنًا عُميًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا).
حازَ خِصال الكمالِ في الأنبياءِ كلِّهم واجتَمَعت فيه، وتخلَّق بجميع أخلاقهم ومحاسِنِهم وآدابهم حتّى صارَ أكملَ الناس وأجمَلَهم وأَعلاهم قَدرًا وأعظمَهم محلاًّ وأتمَّهم حُسنًا وفضلاً. جمع محاسنَ البشرية كلِّها، واتَّصف بالبرِّ الشامِل والرِّفق الكامِل. رَوَى البيهقيّ وأبو نُعيم والطَّبراني عن عائشةَ رضي الله عنها قالَت: قامَ النبيّ فقال: ((أتاني جبريلُ فقال: قلَّبتُ مشارقَ الأرض ومغاربها فلم أرَ رجُلاً أفضَل من محمد))، وفي الصحيح عن أنسٍ أن النبيَّ قال: ((أُتِيَ بالبراق لَيلةَ أسرِيَ بي، فَاستُصعِبَ عليه، فقالَ جبريل: أبِمحمَّدٍ تفعل هذا؟! فما ركِبَك أحدٌ أكرم على الله من محمّد)).
رسولٌ هو أفضل الخَلق خَلقًا وخُلقًا، أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، وآواه فهَداه، وأعلى ذكره، فقال جل وعلا: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ. يصِف جعفر بنُ أبي طالبٍ النبيَّ أمام النجاشيّ فيقول: (أيّها الملِك، كنّا في جاهليّة؛ نعبُد الأصنام، ونأكُل الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوارَ، يأكُل القويّ منّا الضعيفَ، فكنا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رَسولاً نعرِف نَسَبَه وأمانَتَه وعَفافَه، فدعا إلى الله لنوحِّده ونعبدَه ونخلع ما كنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونِه من الحجارة والأوثان، يأمُرنا بصدقِ الحديث وأداءِ الأمانة وصِلَة الأرحام وحُسن الجوار والكفِّ عن المحارم والدِّماء، وينهانا عن الفواحش وقولِ الزور) إلى آخر قوله.
هو أجودُ الناس وأكرمُهم وأسخَاهُم عطاءً، يعطِي عطاءَ من لا يخشى الفقر، زهِد في هذه الدنيا زُهدًا لا نظيرَ له ولا مثيل، يمرّ الشهر والشهران وما أُوقِد في أبياتِه نارٌ، إنما عيشُه الماء والتَّمر، متواضعٌ، متقشِّفٌ، يدخل عليه الفاروق يومًا فيجده جالسًا على حصيرٍ عليه إزارٌ ليس عليه غيرُه، وقد أثَّر في جنبه، ويرَى قليلاً من الشعير في مسكنِه، فيبكي عمر، فيسأله النبيُّ عن سببِ بُكائه فيقول: يا نبيَّ الله، ما لي لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتُك لا أرى فيها إلاّ ما أرى من الشعير، وذاك كِسرى وقيصَر في الثمار والأنهار، وأنت نبيُّ الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! فقالَ النبي : ((أمَا ترضى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟!)).
كرامتُه للإنسان بلَغَت مبلغًا عظيمًا وشأنًا كَبيرًا، قال أنس: خدمتُ رسولَ الله عشرَ سِنين ما قال لي: أفّ قط، وما قال لشيء صنعتُه: لم صنعته؟ ولا لشيءٍ تركتُه: لم تركتَه. يقِف للصّغيرِ والكبيرِ والذّكر والأنثَى حتى يسمَعَ كلامَه ويَعرِض مسألته ويقضِي حاجته، يزور المرضى ويخالِط الفقراء ويصادِق المساكين، بعيدٌ عن التكبّر والتفاخر والتباهِي، قالت عائشة: كان يخصِف نعلَه ويخيط ثوبَه ويعمَل بِيَده كما يعمَل أحدُكم في بيته وكان بَشرًا من البَشَر، يفلِي ثوبَه ويحلب شاتَه ويخدم نفسه، وتقول أيضًا: ما عَاب رسول طعامًا قط، إن اشتهَاه أكَلَه وإن لم يشتهيهِ سكَت، وما ضرَب رسول الله شيئًا قَطّ بيَدِه ولا امرأةً ولا خادِمَه إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيل منه شيءٌ قطّ فينتقم من صاحبِه إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله.
عَطوفٌ على الأطفال والصغار، يسلِّم عليهم ويقبِّلهم ويحمِلهم ويداعِبهم ويلاطِفهم، ويقول: ((من لا يرحم لا يُرحم)). محبٌّ للتيسير والتسهيل والسماحة، وما خُيِّر بَين أمرَين إلا اختَار أيسرَهما ما لم يَكن إثمًا. مَشهورٌ بالحياء، قال أبو سعيد الخدريّ: كان أشدَّ حياءً مِنَ العذراء في خِدرِها، وكان إذا كرِه شيئًا عَرفنَاه في وجهه.
بعيدٌ ـ هو بأبي وأمي ـ عن الفحش والتفحُّش، يقول عبد الله بن عمرو: إنَّ النبي لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا، ويقول: قال : ((إنَّ مِن خيارِكم أحاسِنَكم أخلاقًا)). ولما قيل له: يا رسول الله، ادعُ على المشركين قال: ((إني لم أُبعَث لَعّانًا، وإنما بُعثتُ رحمة)) ، ويقول: ((إنَّ الله رفيق يحبّ الرفقَ، ويعطي على الرفقِ ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)). لا يقِرُّ الظلمَ ولا يرضَى به، ويقول: ((إنَّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا)). وما أحسَنَ قولَ القائل فيهِ :
أنصفتَ أهلَ الفقر من أهل الغِنى فالكل فِي حقِّ الْحياة سواء
يعين أصحابَه، ويمازحهم بحقٍّ، ويربِّيهم علَى أحسن السّجايَا وأكرم الطبائع. كانَ في سَفرةٍ واتَّفق أصحابه على طَبخِ شاةٍ، فقال لَه أحدُهم: عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخُها، وقال الآخر: عليَّ طَبخها، فقال هو : ((وعَليَّ جمعُ الحطَب)) ، فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: ((قد علمتُ أنكم تكفوني، ولكن أكرَه أن أتميَّز عليكم)) ، فقام بجمع الحطب.
كانت أخلاقُه طبعًا لا تطبُّعًا، وسلوكًا لا يعرِف زمانًا دونَ زَمان ومكانًا دون مكان وغنيًّا دون فقير وكبيرًا دون صغير ورئيسًا دون مرؤوس، فهو رحمة لا تجارَى وإحسان لا يُبارَى وعطفٌ لا ينتهي أمده ولا ينقطع عطاؤُه، قال حسان:
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسْمه إذَا ما قال في الخمسِ المؤذِّن أشهدُ
وشقَّ له منِ اسمِه ليُجلَّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّدُ
وقال أيضًا:
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفَترةٍ من الرسل والأوثان في الأرض تعبدُ
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهَادِيًا يَلوح كما يلوح الصقيل الْمهنَّدُ
ويقول كعب في بُردتِه:
أُنْبِئتُ أنَّ رسولَ الله أَوعَدَني والعفوُ عِند رسولِ الله مأمَولُ
إلى أن قالَ:
إنَّ الرسول لنورٌ يستضاء به ومهنَّد من سيوفِ الله مسلولُ
هذه كَلِماتٌ موجزة ومعاني مقتَضَبه، وهي [غيضٌ من فيضٍ] مِن صفاتِ رسول اللهِ الذي ارتَضاه خالق البشَر ليكونَ خاتمًا لرسُلِه ونبيًّا لكافّة خلقه، فاصطفَاه واجتباه وخصَّه بالخصائصِ الكبرى والصِّفات العظمى. وفي تفاصيل سيرتِه وجزئيّات حياته وهديِه من الخصائِص الأخلاقية والسِّماتِ الأدبيّة ما تسابق العلماء إلى كتابتِه وتسطيره، وتنافستِ الأقلامُ في ذِكره وتعدادِه، وتبارتِ الأفكار في عرضه وإيضاحه؛ حتى أصبح بحقٍّ مثالاً أعلى للخلق الكريم من جميع وجوهِه ولِقِيَم الخير والفضيلة من شتّى جوانبها.
معاشرَ الناس، من أعجَب العجب في عالم اليوم الذي ينادي أهلُه بالحرّيّة والمساواة واحترامِ الآخرين أن تنخرِطَ جهاتٌ كثيرة بعضُها عن جهلٍ وكثيرٌ منها عن مكرٍ وسوءِ نية وحِقد دفين في الصدور، تنخرِط بتهمةِ الإسلام ونبيِّه العظيم وتصويرِه بالإرهابِ والعنف وسيِّئِ الأوصاف في حملةٍ شَرِسة ضدَّ الإسلام ونبيِّ الإسلام، حملةٌ شرِسَة تحتمل اتِّهامات كاذبةً وتشكيكات باطلة ومثَالب ساقِطة وتجريحاتٍ وقِحة، حَمَلات تثير زوابِعَ منتِنة وَتَنفثُ سمومًا متنوِّعة. كلّ ذلك وهم يعلمون أنَّ ما يزعمونه كذِبٌ فاضح وقَلبٌ للحقائِقِ وتحريضٌ على الصِّراع بين الحضارات، وصدَق الله إذ يقول: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
ومِن هذا المنطلَق ننادي من على منبرِه ، ننادِي إلى العمل بالإنصافِ والحياديّة، ندعو عقلاءَ الإنسانيّة إلى التعرُّف على هذا النبيِّ العظيم؛ ليعلموا أنه نبيٌّ أصلُ دعوته تحريرُ الإنسان من عبوديّة غير الله والإخلاصُ للخالِق المعبود وإقامة المثُل العليا والمبادئ العظمى من مبادئ المساواةِ بين البشر وإرساء مبادئِ العدل وتكريم المرأةِ والكفّ عن كلِّ أنواع الظلم والالتزام بمكارِمِ الأخلاق وأفضَلِ السجايا والدعوة إلى تحقيق الأمن والأمان والعَدل والسلام.
إنَّ على عقلاء العالم وحكمائِه أن يتبصَّروا في الحقائق التاريخيّة؛ ليعلموا أن الإسلام ونبيَّه قد ظلِمَا واتُّهما زورًا وظلمًا وبهتانًا في ظلِّ ضَعف المسلمين، فالإسلام لم يكن يومًا مَا وَراء أيِّ كارثةٍ من كوارث التاريخ، ومِن أقربِها لعالم اليَوم الحروبُ العالمية التي قُتِل فيها عشراتُ الملايين، لم يَكن الإسلامُ سَببًا لجرائِمِ التَّميِيز العنصرِيّ التي ثارَت في كثيرٍ مِن بقاع العالم، والتي لا تخفى على سياسيٍّ ولا عالم اجتماعي، لم يكن الإسلام على علاقةٍ بأيٍّ من الكوارِث النوويّة الهائلة التي شهِدَها القرن الماضي والحالي، والتي تهدِّد العالم واستقرارَه وأمنه. ولم يكن الإسلام ولا نبيُّه سببًا لما يعانِيه العالم في كثيرٍ من بقاعِه من فقر وتخلّفٍ وأمراض، بل إنَّ الإسلام وتعاليمَ نبيِّ الإسلام بكلِّ ما تضمَّنته من خيراتٍ ورحمة ولين ورفقٍ وإحسان لو تمسَّكت بها البشريّةُ حقَّ التمسّك لما حصل لها ما حصل من هلاك ودمارٍ وشقاء وظلمٍ وعَناء، بل لحصَّلت كلَّ خير وسعادةٍ وأمنٍ وسلاَم، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
معاشر المسلِمين، لِيَعلَمْ كلُّ ناعِق ويستَيقِن كلُّ حاقد أنَّ الإسلام قويٌّ قوةَ الجبال الراسِيات، لا تهزُّه عبرَ التاريخِ حملة عاتِيَةٌ تستهدف تشويهَ ضيائه وإطفاءَ نوره، بل لا تزيدُه تلك المكايِدُ والدّسائس إلاّ انتشارًا وسَرَيانا، ولا غروَ في ذلك فسنّةُ الله في هذا الدين في كلِّ وقت وحين أنّه منصور محفوظ عزيزٌ، فربّ البشرية يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، ورسول الله يقول: ((ليبلُغَّنَّ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلاَّ أَدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزّا يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ به الكفر)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي.
وليعلَم خفافيش الظلام أنَّ الإسلام سيظلّ صامدًا في أيِّ وجهِ حملة عاتيةٍ تستهدف صفاءَه المتألِّق ونوره المشرِق، فهناك سرٌّ عظيم يجِب أن يدركه الحاقِدون وهو أن الإسلام من عند الله، وأنّه رضيَه لخلقه بوابةَ سعادةٍ وإصلاح، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، محفوظٌ بحفظ الله إلى يوم القيامة، وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
بلِ العالمُ بأسرِه وهو يضلّ في متاهات المادّيّات وجحيمِ الحروب وجفافِ الأرواح والقلوب ويحيطُ به الشقاءُ المعنويّ والحسّيّ وتُنذر به أسبابُ الهلاك والدّمار وتعصف به المطامع الدنيويّة والقوة المادية وتتحطَّم فيه المبادئ السامية لفي أمسِّ الحاجة إلى الرجوع إلى خالقه والرجوع إلى ربِّه والاهتداء بهذا النبيِّ الذي ارتضاه له خالقُه نبيًا ورسولاً إليه كافّة، رحمةً مهداه ونعمة مجتباه.
معاشرَ المسلمين، إنَّ واجبَ المسلمين قادَةً وعلماءَ ورعيّة أن يرفضوا تلك الأكاذيب التي تُكادُ للإسلام ونبيِّ الإسلام، وأن يدينوها، وأن يقِفوا لها بالمرصاد، وأن يَعلموا أنّها بَليّة ابتُلُوا بها لتحدوَ المؤمنين الصادقين إلى الثبات بهذا الدين والاتّصاف بسيرة سيد الأنبياءِ والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم والرجوع الحقيقي للمحبة الصادقة لله جل وعلا ولرسوله وإيثارهِما على كلِّ المحابِّ والمشتَهَيات، فالله جل وعلا يقول: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186].
إنّ الأمّةَ الإسلاميّة وهي تسمع الهجَمَاتِ الشرسة على هذا النبيّ العظيم لمُطَالبَة أن تثبِتَ للعالم أنَّ هذه الهجمات لا تزِيدُها إلا رجوعًا إلى مَعينِ المحبّة الصادقة لهذا النبيّ الكريم والتمسك بسيرته وهديه ونسفِ المستنقعات الآسِنَة مِنَ الأفكار التي لا تتَّفِق مع دعوتِه وسيرته وهَديه وطريقته. عليها أن تبيِّن للعدو أن هذه الأمّةَ لن تفرِّط في شيءٍ من ثوابتها مهما كادَ لها الكائدون ومكرَ بها الماكرون.
معاشرَ المسلمين، إنَّ هذه الهجماتِ الشَّرسةَ تفرِض علينَا أن نُجنِّدَ القلوبَ والأقلامَ ووسائلَ الإعلام إلى عَرض السيرةِ العطرة والحياة الطيّبة لأعظم إنسان وأفضلِ مخلوق محمّدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام من واقع أوثَق المصادر العلميّة لسيرته التي سطرتها الأيادي الأمينة والكتابات الموضوعيّة الصادقة. واجبنا ـ نحن المسلمين ـ أن نسعَى بكلّ ما أُوتينَا من مقوِّمات ووسائل لنقدِّم حياةَ الرسول الطاهرة ورسالتَه العظيمة بما فيها من الفضائل والمحاسنِ إلى العالَم ليعرِف المنصِف والجاهلُ الحقيقةَ التي يشوِّهُها الحاقدون ويحرِّفها الحاسدون.
كما أنَّ من أوجب الواجبات على الساسةِ والعلماء والمثقَّفين الدفاع عن عرض رسول الله والذبّ عن شخصيّته وهديه وسيرته بالقلم واللسان والحوار الهادف، بالطرق السياسيّة والطرق العلمية، وفقَ خطاب حضاريٍّ مقبول وسلوكٍ أخلاقيّ مؤثر، وعبرَ عمل مخلِص، بمنهج قويم وأسلوب سليم يُوصل الرسالة العالميّةَ التي بُعِث بها خير الخلق، ويبرز محاسنها ونورها الوضّاء وشمسَها المشرقة.
أما لله والإسلام حقٌّ يدافع عنه شُبّانٌ وشيب؟!
فكلُّ مسلِم على ثغر من ثغور الإسلام في خِدمة دينه وعقيدته وسنّة رسوله بحسبِ مكانه ومسؤوليته.
وإنَّ من الواجب على كل مسلم أينما يعيش أن يبرهنَ بسلوكه الإسلاميّ وأخلاقه النبويةِ، أن يبرهن للعالم كله حقيقةَ هذا الرسول ودينه، فحيئنذٍ فمن كان منصفًا من العالَم عَلِمَ أن الخيرَ المطلق والمحاسنَ الكاملة والصلاحَ الشامل والرقيَّ التام يكمن في هذا الدينِ وفي أخلاقِ هذا الرسول الأمين، فبالسلوك الحسن وبالعمل بأخلاق رسول الله دخَل الدينَ كثيرٌ من الخلق؛ لِمَا رَأَوهُ في أخلاق المسلمِين وتعامُلهم من رقيٍّ وسلوك حَسن، بل قد آن للمسلمين أن يحمِلوا الرسالة الخالدةَ بكل الوسائل الممكنة تحت شعارٍ هو: "حبُّ الله وحبُّ رسوله حَيٌّ في قلوبِنا مطبَّق في واقعنا ظاهر على سلوكنا"، لا سيّما والعالَم اليومَ يعاني من وَيلات الحضارةِ الماديّة الخاوِيَة من مقوِّمات الروحِ والإيمان؛ مما أدخلها في آفاتِ الهموم وعواملِ النّقص والإفلاس.
أمّةَ الإسلام، إنّه مما يُفرِح المسلمَ الغيور أنَّ مثلَ هذه الهجماتِ نَشأت عنها ردّة أفعال جمَعت المسلمين على شيءٍ واحد هو الغَضبة لله ولرسوله والاتِّفاقُ على اتِّخاذ موقفٍ حِيال التجنِّي السافر عن جناب رسول الله ، فإلى المزيدِ مِنَ المواقِف الصامدة الرّافضة رَفضًا قاطعًا للباطل والتجني على سيِّدنا وحبيبنا رسول الله ، كلُّ ذلك في فلَك التحلِّي بالصبر والرفق والتثبُّت والتعامل بالحكمة والبُعد عن مسالك العنف والتطرّف.
هذا، وإنَّ الدعوة متجدِّدة بإلحاحٍ شديد في عصرنَا الحاضر أن تتوافَق جُهودُ الحكّام والعلماءِ والدّعاة وأهلِ الثراء واليسارِ ورِجال الأعمال والاقتدار إلى إيجادِ قَنَوات إعلاميّة إسلاميّة تبثُّ الدعوةَ إلى الله وتبيِّن محاسنَ الدين القويم وسيرةَ سيّد الأنبياء والمرسلين بلغاتٍ شتى؛ لِما للإعلام من دَور كبير في التأثير على جميع الفئات، وَفق خططٍ سليمة ومنهجيّة مدروسة قويمة؛ لنثبِتَ للعالَم صدقَ توجّهاتنا وسلامةَ مقاصدنا وسموَّ أهدافنا.
وواجبٌ على علماء الإسلام ودعاتِه في كل مكان أن يعمَلوا بتوجيهِ القرآن في حوارِ عُقلاء الملَلِ استجابةً لقوله جل وعلا: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، حِوارٌ مبنيّ على الموضوعيّة والالتزام بأصول الأخلاق الكريمةِ المتَّسمة بأفضل العبارات وأحسنِ الأساليب. يقول العلامة ابن القيّم في تعدَادِ فِقه غزوةِ تبوك: "ومنها جوازُ مجادلةِ أهلِ الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته"، إلى أن قال رحمه الله: "ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزِم أهل الكتابَين الإقرارَ بأنه رسول الله في كُتُبهم وبما يفتقِدونه لما لا يمكنهم دفعه ما يزيد عن مائة طريق"، ثم ساق مناظرةً بينَه وبين عُلمائهم فيمن يقدَح منهم في رسول الله ، ألزمهم ـ رحمه الله ـ فيها بالحجّة الدامغة والبرهان القاطع مما كان سببًا في إيمان بعضهم بسببِ هذه الحوارات وإقامة الحجة القاطعة على المعاندين والمكابرين منهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا.
أيّها الحكماء في كلّ مكان، أيّها العُقَلاء في كلّ مكان، إنَّ المنصفين من غيرِ المسلمين الباحِثين عن الحقيقةِ المتمسِّكين بالموضوعيّة والإنصاف والبحثِ عن الحقيقة لذاتها شهادتُهم قائمةٌ وسِجِلاّتُهم موجودةٌ في الماضي وفي الحاضر، موجودَةٌ تحمل الحقيقةَ التي تَحمِلها سيرةُ سيِّد الأنبياء والمرسلين، والقائل يَقول:
وشمائِلٌ شهِدَ العدوّ بفضلها والفضلُ ما شهِدت به الأعداء
فهذا صاحب الكتاب المشهور الذي يقرَؤه المثقفون: "الخالدون مائة أعظمُهم محمّد "، وهذا آخر يقول: "إنني أعتقِد أنَّ رجلاً كمحمَّد لو تسلَّم زِمام الحكم في العالم أجمعِه اليومَ لتمَّ له النجاحُ في حُكمه، ولقاد العالَم إلى الخير وحلَّ مشاكِلَه على وجهٍ يحقِّق للعالَم كلِّه السلام والسعادةَ المنشورة"، ثم يستطرد إلى أن يصِل إلى نتيجة وهي أنّه لا منقذَ للعالم من دمار محقَّق وهلاكٍ لا مناص منه إلاّ بالإسلام الذي جاءَ به محمّد، وإنَّ دينَ محمد هو النظام الذي يؤسِّس دعائمَ السلام ويُستَنَد على فلسفَتِه في حلّ المعضلات والمشكلات. انتهى كلامه. ويقول فيلسوف آخر في كتابه "الرسالة المحمدية": "لقد أصبَح من أكبر العار على كلِّ متمدِّن من أبناء هذا العصرِ أن يصغيَ إلى ما يدَّعيه المدَّعون من أنَّ دين الإسلام كذِبٌ وأنّ محمّد خدَّاع مزوِّر، وآنَ لنا أن نحارِبَ ما يُشاع مِن مِثلِ هذه الأقوالِ السخيفةِ المخجِلة". ومثلُ هذه الشهادات كثير وكثيرٌ تمتلئ به المكتبات.
أيّها المسلمون، إنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا جلّ وعلا الإكثارَ من الصلاة والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الشرك والمشركين، اللّهمّ وانصُر عبادَك الموحِّدين في كلّ مكان...
(1/4929)
مكر الأعداء بأهل الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
12/10/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المكر بالإسلام وأهله. 2- من صور مكر أعداء الإسلام. 3- دعوة للفصائل الفلسطينية للتآلف ونبذ الفرقة والاختلاف. 4- مسائل متعلقة بصوم الست من شوال. 5- من مخططات اليهود بناء كنيس يهودي في ساحة المسجد الأقصى. 6- التحذير من الاعتداء على المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:46، 47].
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان من سورة إبراهيم وهي مكية تتحدثان عن مكر الكافرين ومؤامراتهم ضد الأنبياء والمرسلين، وقد ورد لفظ (المكر) في القرآن الكريم ما يقارب خمسين مرة؛ لفضح الماكرين والمتآمرين وكشف خططهم وأساليبهم، وأن الله عز وجل لهم بالمرصاد.
أيها المسلمون، إن المكذبين للرسل قد مكروا مكرًا شديدًا، وهذا المكر هو أقصى ما وصلت إليه القدرات، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آية أخرى بقوله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22]. إلا أن الله رب العالمين محيط بمكرهم ومحيط بهم، يقول تعالى في آية أخرى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]. وبالرغم من أن الجبال كادت لتزول بسبب شدة هذا المكر إلا أن هذا المكر يكون ضعيفًا واهنًا أمام قدرة الله العزيز الجبار.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لو أن رسولنا الأكرم محمدا كان وحده في مواجهة المكر والتآمر دون سند من ربه لما استطاع رد هذا المكر، إلا أن الله العلي القدير قد بقدرته أبطل هذا المكر. فلا تظنن ـ أيها المسلمون ـ أن الله عز وجل يخلف وعده، وإنما ينصر رسله والمؤمنين، ويأخذ على يد الظالمين المكذبين الماكرين المتآمرين في كل زمان ومكان.
وهذا يؤكد على أن المسلمين حينما يكونون مع الله فإن الله يكون معهم وينصرهم، ويصد عنهم كيد الكائدين ومكر الماكرين وتآمر المتآمرين، للحديث القدسي الشريف: ((أنا مع عبدي حين يذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
أيها المسلمون، صادف أمس الخميس 2/11/2006م ذكرى تصريح بلفور وزير خارجية بريطانيا الأسبق، والذي عرف هذا التصريح بوعد بلفور المشؤوم، وذلك بتاريخ 2/11/1917م، أي: مضى على صدور وعد بلفور تسع وثمانون سنة، ومنذ ذلك التاريخ وبلاد فلسطين بخاصة والعالم الإسلامي بعامة يعيش في توتر ومعاناة وانقسام وتأخر سياسي. وعقبه بعد ذلك إلغاء الخلافة العثمانية التركية، ومن الملاحظ أن هذه الذكرى قد مرت مرورا عابرا بقصد أو بغير قصد، فكأن النكبات المتوالية على شعب فلسطين ينسي بعضها بعضا. وفي الحقيقة فإن التآمر ضد الإسلام والمسلمين قائم غير قاعد من قبل الغرب الذي يضمر الحقد والمكر والعداء على الإسلام والمسلمين، منذ الحروب الصليبية وحتى يومنا هذا.
أيها المسلمون، وفي هذه الأيام يكشف مكر عداوتهم للإسلام وتآمرهم أكثر وأكثر، وسبب ذلك أن المسلمين أخذوا يعودون إلى دينهم الإسلامي العظيم عودة حميدة، وأخذ الإعلام الغربي بين الفينة والأخرى ينشر رسومات مسيئة للإسلام ولنبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، بالإضافة إلى وجود قنوات فضائية متخصصة للتشكيك بالدين الإسلامي، كل ذلك بهدف صد المسلمين عن دينهم، قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
أيها المسلمون، كما صدرت وتصدر تصريحات مجموعة من مسؤولين غربيين ضد هذا الدين العظيم، وتأتي محاضرة بابا الفاتيكان في ألمانيا لتكمل هذا المسلسل العدواني الظالم. وبالرغم من احتجاجات المسلمين على ما قاله بابا الفاتيكان في محاضرته ضد الإسلام إلا أنه رفض الاعتذار كما رفض شطب العبارات التي تسيء للإسلام من محاضرته. ثم يحاول بابا الفاتيكان من خداع المسلمين بإطلاق دعوته للحوار بين الأديان، هذه الدعوة التي ظاهرها الصمت وباطنها فيه العذاب. ومن المؤلم والمؤسف أن الأنظمة في العالم الإسلامي لم تكن في موقفها من تصريحات بابا الفاتيكان بالمستوى المطلوب، مما أدى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى الإعلان عن مقاطعته وعدم التعامل معه، وهذا أضعف الإيمان.
أيها المسلمون، إن مسلسل المكر والتآمر على الإسلام لم يتوقف، فجاء الحرب على الحجاب في فرنسا وبريطانيا من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية الغربية؛ والسبب في ذلك هو انتشار الحجاب بين المسلمات في الدول الغربية، حتى أصبح الحجاب ظاهرة واضحة في المجتمعات الأوروبية، ونقول للأخوات المسلمات المتحجبات في العالم كله: اثبتن على موقفكن الإيماني، فإنه موقف يمثل الجهاد الأكبر جهاد النفس، الحرب النفسية ضدكن ولا تتراجعن، فإن الله عز وجل لن يتخلى عن المسلمين والمسلمات ما داموا على الحق، وما داموا متمسكين بحبل الله المتين، والله مع المؤمنين.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، ثم بعد ذلك لماذا تختلفون ـ أيها الإخوة ـ في الساحة الفلسطينية؟! وعلى أي شيء؟! إلام الخلف بينكم؟! إنكم تتصارعون في دوامة مفرغة، ألا تدركون أن الغرب يكيد لنا، وأن قوى البغي والظلم تستهدفنا جميعا؟! إن خلافاتنا قد طفت على السطح وأخذت الدول الغربية تتدخل بشؤوننا وخصوصياتنا وتستهين بنا، وأخذ العرب والمسلمون يتندرون بنا باستغراب واستهجان، أليس هذا من الخزي والعار ومما يندى له الجبين، وجيش الاحتلال الإسرائيلي يحصدنا والشهداء يتساقطون يوميا في بيت حانون وغيرها؟! فماذا ننتظر؟!
أيها المسلمون، يا إخواننا في غزة الصمود، اتفقوا على الحد الأدنى من القواسم المشتركة بينكم، هل صحيح أنه لا توجد بينكم قواسم مشتركة؟! نحن مقتنعون تماما بأن القواسم المشتركة أكثر بكثير من القضايا العالقة والمختلف عليها، يكفي أن عقيدة الإسلام تجمعنا، ويكفي أننا نتوجه إلى قبلة واحدة في صلاتنا، ويكفي أن فلسطين المقدسة تظللنا، ويكفي أن الأقصى المبارك تاج رؤوسنا. ونكرر ما قلناه في خطب سابقة: كونوا على قدر من المسؤولية، ضعوا المصلحة العامة فوق الاعتبارات الفصائلية أو الحزبية أو الشخصية. وإننا لمنتظرون، وفقكم الله لما فيه خير البلاد والعباد.
وقد بدت خلال هذا الأسبوع بوادر الانفراج إن شاء الله، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، يكثر التساؤل بشأن صيام التطوع في شهر شوال: هل يشترط التوالي والتتابع في صيام الستة من شهر شوال أم لا؟ والجواب: يقول رسولنا الأكرم محمد : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)). فهذا الحديث الشريف جاء بصيغة مطلقة، ولم يشترط التتابع والتوالي في الصوم، فيجوز التفريق بين أيام الصيام خلال شهر شوال. وبهذا نفتي والله أعلم.
وسؤال آخر يتعلق بصيام النساء: ما الأفضل البدء بقضاء صوم الأيام عن الحيض أو النفاس أم البدء بصيام التطوع في شوال؟ والجواب: الأولى والأفضل البدء بصيام التطوع في شهر شوال؛ لأن الأيام الستة محصورة في شهر واحد، هو شهر شوال، أما بالنسبة لقضاء الصيام فهناك متسع من الوقت حتى نهاية شهر شعبان إن شاء الله. وبهذا نفتي والله أعلم.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، نشرت الصحف العبرية خلال هذا الأسبوع دعوات مشبوهة ومخططات عدوانية لبناء كنيس يهودي في باحة المسجد الأقصى المبارك، وهذه المخططات العدوانية قديمة جديدة، تثار بين الفينة والأخرى؛ لجس نبض المسلمين من قبل جمعيات يهودية وكهنة وحاخامين يهود، والآن ينادون بالإسراع في تنفيذ مخططات لبناء كنيس يهودي.
ونقول من على منبر المسجد الأقصى: إن الذين يلعبون بالنار لا يدركون عواقب الأمور، ولا يدرون بأن النار ستحرقهم قبل أن تحرق غيرهم؛ مؤكدين للمرة تلو المرة بأن المسجد الأقصى المبارك بمساحته لن نتنازل عن ذرة تراب منه، ولا نُقر ولا نعترف بأي حق لليهود في هذا المسجد. وعليهم أن يبتعدوا عن المسجد، ولا يفكروا فيه إن أرادوا تهدئة الأوضاع، ومؤكدين أيضا أن الأقصى ليس لأهل فلسطين وحدهم، وإنما هو لجميع المسلمين في أرجاء المعمورة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
ونحمل السلطات الإسرائيلية المحتلة المسؤولية عن أي مس بحرمة المسجد الأقصى المبارك، لتهاونها وعدم محاسبة أولئك الذين يطرحون المخططات العدوانية. والملاحظ أن الجماعات اليهودية المتطرفة تصول وتجول دون حساب ولا عقاب، مما يشجعها على التمادي في محاولاتها العدوانية والاستفزازية، ونحن على يقين أن المسلمين المصلين حريصون كل الحرص على مسجدهم المبارك، فهم يعمرونه بالصلاة فيه والتردد عليه، ويحمونه من أي خطر محتمل.
(1/4930)
الحلال بين والحرام بين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الزهد والورع
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
4/5/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحلال بين والحرام بين. 2- الحذر من الأمور المشتبهات. 3- التلازم بين صلاح الباطن وصلاح الظاهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عن النعمان بن بشير أن النبي قال: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما مُشْتَبِهَات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
عباد الله، إن هذا الحديث أصل من أصول الإسلام كما يقول الإمام أحمد رحمه الله، ففي هذا الحديث يبين لنا نبينا أن الأمور تنقسم إلى حلال محض بيِّن وإلى حرام محض بيِّن، وبينهما أمور تشتبه على كثير من المسلمين، أهي من الحلال أم من الحرام؟ فالحلال المحض كأكل الطيبات من الثمار واللحوم وكلبس القطن والصوف وكالزواج، أما الحرام المحض فكأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وكالزنا ولبس الحرير والذهب وكالتعامل بالربا والقمار ونحوه، وأما المشتبه فيه فمثل بيع العينة أو التورق، وكلبس جلود السباع أو كأكل لحم الخيل والبغال.
وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب وبين للأمة فيه الحلال والحرام، كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، ووكل الله تعالى لنبيه في بيان ما أشكل من التنزيل، وكل ذلك بوحيه تعالى، قال الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، والنبي ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بين لنا ديننا، علمه من علمه وجهله من جهله، قال النبي : ((تركتكم على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)).
وأما قوله في المشتبهات: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) ، فيدل على أنه من الناس من يعلم هذه المشتبهات وهم العلماء؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل الباطل على أهل الحق؛ ولذا لا بد أن يوجد في الأمة عالم يوافق قوله الحق، والشبهة كما يقول الإمام أحمد: منزلة بين الحلال والحرام، أو هي اختلاط الحلال بالحرام، ولذلك كان السلف الصالح يجتنبون أي شيء فيه شبهة، يقول سفيان الثوري: "إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى"، وقال بعضهم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"؛ ولذلك قال نبينا وهو إمام المتقين: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)).
والناس في أيامنا هذه قد تعدوا منزلة الشبهات، ووقعوا في منزلة الحرام المحض، فالرشوة والربا والاختلاس من الأموال العامة وغيرها من كبائر الذنوب التي لا خلاف فيها، كل ذلك صار أمرا لا تكاد أن تسمع من ينكره، فما كان بالأمس من المحرمات أصبحنا نسمع من يطالب بفرضه على الناس، فهذه صحيفة تنال من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأكاذيب رخيصة لا يُصدقها عقل، وبالأمس القريب صحيفة أخرى تنشر صور الناجحات في الثانوية على صفحتها الأولى قربة إلى الله ورغبة في نشر العفاف والستر بين بناتنا وحفاظا على مجتمعنا من الانحراف! وهذا كاتب في نفس الجريدة يحلم باليوم الذي تقود فيه ابنته السيارة وتترافع أمام المحاكم الشرعية وتختلط بالرجال ويكون هنالك وزيرات في الدولة، ولمزيد من النكاية والاستهزاء عنون مقالته بقول الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6، 7]. وما سمعنا للأسف من أنكر على هذه الصحيفة التي تشرع أبوابها لمن يريدون هدم هذا الوطن عن طريق تقويض الدين الذي قامت عليه وبه، فإلى الله المشتكى، يقول تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لقد أخبر نبينا : ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) ، فهذه الجملة النبوية تدل دلالة واضحة على أن القلب وصلاح الباطن هو الأصل والأساس، إذ القلب الأمير والجسد الجنود، فبصلاح الباطن يصلح الظاهر، وبفساده يفسد الظاهر، ولا شك أن صلاح وفساد الجسد والقلب متلازمان، فلا يتخيل المرء رجلا يقع في الحرام ويسمع وينظر إلى الحرام ويأكل الحرام ولا يصلي الفرائض مع المسلمين ولا يقوم بحق الله، لا يُتصور بعد ذلك كله أن يقول هذا: إن الإيمان والتقوى في القلب مبررا بتلك الجملة أفعاله الشائنة؛ لأنه لو كان ثمة إيمان لظهر ذلك جليا في أفعاله وأقواله، كما قال النبي : ((إذا صلحت صلح الجسد كله)) ، فالله تعالى لا ينظر يوم الحساب إلى غنى الإنسان أو فقره، ولا ينظر إلى وسامته أو دمامته، ولا ينظر إلى بياضه أو سواده، ولا إلى قبيلته أو أصله، إنما ينظر إلى قلبه وعمله، قال النبي والحديث في صحيح مسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). فالمرأة التي لا تتحجب وتختلط بالرجال وتخلو بالأجنبي، والرجل الذي يلبس الثياب المخالفة للشرع كالقصير أو الضيق أو يتشبه بالكفار في ثيابه وقصة شعره ومظهره الخارجي والداخلي، وذلك الذي أطلق بصره وسمعه في الحرام ثم يدعي أن الله تعالى لا يحاسبه إلا على ما في قلبه، والذي يأكل الحرام من ربا ورشوة وأموال الناس من عمال أو مكفولين وإن كان يصلي ويصوم، فكل أولئك على خطأ وخطر عظيم؛ لأن الله تعالى ينظر إلى الأعمال مع القلوب، فما خالف من الأعمال شرع الله فلا يعقل أن يكون عند الله حميدا أو مقبولا.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا الباطن والظاهر منكم؛ لأن الله تعالى ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم...
(1/4931)
طريق النجاة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, آفات اللسان, الفتن
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
20/4/1424
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم خطر اللسان. 2- آفات اللسان. 3- فضل المكث في البيت زمن الفتن. 4- الاعتراف والندم بالخطأ توبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: جاء في سنن الترمذي عن عقبة بن عامر أنه قال: قلت: يا نبي الله، ما النجاة؟ فقال : ((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
عباد الله، إن هذا الصحابي علم علما يقينيا أن الدنيا دار فتنة وهلاك، فأراد أن ينجو من شرها، فسأل عن طريق النجاة، فأرشده النبي إلى أسبابها فقال: ((أملك عليك لسانك)) ، وذلك يكون بأن لا تحركه في معصية، بل ولا فيما لا يعنيك؛ لأن اللسان ترجمان القلب، ولا يأثم العبد بما في قلبه إلا إذا تكلم أو نفّذ وفعل، يقول النبي : ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به)). وحفظ اللسان من كمال الإيمان، كما قال النبي : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
واللسان آفاته خطيرة وكثيرة، يستخف بها للأسف الشديد أكثر المسلمين، لذلك تعجّب معاذ عندما أمره النبي أن يمسك عليه لسانه ويكفه، فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثكلتك أمك، وهل يَكُب الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)).
فهذا اللسان الصغير في حجمه الجبار في تأثيره مَن حفظه دخل الجنة كما قال نبينا : ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)). وبالمقابل فإن من لم يحفظ لسانه فخاض مع الخائضين فإنه متوعّد بالعذاب، قال النبي : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)) ، ولقد سأل صحابي آخر النبي فقال: ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذا)) ، وأمسك بلسانه. وكم من كلمة غير مسؤولة انطلقت من فم صاحبها فدمرت بيوتا آمنة، وأتعست بيوتا سعيدة، وأفسدت صداقات قديمة بسبب غيبة أو نميمة.
وقد أخبرنا نبينا أن الناس يعذبون في قبورهم بمثل هذه الذنوب، هذا في حق من يتكلم بالكلمة التي قد تكون ارتجالية، ولا شك أن الذي يكتب المقالات ويصنف الكتب بعد تفكر وتدبر أشد عذابا يوم القيامة إن كان ينال من الإسلام وأهله، كالعلمانيين والحداثيين ومن يلمز الإسلاميين بالظلاميين والرجعيين وغير ذلك من مقولاتهم التي تدل على بغضهم للإسلام وأهله، فهؤلاء أقلامهم مأجورة وأبواقهم مسعورة وأسعارهم معلومة، قد احترفوا تمجيد الباطل وأهله والهجوم على الإسلام ومن آمن به عقيدة ومنهجا وأسلوب حياة، وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَّنقَلِبُونَ.
ما النجاة؟ ((أملك عليك لسانك)) ، كان أبو بكر الصديق يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وكان عبد الله بن مسعود يقول: (والله الذي لا إله غيره، ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)؛ لهذا السبب قال نبينا : ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)). والعجيب أن من الصالحين من يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع عن الاتكاء على وسادة حرير ويتورع عن دقائق الحرام، وهذا أمر جيد، إلا أنه لا يبالي بالخوض في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والقول على الله ما لا يعلم، فحال هذا كحال أهل العراق الذين جاؤوا ابن عمر يسألونه عن دم البعوض للمحرم وهم كانوا قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يقول النبي ناصحا من استنصحه: ((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك)) ، أي: ليكن لك في بيتك شغلٌ بالله عن الناس، وأنسٌ بطاعته وعبادته عن مخالطة الناس، ولا سيما في زمن الفتن، بشرط أن لا يترتب على ذلك تركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ترك للجمعة وصلوات الجماعة، ولا شك أن بقاء المسلم في بيته خيرٌ له من السفر إلى بلاد الغالب على أهلها التبرج وعدم الاحتشام وانتشار المنكرات والفواحش فيها، ويعظم الوزر لو كانت تلك البلاد بلاد كفر كبلاد النصارى.
إن بقاء المسلم في بيته خير من الذهاب إلى الكبائن والشاليهات أو الأسواق التي يكثر فيها الفساد وتتعاظم فيها السيئات أو المطاعم والمنتزهات التي تكثر فيها المنكرات كالاختلاط وسماع أغاني المطربين والمطربات.
((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
عباد الله، إن البكاء على الخطيئة يتضمن الاعتراف بالتقصير في جنب الله والندم على تلك الخطيئة، وقد قال النبي : ((الندم توبة)) ، فكل من أقلع عن ذنب ولكنه غير نادم عليه فهذا لم تقبل توبته، وإن جفاف العين دليل على قحط القلب، وكم من المسلمين من تنهمر الدموع من عينيه إذا سمع أغنية حزينة أو رأى مشهدا مؤثرا، ولكن هذا التفاعل مع الأغنية والفيلم يختفي تماما مع آيات القرآن والسنة المطهرة، فيجب على صاحب الذنب أن يبكي وينوح على تقصيره في حق الله وحق نفسه.
فالمرأة السافرة يجب عليها البكاء على خطيئتها، والذي يسمع الأغاني وينظر إلى الحرام يجب عليه البكاء على خطيئته، والذي ينام عن صلاة الفجر متعمدًا أو مفرطًا، وذلك الذي تقام الصلاة وهو في بيته يتشاغل عنها بلعب أو لهو أو مشاهدة منكر، ومن يسافر إلى الخارج لارتكاب المنكرات، فهؤلاء وغيرهم يجب عليهم البكاء على خطاياهم إن كانوا يريدون النجاة، ولكن من الذي يبكي أو يريد البكاء منا؟ جاء في وصف النبي أنه كان طويل الصمت قليل الضحك، إذا صلى سمع لجوفه صوت كأزيز المرجل من البكاء، فهل نحن كذلك؟!
عباد الله، إن وصية النبي السابقة كانت لرجل من أطهر خلق الله، رجل قد تكون خطيئته مما نعده اليوم من الحسنات العظام. فلنتق الله تعالى عباد الله، ولنتبع وصية نبينا ، ولأن يبكي المؤمن على خطيئته في الدنيا خير له من أن يبكي عليها في الآخرة، وهل يبكي الناس في الآخرة؟! يقول النبي : ((يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أُرسلت فيه السفن لجرت)).
فاللهم نسألك بأن تجيرنا من خزي الدنيا والآخرة، اللهم طهر أعمالنا من الرياء، وقلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، وأبصارنا من الخيانة، اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلن، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار...
(1/4932)
صبرا صبرا أهل فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
19/10/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهداف الاستعمار اليهودي. 2- الصمود والتضحية في صد العدوان اليهودي. 3- أحداث المجاز الدموية ببيت حانون. 4- الوصية بتمسك بالقرآن الكريم وجعله دستور حياة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، اسمعوا قول الله تعالى وتدبروا معانيه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، واسمعوا قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
يا إخوة الإيمان في كل مكان، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، منذ بداية الصراع الحديث فوق هذه الأرض منذ مطلع القرن العشرين وإلى يومنا هذا ومنطقتنا تشهد حروبا إقليمية وعالمية، أدت إلى سفك الدماء وتشتيت الشعوب وترويعها ووقوع أقطار منطقتنا تحت نار الاستعمار الذي ما زالت تعاني آثاره السيئة البلاد والعباد. وكان من بين أخطر أنواع هذا الاستعمار ما يجري فوق الأرض الفلسطينية من احتلال استيطاني واستعماري بغيض، يهدف ـ أول ما يهدف ـ إلى اقتلاع هذا الشعب الصابر من أرضه وتشريده في أصقاع العالم لإحلال المستوطنين والمستعمرين اليهود مكانه؛ بحجة أن هؤلاء لا يوجد لهم وطن، في ظل المقولة الإسرائيلية: "أرض بلا شعب لشعب بلا وطن".
إلا أن هذه الأرض المباركة التي اختاركم الله مرابطين فيها وبشركم بذلك رسولنا الأكرم كانت وما زالت لشعب قدم ويقدم التضحيات من أجل حمايتها والدفاع عنها في وجه كل من يحاول طمس هويتها أو سلخها عن محيطها العربي والإسلامي أو الانحراف بها عن أداء رسالتها في حماية مقدساتها ورعاية الحكم الشرعي لها لكونها أرضا عربية إسلامية، يرابط بها الفئة المنصورة ـ بإذن الله ـ إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك، لقول الرسول : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن المتتبع لحلقات الصراع فوق هذه الأرض المباركة يجد الحقيقة ماثلة لناظريه من خلال الصمود والثبات والرباط في هذه الأرض المباركة، التي لم يبخل أي جيل من أجيالها في حمل راية الذود عنها وتقديم العطاء والفداء من أجل المحافظة على إسلاميتها، تضحية بالأرواح والأنفس.
وإن سجل الشهادة في سبيل الله حافل بهذه التضحيات منذ الفتح الإسلامي لهذه الديار وإلى يومنا هذا. وإن مواكب الشهداء التي تزفها هذه الديار لشاهد على مدى ما يتعرض له شعبنا الصابر المرابط من الظلم والقهر على يد المحتلين الجلادين، الذين تجاوزوا كل القيم الإنسانية، وخرقوا كل القوانين والأنظمة الدولية التي ترعى حقوق المدنيين في ظروف الحروب والاختلاف، فكان آخر خرق ما أقدم عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي من هذه المجازر الدموية الرهيبة في بيت حانون، في جريمة حرب قذرة ضد المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء الذين أخلدوا للنوم في بيوتهم، التي لم يراع الاحتلال حرمتها، فقصفها بقذائف وحقد، لتكون حصيلة الشهداء من الأطفال والنساء تسعة عشر شهيدا، قضوا فيما يصم جبين الاحتلال والمحتلين بوصمة عار العدوان على البراءة الإنسانية والفطرة السوية، وبما يفضح الصمت المريب للمجتمع الدولي، ويعري المواقف الخاذلة للعالم العربي والإسلامي.
إن وصف بيت حانون بالشهيدة أو بالمنطقة المنكوبة لا يكاد يفي بوصف ما أصاب هذه المنطقة من دمار وخراب وتبعثر أشلاء الشهداء واختلاطها بالثرى الطاهر، في مسرح الجريمة والمجزرة التي اقترفت بحق أبنائها تحت بصر العالم وسمعه.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لم تكن مذبحة بيت حانون الأولى في تاريخ هذا الاحتلال، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها مذابح كثيرة في دير ياسين وكفر قاسم وفي نحالين وفي جنين وفي المسجد الأقصى، فهل ينبِّه هذا الذين أعمى أبصارهم شعار الحرب على الإرهاب، ليحددوا معنى الإرهاب، ويفرقوا بين الضحية والجلاد، أم لا زال شعارهم:
قتل كلب في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد كان الرد على مجزرة بيت حانون من قلب المأساة نفسها، فقد أعلن إخوتكم هناك عزمهم وتصميمهم على التشبث بأرضهم والصمود فيها حتى ولو كلف الأمر مزيدًا من الشهداء. وهذا الموقف الإيماني والبطولي هو ما عهدناه في أبناء شعبنا الصابر المرابط، الذي يسمو على المصائب والجراح، معلنا للقريب والبعيد، للعدو والصديق: أنه لن يرضى بديلاً عن حريته وكرامته وحقه في الحياة حرًا كريمًا فوق تراب وطنه الطهور، شعاره في ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وجاء في الحديث الشريف عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من تعب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، إن استهانة الأمم بكم سببها التفرق الذي تعيشون والخلاف المستنكر بينكم، فإلي متى تبقون على هذا الحال؛ يتخطفكم الناس ولا يقيمون لكم وزنًا، مع أنكم خير أمة أخرجت للناس؟! ألم تقرؤوا قول الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]؟!
إنكم تملكون ما يصلحكم ويصلح هذا العالم إذا أخذتم به واتبعتم أحكامه؛ إنه القرآن العظيم حبل الله المتين ونوره المبين، من أخذ به فاز وغنم، ومن أعرض عنه خاب.
انظروا إن شئتم إلى تاريخ أمتكم المجيد حينما سارت وفق هدايات هذا الكتاب العزيز، أنشأت أمة وأقامت دولة هابتها دول الأرض، وسعى إلى عدلها الضعيف والمظلوم، وعاش في كنفها الإنسان بكرامته الإنسانية وحقوقه الأساسية، التي لا يستقيم العيش إلا بضمانها، ولا يتحقق الأمن إلا بحمايتها، والرسول يقول: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).
لقد جربتم أنظمة الأرض الوضعية فماذا جلبت لكم غير الفرقة والضياع وطمع الأمم بكم واستعمار أرضكم وظلم شعوبكم ونهب ثرواتكم وتسخيركم في خدمة مصالح القوى الكبرى التي لم تتردد شعوبها في محاسبة ساستها إذا رأت خطأ في تصرفاتهم يعود على الأمة. واقرؤوا ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات النصفية لمجلس نوابها، الذي أظهر بوضوح محاسبة الشعب الأمريكي لمن قاد الحرب على العراق، وتسبب بقتل الجنود الأمريكان.
أما آن لأمتكم وشعوبها أن تتوحد على هدايات الله وتسير على منهج الذين سبقوا؟! فإن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح عليه أولها، ولعل في قول الفاروق عمر يقطع قول كل خطيب: (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غير ما أعزنا الله به أذلنا الله).
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، ولن يغلب عسر يسرين.
فمزيدًا من الصبر والثبات يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، وكونوا يدًا واحدةً وصفًا واحدًا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان. واعلموا أن الشهيد الذي تودعونه هو نار ونور، نور يضيء الطريق لإكمال مسيرة العطاء والفداء والتمسك بالحقوق وعدم التفريط بها والوصول بالشعب إلى أهدافه المرجوة في الحرية والكرامة والتحرير، وهو نار تحرق الظلم والظالمين، وتطهر الأرض من رجس المحتلين والمتغطرسين.
(1/4933)
الشفاعة والواسطة
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
19/10/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- داء الترف والكسل. 2- أهمية مبدأ العدل والمساواة 3- اهتمام الإسلام بمبدأ الأحقية والكفاءة. 4- اختلال هذه المبادئ في كثير من المجتمعات المسلمة. 5- آفة الواسطة وبيان أضرارها على الفرد والمجتمع. 6- الانحراف في مفهوم الشفاعة الحسنة. 7- الفرق بين الشفاعة الحسنة والواسطة السيئة. 8- التحذير من التكسب بالشفاعات. 9- النهي من الشفاعة في حدود الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، من يُطعِ الله ورسوله فقد رشَد، ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئًا.
أيّها الناس، إنَّ الأدواءَ في المجتمعاتِ المسلمةِ متنوِّعة على تكاثُر، تدبُّ بين صفوفِها كدبيب النمل وهي لا تشعر، وهي أدواء تتفاوَت تفاوتًا ظاهرًا في الفتك والإضعاف. وإنَّ من بين هذه الأدواء الفتّاكة داءَ التّرف والكسل والعجز، الذي يُهلك الأفراد والأممَ ويقوِّض بينان المجتمعاتِ بعد أن يذكِيَ فيهم روحَ الأنانيةِ والاتكالية المُفرِزَين للبطالة والضيَاع، فيَعمون حينَها عن مسالك التشييدِ والبناء والجِدِّ والعمل، فضلاً عن مسالك العدل والإخاءِ والمساواة.
ثم إنَّ النِتاج الإيجابيَّ للمجتمعات المسلمة التي تَنشُد الرقيَّ والسموَّ بطاقاتها وثروَاتها مرهونٌ بمدَى تحقيقها لمبدأ العدلِ والمساواة والأولويّة للتفوُّق والامتياز وعَدمِ إهدار الفرص عن ذوي الكفاءات، ناهيكم عن الاحتكار فيها والجثُوم على ثغراتِ النهوض ببُسَطاء الأهلية على حسابِ ذوي الكفاءاتِ والمواهب الظاهرة.
وإنَّ مِن سمات المجتمع المسلم الرشيدِ الواعي انتشارَ العدل والمساواة وخفوتَ الظلم والأنانيّة والأثرة وحبّ الذات. وقد راعى الإسلام مبدَأ الأحقّيَّة والكفاءَةِ والامتياز في المجتمعِ المسلم، وقدَّم ذويها على من دونهم تقديرًا لتفوُّقهم واعترافًا بأهليّتهم، فقد جاء في الصحيحِ أنَّ النبيَّ قال: ((يؤمُّ القوم أقرَؤُهم لكتابِ الله)) الحديث رواه مسلم، وصحَّ من حديث عبد الله بن زيد في قصّة مشروعيّة الأذان أن النبيَّ قال له: ((ألقِه على بلال؛ فإنّه أندى منك صوتًا)) ، وقد كانَ يمتحِن الصحابةَ في القوّةِ والرمي حالَ تجهيز الجيش للغزوِ، فيقدِّم الكفءَ القويَّ، ولذلك ردَّ رافع بن خديج يومَ بدر لعدم كمال الأهلية.
إذًا فالإسلام جعَل للكفاءةِ والأهلية من المحلِّ والعناية والاعتبار ما يكفل به لكلِّ مجتمع واعِي أن يحيَا حياةَ الجدِّ والاستقرار والتوازُن في الاحتياج والإنتاج؛ ولأجل ذا فإنَّ المجتمعَ الذي يسودُه احترامُ بعضه بعضًا وتقديرُ أصحابِ الكفاءات والاعتبار بالأولويّة للأهلية وذوي الامتياز ليُعَدّ مجتمعًا متكامِلَ الرؤى متحِدَ المضامين، قد بنَى أسُسَه على شِرعةٍ من الحقّ والعدل والالتزام بالقِيَم والمُثُل المرعية.
بَيدَ أنّ في كثيرٍ من المجتمَعاتِ المسلِمة خَللاً وفُتوقًا أخلاَّ بمَوازينِ العَدلِ والمساوَاة عندها، بَل قلَّ أن تجِدَ لاعتبارِ الكفاءةِ والأهليّة محَلاًّ في ميادينِ العمَل والعِلمِ عندَها، فنشَأت في ميادينِهم آفةٌ فتَكَت بعجَلةِ التقدّمِ والنموِّ والنّهوضِ للأفضل، آفةٌ برَزَ دَورُها جليًّا في إعاقةِ عَمَليّة البناءِ والتطويرِ وتشجيعِ المواهبِ وشَحذِ الهمَم. إنها آفةُ ما يُسمّيه عوَامّ الناسِ بالوَاسطة أو الوَساطة، التي صَارَ لها في كثيرٍ مِنَ المجتمعاتِ المسلمة انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة، وقد اكتَنَفَها كثيرٌ من السَّلبيّات التي انعكسَت بالضرورة على الفردِ والمجتمع، وإن كان ثَمَّ إيجابياتٌ ما فستكون إيجابياتٍ محدودةً وقاصرة في الوقت نفسه.
والواسطة ـ عبادَ الله ـ ظاهرة التبس على كثير من الناس مفهومُها، فأصبحت بارزة الخطورة؛ حيث إنها [تؤدِّي] بالمجتمع إلى تفشِّي روح الانتهازية ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من معرفةٍ وصِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وأولوية، وكلُّ ذلك منتجٌ للتراجعِ الإيجابيّ ومولِّدٌ للغَبن والتردُّد في العمل والأداء وحاجبٌ للابتكارِ والإبداع والتطوّر الذي ينعَكس على المصلحةِ العامّة للمجتمع بالسلب والفشل دون أدنى شكٍّ أو مماراة.
بل لقد وصلتِ الحال ببعض المجتمعاتِ إلى أن يشعرَ الفرد أنه لن يحيا حياةً متكامِلة بدون الواسطة، فلن يستطيع العملَ إلاّ بها، ولا السفرَ إلا بها، ولا الدراسةَ إلا بها، ولاَ التجارةَ إلاّ بها، ولا العلاجَ إلا بها، ولا تخليصَ الأعمالِ إلا بها.
وإنَّ مما يزيد الأمرَ عِلّةً والطين بِلّة أن يراها البعض من الناس ببسَب تفشِّيها مبرِّرًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة كيفَما اتَّفق، في حِينِ إنَّ حقيقتَها حالةٌ منَ الإفلاسِ تعترِي أصحابَها، كما أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مبرِّرًا للّجوء إلى الواسطة التي [تُؤدِّي] بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له قبلَه.
وإنَّ مما لا شكَّ فيه أن تفشيَ مثلِ تِلكم الآفة في مجتمعٍ مَا لن يدعَ لها في نهوضِها حَلاًّ ولا عَقدًا ولا أثَرًا لكفَاءاتها في منافعها العامّة، وإنما تكون خاضعةً للمصالح الشخصيّة والعلاقات المنفعيّة؛ ليجلبَ المجتمع على نفسه غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في أوساطه شررَ الحسد والتباغض والتغابن، وقَلبِ المعايير علَى مَبدأ المصالح الشخصيّة لا على مبدأ الصالح العام والقبول للأصلح.
وإذا كانتِ الواسطة هي مساعدةَ الغير في تحقيقِ رغبته نحوَ أمر مخصوص فإنّنا لا نقصد بذلكم ـ عبادَ الله ـ الشفاعةَ التي عدَّها الإسلام مبدأً إيجابيًّا يقوم على أساس الإرفاق بالغير ونفعِه عند الاستطاعة تحت قاعدةِ التعاون على البرّ والتقوى والسعي في قضاء حوائجِ الناس ومصالحهم عملاً بقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وبقولِه : ((اشفَعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسانِ رسولِه ما يشاء)) رواه البخاري ومسلم.
غيرَ أنَّ كثيرًا من الناس قد توسَّعوا في استعمالِ هذا المبدأ وأَساؤوا فهمه، فأقحموه في غيرِ ما وضِعَ له حتى أصبحَ ظاهرة كثيرةَ التفشّي في المجتمعات المسلمة على نحو ما ذكرنا لكم آنفًا، فتحوَّل الأمر من كونِه محَلاً للإرفاقِ إلى كونه محلاًّ للمُضارَّة، والمضارّةُ لم تأتِ في كتاب الله إلا مذمومةً مَرفوضَة، كقوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، وكقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282]، وكقوله: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، وفي الحديث الحسن الذي رواه أحمد والدّارقطني وابن ماجه وغيرهم أنَّ النبيَّ قال: ((لا ضررَ ولا ضرار)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذّكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، إنَّ من سوءِ استعمالات الشفاعة أو الواسطة لدى كثيرٍ من الناس أن جعلوها نوعًا من الفُتُوّة ونزعِ المرادِ بِقوّة المعرفةِ أو المصحلة المتبادَلَة أو الكذِب أحيانًا، بقطع النظر عن استحقاق المشفوعِ له أو لا، أو أولويّتِه بهذه الشفاعة أو لا، وبقطعِ النظر أيضًا عن الأمر المشفوعِ فيه أهو حقٌّ للغير أو لمن هو أولى وأميز أم لا.
بل بلَغ الانحراف في هذا المفهوم مبلغًا جعلَ فيه صاحبَ العدل والإنصاف والحرص على حقوقِ الآخرين وأولويّاتهم متشدِّدًا نشازًا، بخيلَ الجاه عاريَ النفعِ والبذل، وهذا ـ لعَمرُ الله ـ هو الفسادُ في الفهم والسوء في الظن والتفكير بعقلِ المصلحة الشخصيّة لا بمنطق العدل والإنصاف والمساواة.
ولذلك لم تُترَك هذه المسألة في شريعتِنا الغراء سبهلَلا دونَما تبيينٍ وتوضيح؛ ليكونَ الناس في ذلكم على بيّنة ووعيٍ تام بمرادِها ومآلاتها ومقاصدها، فجعل أهلُ العلم للواسطة أو الشفاعة وجهين اثنَين:
الأول منهما: الوجه المحمود، وهو ما كان لوجه الله تعالى، وكان من باب الإرفاق، ولم يكن فيه حرمانُ من هو أولى وأحقّ من جهة الكفاءة التي تتعلّق بها القدرة على تحمّل الأعباء أو النهوض بأعمال الأمر المشفوعِ فيه على أحسنِ وجه، فهذه شفاعة محمودةٌ حضَّ عليها الشارع الحكيم كما في قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وكما في قولِه : ((اشفَعوا تؤجَروا)) ، وقوله : ((والله في عونِ العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم.
وأمّا الوجهُ الثاني: فهو الوجهُ المذموم، وهو ما كان فيه تعدٍّ أو حِرمانٌ لمن هو أحقّ بذلك، فهي هنا محرَّمة لأنها بغيرِ حَقّ، إِضافةً إلى أن فيهَا ظُلمًا لأولي الأمرِ وذلك بحرمانهم مِن عملِ الأكفاءِ، واعتداءً على المجتَمع بحرمانه ممن ينجِز أعمالهم على أحسن وجه، وطمسًا لمعالم التفوُّق والإنجاز، وإهدارًا للمواهِبِ والقدرات التي ينشدُها كلُّ مجتمع سويّ، والله جلّ وعلا يقول: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85].
وممّا ينبغ التأكيد على بيانِه والحذر منه في هذا الباب استغلالُ مبدأ الشفاعة في الحصول على مكاسبَ ماليةٍ أو نحو ذلك، مما يحيل مبدأ الشافعةِ أو الواسطة عن مقصودِها وهو الإرفاق وقضاءُ حاجات الآخرين إلى المعاوضاتِ وتبادل المنافع بها، فقد جاء من حديثِ أبي أمامةَ أن النبيَّ قال: ((من شفَع لأخيه شفاعةً فأهدَى له هديّة عليها فقبلها منه فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا)) رواه أحمد وأبو داودَ وهو حديثٌ حسن.
وسبب ذلكم ـ عباد الله ـ أنَّ أخذَ الهدية على الشفاعة فيه نوع معاوضة، والمعاوضات في الشفاعاتِ قد توصِل إلى الشافعات الباطلة التي فيها هَضمٌ لحقوق الآخرين أو وقوعٌ في باطلٍ ما، فتتَطلَّع النفوسُ للشفاعةِ أو الواسِطة من أجل الحصولِ على عِوض أو عَرض دنيوي.
أما الشفاعة في حدود الله ـ عباد الله ـ فذلك أمرٌ قد حسَمه النبيّ بقوله لأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما حينمَا كلَّمه في أمر المخزوميّة التي سرقت: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، الحديث. رواه البخاري ومسلم.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله...
(1/4934)
التحذير من الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
19/10/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الطاعة. 2- خطورة الذنوب والمعاصي. 3- من عقوبات الأمم السابقة. 4- انتشار المعاصي في هذا الزمان. 5- آثار الذنوب. 6- الحث على التوبة. 7- عقوبة الطبع على القلب. 8- ذكر الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها الناس، فتقوى الله هي النجاةُ من عقوباتهِ والفوزُ بجنّاته.
عبادَ الله، إنّه لا يُنال ما عند الله من الخيرِ إلا بطاعته، ولا شرَّ نازلٌ إلا بمعصيته، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69، 70].
والشر والعقوبات في الدنيا والآخرةِ سببُها الذنوبُ والمعاصي، قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء: 123]، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال عز وجل: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23]، وقال الربُّ في الحديث القدسيّ: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم.
وقد رغَّبنا الله أشدَّ الترغيب في فِعلِ الخيراتِ وعمل الطاعات، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]. وحذَّرنا الله من معاصيه فقال عز وجل: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14].
وأوقَفَنا الله ورسولُه على عقوباتِ الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة لنبتعدَ عنها، ولئلاَّ نتهاونَ بها ولا نغترَّ بالإمهَال؛ فإنَّ الذنبَ لا يُنسَى والدَّيَّانَ حيٌّ لا يموت، وقصَّ الله علينا في كتابه القصَصَ الحقّ عن القرون الخالية كيف نَزَلت بهم عقوباتُ الذنوب، وتجرعوا كؤوس الخسران والوبال، ولم تنفعهم الجموع والأولاد والأموال، قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:38-40]، وقال تبارك وتعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا [الفرقان: 38-40].
عباد الله، إنَّ سنّةَ الله لا تحابي أحَدًا، قال تبارَكَ وتعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43].
أيُّها الناس، لقد كثر الفسوقُ والعِصيان، وتُرِكت الواجباتُ التي للرّحمن، وتجرَّأ الكافِر على ربِّه، فسُبَّ الله جهرًا، وسُبَّ رسوله ، وسُبَّ الدين، وتمرَّدت البشريّةُ على ربها، وظلَم الإنسان الإنسانَ، ولم يبقَ ذنب ممّا أهلك الله به الأممَ الماضية إلاّ عُمِل به في هذا الزمان، ولم ينجُ من ذلك إلا المؤمنون والطائِعون من المسلمين؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 20، 21].
وإنَّ كلَّ مؤمنٍ بالله يحذِّر الناس من سوءِ أعمالهم، فقد انعقدت أسبابُ العقوبات، ونزَلَت بالبشريّة الكُرُبات، وأنتم ـ معشرَ المسلمين ـ إذا أوقَفتم زحفَ الفسادِ في الأرض دفَع الله عنكم العقوبات، ودَفع عن البشريّة الهلكات. وإيقافُ الفساد في الأرض بالاستقامةِ على دينِ الإسلام وتركِ مجاراةِ الكفار في تقاليدِهم وأعمالهم، قالَ الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].
أيّها المسلمون، إنَّ الذنوبَ والمعاصي شؤمٌ وعار وشرٌّ ودمار وخزي ونار، إنها تبدِّل صاحبَها بالعزّ ذُلاًّ، وبالنِّعم حِرمانًا، وبالأمنِ خَوفًا، وبرَغَد العيش جُوعًا، وباللّباس عُريًا، وبالبركات محقًا وذهابًا، وبالغِنى فقرًا، وبالعفاف فجورًا، وبالحياءِ استهتارًا، وبالعقل والحِلم خِفَّة وطيشًا، وبالاجتماع فُرقة واختلافًا، وبالاستقامةِ زَيغًا وفسادًا، وبالتوادِّ والتراحم كراهية ونُفرةً وبغضًا، وبالجنّة في الآخرة نارًا، وبالفَرَح بالطاعة همًّا وغمًّا، وبالحياة الطيبة معيشة ضنكا.
لمّا فتِحَت قُبرص تنحّى أبو الدرداء يبكي، فقيل له: ما يبكيك ـ يا أبا الدّرداء ـ في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأذلَّ الكفر؟! فقال: (أبكِي من عاقبةِ الذنوب؛ هؤلاء أمّةٌ كانت قاهرةً ظاهرة، فضيّعوا أمر الله، فأنتم ترونَ إلى ما صاروا إليه من الذلِّ والهوان، ما أهون الخلق على الله إذا ضيَّعوا أمره).
فليعتنِ اللبيبُ بنفسه، وليعلم المسلم أن طاعتَه لربِّه فضلٌ من الله ومنَّة، وليعلَمِ الإنسان أن العصيانَ خذلانٌ من الله تبارك وتعالى للعبد وعقوبةٌ في العاجل والآجل، وعقوبة الذنب واقعة إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى.
وقد فتح الله بابَ التوبة لمن عصى ربَّه، فقال تبارك وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، قال تبارك وتعالى: وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم: 44-47]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] وقال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98].
بارك الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذِّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ المعزِّ مَن أطاعه واتَّقاه، والمذِلِّ لمن خالَف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له لا إلهَ سواه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسوله اصطفاه ربه واجتباه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، واعملوا بطاعته تفوزوا برضاه.
عبادَ الله، يقول ربُّكم جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
واعلموا ـ أيّها المسلمون ـ أن المعاصي والذنوبَ حربٌ لله ورَسوله، متفاوِتَةٌ في شرورها وعقوبَاتها، فاحذَروها على أنفسِكم وعلى أهلِيكم وعلى مجتمعاتِكم، فإنَّ الشرورَ والعقوباتِ كلَّها بسبَبِ الذنوب، وتوَّقَوا عقوباتها، واتَّعِظوا بما حلَّ بالعُصاة المفترين في الدنيا المتَّبعين لخطواتِ الشيطان، فالسعيد من اتَّعظ بغيره، والشقيّ من وُعِظَ به غيره.
ومن أعظمِ عقوبات الذنوب الطبعُ على القلوب والختم عليها وغفلتها وموتُها وانتكاسها وظلمتُها؛ حتى ترى المعروفَ منكرًا والمنكر معروفًا والحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، فتُحِبّ المعصيةَ وتَكره الطاعَة، قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8]. فإذا مات القلب بالمعاصي لا يشعُر بالعقوباتِ، ولا يُحسّ بها؛ لأنه لا يرَى العقوبةَ إلاَّ إذا نزَلت بدُنياه أو نزَلَت ببَدَنه، وفي الحديثِ عن النبيِّ أنه قال: ((الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني)).
فاحذروا ـ عبادَ الله ـ الذنوبَ، فما خسِر الخاسرون إلاَّ بسببها، ومَن جمَحَت به نفسُه للمعاصي والتفريط في الواجِبات فليذكُرِ الموت وما بعده، ومَن غرَّته صِحّتُه ودنياه فليذكرِ تصاريفَ القدَر وتغيُّرَ حال الإنسان من حال إلى حال؛ فإنَّ ذلك سيعينه على الاستقامة، ويحبِّب إليه الطاعةَ، ويكرِّه إليه المحرمات، وليستعِن بربِّه سبحانه على أمور دينه ودنياه، فإن من لجأ إلى الله كفَاه، ومن أقبل عليه تولاَّه، ومن عبَد الله بسنَّة رسوله أحسنَ عُقباه، عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسول اللهِ : ((أكثِروا من ذِكرِ هَاذم اللّذّات)) يعني الموت، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
عباد الله، إن الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عَشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمّد...
(1/4935)
البلاء يشن
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الأبناء, الإعلام, التربية والتزكية, الترفيه والرياضة, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
3/11/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام والإيمان. 2- حسد أعداء الإسلام للمسلمين. 3- حرب الأعداء وبغضهم للإسلام والمسلمين. 4- انتشار لعبة خطيرة من لعب البلاي ستيشن. 5- واجبنا تجاه هذا الأمر. 6- مفاسد القنوات الفضائية وأجهزة اللهو. 7- وجوب العناية بالأولاد وصيانتهم. 8- الغزو الفكري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ ونَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلاَّ يَعلَمَ أَهلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِن فَضلِ اللهِ وَأَنَّ الفَضلَ بِيَدِ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نِعمَةُ الإِسلامِ أَجَلُّ نِعمَةٍ، وَمِنَّةُ إِرسَالِ محمدٍ أَعظَمُ مِنَّةٍ، وَلَو جُمِعَت كُلُّ نِعَمِ الدُّنيا في كِفَّةٍ وَنِعمَةُ الإِسلامِ في أُخرَى لَمَالَت كِفَّةُ الإِسلامِ وَلَرَجَحَت، ذَلِكَ أَنَّ الدُّنيا كُلَّهَا فَانِيَةٌ وَجميعَ نِعَمِهَا زَائِلَةٌ، أَمَّا نِعمَةُ الدِّينِ وَالإِيمانِ فَمُمتَدَّةٌ مَعَ صَاحِبِها مَا تمسَّكَ بها، وَأَثَرُهَا مُتَّصِلٌ بِدَارِ الآخِرَةِ دَارِ النَّعِيمِ المُقِيمِ، وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعقِلُونَ ؛ وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللهُ جل وعلا تمامَ نِعمَتِهِ على عِبَادِهِ بِإِكمَالِ الدِّينِ وَرِضَاهُ الإِسلامَ لهم دِينًا، وَيَمتنُّ عَلَيهِم بِبِعثَةِ محمدٍ خَيرِ الأَنَامِ نَبِيًّا رَسُولاً، قال سبحانَه: اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا ، وقال جَلَّ ذِكرُهُ: لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَإِذَا كَانَ الأَعدَاءُ مِنَ اليَهودِ وَالنَّصارَى وَالمُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِيَن يحسدُونَنَا عَلى كُلِّ شَيءٍ ممَّا أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَينَا، فَإِنهم لا يحسدُونَنَا عَلَى شَيءٍ مِثلِ تَمَسُّكِنَا بهذا الدِّينِ وَتَشَبُّثِنَا بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّ هذا الدِّينَ القَوِيمَ جَعَلَ مِنَّا نحنُ المُسلِمِينَ قُوَّةً عَظِيمَةً عَظِيمَةً، رُوحُها وَلُبُّها الإِسلامُ، وَوَقُودُها وَمُشعِلُها العَقِيدَةُ، وَبَاعِثُها وَمُحَرِّكُها ابتِغَاءُ الأَجرِ وَالثَّوَابِ، وَحَادِيهَا الأَمَلُ في دُخُولِ الجَنَّةِ وَبُلُوغُ النَّعِيمِ المُقِيمِ. نَعَم أَيُّهَا الإِخوَةُ، لَقَد أَثبَتَ التَّأرِيخُ لهؤلاءِ وَغَيرِهِم أَنَّ المُسلِمِينَ مَهمَا تمسَّكُوا بِدِينِهِم وَعَضُّوا عَلَى عَقِيدتِهِم بِالنَّوَاجِذِ فَإِنهم قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ عَجِيبَةٌ، لا تُقَاسُ بِمَقَايِيسِ البَشَرِ، وَلا تُوزَنُ بِمَوَازِينِ القُوَى، قُوَّةٌ لا تُهزَمُ بِكَثرَةِ عَدَدٍ وَلا تُقهَرُ بِاكتِمَالِ عُدَّةِ، وَلا يَقِفُ أَحَدٌ مَهمَا بَلَغَ في وَجهِها ولا يَستَطِيعُ إِيقَافَ مَدِّهَا.
وَمِن هُنَا فَإِنَّ هؤلاءِ الأَعدَاءَ لم تُتَحْ لهم فُرصَةٌ لِلنَّيلِ مِن هَذَا الدِّينِ إِلاَّ اغتَنَمُوها، ولا وَجَدُوا فُرجَةً لإِضعافِهِ إِلاَّ وَلَجُوهَا، وَلَن يَكسَلُوا وَلَن يَتَوَانَوا عَن حَربِ هَذَا الدِّينِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَالكَيدِ لَهُ بِكُلِّ أُسلُوبٍ، غَزوًا وَقِتَالاً، وَحَربًا فِكرِيَّةً وَتَضيِيقًا اقتِصَادِيًّا، وَشِرَاءً لِلعُقُولِ وَاستِمَالَةً لِلقُلُوبِ، وَقَصدًا لِلكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَعَمدًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّىَ يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا. نَعَمْ أَيُّها الأَحِبَّةُ، لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَنَا لِيَصُدُّونَا عَن الدِّينِ الحَقِّ، وَلَن يَرضَوا دُونَ كُفرِنا وَاتِّبَاعِنا مِلَّتَهُم شَيئًا، قال جل وعلا: وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم.
وَلَقَد تَكَاثَرَتِ الآيَاتُ البَيِّنَاتُ وَتَظَاهَرَتِ النُّصُوصُ الوَاضِحَاتُ على ما تُخفِي صُدُورُ هَؤُلاءِ وَمَا تَحمِلُهُ قُلُوبُهُم مِن حَسَدٍ لَنَا وَغَيظٍ عَلَينَا وَابتِغَاءِ البَلاءِ لَنَا وَالفَسَادِ في مُجتَمَعَاتِنَا، قال سُبحانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ ، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ ، وقال جل وعلا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم ، وقال جَلَّ ذِكرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ ، وقال تعالى: إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاء وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ ، وقال سُبحانَهُ: فَمَا لَكُم في المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهدُوا مَن أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً.
وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ المَخذُولِينَ مَهمَا يَفعَلُوا وَيُدَبِّرُوا وَيُخَطِّطُوا فَإِنَّ كَيدَهُم مُنتَهٍ بِالخَسَارِ، وَتَخطِيطَهُم آيِلٌ إِلى تَبَارٍ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشرُوطٌ بِشَرطَينِ عَظِيمَينِ لا بُدَّ مِن تَحقِيقِهِما، قال رَبُّنَا سُبحَانَهُ: إِن تَمسَسْكُم حَسَنَةٌ تَسُؤْهُم وَإِن تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ ، فَصَبرٌ مِنَّا على مَكرِ هَؤُلاءِ وَتَقَوَى للهِ وَإِيمانٌ بِمَوعُودِهِ كَفِيلانِ بِإِذنِ اللهِ بِأَن لاَّ يَضُرَّنَا كَيدُهُم شَيئًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نُشِرَ في إِحدَى صُحُفِنَا الجُمُعَةَ المَاضِيَةَ خَبرٌ مَفَادُهُ أَنَّهُ انتَشَرَت مُؤَخَّرًا لُعبَةٌ عَلَى الأَجهِزَةِ المُسَمَّاةِ بِالـ" بلاي ستيشن " تَدعُو إِلى تَطهِيرِ المُدُنِ مِنَ الإِرهَابِيِّينَ وَالمُلتَحِينَ وَالمَشَايَخِ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ، وَتُجبِرُ هَذِهِ اللُّعبَةُ لاعبِيهَا عَلى فِعلِ ذَلِكَ لِلاستِمرَارِ في التَّقَدُّمِ مِن مَرحَلَةٍ إِلى أُخرَى وَتحقِيقِ الفَوزِ وَالنَّصرِ، بِرَميِ القَذَائِفِ عَلَى المَسَاجِدِ وَتَمزِيقِ القُرآنِ وَتَنثِيرِهِ، وَفي أَثنَاءِ قَصفِ المَسَاجِدِ تُوجَدُ أَصوَاتٌ لِلأَذَانِ وَتَكبِيرٌ وَتهلِيلٌ، تَتَلاشَى وَتَضعُفُ كُلَّمَا رَمَى اللاَّعِبُ المَسَاجِدَ وَاقتَحَمَهَا وَمَزَّقَ كِتَابَ اللهِ وَقَتَلَ جمِيعَ المُسلِمِين الذِينَ يَظهَرُونَ عَلَى شَخصِيَّةِ رِجَالٍ مُلتَحِينَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَجِّلَ نُقَاطًا أَكبرَ فَعَلَيهِ تَدمِيرُ مَسَاجِدَ أَكثَرَ وَقَتلُ مُلتَحِينَ، كَمَا يَجِبُ أَن لاَّ يمنَعَهُ صَوتُ الأَذَانِ أَو دُخُولُ خَصمِهِ المَسجِدَ مِن مُلاحَقَتِهِ وَقَتلِهِ دَاخِلَ المَسجِدِ لِيُحَصِّلَ نُقَاطًا أَعلَى.
هَذَا مُلَخَّصُ الخَبرِ، وَلا نَدرِي ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَعجَبُ أَم نَبكِي؟! أَمَّا العَجَبُ فَمِن غَفلَتِنَا نحنُ الآبَاءَ وَالأَولِيَاءَ وَالمُرَبِّينَ، إِذ نمنَحُ الثِّقَةَ المُطلَقَةَ لِعَدُوِّنَا لِيَصنَعَ أَلعَابَ أَبنَائِنَا، وَأَمَّا المُبكِي فَحَالُ الرَّقَابَةِ الرَّسمِيَّةِ لَدِينَا، إِذْ كَيفَ تَسمَحُ لِمِثلِ هَذِهِ الحَربِ الصَّرِيحَةِ أَن تُبَاعَ في أَسواقِنَا وَعَلَى فَلَذَاتِ أَكبَادِنَا؟! أَيُّ تَشوِيهٍ لِدِينِ الإِسلامِ هَذَا؟! وَأَيُّ حَربٍ لِلتَّسَامُحِ هَذِهِ؟! بَل وَأَيُّ مَسحٍ لِكَرَامَةِ الدِّينِ وَهَدمٍ لِعَقِيدَةِ المُسلِمِينَ يُرِيدُهُ هَؤُلاءِ؟! وَأَيَّ إِرهَابٍ يَصنَعُهُ أُولَئِكَ الحُسَّادُ؟! وَأَيَّ عَدَاءِ يَدعَونَ إِلَيهَ؟!
وقَبلَ أَن نُطَالِبَ الجِهَاتِ الرَّسمِيَّةَ بِمَنعِ دُخُولِ مِثلِ هَذِهِ الأَلعَابِ التي مِن شَأنِهَا أَن تُفسِدَ عَقَائِدَ أَطفَالِنَا وَتَهدِمَ أَخلاقَهُم، وَقَبلَ أَن نُفَكِّرَ في رَدٍّ مُنَاسِبٍ عَلى الشَّرِكَةِ المُصَنِّعَةِ لِهَذِهِ اللُّعبَةِ أَو نُدَبِّرَ أَمرَ مُقَاطَعَتِهَا، فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الإِجرَاءَ المَهِينَ وَالغَزوَ الخَبِيثَ جُزءٌ مِن الحَربِ الصَّلِيبِيَّةِ المُوَجَّهَةِ ضِدَّ الإِسلامِ، وَالتي لا يَشُكُّ عَاقِلٌ في أَنَّ الأَعدَاءَ يُعَبِّئُونَ لها لَيلَ نَهَارَ، وَيَبذُلُونَ في سَبِيلِها الغَاليَ وَالنَّفِيسَ، وَيُعِدُّونَ لها الخِطَطَ العَسكَرِيَّةَ القَرِيبَةَ المَدَى وَالبَعِيدَةَ، وَيُقِيمُونَ مِن أَجلِها على مجتمعاتِنَا الدِّرَاسَاتِ النَّفسِيَّةَ وَالفِكرِيَّةَ وَالاقتِصَادِيَّةَ وَالاجتِمَاعِيَّةَ، فَنَسأَلُ اللهَ أَن يُبطِلَ كَيدَهُم وَيَجعَلَ تَدبِيرَهُم تَدمِيرًا عَلَيهِم.
في الخَبرِ الذي أَشَرتُ إِلَيهِ وَنَقَلتُ مُلَخَّصَهُ آنِفًا طَالَبَ مُواطِنُونَ الجِهَةَ المَسؤُولَةَ بِمَنعِ دُخُولِ هَذِهِ الأَلعَابِ، وَرَأَى آخَرُونَ أَنَّ عَلَينَا أَنَّ نُوَاجِهَ الإِعلامَ الغَربيَّ الذي صَوَّرَ لِلعَالمِ أَنَّ الإِسلامَ دِينٌ إِرهَابيٌّ بِأُسلُوبِ الحِكمَةِ، مِثلِ تَبنِّي أَلعَابٍ مُمَاثِلَةٍ تُبَيِّنُ الوَجهَ الحَقِيقِيَّ لِدِينِنَا الإِسلامِيِّ بِتَعَالِيمِهِ السَّمحَةِ، وَاكتَفَى بَعضٌ بِإِبدَاءِ حَنَقِهِ وَغَيظِهِ مِن هَذِهِ الأَلعَابِ، وَأَشَارَ بَعضٌ إِلى مَا يَعتَرِيهِ مِن غُصَّةٍ وَهُوَ يَرَى الأُمَّةَ الإِسلامِيَّةَ تَرَى وَتَسمَعُ وَلَكِنْ لا تَتَكَلَّمُ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ:
يَا عِبَادَ اللهِ، وَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ، قَبلَ أَن نُطَالِبَ الآخَرِينَ بِعَمَلِ شَيءٍ أَو تَبَنِّي رَدِّ فِعلِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ عَلَينَا أَنْ نَسأَلَ أَنفُسَنَا بِصِدقٍ وَصَرَاحَةٍ: مَاذَا عَمِلنَا نحنُ وَمَاذَا نحنُ فَاعِلُونَ؟! وَإِلى متى سَنَظَلُّ سُوقًا يُرَوِّجُ فِيهَا أُولَئِكَ الكَفَرَةُ ما يُنتِجُونَهُ مِن أَلعَابٍ مُوَجِّهَةٍ وَأَفلامٍ مُدَمِّرَةٍ وَغَزوٍ فِكرِيٍّ مَدرُوسٍ؟! بَلْ إِلى متى سَنَظَلُّ نَسمَحُ لأَجهِزَةِ الفَسَادِ أَن تَختَرِقَ الحُجُبَ في بُيُوتِنَا، فَتَقتُلَ كُلَّ مَا يَمُتُّ لِلدِّينِ وَالخَيرِ بِصِلَةٍ، تَهُزُّ عَقَائِدَنَا، وَتُزَعزِعُ إِيمَانَنَا، وَتُمِيتُ غَيرَتَنَا، وَتَئِدُ مِن قُلُوبِ نِسَائِنَا وَبَنَاتِنَا الحَيَاءَ وَالفَضِيلَةَ، وَتَبني في نُفُوسِهِنَّ الوَقَاحَةَ وَالرَّذِيلَةَ؟! إِلى متى يَظَلُّ أَحَدُنَا مُنَفِّذًا لِخِطَطِ أَعدَاءِ اللهِ وَأَذنَابِهم مِنَ المُنَافِقِينَ شَعُرَ أَو لم يَشعُرْ؟! أَوَكُلَّمَا جَاءَ هَؤُلاءِ بِفِتنَةٍ بَذَرنَاهَا في بُيُوتِنَا؟! أَوَكُلَّمَا أَشعَلُوا نَارًا لِحَربِ الدِّينِ وَالفَضِيلَةِ وَالأَخلاقِ تَكَفَّلنَا بِإِيقَادِهَا وَجَعَلنَا أَهلِينَا وَأَولادَنَا حَطَبًا لها؟! أَيَحفِرُونَ لَنَا الحُفَرَ المُظلِمَةَ فَنَقَعَ فِيهَا؟! أَيَسُوقُونَنَا إِلى المُستَنقَعَاتِ الآسِنَةِ فَنَنسَاقَ وَرَاءَهُم؟! عَجَبًا وَاللهِ ثم عَجَبًا عَجَبًا، نَعرِفُ الخَيرَ وَأَهلَهُ وَأَمَاكِنَهُ وَأَجهِزَتَهُ وَأَدَوَاتِهِ ثم نُعرِضُ عَنهُ وَعَنهُم وَعَنهَا، وَنَتَيَقَّنُ بِالبَاطِلِ وَأَهلِهِ وَتُبَيَّنُ لَنَا خِطَطَهُم وَيَظهَرُ لَنَا بَعضُ مَا يُبطِنُونَ ثم نَثِقَ فِيهِم وَنُسلِّمَهُم زِمَامَ أَنفُسِنَا وَعُقُولَ أَهلِينَا وَأَفئِدَةَ أَبنَائِنَا، وَنُدخِلَ أَجهِزَتَهُم بُيُوتَنَا، وَنُسقِطَ مَن تحتَ أَيدِينَا في حَمأَةِ فَسَادِهِم وَمُستَنقَعَاتِ بَاطِلِهِم!
حَدِّثُوني بِاللهِ عَلَيكُم عِبادَ اللهِ: كَم نِسبَةُ البُيُوتِ التي سَلِمَت مِن قَنَوَاتِ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ؟! كَم عَدَدُ الذينَ مَا زَالُوا إِلى الآنَ لم يَرفَعُوا أَطبَاقَ الشَّرِّ فَوقَ أَسطُحِ مَنَازِلِهِم؟! إِنهم يُعَدُّونَ عَلَى الأَصَابِعِ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، أَمَّا مَا يُسمَّى بِالبلاَي ستيشن، فَبَلاءٌ يُشَنُّ، بَلْ حَربٌ تُشَنُّ، وَدَعوَةٌ إِلى الضَّيَاعِ وَالعُهرِ وَالكُفرِ، كَانَت في بِدَايَاتِها قتلاً لِلوَقتِ وَتَضيِيعًا لأَعمَارِ أَطفَالِنَا فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنهُ وَلا نَفعَ وَرَاءَهُ، وَتَعوِيدًا لهم على السَّهَرِ الطَّوِيلِ وَتَركِ الصَّلَوَاتِ وَهَجرِ المَسَاجِدِ وَالجَمَاعَاتِ، ثم لمَّا وَجَدُونَا غَافِلِينَ مُتَسَاهِلِينَ لم يَزَالُوا بها حتى أَدخَلُوا فِيهَا صُوَرًا لِعَارِيَاتٍ وَمَقَاطِعَ لِمُومِسَاتٍ تُؤَجِّجُ الغَرَائِزَ وَتُثِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَضَمَّنُوهَا أَفعَالاً مَشِينَاتٍ وَتَصَرُّفَاتٍ طَائِشَاتٍ، تُعَلِّمُ أَطفَالَنَا التَّمَرُّدَ عَلَى الأَنظِمَةِ المُقَرَّرَةِ وَالآدَابِ المُتَّبَعَةِ، وَتُغَذِّيهِم بِالحِقدِ عَلَى رِجَالِ الأَمنِ وَالانتِقَامِ مِنهُم، حتى إِذَا وَثِقُوا مِن بَلادَتِنَا وَتَأَكَّدُوا مِن مَوتِ غَيرتِنَا جَعَلُوهَا تَعلِيمًا لِحَربِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا تَغذِيَةً لِكُرهِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا جُرعَةً لِلنَّيلِ مِن مَعَاقِلِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا تَحرِيضًا على رِجَالِ الإِسلامِ، يُعَلِّمُونَ أَطفَالَنَا حَربَ الدُّعَاةِ وَالمُلتَحِينَ، وَيَغرِسُونَ فِيهِمُ الاستِهَانَةَ بِالمَسَاجِدِ وَالمَصَاحِفِ، وَيَزرَعُونَ في عُقُولِهِم أَنها مَعَاقِلُ وَمَصَادِرُ لِلإِرهَابِ، يُوحُونَ لأَبنَائِنَا أَنَّ الانتِصَارَ هُوَ قَتلُ المُلتَحِينَ وَمُطَارَدَةُ أَهلِ الدِّينِ، وَأَنَّ الفَوزَ وَالظَّفَرَ هَدم المَسَاجِدِ وَإِخفَاتُ أَصوَاتِ المُؤَذِّنِينَ.
أَوَبَعدَ هَذَا يَشُكُّ عَاقِلٌ في حَسَدِ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ لَنَا وَحِقدِهِم عَلَينَا؟! أَوَبَعدَ هَذَا يُكَذِّبُ مُبصِرٌ بِبُغضِهِم لِلسَّلامِ وَحُبِّهِم لِلإِرهَابِ وَرَغبتِهِم في التَّدمِيرِ وَابتِغَائِهُمُ التَّخرِيبَ؟! إِنَّ المَاضِيَ الغَابِرَ وَالوَاقِعَ الحَاضِرَ لَيَشهَدُ بِعَدَاوَةِ الكُفَّارِ وَالمُشرِكِينَ وَحَسَدِ اليَهُودِ المُغتَصِبِينَ وَحِقدِ النَّصَارَى الصَّلِيبِيِّينَ، الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ تَشهَدُ، وَالاستِعمَارُ الهَدَّامُ يُصَدِّقُ، وَاحتِلالُ المَسجِدِ الأَقصَى يُؤَيِّدُ، وَمَا يَحدُثُ الآنَ في العِرَاقِ وَأَفغَانِستَانَ وَالشِّيشَانِ وَغَيرِها مِن بِلادِ الإِسلامِ يُوَضِّحُ أَنْ لا سَلامَ يُرجَى مِن عُدُوٍّ كَاشِحٍ، وَلا نَقُولُ إِلاَّ حَسبُنا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ. تُغزَى أَفكَارُ أَبنَائِنَا في عُقرِ دِيَارِنَا، وَيُحَارَبُ دِينُنَا بِأَموَالِنَا، وَتُهدَمُ أَسوَارُنَا بِسَوَاعِدِنَا، وتُخرَبُ بُيُوتُنَا بِأَيدِينَا، فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَشكُو إِلَيكَ ضَعفَ قُوَّتِنَا وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا وَهَوَانَنَا على النَّاسِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ شَرَّ هَذِهِ الأَجهِزَةِ لم يَعُدْ خَافِيًا فَيُدفَنَ، وَلا ضَرَرُ هَذِهِ القَنَوَاتِ بِسِرٍّ فَيُكتَمَ، زَعزَعَتِ العَقَائِدَ وَأَفسَدَتِ التَّصَوُّرَاتِ، وَأَضعَفَتِ الدِّينَ وَقَضَت عَلَى المُرُوءَاتِ، وَأَفقَدَت كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حَسَنَ السَّجَايَا وَكَرِيمَ الصِّفَاتِ، عَلَّمَت مُشَاهِدِيهَا المِرَاءَ بِالبَاطِلِ، وَعَوَّدَتهمُ الجَدَلَ العَقِيمَ لِرَدِّ الحَقِّ، وَجَرَّأَتهم على العُلَمَاءِ وَالوُلاةِ وَالمُرَبِّينَ، وَكَم نَسمَعُ وَنَقرَأُ في كُلِّ يَومٍ مِنَ القصصِ المُبكِيَةِ وَالمَوَاقِفِ المُحزِنَةِ التي سَبَّبَتهَا هَذِهِ القَنَوَاتُ، فَهَذَا أَبٌ وَقَعَ على ابنتِهِ، وَهَذَا وَلَدٌ زَنى بِأُمِّهِ، وَذَاكَ شَابٌّ مَارَسَ الجِنسَ معَ أُختِهِ، وَهَؤُلاءِ أَطفَالٌ يَفعَلُونَ الفَاحِشَةَ وَهُم في سِنٍّ لم يَبلُغُوا فِيهِ شَهوَةً، وَهُنَا شَبَابٌ يُمَارِسُونَ السَّرِقَةَ بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ لا تَخطُرُ على بَالٍ، وَآخَرُونَ يَقُودُونَ سَيَّارَاتِهِم بِسُرعَةٍ جُنُونِيَّةٍ وَتَهَوُّرٍ عَجِيبٍ، وَيَعتَدُونَ عَلى رِجَالِ الأَمنِ وَيَتَخَلَّصُونَ مِن مُطَارَدَاتِهِم بِطُرُقٍ احتِرَافِيَّةٍ، وَكُلُّهَا نَتَائِجُ وَاقِعِيَّةٌ وَتَطبِيقَاتٌ عَمَلِيَّةٌ لِمَا رَأَوهُ وَيَرونَهُ في هَذِهِ القَنَوَاتِ وَمَا يُمَارِسُونَهُ في تِلكَ الأَجهِزَةِ، فَلِمَاذَا ـ يَا أُمَّةَ الإِسلامِ ـ نَترُكُ هَذِهِ القَنَوَاتِ الهَابِطَةَ وَتِلكَ الأَجهِزَةَ المُدَمِّرَةَ تُرَبِّي أَبنَاءَنَا وَبَنَاتَنَا؟! هَل عَجَزنَا نحنُ عَن تَربِيَتِهِم، أَم أَنَّنَا رَاضُونَ بِهَذِهِ التَّربِيَةِ الغَربِيَّةِ البَهِيمِيَّةِ الحَيَوَانِيَّةِ؟!
لَقَد كَانَ التَّربَوِيُّونَ ـ مُعَلِّمِينَ وَمُدِيرِي مَدَارِسَ وَمُرشِدِينَ ـ يَطمَعُونَ في أَن يَتَعَاوَنَ الآبَاءُ مَعَهُم في تَربِيَةِ أَبنَائِهِمُ التَّربِيَةَ الصَّحِيحَةَ وَتَحلِيَتِهِم بِمَكَارِمِ الأَخلاقِ وَمحمُودِ الصِّفَاتِ، وَلَقَد أَصبَحُوا الآنَ يَرضَونَ مِن أُولَئِكَ الآبَاءِ بِأَنْ يُمسِكُوا الشَّرَّ عَن أَبنَائِهِم وَيَمتَنِعُوا عَن جَلبِ أَجهِزَةِ الفَسَادِ في مَنَازِلِهِم وَبِأَموَالِهِم.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّها المُسلِمُونَ ـ فِيمَن تحتَ أَيدِيكُم، وَارعَوا أَمَانَاتِكُم وَلا تُضيعُوا وِلايَاتِكُم، لَقَد مَضَى العَصرُ الذِي يَتَلَقَّى فِيهِ النَّاسُ كُلَّ جَدِيدٍ بِالقَبُولِ دُونَ تَمحِيصٍ وَلا تَدقِيقٍ، وَآنَ الأَوَانُ لِتَفَحُّصِ كُلِّ مَا يَدخُلُ إلى البُيُوتِ مِن أَجهِزَةٍ وَأَدوَاتٍ وَمُختَرَعَاتٍ، وَإِذَا كُنَّا ـ وَلا سِيَّمَا الشُّيُوخُ مِنَّا وَالكُهُولُ ـ لا نَعِي مَا تحمِلُهُ هَذِهِ الأَجهِزَةُ مِنَ الآفَاتِ وَالشُّرُورِ وَلا نَعلَمُ كَيفَ تَعمَلُ وَلا نَتَصَوَّرُ مَخَاطِرَهَا المُحتَمَلَةَ فَلْنَعلَمْ أَنَّ دَرءَ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلى جَلبِ المَصَالحِ، وَالتَّخلِيَةَ أَولى مِنَ التَّحلِيَةِ، وَالوِقَايَةَ خَيرٌ مِنَ العِلاجِ، وَالسَّلامَةَ لا يَعدِلُهَا شَيءٌ، فَامتَنِعُوا عَن شِرَاءِ هَذِهِ الأَجهِزَةِ لأَبنَائِكُم، مِن دُشُوشٍ وَجَوَّالاتٍ وَمَا يُسَمَّى بِالبلاي ستيشن. نَعَمْ، امتَنِعُوا عَن شِرَائِهَا وَجَلبِهَا لأَطفَالِكُم وَإِدخَالِها بُيُوتَكُم؛ لِئلاَّ تَكُونُوا مَعَاوِلَ هَدمٍ في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم وَقِيَمِهِم وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ، فَتَندَمُوا يَومَ لا مَندَمَ، وَلا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِني أَقدِرُ عَلَى تَقنِينِ استِعمَالِ أَبنَائِي أَو بَنَاتي أَو أَهلِي لِهَذِهِ الأَجهِزَةِ وَضَبطِ أُمُورِهِم حِيَالَهَا، فَوَاللهِ إِنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ وَالشَّابَّاتِ لَيَعلَمُونَ مِن أَسرَارِ هَذِهِ الأَجهِزَةِ مَا لا تَعلَمُونَ، وَيُحسِنُونَ مِن تِقنِيَاتِهَا مَا لا تُحسِنُونَ، وَيَستَخدِمُونها في الشَّرِّ بِمَا لا يَخطُرُ لأَحَدِكُم عَلى بَالٍ، يَظهَرُ أَحدُهُم أَمَامَكُم بِمَظهَرِ المُسَالِمِ الوَدِيعِ الذِي لا يَستَخدِمُ الجَوَّالَ إِلاَّ لِلمُهَاتَفَةِ النَّافِعَةِ وَالمُكَالَمَةِ المُفِيدَةِ، وَلا يَنظُرُ في القَنَوَاتِ إِلاَّ لِلأَخبَارِ وَالبرَامِجِ العَادِيَّةِ، فَإِذَا مَا غِبتُم عَنهُم أَو غَابُوا عَنكُم تَفَنَّنُوا في إِشبَاعِ شَهَوَاتِهِم بِهَذِهِ الأَجهِزَةِ، أَنتُم تُسلِمُونَ أَعيُنَكُم لِلنَّومِ مُتعَبِينَ مِن أَعمَالِكُم وَمَعَاشِكُم، وَهُم يَتَسَمَّرُونَ أَمَامَ هَذِهِ الأَجهِزَةِ مِن وَرَائِكُم، يُقَلِّبُونَ النَّظَرَ فِيمَا يُسخِطُ اللهَ ولا يُرضِيهِ، وَيَتَنَاقَلُونَ مَا يُمَزِّقُ لحمَ الوُجُوهِ، فَاتَّقُوا اللهَ ثم اتَّقُوا اللهَ ثم اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ إِنَّ جُزءًا كَبِيرًا بَل هُوَ الأَكبرُ مِنَ المَسؤُولِيَّةِ لَيَقَعُ عَلَى عَوَاتِقِكُم. صَحِيحٌ أَنَّكُم سَتُوَاجَهُونَ بِأُمَّهَاتٍ جاهِلاتٍ وَنِسَاءٍ نَاقِصَاتٍ، يَتَّهِمْنَكُم بِالتَّحجِيرِ وَالتَّضيِيقِ عَلَى أَبنَائِهِنَّ وَعَلَيهِنَّ، أَو يَلُمْنَكُم عَلَى أَنَّكُم لم تُوَاكِبُوا العَصرَ ولم تَفعَلُوا كَمَا يَفعَلُ النَّاسُ، وَقَد يَكُونُ أَبنَاؤُكُم هُم مَصدَرَ الضَّغطِ عَلَيكُم لِيَكُونُوا كَزُملائِهِم وَأَقرَانِهِم، أَلا فَلا يَكُونَنَّ كلُّ هَذَا عَائِقًا لَكُم دُونَ تَحَمُّلِ أَمَانَاتِكُم وَرِعَايَتِهَا، وَوِقَايَةِ مَن تحتَ أَيدِيكُم مِنَ النَّارِ، وَالعَمَلِ عَلى نجاتِكُم وَنجاتِهِم، وَتَذَكَّرُوا مَا صَحَّ عنه حَيثُ قال: ((مَن أَرضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إلى النَّاسِ، وَمَن أَسخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ)) ، وَمَا صَحَّ عنه أَنَّهُ قال: ((مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يموتُ يَومَ يموتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)). أَفَلَيسَ مِنَ الغِشِّ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يُوَفَّرَ الجَوَّالُ لِطِفلٍ لا يَتَجَاوَزُ خمسَ عَشرَةَ سَنَةً؟! أَلَيسَ مِنَ الغِشِّ إِدخَالُ القَنَوَاتِ الهَابِطَةِ في المنزِلِ؟! أَلَيسَ مِنَ الغِشِّ تَوفِيرُ أَجهِزَةِ البلاي ستيشن دُونَ رَقَابَةٍ وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ وَالبَاطِلِ؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ، فَقَدِّمُوا مَا يَسُرُّكُم وَيُنجِيكُم يَومَ تَلقَونَهُ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ أَعدَاءَنَا لا يَمَلُّونَ مَا بَينَ آوِنَةٍ وَأُخرَى مِن تَوجِيهِ ضَرَبَاتٍ قَاسِيَةٍ إِلى مَقَاتِلَ في مجتَمَعِنَا عَامَّةً، وفي صُفُوفِ النِّسَاءِ وَالشَّبَابِ وَالأَطفَالِ خَاصَّةً، ضَرَبَاتٌ لَيسَ سِلاحُهَا الصَّوَارِيخَ وَلا المَدَافِعَ وَلا الطَّائِرَاتِ، فَتِلكَ جَرَّبُوهَا فَلَم يُفلِحُوا ولم يَنجَحُوا في إِخراجِ النَّاسِ بها مِن دِينِهِم وَلا صَدِّهِم عَن مُعتَقَدَاتِهِم، وَلَكِنَّهَا ضَرَبَاتٌ مَعنَوِيَّةٌ فِكرِيَّةٌ، قَصدُها إِبعَادُ المجتَمعِ المُسلِمِ عَن دِينِهِ وَهَدمُ عَقِيدَتِهِ، وَتَجهِيلُهُ بِحَقِيقَتِهِ وَتَضِييعُ هُوِيَّتِهِ، وَمَسحُ مَبَادِئِهِ وَإِلغَاءُ قِيَمِهِ، وَمَسخُهُ إِلى مجتَمَعٍ مَفتُوحٍ عَلى كُلِّ الثَّقَافَاتِ، دُونَ احتِفَاظٍ بِشَخصِيَّةٍ مُستَقِلَّةٍ وَلا تَمَيُّزٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الخَطرَ الغَربيَّ عَسكَرِيٌّ محضٌ وَنقصُرُ خَطرَهُ على مَا عِندَهُ مِن سِلاحٍ نَوَوِيٍّ أَو قَنَابِلَ عُنقُودِيَّةٍ أَوِ انشِطَارِيَّةٍ فَإِنَّنَا نَرتَكِبُ خَطَأً جَسِيمًا، وَنَستَجِيبُ لِغَفلَةٍ حَضَارِيَّةٍ خَطِيرَةٍ، ذَلِكُم أَنَّ التَّأثِيرَ في القِيَمِ أَو نَسفَهَا وَتَغييرَ المَبَادِئِ أَو وَأدَهَا أَكثرُ خُطُورَةً مِنَ التَّهدِيدِ العَسكَرِيِّ؛ لأَنَّ التَّهدِيدَ العَسكَرِيَّ لا يَلبَثُ أَن يَنهَارَ أَو يَسقُطَ يَومَ أَن تَنتَفِضَ عَلَيهِ الشُّعُوبُ الحُرَّةُ، وَلَكِنَّ الخُطُورَةَ كُلَّ الخُطُورَةِ في التَّأثِيرِ الذي يُلبَسُ أَثوَابَ التَّسلِيَةِ وَالتَّرفِيهِ وَهُو يَسرِي في العُقُولِ كَالسُّمِّ في العَسَلِ، فَالحَذرَ الحَذرَ، فَإِنَّ المُخطَّطَ كَبِيرٌ وَالغَزوَ مُستَمِرٌّ، وَالحِملَ كَبِيرٌ وَالمُسؤُولِيَّة عَظِيمَةٌ، وَالانتِبَاهَ وَاجِبٌ وَاليَقَظَةَ إِيمَانٌ، وَ ((لا يُلدَغُ المُؤمِنُ مِن جُحرٍ مَرَّتَينِ)) ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا.
(1/4936)
المرأة بين ظلم الجاهليّة والعدالة الإسلاميّة
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
10/2/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن الإصلاح. 2- تحقيق الإسلام للسعادة. 3- كثرة الكلام عن حقوق المرأة. 4- ضرورة تبصير المرأة بحقوقها وواجباتها. 5- صور من الممارسات الظالمة في حق المرأة في المجتمعات الإسلامية. 6- عمل المرأة في ميزان الإسلام. 7- خطورة طغيان النظرة المادية. 8- وضع المرأة المزري في الوقت الحاضر. 9- ترشيد الطرح الإعلامي. 10- ما وراء المطالبة بحقوق المرأة. 11- الإشادة بجهود العلماء والمفكرين في هذا الشأن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله ربَّكم، فأهل النجاةِ والخلاص هم أهل التقوى والوفاءِ والإخلاص، الذين يوفون مع الله المواثيقَ، ويخلِصون له في يقينٍ وتَصديق، فيَا ويحَ الغافلين، خَفَّ زادُهم، وقلَّ مَزادهم، فطال عليهم السبيلُ، وحار فيهم الدليل، قِصَر أجل مع طول أمل وتقصير في عمَل، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، الأجدادُ أبلتهم الأجدَاث، والآباءُ أفنتهم الآباد، والأبناءُ عما قليلٍ نبأٌ من الأنباء، ففِيمَ الحرص على ظلٍّ زائل ومقيلٍ أنت عنه حائل؟! فاتقوا الله رحمكم الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلِمون، حديثُ الناس في هذهِ الأيّام عن الإصلاحِ والانفتاحِ والبِناءِ والتّسامُح والتعاوُن ونَبذ الخلافاتِ ومحاربةِ الظلمِ والعدوان والفسادِ والإقصاء وانتهاج منهَج الوسطيّة والاعتدال، وحديثُ الإصلاح هذا حديثٌ ذو شجون، لا يحصُرُه مثلُ هذا المقام، ولا تحيط به مثلُ هذه الكلمات، وإن كان لزامًا على أهلِ العلمِ والمصلحين وأصحابِ الرأي الحديثُ عنه وبيانُ أُسُسه ورسمُ مَعَالمه وانتهاجُ دروبه ومسالكه. ومِن المأساة أن بعضَ المتحدِّثين عن الإصلاحِ والانفتاحِ مِن أصحاب الرّأيِ والفكر والثقافةِ مِن المسلمين يسوء فهمُهم أو يسوء تفسيرُهم أو تسوء عبارَتُهم بقصدٍ أو بغير قَصد.
معاشِر المسلمين، إنَّ لدى كلِّ مسلمٍ ـ ولله الحمد ـ يقينًا صادقا وعقيدة راسخةً بأنّ الإسلام قد كفَل بأتباعهِ أفرادًا ومجتمعات وأمة، كفَل لهم السعادةَ والكرامةَ في الدنيا وحُسنَ الثواب في العقبى متى ما تمسَّكوا بدينهم والتزَموا هدي نبيِّهم محمّد ، كما أنَّ لدى المسلمين قاعدةً راسخة وأصلا ثابتًا، وهي أنَّ الحفاظ على الدينِ والاستمساكَ بالهويّة الإسلامية لن يتحقَّق إلا بانتماء المسلمين الصادق لدينهم المبنيِّ على صحّة المعتقد وحُسن الاتّباع وصدقِ الالتزام بأحكام الشّرع قولا وعملاً واعتقادا.
معاشرَ الأحبّة، أمام هذه الثوابتِ وأمام سَعَةِ الموضوع وتشعُّبه قد يكون من الملائِمِ اختيارُ نموذجٍ ذي دلالاتٍ وأبعاد يوضِّح المقصودَ يبيِّن المرادَ، فيه إشاراتٌ لمعالم الوسطيّة، إنّه نموذج الوسطيّة في شأنِ المرأة وحقوقِها ومشكلاتها؛ وسطيّةٌ بين تحكيمِ نصوص الشّرع المطهَّر وأحكامِه والخلاصِ مِن مذمومِ العادات وسيِّئ التقاليد، تحكيمٌ لحكم الشّرع في القديم وفي الجديد، وسطيّةٌ وإصلاح تميِّز الأصالةَ والثوابت ممّا ليس منها، وتنفِي عن المعاصِرِ والجديد ما ليس من لوازِمه.
أيّها المسلمون، حقوقُ المرأة كلِمةٌ ما أكثَرَ ما تحدَّث عنها المتحدِّثون والمتحدِّثات، وتَزَيَّنَت وتزيَّدت بها بعضُ المقالات والصفحات والدّعَوات والادِّعاءات، وما أكثر ما أفاضَت بها المحاضراتُ والمحاورات.
وأمّا مضمون هذه الحقوق فحدِّث عن هُلاميّتها وفضفاضيَّتها ولا حرج، بل إنَّ كثيرا من الطُّرُوحات والمعالجاتِ تراها ضائعةً مبعثَرَة بين دعاوَى المدَّعين وأهواءِ أصحاب الأهواء وميولِ أصحاب الانتماء وتصنيف ذوي التصنيفات، وقد لا تخلُو بعض الطّروحات من تمييعٍ ونفاقٍ والتفافٍ وغموض.
حقوقُ المرأة وحقوق الإنسان يصاحِبُها لدى بعض الكاتبين والكاتبات إمَّا عدَم وضوح في المراد، وإمّا عدَم وضوحٍ في الغاية، وبسبَب هذا صارَ الناصحون وغيرُ الناصحين يدورُون في حلقاتٍ مفرَغَة، وضاعت الحقيقة والحقوق، وضُيِّعت الأوقاتُ، وتبَعثَرت الجهود، وثارَتِ النزاعات والمناقشاتُ السُّفِسطائيّة.
أيها المسلمون، ما مِن شكٍّ أن للمرأة حقوقًا كما أنَّ للرجل حقوقا، وعليها واجبات كما على الرجل واجبات، كما أنَّ من اللازم المتعيِّن تبصيرَ المرأة بحقوقها ومساعدَتَها في تحصيلِها وحِفظها وحمايتها، بل إنَّ مِنَ تفقُّهِها في دينِها أن تعلَمَ أنَّه ليس من الحياءِ ولا من حُسن الأخلاق أن لا تطالبَ بحقوقها أمام أبيها وأخيها وزوجِها، فقَوامةُ الرجل حقٌّ ومسؤولية، ولكنّها ليست تسلُّطًا ولا ظلمًا ولا تعسُّفًا.
في ديارِ المسلمين ممارساتٌ ظالمة جائِرة، يجب النظرُ فيها وإعطاؤُها ما تستحقّ منَ الأهميّة والأولوية وجعلُها في صدرِ الاهتمامات والمعالجات. إنَّ المرأة تعاني صوَرًا من الظلم والقهر والإقصاءِ والتهميش وغمطِ الحقوق في معاشِها وتربيّتِها وبيت زوجيّتها والنفقةِ وحقِّ الحضانة والعدل في المعاملة، فضلاً عمّا يُطلَب لها من حقِّ الإحسانِ والتكريم والتبجيلِ. إنَّ هناك تسلُّطًا على ممتلكاتها، وسلبًا لحقِّها في اتِّخاذ القرار والمشاركةِ فيهِ في كثيرٍ من شؤونها وخاصَّتِها، من حقِّها العدلُ في القِسمة والعدلُ في توزيعِ الميراث والثروةِ والمِنَح والهِبات والعطايا حسَب ما تقضي به أحكام الشرع المطهَّر، ناهيكم فيما يقَع من بعض أحوالِ الضَّرب والقَهر والعَضل والشِّغار والحِرمان من الحضانَةِ والنفقة، وما يقع خلف جُدران البيوت وأسوار المنازِلِ من التعسُّف والتنكيلِ والحَسرَة والألم والممارساتِ الظالمة. يجب مساعدتُها وتشجيعُها وتبصيرُها ودَعمُها في أن ترفَعَ الظلمَ الواقع عليها، فترفع مظلمتَها لمن يُنصفها من أقاربها وعُقَلاء معارِفها وحكمائهم ومن القضاةِ والمسؤولين وولاةِ الأمور. إنَّ الإقصاءَ والتهميشَ وإنكارَ دَور المرأة في بيتِها ومجتمعِها ناهيكم باحتقارِها وتنقُّصها وظلمِها وهضمِ حقوقِها كلُّها مسائل وقضايَا لا يجوز السكوتُ عليها، فضلا عن إقرارِها والرِّضا بها.
معاشر الأحبّة، هذه جوانبُ من المشكلة أو القضيّة، وثَمّةَ جوانب أخرى لا بدَّ منَ النظر فيها.
إنَّ الذي يقال بكلِّ جلاء ووضوح: إنَّ الإسلام لم يوجِب ولم يفرِض ولم يحمِّل المرأةَ مسؤولية العمل خارجَ المنزل، لكنَّه لا يمنعُها مِن ممارَستِه بِضَوابطِه الشرعيّة. الإسلامُ حرَّرها من مسؤوليّة العمَل وحتميَّتِه خارجَ المنزِل، لكيْلا تقعَ تحتَ ضَروراتِ العمَل الذي يَستعبِدُها ويستَغلّها ويظلِمها.
أيّها المسلِمون، وهذا يحتاجُ إلى مزيدِ بسط.
تأملوا ـ وفقكم الله ـ ما يجري في هذا العالَم المعاصِر، إنَّ العنصرَ الطاغِي والعاملَ المؤثِّر هو العامل الاقتصاديّ، أمّا في الإسلام فالاقتصاد أو عامل الاقتصاد عامل من العوامل وعنصرٌ منَ العناصر له تأثيرُه الذي لا ينكَر، ولكنه بجانِب عوامِلَ أخرى ومعاييرَ أخرى.
العاملُ الاقتصاديّ في ميزان هذا العصرِ هو العامِل المقدَّم، وهو الأبرزُ عندَهم، وهو المعيارُ لإقامة حياة اجتماعيةٍ أفضل عندهم؛ ممّا دعا إلى إضعافِ وتهميشِ كثيرٍ من الحقوقِ والمعايير والعوامِل، والمرأةُ في هذا العصرِ وفي هذا الميزانِ المائل المجحِف الطاغي مكلَّفةٌ بإعالةِ نفسِها، سواء أكانت بنتًا في بيت أبيها أم زوجةً في بيت زوجِهَا. إنَّ هذه المنزلةَ لهذا المعيارِ بثَّت في روعِ امرأةِ هذا الزمن أن على الجميع نساءً ورجالا أن يركضُوا لاهثين ابتغاءَ جمع أكبر قدرٍ من المال لتحقيق أكبر قدرٍ من المتَعِ والكمالات. إن على كلِّ ذكر وأنثى في هذا الزِّحام أن يهتمَّ مستعجِلا بشأن نفسِه، وأن ينافسَ الآخرين لجمعِ المزيدِ منَ المال وتحصيلِ أكبر قدرٍ من الفرَص، فتحت هذا المسار المُهتاج والرّكض اللاهِث تضطرَ البنت وتُدفَع المرأة لتخرجَ في كلِّ صباح؛ لتبحثَ كأيِّ فرد من أفراد الأسرةِ والمجتمع في سبيل عيشها وتحقيقِ مُتَعِها، بل لقد ألقَوا في روعِ المرأة أن من العيبِ أن يحنُوَ عليها والدها أو يعطِفَ عليها ليغنِيَها منَ الخروج والكدِّ والكَدح، منَ العيب عندهم أن يكونَ الزوج مسؤولاً عنِ الإنفاق والرعاية.
وتحت سلطانِ هذه الفلسفةِ الضاغطة تُضطرّ الزوجة أو تحتاج إلى أن تقطعَ خيوطَ آمالها في مسؤولية الزوج عنها ورعايةِ أبيها لها.
وقد يقال: إنَّ هذا عند غير المسلمين، والواقع أنَّ الناظرَ والمتأمِّلَ في الكتابات والتوجُّهات يرى أن كثيرًا من كتابات بعض المثقفين ودعواتهم ونقاشاتهم تستحسِن هذا المسلك، وتريدُ أن تجعَلَه هو الأنموذَج والغايةَ المنشودة والأملَ المبتغَى، مَع الأسف وبكلِّ صراحة فإنَّ همَّ الاقتصاد ومتطلَّبات العمل هي مصدر كلِّ الواجبات والمسؤوليات في أفراد المجتمع كلِّه، رجاله ونسائِه، أيًّا كانوا وكيفما كانوا.
إنَّ غلبة عاملِ المال وطغيانَه يقضي ـ شاء العقلاء أو لم يشاؤوا ـ يقضي على الأسرةِ، ويدمِّر مقوِّماتها، ويهُزّ المجتمع المستقرَّ؛ لأنَّ السويَّ لا يكون سويًّا إلا بلحمة الأسرة، ولا وجودَ للأسرة في الحقيقة إلا بالتضامن والوِئام الذي يَشِيع في أفرادها من خلال وضوح المسؤولية لكلٍّ من الزوج والزوجة والأب والأم ورعاية الوالدين لأولادهما.
بهذه الفلسفة وبهذا التوجه تمَّ إقصاء المرأة عن رِعاية أولادها، بل إنّه عرَّض أنوثتَها للدَّمار وكرامتَها للامتهان وحياءها للذوبان.
يا قومنا، انظروا إلى الأمرِ بجِدِّيّة ومصداقيَّة وتجرُّد، المرأة في الوقت الحاضر أُخرِجت إلى العمل ودفِعَت إليه دفعًا، إنهم أخرجوها حينما جعلوا ذلك هو السَّبيل الوحيدَ للحصول على لقمةِ العيش وتحصيلِ الرزق، فهي تبحَثُ عن العمل، بل تقبَل أي عمل، وتستغلُّ أيَّ فرصة وإن لم تتَّفق مع طبيعتِها ما دام أنها تتعلَّق بضرورةِ مَعاشِها، ولا مناصَ لها أن ترضَى بأيِّ عَمل، فالخياراتُ محدودةٌ، وحكم المجتمَع صارم، بل إنّه ما مِن عملٍ قاس مجهِد يمارسه الرجال بل الطبقة الكادحةُ من الرجال إلاَّ وتجد نساءً كثيراتٍ يمارسنَه ويزاحمن فيه.
أيها الإخوة في الله، إن النظرَ بعينِ البصيرةِ والحِكمة والمصداقيَّة والنصحِ في بعضِ المجتمعات التي اقتَحمتِ الباب على مصراعيه واستسلمت لهذه الفلسفة يراها في سباقٍ محمومٍ ونَظرةٍ مادية صِرفة، ويرى نساءً يمارِسنَ أعمالا أذابَت أنوثتَهنّ وأحالَتهن إلى كُتَل متحرِّكة من قسوةِ العمل وقسوة المجتمع، في أعمالٍ قاسية وأوقاتٍ أشدّ قسوة، في الليلِ والنهار، بل في الهزيعِ المتأخِّر من الليل، في الأنفاق والمناجِم والمؤسَّسات والمشافِي وعلى نواصي الطرقات وأرصِفَة الشوارع، في أعمالٍ يشمئزّ منها العقلاء والأسوياءُ والرّحَماء والمخلِصون والناصحون، ناهيكم بالفُضَلاء المؤمنين.
أيها المسلمون، هذه بعضُ مَآلات هذه الصّورَةِ، وإذا كانَ ذلك كذَلك أو بعضَ ذلك فكم هو جميلٌ أن يرشَّدَ الطّرحُ الإعلاميّ حول هذه الحقوقِ والمشكلات، يجب الفَصلُ بين القناعاتِ الشخصيّة لبعض الكتاب والكاتبات وبعض القناعات الفكريّة وبين ما هو حقٌّ وشرع.
إنّنا نتحدَّث عن فكرٍ مسلم وإعلامٍ مسلم وثقافةٍ مسلمة متديِّنة تسعى لتنظيف مجتمعاتِ المسلمين من إسقاطاتِ مجتمَعاتٍ مادية، وهذا لا يكونُ ولن يكونَ إلاّ بالاعتزازِ الحقّ بكَمَال دينها عقيدةً وأحكامًا، عِلما وعملا ومنهجًا.
من الحقِّ والعدل والإنصافِ المطالبةُ بتوفيرِ الفَهم الواعي والناضِج، دينٌ وفِقه ووعيٌ لا يخشَى الوافد، ولا يخاف الجديدَ، ولكنّه قادرٌ على توفيرِ المناعةِ ضدِّ الابتذالاتِ، كما هو قادر على الاستفادةِ منَ الإيجابيّات والخيرات. إعلامٌ مستنيرٌ راشِد يعزِّز دورَ المرأة الإيجابيّ، ويؤكِّد حقَّها ودورَها في البناءِ والتنميةِ الشاملة في المجتمَع كلِّه، وحقَّها في التعليم والعمَل والوظيفةِ الملائمة. إعلامٌ مستنير راشِد يرفُض ويستنكِر ويقاوم جميع أشكال استغلالِ المرأة في أيِّ ميدانٍ لا يقيم للقِيَم والفضائل وزنًا؛ ممّا يفضي إلى تحقيرِ شخصية المرأة وامتهانِ كرامتها والمتاجرة بجسَدِها وعرضها، وكأنها بِضاعةٌ من سائرِ البضائع التي تسَوِّقها وسائل الإعلام.
حذارِ ثم حذارِ أن تُقذَفَ المرأة في بحار الضَّيَاع والهوان والحِرمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 35، 36].
نَفَعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هَذا، وأستَغفر الله لي ولَكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذَنب وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكَفى، لم يزل بِنعوتِ الكمال والجلال متَّصِفا، أحمده سبحانَه وأشكره أهل الحمد والشُّكرِ والوفَا، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له مقِرًّا بها إيمانا وتصديقا ومعتَرِفا، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أزكى الأمَّة فضلا وأعلاها شرفا، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آلهِ وأصحابه الأطهار الحنفا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان وسارَ على نهجهم واقتفى.
أمّا بعد: فإن مطالبَةَ صاحبِ الحق بحقِّه ـ رجلاً كان أو امرَأة ـ أمرٌ مشروع ومطلبٌ صحيح، وإجابَتُه حقّ، وإعانتُه حقّ كذَلك، ولكن يجِب أن يكونَ بمعاييرَ صحيحةٍ وضوابط دقيقة، تعطِي كلَّ ذي حق حقَّه، وتوصل الحقَّ إلى مستحقِّه في عدل ووسطيّة، فيتحقَّق التوازُنُ في المجتمع والأسرة.
إنَّ مما يثير الريبةَ والتخوُّف ما يظهر من دعواتٍ في بعض وسائل إعلامِ المسلمين وكتاباتِ بعضِ كُتَّابهم وكاتِباتهم مِن دعواتٍ إلى الزجِّ بالمرأة المسلمة في كلِّ ميدان مِن غير احتياطٍ ولا تحفُّظ، بل بما يُوحي أنَّه انجِراف وتجاوبٌ مع ما يطالب به منحَرِفون ممَّن لا يقيم للشَّرع وزنا ولا للحِشمة والعفَّة مقامًا ولا مكانا.
ينبغي لأهل الإسلام دُوَلاً وأُمَما وأسَرا أن تتَّخِذ من التدابيرِ الضابِطة ما يرفَع الريبةَ ويبعث على الطمأنينةِ ويتيح فرَصَ العمل الآمن ويحفظ التوازنَ الأسريّ داخلَ البيت وخارجه وداخل المجتمع المسلِم كلِّه.
وبعد: أيها المسلمون، فمع ما يظهر من بعض صُورٍ قاتمة وألوانٍ ذات غبَش فإنَّ الجهدَ الذي يبذُلُه علماء الشرع وأهل العِلم والفقهِ والفتوى وأصحابُ الفكر السويِّ جهودٌ مباركة، تمكَّنت من توجيهِ المجتمع وبيان المنهَج الوسطِ المعتدِل، وهم بإذنِ الله خلَفٌ عدول يحمِلون مشاعِلَ الهدى، ينفون تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، نجَحوا في كَبحِ كثيرٍ مِنَ التوجُّهات غير الوسطيّة غُلوًّا وجفاء. فليسيروا على بركة الله في منهجِهم العدل الخيار، ويَبذلوا مزيدًا من الجدِّ والجهد في ردِّ الرأي العامّ إلى مصادِرِ الشرعِ وأصولِه مِن الكتاب والسنّة والاستنباطِ الرشيد السديد، ولينفوا عن المسيرِ الترخُّصَ المذموم والتحلُّلَ الممقوت وغلوَّ الغالين، وتضييقَ المضيقين، يميلون مع الحقِّ، ويتحرَّون الوسط، ويُراعون مصالح العباد، رجالا ونساءً، ومجتمعا وأفرادًا، وقايةً من الفساد، وتأمِينَ مصادِر العيش الكريم. وإنَّ ضبطَ ذلك كله يكون بالنظر في المستجدّات وعرضها على ثوابتِ الشَّرع وضبط العادات والتقاليدِ والأعراف ورَبطها برِباط الشرع وتحديد مكانها وحكمها، فالجديدُ ليس مَرفوضا بإطلاقٍ، والتَّقاليد محكومَةٌ وليسَت حاكِمَة.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، ثم صلّوا وسلِّموا على نبيِّكم محمّدٍ المصطفى ورسولكم الخليلِ المجتبى، فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم جلّ وعلا، فقال عزَّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد الأمين، وآله الطيِّبين الطاهِرين، وأزواجِه أمَّهات المؤمنين، وارضَ اللَّهمَّ عن الخلفاء الأربعةِ الراشدين؛ أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعليّ، وعن الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجودِك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، واحمِ حوزةَ الدّين، وانصر عبادَك المؤمنين...
(1/4937)
التحذير من الظلم
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
3/11/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الطاعات والمعاصي. 2- عِظم جرم الظلم. 3- تحريم الظلم. 4- مفاسد الظلم وأضراره. 5- تحذير الله تعالى من الظلم. 6- عقوبات المعاصي. 7- تعريف الظلم. 8- أنواع الظلم. 9- التحذير من الشرك بالله تعالى. 10- خطر الذنوب والمعاصي. 11- المظالم بين العباد. 12- التحذير من غضب الله تعالى وعقابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتقوا الله حقَّ التَّقوى، وتمسّكوا من الإسلامِ بِالعروةِ الوثقَى.
أيّها المسلِمون، إنَّ الطاعَاتِ تتفاضَلُ عند الله بتَضَمُّنها تحقيقَ العبوديّة والتوحيدِ للهِ ربِّ العالمين وعُمومِ نفعِها للخَلق مِثل أركانِ الإسلام، وإنّ الذنوبَ والمعاصِي تعظُم عُقوباتُها ويَتَّسعُ شرُّها وفسادُها بحسَب ضررها لصاحبها وللخَلق. وإنّ الظُّلمَ مِنَ الذنوبِ العِظام والكبائِرِ الجِسام، يحيطُ بِصاحبِه ويُدَمِّره، ويفسِد عليه أمرَه، ويُغيِّر عليه أحوالَه، ويدرِكه شؤمُه ويُدركه عقوباتُه في الدنيا والآخرة.
ولأجلِ كثرةِ مَضارّ الظّلم وعَظيم خطرِه وتَنَوُّع مَفَاسدِه وكبير شرِّه حرَّمه الله بين عباده، فقال تعالى في الحدِيثِ القدسيّ: ((يا عبادِي، إني حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلاَ تظالموا)) [1].
فالله حرّم الظلمَ على نفسِه وهو يقدِر عليه تَكرُّمًا وتفضُّلاً وتَنزيهًا لنفسِه عن نَقيصة الظلم، فإنّ الظلمَ لا يكون إلا من نفسٍ ضعيفة لا تقوَى على الامتِناعِ عن الظلم، ولا يكون الظّلم إلاّ من حاجةٍ إليه، أو يَكون مِن جهلٍ به، واللهُ تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك كلِّه، فهوَ القويّ العَزيز، الغنيّ عن خَلقِه، فلا يحتَاج إلى شيءٍ، وهو العليمُ بكلِّ شيء.
وحرّم الله الظلمَ بين عبادِه ليحفَظوا بذلك دينَهم ويحفَظوا دُنياهم، وليَصلَحوا بترك الظلم، وليُصلِحوا آخرَتهم ودنياهم، وليتمَّ بين العِباد التعاوُن والتَّراحمُ بترك الظّلم وأداءُ الحقوقِ لله ولخلق الله تعالى.
الظّلمُ يضرُّ الفردَ ويهلِكه ويوقِعه في كلِّ ما يَكرَه، ويرَى بسبَب الظلمِ ما يسوؤه في كلِّ ما يُحِبّ. الظلم يخربُ البيوتَ العامرةَ ويجعَل الديارَ دَامِرةً. الظلمُ يُبيد الأمَم ويهلك الحرثَ والنّسل.
ولَقَد حذّرنا الله مِنَ الظلم غايةَ التَّحذير، وأخبرنا الله تعالى بِأنَّ هَلاكَ القرونِ الماضِيَة بِسبب ظُلمِهِم لأنفسهم لنحذرَ أعمالهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف: 59]، وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45، 46]، وقال تعالى: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
وقَد أجارَ الله هَذه الأمّةَ الإسلاميّةَ مِنَ الاستِئصال، ولكنَّها تُبْتلَى بعقوباتٍ دونَ الهلاك العامّ بسبَب ذنوبٍ تقَع من بعضِ المسلمين وتشيعُ حتَّى لا تُنكَر ولا يَنزجِر عنها أصحابُها كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
وعَن زينبَ بنتِ جَحش رضي الله عنها أنّ النبيَّ دخل عليهَا فزِعًا يقول: ((لا إلهَ إلا الله، وَيلٌ للعرَب من شرٍّ قَدِ اقترَب، فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوج مثلُ هذه)) وحلّقَ بإصبعَيه الإبهامِ والتي تلِيها، فقُلتُ: يا رسولَ الله، أنهلِك وفينا الصالحُون؟! قال: ((نعم، إذا كثُرَ الخبث)) رواه البخاري ومسلم [2]. فدلَّ الحديث على أنَّ بعضَ الأمةِ صالحون، وبعضهم تقَع منهم ذنوبٌ تُصيبُ عقوباتُها الكَثيرَ مِنَ الأمّة في بَعضِ الأزمان وبعض الأمكِنة. وفُسِّر الخبَثُ بالزنا وعَمَلِ قومِ لُوط لقولِه تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور: 26]، وقوله تعالى عن لوط عليه الصلاة والسلام: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [الأنبياء: 74]. وفُسِّر الخبثُ بالخمرِ ونحوِه من المسكِرات والمخدِّرات إذا تفشّت بين الناس لقولِه : ((الخمرُ أمُّ الخبائث)) [3]. ومعنى الحديثِ عامّ في كلّ محرَّم يظلِم به المسلم نفسَه.
أيّها المسلمون، أَصلُ الظلمِ وَضعُ الشيءِ في غير موضِعه، وهُو مخالفةُ شرعِ الله تعالى. والظلمُ ثلاثة أنواع:
النَّوع الأول: ظُلمٌ لا يغفِره الله إلا بالتّوبة، وهو الشركُ بالله تعالى، قال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 116]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. فمن مَاتَ عَلَى الشِّرك بالله خلَّدَه الله في النارِ أبَدًا كما قَالَ عزّ وجلّ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
وَكانَ ظُلمُ الشّركِ غيرَ مَغفورٍ لمن ماتَ عَليه لأجلِ مُضادّة ربِّ العالمين في الغايةِ والحِكمة من خلقِ الكَون لعبادة الله تعالى، ولأنّ الشركَ تنقُّصٌ لعظمةِ الخالق ولقَدرِه جلّ وعلا كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].
وأيُّ ظلمٍ أعظَمُ مِن أن يجعَلَ الإنسانُ لربِّه ربِّ العالمين نِدًّا يَعبُدُه من دون الله الذي خَلقَه؟! وأيّ ذنبٍ أَكبر من أن يتَّخِذ الإنسانُ مخلوقًا إِلَهًا مِنَ الصَّالحين أو غيرهم، يدعوه من دونِ الله، أو يرجوه، أو يستغيث به، أو يخافه كخَوف الله، أو يستعينُ به، أو يتوكّل عَليه، أو يستعيذ به، أو يذبح له القربَانَ، أو ينذر له، أو يُعِدِّه لرغبته ورهبته، أو يَسأله المدَدَ والخَيرَ، أو يسأله دفعَ الشرِّ والمَكروه؟! أيّ ذَنبٍ أعظم من هذا الشّركِ بالله تَعَالى؟! قال عز وجلّ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6]، وقال عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 51-55]، ومعنى وَاصِبًا أي: دائمًا. وعن جابر رضي الله عنه قال: ثِنتان موجِبتان، قال رجل: يا رسولَ الله، ما الموجِبتان؟ قال: ((مَن مات يشرك بالله شيئًا دخلَ النار، ومن ماتَ لا يشرك بالله شيئًا دخَل الجنّة)) رواه مسلم [4] ، وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مَات وهو يدعو لله نِدًّا دخلَ النار)) رواه البخاري [5].
وَكَما أنّ الشرك بالله تعالى أعظَمُ السيّئات فإنّ التوحيدَ لله تعالى أعظمُ الحسنات كما في الحديثِ القدسيّ: ((يا ابنَ آدَم، إنَّك لَو أتَيتَني بقُرابِ الأرض خَطَايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً)) [6].
والنّوع الثاني من الظلم: الذّنوبُ والمعاصي التي بَين العبدِ وربِّه مَا دونَ الشركِ بالله، إن شاء الله عفَا عنها بمنِّه وكَرَمِه، أو كفّرها بالمصَائِبِ والعقوباتِ في الدنيا، أو في القبر، أو تجاوَز عنها الرَّبّ بشفاعةِ النبيّ أو شَفاعةِ غيره من الشّافعين، أو يعذِّبُ الله العاصيَ في النّار بِقدرِ ذنبه ثم يخرِجه من النارِ فيدخِله الجنّة إن كان من الموحِّدين.
والنّوع الثالث من الظلم: مَظالم بين الخَلق في حُقوقٍ لبعضهم على بعض، تَعَدَّوا فيها، وأخذَها بعضُهم من بعض، ووقَعوا في ظلمِ بعضهم لبَعض، فهذه مظالمُ لا يَغفِرها الله إلاّ بأداءِ حقوقِ الخلق إليهِم، فيؤدّي الظالم حقَّ المظلومِ في الدّنيا، وفي الحَديثِ عن النبيِّ : ((لتُؤدُّنّ الحقوقَ قبلَ أن يأتيَ يومٌ لا دِرهَمَ فيه ولا دينارَ، إنما هي الحسناتُ والسيّئات، يُعطَى المظلومُ مِن حَسَناتِ الظالم، فإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيِّئات المظلوم ووُضِعَت على الظالم، ثم طُرِح في النار)) [7].
والمظالمُ بينَ العباد تكون في الدِّماء، وفي الحدِيثِ عن النبيّ : ((لا يَزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينهِ ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) [8]. وتكون المظالم في الأموالِ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) ، وتكون المظالم باقتطاعِ الأرض والعقارات، وفي حَديث سَعِيدِ بنِ زَيد رَضي الله عَنه أنّ النبي قال: ((مَنِ اقتطعَ شِبرًا مِنَ الأرض طَوَّقه الله إيّاه من سبعِ أرضين)) [9]. وتكون المظالم بين الأَرحامِ بِتَضييعِ حُقوق الرَّحِم، وتكون المظالم بين الزوجَين بتَركِ حقوقِهما، وتكون المظالم بين المستَأجِرين والعمّال بِسَبَب سَلبِ حُقوقِهم وتَكلِيفِهم مَا لا يُطيقون، والرّسول يقول: ((أَعطوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجِفَّ عَرقُه)) [10]. وقد وقَع من بعض الناس هضمٌ لبَعض العمّال لمنعِهم حقوقَهم أو التحايُل عَلَيها أو تأخيرها أو عدَم مخافة الله فيهم وارتكاب ما حرّم الله تبارك وتعالى نحوهم، وذلك ظلمٌ شنيع يخرِّب البيوتَ ويمحَق بركةَ المال ويُنذِر بعقوباتٍ لا طاقةَ للإنسان بها. وقد تكون المظالم بالتّعدِّي علَى حقوق معنويّةٍ أو بغيبةٍ أو وِشايةٍ بين اثنين.
فاحذَروا ـ عباد الله ـ الظلمَ، فإنّ الله تعالى ليس بغافلٍ عمَّا تَعملون، والظُّلمُ محرّمٌ ولو وقَع عَلَى كافرٍ، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].
بَارَكَ الله لي وَلَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7059، 7135)، صحيح مسلم: كتاب البر (2880).
[3] رواه الطبراني في الأوسط (3667)، والدارقطني (4610، 4613 ـ مؤسسة الرسالة ـ )، والقضاعي في مسند الشهاب (57) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسنه العجلوني في كشف الخفاء (1225)، وهو في السلسلة الصحيحة (1854). وفي الباب عن عثمان رضي الله عنه روي عنه مرفوعا وموقوفا.
[4] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (93).
[5] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4497)، وهو عند مسلم أيضا في كتاب الإيمان (92) نحوه.
[6] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[7] ينظر من أخرجه بهذا السياق. وفي معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه)) رواه البخاري في الرقاق (6534).
[8] رواه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في المظالم (2452)، وكسلك في المساقاة (1610).
[10] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: أجر الأجراء (2443)، والقضاعي في مسند الشهاب (744) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف فيه عبد الرحمن بن زيد، لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في الترغيب (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة والله أعلم"، وقد صححه الألباني في الإرواء (1498)، وانظر: نصب الراية (4/129).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعزِّ مَن أطاعَه واتّقَاه، ومُذِلِّ من خالَفَ أمرَه وعَصَاه، أشهَد أن لا إلَهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ لَه لا إلهَ سِواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله اجتباه ربّه واصطفاه، اللّهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه ومن والاه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ تقواه، وراقبوه واخشَوه مراقبةَ من يعلَم أنّ الله مطَّلعٌ على سرِّه ونجواه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، وفي الحديث عن النبيِّ : ((اتّقوا والظلمَ، فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة)) [1].
أيها الناس، لا يتعرّض أحدكم لغضب الله وعذابه، فإنّه ما وقع غضب الله على أحدٍ إلاّ هلك، قال تعالى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه: 81]. ومن أخذه الله بعذابه فقد خسر، قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19].
عباد الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه مسلم في البر (2578) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(1/4938)
صدق الوعد والوفاء بالعهد
الإيمان
خصال الإيمان
خلاف الغالبي
بركان
27/9/1427
مسجد الغفران
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الوفاء بالوعد. 2- الوعود الرمضانية. 3- عهد توحيد الله تعالى وإخلاص الدين له. 4- العهود بين الناس. 5- ذم نقض العهود وإخلاف الوعود. 6- اليهود نقضة العهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا [مريم:54]. في هذه الآية الكريمة إشارة صريحة إلى شرف وقدر ومكانة صدق الوعد وتوفيَته وعدم الإخلال به، هذه الصفة العالية وهذا الخلق النبوي الكريم الذي كان لصيقًا بنبي الله إسماعيل هي نفسها التي امتدح الله بها عباده المؤمنين الذين صدقوا عهودهم مع الله وعهودهم مع الناس، ورعوا الأمانات المختلفة الدينية والدنيوية، وثبتوا على هذه الحال حتى لقوا ربهم عز وجل، يقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 1-8]، ويقول جل وعلا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
إذًا فالمحافظة على العهد ورعايته صفة نبوية كريمة هي من أجلّ الصفات التي يتّصف بها المؤمنون، ونحن اليوم نعيش الأيام الأخيرة من شهر رمضان لهذه السنة، وكثير منا إن لم نكن كلنا كنا قبل حلول هذا الشهر الكريم نرجو من الله أن يبلغنا رمضان، ووعدناه إن نحن طال بنا الأجل ومد الله في أعمارنا أن نتوب إليه من كثير من المعاصي التي اعتدنا ارتكابها قبل رمضان، ووعدناه أن نرجع إليه ونذكره بعد أن كنا عنه غافلين، وأن علاقتنا بربنا سوف تتحسن حالها، وأننا سوف نصبح أكثر إقبالا على الآخرة بالاجتهاد بالطاعات وبصالح الأعمال... وها قد بلَّغنا ربنا هذا الشهر الكريم، وحاولنا أن نكون موفِين لعهدنا الذي عاهدنا الله به، ومراعين للوعد الذي قطعناه على أنفسنا بالتوبة والرجوع إلى الله والالتزام بتعاليم الإسلام قدر المستطاع، أفإن انصرم شهر رمضان وتم وانقضى عدنا إلى الحال التي كنا عليها قبل رمضان وأخللنا بالالتزام الذي التزمناه مع خالقنا ونقضنا العهود والمواثيق التي أخذها ربنا علينا؟!
عباد الله، إن صدق الوعد والوفاء بالعهد خلق عظيم وصفة كريمة تدل على شرف النفس وقوة العزيمة، وإن الله تعالى لا محالة سائلنا عنه يوم القيامة، يقول تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34]. ثم إن ربنا سوف ينظر كيف تعامل كل واحد منا مع عهد الله وميثاقه، فيكافئ كلا بما يستحق: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10].
إذا كان الواجب يحتّم علينا أن نحافظ على وعودنا وأن نوفي بعهودنا التي نقطعها على أنفسنا بين الحين والحين وعند هذه المناسبة أو تلك، فإن العقل والمنطق والمصلحة تقتضي أن نكون أرعى وأحفظ لذلك العهد الذي أخذه الله علينا في عالم الغيب عالم الذر قبل أن نصير إلى هذه الدنيا، يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172-174].
إنه العهد مع الله المؤسَّس على التوحيد توحيد الله وعدم الإشراك به وإخلاص العبادة له، يقول تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس: 60]. إنه العهد بتحمل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها وأشفقن منها، والتي تحملها الإنسان وتعهد بحملها. إنه العهد بالخلافة في الأرض وبعمارتها. إنه عهد لا تنفع معه الغفلة لتكون مسوغا لنقضه ولا النسيان، ولا ينفع فيه الاعتذار بشرك الوالدين. إنه عهد مثبت في فطرة الإنسان، وجاءت الرسالات والنبوات مبيّنة له مفصّلة لدقائق تفاصيله، فكيف يتفلّت منه مؤمن صادق؟! إن هذا العهد الذي يقوم على أساس الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وما يتبعهما من تكاليف ربانية يمثل أخطر قضية في حياة البشرية كلها، وأخطر قضية في حياة كل مسلم، وأخطر قضية غفل عنها الناس وغفل عنها المسلمون اليوم. وحين غفل معظم الناس عن حقيقة هذا العهد غفلوا أيضا عما يترتب عنه من مسؤوليات وتكاليف، فلما غفلوا عنه ونسوه لم يستحقوا موعود الله لهم بالنصر.
إخوة الإسلام، إذا كان المسلم مطالبا بالوفاء بعهده مع الله والثبات على طريق الحق فإن ذلك لا يعني أن نخون عهودنا ومواثيقنا وأماناتنا فيما بيننا؛ لأن العهود بين الناس إنما تستمد قدسيتها وحرمتها من عهد الله الذي نشهده على عهودنا ونجعله كفيلا على مواثيقنا ووكيلا عليها، يقول تعالى: قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يوسف:66]. إذا فعهود الناس ومواثيقهم متصلة اتصالا مباشرا بالعهد مع الله، فلا يظن أي واحد منا أن التفلت منها هو أقل شأنا من نقض عهد الله والتفلت منه، فكثير من الناس اليوم يقسم الأيمان المغلظة ويعطي عهوده بالله ثم يغدر، فمن تجارنا من يعطون عهودهم بالله ويغدرون، ومن صناعنا من يعطون عهودهم بالله ويغدرون، ومن حرفيِّينا ـ البناؤون والنجارون وغيرهم ـ من يعطون عهودهم بالله ويغدرون.
هناك أيضا من الحكومات التي تعد شعوبها وتتعهّد لها بتحقيق الرفاهية والعيش الرغيد والعمل على مصلحة الوطن والأمة والدين ثم تراها تنكص على أعقابها ولا تحقّق من وعودها إلا النزر اليسير، وتتفلّت من عهودها من خلال الحرص على تحقيق مصالح شخصية ولو كانت على حساب مصالح شعوبها. وأوضح مثال على ذلك قضية فلسطين، فعدد من الحكومات التي تقلّدت مسؤوليات إدارة شؤون البلاد العربية والإسلامية بعد حصولها على الاستقلال تعهّدت والتزمت بمساندة الكفاح الفلسطينيّ ودعم شعب فلسطين حتى يتمّ تحرير كامل تراب فلسطين ويتمّ فك أسر المسجد الأقصى، فماذا تحقق من تلك الوعود؟!
وبعد أشهر سيحل بنا في المغرب الحبيب موسم لإطلاق الوعود الكاذبة والعهود المخلفة، إنه موسم الانتخابات التشريعيّة أو البرلمانية، والذي يعتبر موسما لنقض العهود بامتياز. سيحل هذا الموعد مجدَّدا، وسيسمع من يطيل الله عمره وسيرى من بعض المتنافسين التفنّن في إطلاق الوعود بتحقيق كذا وكذا وبتوظيف الشباب العاطل عن العمل وإصلاح الطرقات والدفاع عن حقوق المظلومين وفضح المفسدين وتقديمهم إلى المحاكمات وحفظ المال العام وصيانته وصرفه فيما يعود بالخير والنفع على عموم المواطنين، وما إن يتحقق له المراد ويتم ترشيحه إلى بلدية أو برلمان حتى ينسى كلّ ذلك ويضرب به عرض الحائط.
نقول لمن يتاجر بعهود الله ومواثيقه ويستغفل المواطنين ويخون ثقتهم ويخلّ بالتزاماته معهم: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت أو ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه. ونقول لذلك المواطن المسكين الذي عليه أن لا يلدغ من الجحر مرتين، نقول له: لا تحزن ولا تأس على ما خدعك الخادعون وغدر بك الغادرون، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي عهدا ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه)).
فلا تبتئس ـ أيها المؤمن ـ بما كانوا يفعلون؛ فإن محاميك الذي سينوب عنك ويترافع عنك حتى تحصل على حقك ومظلمتك غدا يوم القيامة ليس كبعض المحامين الذين تعرفهم محامي الدنيا الذين يغدرون بموكليهم ويخذلونهم ويخونون ثقتهم فيهم، فيضيعون حقوق الناس التي تعهدوا بالعمل على استرجاعها وردها طمعا في عرض من الدنيا قليل، ناقضين بذلك قسَم المهنة ومخلِّين بعهد من أنابهم عنه. فلا تحزن يا من غدر بك الغادرون وخذلك المتخاذلون، فإن محاميك هو محمد رسول الله. ولنحذر جميعا أن نقف غدا في محكمة ربنا يوم القيامة في مواجهة رسولنا الكريم وهو يدافع ويخاصم عمن ظلمناهم وغدرنا بهم ولم نوفهم حقوقهم وعهودهم التي ألزمنا أنفسنا وألزمنا شرعنا بمراعاتها وحسن رعايتها وإتمامها إلى مدتها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: عباد الله، إن نقض عهد الله إثم كبير ومعصية عظيمة لا يقدم عليها مؤمن يخشى الله واليوم الآخر أبدا، ولا يتفلّت منه بطريقة أو أخرى يظن أنه أصاب حين يكون الشيطان قد زيّن له ذلك وأغواه.
وقد أخبر ربنا أن نقض العهود والمواثيق بين الناس والمؤسَّسة على عهد الله والمشروطة به تمثل بابا كبيرا للفتنة في الأرض والإفساد فيها، يقول تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 26، 27]؛ إذ نتيجة نقض عهد الله في الدنيا فساد في الأرض، أما نتيجته في الآخرة فخسران والعياذ بالله.
إن هذا العهد سمّي عهد الله مع أنه عهد في الحياة الدنيا لأنه يحمل خصائص ربانية، فهو عهد مع الله ممتد في جميع ميادين الحياة الدنيا كما يظهر ذلك في قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. إنه عهد يأتي بين صدق الإيمان والإنفاق في سبيل الله مع الصلاة والزكاة، وبين الصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وكلها خصائص إيمانية تمتد على صراط مستقيم يمضي عليه الموفُونَ بِعَهدِهم.
عباد الله، إن كان ديننا قد حثنا على الوفاء بالعهود وأوصانا بذلك وحذرنا من مغبة وخطورة الانزلاق في منزلق نقض العهد والتفلّت منه ونسيانه مع الله وفيما بين الناس فإنه قد دلنا وأرشدنا إلى عدم الوثوق في عهود من لا عهد لهم ولا ميثاق؛ حتى لا نبني علاقاتنا معهم على الأوهام، يقول تعالى منبئا ومخبرا عن حال بني إسرائيل مع العهود والمواثيق ومدى التزامهم بها وإتمامها إلى مدتها: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة: 100، 101]. كلما تفيد الاستمرارية والاستدامة، فكيف يمكن بعدها الوثوق في عهودهم؟! فقد نبذوا عهودهم مع الله ومع الأنبياء والرسل، فكيف يحافظون على عهودهم مع الناس الأممين الذين لا يجدون حرجا ولا مانعا في الإساءة إليهم وإذايتهم وظلمهم والغدر بهم؟! ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75]. ولعل من صور نبذ فريق منهم للعهود التي أبرمها فريق آخر منهم خطاب تسيبي ليفني وزيرة خارجية الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة هذا العام حول التراجع عن حدود 1967م التي تم الاتفاق عليها دوليا في مرحلة سابقة بدعوى أنه لم تكن حين الالتزام السابق دولة فلسطينية وكانت دول عربية وإسلامية، واليوم مع وجود الدولة الفلسطينية الضعيفة فيجوز الانتقاص من العهد والتراجع عنه، في الوقت الذي نرى الجانب الفلسطيني والعربي المفاوض على السلام يستمسك بخارطة الطريق والتي تمثل عهدا لا مصداقية له؛ لأنه لا يعبر عن مطالب الإسلام ولا عن رغبة جمهور المسلمين المستمسكين بفلسطين كل فلسطين وبأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين حرا مطهَّرا من تدنيس الغاصبين المعتدين.
(1/4939)
منزلة العلماء (وفاة الشيخ حمد الزيدان)
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن خالد الخضير
الثقبة
26/10/1427
مسجد ابن حجر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة العلم وفضل العلماء. 2- ذهاب العلم بذهاب العلماء. 3- ترجمة وجيزة للشيخ حمد الزيدان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدى هدى محمد صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد بعث الله محمدًا إلى الخلق على حين فترة من الرسل، وقد مقت أهل الأرض عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ماتوا أو أكثرُهم قبل مبعثه، والناس إذ ذاك في جاهلية جهلاء، يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة ويأتون الفواحش ويقطعون الأرحام ويأكل القويُ منهم الضعيف؛ فبعث الله لهم محمدًا يعرفون نسبه ويعرفون صدقه ويعرفون أمانته وعفته، فهدى اللهُ الناسَ ببركة نبوة محمد هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2].
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسّرت أغلالَها
لَما رآها الله تَمشي نحوه لا تنظر إلا رضاه سعى لها
أيّها المسلمون، لقد أخبر الرسول أنَّ له تركة وميراثًا لا يمكن أن يُختص بها إلا من أراد الله له الخير، وأخبر أن هذا الميراث ليس من فئة الدينار والدرهم، وإنما هو العلم الذي من تحصل عليه فإنما وفق لخير عظيم، قال : ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر)) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم.
إن العلماء يقومون في الأمة مقام الأنبياء؛ يبصرونها الهدى ويجنبونها الردى، ويمسكون بِحُجَزها أن تسلك درب ضلالة، أو تقع في هاوية غواية.
إن العلماء في الأمة بمنزلة العينين من الرأس، وهم الذين يبصرون الأمة بدينها، ويوقعون عن الله في وقائع حياتها، فتصدر الأمة عن أحكامهم، وتقتفي فُتياهم واجتهاداتهم. قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]، قال القرطبي: "هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته". ويقول الله جل وعلا: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، وهذه الرفعة تكون في الدنيا والآخرة، وللعلماء نصيب من قوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4].
والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل، فقال تعالى: فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء والعلم شفاء هذه الأدواء، وكما قال رسول الله : ((فإنما شفاء العي السؤال)) أخرجه أبو داود (336).
وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد،
قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 49].
العالم لا ينقطع عمله بموته بخلاف غيره ممن يعيش ويموت وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر. عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) أخرجه مسلم.
ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخّر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له، فعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله قال: ((صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر)).
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لِمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
عباد الله، العلماء ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وبهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فللّه درهم وعليه أجرهم، ما أحسن أثرهم وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة، يُذكّرون الغافل ويُعَلّمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد ومنار البلاد وقوام الأمة وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحقّ وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
أيها المسلمون، وحيث كان العلماء من الأمة بهذه المثابة وتبوؤوا منها هذه المرتبة فإن رزيتها بفقدهم من أعظم الرزايا وأقساها.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر يَموت بموته خلق كثير
وإن فقد العالم ـ أيها المسلمون ـ ليس فقدًا لشخصه، وليس فقدًا لصورته ولا لحمه ودمه، ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة، إنه فقد لجزء كبير بحسب ما قام به العالم من الجهد والتحقيق، وهكذا يختلس العلم ويقبض بقبض حملته الذين هم العلماء، عن أبي أُمَامَةَ عن رسول اللَّه أنه قال: ((خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ)) ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ ـ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ـ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟! قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: ((ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ)) ، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) ، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ؟!)) رواه الترمذي والدارمي، وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) رواه البخاري ومسلم. قال النووي: "هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم ليس هو محوه في صدور حفاظه، ولكن معناه أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالتهم فيضلون ويضلون".
إذا أُدْرك ذلك ـ أيها المسلمون ـ تبين أن فقد العالم لا يعوِّض عنه مال ولا عقار ولا متاع ولا دينار، بل إن فقده مصيبةٌ على الإسلام والمسلمين لا يعوّض عنه شيء، قال ابن مسعود: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يعوض عنه شيء ما اختلف الليل والنهار) رواه ابن عبد البر، وقال عمر : (موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه)، وقال ابن القيم: "ووجه قول عمر أن هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده، وأما العابد فنفعه مقصور على نفسه"، وعن الحسن قال: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالّ تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، اعلموا أن حاجتكم إلى العلماء فوق كل حاجة، فهم ـ والله ـ مصابيح الدجى وعلامات الهدى، فالعلماء في الناس كالشمس للدنيا والعافية للناس. فالناس لا يعرفون كيف يُعبد الله إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس واندرس العلم بموتهم، في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ـ أي: بوفاتهم ـ حتى إذا لم يبق عالمًا اتَّخَذ النّاس رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوا بغير علم فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد: 41]، قال: (خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها)، وقال مجاهد: "هو موت العلماء".
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
لقد فقدت المنطقة الشرقيّة ليلة البارحة علم من أعلامها وشيخ جليل، إنه فضيلة الشيخ حمد الزيدان، كان مديرًا للمعهد العلميّ، ثم مديرًا لمركز الدعوة، ثم عضوا فيه إلى أن وافته المنية رحمه الله. كان يتمتع رحمه الله بحسن الخلق والتواضع ولين الجانب والابتسامة الدائمة ومساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين، ويشهد له بذلك كل من عرفه.
نعم، لقد توفي الشيخ رحمه الله عن عمر يناهز الخمسة والخمسين عاما، توفي بعد أن ترك مئات الأنفس في صحائفه بإذن الله تعالى، توفي بعد أن ترك مئات الألسن تلهج له بالدعاء، توفي ولم يحقد على أحد ولم يؤذِ أحدا بقول أو فعل.
وإنه لمن المبشرات أن لحق بجوار ربّه ليلة الجمعة المباركة, متأثرا بداء في بطنه، وقد صح عن النبي أن المبطون شهيد.
فنسأل الله أن يبلّغه منازل الشهداء, وأن يلهم أهله الصبر والسلوان على فقده. اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم أبدله دارا خيرًا من داره وأهلاً خيرًا من أهله. اللهم اجعله ممن يدخل الجنة بغير حساب. اللهم أظله في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللّهمّ عن صحابة نبيك أجمعين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4940)
أسبوع المرور
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
2/1/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الإسلام للأنفس المعصومة. 2- أسباب الحوادث المرورية. 3- مسؤولية تحقيق السلامة المرورية. 4- إحصائيات عن الحوادث في المملكة. 5- من آداب الركوب. 6- إجراءات وقائية لا بد منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد عنِيَ الإسلام عناية كبيرة وفائقة بالنفس الإنسانية وكرامتها؛ ولأجل ذلك جاءت التشريعات لحمايتها وعقوبة من يتعدى عليها. وشريعة محمد إنما جاءت لحفظ الضروريات الخمس: الدين والعرض والنفس والعقل والمال.
إلا أن الحوادث المرورية في هذا البلد الأول إسلاميًا هي أيضًا الأعلى نسبةً في العالم أو من أعلاها، فهل التناسب الطرديّ هذا طبيعيٌ ومُقَرّ شرعًا، أم أنه ضدّ الطباع السوية، فضلاً عن أن دين الله تعالى ينهى صراحة عن قتل النفس، بل توعّد بالعقاب الشديد والعذاب الأليم لمن أزهق نفسًا بغير حق حتى لو كانت نفسه؟! قال : ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردّى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسّى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يده يجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري. وكثير من الحوادث إنما تأتي نتيجة التهور والبطر والاستهتار وعدم أخذ الحيطة والحذر والتوقي باتِّباع الإرشادات المروريّة والأنظمة المرعيّة في قيادة السيارات.
إنَّ تجاوزَ السرعة النظامية وقطع الإشارات أبلغ الأسباب في وقوع الحوادث، كما أن الاستمرار في قيادة السيارة والسائق مجهد ـ أيًا كان الإجهاد ـ يسهم كثيرًا في ارتفاع نِسبة الحوادث، وقد أثبتت التجارب والدراسات أن ثمة علاقةً بين السرعة وبين قدرة السائق على التصرّف أثناء مفاجآت الطريق، فالمثبت علميًا أنه كلما زادت السرعة تضاءلت القدرة على التحكم بالسيارة.
إن تحقيق السلامة المروريّة مسؤولية مشتَرَكة تتطلّب تضافر الجهود وتعاون الجميع، ليس من الإنصاف ولا من العقل ولا من الحكمة إلقاء اللوم في وقوع الحوادث على طرف دون آخر، والعملية يتحكَّم فيها ثلاث جهات: السيارة والسائق والطريق. والحق الذي يجب أن يقال ويُعلم: إن السيارات في هذا البلد من أفضل السيارات عالميًا من حيث الجملة، وأمّا الطرق فإن المملكة من أوائل بلدان العالم شقًا للطرق وتحديثًا لها وصيانة، وأمرٌ ثالث يُذكر فإنَّ نسبة عالية من السيارات يقودها شباب، والشباب عادة أحرف وأعرف الناس بمهارة القيادة والإبداع فيها، ومع ذلك فإن ضحايا الحوادث يشكّل الشباب فيها نسبة عالية، وما ذاك إلا للأسباب السالف ذكرها من تهور وبطر واستهتار وعدم استشعار للمسؤولية.
إن الأرقام لا تكذب، ومن تلك الأرقام ما يلي:
يقع على طرقات المملكة تسعة ألاف حادث دهس للمشاة سنويًا، نسبة عالية من محصلاتها الوفاة، وما يزيد على مائة وخمسين ألف حادث سنويًا، متوسّط الوفيات فيها يتجاوز الثلاثة آلاف وخمسمائة شخص في السنة، وعدد المصابين ثمان وعشرون ألف وخمسمائة شخص، كثير منها إعاقة دائمة.
وكشفت الإحصائيات أنَّ نسبة الحوادث المرورية في مؤشر مرتفع من عام إلى آخر من حيث الحوادث والمتوفين والإصابات؛ مما يشير إلى عدم تحقيق تقدّم يذكر في كافة ومختلف برامج التوعية والإرشادات التي تُبثّ من حين لآخر، مما يعني ضرورة مراجعتها والبحث عن عوامل وقائيةٍ أخرى، إضافة إلى الإجراءات المعمول بها حاليًا. وفي هذا الصدد يلاحظ مما يلي:
أولاً: أن الإنسان مادة وروح، ونحن مجتمع مسلم لنا قيَمنا، وديننا يتضمّن أعظم شريعة تنظم حياة الناس في جميع الجوانب، فالإجراءات المروريّة الأمنية مطلوبة، ولكن لماذا لا يعطَى الجانب الروحي حقه أيضًا في هذه المسألة، فتعالج المشكلة وينظر إليها على أنها قضية شرعية أيضًا؟! لماذا نستوحِش من طرح الموضوع طرحًا شرعيا ويتكلم فيه أصحاب الشأن وأهل العلم المعنيون بالجوانب الشرعية؟! هل الإسلام يقرّ الاستهتار بحياة الآخرين أو يوافق على ترويع الآمنين؟! ما إثم المتهاون والمتساهل؟ وما عقوبة المستهتر والمتهور؟
ثانيًا: من الآداب الشرعيّة عند ركوب السيارة أن يقرأ المسلم دعاء الركوب، وهذا الدعاء له دلالات منها: 1- البدء والتبرك باسم الله الأعظم، 2- الاعتراف الكامل بأن هذه المركبة نعمة من الله خصك بها وحُرمها كثير آخرون غيرُك، فلا يجوز لك أن تبطر أو تكفر أو تتكبر، 3- تقديس الله جل وعلا: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 13] أي: مطيقين وغالبين، فلولا رحمة ربي وتوفيقه وحفظه ما ركبتُ هذه السيارة، ولما سخر لي الأرض ومهد الطريق، 4- وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف: 14]، اعتراف بالحشر، ومناسبة هذا الاعتراف واستحضاره عند ركوب السيارة أو أي مركب غيرها أن الراكب متعرّض للهلاك بما يُخاف من حادث صدام أو انقلاب أو غرق السفينة أو تحطم الطائرة ونحو ذلك، فأمر المسلم بذكر الحشر، ليكون مستعدًّا للموت الذي قد يعرض له. وكم من شخص خرج من بيته معافى سليمًا، ثم جاء الخبر بوفاته. وفي تذكر الحشر كسر لطبع الغرور والكبر والتعالي.
ثالثًا: من الإجراءات الوقائية التي تَحدُّ وتُخفّف من ارتفاع الحوادث السعي الجاد في تجفيف منابعه. إنّ مظاهر الفسوق والبطر وخاصة ما يقع من الشباب أعقاب المباريات الرياضية أو ما يقع منهم ومن غيرهم في نهاية الاحتفالات التي لا يذكر فيها الله إلا قليلاً، إن هذه نُذر عقوبات، قد لا تقتصر على مرتكبيها، بل تتعدى إلى غيرهم إذا لم تنكر وتغير. نسبة عالية من الحوادث تقع في رمضان، وخاصة نهاية الشهر المبارك، لماذا تنقلب الأوضاع في رمضان، فيصير الليل نهارًا والنهار ليلاً؟! إذا كان المبرر لذلك مقبولا إلى حدٍ ما أيّامَ مجيء رمضان في الصيف وشدّة الحر فإنها مرفوضة كليًا حين يأتي رمضان في الشتاء. إن مصادمة سنن الله تعالى في المعاش والمنام سبب فعّال في نشوء المصائب وارتفاع نسبة الحوادث والمشاكل وحلول النقم والكوارث والفتن.
رابعًا: بدأت تتفشّى في المجتمع وفي وكالات بيع السيارات بيوعٌ فاسدة لا يقرّها الشرع، يلجأ إليها ضعاف النفوس حينما تقلّ المادة في أيديهم ويصرون على امتلاك سيارة، ومعلومٌ حرمة الربا ومحق الله له، وأن صاحبه في حرب مع الله ورسوله، فيا ترى من المهزوم في معركة طرفها الجبار جل جلاله؟!
فاتقوا الله عبادَ الله، واتقوا يومًا ترجَعون فيه إلى الله، واعلموا أن الأمر جدٌ ليس بالهزل.
اللهم آمنا في أوطاننا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4941)
الحوادث المرورية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
16/6/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إحصاءات حوادث المرور في المملكة. 2- ضرورة الكلام في هذه القضية. 3- نعمة المراكب. 4- مظاهر سلبية في الطرقات. 5- وجوب التقيد بأنظمة المرور. 6- التحذير من أذية المسلمين. 7- القيادة فن وذوق وخلق. 8- أسباب الحوادث ونتائجها وتبعاتها. 9- كلمة للشباب. 10- اشتراط الرشد في سائق السيارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فسوف أطرح عليكم بعض الأرقام أرجو أن تكون معبِّرة عن نفسِها:
تقول الإحصاءات المرورية في السعودية: إن هناك إنسانا يموت كل ساعتين نتيجةً لحادث مروريّ، وإن هناك حوالي 8 مصابين خلال هذه الساعتين، أي: أنه خلال السنة يموت لدينا أكثر من أربعة آلاف شخص، ويصاب أكثر من اثنين وثلاثين ألف آخرين، وخلال العشر سنوات الماضية توفي في الحوادث المرورية لدينا في المملكة أكثر من أربعين ألف، وأصيب أكثر من ثلاثمائة واثنين وثلاثين ألف آخرين بإعاقات دائمة. أرجو ـ معاشر المؤمنين ـ أن تتأمّلوا في هذه الأرقام عن بلدنا، حيث تقدَّر الخسائر المادية سنويا بحوالي عشرين مليار ريال. والسؤال أيها المسلمون: لماذا وصلنا إلى هذا الحال؟
ما دار بخلدي يوما أن أخطب الجمعة في هذا الموضوع، فكان هناك من وسائل الإعلام والنشرات ما هو قائم بهذا الدَّور، ولكن مثل هذه الأرقام تجعل من الواجب أن يتحدَّث الواعظ والخطيب عن هذه الأمور التي تمسّ حياتنا اليومية، وديننا الحنيف لم يترك شاردة ولا واردة إلا وكان له فيها توجيه، أَهانت علينا الدماء إلى هذه البساطة؟! في كل ساعتين عشرة! كم من عائِلة فقَدت أبناءها أو تيتَّمت ذرّيّاتها أو هم على الكراسي، فهذا فقد بصرَه، وذاك فقد قدمَيه، وآخر يده، وآخر فقد القدرة على الحركة، وآخرون لم يجِدوا إلا باطن الأرض. لو كنا في معركة حربيّة وكنا نفقد هذه الأعداد لكانت فاجعة، ولعُدَّ هذا من الهزيمة، ولقد حارَبَ أصحاب رسول الله مع النبيِّ عشر سنوات وكان هناك مائة شهيد فقط وهم من أفضل الشهداء عند الله، ونحن في عشر سنوات نفقد عشَرات الألوف تحتَ هذا الحدِيد الذي لا يرحم.
يقول الله تبارك وتعالى: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل: 5-8].
هذه نعمة ربكم عليكم، فيومَ أن كان الإنسان يقطع للشام أو اليمن شهرا وأكثر يقطعه اليوم في ساعات، فسخّر لنا الله هذه المراكب، فهي نعمة علينا واجبٌ شكرها، يقول الحق تبارك وتعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ.
هذه نعمة الله عليك أن هيّأ لك مركبا تغدو به وتروح وتقضي به مصالحك، وانظر إلى حالك وقد فقدت هذه النعمة فأصبحتَ تحتاج إلى هذا وذاك، أو تستأجر سيارة لأخذك إلى أين تريد، أفلا نشكر نعمة الله علينا؟!
جولة بسيطة في أيّ شارع من شوارعنا لا تحتاج لعناء لنجد كومًا هائلا من المخالَفات المروريّة، فهذا مسرِع بل الأغلبيّة مُسرِعون، وذلك مُعاكس للسّير، وهذا يقف وقوفًا خاطِئا، وآخرون واقفون في وسَط الطريق للسّلام، وآخر قاطع لإشارَة المرور، وذلك لا يعرِف حرمةً لإشارات الوقوف، وهؤلاء مراهِقون يفحطّون، وآخرون قد أزعجوا من حولهم بأصوات الموسيقى..
هذه مشاكل قد أَعيَت المسؤولين، والحل عندكم معاشر المسلمين، الحل أن نبدأ بأنفسنا فنخطّئها، لماذا لا نلزم أنفسنا من اليوم باتباع قواعد المرور؟! إن اتباع قواعد المرور وتعليماته ليست من الأمور المستحبّة، بل هي من الواجبات وكل من خالفها فهو آثم، هذه حقيقة لا بد أن نعلمها جميعا، كلّ من خالف تعليمات المرور وهو عالم غير جاهل مختار وغير مضطر فهو آثم ويكبر الإثم كلّما كبر الخطأ. أفتى بذلك كل من أعرف من كبار العلماء أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ العثيمين رحمهما الله وغيرهم كثير.
فالطرق هي مسالك الناس إلى شؤونهم، وتعليمات المرور هي تعليمات دوليّة مبنية على دراسات واحتياطات، ومخالفَة هذه التعليمات يسبّب المصائب والنكبات، يقول في إعطاء حق الطريق: ((غضّ البصر وكف الأذى)). فالمسلم ينبغي عليه أن يكفّ أذاه عن الناس، ولا شك أن بعض السائقين يؤذي الناس حينما يقود بتهوّر سواء اصطدم بهم أو أربكهم وأفزعهم، ولا شكّ أن السائق يؤذِي غيره حينما يقطع الإشارة سواء نتج عن هذا حادث أو لا، فعلى الأقل نتج عن هذا السلوك أخذ حق الغير والاعتداء عليهم، ولا شك أن من يعكس اتجاه السير قد آذى عباد الله، ولا شكّ أن من وقف وقوفا خاطئا قد آذى عباد الله، ولا شك أن من فحط بسيارته قد آذى نفسه وغيره، ولا شك أن من رفع صوت مسجّل سيارته قد آذى الله والملائكة والمؤمنين والناس أجمعين.
هذا الإيذاء ـ معاشر المسلمين ـ لا يشك عاقل في أنه سيئات تكتب على العبد، فنسأل الله السلامة، والبعض ربما لم يتبيّن له ذلك،.يقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ، ويقول الله تبارك وتعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ، وقال في وصف عباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا. فالسكينة السكينة يا قائد السيارة، فهذا حديد لا يرحم، وخطأ واحد يكلّف مآسي لا تندمل.
قديما قالوا في عبارة جميلة: إن القيادة فنّ وذوق وأخلاق، وهي مقولة صحيحة يا ليت كل سائق يتصف بها فيكون لا أقول: قائدا متحضرا، بل قائدا مسلما، فليست المهارة في السرعةِ والتفحيط وأشياء من هذا القبيل، ولكن حسن القيادَة في حسن التصرف والهدوء والرويّة وتجنّب الوقوع في المهالك أو إيقاع الآخرين بها.
والذوق يتجلّى في إكرام الآخرين حينما تترك حقَّك في العبور لغيرك، فيكون هذا ذوقا منك ولطفا وكرامة.
والأخلاق في القيادة تتجلى في أمور كثيرة، تتجلى أخلاقك في الوقوف الصحيح، وإذا أحببت أن تنظر للوقوف الصحيح فانظر إلى السيارات بعد الصلاة كيف تكون، فالبعض يضيق الطريق أو يغلق المكان على سيارة أخرى يقف أمامها أو خلفها، كلّ هذا حتى لا يمشي عدة خطوات أخرى، وهكذا تجد الناس وقوفا بشكل مقزّز عند متجر مكوَّمين لا يريد أحدهم أن يقف على بعد أمتار أخرى أبعد، هذا أبعد ما يكون عن الأخلاق.
سوء الأخلاق تتجلى في التلاسن والبصق عند ورود أيّ خطأ، فتجد السباب والشتائم واللعن والبصق، فأي أخلاق إسلامية هذه التي ننتسب إليها؟!
أيها المسلم، يا من أعطاك الله هذه النعمة وساقها إليك، لماذا تجحد هذه النعمة؟! لماذا يستعمل البعض هذه السيارة فيما يغضب الله؟! هذه السيارة التي تقودها تذهب بها إلى مكان مشبوه فتتعاطى به المسكرات، تقودها بعيدا عن أعين الناس وأعين رجال الأمن، ولكن أين تذهب من رقابة الله لك؟! وأنت يا من زيّنت سيارتك وعطرتها لتذهب بها إلى موعد غرامي أو لتتصيّد من بنات المسلمين من استهواها الشيطان، أين أنت من رقابة الله لك؟! يا من تتراقص على أغنية أعجبتك فتتمايل طربا يمينا وشمالا بهذه السيارة، ألا تتقي الله في نفسك؟! ألا تتقي الله في صحتك؟! أيغرك هذا الشباب وهذه الصحة وهذا المال في جيبك وهذه السيارة التي سخّرت لك؟! فبئس ما تفعل، ألا تشكر الله على النعمة والصحة والعافية؟! أهكذا تعامل نعمة الله عليك بالفسق والفجور؟!
كم سببت السرعة وقطع الإشارات وعدم تفقد السيارة والتهاون في إصلاحها من مآسي، إن النفس إذا أتلفت بالموت نتيجة حادث سيارة كان المتسبب السببَ في إخراج هذه النفس من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح، وكان سببا في حرمان أهله وأصدقائه وجيرانه ومجتمعه منه، وكان سببًا في ترميل زوجته إن كان ذا زوجة وتيتيم أولاده، وكان مستحقا عليه فوق ذلك دية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا، وإذا كانت أكثر من نفس زادت هذه المسؤولية وهذه الديات، وإن كان البعض قد استرخصوا الدماء وأصبحت لا تهمهم ولا يأبهون لها لأن هناك من سوف يدفع عنهم ولكن يبقى هناك حق لله الذي لا يمكن التنازل عنه وهو الكفارة بصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما يوما واحدا إلا من عذر شرعي، فلو أفطر يوما واحدا بدون عذر شرعي وجب عليه إعادة الصوم من جديد، فلو كان المتوفى بالحادث أكثر من واحد كان الواجب عليه في الصيام شهرين عن كل نفس، فإن كانا اثنين كان الصيام أربعة أشهر، وإن كانوا ثلاثة كان الصيام ستة أشهر، وهكذا لكل نفس شهران متتابعان.
إن من سوء الأخلاق وخبث الطوية أن يهرب إنسان من خطأٍ ارتكبه بسيارته، بعضهم قد يصدم سيارة واقفة فيذهب وكأن شيئا لم يحصل، بعضهم قد يدهس إنسانا أو يكون هو المتسبّب في الدهس فيهرب، ألا يظن هؤلاء أن الله لا تخفى عليه خافية، وأن الله بالمرصاد ودعوة المظلوم ليس بينها وبين ربك حجاب؟!
اعتاد كثير من الناس عند مشاهدتهم لحادث في الطريق الوقوف والتجمهر في عادة سيئة قبيحة، كل يريد أن يشاهد لكي يحكي في المجالس ما رأى، وليشبعوا فضولهم على حساب تعطيل الطريق، ولو طلب من أحدهم مساعدة لتراجع عن ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا أصحاب أخلاق وذوق في القيادة، اعكسوا جمال الإسلام بتصرفاتكم، فنحن أحق بالأخلاق من غيرنا.
معاشر الشباب، يا زهرة شباب الأمة، الأخلاق الأخلاق والسكينة السكينة، اعرفوا نعمة ربكم عليكم، واشكروها له، وكونوا شبابا تفخر الأمة بكم وبأخلاقكم.
أيها المسلم، إذا ركبت سيارتك فإن هناك توجيها قرآنيا وأدبا نبويا، جيءَ لخليفة المسلمين علي بن أبي طالب بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ، ثم قال: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟! فقال: رأيت النبي فعل مثل ما فعلت ثم ضحك، فسألته فقال : ((إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري)).
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ الآية.
هذه الآية نزلت في شأن الولي القائم على اليتيم، ولكنها تشمل كل من كان تحت يده صبيان، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله عز وجل يطلب منا ـ معاشر المؤمنين ـ أن لا ندفع بأموالنا التي جعل الله فيها مصالحنا الدينية والدنيوية للسفهاء، والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف بالمال.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن السيارات هي من أنفس الأموال؛ لأنها تكلف الشيء الكثير، ودفعها للسفهاء من الصغار مخالفة صريحة للقرآن الكريم؛ لأن السفيه سوف لا يحسن التصرف بهذه السيارة، فمن عادته السرعة أو التفحيط أو التهور في القيادة أو فقدان السيطرة على السيارة في المواقف المفاجئة أو إهمال السيارة حتى يلحقها الأذى والضرر.
والملاحظ أن كثيرًا من الآباء اليوم يدفعون بسياراتهم لأبنائهم أو شراء سيارات جديدة لهم، إما تحت إلحاح الولد أو أمه، وإما برغبة الأب في أن يريحه ابنه من بعض المهمات، ويكون ذلك على حساب ما ذكرنا من حصول مصائب أو مضايقات وإزعاج للناس، فما الحل السليم السديد في هذا؟
لقد ذكر الله الحل السليم والسديد وهو ربط دفع الأموال سواء للسيارة أو غيرها بأن يكون هذا الولد رشيدا، قال تعالى: وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ أي: سن البلوغ والرشد والتكليف، فماذا قال الله؟ هل نعطي اليتيم ماله وهو ماله وحقه هل نعطيه الآن المال إذا بلغ هذه السن؟! لا، ولكن قال: فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ.
فهذه الآية تضمنت أمرين لدفع الأموال للصغار إذا كبروا، الأول: اختبار هؤلاء الأولاد وامتحانهم وتجريبهم، فإن أثبت الابن أنه رشيدٌ وعاقلٌ ومتزن يحسن التصرف حين ذلك ندفع إليه المال، فقد غدا رجلا، وإن امتحن فكان فيه طيش ولا يحسن التصرف فهذا يؤجّل دفع المال له حتى يكون رشيدا، وهذا لا يوجد سن تحكمه، والغالب اليوم في الأمور الرسمية أن الابن إذا بلغ الثامنة عشرة سمح له بحمل رخصة القيادة، ولكن ليس المهم أن يجتاز الابن اختبارات رجال المرور، ولكن الأهم من ذلك كيف يتصرف إذا جلس خلف عجلة القيادة، هل هو يعرف قيمة الذي يركبه ويقدّره ويحافظ عليه وعلى نفسه وعلى ممتلكات الآخرين وأرواحهم، أم أن به طيشا واستهتارا ولا مبالاة، فلا يحافظ على سيارته التي أعطيت له ولا يهتم بمشاعر الآخرين وحقوقهم؟! هذا كله لا بد للآباء إن أرادوا السلامة أن يتخلّقوا بأخلاق القرآن عسى الله أن يجعل من أمرهم يسرا.
ثم صلوا وسلموا...
(1/4942)
آداب الطريق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطلب الأمن. 2- تحقيق الأمن بتكاتف الجهود. 3- حوادث السير. 4- آداب السير في الإسلام. 5- التحذير من السرعة. 6- حقوق الطريق. 7- ضرورة الالتزام بقواعد المرور. 8- التذكير بالأمن الحقيقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
أَيُّهَا النَّاسُ، لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ مَآرِبُ شَتَّى وَأَحْوَالٌ مُتَعدِدَةٌ، تَخْتَلِفُ أَدْيَانُهمْ وَتَوَجُّهَاتُهمْ، وَتَخْتَلِفُ رَغَبَاتُهمْ، إلاَّ أنَّ هُنَاكَ أُمُورًا هُمْ جَمِيِعًا مُجْمِعُونَ عَلَى طَلَبِهَا وَالبَحْثِ عَنهَا، بَلْ هِيَ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَيَظْهرُ هَذَا الأَمْرُ جَلِيًّا وَوَاضِحًا فِي المَطْلَبِ الَّذِي يُكَابِدُ مِنْ أَجْلِهِ شُعُوبٌ وَيَسْعَى لِتَحْقِيقِهِ فِئَامٌ كَثِيرُونَ، إِنَّهُ الأَمْنُ عَلى النَّفْسِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ.
الأمْنُ مَطْلَبٌ أَكِيدٌ لاَ تَسْتَقِيمُ الحَيَاةُ بِدُونِهِ، يَقُولُ : ((مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَومِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) رَوَاهُ التِّرْمِذَيُّ فِي جَامِعِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ لاَ يَقُومُ الأمْنُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ عِمَادُهُ إِلاَّ بِتَكَاتُفِ الجْهُودِ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا، فَرَجُلُ الأَمْنِ وَحْدَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَدِّلَ أَوْضَاعَ النَّاسِ مَا لم يُعَدِّلِ النَّاسُ أَنْفَسَهمْ وَيَنْشرُوا الوَعْيَ بَينَهُمْ.
إِنَّهُ وَإنْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى لَيسَتْ عِندَهُمْ مِنَ العُلُومِ المُتَقَدِّمَةِ مَا عِنْدَكُمْ؛ يَمْرَضُ المَرِيضُ فَلاَ يَسْتَطِيعَونَ عِلاَجَهُ فينْتظِرونَ مَوتَهُ، وَتَأتِيهم مِنَ الأوْجَاعِ مَا تَفْتِكُ بِبُلْدَانٍ كَامِلَةٍ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ حِرَاكًا، وَإنْ كَانَ النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَنِ قَدْ تَوصَّلُوا فِي الطِّبِّ إِلى عُلُومٍ مُتَقَدِّمَةٍ، يَحَاوِلُونَ مُحَارَبَةَ المَرَضِ قَبلَ وُقُوعِهِ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ هَبَّوا لِعِلاَجِهِ، غَيرَ أَنَّ هُنَاكَ مَرضًا آخَرَ يَفْتِكُ ببَنِي البَشَر وَهُم فِي أَوجِ حَيَاتِهمْ وَأحَسَنِ صِحَّتِهمْ، مَرَضٌ لاَ يَعْرِفُ كَبيرًا وَلاَ صَغِيرًا وَلاَ رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً، بَلْ مَتى تَوَفَّرَتْ أسْبَابُهَ وَدَوَاعِيِه فَتَكَ بِمَنْ شَارَكَ فِيهِ، إِنَّهُ حَوادِثُ السَّيرِ والطُّرُقِ، حِينَ غَفَلَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِ الأَسْبَابِ وَالاحْتِيَاطَاتِ وَخَالَفُوا الأَنْظِمَةَ وَقَعَ مَا وَقَعَ.
أيُّهَا النَّاسُ، لَقَدْ شَرَعَ لَنَا الإِسْلاَمُ كَثِيرًا مِنْ أُمورِ الدُّنْيَا عَلَى وَجهِ التَّفْصِيلِ، بَلْ إِنَّهُ مَا مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَضْلاً عَنْ أُمُورِ الدِّيِن إلا ولاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ في الإِسْلاَمِ، سَوَاء كَانَ ذَلِكَ العِلْمُ صَرِيحًا خَاصًّا بِذَلِكَ الأَمْرِ بِعَينِهِ أَوْ دَاخِلاً تَحْتَ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ.
وَإنَّ مِمَّا أَوضَحَهُ لَنَا دِينُنَا آدَابَ السَّيرِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيهِ سَالِكُ الطَّرِيقِ.
وَإِنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ يَعْرِضُ هُنَا هُوَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ يَقْولْهُ إِذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ مُسَافِرًا: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمنْقَلِبُونَ. فَأَوَّلَ شَيءٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِم أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي يَسَّرَهَا لَهُ؛ يَصِلُ بِهَا إِلى البَعِيدِ، وَتَحْمِلُه دُونَ عَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ، فَهَذِهِ المَرَاكِبُ وَأَشْكَالُهَا دَاخِلَةٌ فِي نِعْمَةِ اللهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا، وَلِهَذَا لمَّا رَكِبَ نُوحٌ السُّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا.
أَخْذُ العُدَّةِ اللازِمَةِ عِنْدَ أَدَاءِ أَيِّ عَمَلٍ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِم، يَقُولُ : ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)) رَوَاهْ البيهَقِي بِسندٍ حَسَنٍ. وَانْظُرُوا مِثَالاً تَطْبِيقيًّا لِهَذَا المَعْنَى وَهُوَ أَخْذُ العُدَّةِ، قَولُهُ : ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلَيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رَوَاهْ مُسْلِمٌ. فَإِذَا كَانَ المُسلِمُ قَد أُمِرَ بأَنْ يَستَعِدَّ إذَا أَرَادَ ذَبَحَ البَهِمَةِ فَسَائِق السَّيَّارَةِ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِتَفَقُّدِ كُلِّ مَا مِنْ شَأنِهِ سَلاَمَتهُ وَسَلاَمَةُ مَنْ مَعَهُ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَ الرَّحْمَنِ بِصِفَاتٍ تُؤَهِّلُهُمْ لِنَيلِ الجَنَّاتِ، فَكَانَ مِنْ أَوْصَافِهمْ: وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ فِي الأَرْضِ هَوْنًا ، فَالْمؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ إِذَا مَشوا فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ فِي اقْتِصَادٍ، حُلَماءُ مُتَوَاضِعونَ، وَالقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ السَّمْتِ مِنْ أَخْلاَقِ النُّبُوَّةِ، وَيَقُولُ لَمَّا رَأَى سُرْعَةَ النَّاسِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهُمْ عَلَى دَوَابِّهمْ قَالَ: ((عَلَيكُمْ بِالسَّكِينةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضاعِ)) رواه البخاري، وَرُوِيَ فِي صِفَتِهِ أَنَّه كَانَ إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعًا وَيَخْطُو تَكَفُّؤًا وَيَمْشِي هَوْنًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الوَجْهِ، وَقَالَ ابنُ عَطِيَّةَ: الإِسْرَاعُ يُخِلُّ بِالوَقَارِ وَالخَيْرُ فِي التَّوَسُّطِ.
وَيَقُولُ اللهُ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 18، 19]، وقال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]، وَنَهَى أَنْجَشَةَ عَنْ حَدْوِ الإِبْلِ حَتَّى لاَ تُسْرِعَ وَفَوقَهَا النِّسَاءُ: ((يا أَنْجَشَةُ، رُوَيدًا سَوقَكَ بِالقَوَارِيرِ)) مُتَّفَقٌ عليه.
عِبادَ اللهِ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ سُرْعَةِ المَشْيِ عَلَى الأَقْدَامِ لمَا يَدُلُّ عَلَيهِ مِنَ الطَّيشِ والزَّلَلِ وَمَا يُؤَدِي إِليهِ مِنَ تَعَثُّرٍ وَتَهوُّرٍ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَكْونَُ مِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَ السَّيرُ بِآلَةٍ تَنْهَبُ الأَرْضَ بِعَجَلاَتِهَا، تُسَابِقُ الرِّيحَ أَوْ تُطَاوِلُ الجِبالَ، تُؤَدِّي إِلى المَهَالِكِ مَا بَينَ قائدهَا وَبَينَ المَوتِ إِلاَّ خَلْخَلةُ مِسْمَارٍ أَوْ عَطَبُ مُحَرِّكٍ.
عبادَ اللهِ، حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَمَعَ خِصَالاً وَآدَابًا مِنْ آدَابِ السَّيرِ فِي الطَّريقِ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغَيرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُم إِلاَّ المَجْلِسَ فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((غَضُّ البَصَرِِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمرُ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ)) ، وَفِي رِوَايةٍ : ((حُسْنُ الكَلاَمِ)) ، وَفِي رِوَايةٍ أُخْرَى: ((وَإِرْشَادُ ابنِ السَّبِيلِ وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ إِذَا حَمِدَ)) ، وَزَادَ أَبُو دَاودَ: ((وَتُغِيثُوا المَلْهُوفَ وَتَهدُوا الضَّالَّ)) ، وَزَادَ أَحْمَد والتِّرْمِذيُّ: ((اهْدُوا السَّبِيلَ وَأعِينُوا المَظْلُومَ وَأفْشُوا السَّلاَم)) ، وَزَادَ البَزَّارُ: ((وَأَعِينُوا عَلَى الحُمُولَةِ)) ، وَزَادَ الطَّبَريُّ: ((ذِكْرُ اللهِ كَثِيرًا)). فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَدَبًا مِنْ آدَابِ الطَّرِيقِ لَوْ طَبَّقَهَا النَّاسُ لَمَا وَجَدُوا تَصَرُّفَاتٍ هَوْجَاءَ وَلاَ أَفْعَالاً مُسْتَنْكَرَةً.
وَإِنَّ مِمَّا نُهِيَ المُسْلِمُ عَنْهُ ـ وَهِيَ مِنْ أَهم مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَشعِرَهَا الرَّاكِبُ وَالمَاشِي ـ أَنْ يُرَوِّعَ أَخَاهَ المُسْلِمَ وَأنْ يَرْفَعَ حَدِيدَة عَلَيهِ، ((لاَ يُؤمِنُ أَحدُكمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
وَالمُجَامَلَةُ وَالتَّسَامُحُ بَينَ السَّائِقِينَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّرِيقِ مِمَّا دَعَا إِليهِ الدِّينُ، فَحُسْنُ الخُلُقِ مِنَ الإِيمَانِ، وَخَيرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُم خُلُقًا، وَإِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، وَقَالَ : ((رَأيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي غُصْنِ شَوكٍ أَزَالَهُ عَنِ الطَّرِيقِ كَانَ يُؤذِي المَارَةَ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسْلِمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوه إِنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ لله حَمدًا كَمَا أَمَرَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعدْ: فَاتَقُوا اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ جَميعًا، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الدِّينْ جَاءَ لِتَحَصيلِ المَصَالِحِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ، وإِنَّ قَاعِدَةَ المَصْلَحَةِ وَالمَفْسَدَةِ بِهَا يَسْتَقيمُ دِينُ المَرْءِ وَتَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُ، وَإِنَّ جَلْبَ كُلِّ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى النَّاسِ بِالخَيرِ هِيَ مَطْلَبُ الشَّرْعِ المُطَهَّرِ، كَمَا أَنَّ دَرْءَ المَفَاسِدِ وَتَعْطِيلَهَا مِنْ أَسَاسِيَّاتِ هَذَا الدِّينِ، فَكُلُّ مَا يَجْلِبُ للنَّاسِ الخَيرَ مِنْ مُسْتَجِدَّاتِ العَصْرِ فَقَدْ جَاءَ الأَمْرُ بِهِ تَحتَ هَذِهِ القَاعِدَةِ، وَكُلُّ مَا يَجْلِبُ للنَّاسِ الشَّرَّ مِنْ مُسْتَجِدَّاتِهمْ فَدَاخِلٌ فِي المَفَاسِدِ الَّتِي سَعَى الشَّرْعُ إِلَى إبعَادِهَا.
وَمِنْ هُنَا فَكُلُّ مَا كَانَ مُعِينًا عَلَى تَنْظيمِ سَيرِ النَّاسِ وَالحِفَاظِ عَلَى أَرْوَاحِهمْ فَإنَّ الدِّينَ يَسْعَى لَهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَإشَارَاتُ المُرورِ وَعَلاَمَاتُ الطُّرُقِ وَتَحْدِيدُ السُّرْعَاتِ وَتَحْدِيدُ المَسَارَاتِ كُلُّهَا وُضِعَتْ لأَجْلِ المُحَافَظَةِ عَلَى النَّاسِ، فَمُخَالفَتُهَا مُخَالَفَةٌ لِهَذِهِ القَاعِدَةِ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْصِيلِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيهَا، فَأَقِيمُوا لِهَذَا الأَمْرِ قَدْرَهُ.
أَيُّهَّا النَّاسُ، إِنَّنَا وَإِنْ تَكَلَّمَنَا عَنْ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا فَإنَّ الأَمْنَ الحَقِيقيَّ الَّذِي يَجبُ السَّعْيُ إِلَيهِ وَلَنْ يَنْجُوَ إِلاَّ مَنْ حَصَّلَه هُوَ الأَمْنُ يَوْمَ القِيَامَةُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل: 89]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: 45، 46].
عِبَادَ اللهِ، إنَّ الإِنْسَانَ وَإِنْ مَنَحَهُ اللهُ نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالطَّمَأْنِينَة فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ فِي مَأْمَنٍ تَامٍّ مِنْ أَنْ يَحِيقَ بِهِ سَخَطُ اللهِ وَعَذَابُه عَاجِلاً أَو آجِلاً، فَإنَّ الأَمْنَ إِنَّمَا هُوَ لِلمُؤمِنينَ، أَمَّا الكُفَّارُ فَلاَ أَمْنَ لَهُمْ وَلاَ أمَانَ، الأَمْنَ لِعبَادِ اللهِ الصَّالحِينَ الَّذٍِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَجْتَنِبُون نَوَاهِيه، أَمَّا الَّذِينَ يَسِيحُونَ فِي الأَوْهَامِ وَيَسْدرُونَ فِي الغِوَايَة وَيَعْمَلُونَ السَّيئَاتِ وَتُمَنِّيهِمْ نُفُوسَهُمْ وتُطْمِعُهُمْ بِالأَمْنِ مِنَ اللهِ وَالإِفْلاَتِ مِنْ عُقوبَتِهِ فَقَدْ خَسِرَتْ أَعْمَالهُمْ وَسَاءَ ظَنُّهُمْ وَفَاتَهُمْ التَّحَفُّظُ وَأَخْذُ الحَيطَةِ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97-99]، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47].
وَيَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ عَظِيمَةٍ تُصَوِّرُ مَثَلاً للنَّاسِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
عِبَادَ اللهِ، إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...
(1/4943)
شمس الرسالة المحمدية
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/11/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النعمة العظمى. 2- الرحمة المهداة. 3- أثر الإسلام في البشرية. 4- المدنية الإسلامية. 5- أساس الدعوة إلى الله تعالى. 6- حرية الدعوة لعقيدة الإسلام. 7- التحذير من ردود الأفعال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها المسلِمونَ، لَئِن تَتَابَعَت النِّعَم وترادَفَتِ المِنَن وتكاثرَت الآلاء فكانت غيثًا مِدرارًا لا ينقطع هُطوله وفيضًا غامِرا لا يتوقَّف تدفّقه، عطاءً كريمًا من ربِّنا الكريم الرحمنِ الرَّحيم، وتَفَضُّلا منه على عبادِه بِغَير استحقاق، وإحسانًا منه بغير استِكراه؛ إذ لا مستَكرِهَ له سبحانَه، فإنَّ النّعمة الكبرى التي لا تعدِلها نعمةٌ والمنّة العظمَى التي لا تَفضُلُها مِنّة بِعثةُ هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس برسالتِه منَ الظّلمات إلى النور، ولِيهديهم به سُبُل السلام، ويَضَع عنهم الآصارَ والأغلال، وليسمُوَ بهم إلى ذُرى الخير والفضيلة، ويَنأَى بهم عن مهَابِط الشرّ وحمأةِ الرذيلة، وليسلُكَ بهم كلّ سبيل يبلِّغهم أسبابَ السعادة في العاجلة والآجلة؛ ولِذا كانت بعثتُه صلوات الله وسلامه عليه رحمةً للخَلقِ كافّةً ونعمةً على البشَر قاطبةً كما أخبر بذلك سبحانه في أصدَق الحديث بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، فكانت رسالتُه صلوات الله وسلامه عليه رَحمةً للخلق جميعا، عَرَبِيِّهم وأعجميِّهم، أسودِهم وأبيَضهم، ذَكَرهم وأنثاهم، إنسِهم وجانِّهم؛ إذ جاءَهم ـ كما قال بعض أهل العلم ـ بهذا الإيمان الواسِعِ العَميق والتَّعليم النبويّ المتقَن بهذه التربيةِ الحكيمة الدقيقةِ وبشَخصيّته الفذّة وبِفضل هذا الكتابِ السماويّ المعجِز الذي لا تنقضي عجائِبُه ولا تخلَق جِدَّته، فبعث عليه الصلاة والسلام بالإنسانيّةِ المحتَضَرة حياةً جَديدة حين عَمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداسٌ من المواد الخَام لا يعرف أحَدٌ غنَاءها ولا يُعرَف محلُّها، وقد أضاعَتها الجاهليَة والكفر والإخلادُ إلى الأرض، فأوجَدَ فيها ـ بإذن الله ـ الإيمانَ والعقيدة، وبثَّ فيها الروحَ الجديدة، وأثار من دَفائِنِها وأشعَل مواهبها، ثم وضَعَ كلَّ واحِد في محلّه، فكأنّما خُلق له، كأنما كان جمادًا فتحَوّل جسمًا ناميًا وإنسانًا متصرِّفًا، وَكأنما كانَ ميتًا لا يتحرّك فعَادَ حَيًّا يملي على العالم إرادَتَه، وكأنما كان أعمى لا يبصِر الطريق فأصبَحَ قائدًا بَصِيرا يقود الأمم، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].
عَمدَ إلى الأمّة العربية الضائعة وإلى أناسٍ مِن غيرها فما لبث العالم أن رأى مِنهم نوابغَ كانوا من عجائبِ الدهر وسوانِح التاريخ، فأصبح عمرُ الذي كان يرعى الإبل لأبيهِ الخطّابِ ويَنهَره وَكانَ مِن أوساط قريشٍ جَلادة وصرامة ولا يَتَبوّأ منها المكانةَ العُليا ولا يحسب له أقرانه حِسابًا كبيرًا، إذا به يفجَأ العالمَ بعبقريَّتِه وعِصامِيَّته، ويدحَر كسرى وقيصَر عن عروشهما، ويُؤسِّس دولة إسلاميّة تجمع بين ممتلكاتهما، وتفوقهما في الإدارةِ وحُسن النظام، فضلاً عن الورَع والتقوَى والعَدل الذي لا يَزال فيه المثَلَ السائر.
وهذا ابن الوليد كان أحدَ فرسانِ قريش الشّبّان، انحصَرت كفاءته الحربيّة في نطاقٍ محلِّيٍّ ضيِّق، يَستعين به رؤساءُ قريش في المعارك القبلية، فينال ثِقتَهم وثناءَهم، ولم يحرِزِ الشهرةَ الفائقة في نواحي الجزيرة، إذ به يلمَع سيفًا إلهيًّا لا يقوم له شيءٌ إلا حصده، وينزل كصاعقةٍ على الروم، ويترُك ذِكرًا خالِدا في التاريخ كرمزٍ متجسِّد للعبقرية الإسلامية العسكرية.
وهذا بلالٌ الحبشيّ يبلغ فضله وصَلاحه مَبلغًا يلقّبه فيه أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بالسيِّد.
وهذا سالم مَولى أبي حُذيفة يرى فيه عمر موضعًا للخلافة فيقول: (لو كان سالم حيًّا لاستَخلَفته).
وهذا عليّ بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن العبّاس ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم قد أصبَحوا في أحضانِ النبيِّ الأميِّ من علماءِ العالَم، يتفجَّّر العِلم من جوانبهم، وتنطِق الحكمة على لسانهم، أبرُّ الناس قلوبًا وأعمقُهم علمًا وأقلُّهم تكلّفًا، يتكلّمون فينصت الزَّمان، ويخطبون فيسجِّل قَلم التاريخ.
ثمّ لا يلبَث العالَم المتَمَدِّن أن يرى من هذهِ الموادّ الخامّ المبعثَرة التي استهانت بقيمتِها الأممُ المعاصرة وسخِرت منها البلاد المجاوِرة، لم يلبث أن يرى منها كُتلةً لم يشاهِدِ التاريخ البشريُّ أحسَنَ منها اتِّزانًا، كأنها حَلقة مُفرغَة لا يُعرَف طَرَفها، أو كالمطر لا يُدرى أوّلُه خير أم آخره. هِي كتلةٌ فيها الكفاية التامّة مِن كل ناحية من نواحِي الإنسانية، كانت بفضلِ التربية الدينيّة المستمِرّة وبفضل الدعوةِ الإسلاميّة التي لا تزال سائرةً مادّةً لا تنقطِع ومعينًا لا يَنضب، لا تزال تُسنِد الحكومةَ برجالٍ يرجِّحون جانبَ الهداية على جانِب الجباية، ولا يَزالون يجمَعون بين الصَّلاح والكفاية، وهنا ظهَرتِ المدنيّة الإسلاميّة بمظهرها الصحيح، وتجلّت الحياة الدينيّة بخصائصها التي لم تتوفّر في عَهد من عهود التاريخ البشري. لقد وضع محمّد مفتاحَ النبوَّة على قُفل الطبيعةِ البشرية، فانفتح على ما فيهَا من كنوزٍ وعَجَائِب وقوى ومواهِب، أصاب الجاهليّة في مقتلِها وصَميمِها، فأَصمى رَمِيَّتَه وأرغَمَ العالَم العنيدَ بحول الله على أن يَنحوَ نحوًا جديدًا ويفتَتِح عهدًا سعيدًا، ذلك هو العهدُ الإسلاميّ الذي لا يزَال غرّةً في جبين التّاريخ. انتهى كلامه رحمه الله.
عبادَ الله، لقد كان التوفيقُ العَظيم والنّجاح الباهر حَليفَ النبيِّ في بناءِ المجتمع المسلِم وإقامة الدولةِ الإسلاميّة، وكذلك الأمرُ في إرسائه قواعدَ العلاقات مع غير المسلمين وفي مَنهَج التعامُل معهم في كافّة الأحوال، فمَعَ كون الإسلام رسالةً عالميّة ودعوة ربّانيّة للبشريّة قاطِبةً لا تختصّ بزمانٍ دون زمان ولا بمكَان دونَ مَكان ولا بقومٍ دون آخرين كما قالَ عزَّ اسمُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28]، فإنَّ الدعوةَ إليه قائمةٌ على الحبِّ والاختيار والاقتناع الناشئِ عن الحجَّة والبرهان والبلاَغ المبين، بَعيدًا عن القهرِ والإكراه والتَّخويف؛ ولذا كانَ قوله عزّ من قائل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ [البقرة: 256] مِن أظهر أسُس الدعوة وأعظمِها دلالةً على ذلك. وقد جاءت هذه القاعدةُ القرآنية العظيمة في صيغةِ نفي يُراد به النَّهي، فهو نَفيٌ لجِنسِ الإكراه للدلالةِ على استبعادِه بالكلِّية، ولبيانِ أنه لا يستقيم أبدًا ولا يَصِحّ وجودُه في دين الله الإسلام، فجَمَعت الآية الكريمة بهذا بينَ النفيِ لجنس الإكراه وبينَ النَّهي عن مُزَاوَلَتِه والعَمَل به، وذلك أبلغُ في البَيان وآكدُ في الدلالة وأدعَى إلى كمالِ الامتثال، وفي هذا مِن صيانةِ حرّيّة الاعتقاد ما لا مزيدَ عليه، قال العلامة الحافظ ابن كثير في التعليقِ على هذه الآية وبَسط مدلولها: "أي: لا تُكرِهوا أحدًا على الدُّخول في دينِ الإسلام، فإنه بيِّنٌ واضح جَليّ، ودلائلُه وبراهِينُه لا تحتاج إلى أن يُكرَه أحدٌ على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام وشرَح صدرَه ونوَّر بَصيرتَه دخَل فيه على بيِّنة، ومن أَعمَى الله قلبَه وخَتَم على سمعِه وبَصَرِه فإنّه لا يفيده الدخولُ في دين اللهِ مُكرَهًا مَقسورا"، وقال بعضُ أهل العلم بالتَّفسير في قولِهِ سبحانَه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]: "أي: لو شاء لقَسَرَهم على الإيمان، ولكن لم يفعل وبنى أمر الإيمان على الاختيار".
وكما أنَّ حريةَ الاعتقاد ـ يا عباد الله ـ حقٌّ مشروع في الإسلامِ لا يجوز سَلبُه ولا التعدّي على حماه فكذلك حريّة الدعوة للعقيدة، وكذلك الأمن من الأذى والفِتنَة في الدين حقّ آخر يجِب مراعاته وعَدمُ الإخلالِ به، وإلاَّ أضحت هذه الحريّة اسمًا لا مدلولَ له في واقع الحياة؛ ولذا شُرِع الجهاد في سبيل الله حمايةً لحقّ حرية الدعوة وإزالةِ الحواجز من أمامها، ولم يُشرَع أبدًا لظلمِ الناس أو إكراهِهِم على اعتناقِ الإسلام، بل إنَّ المسلمين لم يقَع منهم استغلالٌ لفقر الناسِ وحاجتهم لدَعوتهم إلى الإسلام لقاءَ تقديمِ العون لهم ومَسح البؤس عن جبينِهم، فلم يميّزوا على مدَى تاريخِهم بين مسلمٍ وغيره في مجالِ تقديم العونِ ورفع كابوسِ المحَن عن كواهِل من نزلت به، أفَيَصحّ القولُ إذًا بأنَّ الإسلام انتَشَر في أرجاءِ العالم بالعُنف والإكراه بحدّ السيف؟! إنها مقولةٌ متهافتة، بل باطلة بيِّنةُ البطلان، لا سنَدَ لها من نصوصِ وقواعد الدين ولا من تاريخه المشرِقِ الوضّاء، فكم من أمَمٍ دخل أبناؤها في دينِ الله طوعًا وتأثُّرًا بمن نزَل بلادَهم من خيار المسلمين للتجارةِ وغيرها، وهؤلاء الذين يَدخلون اليومَ في دين الله أفواجًا في مشارقِ الأرض ومغاربها في مختَلف البلاد أفَيَحملهم على ذلك سيفٌ أو إكراه؟! وهَل تستقيم هذه المقولةُ الجائرة وأمثالها معَ مبادئ وثقافةِ الحوار والتعايُشِ واحتِرام الآخر، أم أنها تصُبّ على النار وَقودًا جديدًا؟!
ألاَ فاتقوا الله عباد الله، والزَموا جانبَ العدل في كلّ أقوالكم وأفعالكم، واستجيبوا لله الذي أمَرَكم بقوله: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8].
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبِسنّةِ نَبِيِّه ، أَقولُ قولي هَذَا، وَأَستَغفِر اللهَ العَظيمَ الجَليلَ لي وَلَكم وَلِسائِرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ للهِ الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أَحمدُه سبحَانَه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه المبدِئ المعيد، وأَشهَد أنّ سيِّدَنا ونَبيَّنا محمّدًا عَبد الله ورَسولُه، اللَّهمّ صَلِّ وسلِّم على عَبدِك ورَسولِك محمّد وعلى آلهِ وصَحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ حسنَ التصرّف في الأمور وقوّةَ الثبات في النوائب وكفَّ النفس عن مقابلة الظلم بمثله وتقديمَ المشورة بين يدَي كلِّ عمَل لا سيما ما تعظم أهمّيّته وتتَّسِع أبعادُه وتخشَى عاقِبَته، وإنَّ الرجوع إلى أهل العلمِ لاستيضاحِ ما يشكل مع حُسنٍ ظنٍّ بهِم وكمالٍ تقدير لهم، وإنَّ الوقوف صفًّا واحدًا مع وليِّ الأمر المسلم بالطاعة له في المعروفِ والنصيحة والمعاونةِ له على كلِّ خير، إنَّ كلّ أولئك من جميلِ شمائل المؤمِن وكريم خصاله وشريفِ صفاته التي طابَ غِراسها وأينعت ثمارُها في رياضِ دينٍ حقٍّ هو الإسلام الذي يجِب على أهله كافّةً ويتعيَّن على أبنائه ومحبِّيه قاطبةً الحذرُ من الانسياق وراءَ سَورةِ الغضب التي تفضي إلى التردّي في أعمال متعجّلة متهوّرة، أو التورّط في سلوكيّاتٍ خاطئة محرَّمَة، كالقتلِ أو التخريبِ أو الحرق أو غيرِ ذلك من ضروبِ الفساد الذي حرَّمه الله ورسولُه، ويَكون سببًا وفُرصة يهتَبِلها المغرِضون لإلصاقِ مزيدٍ منَ التهمٍ بالإسلام وأهله، ولإقامة البرهان على صحة ما يزعمون من دعاوى باطلة، بيِّنٍ عوارُها، باطلٍ مقصدها وأهدافها.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا على الذَّودِ عَن دينِكم والذّبِّ عن قرآنكم ونبيِّكم بحكمةٍ ورَوِيّة وعلمٍ وإخلاصٍ لله ومتابعةٍ لرسول الله.
واذكروا علَى الدَّوامِ أنّ اللهَ تعالى قَد أمَرَكم بالصّلاةِ والسَّلام على خاتمِ النبيين وإمَام المرسلين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4944)
أمراض القلوب وعلاج ذلك
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
11/5/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل سلامة الصدور. 2- منزلة القلب من الجسد. 3- أهمية معرفة أمراض القلوب. 4- أقسام القلوب. 5- صفات القلب الحي. 6- علامات مرض القلوب. 7- السبيل لصلاح القلب. 8- التحذير من الذنوب والمعاصي. 9- مداخل الشيطان. 10- ضرورة تغذية الروح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيها المؤمنون، بينما كان الصحابة رضي الله عنهم ذات يوم في المسجد والنبي بين ظهرانيهم إذ به يفاجئهم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بخبر تشرئبّ له النفوس المؤمنة وتحبّ أن تتنافس إليه لتصلَ إلى تلك المنزلة، يقول النبي : ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، فالتفتت الأبصار كلّها إلى باب المسجد لتنظر من الداخل، فإذا به أحد الأنصار تنطِف لحيته ماء من آثار الوضوء، ممسك نعليه بيده، حتى جلس مع الصحابة رضي الله عنهم، وفي اليوم الثاني يقول النبي : ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، يقول أنس رضي الله عنه راوي الحديث: فدخل نفس الصحابي الذي دخل اليوم السابق، وفي الثالث يقول النبي : ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)). فيا سبحان الله! إذا به نفس الصحابي الذي دخل في اليومين السابقين، فما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه إلا أن أخذه التنافس والرغبة في الجنة، فتبع ذلك الأنصاري وقال له: يا عماه، إني لاحيتُ أبي، وإني أريد أن أذهبَ معك إلى بيتك، قال: حبًّا وكرامة، ولم يكن قصد عبد الله بن عمرو إلا النظر إلى عمل ذلك الرجل، قال: فكنت أرمقه وأنظر إلى عمله، فلم أره يعمل كثير عمل، ليس هناك عمل كثير يعمله غير أنه كان إذا تعارّ من الليل أي: تقلَّب في فراشه؛ مما يدلنا ـ يا عباد الله ـ حرص الصحابة على التنافس على الخير، عبد الله بن عمرو بن العاص غلام يافع لم يصل عمره أربعة عشر عاما، يبيت الليل كلّه ساهرا يراقب هذا الصحابي ماذا يعمل ليعمل مثل عمله فيفوز بالجنة، قال: والله، ما رأيته إلا أن يصلي العشاء الآخرة ثم يعود إلى بيته فينام، وأنا أرمقه طيلة الليل ثلاثة أيام تباعا، يراقبه عبد الله بن عمرو لينظر إلى عمله، قال: غير أنه كان إذا تعارّ من الليل أي: تقلب في فراشه ذكر الله تعالى، ثم يصلي الفجر، قال: فلما رأيت ما رأيت قلت: يا عماه، إنه لم يكن بيني وبين أبي من بأس، ولكني سمعت النبي يقول ثلاثة أيام تباعا: ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فتدخل أنت، فأحببت أن أنظر إلى عملك فأقتدي بك، قال: يا ابن أخي، هو والله ما رأيتَ، هذا هو عملي، فلما ولى عبد الله بن عمرو ناداه قال: تعالَ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق. رواه أحمد والبزار وقال البيهقي: "رجال أحمد رجال ا لصحيح".
إنه صفاء القلب يا عباد الله، إنها سلامة الصدر، إنه صحة القلب عندما يكون القلب صحيحًا من الأمراض والحسد والذنوب والمعاصي، ويكون مقبلا على الله سبحانه وتعالى، يصل المسلم إلى تلك المنزلة العالية التي شهد له بها النبي ثلاثة أيام، إنه القلب ملك الأعضاء ـ يا عباد الله ـ الذي هو المتصرّف والقائد الذي يبيّن النبي أنه هو الأساس للصلاح والفساد: ((وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري، بل إن القلب ـ يا عباد الله ـ مناط التكليف الإلهي، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) أخرجه مسلم، فالقلب ـ يا عباد الله ـ هو الملك، وهو المتصرف بالجسد، وهو الذي يسير الإنسان، وهو الذي يكون عليه التبعة والمسؤولية، وهو الأمر الذي ينبغي أن يهتمّ به الإنسان؛ ولهذا نجد الحديث الصحيح المروي في صحيح مسلم الذي يرويه لنا حذيفة رضي الله عنه يبيّن لنا أهمية القلب فيقول رضي الله عنه: سمعت النبي يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)) ، هذا الذي قبِل الفتن قبِل الذنوب قبِل المعاصي، فأصبح أسود مربادًا منكوسًا لا يفرق بين خير أو شر، والآخر الذي أنكر الذنوب الذي أنكر الفتن الذي أنكر الشهوات والشبهات الذي أقبل على الله تعالى: ((والآخر أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض)) رواه مسلم.
إنه القلب ـ يا عباد الله ـ إنه القلب الذي يجهل كثير من المسلمين أمراضه، ولا يلاحظون هذه القضية المهمة في الوقت الذي تجدهم يبحثون ويسافرون ويستشيرون في البحث عن أمراض القلب العضوية وأمراض الجسد العضوية، ولا يبحثون عن الأمراض النفسية، عن الأمراض المعنوية، عن الأمراض التي ربما تكون سببًا في شقائهم يوم القيامة لا قدر الله.
إن العبد المسلم الحريص على مستقبله وعلى خيره وعلى سعادته هو الذي يبحث أمراض القلوب النفسية والإيمانية أكثر من العضوية، لماذا؟ لماذا يا عباد الله؟ لأن الأثر المترتب على فساد القلب العضوي ـ لا قدر الله ـ هو فساد الدنيا فحسب، أن تنتهي حياة الإنسان في هذه الدنيا، بينما إذا فسد قلبه من الصلة بالله تعالى فإن حياته الدنيا والآخرة ستفسد، تفسد دنياه وآخرته ـ يا عباد الله ـ التي هي الحياة الحقيقية، حياة الآخرة هي الحياة الحقيقية.
والقلوب ـ يا عباد الله ـ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، لينظر كل واحد منا من أي الأقسام قلبه: قلب سليم وهو الذي يقبله الله تعالى يوم القيامة، وهو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]، سليم من الشبهات، سليم من الشهوات، سليم من البعد عن الله سبحانه وتعالى، وقلب ميت وهو قلب الكافر والمنافق الذي لا يفرق بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، الذي يقوده هواه، الذي تكون الدنيا أكبر همّه ومبلغ علمه، الذي يعبد الشيطان والعياذ بالله تعالى، والقلب الثالث وهو القلب المريض الذي فيه خير وشرّ، وفيه حسن وقبيح، فمرّة يقبل على الله، ومرّة يقع في المعصية، فلأيهما كان الغلبة كان.
يا عباد الله، لنعلم هذه القضية المهمة، ولنعرض أنفسنا على العلاجات الإيمانية التي تصلح قلوبنا، فصفاء القلب ـ يا عباد الله ـ وصفات القلب الحي السليم بعدّة أمور، يراجع كل منا هذه الصفات ليعلم هل قلبه سليم، هل قلبه كما أراد الله سبحانه وتعالى.
من ذلك كثرة الذكر؛ فإن صاحب القلب السليم يكثر الذكر لله سبحانه وتعالى دائمًا وأبدًا، ويجد لذته وأنسه في ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا ينفك أبدًا عن الذكر؛ لأنه يعلم أن ذكر الله تعالى حياته، وأن الصفاء كل الصفاء في ذكر الله والإقبال على القرآن الكريم وعلى مواطن العبادة.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ أن صاحب القلب السليم يؤدّب نفسه إذا وقع في معصية أو بعُد عن الله سبحانه وتعالى، ويحس بالحسرة والندم أنه عصى ربه عز وجل، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (المؤمن يرى ذنبه كأنه جالس في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا) رواه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا وصححه الألباني. إذًا المؤمن يتألم بالمعصية إذا وقع فيها، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فالمؤمن إذا وقع في المعصية أقبل على ربّه وتاب وأناب، وأنَّب نفسه وعاد إلى خالقه عز وجل.
ومن ذلك أنه يجد لذّته في العبادة ويحنّ إليها، ولهذا كان النبي يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)) رواه أبو داود وصححه الألباني، ويقول : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. فالعبد صاحب القلب السليم يحنّ إلى العبادة، إذا غاب فترة عن العمرة أقبل وذهب واعتمر، إذا حنَّ إلى الصيام تنفّل، إذا غاب قليلاً عن القرآن أحسّ بالظلمة فأقبل على كتاب الله، إذا غاب عن النوافل عن الصدقة عن الذكر عن جلسات الذكر عن الجلسات الإيمانية أحسّ بتلك الظلمة وحنّ إلى العبادة وأقبل إليها. بينما المنافق ـ يا عباد الله ـ يجد في العبادة وحشة، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. ورد في الأثر أن المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، والمنافق في المسجد كالطائر في القفص، يرى أنه محبوس يتمنى أن يخرج من هذا القفص، بينما صاحب القلب السليم يجد أنسه وراحته في العبادة والذكر. فليلاحظ كل منا نفسه يا عباد الله.
من ذلك أنه إذا فاته ورده من العبادة تحسر وندم، لو فاتته صلاة الفجر مثلاً ندم، لو فاته الوتر تحسر، لو فاته صيام النافلة تحسر، لو فاته ورده من القرآن الكريم تحسر وندم وأحس بالضيق والكرب. فهذه من علامات صحة القلوب يا عباد الله.
من ذلك أنه يحن إلى كلام الله ويجد أنسه وراحته في تلاوة القرآن الكريم، يقول عثمان رضي الله عنه: (والله، لو صفت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا)، فليراجع كل منا نفسه يا عباد الله.
وأما علامات مرض القلوب فهي بالعكس، فمن ذلك أنه لا تؤلمه جراحات المعاصي، لا تؤلمه الذنوب، بل يجاهر بالذنوب ويفتخر، فإذا جلس مع أصحابه قال: فعلت كذا وكذا وصنعت كذا وكذا، وهذا هو القلب الميت، وما لجرح بميت إيلام، ((وكل أمتي معافى إلا المجاهرين، يذنب الإنسان الذنب فيستره ربّه عز وجل فيصبح يجاهر يقول: فعلت كذا وكذا)) متفق عليه، ولذلك صاحب القلب المريض وصاحب القلب الميت لا يتألم بالمعاصي، لا يتحسر، لا يندم، بل إن المعصية تجرّ أختها، وإذا عمل معصية قام وعمل أخرى وأخرى، فتجده منهمكًا في المعاصي والمنكرات والعياذ بالله تعالى، لا يجد ألم المعصية في قلبه، ولا يتحسر على أنه عصى ربه عز وجل، قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه ورحمه: (لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظم من عصيت)، إنك عصيت الله سبحانه وتعالى. الذنوب ـ يا عباد الله ـ تميت القلوب، فليبتعد كل منا عن الذنوب ولو كانت صغائر.
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
لا تقل: هذا صغير، وهذا أمر يسير، وهذا لا بأس به، فإن الصغائر تجتمع فتصبح كبائر، (لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار).
ومن ذلك أنه لا يوجعه جهله بالحق ولا جهله بالقرآن ولا جهله بالعبادة ولا جهله بالذكر ولا جهله بطاعة الله سبحانه وتعالى، بينما تجد صاحب القلب السليم يحرص على العلم وعلى المعرفة وعلى سؤال أهل الذكر وعلى أن يستفتي في أمر دينه، بينما ذاك لا يضره ذلك، بل جاهل بأمر دينه، ويرى أنه من أعلم الناس. قالوا: سئل أحد السلف: ما أضر شيء من الجهل؟ قال: الجهل بالجهل.
ومن ذلك يا عباد الله، من علامات مرض القلب أنه يعدل عن الأدوية النافعة إلى السموم، صاحب القلب المريض والقلب الميّت يعدل عن الأدوية الإلهية الربانية التي هي سبب دواء القلب وشفائه من ذكر الله ومن تلاوة القرآن ومن جلسات الذكر ومن التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي إلى الأدوية المميتة، إلى السموم والعياذ بالله، فتجده منهمكًا في المعاصي، منهمكًا في سماع الغناء الذي هو من أسباب موت القلب كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الغناء ينبِت النفاقَ في القلب كما ينبت الماء البقل) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي. فتجده منهمكًا في سماع الأغاني وفي سماع الغيبة والنميمة وفي سماع الزور وفي النظر إلى التمثيليات الساقطة الهابطة، وهذه هي الأدوية التي تقضي على القلب ـ يا عباد الله ـ وتهلكه وتميته.
ومن ذلك تجد أن الدنيا أكبر همه، فإن أحب فمن أجلها، وإن أبغض فمن أجلها، وإن والى فمن أجلها، وإن عادى فمن أجلها، فأصبحت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فمن أجلها يعيش والعياذ بالله.
يا عباد الله، إذا أراد المسلم أن يصلح قلبه فعليه أن يسلك العبادات الإيمانية، وإن من أهمها خمس علاجات أرشدنا إليها النبي ، وأرشدنا إليها خيار الأمة من الصحابة والتابعين، فهي شفاء للقلب وجلاء لأمراض القلب، فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد يا عباد الله، وإن جلاءه ذكر الله تعالى، فأدوية القلب الناجعة خمسة:
أولاً: ذكر الله وتلاوة القرآن والمداومة على ذلك.
ثانيًا: كثرة الاستغفار، فـ ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب)) رواه أبو داود في سننه، وكان النبي يستغفر الله في المجلس الواحد ـ كما يقول عبد الله بن عمر ـ أكثر من مائة مرة. أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
ومن ذلك الدعاء والإقبال على الله سبحانه وتعالى بالدعاء واللجوء إليه سبحانه وتعالى.
ومن ذلك الصلاة على النبي دائمًا وأبدًا، قال النبي : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)). قال أحد الصحابة: يا رسول الله، أجعل لك نصف صلاتي؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)) ، قال: أجعل لك ثلثي صلاتي؟ أي: دعائي، قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)) ، قال: أجعل لك دعائي كله؟ أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا تكفى همك ويغفر ذنبك)) رواه الترمذي وقال الألباني: "حسن صحيح". البخيل من ذكر عنده النبي فلم يصل عليه.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ قيام الليل ولو كان شيئًا يسيرًا، فإن قيام الليل شفاء للنفوس، شفاء للقلوب، شفاء للأمراض؛ لأنه في ساعة لا يراك فيها إلا الله سبحانه وتعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله، فكما أن الطاعات تكون سببًا في حياة القلوب فكذلك المعاصي والمنكرات هي من أسباب مرض القلب بل هلاكه.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيْر لنفسك عصيانُها
فإذا أراد المسلم حياة لقلبه فليبتعد عن الذنوب، الذنوب ـ يا عباد الله ـ سبب للهلاك والدمار، فماذا كان سبب خروج الوالدين آدم وحواء من الجنة إلى هذه الدنيا؟! وماذا كان سبب هلاك إبليس وطرده من ملكوت السماوات والأرض؟! وماذا كان سبب هلاك الأمم السالفة قوم عاد وثمود ولوط وفرعون وغيرهم من الأمم الذين أهلكهم الله تعالى وأنزل عليهم العذاب؟! ألم تكن الذنوب؟! ألم يكن البعد عن الله سبحانه وتعالى؟! ألم يكن عصيان المولى عز وجل؟! فإذًا إذَا أراد المسلم لقلبه الحياةَ فليبتعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
فعلى المسلم أن يبتعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، وإذا وقع في معصية فليعجل بالتوبة والإنابة والإقبال على الله سبحانه وتعالى والذكر والطاعات، ((وأتبع السيئة الحسن تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ولنبتعد ـ يا عباد الله ـ عن مداخل الشيطان على القلوب، فإن مداخل الشيطان على القلوب كثيرة، والشيطان يتحين الفرص التي يدخل منها على قلب العبد المؤمن، فمن ذلك الشهوات والغضب والحرص على الدنيا والتهالك عليها والحسد والبخل وخوف الفقر وسوء الظن بالمسلمين، كل ذلك من مداخل الشيطان التي يحاول أن يدخل منها إلى القلب، فليبتعد المسلم عن هذه الآفات. كما أنه ينبغي أن يعود إلى كتاب الله وإلى سنه رسوله وإلى ما كتبه علماء الأمة عن أمراض القلوب، فيبتعد عن تلك الأمراض، ويعالج نفسه بذكر الله سبحانه وتعالى، ويعالج نفسه بالذكر والعبادة.
ولنعلم ـ يا عباد الله ـ أن المسلم بل الإنسان مخلوق من مادتين: مادة جسد ومادة روح، فللأسف الشديد أن كثيرًا من الناس ينشغلون بالجسد وينسون الروح، فيغذون جانب الجسد وينسون تغذية الروح، جانب الروح لا يغذى بالطعام والشراب، وإنما يغذى بالذكر والعبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فإذا أهملت الروح ماتت وذبلت وعاش الإنسان في بعد عن الله سبحانه وتعالى. ينبغي أن يفهم الإنسان هذه القضية؛ أنه مخلوق من مادتين، فكما أنه يغذي جانب الجسد ويحرص على ذلك ينبغي أن يحرص على تغذية جانب الروح حتى لا يهلك ويبعد ويبتعد عن الله سبحانه وتعالى.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4945)
وأذن في الناس بالحج
فقه
الحج والعمرة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
26/11/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج ركن من أركان الإسلام. 2- أصل مشروعية الحج. 3- حكم الحج. 4- منزلة الحج وفضله. 5- آداب الحج. 6- الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:197-199].
أيها المسلمون، يقترب منا هذه الأيام موعد فريضة من فرائض الله التي افترضها علينا سبحانه وحث عليها في كتابه، كما حث عليها رسوله وندب إليها، هذه الفريضة هي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام التي هي ركن من الأركان التي قام عليها بناء الإسلام العظيم، وركيزة من الركائز المهمة لهذا الدين الحنيف، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) متفق عليه.
الحج إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكه المعروفة أمر فرضه الله سبحانه على عباده وشعيرة قديمة من شعائر الله، كان ابتداء أمر الحج في عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، فهو الذي بنى البيت وأمره الله سبحانه بدعوة الناس إلى الحج قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:26-29].
أذن إبراهيم عليه السلام بالحج فاستجاب الناس لهذا الأذان وأمّوا البيت زرافات ووحدانا رجالا وركبانا، ومنذ أن نادى نبي الله إبراهيم عليه السلام ذلك النداء الذي تردد في أرجاء الكون صارت تلك الديار القاحلة الشديدة الحرارة ذات الجبال السود بأمر من الله وتدبير منه سبحانه وإجابة لدعاء خليله عليه السلام صارت مهوى لأفئدة المسلمين، تحن إليها قلوبهم وتشتاق إليها أفئدتهم، ذلك الدعاء الذي رفعه إبراهيم عليه السلام عندما ترك زوجه وولده بذلك الوادي المقفر الذي ليس به شجر ولا بشر، فقال مشفقا مبتهلا: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فصار الناس منذ ذلك الحين ومنذ تلك الدعوة يهوون إلى ذلك المكان على مر السنين والأيام، ليس هذا فحسب بل صار ذلك الوادي ملتقى للمسلمين من كل مكان وبقعةً مباركة تتكدس فيها الخيرات من كل حدب وصوب؛ استجابة أيضا لدعاء الخليل الذي قال فيه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، وبقي الحج إلى البيت الحرام والطواف بالبيت على ما أرساه إبراهيم عليه السلام من دين الحنيفية السمحاء ردحا من الزمن، ثم حُرفت مناسكه وضاعت ملامحه التي كانت على عهد إبراهيم حتى جاء رسول الله فعاد الحج عبادة إسلامية تقوم على توحيد الخالق وتبتعد عن كل شرك أو وثنية.
أما حكم الحج ـ أيها المسلمون ـ فإنه فرض كما هو مقرّر في كتاب الله وسنة رسوله ، وكما بينه فقهاء الأمة، فالحج على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع واجب، وأكثر العلماء على أن الحج واجب على الفور لا على التراخي، أي: متى توفرت شروطه والقدرة عليه وجب على المسلم أداؤه مرة في العمر، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا)) ، فقال رجل: أكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله : ((لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم)) ، ثم قال: ((ذروني ما تركتم)) أخرجه مسلم.
فلا ينبغي لمسلم يخاف الله سبحانه ويرجو لقاءه لديه الكفاية والاستطاعة أن يفرط في هذا الأمر أو يؤجله بدون سبب وجيه؛ فإنه لا يأمن على نفسه غضب الله القائل سبحانه: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. هذا تأكيد واضح على فريضة الحج ووعيد شديد على المتهاون فيها، يقول القرطبي كما في أحكام القرآن عن هذه الآية يقول: "هذا خرج مخرج التغليظ؛ ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه" انتهى. كما أن الإنسان ـ إخوة الإيمان ـ لا يدري من مستقبل أيامه شيئا، ولا يعلم ما يجدُّ عليه من أمر الله وقضائه، ولا يضمن لنفسه في مستقبل الأيام أجلا ولا صحة ولا رزقا، فكيف يؤخّر هذه الفريضة بعد أن وجبت عليه وقدر عليها إلى وقت لا يعلم ما يقضي الله فيه؟! لهذا فقد أمرنا رسول الله بتعجيل حجّ الفريضة وعدم التسويف فيه، يقول : ((تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد عن ابن عباس.
أما منزلة الحج فيكفي ـ كما قلنا ـ أنه ركن أساسي من أركان الدين وأحد أهم معالمه التي عرّف بها رسول الله الإسلام عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام وهو بين أصحابه، بل إن رسول الله يشير في حديث آخر إلى الحج على أنه من بين أفضل الأعمال عند الله، وكلنا يتطلع إلى القيام بالأعمال التي فضلها الله سبحانه وأعلى شأنها حتى ننال أجرها وثوابها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) أخرجه الشيخان.
لهذا وجب على كل مسلم لم يؤد هذه الفريضة أن يتطلع لتأديتها، وأن يدعو الله سبحانه أن يمكنه من القيام بها امتثالا لأمر الله وسعيا لنيل ثوابها العظيم، هذا الثواب الذي تواترت به الأحاديث والأخبار، والذي لا ينبغي للمسلم أن يزهد فيه وهو يسمعه من كلا م من لا ينطق عن الهوى رسول الله ، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود: ((أديموا الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) ، هكذا تصنع هذه الفريضة بالمسلم الصادق كما يبين ، تنفي عنه الفقر والذنوب، وهذا أمر مهم للمسلم في دنياه وأخراه، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، يبين في هذه الكلمات النبوية المباركة أن الله سبحانه بمنه وفضله يكفر ما بين العمرتين، ثم يبين عليه الصلاة والسلام أنه لا ثواب للحج المبرور المقبول عند الله إلا الجنة، وهل هناك أعظم من الجنة؟! هل هناك أعظم من هذه الجائزة التي يتشوف إليها كل مسلم مؤمن حتى أنبياء الله عليهم السلام؟! ويكفي الحاج فخرا وعزا ورفعة أنه يقدم على الله الذي يكرم وفده سبحانه ويَحبوهم ويتفضل عليهم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن ابن عمر.
هكذا ـ أيها المسلم ـ تتوجه إلى تلك الرحاب الطاهرة بقلب موحّد ونفس طيبة وكسب حلال طيب، فتؤدي مناسكك، وتتوب إلى ربك سبحانه، وترفع أكف الضراعة والاستجداء، كلّ هذا بتوفيق منه سبحانه لا منة لك فيه، ومع هذا يكون جزاء ذلك أن تنفَى عنك الذنوب وينفى عنك الفقر، يكون جزاء ذلك أن تسأل الله فيعطيك ويتفضّل عليك، يكون جزاء ذلك أن تمحى سيّئاتك وتعود بعد حجك بصحيفة بيضاء ناصعة وكأنك ولدتَ للتوّ. أما إذا مات الحاجّ الذي يبتغي بحجّه وجه الله إذا مات حال حجه فتلك الكرامة العظمى وتلك الجائزة السنية من رب البرية، هذا الحاج يبعث ـ أيها المسلمون ـ على ما مات عليه، يبعث في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة محرما ملبيا، وكأنه لا زال يؤدي مناسك حجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا كان مع النبي فوقصته ناقته ـ أي: طرحته فدقت عنقه ـ وهو محرم فمات، فقال رسول الله : ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيّا)) أخرجه النسائي، فما ظنكم برجل يأتي إلى الحساب وهو يحمل معه دليل إيمانه وشهادة توحيده؟! ما ظنكم برجل يأتي إلى فصل الخطاب وهو يقول لمولاه الذي سيحاسبه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟!
أسأل الله أن لا يحرمني وإياكم فضله، وأن يمن علينا بحجة مبرورة، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلاة وسلاما على خاتم رسلك وأفضل أنبيائك، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، وعلى مريد الحج أمور لا بد أن يراعيها وأن يحرص عليها إذا أراد أن يكون حجه مبرورا وسعيه مشكورا، من هذه الأمور أن قاصد الحج يجب عليه أن يتخذ لحجه نفقة من حلال، فلا ينبغي أن يكون المال الذي يحج به الحاج مالا حراما أصله سحت، فالنفقة الحلال شرط للحج المبرور، يقول فيما أخرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)) الحديث، فكيف يسوغ أن تتوجه إلى الله وإلى بيته الحرام طالبا عفوه ومغفرته وأنت تصطحب لذلك مالا تعلم أنه حرام؟! فأي حج هذا؟! وأي عبادة هذه؟! وقد صدق من قال:
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
كما ينبغي للحاج أن يكون عمله وعبادته خالصة لوجه الله ليس من ورائها رياء ولا سمعة، بل لا يبتغي بها إلا وجه الله سبحانه، يقول سبحانه: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وعن أبي أمامة أن رسول الله قال: ((إنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه)) أخرجه النسائي، فالإخلاص والنية الصادقة شرط لنجاح العبادة وقبولها، وينبغي للحاج أيضا أن يتخلّق بالخلق الحسن أثناء حجه، وأن يتحلى بالصبر والحلم والعفو والأناة، وهذه الأمور من أهم الأسباب في الفوز بالحج المبرور، يقول سبحانه: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ، كما أن رسول الله عندما تعرض للحج المبرور إنما ذكر المعاملات والأمور الأخلاقية والالتزام بعموم الشرع، ولم يذكر تفاصيل المناسك ولا ترتيبها، يقول : ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) أخرجه البخاري.
هذا هو معنى الحج المبرور: التخلق بالخلق الحسن، وقد ورد ما يؤيد هذا المعنى في حديث آخر يفسّر فيه معنى البر في الحج، يقول كما في صحيح الجامع من حديث جابر: ((إن بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام)).
كل هذه ـ إخوة الإيمان ـ أمور ينبغي للمسلم أن يحرص عليها إذا أراد التوجه إلى تلك الرحاب الطاهرة وتلك البقاع المباركة إذا أراد أن يرجع منها بحج مبرور وسعي مشكور وتجارة لن تبور، أسأل الله أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/4946)
عشر ذي الحجة ويوم عرفة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
3/12/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحمة الله. 2- أبواب الرحمة. 3- ظاهرة التقصير في مواسم الخيرات. 4- فضل عشر ذي الحجة. 5- ما يشرع في هذه الأيام الفاضلة. 6- فضل يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد كتب الله على نفسه الرحمة، ونشر سبحانه رحمته بين العباد، وجعلها واسعة بفضله حتى وسعت كل شيء، يقول سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، فما على الإنسان إلا أن يتلمس مواقع رحمة الله ومظانها، فيشدّ الرحل إليها ويعرض نفسه لها.
وأبواب الرحمات التي فتحها الرحمن لعباده كثيرة تحيط بالمسلم من كل مكان، يوفّق الله إليها من أخلص وصدق، ويصرف عنها الأشقياء.
فتح سبحانه أبواب الرحمة في ذاته وصفاته، فهو الرحمن الرحيم المنعم على خلقه بأجزل الثواب وأسنى العطايا التي هي خير ما يتحصل عليه العبد، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. وفتح سبحانه باب الرحمة من جهة رسوله ، فهو رحمة الله المهداة ونعمته المسداة، قال عنه مولاه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. وفتح سبحانه باب الرحمة والفضل من جِهة الأماكن والبقاع، فجعل بعضها مهبطا للرحمات وموطنا للبركات ومكانا لمضاعفة الحسنات، يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجة عن جابر: ((صلاةٌ في مسجدِي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) ، ويقول : ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها)) أخرجه الترمذي عن ابن عمر. وفتح سبحانه باب رحمته من جهة الأيام والأزمان، فجعل بعضها موسما لمضاعفة الحسنات وفرصة للتعرض للرحمات، قال : ((إن الله تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فنادى: هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر)) أخرجه مسلم.
كل هذه وغيرها مواطن لرحمة الله سبحانه ومصادر لفضله وإحسانه، ونحن سنتعرّض في هذه الخطبة إلى رحمات الله وبركاته ونفحاته من جهة الأيام والأزمان، سنتعرض إلى أيام من أيام الرحمات والحسنات والخير والبركات، هذه الأيام هي عشر ذي الحجة ويوم عرفة الذي هو يوم من هذه الأيام العشر.
لقد ولجنا منذ يومين إلى ساحة هذه الأيام، ونحن الآن فيها، فنحن مدعوون في هذه الأيام الفاضلات وهذه الساعات المباركات إلى تلمّس رحمة الله والسعي إلى مرضاته وفضله. والشيء الذي يبعث على الأسى ـ إخوة الإيمان ـ أننا في كل عام تمرّ علينا مثل هذه الأيام وتسنح لنا مثل هذه الفرص، ولكنها في كل عام تضيع منا ونخرج منها ونحن لا نعقل على أنفسنا أننا قدّمنا فيها من صالح الأعمال شيئا يستحق الذكر إلا الصلوات الخمس، بل إننا نعمر هذه الأيام في أكثر الأحيان بما يملأ صحيفة أعمالنا بما لا يسرّ من قيل وقال ولغو ولهو وسهر فيما لا يفيد، فلماذا هذا الإصرار على تضييع الفرص العظيمة؟! لماذا هذه الاستهانة بعطايا الله وهداياه التي وراءها العز والرفعة، والتهافت على ما في أيدي المخلوقين الضعفاء مما ليس وراءه إلا الذل والهوان؟! لماذا الزهد في نعيم الآخرة والرغبة في حطام الدنيا؟! فرِّغوا أيديكم عباد الله، واخرجوا من شواغلكم، ونظموا أوقاتكم، وخططوا لاستثمار هذه الأيام، وليضع كل منا أمامه احتمال أن لا يدرك هذه الأيام في العام القادم حتى يحفز نفسه على العمل والعبادة، فالموت في كل عام يختطّف منا إخوانا لنا فلا يدركون الكثير من الفرص والأيام التي ندركها، ثم سيختطفنا أيضا في يوم من الأيام فلا نطمع في بلوغ هذه الأيام الفاضلة مرة أخرى.
هذه ـ إخوة الإيمان ـ أيام فضلها الله سبحانه وأقسم بها فقال عز من قائل: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5]، يقول ابن كثير في تفسيره: "والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة، وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف" انتهى.
ويقول تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات هي أيام العشر)، وذهب بعض أهل العلم إلى أن سبب تفضيل هذه الأيام على أيام السنة أن أنواع القربات كلها تشرع في هذه الأيام، يقول ابن حجر في فتح الباري: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره" انتهى، لهذا كان سلفنا الصالح يعظمون هذه الأيام ويقدرونها حق قدرها، فيجدّون ويجتهدون في مرضاة الله، قال أبو عثمان النهدي كما في لطائف المعارف: "كانوا ـ أي: السلف ـ يعظّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم".
هذه أيام وليال قال فيها كما في صحيح الجامع من حديث جابر: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر)) ، هكذا بلغةٍ واضحة وبيان فصيح، بل يزيد الأمر وضوحا وتجلية فيقول : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) ، يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري عن ابن عباس. فانظروا إلى هذا الفضل العظيم وإلى هذه المنزلة الرفيعة التي تبوّأتها هذه الأيام المباركة، ولو لم يكن من شرف هذه الأيام إلا أن بها يوم عرفة لكفاها شرفا وفضلا، فكيف وهي مفضلة بجملتها، أقسم بها الباري عز وجل؟! هذا شرف لا ينبغي أن يمر على المسلم دون أن يقف عنده ويتأمله ويحاول استغلاله قدر استطاعته فيما ينفعه ويؤمنه يوم القيامة.
ولهذه الأيام ـ عباد الله ـ آداب وأعمال فاضلة تستحبّ فيها وقربات يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه؛ استفادة من هذه الظروف وهذه الفرص، وتقديرا لهذا التفضيل الإلهي لهذه الأيام، ولا يفهم من هذا التفضيل أن نعمل في هذه الأيام وننام في سواها، بل إن الأمر يكون بأن نجتهد في هذه الأيام أكثر من غيرها، عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) أخرجه أحمد. ولنلاحظ قوله : ((فأكثروا)) ، فهذا دليل على أن الإنسان مطالب بأن يكون ذاكرا لله في كل حياته، لكنه في هذه الأيام يضاعف جهده ويكثر من الذكر؛ لأنها أيام تجلٍّ ونفحات ربانية، فهذه إذًا أيام يُفضّل فيها ذكر الله، يفضل فيها على الخصوص التهليل والتكبير والتحميد، والصيغة المفضلة التي تجمع كل هذا أن يقول العبد: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، قال البخاري في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران فيكبر الناس بتكبيرهما".
والأعمال الصالحة في هذه الأيام يقول العلماء: غير محصورة ولا مخصوصة بعبادة معينة أو قربة خاصة، فكل القربات التي يُتقرب بها إلى الله تشرع في هذه الأيام، فيستحب فيها الصلاة والصيام والحج والعمرة والذكر وتلاوة القرآن والصدقات، إلى غير ذلك من أعمال صالحة بناءً على قوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) ، فهذا التعميم والإطلاق في قوله : ((العمل الصالح)) يعني أن كل الأعمال الصالحة مطلوبة في هذه الأيام، وهذا من سعة رحمة الله وفضله، فلو كانت قربة هذه الأيام مخصوصة بتلاوة القرآن لحُرِم فضلها من لا يتقِن قراءة القرآن، وإذا خصصت بالصيام لحُرِم مَن لا يقدر على الصيام، لكنها صالحة لكل قربة يتقرب بها العبد، ففضل الله واسع وثوابه مبذول لجميع خلقه، وكل ميسر لما خلق له، فاستبقوا الخيرات عباد الله، ولا تكونوا من العاجزين.
ومن آداب هذه الأيام أنه يسن للمسلم الذي يريد أن يضحي أن لا يأخذ في هذه الأيام من شعره أو أظفاره شيئا حتى تنتهي هذه الأيام ويضحي، عن أم سلمة أن رسول الله قال: ((من كان له ذبح يذبحه فإذا أهلّ هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي)) أخرجه مسلم. قال بعض أهل العلم: "والحكمة في هذا النهي أنَّ المضحي لما شارك الحاج في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه" انتهى.
هذه نبذة وإطلالة على أيام فاضلات نحن في أمس الحاجة إلى تعميرها بطاعة الرحمن والتخلق فيها بأخلاق الإيمان والابتعاد عن سبيل الشيطان التي ينصب فيها شبهاته وغوايته لصدنا عن سبيل الله، فأخلصوا النية لله في أيامكم هذه وفي كل أيامكم، واصدقوا العزم على أن تُروا الله من أنفسكم خيرا؛ عسى الله سبحانه أن يغمرنا بواسع رحمته ومغفرته، وأن يجود علينا بفضله، يقول تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، ومن رحمة الله سبحانه وسعة فضله أنه بعد أن خصَّ هذه الأيام بهذه المزايا العظيمة وهذه الفضائل الكريمة عاد فخص من ضمن هذه الأيام يوما عظيما، فزاد في مضاعفة الأجر فيه، وزاده شرفا ومكانة وبركة، هذا اليوم هو يوم عرفة.
هذا يوم من أفضل أيام السنة، من علم حقا ما في هذا اليوم من فضل وبركة وخير عميم لم يتركه يمر دون أن يحقق فيه إنابة وتوبة واجتهادا في طاعة الله سبحانه وعبادته، يقول : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء)) أخرجه مسلم عن عائشة.
الرحمن الرحيم جل في علاه اختار هذا اليوم ليتجلى فيه لعباده، وليمن عليهم بالعفو والمغفرة، فكما جعل الله سبحانه هذا اليوم أعظم الأيام لماذا لا نجعله نحن أيضا أعظم الأيام؟! لماذا لا نستقبله استقبال من ينتظره بلهفة ويتشوق إلى لقائه ويتضرع إلى الله أن يبلغه إياه؟! عمل صالح يسير وصبر على شهوات النفس والجسد في هذا اليوم يفضي بالإنسان إلى مغفرة السنة الماضية والسنة المقبلة، أليس هذا عرضا مغريا؟! أليست صفقة رابحة أفضل من الصفقات التي نتسابق عليها في هذه الحياة؟!
أخرج مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله قال: ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)). فضل عظيم عريض ليتنا نقدره حق قدره، هذا اليوم الذي يقف فيه حجيج الله ووفده على صعيد عرفات الطاهر يرجون رحمة الله، تكرَّم الله تعالى على من لم يبلغ تلك الرحاب الطاهرة وتلك البقاع المقدسة بأن يجتهد في هذا اليوم وأن يصوم هذا اليوم بإخلاص وهو في بلده وفي بيته وبين أهله، فينال من الثواب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فتقربوا إلى الله في هذا اليوم، واجتهدوا في الدعاء لأنفسكم ولأهلكم ولإخوانكم ولأمتكم، فإنه يوم تستجاب فيه الدعوات وتسكب فيه العبرات وتقال فيه العثرات ويتفضل فيه رب الأرض والسموات، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) أخرجه الترمذي.
فاللهم يا أرحم الراحمين، نسألك أن توفقنا في هذه الأيام إلى أحسن العبادة وأحسن العمل وأحسن الدعاء، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/4947)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
3/11/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- حكم سب الذات الإلهية والدين. 3- ظاهرة المعاكسات في الشوارع والطرقات. 4- مسألة: هل الأولى التعجيل بقضاء رمضان أم صيام الست من شوال؟ 5- حكم شراء المواد المسروقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمرن:104].
أيها المسلمون، تضمنت هذه الآية الكريمة وجوب الدعوة إلى الخير وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسؤال: لماذا ورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ذكر الخير في هذه الآية مع أنهما يندرجان في مفهوم الخير؟ والجواب: هذا من باب عطف الخاص بعد ذكر العام، وذلك لإظهار فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبيان شرفهما وأهميتهما على سائر الخيرات.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران أيضا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
تفيد هذه الآية الكريمة بأن الأمة الإسلامية لا تتصف بالخير إلا إذا توافرت فيها ثلاثة شروط؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله رب العالمين في أي مكان وزمان، وإذا فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة تنتفي عن الأمة الإسلامية صفة الخيرية، والسؤال: لماذا قدم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأخر ذكر الإيمان مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات والخيرات؟ والجواب: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان سياجا وحافظا للإيمان، فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود لدى الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد شدد القرآن الكريم النكير واللعنة على الذين يهملون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين لا يتناهون عن الأعمال المنكرة بل يسكتون عنها، فيقول الله عز وجل في سورة المائدة: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. والملعون هو المحروم من لطف الله وعنايته، والمعلوم أنه إذا ورد لفظ اللعنة في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة فإنه يدل على تحريم الشيء الذي من أجله لعن مرتكبه.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد أوضح رسولنا الأكرم محمد بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى عقاب جماعي، ويؤدي إلى عدم استجابة الله عز وجل لدعاء الذين عوقبوا، وذلك في قوله : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فهذا الحديث النبوي الشريف صريح في أن الذين يتركون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيؤدي بهم إلى أمرين؛ الأمر الأول: أن الله عز وجل يبعث عليهم عقابا منه، والأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاءهم.
فاسألوا أنفسكم يا مسلمون: لماذا لا يستجيب الله لدعائنا ونحن ندعوه وباستمرار كي ينصرنا على أعدائنا وأن يفرج كربنا، ولكن لا نلمس أي استجابة لدعائنا؟! والجواب: لأننا تركنا الدعوة إلى الله، تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم كيف يستجيب الله رب العالمين دعاءً مِن قلب غافل عن ذكر الله، من قلب لاه في شؤون الدنيا الفانية؟!
أيها المسلمون، يا أبناء فلسطين الطاهرة المقدسة المباركة، كيف يستجيب الله الدعاء من مسلم ـ في شهادة الميلاد ـ وهو يسب الذات الإلهية ويسب الدين والعياذ بالله؟! ثم كيف يستجيب الدعاء من الذين يسمعون هذه المسبات وهم له ساكتون والله عز وجل يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]؟! والسؤال: متى تنتهي هذه المسبات من الأطفال والنساء والشيوخ؟! إنها لكبيرة وكبيرة تُخرج الذي يسب الذات الإلهية من ربقة الإسلام إلى الردة والكفر والعياذ بالله، والله غني عن العالمين.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لو أن شخصًا سب أبا أحد منكم لقامت الدنيا ولم تقعد، وتثور الثائرة على من يسب. أما أن يسب هذا الشخص الذات الإلهية أو الدين فكأن الأمر لا يعنيهم! لقد انقلبت الموازين. وهذه الظاهرة السيئة المنكرة هي معاكسة تماما لأخلاق رسولنا الأكرم محمد ، الذي كان يغضب حينما تنتهك حرمة من حرمات الله عز وجل، ولم يكن يغضب لنفسه، فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث مطول: (وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله تعالى).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مع بدء العام الدراسي أخذ بعض الشباب الساقطين والمتساقطين يتسكعون في شوارع القدس لمشاكسة طالبات المدارس، وكأن الأمر أصبح مألوفا في هذه المدينة الطاهرة، وأن الناس يتقبلون هذه الظاهرة الشاذة دون حراك، وكأن الغيرة والنخوة والحمية قد انطفأت لدى الآباء وأولياء الأمور المنشغلين في حطام الدنيا الفانية والمنصرفين عن أولادهم؛ حيث لا يعرف الأب في أي صف ابنه! وإذا قلنا: إن عدد الطالبات قد زاد عن الألف طالبة في محيط مدارس البنات فمعنى هذا أنه يوجد ألف أب وألاف من الإخوة والأقارب، فماذا هم فاعلون؟! ثم نتساءل: ألا يوجد آباء لهؤلاء الشباب المتسكّعين في الشوارع؟! لماذا لا يردعهم آباؤهم وإخوانهم وأقاربهم؟! ولكن إذا ضرب واحد منهم فإن الأقارب حينئذ يتعرفون عليه ويقفون إلى جانبه بالباطل، وتبدأ العطوات والصلحات. فالشكاوى قد كثرت، وهؤلاء الشباب أخذوا في التمادي، لذا يتوجب على الآباء ـ سواء كانوا آباء للطالبات أو آباء لهؤلاء الشباب ـ أن يتحركوا لمنع هذه الظاهرة المنكرة، وهذا من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسعة وكبيرة ومتعددة، تشمل القمة إلى القاعدة، وتشمل القاعدة إلى القمة، وفي مجالات الحكم والمجتمع، وفي المجالات العامة والخاصة، فيتوجب على كل مسلم أن يكون على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا يؤتين من قبله، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)). فالأصل أن كل مسلم هو داعية إلى الله عز وجل، ويتوجب عليه أن يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه، وأن يعمل جاهدًا على محاربة البدع والمنكرات الذائعة بين الناس، بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125].
_________
الخطبة الثانية
_________
أتناول بإيجاز حكمين فقهيين هما:
أولاً: بشأن صوم الأيام الستة من شهر شوال وقضاء صوم الفريضة، فأقول وبالله التوفيق: إن صوم الأيام الستة من شوال محصور في شهر واحد وهو شهر شوال، أما قضاء صوم الفريضة فإنه يقضى في وقت موسع مدته أحد عشر شهرًا، أي حتى نهاية شهر شعبان القادم، وإذا توفي الشخص خلال السنة ولم يقض ما عليه من صوم الفريضة فلا إثم عليه من الناحية الشرعية، أما إذا دخل شهر رمضان القادم ولم يقض ما عليه فيلزمه القضاء والكفارة معا. وإذا توفي قبل قضاء صوم الفريضة حينئذ يعد آثما ويحاسب على تقصيره، وبذلك نفتي والله أعلم.
ثانيًا: الحكم الثاني بشأن التعامل مع المواد المسروقة من بيع وشراء، وبخاصة سرقة السيارات التي أخذت تنتشر في هذه الأيام في مدينة القدس، وإن الانفلات الأمني ليس في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، بل هو واقع في مدينة القدس أيضا؛ لأن السلطات الإسرائيلية المحتلة لا تهتم إلا فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال، وما سوى ذلك فالأمور سائرة على غاربها بلا ضبط ولا ربط، كالسرقات والتجارة بالمخدرات.
والسؤال: ما الحكم الشرعي فيمن يشتري مواد مسروقة كالسيارات وهو يعلم أنها مسروقة؟ والجواب: لا يجوز شرعًا التعامل بالمواد المسروقة لا بيعًا ولا شراءً، والإثم يقع على البائع وعلى المشتري على حد سواء، بالإضافة إلى أن السرقة نفسها تعد من الكبائر، وبهذا نفتي والله أعلم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، تمر بعد أيام قلائل ذكرى ما يعرف بقرار التقسيم رقم: [181] والذي صدر في 29/11/1947م عن هيئة الأمم المتحدة، والقاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وأن تقع مدينة القدس تحت الإشراف الدولي، وأن أهل فلسطين والعرب بشكل عام قد رفضوا وقتئذ قرار التقسيم، وهم غير نادمين على رفضهم لهذا القرار، وذلك لسببين سبق أن أعلنوا عنهما، السبب الأول: لأن مدينة القدس مطروحة للتدويل، والسبب الآخر: أن أرض فلسطين أرض خراجية وقفية لا مجال للتنازل عنها، وأن أي تنازل عن أي جزء منها يكون باطلاً غير شرعي.
أيها المسلمون، في هذه الأيام تطرح تساؤلات كثيرة، منها: لو قبل آباؤنا قرار التقسيم ألا يكون ذلك أولى مما نحن فيه الآن وقد قبلنا الآن أقل مما هو مقترح في التقسيم؟ والجواب: إن الحق الشرعي قائم لا يسقط مع مرور الزمان إلى يوم القيامة، وإن الأيام دول، كما قال الله: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، ولا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
فالواجب على الأمة الإسلامية أن تفيق من كبوتها، وأن تعود إلى ربها، وأن تحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ ليهيئ الله رب العالمين أسباب النصر والمنعة والتمكين، وليس ذلك على الله بعزيز.
(1/4948)
حرب السيارات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
21/4/1427
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشريعة الإسلامية جاءت بحفظ الأنفس. 2- النُظُم والقوانين التي وضعتها إدارة المرور تخدم بالدرجة الأولى مصلحة الفرد والمجتمع. 3- بعض آداب الطريق. 4- إحصائيات الحوادث المرورية في المملكة. 5- التهور والطيش من أعظم أسباب الحوادث المرورية. 6- إرشادات شرعية لحفظ الأنفس والمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي المذنبة القاصرة أولاً بتقوى الله، فهي مفتاح السعادة للفرد والمجتمعات.
إخوة الإيمان، ما مِن يوم ينقضي إلا ونسمع عن عددٍ من حوادث السير المفجعة التي تحصد الأرواح أكثر مما تحصدُ الحروب، فلمَ لا نعمل على الحدِّ من هذه الحوادث المرورية المؤلمة وخاصة أن نصوص الشريعة الإسلامية قد حمتْ حق الإنسان في الوجود وحقه في الأمن والأمان، وشرعتْ الحدودَ التي تحفظ هذا الحق وتصونه، كما أن القوانين والتشريعات التي تُصْدِرُها الدول ـ ومنها المملكة في هذا الصدد ـ تواكب وتساير ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء في صيانة الدماء والأموال وحماية حق البشر في الأمن والأمان.
عباد الله، ويُعَدُّ الخروجُ على هذه النصوص الشرعية والقانونية مخالفةً صريحةً، ويُعَدُّ المخالفُ آثمًا وعاصيًا؛ لأن النُظُم والقوانين التي وضعتها إدارة المرور والترخيص تخدم بالدرجة الأولى مصلحة الفرد والمجتمع؛ لأنها توفر السلامةَ والأمن والأمان لسالكي الطريق، وينبغي أن يلتزم الجميع بهذه النُظم وتلك القوانين؛ لأنها سُنَّتْ لمنعِ الأذى، وفي الحديث الشريف يقول النبي : ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ : ((إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ))، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ)).
عباد الله، إن الله جلَّ شأنه حَمَى النفسَ البشرية وأكَّدَ حقها في الحياة عندما اعتبر قتْلَ نَفْسٍ واحدةٍ قَتْلاً للبشرية كلِّها، وإحياءها إحياءً للبشرية كلها، يقول تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون.
نعم أيها الإخوة، إننا أمام حرب شرسة مع هذه السيارات، وتعد بلادنا من أكثر دول العالم في حصد الأرواح بسبب حوادث السيارات، يكفي أن نعلم أنه في إحدى السنوات كانت نسبة الوفيات بسبب الحوادث في بلادنا أكثر من مثيلتها في أمريكا بخمس مرات، وأكثر من بريطانيا بعشر مرات، وأعداد السكان لديهم بمئات الملايين وعندنا بعشرات الملايين، كيف يتخيل مسلم أن يموت في عام واحد ما يُقارب خمسة آلاف إنسان في بلادنا كلها بسبب حوادث السيارات؟!
عباد الله، إن الأرواح ليست هينة لهذه الدرجة أن تُزهق بسبب نزق أو طيش أو تجاوز للأنظمة، إن الأمر خطير، وإن ما نفقد من الأرواح والأموال كبير، ففي خلال عشر سنوات كان الفقد من الأرواح يُقدر بمائة ألف إنسان، وأكثر المفقودين في سن يتراوح ما بين الخامسة عشرة والأربعين، وهذا يعني أن جُلَّهم يُعيل أسرة، وهذا يعني كثرة الأيتام والأرامل، فرحماك يا رب.
لقد سجلت الإحصائيات أن مدينة مثل الرياض يحصل فيها حادث كل عشر دقائق، واتضح أيضا أن كل ثلاثين حادث تحصل فيها حالة وفاة، بل وكل ساعتين تقريبا يموت إنسان، فهل من معتبر؟! هذا في الوفيات. أما الإصابات بالشلل والإعاقات فأمر عظيم ومخيف، يكفي أن نعلم أنه في خلال السنوات العشر الماضية كان يزيد على خمسمائة ألف مصاب.
إخوة الإيمان، من منا يرضى أن يجعل السيارة التي هي وسيلة نقل وسيلةَ قَتْلٍ ودمار؟! من منا يرضى أن يكونَ سببًا في تحوُّل أسرة تنعم في ظل راعيها بالبهجة والسرور إلى أسرةٍ كئيبة حزينة تعيش حالة من البؤس والتعاسة والشقاء صباح مساء ولسنين عديدة؟! من منا يرضى أن يكونَ سببًا في حفر ذكريات أليمة في مهج أطفال صغار ينتظرون بشوق عودة أبيهم أو أخيهم؟! فهذه طفلة صغيرة مضت مع والدها الحنون إلى بوابة المدرسة وودعته بابتسامتها البريئة على أمل لقائه في آخر اليوم الدراسي، لكنها في ذلك اليوم وقفت على باب المدرسة طويلا حيث غاب عنها أبوها وغاب معه حنانه وعطفه، وذاك شيخ كهل من رواد المسجد خرج من بيته مسبحًا ولربه طائعًا، فصلى صلاته وعاد أدراجه، لكن كان الأجل له بالمرصاد، فغاب عن الدنيا، وتلك فتاة شابة مع زوج تُحبه، عنّ له سفر مفاجئ عن طريق البر، فجهزت متاعه ونظّمت أدواته وودعته مع أبنائها، وكان الوداعَ الأخير.
أيها المسلمون، هذه قصص أصبحت مألوفة لنا مع كثرة حوادث السيارات، فهذا انقلاب يودي بالعشرات، وذاك تصادم تمزق فيه الأشلاء، وذاك دهس تُسال فيه الدماء، يا لله، ما أشنع مناظر الحوادث، ما أقساها، ما أعنفها، إنه حديد لا يرحم أحدًا. يا لله، ما أقسى المنظر يوم يتعامل هذا الحديد الشديد مع الجسد الطري، كيف يُمزقه يُشققه، رحماك يا رب.
عباد الله، لقد أمرنا الله بحفظ النفس لا بإتلافها، فقال سبحانه وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ، وقال : ((لزوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم)) رواه مسلم.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أعظم نسبة في هذه الحوادث هي بسبب المخالفات وتجاوزات النظام، وأغلبها من الشباب المتهور الذي غالبا لا يحسب حسابا ولا يُفكر في عاقبة، لقد ثبت في الإحصائيات أن سبعين في المائة من أسباب تلك الحوادث المروعة عائد إلى تجاوز السرعة القانونية، هذا في الأرواح.
أما الأموال فإن الفاقد كبير، فبسبب تلك الحوادث يتحمل الناس ديات ومعالجات وتكاليف يذهل منها الإنسان، فهل تتخيل ـ أيها الأخ الكريم ـ أن الخسائر المادية لتلك الحوادث ربما يتجاوز عشرين مليار ريال سعودي، أي: ما يُعادل ستين مليون يوميا، أي: ما يُعادل مليونين ونصف في الساعة، أي: ما يُعادل ثمانية وأربعين ألف ريال في الدقيقة، كل هذه مع دماء تسيل وأرواح تُزهق وأطراف تُكسر، رحماك يا رب.
عباد الله، إن كثيرًا من المسلمين ـ هداهم الله ومنّ عليهم بالهداية والتوفيق ـ يتساهلون في جعل السيارات بأيدي صغار أبنائهم، وكلوها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول، تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يُرى من نافذتها، وتلك مصيبة يرتكبها الذي يسمح لهذا الصغير بالقيادة، ومن ضحيتها؟! إن ضحيتها المارة في الأسواق، إن ضحيتها الذين يقعون موتى أو هلكى أو مصابين من جراء تلك الحوادث، فإن ذلك أمر لا يليق ولا ينبغي بل لا يجوز شرعًا. ولو تأملنا حقيقة مقاصد الشريعة التي من أهم مقاصدها حفظ الأبدان والأرواح فإن ذلك مما يهلك الأبدان والأرواح، وإن حبس الصغار عن القيادة وإن منعهم عنها حتى يصلوا إلى سن قانونية تسمح لهم بقيادة السيارة وبعد معرفة أنظمة المرور في البلاد وبعد معرفة التعامل المتزن الدقيق مع هذه الآلة وبعد ذلك لا بأس به. أما أن تيسر السيارة لكل من طلبها صغيرًا أو متهورًا أو مجنونًا أو عاملاً لا يجيد القيادة فإن ذلك يفضي إلى هلاك الأنفس، وكم حادث وفاة كان من جراء طفل صغير انطلق بسيارته فدهس بها طفلاً صغيرًا في الشارع، أو دهس بها رجلاً عجوزًا في السبيل، وما ذلك إلا تهاون وتفريط، والمسؤولية تقع على من سمح لهذا الولد أو غيره من المتهورين بالقيادة.
عباد الله، نحن نقر جميعا بأن قدر الله لا مفر منه، ولكن هل فعلنا أسباب الحماية والوقاية؟! هل تأملنا في حالنا؟! هل راجعنا أنفسنا؟! هذه الأموال الطائلة لو صُرفت كل عام على المحتاجين والفقراء لربما كفتهم، ولو وجهت في طرق الخير لزادت في حصيلة البناء والنماء.
يا عباد الله، هذه نعم تفضل بها ربنا علينا، فأين شكرها؟! ألا ترون كيف يعبث شبابنا بسياراتهم في صورة جنونية، إما في الشوارع وإما في الساحات العامة وإما في المتنزهات؟! أهكذا شكر النعم؟! أهذا من العقل؟! ثم النهاية دهس أو انقلاب أو تصادم.
أيها المسلمون، لقد أصبحت السيارات من أكثر أسباب هلاك الناس، حتى إنها أحيانا تفوق قتلى الحروب، فهل انتبهنا لذلك، فهذه الانتفاضة المباركة في الأقصى وهي جهاد ضد العدو المحتل فقدت خلال ثلاث سنوات ماضية ما يُقارب ثلاثة آلاف شهيد نحسبهم كذلك والله حسيبهم، وعندنا هنا كان المفقود بسبب السيارات في عام واحد فقط أكثر من خمسة آلاف، أليس هذا الأمر داعيا لنا أن نتوقف؟! أن نفكر؟! خصوصا إذا علمنا أن أكثر من سبعين في المائة من أسباب تلك الحوادث القاتلة عائد إلى أخطاء بشرية.
عباد الله، ما أجدرنا بأن نتحلى بالصفة الأولى من صفات عباد الرحمن، الذين قال الله فيهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ، وما أجمل أن نقتدي بنبينا محمدٍ في سيره ليلةَ أن دفع من عرفة إلى المزدلفة، ومعه ذلك الجمع الهائل من الحجيج, فكان يناديهم ويرفع يده اليمنى قائلاً: ((يا أيها الناس، السكينةَ السكينةَ)). وكان يكبح من سرعة راحلته بشد زمامها حتى كادَ رأسها أن يلامس رحلها، وذلك خشية أن يشق على المسلمين في سيرهم، أو أن يضايق أحدًا منهم في طريقه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يحفظون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وأن يكتب لنا وللمسلمين جميعًا السلامة والعافية في البر والبحر، وأن يحفظ أهلنا وأبناءنا وبناتنا وبلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين، آمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أخي الكريم، ربما أزعجتك هذه الأرقام المرعبة، وأقلقتك هذه الحقائق المذهلة، ومع هذا فلا بد من التواصي بيننا والتذكير والتفكر، عل الله أن يحفظنا من هذه الكوارث والمصائب.
أخي السائق، إليك بعض الإرشادات الشرعية التي فيها ـ بإذن الله ـ حفظ لنفسك ومالك:
أولاً: التزم تقوى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى؛ لأن التقوى سبب للتيسير والخروج من الشدة، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4]، وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2].
ثانيًا: توكل على الله عندما تركب سيارتك أو تخرج من بيتك، فإن من توكل على الله كفاه. واعلم أن من حسن التوكل الأخذ بالأسباب، قال : ((إذا حرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يُقال له حينئذ: هُديت وكفيت ووقيت، فتتنحى عنه الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف برجل هدي وكفي ووقي؟!)).
ثالثًا: المحافظة على دعاء ركوب السيارة، وكذلك دعاء السفر، ففي ذلك خير عظيم يغفل عنه أكثر السائقين، فتبدأ بالتسمية، ثم تقول ما ثبت من الأدعية، التي منها: ((اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)) رواه مسلم. تأمل هذه الجمل في هذا الدعاء العظيم، وتساءل: كم مرة حافظت عليه في سفرك؟
رابعًا: الابتعاد عن المحرمات حال القيادة كالأغاني والمخدرات وغيرها؛ لأن الإنسان على هذه الطرق في خطر، وهذه المعاصي تُبعد عنه حفظ الله، بل إنها تقرب منه عقاب الله. ألا تخاف ـ أيها الكريم ـ من قوله تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِه [العنكبوت: 40]؟! فليكن رفيقك في السفر هو القرآن وجميل القول والذكر الحسن.
خامسًا: المحافظة على صلاة الفجر في جماعة، قال : ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)) رواه مسلم.
سادسًا: الحرص على صلاة الضحى؛ لأن الله يحفظ من أداها، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات أول النهار أكفك آخره)) رواه أحمد وصححه الألباني.
سابعًا: استشعار حرمة دم المسلم وماله والخوف من الوقوع في أذيته.
ثامنًا: تذكّر نعمة الله على الإنسان بهذه المركبات، والنعمة تُشكر لا تُكفر.
تاسعًا: الحرص على تفقد السيارة قبل ركوبها أو السفر بها، وهذا من فعل الأسباب المطلوبة شرعًا.
عاشرًا: الالتزام بتعليمات المرور وأنظمته؛ لأن هذا من طاعة ولي الأمر التي فيها مصلحة للمسلمين، فلا يصح لأحد أن يستهين بها.
معاشر المؤمنين، هذه الوصايا لو أخذنا بها لحفظنا الله من كثير من هذه الكوارث، فهل نفكر في هذا جديا؟! هل نُعيد النظر في طريقة تعاملنا مع هذه المركبات؟!
معاشر المؤمنين، الحافظ هو الله، فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64]؛ لذا لا بد لنا من الانصياع الكامل لأوامره ونواهيه والتوكل عليه، فإذا نزل البلاء حفظ الله أولياءه.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في هذه النعمة، واشكروا المولى عليها، فإنها إذا كُفرت رحلت.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله، هذا وصلوا وسلموا على خير خلق الله...
(1/4949)
السلامة الطرقية: الوقاية والعلاج
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
محمد بوهو
آزرو إقليم إفران
18/1/1426
مسجد الراحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من مقاصد الشريعة حفظ الكليات الخمس. 2- سلامة القصد في شراء المركب. 3- قيادة المركبة سلوك وأخلاق. 4- قيادة المركبة مسؤولية اتجاه الآخرين. 5- قيادة المركبة وتطبيق القوانين. 6- وسائل ضرورية لتحقيق السلامة المطلوبة. 7- من هدي الرسول في الركوب والسفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
عباد الله، جاء الإسلام بمبادئه العظيمة وتشريعاته الحكيمة وتعاليمه الربانية الجليلة التي تحافظ على الإنسان في كل مراحله، وتمنع الاعتداء عليه أو التسبّب في إلحاق الضرر به، ولذلك فإن من مقاصد الشريعة حفظ النفس والعقل والمال والعرض والنسل، وتوفير الحماية لهذه الكليات الخمس من الفساد؛ رغبة في أن يكون المجتمع آمنًا مطمئنًا.
ولا يخفى على أحد كثرة الحوادث في أيامنا، والتي تذهب بحياة الكثيرين وتلحق الضرر بالآخرين، فكم من أسرة أصيبت وفجعت، وكم من امرأة ترملت وأطفال تيتموا، وكم من أب فقد ابنه وهو في أشد الحاجة إليه، وكم من أم غاب عنها ولدها وفلذة كبدها.
وفئة الشباب هي من أكثر الفئات التي تتعرض للحوادث وتتضرر بها، نتيجة أسباب متعددة، من أبرزها: الإهمال وعدم التقيد بقوانين السير وعدم تحمل المسؤولية في كثير من الأحيان.
وبمناسبة الأيام الوطنية للوقاية من حوادث السير نقف وفقات مع هذا الحدث سائلين المولى عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أولاً: سلامة القصد من شراء المركب، فالواجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تحدد الهدف من شراء مركبك، فمِن نِعَم الله علينا وجود هذه المركبات، أعني السّيّارات وغيرها التي هيّأها الله وسَخَّرها، وأَلهَم خَلقًا من خَلقِه لاختِراعِها وتكوِينِها، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
إنَّ الله تعالى يذكِّر عبادَه نِعمَه ويعرِّفهم بها لكَي يشكروه على هذه النِّعمِ، ويثنوا بها عليه ثناءً يليق بجلالِه، فهو أهل الثناء والمجد.
نِعَم الله متعدِّدةٌ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومن تِلكُم النِّعَم ما بيَّن الله في كتابِه من امتِنانهِ على عباده بأن سخَّر لهم ما يركبون وينتفعون، ويقضون به حوائِجَهم ويقطعون به المسافاتِ العظيمة، كلُّ ذلك من توفيق الله تعالى، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73]. إذًا فكَون بعضٍ من هذه الأنعامِ للرّكوب نِعمةٌ تحتاج أن نشكرَ الله عليها، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ثم قال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]. فأخبر الله تعالى أنّه سيخلُق ما لا يَعلمون ولا يجولُ بِفكرهم ويتصوّرُه حالهم، وهذا من كمالِ قدرته جلّ وعلا، وقد خلق ما لا يعلَمون وأتتِ العجائب، فسبحان الخالق لكلِّ شيء.
والله جلّ علا قال لنا أيضًا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
هذه النّعمَة العظيمةُ هل شكَرنا الله تعالى عليها؟! وهل حسُن استعمالُنا لها أم ساء الاستعمال وذهب الشّكر وقلَّ الثناءُ على الله جل وعلا؟! إنَّ شكرَ الله عليها أمر متعيِّن، فالله تعالى الذي يسَّرها وهيَّأها، وإنَّ حسنَ استعمالها لمن شُكر نِعَم الله علينا، فكم من محسِنٍ لاستعمالها، وكم من مسيءٍ لاستعمالِها، وإن أقل مراتب الشكر لهذه النعم هو أن نستعملها فيما يرضي الله تعالى ولا نستعملها فيما يغضبه، وأن يكون الهدف هو الخير وليس غير ذلك.
ثانيًا: قيادة المركبة سلوك وأخلاق، قيادة المركبة من الأمور التي تدخل في أسلوب حياة الإنسان، فإذا كان هذا الإنسان سوي الأخلاق حسن المعاملة تكون قيادته كذلك، لأن القيادة سلوك وأخلاق كذلك. وقد قال بعض المربين: "إن قيادة المركبة تعكس شخصية السائق وتبين معدنها، فإذا كان متصفا بالحلم والتسامح ويحب لأخيه ما يحب لنفسه فهو في قيادته كذلك، وإن كان جاف الخلق متكبرا متبرما ينتصر لنفسه لأتفه الأشياء ويغضب لأبسط الأمور فهو للخصام أميل منه إلى العفو وتفهم الآخرين".
وإلا فقولوا لي بالله عليكم: كيف يغضب سائق لمجرد أن سيارة أخرى تجاوزته في الطريق، أو أن أحدا أطلق إشارة الإنذار وراءه؟! أليس هذا أسلوبا يبين تدني أخلاق هذا السائق؟! ثم إن الذي يسوق سيارته ويقوم ببعض التصرفات الصبيانية لهو دليل على مستوى أخلاقه المنحطة ومستواها الهابط.
وقد رسم لنا المصطفى ووجهنا وحثنا على الالتزام بآداب الطريق ومراعاة الآداب العامة فيه، فذكر من تلك الآداب كف الأذى، وذلك يحتم على السائق وهو يقود سيارته أن يعمل بهذا التوجيه النبوي، فلا يؤذي إخوانه قائدي السيارات الأخرى، أو المُشاة بمضايقتهم، أو تعريض أرواحهم للخطر.
فالسائق الكيس الفطن هو الذي حين يقود سيارته يلتزم بالسرعة المحددة التي حَدَّدَتها الجهات المختصة لسلامة الجميع، ورسمتها لكل سائق حتى يحفظ نفسه ويحفظ غيره ممن يرافقه أو يستخدم الطريق التي يسلكها. والسائق المثالي هو الذي يسير في طريقه باعتدال واتزان وتعقل وتروٍّ، وهو يمسك بمقودِ سيارته يحسب ألف حساب لأي خلل يصدر منه أثناء القيادة، أو قد تكون عاقبته وخيمة ونتائجه سيئة أليمة. والسائق الحذق هو الذي يتوقع المفاجآت من الآخرين أثناء قيادته، ولذلك لا يرضى أن يوقع نفسه في موقف لا يحسد عليه، كما أنه يدرك أن أي عبث يمارسه وهو يقود السيارة قد يؤدي إلى اختلال سيرها وعدم قدرته على التحكم بها.
السائق المطلوب اليوم هو ذلك المسلم الفطِنَ ذو الفكر الناضج والفهم السليم والشعور الإسلامي المتمكن في قلبه الذي استقاه واستلهمه من قوله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه)) رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم.
ثالثًا: قيادة المركبة مسؤولية تجاه الآخرين، السائق العاقل هو الذي أيقن أن مخالفته في قيادة سيارته قد يتمخض عنها إهدار أموال أو إتلاف أعيان أو ترمل نساء أو تيتم أطفال أو تفكيك أُسر أو إصابة آخرين بإعاقات كاملة أو جزئية، وتصَّور تلك النتائج السلبية المفزعة والعواقب الوخيمة والمفجعة التي ترتبت على المخالفات المرورية والاستهتار بآداب السير وعدم المبالاة بالتعليمات المستمرة والتوجيهات المتكررة التي تصدرها الجهات الأمنية، والحريصة على سلامة أفراد المجتمع والحفاظ على مقدراته وممتلكاته.
لقد بينت الإحصائيات المتعلقة بحوادث السير في الأعوام الماضية أن الأرقام مهولة في هذا الصدد، وأن الطرق أصبحت مقابر للعديد من الخلق، فالحوادث المسجلة في عام 2003م بلغ عددها (38704)، وفي عام 2004م بلغ عددها (37023)، والحوادث القاتلة في عام 2003م بلغ عددها (916)، وفي عام 2004م بلغ عددها (876)، فيكون مجموع الضحايا قتلى ومصابون قد بلغ في عام 2003م (50079)، وفي عام 2004م بلغ (48190).
عباد الله، إنَّ الأقدارَ بيد الله، وكلّ ما يجري في الكونِ بقضاء الله وقَدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. هذا حقٌّ نؤمِن به ونصدّقه، ولكن لا يكون الإنسان سببًا في حصولِ الكوارث. إنَّ على المسلم أن يتّقيَ أسبابَ الكوارث بقدرِ إمكانه، والأمرُ الذي يقدِّره الله أمرٌ لا رادَّ له، لكن لا تكن ـ يا أخي ـ سببًا في حصولِ ما حصَل، أنت خُذ بالأسبابِ النافعة، وتوقَّ الشرَّ قدرَ استطاعَتِك، وما وقع بغيرِ إرادَتِك فالله جلّ وعلا لا يؤاخِذُك بذلك، أما أن تكونَ السببَ في إتلاف النفوس والأموالِ فأنت إذًا من الخاسرين، هدانا الله جميعًا سواءَ السبيل.
إنَّ هناك فئةً من مجتمعنا ـ هدانا الله وإيّاهم لكلِّ خير ـ تراهم في سيارتهم يتصرَّفون تصرّفاتٍ جنونية، وتصرّفات خارجة عن العقل والمنطِق، وتصرُّفات دالّة على ضعفٍ في العقل أحيانًا وعلى قِلّة مبالاةٍ بالنّفوس والمجتمع وعَدَم رِعاية الأنظمة وعدم المبالاة بالأرواح.
فكِّر قليلاً في نتائجِ هذه الكوارثِ، فكِّر قليلاً فيما يحصل مِن هذه الكوارثِ العظيمَة، ربما بقيادتك وتهوّرك تجني على فردٍ أو تجنِي على عدّةِ أشخاص، ويترتَّب عليه أمور، في مقدمتها معصيةُ الله جل وعلا بارتكاب الأسبابِ التي تخِلّ بنظامِ السّير.
أمرٌ آخر: فكِّر ـ يا أخي ـ في هذه الحوادثِ العظيمة، كم من نفوس تُقتل، وكم تصيب بإعاقة آخَرين، فما بين من زهقت نفسهُ، وما بين من أُعيق بقطع أطرافه، وما بين مَن أصبح عالةً على مجتمَعِه في إغماءٍ عظيم بما يحصل من هذه الكوارثِ.
وأمر آخر: تصور معي أن سائقا بتهوره أفقد حياة ذلك المسلم الذي يغتَنِم حياتَه لطاعةِ اللهِ تعالى، ويتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، كيف كان السببَ في فَقدِه حياته وانقطاعِ أعمالِه التي كان يرجو أن تكونَ زادًا له يومَ لقاء الله تعالى، أو أن هذا الشخصُ الذي أتلفت حياته له امرأةٌ ترمَّلت وأطفالٌ صاروا بذلك أيتامًا وأموال تلفت، فيبقى بالحقيقةِ نادمًا على تصرّفاتِه الخاطئة إن كان فيه بقيّةٌ مِن خير.
أيّها المسلم، إذًا فعلى الجميع تقوَى الله تعالى، وعليهم التبصُّرُ في أمرِهم، وعليهم أن يعينَ بعضهم بعضًا. واعلم أنَّ الطريق ليس لكَ وحدَك، فمن خلفكَ ومن أمامك وعن جانبيك، كلُّهم شركاءُ لك في الطّريق، وكلٌّ مثلك يريد قضاءَ حاجتِه، فلنكُن متواضِعِين في أنفسِنا، ولنجتنِب الغرورَ والخداع. ما بالُك وأنت تنظُر لبَعض شبابِنا يتسابَقون في الطرقاتِ العامة سباقًا بينَهم لا لهدفٍ سليم، ولكن مفاخرةً وإعجابًا بالنّفوس وسيّارات ما تعِبوا على أثمانها، ولا بذَلوا فيها جهدًا، هيّأها لهم آباؤهم، فهم لا يبالون أتلَفوا اليومَ ويُعوَّضونَ غدًا، أو مؤمَّنٌ عليهم لا يبالون بما يفعَلون. ترى بعضَ يلقِي بعربَتِه عشوائيا دونَ مبالاةٍ بالطريق ومَن خلفَه ومَن أمامَه، كلُّ هذه التّصرّفاتِ الخاطئة تحمِّل المسلمَ إثمًا عظيمًا، لا يغرّنّك أنّك أمّنتَ على سيّارتك وأنّ مؤسّسةَ التأمين ستعفيك عن المسؤوليّة، إن أُعفيتَ عن المسؤوليّة في الدنيا فبأيِّ شيءٍ تلاقي الله يومَ قدومِك عليه؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ بقتلِك الخطأ قد تتحمَّل الكفّارةَ المغلّظَة عِتقَ رقبةٍ، فإن عَجزتَ عنها فلا بدَّ مِن صيام شهرين كامِلَين متتابعَين، لا تفطِر بينها إلاّ لعذرٍ قهريّ كمَرَضٍ أو نحوه، ولو أفطرتَ بلا عذرٍ يومًا لأعدتَ الشهرين كاملَين توبةً من الله، وكان الله عليمًا حكيمًا.
إن على كل واحد منا أن يلتزم وهو يقود سيارته بآداب القيادة، وأن يحافظ على نفسه ومن معه ومن هم في الطرقات التي يسلكها إخوانه. إن التؤدة والتأني في السير من الأمور المحمودة ومن الصفات المرغوبة، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
رابعا: قيادة المركبة وتطبيق القوانين، القيادة تخضع لقانون منظم، والواجب احترام هذا القانون، ولو تمعن السائق في بنوده لوجده خيرا كله، ولكن نرى جمعا كبيرا ممن يقودون السيّارات لا يراعون الأنظمةَ المتّبعَة والأنظمَة المفروضة والتي لا تخالِف شَرعًا، ترى بعضَهم يسير في طريقِه لا يبالي بأنظمةِ السير، كيف يقِفُ ولا كيفَ ينطلِق، تراه يُغرِي من خلفَه، فهو يقِف مواقفَ غير مناسِبة، ولا يعطي لمن خلفَه تصوّرًا هل هو سيكون عن يَسارٍ أو يمين، يلقِي بعرَبَته أيَّ مكان دونَ مراعاةٍ لذلك، تراه أحيانًا في سرعتِه ربما قطعَ الإشارات النظاميّة من غير مبالاةٍ، ثم تقع الأخطار ويحاوِل أن يبرِّرَ موقفَه بأمرٍ هو كاذب فيه غير صادق.
وأذكر أنه عندما صدر قانون الالتزام بحزام السلامة وهو قانون فيه من أسباب السلامة والوقاية الشيء الكثير رأينا ردود أفعال مجموعة من السائقين للسيارات والشاحنات والحافلات، كيف أنهم أهالهم صدور مثل هذا القانون الذي لا يبغي سوى سلامة السائق وضمان حد أدنى من الوقاية. ففي حين أن بعض الدول التزمت بهذا الأمر منذ أمد بعيد وأصبحت كل السيارات مجهزة بجهاز لا يترك للسائق الاختيار فلا يمكن للسيارة أن تتحرك حتى يُربط حزام السلامة نجد عندنا من يقول: "إن مسألة الحزام ليست مشكلا لأن المغاربة بارعون في مجال السياقة". في الحقيقة هذا دليل على تخلف في الفهم ونكوص في الوعي.
أضف إلى هذا أنك تجد من لا يوفر أوراق السيارة الضرورية، وتجده كالخفاش يبحث عن الظلام لكيلا يضبط متلبسا في مخالفته، وإذا ضبط على ما هو عليه تجده يعالج المشكل بما هو أسوأ.
خامسًا: وسائل ضرورية لتحقيق السلامة المطلوبة، ونحن إذا كنا نحمل السائقين المسؤولية الأولى في السلامة الطرقية فمن الواجب علينا أن ننظر إلى المسألة من زاوية أوسع ومن تحليل أعمق، وذلك لتحقيق الإنصاف المطلوب والعدل المفروض، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]. من الأمور المحققة للسلامة الطرقية ما يلي:
1- ضرورة الصرامة في تسليم رخص القيادة، فما دمنا نسمع بين الفينة الأخرى أن أناسا يتسلمون رخصة القيادة بدون اجتياز أي اختبار فلا زلنا لم نخط الخطوة الأولى في طريق السلامة الطرقية، فالواجب أن يأخذ القانون مجراه في محاسبة من يتلاعب بأرواح الناس. فالواجب تأهيل السائق حتى يكون مدركا لكل ما من شأنه أن يصادفه على الطريق ومعرفة السلوك الواجب اتباعه. وقد حكى لي بعض الثقات أن كثيرا من أبناء جالياتنا في الخارج أعادوا رخص السياقة في البلدان التي يقيمون فيها؛ نظرا لأنهم بالرخص التي أعطيت لهم في بلادهم يرتكبون الأخطاء الفادحة.
2- صلاحية الطرق من الأمور التي لا تغيب على ذهن السائق الفطن، فنحن نلحظ أن مجمل الطرق التي يسلكها السائقون غير صالحة بالشكل الذي يسمح بتحقيق السلامة الطرقية المطلوبة، فمن طريق مليء بالحفر، إلى طريق ضيق، إلى طريق غير معبد. فالواجب قبل أن نطالب السائق باحترام قوانين السير أن نمكنه من شبكة طرقية سليمة من المخاطر والآفات. ونحن نلحظ أن هناك محاولات حثيثة لاستصلاح الطرق، لكنها لا زالت في البداية وغير كافية إلى حد الآن.
3- القيادة في حالة سكر، لقد أثبتت الإحصائيات في بلادنا أن جل الحوادث التي ذهب ضحيتها أبرياء كانت من جراء أخطاء بعض المواطنين الذين أوقعوا الآخرين في الحوادث. ومن هذا المنبر نقول: إنه من الواجب على كل المواطنين اتخاذ موقف موحد وجاد ضد وجود وانتشار المخدرات بكل أنواعها، فعلينا أن نبدأ من الأسرة ونحصن أبناءنا ضد المخدرات، ونسعى بكل الوسائل المشروعة للحد من بيعها في بلادنا. وهذا كله لن يتحقق إلا بالوعي والإيمان الصادق بأن طريق السلامة لن يكون بدون محاصرة أم الخبائث وبناتها.
4- معظم الضحايا الذين خسروا حياتهم في حوادث السير على الطرقات كانوا من الشباب، هم ضحايا الطرقات والسرعة والطيش. والشباب هم ضحايا أنفسهم غالبا فيما يتعلق بحوادث السير المروعة التي تقع على الطرقات، وهذا يضعنا أمام قضية من أصعب القضايا، ألا وهي توجيه الشباب وتربيتهم، وإلى أي مدى نحن مفرطون في تأطير الشباب وجعلهم في مستوى الدور المنوط بهم اتجاه أنفسهم وأوطانهم وبالتالي اتجاه أمتهم.
إذًا فنحن ـ أيّها المسلمون ـ يجب أن نكونَ محترِمين للأنظمةِ النافِعة المفيدة، وأن نعتقدَ أنّ احترامَها والتقيّد بها أمرٌ مطلوبٌ منّا شرعًا، لأنّ سلامةَ الأرواح والأموال مطلوبةٌ من المسلم، فالتهوّر وعدم المبالاة ليست مِن أخلاق المسلمين.
إنَّ أخلاقَ المسلمين قَبول الأنظمة النافعة وتطبيقُها، كلٌّ يطبّقها على نفسه ليسلمَ مجتمعُنا بتوفيق الله من هذه الكوارثِ التي تقضّ مضجَع المسلم وتؤلمه إيلامًا شديدًا، ما نسمَع في الصُّحف كلَّ يومٍ عن حوادِثَ مروّعة إنما أسبابها ـ بأمرِ الله ـ السّرعةُ الزائدة، التصرّفاتُ الخاطئة، قيادةُ السيارةِ لمن لا يحسِن القيادةَ ولا يطبّق الأنظمةَ ولا يعرف للسيرِ حقَّه، وممن يساهم من بعيد أو قريب في تأصيل هذه المصائب.
فهذا هو العلاج وتلك هي الوقاية، فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنلتَزِم سلامةَ إخوانِنا ديانةً ندين الله بها. أسأل الله أن يأخذَ بنواصي الجميعِ لما يحبّه ويرضاه.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآيات والذّكر الحكِيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب. فاستغفِروه وتوبوا إليهِ إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أخي المسلم، إنّك حينما تمتطِي سيّارتَك فاتق اللهَ أولاً، واشكرِ الله على هذه النعمة وأن هيّأها الله تعالى لك ويسّر لك قيادَتها، فاعرف حقَّ الله تعالى واشكرِ الله وأثنِ عليه واستعِن بالله في كلِّ مهماتك، يقول رسول الله : ((من أصبح منكم آمنا في سربه معفى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) أخرجه الترمذي. ومعنى قوله: ((في سربه)) أي: في مسلكه وطريقه.
ولكي يحصل لك ـ أخي المسلم أختي المسلمة ـ الأمن في سربك فالواجب عليك طاعة الله تعالى، والاستعانة به في كل الأحوال، والتحلي بأخلاق الإسلام في المشي والركوب والقيادة.
روى الطبراني عن النبي أنه قال: ((ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أراد سفرا فليقل لمن يخلف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) أخرجه أحمد.
ومما علمنا إياه رسول الله وهو دعاء الخروج من المنزل، فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تقول وأنت خارج من بيتك: ((باسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوّةَ إلا بالله)) ، يجيبك الملك: هُديتَ وكُفيتَ ووقيتَ، ويتنحَّى عنك الشيطان ويقول: ما لي برجلٍ قد هدِيَ وكُفيَ ووقِي؟!
وعند ركوبك السيارة أو الحافلة أو غيرها فلتقل: بسم الله الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم تقول: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وإذا أردت سفرًا فلتقل أيضا: اللهم نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ومن كآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل. كما في صحيح مسلم.
وكان رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا.
وعندما يرجع المسلم من سفره ويطل على مشارف بلدته يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. كما في صحيح مسلم.
هكذا يكون التوكل على الله في الركوب والسفر، وهي بحق من الزاد الروحي الذي يجعل المسلم ينطلق في سربه وطريقه على هدى من الله تعالى، وعلى يقين بأن الحافظ هو الله تعالى، وبهذا يكون مستشعرا لمعيته ومراقبته، ومن ثم تكون أخلاقه وفق ما يحب ويرضى جل وعلا.
اللهم آمنا في سربنا، وعافنا في أجسامنا، وارزقنا رزقا حلالا. اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير يا رحمن يا رحيم.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فاللهم صل وسلم على نبينا وحبيبنا نبي الهداية والرحمة...
(1/4950)
تعجلوا بالحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
10/11/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب موسم الحج. 2- تهاون كثير من المسلمين بشعيرة الحج. 3- الحج ركن من أركان الإسلام. 4- وجوب الحج على الفور. 5- وعيد من أخر حج الفرض بغير عذر. 6- فضل الحج. 7- حج المدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ القَائِلِ عز وجل: الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ.
أيها المسلمون، لم يَبقَ عَلَى الحَجِّ مِن يَومِكُم هَذَا إِلا حَوالَي شَهرٍ يَزِيدُ قليلاً أَو يَنقُصُ، وَكَأَني بِالحَجِيجِ وَقَد وَقَفُوا في صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، أَو في مُزدَلِفَةَ يَقضُونَ وَاجِبَ البَيَاتِ، أَو في مِنًى يَرمُونَ الجَمَرَاتِ، أَو حَولَ الكَعبَةِ يَطُوفُونَ، أَو بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ يَسعَونَ، أَو وَهُم يُحَلِّقُونَ أَو يُقَصِّرُونَ أَو هُم يُوَدِّعُونَ، فَيَا فَرحَةَ مَن فَازَ بِالوُقُوفِ بِتِلكَ المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ! وَيَا سَعَادةَ مَن تَشَرَّفَ بِالتَّلَبُّسِ بِتِلكَ المَنَاسِكِ العَظِيمَةِ! حَطٌّ لِلذُّنُوبِ وَمَغفِرَةٌ لِلآثَامِ، وَنَفيٌ لِلفَقرِ وَإِعتَاقٌ مِنَ النَّارِ.
وَفي الوَقتِ الذي يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ إلى حُضُورِ هَذَا المُؤتمرِ العَظِيمِ وَالمجمَعِ الكَرِيمِ في كُلِّ عَامٍ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلمًا عَلَى فَوَاتِهِ لِعُذرٍ أَو عَجزٍ أَو مَرَضٍ، أَقُولُ: في هذا الوَقتِ تَجِدُ مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَقَضَاءُ الرُّكنِ وَأَدَاءُ الفَرِيضَةِ لم يَخطُرْ لَهُ عَلى بَالٍ، وَكَأَنَّ الحَجَّ عَلَى غَيرِهِ قَد فُرِضَ، أَو كَأَنَّهُ لَيسَ مِن أُمَّةِ الإِجَابَةِ، وَقَد عُلِمَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الحَجَّ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، دَلَّ على وُجُوبِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجمَاعُ، فَمَن جَحَدَهُ أَو أَبغَضَهُ بَعدَ البَيَانِ كَفَرَ، يُستَتَابُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، وَمَن تهاوَنَ بِهِ فَهُوَ عَلَى خَطرٍ عَظِيمٍ، قال سُبَحانَهُ: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالمِينَ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانِ)) ، وَعَن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَد فََرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا)) ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتى قالها ثَلاثًا، فقال رَسُولُ اللهِ : ((لَو قُلتُ: نَعَم لَوَجَبَتْ، وَلَمَا استَطَعتُم)) ، ثم قال: ((ذَرُوني مَا تَرَكتُكُم)).
وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ في وُجُوبِ الحَجِّ، هَل هُوَ على الفَورِ أَم عَلَى التَّرَاخِي، وَالصَّحِيحُ الأَرجَحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الفَورِ مَعَ الاستِطَاعَةِ، فمتى استَطَاعَ المُسلِمُ الحَجَّ وَتَوَفَّرَت فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِهِ وَجَبَ أَن يُعجِّلَ بِأَدَاءِ فَرِيضَةِ اللهِ فِيهِ، وَلم يَجُزْ لَهُ تَأخِيرُهُ وَلا التَّهَاوُنُ بِهِ، قَال ابنُ قُدَامَةَ رحمه اللهُ في المُغني: "مَن وَجَبَ عَلَيهِ الحَجُّ وَأَمكَنَهُ فِعلُهُ وَجَبَ عَلَيهِ على الفَورِ ولم يَجُزْ لَهُ تَأخيرُهُ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ"، وقال الشيخُ ابنُ بَازٍ رحمه اللهُ: "مَن قَدَرَ عَلى الحَجِّ ولم يَحُجَّ الفَرِيضَةَ وَأَخَّرَهُ لِغَيرِ عُذرٍ فَقَد أَتَى مُنكَرًا عَظِيمًا وَمَعصِيَةً كَبِيرَةً، فَالوَاجِبُ عَلَيهِ التَّوبَةُ إِلى اللهِ مِن ذَلِكَ وَالبِدارُ بِالحَجِّ"، وَسُئِلَ الشيخُ ابنُ عُثِيمِينَ رحمه اللهُ تعالى: هَل وُجُوبُ الحَجِّ عَلَى الفَورِ أَم عَلَى التَّرَاخِي؟ فَأَجَابَ: "الصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الفَورِ، وَأَنَّهُ لا يجُوزُ لِلإِنسانِ الذي استَطَاعَ أَن يحُجَّ بَيتَ اللهِ الحَرَامَ أَن يُؤَخِّرَهُ، وَهَكَذَا جمِيعُ الوَاجِبَاتِ الشَّرعِيَّةِ، إِذَا لم تُقَيَّدْ بِزَمَنٍ أَو سَبَبٍ، فَإِنها وَاجِبَةٌ عَلَى الفَورِ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ يجِبُ عَلَى المُسلِم المُبَادَرَةُ إِلى تَأدِيَةِ فَرِيضَةِ الحَجِّ مَتى كَان مُستَطِيعًا؛ لأَنَّهُ لا يَدرِي مَاذَا يحدُثُ لَهُ لَو أَخَّرَهُ، قَال : ((تَعَجَّلُوا إِلى الحَجِّ ـ يَعني الفَرِيضَةَ ـ ، فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَدرِي مَا يَعرِضُ لَهُ))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَد يَمرَضُ المَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعرِضُ الحَاجَةُ)).
وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ في الوَاقِعِ اليَومَ لَيَجِدُ مِنَ النَّاسِ مُوَاطِنِينَ وَمُقِيمِينَ مَن بَلَغَ مِنَ العُمُرِ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً وَلم يحُجَّ، فَمِنهُم مَن جَاوَزَ الأَربعِينَ وَقَارَبَ الخَمسِينَ، وَمِنهُم مَن تَعَدَّى الثَّلاثِينَ، أَمَّا أَبنَاءُ العِشرِينَ ممَّن لم يحُجُّوا فَكُثرٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَن وَجَبَ الحَجُّ عَلَى أَبنَائِهِ وَبَنَاتِهِ فَضلاً عَن وُجُوبِهِ عَلَيهِ وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُم يُؤَخِّرُونَ الحَجَّ سَنَةً بَعدَ سَنَةٍ، وَيُؤَجِّلُونَ هَذَا الرُّكنَ عَامًا بَعدَ آخَرَ، غَيرَ مُلتَفِتِينَ إِلى أَنهم أَتَوا مُنكَرًا مِنَ الفِعلِ عَظِيمًا، وَارتَكَبُوا في حَقِّ أَنفُسِهِم مُخَاطَرَةً كَبِيرَةً، إِذْ لا يَأمَنُ أَحَدُهُم مَوتًا مُجهِزًا يَأخُذُهُ عَلى غِرَّةٍ، أَو مَرَضًا مُقعِدًا يَهجُمُ عَلَيهِ عَلَى غَفلَةٍ، أَو فَقرًا يَعتَرِيهِ بَعدَ غِنًى وَقِلةَ ذَاتِ يَدٍ بَعدَ كَثرَةٍ، أَو غَيرَهَا ممَّا يَعرِضُ لِلإِنسَانِ فَيُعجِزُهُ بَعدَ قُدرَةٍ وَيُضعِفُهُ بَعدَ قُوَّةٍ. وَيُؤسِفُكَ أَن تجِدَ هَؤُلاءِ المُؤَخِّرِينَ لِفَرِيضَةِ اللهِ قَد جَابُوا الدِّيَارَ شَرقًا وَغَربًا، وَسَافَرُوا في البلادِ جَنُوبًا وَشمالاً، وَبَذَلُوا الأَوقَاتَ وَأَنفَقُوا الأَموَالَ في تَمَشٍّ وَتَنَزُّهٍ وَسِيَاحَةٍ، وَقَد يَكُونُونَ اكتَسَبُوا مِن وَرَاءِ سَفَرِهِم ذُنُوبًا وَتحمَّلُوا آثَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ لم يُفِكِّرُوا في أَعظَمِ سِيَاحَةٍ وَأَجَلِّ سَفَرٍ، وَلم يَشُدُّوا الرِّحَالَ لأَشرَفِ البِقَاعِ وَأَعظَمِ الأَمَاكِنِ، وَالتي يَجنُونَ مِنَ السَّفَرِ إِلَيهَا رِضَا رَبِّهِم وَمَغفِرَةَ ذُنُوبِهِم، وَيَفُوزُونَ بِعِتقِ رِقَابِهِم وَتَكفِيرِ سَيِّئَاتِهِم وَحَتِّ خَطَايَاهُم.
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن وَجَبَ عَلَيكُمُ الحَجُّ، بَادِرُوا بِهِ وَلا تُؤَخِّرُوهُ، وَاعلَمُوا أَن تَركَ حَجِّ النَّافِلَةِ مَعَ القُدرَةِ عَلَيهِ حِرمَانٌ مِن خَيرٍ عَظِيمٍ، فَكَيفَ بِالتَّهَاوُنِ بِالرُّكنِ اللاَّزِمِ وَالفَرضِ الوَاجِبِ، قَال : ((يَقُولُ اللهُ عز وجل: إِنَّ عَبدًا صَحَّحتُ لَهُ جِسمَهُ وَوَسَّعتُ عَلَيهِ في المَعِيشَةِ تمضِي عَلَيهِ خمسَةُ أَعوَامٍ لا يَفِدُ إِليَّ لَمَحرُومٌ)). فَلْيَحمَدِ اللهَ عز وجل مَن مُدَّ في عُمُرِهِ وَأُنسِئَ لَهُ في أَجلِهِ، فَهَا هُوَ مَوسِمُ الحَجِّ قَد أَشرَقَت شَمسُهُ، وَهَا هُمُ الحُجَّاجُ قَد بَدَؤُوا يَأتُونَ مِن أَقصَى الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا، بَعضُهُم لَه سَنَوَاتٌ وَهُوَ يجمَعُ مَالَهُ دِرهمًا دِرهَمًا وَفِلسًا فِلسًا، يَقتَطِعُها مِن قُوتِهِ وَقُوتِ أَهلِهِ وَأَبنَائِهِ حتى جمع ما يُعِينُهُ على أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَةِ، وَكثِيرٌ مِنَّا في هَذِهِ البِلادِ قَد تَيَسَّرَت لَهُ الأَسبَابُ وَتَهَيَّأَت لَهُ السُّبُلُ وَمَعَ هَذَا يُؤَخِّرُ وَيُؤَجِّلُ وَكَأَنَّهُ لم يَقرَأْ قَولَ اللهِ عز وجل: وَللهِ على النَّاسِ حَجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ، وَقَولَهُ تعالى: وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ ، وَقَولَهُ جل وعلا: وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فجٍّ عَمِيقٍ ، قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: (لَقَد هَمَمْتُ أَن أَبعَثَ رِجَالاً إِلى هَذِهِ الأَمصَارِ، فَلْيَنظُرُوا كُلَّ مَن كَان لَهُ جِدَةٌ ولم يحُجَّ فَيَضرِبُوا عَلَيهِمُ الجِزيَةَ، ما هُم بِمُسلِمِينَ، مَا هُم بِمُسلِمِينَ)، وَرُوِيَ في بَعضِ الأَحَادِيثِ وَحَسَّنَهَا بَعضُ العُلَمَاءِ أَنَّهُ عليه الصلاةُ والسلامُ قال: ((مَن كَانَ ذَا يَسَارٍ فَمَاتَ وَلم يحُجَّ فَلْيَمُتْ إِن شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِن شَاءَ نَصرَانِيًّا)) ، وَقَالَ: ((مَن مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلى بَيتِ اللهِ ولم يحُجَّ فَلا عَلَيهِ أَن يمُوتَ يَهُودِيًّا أَو نَصرَانِيًّا)) ، وَقَالَ: ((مَن مَاتَ ولم يحُجَّ حَجَّةَ الإِسلامِ في غَيرِ وَجَعٍ حَابِسٍ أَو حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ أَو سُلطَانٍ جَائِرٍ فَلْيَمُتْ أَيَّ المِيتَتَينِ شَاءَ: إِمَّا يَهُودِيًّا أَو نَصرَانِيًّا)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُون، اِتَّقُوا اللهَ يَا مَن لم تحُجُّوا، وَبَادِرُوا إِلى أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَةِ وَأَسرِعُوا؛ فَإِنَّ الأُمُورَ مُيَسَّرَةٌ وَللهِ الحَمدُ، وَلا يُقعِدَنَّكُمُ الشَّيطَانُ وَلا يَأخُذَنَّكُمُ التَّسوِيفُ، وَلا تُلهِيَنَّكُمُ الأَمَانِيُّ البَاطِلَةُ أَو تَخدَعَنَّكُمُ الحِيَلُ الكَاذِبَةُ، فَتُؤَخِّرُوا الحَجَّ كُلَّ عَامٍ إِلى الذي يَلِيهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُم لا يَعلَمُ أَينَ هُوَ العَامَ القَادِمَ أَفَوقَ التُّرَابِ أَم تحتَهُ؟! وَتَأَمُّلُوا في حَالِ الأَجدَادِ كَيفَ كَانُوا يحُجُّونَ، وَكَيفَ سَارُوا عَلَى أَقدَامِهِم وَامتَطَوا رَوَاحِلَهُم شُهُورًا وَلَيَاليَ وَأَيَّامًا لِيَصِلُوا إلى البَيتِ العَتِيقِ وَيَقضُوا تَفَثَهُم، وَنحنُ وَللهِ الحَمدُ في نِعمَةٍ لم يَسبِقْ لها مَثِيلٌ، طُرُقٌ وَاسِعَةٌ وَسَيَّارَاتٌ فَاخِرَةٌ، وَأَمنٌ وَغِنًى وَصِحَّةٌ وَرَاحَةٌ، وَأَرزَاقٌ مُيَسَّرَةٌ وثَمَراتٌ مُتَوفِّرَةٌ، لَكِن مِنَّا مَن يُلَبِّسُ عَلَيهِ الشَّيطَانُ وَيَفتَعِلُ لَهُ الأَعذَارَ، إِمَّا بِشِدَّةِ الحَرِّ أَو قُوَّةِ الزِّحَامِ أَو كَثرَةِ الحُجَّاجِ، وَكَأَنَّهُ لَن يحُجَّ حتى يَرَى الطَّرِيقَ لَهُ وَحدَهُ، وَالمَشَاعِرَ قَد خَلَت مِن عِبادِ اللهِ سِوَاهُ.
فَاللهَ اللهَ يَا مَن لم تحُجُّوا، فَاستَعِدُّوا مِنَ الآنَ وَأَعِدُّوا، وَاعزِمُوا وَلا تَتَوَانَوا، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَلا تَعجَزُوا، وَحَاسِبُوا أَنفُسَكُم بِصِدقٍ، فَإِنَّ الأَمرَ لَيسَ بِالهَوَى المُتَّبَعِ أَوِ الرَّغَبَاتِ النَّفسِيَّةِ وَالقَنَاعَاتِ الشَّخصِيَّةِ، وَإِنمَا هُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الدِّينِ وَاجِبٌ، لا خِيَارَ أَمَامَ مَن وَجَبَ عَلَيهِ إِلاَّ المُضِيُّ فِيهِ وَأَدَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَوَيلٌ لِمَن لم يَرحَمْهُ اللهُ وَيَتَجَاوَزْ عَنهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ فَإِن أُحصِرتُم فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ وَلاَ تَحلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتَّى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُم فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمرَةِ إِلى الحَجِّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَديِ فَمَن لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبعَةٍ إِذَا رَجَعتُم تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لم يَكُنْ أَهلُهُ حَاضِرِي المَسجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ وَاذكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم وَإِن كُنتُم مِن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاَقٍ وِمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا.
أيها المسلمون، إِنَّ فَضلَ الحَجِّ عَظِيمٌ وَأجرُهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ يجمَعُ بَينَ العِبَادَةِ البَدَنِيَّةِ وَالمَادِيَّةِ، وَالأَحَادِيثُ في فَضلِهِ وَعَظِيمِ أَجرِهِ وَأَثرِهِ كَثِيرَةٌ، قال : ((مَن حَجَّ هَذَا البَيتَ فَلَم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ)) ، وَسُئِلَ : أَيُّ الأَعمَالِ أَفضَلُ؟ قال: ((إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ)) ، قِيلَ: ثم مَاذَا؟ قال: ((جِهَادٌ في سَبِيلِ اللهِ)) ، قِيلَ: ثم مَاذَا؟ قال: ((حَجٌّ مَبرُورٌ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((تَابِعُوا بَينَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ، فَإِنهما يَنفِيَانِ الفَقرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيسَ لِلحَجَّةِ المَبرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ))، وقال : ((مَا مِن يَومٍ أَكثَرَ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةِ)). وَمَعَ هَذَا الأَجرِ العَظِيمِ وَالثَّوابِ الجَزِيلِ فَإِنَّ أَيَّامِ الحَجِّ قَلِيلَةٌ، لا تَتَجَاوَزُ أُسبُوعًا لِمَن بَعُدَت دِيَارُهُ، وَأَمَّا مَن قَرُبَت دِيَارُهُ فَإِنَّهُ لا يكادُ يَغِيبُ أَكثَرَ مِن أَربَعَةِ أَيَّامٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَقَد يَعتَذِرُ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَخِّرِينَ لِلحَجِّ بِالدَّينِ، وَيَتَحَجَّجُ بِأَنَّ عَلَيهِ حُقُوقًا لِلآخَرِينَ، فَيُقَالُ: لا شَكَّ أَنَّ الاستِطَاعَةَ شَرطٌ مِن شُرُوطِ وُجُوبِ الحَجِّ، وَأَنَّ حُقُوقَ الآدَمِيِّينَ في هَذَا مُقدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ اللهِ؛ لأَنَّ حُقُوقَهُم بَينَهُم مَبنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، وَحَقّ اللهِ مَبنَاهُ عَلَى الإِحسَانِ وَالمُسَامَحَةِ، لَكِنَّ هَذِهِ الدُّيُونَ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ لا تخلُو مِن أَن تَكُونَ دُيُونًا حَالَّةً أَو مُؤَجَّلَةً، فَإِن كَانَت مُؤَجَّلَةً فَلا إِشكَالَ، وَإِنْ كَانَت حَالَّةً وَقَدَرَ عَلَى دَفعِهَا وَعَلَى نَفَقَةِ الحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يحُجَّ، وَإِنْ تَوَارَدَا عَلَيهِ جمِيعًا وَلم يَستَطِعْهُما مَعًا فَلْيُقَدِّمْ تَسدِيدَ القِسطِ الذِي يُطَالَبُ بِهِ، وَلْيُؤَخِّرِ الحَجَّ إِلى أَن يَستَطِيعَهُ؛ وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى الإِنسَانِ دَينٌ طَوِيلُ الأَمَدِ، مِثلُ الدَّينِ الذِي لِصُندُوقِ التَّنمِيَةِ العَقَارِيَّةِ، وَهُوَ وَاثِقٌ مِن أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ عَلَيهِ القِسطُ أَوفَاهُ، فَإِنَّهُ في هَذِهِ الحَالِ إِذَا تَوَافَرَ عِندَهُ المَالُ وَقتَ الحَجِّ فَعَلَيهِ أَن يحُجَّ؛ لأَنَّ هَذَا الدَّينَ قَد أُمِّنَ بِالرَّهنِ الذِي لِلصُّندُوقِ وَهِيَ العِمَارَةُ؛ وَلأَنَّ هَذَا الدَّينَ مَضمُونٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، حَيثُ إِنَّ صَاحِبَهُ وَاثِقٌ مِن أَنَّهُ يُوَفِّيهِ كُلَّمَا حَلَّ عَلَيهِ القِسطُ فَيَكُونُ مَا في يِدِهِ زَائِدًا على هَذَا الدَّين فَعَلَيهِ أَن يحُجَّ بِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحرِصُوا عَلَى فَرَائِضِهِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيهِ بها، فَإِنَّهَا أَحَبُّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إِلَيهِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ النَّوافِلِ وَاستَكثِرُوا مِنهَا يُحبِبْكُمْ وَيُوَفِّقْكُم وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لكم، قال تعالى ذِكرُهُ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ ممَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سمعَهُ الذِي يَسمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الذِي يُبصِرُ بِهِ وَيَدَهُ التي يَبطِشُ بها وَرِجلَهُ التي يَمشِي بها، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ)).
(1/4951)
ماذا تريد؟ (3)
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عادل بن محمد قب
جدة
3/11/1424
جامع البدر
_________
ملخص الخطبة
_________
أنواع من الأعمال الصالحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها الحبيب، ما زِلتُ أعرِضُ عليك ميادين الخيرات والتَّسابق في فعلِ الخيرِ في هذه الدُنيا، فالمُوفَّقُ مِنَّا ـ يا عبدَ الله ـ مَنْ ألهمَهُ مولاهُ أن يستغِلَّ عُمرَهُ في طاعةِ اللهِ، ويغتنم لحظات الحياة في الباقيات الصالحات والاستكثار من الحسنات الطيبات.
وما هذه الأيامُ إلاَّ معارةٌ فما استطعتَ من معروفِها فتزوّدِ
فإنَّكَ لا تدري بأيةِ بلدةٍ تَموتُ ولا ما يُحدِثُ اللهَ فِي غدٍ
أيها الحبيب، ما زِلتُ أُطالبُ نفسي وإيَّاكَ بالمُسارعةِ إلى الخيرات والتُسابق فيها، وما زِلتُ أُرددُ على مُسامعك: ماذا تُريد؟ هلْ تُريد أن يُصلَّي عليكَ سبعُونَ ألفَ مَلَكٍ من الملائِكة في الصباحِ والمساء؟ يا للهِ سبعُونَ ألفا من الملائكة يُصلُّونَ عليَّ وعليك! نعم، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((ما مِنْ مُسلمٍ يعودُ مُسلِمًا ـ أي: يزورُ مريضًا أو أخًا لهُ في الله ـ غُدوةً في أوَّلِ النَّهار إلاَّ صلَّى عليهِ سبعُونَ ألفَ ملَكٍ حتَّى يُمسي، وإن عادَهُ عَشيِّةً ـ أي: في المساء ـ إلاَّ صلَّى عليهِ ألفَ مَلَكٍ حتَّى يُصبِح وكانَ لهُ خريفٌ في الجنَّة)). اللهُ أكبر، هنيئًا والله لِمن حملَ نفسَهُ في زيارة أخٍ لهُ في الله، يزوره للاطمئنانِ عليه في مرضهِ أو في صحتهِ، هنيئًا لهُ بالجائزةِ الُكُبرى؛ يُصلّي عليهِ ألف ملكٍ من ملائكةِ الله.
أخي الحبيب، هلْ تُريد أن يكتُبَ اللهُ لكَ ألفَ ألفَ حسنة ويمحُو عنكَ ألفَ ألفَ سيئة ويرفعُ لكَ ألفَ ألفَ درجة؟ لا إلهَ إلاَّ الله، حسنات تلو حسنات ودرجات تلوَ درجات، هلْ تريد أن تكسب هذه الألوف من الحسنات والدرجات؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((من دخلَ السُّوق فقال: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ لهُ المُلك ولهُ الحمدُ وهو على كُلِّ شيءٍ قدير كتبَ اللهُ لهُ ألفَ ألف حسنة ومحا عنهُ ألفَ ألف سيئة ورفعَ لهُ ألفَ ألف درجة)). اللهُ أكبر، أينَ أنتُم يا منْ تذهبونَ إلى الأسواق بالليلِ والنَّهار عن هذا الحديث؟! علّموهُ أزواجكم وأبناءكم وجيرانكم.
أخي الحبيب، أيُّها الغالي، هلْ تُريد أن يغفِرَ اللهُ لكَ ذنبكَ ما تقدَّمَ مِنهُ وما تأخَّر؟ فعن معاذ بنُ أنسٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ : ((من أكلَ طعامًا ثُمَّ قال: الحمدُ للهِ الَّذي أطعمني هذا الطَّعام ورزقنيهِ مِنْ غيرِ حولٍ مني ولا قوَّة غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبهِ وما تأخَّر، ومن لَبِسَ ثُوبًا فقال: الحمدُ للهِ الَّذي كساني هذا ورزقنيهِ من غيرِ حولِ مني ولا قُوَّةٍ غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبهِ وما تأخَّر)) حديثٌ حسن. ما أكرمك سيدي وإلهي، تُطعمهُم وتُلبسهُم، وبكلمةٍ واحدةٍ تغفر لَهُم، لكَ الحمدُ.
لكَ الْحمدُ حَمدًا نَستَلِّذُّ بهِ ذِكرًا وإن كُنتُ لا أُحصي ثناءً ولا شُكرا
لكَ الحمدُ حَمدًا طيبًا يَملأُ السَّما وأقطارَهَا والأرضُ والبرَّ والبحرا
لكَ الْحمدُ حَمدًا سرمديًَّا مُباركًا يقلُّ مِدادُ البحرِ عن كُنهِهِ حصرا
لكَ الْحمدُ تعظيمًا لوجهِكَ قائِمًا بِحقِّكَ في السَّراءِ وفي الضَّرَّا
لكَ الحمدُ مقرونًا بِشُكرِكَ دائِمًا لكَ الحمدُ في الأولى لكَ الحمدُ في الأُخرى
هلْ تُريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن لاَّ يمسَّكَ ضُر في يومِكَ وليلتك وأن لاَّ يمسَّكَ أذى؟ قال عليهِ الصَّلاة والسَّلام: ((منْ قالَ في أوَّلِ يومهِ أو في أوَّلِ ليلتهِ: بسمِ اللهِ الذي لا يضُّرُّ مع اسمهِ شيٌّ في الأرضِ ولا في السَّماء وهُوَ السَّميعُ العليم ثلاث مرات لمْ يضرّهُ شيءٌ في ذلِكَ اليوم أو في تلك الليلة)).
هلْ تُريد الجنَّة يا أيُّها الحبيب؟ هل تُريد دخولها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((مرَّ رجُلٍ بِغُصنِ شجرةٍ على ظهرِ الطريق فقال: واللهِ لأُنحِّينَّ هذا عنِ المُسلمين لا يؤذيهم فأدخِل الجنَّة)) رواه مسلم.
هلْ تُريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن تستظلَّ تحتَ ظِلِّ عرشِ الله؟ قال : ((من أنظرَ مُعسِرًا أو وضع لهُ أظلَّهُ اللهُ يومَ القيامةِ تحت ظِلِّ عرشهِ يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ)) رواهُ البُخاري.
هلْ تُريد أن يكونُ لكَ حِجاب من النار،؟ قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((من كانَ لهُ ثلاثُ بناتٍ فصبرَ عليهنَّ وأطعمهُنَّ وسقاهُنَّ وكساهُنَّ من جِدَتِهِ كُنَّ لهُ حِجابًا من النارِ يومَ القيامة)). فهنيئًا واللهِ لِمن لهُ بنات فأحسنَ تربيتهُنَّ وكساهُنَّ وأطعمهُن، يكُنَّ لهُ سِترًا وحجابًا من النار.
أخي الحبيب، يا حبيبي في اللهِ، هلْ تُريد أن يعتقكَ الله من النار؟ قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((من ذبَّ عن عِرضِ أخيهِ بالغيبة كانَ حقّا على اللهِ أن يُعتقهُ من النَّار)) حديثٌ صحيح. اللهُ أكبر، من ذبَّ عن عِرضِ أخيه بالغيبة، من دافعَ عن أخيه حينما ينهشه الناس ويغتابونه في المجلس فبشارةٌ لهُ العتقِ من النار.
ٍهل تُريد ـ يا أخي ويا حبيبي في الله ـ أن يغفرَ اللهُ لكَ كُل ما تقدَّمَ من ذنوبك؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((إذا أمَّنَ الإمامُ فأمِّنوا ـ أي: قولوا: آمين ـ ، فإنَّهُ من وافقَ تأمينهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه)).
هلْ تُريد أن يكتُبَ اللهُ لكَ صالح عملكَ وأن يغفر لكَ ويرحمك؟ قال عليهِ الصلاةُ والسَّلام: ((إذا ابتلَى اللهُ العبدَ المُسلِم ببلاءٍ في جسدهِ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكُتبْ لَهُ صالحَ عملهِ، فإن شفاهُ غسَّلهُ وطهَّرَهُ، وإن قبضَهُ غفرَ لهُ ورَحمهُ)) حديثٌ حسن.
هلْ تُريد أن تقوم من مرضِكَ كيوم ولدتكَ أمُّكَ خاليًا من الخطايا والذنوب؟ قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((قال تعالى: إذا ابتليتُ عبدًا من عِبادي مؤمِنًا فَحمدِني وصبرَ على ما بليتهُ فإنَّهُ يقومُ من مضجعهِ كيومِ ولدتْهُ أُمُّهُ من الخطايا، ويقولُ الربُّ عزَّ وجلَّ للحفظة: إنِّي قيَّدتُّ عبدي هذا وابتليتُهُ، فأجروا لهُ كما تُجْرُونَ لهُ قبلَ ذلكَ من الأجرِ وهُوَ صحيح)).
هلْ تُريد ـ يا أخي في الله ـ أن يغفر اللهَ لكَ ما بينَ الجُمعةِ والجُمعةِ الأخرى؟ قال : ((منِ اغِتسلَ يوم الجُمعة ثُمَّ أتى فصلَّى ما قُدِّرَ لهُ ثُمَّ أنصتَ حتى يفرغ الإمامُ من خُطبتهِ ثُمَّ يُصلِّي معهُ غُفِرَ لهُ ما بينهُ وبينَ الجُمعةِ الأُخرى وفضلِ ثلاثةِ أيامٍ)) رواهُ مُسلم.
هلْ تُريد ـ يا حبيبي في الله ـ أن يُزحزِحكَ الله عن النَّار؟ قال عليهِ الصلاة والسَّلام: ((إنَّهُ خُلِقَ كُلّ إنسانٍ من بني آدم على ستينٍ وثلاثمائةِ مفصلٍ، فمن كبَّر الله وحَمِدَ الله وهلل الله وسبَّحَ الله أو استغفرَ الله وعزلَ حجرًا عن طريقِ النَّاس أو شوكةٍ أو عظمًا عن طريقِ النَّاس أو أمرَ بمعروفٍ أو نهى عن مُنكرٍ عددَ الستين والثلاثمائةِ فإنَّهُ يُمسي أو يمشي يومئذٍ وقد زحزحَ نفسَهُ عنِ النار)) رواهُ مسلم.
هل تُريد أن يُذهِب اللهُ خطاياك كما يُذهِبُ الكيرُ خبثَ الحديد؟ قال رسولُ اللهِ لأُمِّ السَّائب: ((لا تسُبِّي الحُمَّى، فإنَّها تُذهِبُ خطايا بني آدم كما يُذهِبُ الكير خبثَ الحديد)) رواه مسلم.
هل تريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن تبني لكَ الملائكة بيتًا في الجنة؟ قال : ((إذا ماتَ ولدُ العبد قالَ اللهُ تعالى لملائكته: قبضتُّم ولدَ عبدي؟ فيقولونَ: نعم، فيقولُ: قبضتُّم ثمرةَ فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قالَ عبدي؟ فيقولون: حمدَكَ واسترجع ـ أي قال: الحمدُ لله وإنا للهِ وإنا إليهِ راجعون ـ ، فيقولُ الله تعالى: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّة، وسمُّوهُ بيت الحمد)) حديثٌ حسن.
أخي الحبيب، هل تُريد أن يبيت معك ملكٌ من ملائكةِ السَّماء وأن يدعُو لك هذا المَلَك؟ قال عليهِ الصلاة والسَّلام: ((طهِّروا هذهِ الأجساد طهَّرَكُمُ الله، فإنَّهُ ليسَ عبدٌ يبيتُ طاهِرًا إلاَّ باتَ معهُ ملكٌ في شِعارهِ، لا ينقلِبُ ساعةً من الليلِ إلاَّ قال ـ أي المَلك ـ : اللهُمَّ اغفِّر لعبدِكَ فإنَّهُ باتَ طاهِرًا)) حديثٌ حسن.
هل تريدون ـ يا عبادَ الله ـ أن يغبطكمُ النبيُّونَ والشُّهداء وأن تكونوا على منابر من نورِ اللهِ تعالى؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((قال اللهُ تعالى: حُقَّت أو وجبت محبتي للمُتحابينَ فيَّ، وحُقت محبتي للمُتواصلينَ فيَّ، وحُقت محبتي للمُتناصحينَ فيَّ، وحُقَّت محبتي للمتزاورينَ فيّ، المُتحابُّونَ فيَّ على منابر من نورٍ، يغبطُهُم بمكانهِمُ النَّبيُّونَ والصّديقون والشُّهداء)) حديثٌ صحيح.
اللهُمَّ احُطط عنَّا ثقلَ الأوزار، وارزُقنا يا الله شمائِلَ الأبرار، واقْفُ بِنا آثارَ المُشتاقينَ لكَ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4952)
ماذا تريد؟ (4)
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عادل بن محمد قب
جدة
10/11/1424
جامع البدر
_________
ملخص الخطبة
_________
أنواع من الأعمال الصالحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أخي الحبيب، ها نحنُ نقف وإياك في رِحلتنا الأخيرة اليوم ما بدأناهُ معك قبل ثلاثةِ أسابيع عن سؤالٍ طرحتهُ عليك: ماذا تُريد؟ نعم، كُلُّنا نُريد أعمال صالحة وحسنات كثيرة تُقرِّبُنا إلى اللهِ تعالى، فما أعظم والله سرور المؤمن بأعمالهِ، وما أسعده يومَ القيامةِ بأفعالهِ، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فيا أخي الحبيب،
إذا هبَّت رياحُكَ فاغتنمها فإنَّ لِكُلِ خافِقةٍ سكون
ولا تغفل عنِ الإحسانِ فيها فلا تدري السكونُ متَى يكونُ
أخي الحبيب، دعني أطرحُ عليك سؤالي مرَّةً أُخرى: ماذا تُريد؟ هلْ تُريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن يحلَّ عليكَ رِضُوانُ الله فلا يسخطُ عليكَ بعدهُ أبدًا؟ إذن اسمع يا من قُمتَ الليل، اسمع يا من بررتَ بوالديك، اسمع يا من صِلت أرحامك ورَحِمتَ جيرَانك وجعلتَ صدرك سليمًا للمسلمين، اسمع يا من حفظت لِسانك عنِ الحرام، اسمعوا جميعًا ـ يا عِبادَ الله ـ لهذا الحديثِ العظيم، يقول : ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ لأهلِ الجنَّة: يا أهل الجنَّة، فيقولون: لبّيكَ وسعديكَ والخيرُ في يديك، فيقولُ: هل رضيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضىَ ـ يا ربَّنَا ـ وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقِك؟! فيقول: أنا أُعطيكُم أفضلَ من ذلِك، قالوا: يا رب، وأيُّ شيءٍ أفضلَ من ذلِك؟! فيقول: أُحِلُّ عليكُم رِضواني فلا أسخطُ عليكُم بعده أبدًا)) رواهُ البخاري.
أخي الحبيب، هلْ تُريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن تكون محفوظًا في ذمَّةِ الله، أي: يحفظكَ الله من كُلِّ سوء، إذن اسمع يا حبيبي في الله ويا أيها الغالي، اسمع إلى هذا الحديث العظيم، قال : ((من صلَّى الصُبح فهو في ذمَّةِ الله)) رواهُ مسلم. تأمَّل معي قوله: ((في ذمَّةِ الله)) ، فهي ليست ذمَّة ملك من ملوكِ الأرض؛ لأنهُ وإن علا مُلكهُ وتوقفت مراكِب السير تعظيمًا وتبجيلاً لهُ لا تزال فيهِ حقارة الأرض وذِلَّةُ الأرض والضعف الكائن في المخلوق من ترابِ الأرض، وإنَّمَا هيَ ذِمَّةُ مالكِ المُلك وربّ الأرباب وخالِق الأكوان وما عليها والواصِف نفسَهُ سبحانهُ قائِلاً: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ. ذِمَّةُ الله هي الذّمَّةُ التي لا يستطيعُ أحد خرقها بلْ مسَّها، تُحيطُ المؤمِن بسياجٍ من الحِماية لهُ في نفسهِ وولدهِ وعقلهِ ودينهِ وسائر أمره، فيُحِسُّ بالطُمأنينة في كنفِ اللهِ، ويشعُرُ أنَّ عينَ الله ترعاهُ وأنَّ قوُّتَهُ تحفظهُ، فيمضي يومهُ واثِق الخُطى ثابِتُ الجنان عديم الوجل من كُلِّ ما دبّ على وجهِ الأرض.
أخي الحبيب، هلْ تُريد أن يكون لكَ نورٌ تامٌّ يوم القيامة، اسمع معي قوله : ((بشِّرِ المشائينَ في الظُّلَم بالنُّورِ التَّام يومَ القِيامة)) حديثٌ صحيح. والنُّور ـ أخي ـ يكونُ على قدرِ الظُلمَة، فمن كثُرَ سيرهُ في ظلامِ الليلِ إلى الصَّلاة عظُمَ نُورهُ وعمَّ ضِياؤُهُ يوم القيامة، والمؤمِنُ يعلمُ أنَّ مُقاساة الظُلمة هُنا هي ثمنُ النور هناك، وأنَّ سيرهُ في ظُلمةِ الليلِ إلى المساجد إنَّما يدَّخِر الأنوار لهُ ليومٍ تُضيءُ له الصِّرَاط فيعبرهُ إلى الجنَّة، وليست أنوارُ المؤمنين يومَ القيامة على درجةٍ واحدةٍ من الشِّدَّةِ والقُّوَة، بلْ تتفاوت بتفاوتِ الإيمان، قال : ((فيُعطَونَ نورَهُم على قدرِ أعمالهِم، فمنهُم من يُعطَى نورَهُ مثل الجبل بينَ يديهِ، ومنهم من يُعطى نورَهُ فوق ذلك، ومنهم من يُعطى نورَهُ مثل النَّخلةِ بيمينهِ، ومنهُم من يُعطى نورهُ دونَ ذلِكَ بيمينهِ، حتى يكون آخر من يُعطَى نورَهُ على إبهامِ قدمهِ يُضيء مرَّةً ويطفئ مرَّة)) رواهُ الحاكم وصححه الألباني رَحمه الله.
هل تريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن لاَّ تمسَّ النار عيناك يوم القيامة؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((عينان لا تمسُّها النار يوم القيامة: عينٌ بكت من خشيةِ الله، وعينٌ باتت تَحرسُ في سبيلِ الله)).
هل تريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن تلبس تاج الكرامة يوم القيامة، وتُريد ـ يا أخي ـ أن يرضى اللهُ عنك، وتريد بكُلِّ آيةٍ حسنة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((يجيء صاحب القُرآن يوم القيامة فيقولُ ـ أي القُرآن ـ : يا رب حلَّهِ، فيُلبس تاج الكرامة، ثُمَّ يقول: يا رب زرهُ، فيُلبس حلَّةُ الكرامه، ثُمَّ يقول: يا رب ارضَ عنهُ، فيُقال: اقرأ وارقَ، ويُزادُ بكُلِّ آيةٍ حسنة)) حديثٌ صحيح.
هل تُريد ـ يا حبيبي في الله ـ أن يُغرس لك غِراسٌ في الجنَّة؟ اسمع إذن، عن أبي هُريرة رضي اللهُ عنه أن رسُولَ اللهِ مرَّ بهِ وهو يغرِسُ غرسًا فقال: ((يا أبا هُريرة، ما الذي تغرِس؟)) قال: قُلتُ: غِرَاسًا لي، قال: ((ألا أدُلُكَ على غِراس خير لكَ من هذا؟)) قال: بلى يا رسُول الله، قال: ((قُلْ: سُبحان الله والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلاَّ الله واللهُ أكبر يغرِسُ لكَ بِكُلِّ واحدةٍ شجرةً في الجنَّة)) حديثٌ صحيح.
هل تُريد معرفة خصلتين أو خلَّتين لا تُحافِظ عليها إلاَّ دخلت الجنَّة، بلْ تكسب ألف وخمسمائة حسنة؟ إذن اسمع، قال عليه الصلاة والسلام: ((خصلتان أو خلَّتان لا يُحافِظ عليهما عبدٌ مُسلم إلاّ دخلَ الجنَّة، هُما يسير ومن يعمل بهِما قليل، يُسبِّح في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ عشرًا، ويحمُد عشرًا، ويُكبِّر عشرًا، فذلِكَ خمسونَ ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويُكبِّر أربعًا وثلاثين إذا أخذَ مضجعهُ، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويُسبِّح ثلاثًا وثلاثين، فذلِكَ مائةٌ باللسان، وألفٌ في الميزان)) ، فلقد رأيتُ رسولَ اللهِ يعقُدها بيده، قالوا: يا رسُولَ الله، كيفَ هُما يسير ومن يعمل بهما قليل؟! قال: ((يأتي أحدَكُم ـ يعني الشيطان ـ في منامه فيُنومهُ، ويأتيهِ في صلاتهِ فيُذكِّرَهُ حاجتهُ قبلَ أن يقولها)) حديثٌ صحيح.
هلْ تريد ـ يا أخي الحبيب ـ أن يشكُرَكَ الله ويُدخِلُكَ الجنَّة؟ فاسمع يا من تُريد شكر الله لك، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((إنَّ رَجُلاً رأى كلبًا يأكُل الثَّرى من العطش ـ أي: يأكل التراب من شِدَّةِ العطش ـ ، فأخذَ الرَّجُل خُفَّهُ فجعلَ يَغرِفُ لهُ بهِ حتَّى أرواهُ، فشكر اللهُ لهُ فأدخلَهُ الجنَّة)) رواهُ البخاري.
هل تريد أن يُدخِلَكَ اللهُ الجنَّة بشهادةِ الناس لك؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((أيُّمَا مُسلمٍ شَهِدَ لهُ أربعة بخيرٍ أدخلَهُ اللهُ الجنَّة)) ، فقلُنا: وثلاثة ؟ قال: ((وثلاثة)) ، فقلُنا: واثنان؟ قال: ((واثنان)) ، ثُمَّ لم نسأله عنِ الواحد. رواهُ البخاري.
هلْ تُريد أن ترفع درجتكَ في الجنَّة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الرَّجُلَ لترفعُ درجتهُ في الجنَّة فيقول: أنَّى هذا؟! فيُقال: باستغفار ولدكَ لك)) حديثٌ صحيح.
هل تُريد أن تعرِف رِجال الجنَّة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أُخبركُم برِجالكُم في الجنَّة؟)) قالوا: بلى يا رسُولَ الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((النَّبيُّ في الجنَّة، والصدِّيقُ في الجنَّة، والرَّجُل يزورُ أخاهُ في ناحيةِ المِصر في الجنَّة)) حديثٌ حسن حسّنهُ الألباني رحمه الله.
وهذه هديةٌ للمرأة بدخولِ الجنَّة، بلْ من أيّ أبواب الجنَّة شاءت، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا صلَّت المرأةُ خمسها وصامت شهرها وحصَّنَت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنَّةِ شاءت)) حديثٌ صحيح.
وهذه هديةٌ أُخرى للمؤذنين، قال عليه الصلاة والسلام: ((من أذَّن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب لهُ بتأذينه في كل يوم ستونَ حسنة، وبِكُلِّ إقامة ثلاثون حسنة)) حديثٌ صحيح. اللهُ أكبر، هنيئًا والله للمؤذنين هذه الأجور العظيمة والمباركة.
هل تريد أن تكون قريبًا من الله وأن يطرد الله عنك الداء من جسدك ويُكفِّر عنكَ سيئاتِك؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنهُ دأبُ الصالحينَ قبلكُم وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى ومنهاةٌ عنِ الإثم وتكفير للسيئات ومطردةٌ للداء عن الجسد)) حديثٌ صحيح.
هل تُريد أن تنجو من كُربِ يوم القيامة؟ قال عليهِ الصلاة والسلام: ((من نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُربِ الدُنيا نفَّسَ اللهُ عنهُ كُربةً من كُربِ يومَ القيامة)) رواه مسلم.
هل تريد أن يغفر اللهُ لك ذنوب سنتين بصيامِ يومٍ؟ قال : ((صيامُ يومِ عرفة إني أحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلهُ والسنةَ التي بعدَهُ، وصيام عاشوراء إني أحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلهُ)) حديثٌ صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صامَ يوم عرفة غفر اللهُ ذنب سنتين، سنة أمامهُ وسنة خلفهُ)) حديثٌ صحيح.
هل تُريد مجاورة النبي في الجنَّة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ من أحبَّكُم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكُم أخلاقًا)).
هل تريد حسنات بعد الموت؟ قال : ((إذا ماتَ الإنسان انقطعَ عملهُ إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلم يُنتفعُ بهِ، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.
هل تُريد ـ يا حبيبي في الله ـ أن يكشِفَ اللهُ عنك الهموم والكروب أو الأمراض؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((من أصابهُ همٌّ أو غمٌّ أو سقمٌ أو شدَّةٌ فقال: اللهُ ربي لا شريكَ لهُ كُشِفَ ذلك عنه)).
هل تُريد أن تُلين قلبك وتُدرِك حاجتك؟ روي أن رَجُلاً شكا إلى رسولِ اللهِ قسوةَ قلبهِ، فقال لهُ : ((أتُحِبّ أن يلينَ قلبُكَ وتُدرِكَ حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسهُ وأطعِمهُ من طعامك يلن قلبك وتُدرِك حاجتك)).
هل تُريد أن يُحبَّكَ اللهُ ورسولهُ ؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أحببتُم أن يُحبكُم اللهُ ورسوله فأدوا إذا ائتمنتُم، واصدقوا إذا حدثتُم، وأحسِنُوا جِوارَ من جاوركم)).
هل تُريد أن يملأ اللهُ قلبكَ رِضا ويُثبِّت قدمكَ على الصِّرَاط؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((أحبُّ الناس إلى اللهِ أنفعَهُم، وأحبُّ الأعمال إلى اللهِ عزَّ وجل سرورٌ تُدخِلَهُ على مسلمٍ، أو تكشِف عنهُ كُربةً أو تقضي عنهُ دينًا أو تطرد عنه جوعًا)).
هل تُريد أن يقيكَ الله من السُّم والسّحر؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((من تصبَّحَ كُلَّ يومٍ بسبعِ تمراتٍ عجوة لم يضرّهُ في ذلك اليوم سُمٌّ ولا سِحر)) متفق عليه.
هل تريد دعاء يجمع لكَ دُنياك وآخرتك؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((قُل: اللهُمَّ اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، فإنَّ هؤلاءِ تجمع لك دُنياك وآخرتك)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4953)
فضل الوقف وأهميته
فقه
الهبة والهدية والوقف
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/11/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل إنفاق المال. 2- فضل الصدقات الجاريات. 3- نماذج خالدة لبعض أوقاف الصحابة رضي الله عنهم. 4- فوائد الأوقاف على الأفراد والمجتمعات. 5- ضرورة إحياء سنة الوقف وتجديدها. 6- من أهمّ مجالات الوقف. 7- صفات ناظر الوقف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عبادَ الله، مِلاكُ الوصايا لبلوغ الطِّلابِ والآراب المنجِحَةِ للمساعي والرِّغاب تقوى الإله اللّطيف الوهاب، ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أيّها المسلمون، دُروجًا في مِهاد الرحمة الدّفّاقة والإحسان ومَشارِع البر الهتّان وعروجًا في مداراتِ الشَّرَف مديدِ الباع والأجرِ المذخور دون نكث وانقطاع والذكر الحسن السامي الذي ليس له اتِّضاع بل قد عبق رَيَّاه وضاع نلفي شريعتَنا الغراء قد جاءت بمجموع ذلك وربت يقينًا، فوشَّتِ التأريخ والحضارات [تخويفًا] وتزيينًا، ولات حين يحسن الإيماء والتلميح أو يغنينا، ودونكم ـ يا رعاكم الله ـ أوثق البراهين تنوهيًا وتبسيطًا وتعيينًا.
معاشر المسلمين، لقد خوّل الباري سبحانه وتعالى عبادَه صنوفَ الأموال، وارتضى لهم في إنفاقِها بعد الفرائض أسمى رُتَب الكمال التي تنتظِم بها الأحوال وتنكشِف جَرّاءَها الأوجال وتَلهَج بحميد مآثِرِها الأجيال في هذه الحياة الدّنيا ويوم المآل، وما تلكم ـ وايمُ الله ـ إلا مفخرةٌ من مفاخر رسالتنا ومأثَرَة من مآثر شريعتنا ورائعة من روائِعِ حضارتنا، تُترجم عنها بجلاءٍ سنّةُ الأوقاف التي حبَسَها الأخيار على وجوه البرِّ وعرّفوها وحَدّوا لها شروطًا ووصفوها؛ لتؤولَ مفيضةَ التأثير مصونةً في التثمير مأمونة عن كل يدٍ عابثة تُبير.
تلكم الأوقاف هي الصدقات الجاريَات الباقيات بين يدَي مُهور الحورِ والنفقاتُ الخالِدات لبحور الأجور، وأصل هذه الصدقة الجارية والمنّة الوالِية قولُه جل شأنه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، وقولُه : ((إذا مات ابن آدم انقطَعَ عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
أخي المسلم الموفَّق، وممّا برَّز هامَ الدهر إحسانًا وإشراقًا ومرحمة وائتلاقًا ما رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبرَ أرضًا، فأتى النبي فقال: أصبتُ أرضًا لم أصب مالا قطّ أنفس منه، فما تأمرني به؟ قال : ((إن شئتَ حبّستَ أصلَها وتصدّقت بها)) ، فتصدق بها عمر أنه لا يُباع أصلها ولا يوهَب ولا يورَث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضعيف وابن السبيل. كذلك وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه بئر رومة على المسلمين، وله بها خير منها في جنة ربِّ العالمين، صح ذلك عند ابن خزيمةَ والدارقطني وغيرهما.
ومن بديعِ ما وُقف من لَدُن سخيٍّ عند مراضِي الله وَقَف ما رواه البخاريّ عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جاء أبو طلحةَ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، الله تعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإنّ أحبَّ أموالي إلي بيروحاء، فهي إلى الله وإلى رسوله ، أرجو بِرَّها وذخرها، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله، فقال : ((بخٍ بخٍ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح)).
وهكذا تنافَست طلائعُ الصّحب الأخيار لإحرازِ قصَب السبق في أنفسِ مضمار؛ يرجون البر الدَّارّ في كلّ كبدٍ رَطبة ودار حيث يمَّمَ الإحسان ودار، فعن جابر قال: ما بقي أحدٌ من أصحاب النبيِّ له مَقدرة إلا وقَف.
قال الموفّق ابن قدامة رحمه الله: "والوقف مستحبّ، ومعناه تحبيسُ الأصل وتسبيل الثّمَرة، وهو نَوعان: وقف عامّ ووقف ذُرّيّ" أي: خاصّ على الذرية.
مبرّاتُ أوقافِ الأولى قصدوا إلى معانِ مِنَ الإحسان جلّت عن الحصرِ
إخوة العقيدة، ومنذ ذَيَّاك العصر الذهبيّ المجيد وعطائه الثرِّ المديد ورسالةُ الأوقاف تستنفر في الأمّةِ كمائن الإحسان المستطاع ومذخورَ البذلِ المُمرَاع في كريمِ مَهَزّة واندفاع، فأمست ولا زالت أوقافُ المعروفِ مصدرًا ثجَّاجًا بالرَّحمات ويَنبوعًا سكوبًا بالبركات وسَلسالاً ما أعذبه بالخيرات، فكم رَفَت الأوقافُ عَوَزَ المملِقين وشفت، ورأبت صدعَ المفؤودين وكفت، وآست سقام المتَطبِّبين وعفَت، كم مِن أسرٍ وأفراد [حرقتهم] الفاقةُ أعادَت الأوقاف لهم النضارةَ وكستهم حُلل العيش الكريم بجدارةٍ دون ملالَة أو خدش للمشاعر والكرامة. أما تعطَّلت منافع وانقَطعت مصالح وتوقّفَت مشروعات خيرٍ في الأمة بسبب شحِّ الموارد والأزمات المالية؟! أما أزكتِ الأوقافُ المباركات القِيَم الدينيّة والروحية والخُلُقية عبرَ أوقاف المساجد والمعاهد والجامعات والمشافي والمصَحّات والمبَرّات التي آستِ الكلومَ ونفَّست تباريح الهموم؟! أما يسَّرت خزائنُ العلوم وذخائر المعرِفة للأساطين النابِغين [والأفذاذ] النابهين الوصولَ إلى زُبى المراتب العلمية وقُنَن المنازل الاجتماعية؟! بلى لعَمرُ الحقّ بلى، إنه مقتضى قوله : ((إن مما يلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته علمًا علّمه ونشره، أو ولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحّته وحياته تلحَقه من بعد موته)) أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه.
فاصنعوا البرَّ مُنعمين وجودوا أيها القادِرون قبلَ السؤال
لانتِشار العلومِ أو لانطواءِ بؤس وشَرٍّ أو لترفيه حالِ
إخوة الإيمان، ولما استأثرت الأوقاف في شريعتِنا الغرّاء بمنزلة قعساء ومَهابة ولما تبوَّأته من ذُخرِ الأجر فكانت موئِلاً للمحسنين ومثابة وهفا المُحِبّ لأن تخطُوَ خطواتٍ مسدَّدَة وثّابة كان لزامًا في عصرنا الحديث ـ عصرِ الوفرة الماليّة والوثبة الاقتصادية والنهضة الحضارية والثورَةِ التقانية ـ مِن إحياء سنّة الأوقاف الحميدة وفقَ المقاصد المتجسِّدَة الرّشيدة وإمعانِ النظر في مصالحها واعتبارِ مناجِحها والتعريفِ بِعظيم أثَرِها على رَفاه الأفراد وتنميةِ المجتمعات وعظيمِ ذخرها في الحياة وبعد الممات، يرفُد ذلك تنميةُ مواردها المادية في مشاريع إنمائية تنهض بازدهاء رَيع الوقف وغِلاله وتثميرها، ولا تَني في تطويرِها وتعميرِها؛ كي تُنتَشَل حقيقةُ الأوقاف مِن عُقُل الفهوم التقليدية الرتيبة إلى الميادين الزاخرة الرحيبة؛ حتى تستأنِف الأوقاف مَثَلَها الشّرود في رِيادة حضارةِ الأمة الإسلامية والخيريّة والاقتصادية، يمهر ما سلف الحرصُ الأكيد على جوهر ما قصده الواقِف ورجاه من ثباتِ الأجور دون البِلى والدثور.
أمّةَ الإسلام، ومِن مجال الأوقاف الماسّة التي تهمي عوارِفها ويَسُرّ الأمّةَ واقِفها دعمُ مجالاتِ الدعوة الإسلاميّة ومجابهةُ ما يتعرض له الإسلام اليوم من مؤامراتٍ باغية طغت وما زالت وطمسُ الأباطيل والفِرى التي تنال القرآن الكريم والجنابَ المحمديّ وما دالت ودعمُ الهيئات الإِغاثية وجمعيّات تحفيظ القرآن الكريم الخيريّة وتحبيسُ الوقوفِ على أقسامِ المشافي الطبية كأقسام مرض الكلى وسواه وأنواع الإعاقة ونحوها، كذلك الإعلام الإسلامي لإيجاد قنوات إسلامية فضائية مستقِلّة، تُعلن للعالم أجمع وسطيّةَ الإسلام وجلاله ويسرَه وجماله وسماحتَه وكماله، وتسعى حثيثًا لحلِّ قضايا الأمة المهمّة كقضايا الشّباب والمرأة والفضِيلَة والفَقر والبطالة والأمن والسلام، وتَدُكّ قنوات الشرور والرّذيلة والآثام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فرسالةُ الإسلام روحُ العالم ونورُه وحياته، فأيّ صلاحٍ للعالم إذا عَدِم الروحَ والحياة والنور؟!"، وكذا الأوقاف على العِلم وطلاّبه والمعرفة وشُداتها وطباعة ونشر كتب العلم الموثوقة وأن توليَ المؤسسات الوقفية العنايةَ المتعلقة بالبحث العلميِّ الرائِد في المدارس والمعاهد والجامعات والمكتبات العلمية ومراكز البحث العلميّ وإحياء التراث الإسلاميّ، في جمع رشيد بين الأصالة والمعاصرة، بحسبان ذلك مسرَى الأمة إلى آفاق الاستعلاء والازدهار واستشرافِ مستقبل العز والنصر والأمن والاستقرار.
للمسلمين على نزورَة وَفرهم كنزٌ يفيض غنًى من الأوقاف
كنز لو استَشفَوا به من دائهم [لَتَوَجّروا] منه الدَّواءَ الشافي
ولو ارتقَوا بجناحه في عصرِهم لأطارَهم بقوادم وخوافِي
هذا، وأن لاَ تستكثرَ الأمة البارّةُ العَطوف جمَّ البرور والوقوف بِشتى التراتيبِ والصنوف في سبيلِ عِزة دينها وظهورِه ونشرِ هوادِيه ونورِه، ويومئذ تتدفَّق سُيُوب الأوقاف ـ ويا حسنها ـ من منابعها، وتتفتَّح سنابِل خيرها عن قنابِعِها، فيسقي أكرمُ الآباء أبَرَّ الأبناء عَذبَ رحيقها، ويحمد المسلمون جميعًا ساطِعَ بريقها، يقول سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس: 12]، قال أهل العلم: "ومن آثارهم الوقف بعد مماتهم".
والنّداءُ الجهوريّ موجَّهٌ للمسلمِينَ كافّة ولذَوِي اليسار خاصّة إلى إحياءِ سنّة الوقف، وأن لا يستقلَّ المسلم ما يوقِفه في الخير ولو كان سَهمًا واحدًا يرجو برَّه وذخره عند الله، لا سيّما مع حاجَةِ الأمّة الماسّة إلى تفعيل مصادِرِ تنميَتِها وقوّةِ اقتصادها وتنميَةِ مواردها بما يحقِّق مصالحَ البلاد والعباد ولما فيه عِزّ الإسلام وصلاح المسلمين.
ألا أسبَغ الله على الواقفين سُيُوب غفرانه ورحمتِه ورضوانه.
آمين لا أرضى بواحدةٍ حتى أضيفَ لها ألفًا
فلعلّه دعاءٌ صادق صادف الإجابةَ وألفى
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
بارَك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الهدى والبيان، ورَزَقَنا التمسّكَ بسنة المصطفى من ولد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمَد الله حمدًا كثيرًا يتعاقب ويتوالى، ونشكره على ما يسَّر من القُرُبات منالاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نعقِد عليها مَقصِدًا ومَقالاً، وأشهد أن نبيَّنا محمّدًا خير من وقف لله تعالى، صلّى الله وسلّم وبارك عليه صلاةً تدوم بُكَرًا وآصالاً، وعلى آله وصحبه الذين شرُفت بهم الأوقاتُ رِفعة وجلالاً، وعلى من تبعهم بإحسان لا يبغي عنهم حولاً وانتقالاً.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله العزيزَ الغفور، وازدَلِفوا إليه بالصّالحات والبُرور؛ تأمنوا أهوال القبور وكُرَب النشور، وتفوزوا ـ يا لهنائكم ـ بالرضا والحبور.
إخوة الإيمان، ولكي نُغالي بمعالِم الأوقاف أن تقوَى أو تزيد ونسعى في تأثيرها بالثواب المزيد والنفع المديد لزم أن يُرتَادَ لنظارتها من ترجَّحَ صلاحُه وغَلَب فلاحُه وكان حليفَ نظَرٍ ثاقب وتهمُّم لبلوغِ أزكى المآثر والمناقب ميمونًا نظرًا وتصرُّفًا، مأمونًا نزاهة وتعفُّفًا، مِلءُ بروده أن النظارة الحقة هي التي تراقِبُ الله وتخشاه وتتَّقيه حقَّ تقواه، بريدٌ لتحقيق مصالح الوقفِ وتكميلها ودفع المفاسِدِ عنه وتقليلها، وأما من سعى في تبطيل الوقف إلى أبَدٍ أو تَعطيله إلى أمَد وحرَم الموقوفَ عليهم الثمرة والانتفاع فقد كبا وما رشَد ونَزَع عن الدواءِ الأسَدّ.
ألا فاتقوا الله يا نظار الأوقاف، يا منِ ائتُمِنتم على رعايتها والحفاظ عليها، والحذرَ الحذرَ مِن التساهل فيها مهما كانت المسوِّغات والتبريرات، فالله سبحانَه وتعالى يقول: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283]، والمؤمَّل في الأحبّة النظارِ بذلُ النفيس والنُّضَار في تنفِيذ وتحقيق شروطِ الواقف وإقامة ضوابط الوقفِ وتعمير أصوله واستثمارِ محصولِه والسلوك بالمستفيدين ما يوجِب لهم الإكرام والإنعامَ وأخذهم بطرائق الرحمة وسجيحِ الأخلاق وسُبُل الشفقة والإرفاق. روى البخاري من حديثِ أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله : ((إن الخازن المسلم الأمين أحدُ المتصدِّقين)).
أيّها الأحبة في الله، ولئن غدَت هذه الشعيرة الرشيدةُ في كثيرٍ من بلاد الإسلام راكدةَ الهبوب ناضبةَ الشُّؤبوب مُثيرةً في النفس مكامِنَ أسَفٍ وأسى فإنَّ ممّا رفعَ لواءَ الابتهاج ونَشَر وأفاضَ على الغَيورِ أنواعَ البِشَر وثبَةَ الأمّةِ قادَةً وعلماءَ ومحسنِين وفقهاءَ وامتثَالَها تِلقاءَ العنايةِ بِرسالةِ الأوقاف وشؤونِ الوقف وسُبُل مشاركتها وتفعيل رسالتها في التنميةِ الاقتصادية وحمل الأعباءِ الاجتماعية التي تنوء بها بعض المجتمعات النامية خاصة، وذلك عبرَ المؤتمرات الإسلاميّة والبحوث العلمية والشبكات العالميّة والمراكز المعرِفِيّة، والله المسؤول أن يباركَ في المساعي والجهود ويحقِّقَ للمخلصين أمَلَهم المنشود، إنه جواد كريم.
هذا، وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشريّة الذي كرَّمَه ربّه باصطفائه وأسعَدَ من استمسَك باتباعِ نهجه واقتفائه، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على الهادي البشير والسِّراج المنير نبيِّنا محمد بن عبد الله...
(1/4954)
خطر الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
محمد بن مبروك البركاتي
الليث
جامع بايزيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر القصص على النفوس. 2- قصة مؤثرة في بيان خطر المخدرات والمسكرات. 3- عظم إثم المتعامل بالربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أقر القرآن الكريم القصة سلاحًا قويًا ومؤثرًا من أسلحة الدعوة إلى الإسلام وانتشاره؛ للتنفير من الرذيلة والقبائح والترغيب في القيم الخلقية والفضائل، وأخذت حيزا كبيرًا من القرآن الكريم، في قصص الرسل مع أقوامهم في عصور كثيرة، وقصص الصالحين من عباده، قال الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3]، وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111]، وقوله تعالى: فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176]، وقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف: 13].
وإليكم هذه القصة لأخذ العبرة منها:
تزوج شاب في عنفوان شبابه بشابة ذات دين وحسب ونسب وجمال، وقد كانت الحياة بينهم من أجمل ما يكون بين امرأة وزوجها، يحب بعضهم بعضا، وقد رزقه الله منها ابنًا إلا أن هذه الحياة لم يرد الله لها الاستمرار، فقد حدث لهذا الشاب حادث مروريّ راح ضحيتَه، وما إن انقضت عدة هذه الشابة إلا والخطّاب يتقاطرون عليها، كلّ يريدها، ولكنها آلت على نفسها أن لا تتزوج لتتفرّغ لتربية ابنها الذي كانت تحبّه أشدّ الحب وترى فيه العِوَض عن زوجها الذي أحبّته، وقد اجتهدت بالفعل في تربيته، وتبذل له كل غال ونفيس، وما يرغب أمرا إلا ويجده ملبى.
وتمر الأيام على هذا الابن وأمّه، ويدخل المرحلة الابتدائية وهي أكبر معين له بعد الله، تساعده في مذاكرته وتذلّل له العوائق حتى كان من المتفوّقين في دراسته، ولا تزال الفرحة تملأ قلبها بهذا الابن المتفوّق، ثم يدخل المرحلة المتوسطة ولا يزال في تفوقه، ويشاء الله ويكوّن هذا الشاب علاقة مع بعض زملائه مع اختبارات الفصل الدراسي الثاني من الصف الثاني المتوسط، حيث يذهب ليذاكر معهم، وبدأ يسهر معهم للمذاكرة، ولكن أمّه الحنون لا يطاوعها قلبها أن يسهرَ ابنها خارج المنزل، فما زالت به تناصحه وتحاول أن لا يخرج بعيدا عنها، فهي تحتاجه وتخاف عليه، حتى رضي أن تكون مذاكرتهم وسهرهم في منزله قريبًا من أمّه، ففرحت المسكينة وأخذت تجهّز له ولزملائه ما يحتاجونه من وسائل الراحة، ونذرت نفسها لخدمته وزملائه.
وتمر الأيام وإذا بها ذات يوم تشتكي آلاما تجدها، وتذهب لابنها ليوصلها لأقرب مستشفى ليكشف عليها، إلا أن الابن أخذ يتبرّم ويعتذر بعدم وجود السيارة، فعندما لم يجد بدّا من توصيلها أخذ سيارة أحد أصحابه ثم ذهب بها إلى باب المستشفى ثم تركها وذهب إلى أصحابه، وفي المستشفى تأبى إلا أن تكشف عليها طبيبة، ولكن لما لم تجد طلبت من الطبيب أن لا يرى منها إلا ما دعت الحاجة إليه، وطلب منها الطبيب بعض التحاليل. ثم بعد خروج النتيجة قال لها الطبيب: مبارك أنت حامل، فلم تكترث بقوله ظنّا منها أنه يمزح معها، فكرر عليها الطبيب أن نتيجة الفحوصات تقول: إنك حامل، فلما رأت أن الطبيب جادّ في كلامه قالت: يا دكتور، كيف حامل وأنا غير متزوجة ولم يطأني بشر؟! قال: وكيف حملت؟! فلما رأى استغرابها بدأ يبحث معها في الأمر حتى عرَف حالها مع ولدها وأصحابه، فقال: منهم قد أُصِبتِ، فاذهبي إلى بيتك وكوني على عادتك حتى تكتشفي الأمر.
وبالفعل ذهبت إلى بيتها وجاءها ابنها على عادته دائما ليسقِيَها كأس حليب قبل النوم، فأخذته منه وتظاهرت أنها شربته، وبقيت متحسسة الخبر، وإذا به يأتيها ليأخذ حاجة الرجل من امرأته منها وهي نائمة كما كان قد عملها معها قبل ذلك، فانتبهت فإذا به ابنها يريد منها ما يريد الرجل من امرأته، وإذا به ليس بعقله فقد استخدم المخدّر حتى أفقده عقله وجاء إلى أمه ليزني بها، فأصيبت بخيبة أمل في ابنها وبمصيبة في نفسها، وصدق رسول الله حين وصف الخمر بقوله: ((الخمر أم الخبائث)) رواه الطبراني وصححه الألباني، فهي تجمع كل الخبائث الدينية والدنيوية، فصاحبها مفسد لعقله، مفسد لبدنه وقوته ومنهك لصحّته، مؤذ لأهله وجيرانه وملائكته، وصاحب الخمر مغضب لربه سبحانه وتعالى الذي نهى عن شربها وتوعّد صاحبها بالعذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 90، 91]. والمخدرات أخبث من الخمر لأنها تؤدّي إلى ذهاب العقل، فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) رواه مسلم.
عباد الله، لعلكم استبشعتم هذا الفعل من هذا الشاب عندما زنى بأمه أعاذني الله وإياكم، ولا شك أنه أمر بشع غاية البشاعة، ولعلكم تظنون أنني سقت هذه القصة لكم لنحذر خطر المخدرات، صحيح أنه أحد الأمور التي أردت أن أحذّر منها، ولكن ـ يا عباد الله ـ إن ما يقدِم عليه كثير من الناس اليوم من التعامل بالربا أشد من هذا بنص حديث رسول الله ، فقد أخرج الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح من طريق ابن مسعود مرفوعا قوله: ((الربا ثلاث وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) ، وأخرج أيضًا بإسناد لا بأس به من طريق أبي هريرة مرفوعا: ((الربا سبعون بابا، أدناها كالذي يقع على أمه)). فهل استشعرتم معي خطر الربا؟! إنه حرب لله ورسوله، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279]، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ومن يطيق محاربة الله؟!
ولقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الأسهم والمساهمات والمضاربة فيها والاستثمار، وذكرنا كيف إقبال الناس على ذلك من غير تورّع ولا خشية أن يقع أحدهم في الربا، بل لقد تساهل البعض في ذلك تساهلا كبيرًا، وعندما تذكر له شركة بأنها مقترضة بالربا أو مودعة بالربا لا يكتَرِث، ونسي المسكين أو تناسى هذه الأحاديث والآيات.
عباد الله، قال اللّه تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]. وتواترت السنة الشريفة في المسألة، وبلغت حدا لا يسع أيّ مسلم ولو كان قرويّا أن يدّعي الجهل به، جاء من غير طريق أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، صح عنه : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول اللّه، وما هن؟ قال: ((الشرك باللّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا)) الحديث، وأخرج البزار من طريق أبي هريرة مرفوعا: ((الكبائر سبع، أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا)) ، وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة: لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله، وأخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا: ((أربعة حق على اللّه أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه)) ، وأخرج البزار بإسناد صحيح مرفوعا: ((الربا بضع وسبعون بابا، والشرك مثل ذلك)) ، وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن سلام مرفوعا: ((الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام)) ، وعن عبد الله موقوفا: (الربا اثنان وسبعون حوبا، أصغرها حوبا كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية)، قال: (ويأذن اللّه بالقيام للبرّ والفاجر يوم القيامة إلا آكل الربا فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)، وأخرج أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد رجال الصحيح من طريق عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة مرفوعا: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)).
أبعد هذه النصوص يأتي متأوّل أو متساهل ويقول: إن الربا في الشركة الفلانية يسير لا يضر؟! وما أسكر كثيره فقليله حرام.
فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من الربا قليلا كان أو كثيرًا، واستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4955)
البطالة
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
محمد بن مبروك البركاتي
الليث
10/11/1427
جامع بايزيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف البطالة. 2- انتشار البطالة في العالم العربي. 3- مفاسد البطالة وآثارها. 4- أسباب البطالة. 5- الحث على الجد والنشاط والعمل. 6- علاج الإسلام لظاهرة البطالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إننا في هذا اليوم سنتحدث عن مشكلة اجتماعية خطيرة على الفرد والمجتمع، إنها مشكلة البطالة.
تعرف البطالة بأنها الحالة التي يكون فيها الشخص قادرًا على العمل وراغبًا فيه ولكن لا يجد العمل والأجر المناسبين أو لا يريد الانخراط فيه.
وأكاد أجزم أنه لا يوجد بيت في هذه المدينة إلا وفيه شاب أو شابان أو أكثر نائمًا عند أهله لم يجد عملا أو لا يريد عملا، وهذه المشكلة على مستوى عالمي وعربي، فلقد تفشت البطالة في الوطن العربي حتى بلغ عدد العاطلين عن العمل في الوطن العربي 16 مليون شخص، ويتوقع أن تصل إلى 80 مليون شخص بحلول عام 2020م. وحسب أول تقويم إحصائي رسمي لحجم البطالة في السعودية تشير آخر إحصاءات وزارة التخطيط أن إجمالي حجم البطالة حتى عام 2005م وصل 81 في المائة للسعوديين من النساء والرجال.
عباد الله، ومما لا شك فيه أن البطالة هي المسؤولة عن ارتفاع معدلات الجريمة والانحراف في أي مجتمع؛ ولذلك فإنها مشكلة تؤرق العالم أجمع، فقد أشارت دراسة إلى وجود درجة مقبولة من الارتباط بين هذين المتغيّرين، فكلما زادت نسبة البطالة ارتفعت نسبة الجريمة.
ومن أهم ما ورد في تلك الدراسة أن جريمة السرقة تعد من أبرز الجرائم المرتبطة بالبطالة، حيث تبلغ نسبة العاطلين المحكومين بسبب السرقة 27.1 بالمائة من باقي السجناء المحكومين لنفس السبب، وهذه النسبة بازدياد كل سنة. وأكدت هذه الدراسة أيضًا أنه كلما ازدادت نسبة البطالة ازدادت الجرائم التي تندرج تحت الاعتداء على النفس: القتل الاغتصاب السطو والإيذاء الجسدي. ولا يمكن القول أو الحكم هنا بأن البطالة هي السبب المباشر للجريمة وإلا صار كل عاطل وكل فقير مجرمًا، وهذا أمر مرفوض ولا يحتاج إلى أي تدليل عليه، وإنما نقول: إن البطالة تحتوي على بذور الجريمة إذا صاحبتها عوامل معينة بظروف معينة.
أما المخدرات فإن مرتعها هم الشباب العاطلين، وحدث ولا حرج عما يحدث منهم في استخدام وترويج هذا البلاء وما يتبعه من مفاسد ومشاكل وجرائم.
عباد الله، آثار البطالة على الأسرة تتمثل في فقد رب الأسرة الشعور بالقدرة على تحمل المسؤولية والتوتر والقلق، أما آثارها على المجتمع فتتمثل في تعطّل طاقات قادرة على الإنتاج، وتفقد العاطلَ الدخل؛ مما ينتج عنه اجتماعيًا الشرور والجرائم نتيجة الفراغ والقلق، فتجده ينقم على غيره. وصحيًا تفقده الحركة، ونفسيًا يعيش في فراغ قاتل.
وترجع أسباب البطالة إلى:
1- الزيادة السكانية: حيث أن تزايد عدد السكان سنويًا يسبب ضغطًا على موارد الدولة، ومن ثم فمن الصعب تحقق فرص عمل لهذه الأعداد المتزايدة.
2- ندرة الموارد الاقتصادية: فقد أدت ندرة الموارد الاقتصادية إلى عدم وجود فرص وظيفية للعاطلين، خاصة مع التحويلات الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد العالمي وانعكاساته على الاقتصاد الوطني، وهو الأمر الذي يشكل عبئًا إضافيًا على الدولة في تمويل عمليات التنمية.
3- عجز سوق العمل عن استيعاب الخريجين: فهناك أعداد هائلة من الخريجين الحاصلين على مؤهلات بأنواعها المختلفة ومع ذلك يعجز سوق العمل عن استيعابهم.
4- غياب شبه كامل لمؤسسات فاعلة متخصصة لاستقطاب وتوجيه وتأهيل ومتابعة الكفاءات الوطنية التي لها رغبة للعمل بالقطاع الخاص.
يا أيها الشباب، يا من يسمع كلامي أو يسمع به، إنه لا مكان في هذه الأيام لمن لم يهتمّ بنفسه، لا مكان لمن لم يعدّ نفسه، لا مكان لمن لم يكن جادّا، لا مكان للمستهترين، إن سوق العمل تجاوزك. يا من يريد الراحة والكسل والدعة، لا مكان لك فإنك ستكون من العاطلين الباطلين، فابحث لنفسك عن حرفة وتعلّمها وطوّر نفسك فيها وارفع من شأنك؛ فإن قيمة كل امرئ ما يحسن، والحَقْ لا يفوتك الركب.
عباد الله، إن البطالة مشكلة اقتصادية واجتماعية وإنسانية ذات خطر، فإذا لم تجد العلاج الناجح تفاقم خطرها على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع، يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله: "من تعطّل وتبطل انسلخ من الإنسانية بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى"، وورد في بعض الآثار: "إن الله يحب المؤمن المحترف ويكره البطال".
ولقد عالج الإسلام ظاهرة البطالة بوضع مجموعة من القواعد والتنظيمات لمعالجة ظاهرة البطالة، ومن أجل الحثّ على العمل والبعد عن المسألة، وفي هذا ردّ على الذين يتهمون الشريعة الإسلامية بأنها تحبّذ جانب الفقر على الغنى.
وبإيجاز فقد عالج الإسلام ظاهرة البطالة من جانبين:
أحدهما: جانب وقائي، أي: قبل وقوع ظاهرة البطالة وانتشار آثارها وأضرارها، بالحث على العمل وذم المسألة، فلقد قدّس الإسلام العمل وكرّم العاملين والمنتجين واعتبره شرفًا، فبالعمل يؤدي الإنسان رسالته الإعمارية في هذه الأرض، وبالعمل يتطابق مع دعوة القرآن إلى الإعمار والإصلاح فيها، قال تعالى: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61].
وانطلاقا من هذه الدعوة راح الإسلام يحث على العمل ويحارب الكسل والاتكالية، ويدعو إلى الجد وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق والانتفاع بطيبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها والاستمتاع بطيّبات الحياة وإسعاد الإنسان وربط كلّ ذلك برباط الإيمان بالله سبحانه، قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]، وقال تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]، وقال تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 195]، وقال تعالى: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129].
وقد حث نبينا على العمل وطلب الرزق الحلال، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من يأتي رجل فيسأله أعطاه أو معنه)) أخرجه البخاري في صحيحه، وعن خالد بن معدان عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) أخرجه البخاري في صحيحه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله : ((إن داود النبي عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده)) أخرجه البخاري في صحيحه، وعن عبد الله بن عباس عن أبيه عن رسول الله قال: ((من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له)) أخرجه الطبراني في الأوسط، وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله قال: ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم)) أخرجه الترمذي في سننه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((خير الكسب كسب العامل إذا نصح)) أخرجه أحمد في مسنده.
وقد شجع الإسلام على جميع الأعمال التي تدرّ على الإنسان بالرزق، سواء زراعة أو صناعة أو عملا مهنيًا أو تجارة، قال المصطفى وهو يحبّذ ويشجّع على التجارة: ((تسعة أعشار الرزق في التجارة)) ، وروى الإمام أحمد في المسند أن النبي قال: ((أطيب الكسب عملُ الرجل بيده وكل بيعٍ مبرور)).
والثاني: جانب علاجي، أي: بعد وقوع بعض أفراد المجتمع في أتون البطالة ومستنقع التعطل، ومواجهة ذلك بالحث على التخلص من البطالة، ومن خلال أوامر صريحة وإجراءات ملزمة تجعل من السهل التصدي لمعالجة ظاهرة البطالة ومشكلة العطالة في المجتمع.
ورد في مجمع الزوائد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلين أتيا الرسول فسألاه، فقال: ((اذهبا إلى هذه الشعوب فاحتطبا فبيعاه)) ، فذهبا فاحتطبا، ثم جاءا فباعا، فأصابا طعامًا، ثم ذهبا فاحتطبا أيضًا، فجاءا فلم يزالا حتى ابتاعا ثوبين ثم ابتاعا حمارين، فقالا: قد بارك الله لنا في أمر رسول الله. وفي الحديث دلالة على أهمية تشغيل العاطلين وإرشادهم إلى العمل.
وورد في الصحاح قول رسولنا عليه الصلاة والسلام في شأن الزكاة: ((لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)). وفي الحديث دلالة على أن الزكاة لا تعطى للقوي القادر على العمل؛ ولذا نهى الشرع المطهر عن المسألة والتسوّل، وذم استجداء صدقات الناس وأعطياتهم، ودفع المسلمين على أن يصونوا أنفسهم عن ذلك، ويسموا عن المذلة، ويحفظوا كرامتهم بالعمل وكسب الرزق.
أَبَعدَ هذا ـ أيها الشباب ـ يرضى أحدكم أن يبقى عاطلا دون عمل؟! كثير من الشباب لا يريد إلا عملا مكتبيّا، وكم هي الأعمال المكتبية التي ممكن أن تستوعب الشباب؟!
شبابَنا، لا تأنفوا من أي عمل شريف، فقد سمعتم ما قال نبيكم في ذلك، وكيف حثكم على العمل، فكم هي المحلات التجارية التي تريدكم والأعمال المهنيّة الشريفة التي يحتاجها البلد من نجارة وحدادة وكهرباء للمنازل والسيارات وغيرها من الأعمال والتي قد تتعلمونها وتحسنونها.
ولقد فتحت الدولة ـ حفظها الله ـ المجال لتعلم هذه المهن الشريفة، وذلك بفتح المعاهد والكليات المهنية والتقنية لتعلّم هذه المهن، ونجد الكثير من خريجيها يعزفون عن العمل بما تعلموه فيها، فما العيب في ذلك؟! وهناك من الجمعيات الخيرية من تساهم في وضع بعض الحلول كتدريب بعض الشباب على المهن وكمساعدة الأسر المنتجة، فلنهتبل هذه الفرص قبل فواتها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4956)
شكر النعم (1)
الإيمان
خصال الإيمان
عبد الله بن أحمد لعريط
القل
المسجد العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية موضوع الشكر. 2- وجوب شكر الله تعالى. 3- كيف يكون شكر الله تعالى؟ 4- كيف يتعرف العبد على ربه بالنعم؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أحبتي في الله، أردت من خلال هذه الخطبة أن أذكر بموضوع ذي أهمية بالغة في حياتنا حيث أمر الله تعالى أن يشتغل العبد به في سائر أحواله ويكون ديدنه في جلّ أوقاته، وهذا الأمر هو شكر النعم. والمتمعن في كلام الباري سبحانه وتعالى يجد أن الشكر عليه مدار التكليف، فالعبد إذا امتثل لأمر ربه واجتنب نهيه فقد شكر لله، لذلك نجد أن إبليس لما توعد ابن آدم بالغواية قال: وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، وقال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. وهذه الفئة القليلة هي التي أذعنت لله تعالى وخالفت ظنَّ إبليس، قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرْيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20].
فكل عمل خير يصدر من العبد مع النية الطيبة لله تعالى فهو شكر، وكل شر يصدر من العبد فهو كفر، والناس يتفاوتون في درجة الشكر وفي دركة الكفر.
فواجبنا كمسلمين أن نشكر لله على ما أنعم علينا من نعم وما أولانا به من مِنن لا تعَدّ ولا تحصى، ونحن على يقين أن الله تعالى قد منَّ علينا بهذه المنن لينظر أنشكر أم نكفر، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40].
والشكر لا يكون إلا بما بيّنه الله ووضّحه رسوله ومصطفاه عليه أفضل وأزكى صلاة الله، فنِعمَ المولى مولانا الذي ينعم ويبيّن سبيل المحافظة على النّعم، فينبغي لنا أن نقابل آلاء الله علينا بالشكر والعرفان، فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. يبين لنا المولى جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أوجدنا في هذه الحياة لتأدية رسالة هي من أنبل الرسالات التي دعا إليها أنبياء الله تعالى، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، هذه العبادة بمفهومها الواسع والتي تشمل كلّ ما يحتاجه الإنسان من علم وعمل لصلاح دينه ودنياه بشرط الموافقة لهدي النبي ، كما قال جل وعلا: الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2]، قال الفضيل عليه رحمة الله في معنى هذه الآية: " أَحْسَنُ عَمَلاً : أن يكون العمل خالصا صوابا"، خالصا لله تعالى ووفق ما شرعه الله لنبيه.
وهذه العبادة الشاملة لا تتم على وجهها الصحيح والمطلوب والمشروع حتى تتوفر نِعَم تتمّ بها، وهذه النعم أودعها الله في هذا الكون الرحب، وأمر الله الإنسان بالبحت عنها والعمل لكسبها.
وقد خلق الله تعالى الإنسان وأودع فيه غرائز تشدّه إلى هذه الحياة، فمن شأن الإنسان الخلود إلى الراحة والترفيه عن النفس، كما زيّن له حب الشهوات من النساء والبنين والخيل المسومة والأنعام والحرث وغيرها من زينة الحياة الدنيا، والمولى جل وعلا طلب من عباده السعي والمشي في مناكب الأرض لجلب الرخاء والهناء واستتباب الأمن والعافية، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
ثم أمر الله تعالى بانتهاج النهج السليم في طلب الرزق، وذلك بأن يسلك العبد الطريق الحلال الطيب، وكم من آية في القرآن وضحت لنا مسلكَ الأنبياء في طلب الرزق وهم خير أسوة وقدوة في هذا الأمر الجليل، فهل خطر في بالك يوما أن نبيّا أكل في حياته ولو درهما حراما؟!
أولو الأمر الرعاة هم المطالبون أولا بتيسير السبل المشروعة لجلب النعم، وعليهم أن يضيقوا على الناس كل سبيل مؤدي لكسب خبيث، فالربا سبيل لمحاربة الله ورسوله، والرشوة سبيل للبوار، والتطفيف سبب الهلاك والدمار.
الحكم لله، قال الله تعالى: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40]، فقرن الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الحكم الراشد وبين العبادة الحقة الخالصة لوجهه تعالى، وذلك تبيانا منه جل وعلا أن العبادة لا تتمّ على الوجه الصحيح حتى يقوم العدل وتقوم المساواة بتوفير ما يمكن توفيره من النعم التي تقوم عليها مصالح العباد الدنيوية والأخروية.
ولا يحيف ولا يطغى الحاكم أو المحكوم ويغلب جانبا عن الآخر بل لا بدّ له من الاستقامة والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط من الحاكم والمحكوم على حدّ سواء، قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112].
فإن وجدت هذه النعم وحققها الرعاة للرعية وظفر بها الناس فيجب عليهم القيام بشكرها حتى تحفظ ولا تزول، فإن زالت لسبب أو لآخر فالناس على قسمين:
قسم تعرّف لله في وقت رخائه فسخّر هذه النعم في مرضاته، فلا يخاف ظلما ولا هضما، فالله وليّه في رخائه وفي ضرائه.
وقسم لم يعرف لله فيها حقا في رخائه، وسخرها في مساخطه، فالشدة عظيمة والنهاية أليمة، وليس له من دون الله من أولياء.
تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، والجزاء من جنس العمل. والرخاء هو سعة العيش وطيبه وهناؤه، ولا يكون العيش هنيئا طيبا إلا بتوفر أسبابه من صحة ومال وأمن وعافية.
روى الإمام أحمد في مسنده عن إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ)) إسناده صحيح.
إن الله عز وجل يريد لعباده الحياة الطيبة، يريد لهم الصحة والعافية، يريد لهم رغد العيش وسعته، ولكن سن سننا لا تتبدل ولا تتغير، ومنها أن حفظ هذه النعم لا يكون إلا بشكره وذكره فيها وتسخيرها في مرضاته، بل جعل لمن اتبع رضوانه فيها الجزاء العظيم، وما دام الجزاء من جنس العمل فمن تعرف إلى الله بهذه النعم في حال رخائه أولاه الله بحفظها عليه وزاده خيرا منها، وهو أن الله يطلع على هذا العبد حين تحل به ضائقة في وقت يكون فيه العبد أحوج ما يكون إلى الفرج.
كيف يتعرف العبد لربه بهذه النعم؟
أولا: نعمة المال، فنعمة المسكن والمركب وغيرها من متطلبات الحياة لا تتوفر إلا بالمال، فالمال قوام هذه الحياة كما قال الباري سبحانه وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]، ومعنى قِيَامًا : ما يقوم به الشيء، فالأموال جعلها الله تعالى تقوم عليها معايش الناس الدنيوية والدينية، لذلك المولى تبارك وتعالى حثّ على الكسب والتكسب فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]، فطلب الله من عباده أن يسيروا في أرجاء هذا الكون الفسيح ويبحثوا ويخرجوا ما أودع الله فيه من نعم، والتسابق اليوم في هذا المجال بلغ أوجه حيث جعل الذين لا يحركون له سكنا ضعفاء متأخرين، والله عز وجل يلوم على الكسل الذي كان يتعوذ منه رسول الله صباح مساء.
وقال جل وعلا: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: 80]. عَلَّمْنَاهُ : ضرورة العلم، صَنْعَةَ : المهنة والعمل، فمن لوازم شكر النعم تعلم الصناعات والمهن التي لا بد منها لحياة البشر، بل من الواجب إتقانها والتفنن فيها، قال جل وعلا: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سبأ: 10، 11]. قَدِّرْ : ضرورة إتقان العمل بلا زيادة ولا نقصان تخرجه عن جماله وكماله، فالله جميل يحب الجمال في كل شيء مشروع، وهو تعالى بصير بما يصنع عباده رقيب على أعمالهم، فينبغي على العامل أن يستشعر هذه الرقابة من الله تعالى حتى يؤدّي عمله على أكمل وأحسن وجه، فيكون صاحبه صالحا مصلحا.
تحرّي الطيبات، أمر الله تعالى أن يتبع العبد طريق الحلال وينأى عن طرق الحرام، وليس ذلك إلا لمصلحة تعود على العبد ذاته لينال الحفظ من الله، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] )) رواه مسلم. فأمر بأن يسلك العبد مسلك الطيبات ليطيب عيشه وينال بذلك السعادة والهناء التي نالها أنبياء الله.
وقال الباري سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97]، هو وعد من الله بالحياة الطيبة لكل من اقتفى أثر الصالحين في المجالين الديني والدنيوي.
التفاتة: صلاح المجتمع بصلاح الأسرة التي قوامها رجل وامرأة، وإذا طابت فعال وأقوال الناس وطابت نياتهم طاب ما حولهم، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. والأعظم من ذلك قبول أعمالهم وأقوالهم متعلق باتباعهم طريق الطيبات كما ذكر الله سبحانه وتعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي يشمل مصالح العباد العاجلة والآجلة وهي العبادة الحقة ودين القيمة، ولا يطيب مقال العبد وفعاله إلا إذا كان كسبه من صالح أعماله.
الإنفاق، لقد منّ الله على عباده بوافر النعم، وأوسع عليهم في الأرزاق والمنن، وفتح لهم من أبواب رزقه ما امتلأت به القرى والمدن، ومن أوسع عطائه أن فرض عليهم زكاة في أموالهم يطهّر بها أموالهم ويزكي بها أنفسهم، وحثهم بعد ذلك على عمل البر والإحسان ومجاهدة النفس والشيطان، ورغبهم في المبادرة والمسارعة في الخيرات بأن فتح أبواب جنة عرضها السماوات والأرض للذين ينفقون في السراء والضراء، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]. ثم أوصاهم بالتزام الحكمة في صرف هذا المال، وجعل ذلك من لوازم الشكر والعرفان.
الوسطية والاعتدال، ومن الحكمة التي هي ضالة المؤمن ضرورة التوسط والاعتدال في إنفاق المال، بل إن الله تعالى لما أثنى على صنف من عباده الحكماء الذين هم أقرب الخلق لرحمته ولواسع منِّه وعطائه وصفهم بالاعتدال في حياتهم المادية، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]. والإنفاق سواء كان في أمور الدين أو الدنيا فلا بد من الاستقامة والاعتدال فيه دون إفراط ولا تفريط، قال الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29]، معنى الآية: لا تبخل بما آتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم فيلومك سائلوك، ولا تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما تملك فلا يبق لك شيء ولا لأهلك فتنقطع بك الحياة ولم تجد ما تواصل به مسيرك، فكن بين ذلك قواما عدلا وسطا. والخطاب هنا موجه لصفوة الخلق عليه الصلاة والسلام، ففيه من الشأن ما لهذا النبي والرسول الكريم، وفيه من الفضل ما ينبغي التمسك به والعمل به كفضل سنته في التمسك بها والعمل بمقتضاها.
مجانبة الإسراف، في الحقيقة هو من أعظم الشكر الذي يزيد في النعم ويحفظها للفرد والجميع، وبالمقابل ففي الإسراف والترف والبذخ خراب الديار وفناء الأعمار، ولقد بين الله تعالى أن من أسباب غضبه ـ وفي غضبه زوال النعم وحلول النقم ـ التعدي والطغيان ومجاوزة الحد والإسراف، قال الباري سبحانه وتعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه: 81]، وقال سبحانه وتعالى محذرا من حياة الترف والبذخ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]، مُتْرَفِيهَا أي: منعميها من الأغنياء والرؤساء والأمراء، فطغيانهم في النعم وإسرافهم فيها ساقهم إلى التعدّي والطغيان والفسوق والعصيان.
فالحياة تطيب باتباع هذه التعاليم الربانية، من ضرورة الإنفاق في مجال الدنيا والدين بالعدل والمساواة، دون تقتير ولا تبذير، فاجعل من مالك نصيبا لنفسك ولأهلك ولدينك، وذخرًا لوقت الحاجة حتى لا تضيق عليك الضائقة وربما تكفَّفت الناس أعطوك أم منعوك.
فإذا اتبع العبد هذا السبيل بارك الله له في رزقه وماله وحفظه عليه، فإن أكل أكل طيبا، وإن أنفق أنفق طيبا، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولله المزيد، فإن حل بالعبد فقر وفاقة وربما اشتدّت به الحاجة إلى المال الذي به قوام حياته فالله عز وجل وعده بالفرج، فلا يلبث ويوفّقه إلى مخرج يجد فيه ضالته، والله لا يخلف الميعاد، فما دام العبد عرف ربه عند غناه وسعته وسخّر هذه النعمة في مرضاته وعرف بين الخلق بالجود والكرم والإنفاق فقد قدّم ما عليه بأن تعرّف لربه بهذه النعمة قبل حلول النقمة، فتحقّ سنة الله بالحفظ والولاء وعظيم الجزاء، فيخفف على عبده هذه الشدة، ويسخر له من يعينه عليها، فلا يلبث إلا وتنجلي عنه الشدة، وربما وهب له مثلها أو خيرا منها، وهي ذكرى للعابدين في كتابه المبين، قال الرزاق ذو القوة المتين: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 84].
هذه في الدنيا، أما في الآخرة فالعبد يسير تحت ظل صدقته من قبره إلى نشره وحشره، وكلما تكفأ به الصراط ثبّته ماله حتى يعبر هذه المحنة التي مقدارها ألف سنة.
والله جل وعلا قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا ممن عرفوه في رخائهم بأموالهم، فتاجروا بها مع الله بصالح أعمالهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4957)
فضائل مكة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
17/11/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة البداية. 2- مكة مهوى الأفئدة. 3- فضائل مكة. 4- وجوب تعظيم مكة والتحذير من الإلحاد فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا أيّها الناس، أُسرةٌ صغيرةٌ مُكوَّنة مِن أمٍّ وطفلِها الرَّضيع استقرَّت في دوحَةٍ فوق الزّمزَم في أعلَى هذا المسجِد المبارك، لا تملِك تلكم الأسرةُ إلا جرابًا فيه تمر وسقاءً فيه ماء، ووسطَ وادٍ ليس به أنيسٌ ولا ماء ولا زرع، غير أنَّ تلك الأم المباركة لم يخالِجها شكٌّ أنَّ الله الذي اختَار لها ولِطفلها هذه البُقعة النائيةَ لن يضيِّعها وابنَها، بل اعتَصَمَت به ورضِيَت بقضائِه حينما قالت لزوجها إبراهيمَ عليه السلام: ءآلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيِّعنا؛ ولهذا جاءتها البشرى فقال لها المَلك مرسلاً إليها: لا تخافوا الضيعةَ؛ فإنَّ هذا بيتُ الله يبنيه هذا الغلام وأبوه. الحديث رواه البخاري.
لقد أصبَحَت تلكم الأسرةُ الصغيرةُ نواةَ الحياة وأصلَ العمران في هذا المكان، وقد جاءت إلى صَحراءِ الجزيرةِ العربية بشرفِ النبوة والرسالة لا غير، فصارَ البيت الحرام لهم وعاءً وماءُ زمزم لهم سقاءً وعِناية الله لهم حِواء، حتى أذِن الله لإبراهيم عليه السلام أن يرفَعَ هو وابنه إسماعيلُ قواعدَ البيت، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 127، 128].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمِه أن يكونَ هذا الموطن مأوى لأفئدةِ الناس تهوي إليه من كلِّ فجٍّ عميق، وملتقى تتشابَك فيه الصلات بين الناس على اختلافِ ألسنتهم وألوانهم، فيأمر الله خليلَه عليه السلامُ بقولِه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. ومن ثَمَّ يصبِح الحجّ ركنًا أساسًا مِن أركان الإسلام الخمسةِ بالكتاب والسنّة والإجماع، ومَن أنكره فقد كفر باللهِ، ومن كفَر فإنَّ الله غنيّ عن العالمين.
أيّها المسلمون، إنَّ الله جل وعلا حينَما جعل مكّةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس وجعل أفئدة الناس تهوي إليه أودَعَ شريعتَه الغراء ما يكون سياجًا يميِّز هذه البقعةَ عن غيرِها ويُبرِز لها الفضلَ عمّا سواها، فجعل في شريعتِه لهذا البلدِ منَ الفضلِ والمكانةِ ما لم يكن في غيرِه، فتعدَّدت فيه الفضائل وتنوَّعت حتى صارَ من فضائل مكّة أن سماها الله أمَّ القرى كما في قولِه تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام: 92]، فالقرى كلُّها تبَعٌ لها وفرع عليها، تقصِدها جميعُ القرى في كلّ صلاة، فهي قِبلة أهل الإسلام في الأرضِ ليس لهم قبلةٌ سواها؛ ولذا جزم جمهور أهل العِلم أن مكّةَ هي أفضل بِقاعِ الأرض على الإطلاقِ، ثم تَليها المدينةُ النبويّة على ساكنها أفضلُ الصلاةِ والسلام؛ ولذا صحَّ عن النبيِّ أنّه قال عن مكَّة: ((واللهِ، إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خَرجتُ)) رواه أحمد والترمذي.
ومن فضائلِ هذا البلد الحرامِ أنَّ الله جلَّ شأنه أقسم به في موضعين من كتابه فقال سبحانه: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 3]، وقال سبحانه: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [ البلد: 1].
ومِن فضائلِ مكّةَ حرسَها الله ما ثَبَت عن المصطَفى أنّه قال: ((إنَّ مكّةَ حرَّمها الله تعالى، ولم يحرِّمها الناس، ولا يحِلّ لامرئٍ يؤمن بالله واليومِ الآخر أن يسفِك بها دمًا أو يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله فقولوا له: إنَّ الله أذِن لرسوله ولم يأذَن لك، وإنما أُذِن لي فيها ساعَة من نهار، وقد عادَت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلِّغ الشاهد الغائب)) متفق عليه، وفي روايةٍ أخرى متفق عليها أنه قال: ((هذا البلد حرَّمه الله يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمةِ الله إلى يومِ القيامة، لا يُعضَد شوكه ولا ينفَّر صيده ولا يلتَقط لقطَته إلا من عرَّفها ولا يُختَلى خلاه)).
إنّه الأمنُ والأمان ـ عبادَ الله ـ الذي ارتضَاه الشارِع الحكيم في بلدِه الأمين ليكون نِبراسًا ونهجًا يحذو حَذوَه قاصِدو بيتِ الله الحرام مِن كافّة أرجاء المعمورة؛ ليدركوا جيِّدا قيمةَ الأمن وأثره في واقعِ الناس والحياة على النفسِ والمال والأرواح والأعراضِ، فإنَّ الله جل وعلا اختَارَ مكّةَ حرمًا آمنًا وأرضًا مَنزوعة العنفِ والأذى ولَيسَت منزوعةَ السلاح فحسب، بل أمَّن الناسَ فيها حتى من القولِ القبيح واللّفظ الفاحش، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، وأمَّن في الحرم الطيرَ والوحش وسائرَ الحيوان؛ ليكون الإحساس أبلغَ والقناعة أكمل لمن كان له قَلب أو ألقى السّمعَ وهو شهيد.
وإنَّ مما يدلّ علَى حُرمةِ مكّةَ أيضًا وُرودَ الآية الكريمة الدالّة على المعاقبةِ لمن همَّ بالسيئة فيها وإن لم يفعلها حيث قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25]، والإلحادُ هو الميلُ والحَيد عن دينِ الله الذي شَرَعه، ويدخل في ذلِكم الشركُ بالله في الحَرم أو الكُفر به أو فعلُ شيء مما حرمه الله أو ترك شيء مما أوجبه الله أو انتهاك حرمات الحرم، حتى قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكارُ الطعام بمكة.
كما أنَّ من فضائل مكّةَ ـ عباد الله ـ أنه يحرم استقبالُها أو استدبارُها عند قضاء الحاجة دونَ سائر البقاع لقولِه : ((لا تستقبلوا القِبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)) متفق عليه.
ومن فضائِلِها أيضًا ما ورَدَ في فضلِ الصلاة فيها حيثُ ثبَت عن النبيِّ أنه قال: ((صلاةٌ في مسجدِي هذا أفضلُ من ألفِ صلاة فيما سِواه إلاّ مسجدَ الكعبة)) رواه مسلم، وفي رواية أخرَى أنّه قالَ: ((صلاةٌ في مسجدِي هذا أفضلُ من ألفِ صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرَام أفضلُ من صلاةٍ في مسجدي هذا بمائةِ صلاة)) رواه أحمد وابن حبّان بإسناد صحيح. ويكون معنى هذا الحديث أنَّ الصلاة في المسجد الحرام بمائة أَلف؛ لأنَّ الصلاةَ في المسجد النبويّ بألفِ صلاة، والصلاة في المسجد الحرامِ تفضله بمائة، فيصبح المجموع مائةَ ألف حاصِلَ ضَربِ ألفٍ في مائة. وقد اختَلَف أهلُ العلم في هذه المضاعفةِ هل هي خاصّة بالمسجِد نفسه أو بمكّة كلِّها، أي: ما كان داخِلَ الأميال، والأظهرُ والله أعلم وهو الذي ذهَب إليه جمهورُ أهلِ العلم أن المضاعفةَ تشمَل جميعَ مكّةَ، غيرَ أنَّ الصلاة في نفس المسجدِ أفضلُ، وذلك لقِدَم المكانِ ولِكَثرة الجماعة.
هذه بعضُ فضائل مكّة وليست كلَّ فضائلها؛ حيث يكفينا من القلادَةِ ما أحاطَ بالعنق.
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 97-100].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحِكمَة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب وخطيئَة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، لقد شرَّفَ الله مكّةَ أَيّما تَشريف، وجعلها أمَّ القرى وقِبلةَ المسلِمين كافّةً أينما كانوا على وَجهِ هذه البَسيطة، وبوَّأ لها من المكانةِ والعظَمَة والحرمة ما يوجِب على كلِّ مسلم أن يؤمِنَ به وأن يقدُرَها حقَّ قَدرِها، ويزدَاد الأمر توكيدًا على كلِّ وافدٍ إلى بيتِ الله الحرام أن يلتَزِم بآدابِ الإقامة وأن لا يخِلَّ بشيء من ذلكم لِئلاّ يقع في المحذور وهو لا يشعُر؛ لأنَّ تعظيمَ المرء لها إنما يكون من بابِ تعظيمه لله الواحدِ الأحد، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج: 30، 31].
فلتَتَنَبَّهوا لذلك وفودَ بيتِ الله الحرام، ولا تجرَحوا حُسنَ الجِوار بِسوء الأدَب أو التقصير في توقيرِ بيتِ الله أو في تعظيمِ النّسُك الذي قطَعتم المفاوِزَ والقفار من أجله، فإنَّ الله جلّ وعلا يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، وقد قال المصطفى : ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رَجَع كيومِ ولدَته أمّه)) رواه البخاري ومسلم.
فإيّاك إيّاك أيها الحاجّ، إياك والرفثَ، إياك والفسوق، إياك والجدالَ في الحج؛ لأنها شعائرُ في عرصَات أمّ القرى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد...
(1/4958)
حج الأبرار: معان وأسرار
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
24/11/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشوق إلى البيت الحرام. 2- من معاني الحج. 3- فضل العشر من ذي الحجة. 4- من أحكام المضحي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، وَمَا زَالَ الحَدِيثُ مُتَعَلِّقًا بِالرُّكنِ الخَامِسِ مِن أَركَانِ الإِسلامِ، رُكنِ الحَجِّ وَمَا أَدرَاكَ مَا الحَجُّ؟! أَفئِدَةٌ مِنَ النَّاسِ تهوِي إِلى المَسجِدِ الحَرَامِ، وَبَيتٌ هُوَ مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ وَأَمنٌ، وَأَمَاكِنُ مُقَدَّسَةٌ وَمَشَاعِرُ مُعَظَّمةٌ، وَأَعمَالٌ فَضِيلَةٌ وَمَنَاسِكُ جَلِيلَةٌ، تَوحِيدٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَصَبرٌ وَمُصَابَرَةٌ، وَصَلاةٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ، وَحَلقٌ وَتَقصِيرٌ وَرَميٌ لِلجِمَارِ، وَوُقُوفٌ وَمَبِيتٌ وَدُعَاءٌ، وَعَجٌّ بِالتَّلبِيَةِ وَالتَّكبِيرِ، وَثَجٌّ لِدِمَاءِ الهَدَايَا وَالأَضَاحِي وَالفُدَى، وَإِطعَامٌ لِلبَائِسِ الفَقِيرِ، وَأُخُوَّةٌ جَامِعَةٌ وَأَخلاقٌ عَالِيَةٌ، وَشُهُودُ مَنَافِعَ عَدِيدَةٍ وَحُصُولُ خَيرٍ عَمِيمٍ.
وَمَهمَا تحدَّثَ مُتَحَدِّثٌ أَو أَفَاضَ مُتَكَلِّمٌ فَلَن يُلِمَّ بِطَرَفٍ مما يجِبُ الحَدِيثُ فِيهِ عَن هَذَا الرُّكنِ العَظِيمِ، وَلَكِنَّ ممَّا يحسُنُ الحَدِيثُ فِيهِ وَنحنُ عَلَى أَبوَابِ مَوسِمِ الحَجِّ إِلى بَيتِ اللهِ العَتِيقِ جُمَلاً مِنَ المَعَاني التي احتَوَاهَا الحجُّ، وَالتي هِيَ في حَقِيقَتِهَا مِن مَبَادِئِ الدِّينِ وَخُطُوطِهِ العَرِيضَةِ، مَعَانٍ كُلَّمَا كَانَت حَاضِرَةً في قَلبِ المُسلِمِ وَفَقِهَهَا فُؤَادُهُ وَامتَثَلَهَا في حَيَاتِهِ كَانَ إِلى اللهِ أَحَبَّ وَأَقرَبَ، وَبِالأَجرِ أَحظَى وَأَجدَرَ، وَبِتِلكَ العِبَادَاتِ أَكمَلَ استِفَادَةً وَأَتَمَّ نَفعًا.
فَمِن تِلكَ المَعَاني الجَمِيلَةِ التي يجِبُ الإِيمانُ بها وَتَعمِيقُها في القُلُوبِ لِتَتَعَلَّقَ بِعِبَادَةِ عَلاَّمِ الغُيُوبِ أَنَّهُ سُبحانَه لم يَشرَعْ لِعِبَادِهِ أَيَّ عِبَادَةٍ لِيُحرِجَهُم أَو يُضَيِّقَ عَلَيهِم، أَو لِيُكَلِّفَهُم مَا لا يُطِيقُونَ أَو يُثقِلَ عَلَيهِم بِمَا لَيسَ في وُسعِهِمُ القِيَامُ بِهِ، وَإِنما شَرَعَ لهم ما شَرَعَ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَأَسرَارٍ جَلِيلَةٍ وَمَنَافِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنهَا مَا هُوَ في حَيَاتِهِم الدُّنيَا، في أَبدَانِهِم وَقُلُوبِهِم وَأَنفُسِهِم، وفي مجتَمَعَاتِهِم وَبُلدَانِهِم وَعِلاقَاتِهِم، وَمِنهَا بَل هُوَ أَهَمُّهَا وَأَعظَمُهَا مَا هُوَ في الآخِرَةِ، ممَّا أَعَدَّهُ لهم مِنَ الفَوزِ الكَبِيرِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، قال سُبحَانَهُ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ ، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصِيرُ.
وَإِنَّ لِلحَجِّ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ وَالمَنَافِعِ النَّصِيبَ الكَبِيرَ وَالقَدرَ العَظِيمَ، قال جل وعلا: وَأَذِّن في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ، قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: (مَنَافِعُ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ، أَمَّا مَنَافِعُ الآخِرَةِ فَرِضوَانُ اللهِ جل وعلا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِن مَنَافِعِ البُدنِ وَالذَّبَائِحِ وَالتِّجَارَاتِ).
وَإِنَّهُ لَو وَعَى المُسلِمُونَ هَذَا المَعنى العَظِيمَ وَفَقِهُوا هَذَا الأَصلَ الكَبِيرَ وَأَنَّهُ مَا مِن عِبَادَةٍ إِلاَّ وَلِتَشرِيعِهَا بَالِغُ الحِكمَةِ وَعَمِيقُ الأَسرَارِ وَفي أَدَائِهِم لها جَمُّ الفَوَائِدِ لهم وَكَرِيمُ الآثَارِ عَلَيهِم لَمَا تَوَانى عَن الطَّاعَةِ مُتَوَانٍ وَلا تَكَاسَلَ في العِبَادَةِ مُتَكَاسِلٌ، وَلَمَا أَخَّرَ الحَجَّ مُؤَخِّرٌ وَلا سَوَّفَ في أَداءِ الفريضَةِ مُسَوِّفٌ، لَكِنَّهَا النَّظَرَاتُ الدُّنيَوِيَّةُ الدُّونِيَّةُ لَمَّا استَولَت عَلَى العُقُولِ وَامتَلأَت بها القُلُوبُ صَارَ الاهتِمَامُ بما نَفعُهُ قَرِيبٌ وَأَثَرُهُ مَادِيٌّ محسُوسٌ، وَأُوثِرَتِ الحَيَاةُ الدُّنيَا على الآخِرَةِ، وَعَمِيَتِ الأَبصَارُ وَشُغِلَتِ البَصَائِرُ عَن البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ، وَلَكِنَّ المُتَّقِينَ إِلى اللهِ يَسِيرُونَ وَفِيمَا عِندَهُ يَطمَعُونَ وَبِمَوعُودِهِ يُؤمِنُونَ، قُلْ مَتَاعُ الدَّنيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظلَمُونَ فَتِيلاً ، المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ وَدُرُوسُهُ العَظِيمَةُ مَا وَرَدَ في رَمزِهِ وَشِعَارِهِ، أَعني التَّلبِيَةَ التي يُرَدِّدُها الحَاجُّ مِن حِينِ إِحرَامِهِ إلى أَن يَرمِيَ جمرَةَ العَقَبَةَ، وَتَلهَجُ بها الأَلسِنَةُ في مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ وَلا تَمَلُّ مِن تَردَادِها وَتَرطِيبِ الأَفوَاهِ بها، وفي هَذِهِ التَّلبِيَةِ النَّبَوَيِّةِ الكَرِيمَةِ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ بِأَعظَمِ مَا يجِبُ أَن تَهتَمَّ بِهِ وَتُحَافِظَ عَلَيهِ وَتَغرِسَهُ في النُّفُوسِ وَتَبُثَّهُ في الجُمُوعِ، وَتَسِيرَ عَلَيهِ في أَعمَالِها كُلِّها وَتَستَشعِرَهُ في عِبَادَاتِها جمِيعِها، ذَلِكُم هُوَ تَحقِيقُ التَّوحِيدِ للهِ، تَحقِيقُ الغَايَةِ القُصوَى مِن خَلقِ الإِنسَانِ وَاستِخلافِهِ في هَذِهِ الأَرضِ، وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ، ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)) ، استِجَابَةٌ للهِ بَعدَ استِجَابَةٍ، وَتَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّركِ، وَإِقرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، وَحَمدٌ لَهُ عَلَى نِعمَةِ الهِدَايَةِ لِلإِسلامِ، قال جلّ وعلا: وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ ، وقال عليه الصلاةُ والسَّلامُ: ((خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)). إِنَّهُ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ جمِيعًا أَن يَستَحضِرُوا مَا عَقَدُوا عَلَيهِ قُلُوبَهُم مِن تَوحِيدِ اللهِ رَبِّ العَالمينَ، إِنَّهُ تَوجِيهٌ لهم أَن يجعَلُوا حَجَّهُم للهِ وَحدَهُ، ويُخلِصُوا لَهُ العَمَلَ دُونَ سِوَاهُ، وَمِن ثَمَّ فَلا يَسأَلُونَ إِلاَّ اللهَ، وَلا يَستَغِيثُونَ إِلاَّ بِاللهِ، وَلا يَتَوَكَّلُونَ إِلاَّ عَلَى اللهِ، وَلا يَطلُبُونَ العَونَ وَالمَدَدَ وَلا يَلتَمِسُون النَّصَرَ إِلاَّ مِن عِندِ اللهِ، مُستَيقِنِينَ أَنَّ الخَيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ، وَمَرجِعَ الأُمُورِ كُلِّها إِلَيهِ، لا مَانِعَ لِمَا أَعطَى وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلا يَنفَعُ ذَا الجَدِّ مِنهُ الجَدُّ. وَحِينَ يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ يَقِينٌ بِذَلِكَ وَتَمَسُّكٌ بِهِ فَلْيُبشِرُوا بِالأَمنِ وَالهِدَايَةِ وَالتَّوفِيقِ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُّهتَدُونَ.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ الكَرِيمَةِ وَدُرُوسِهِ البَالِغَةِ أَن تَعلَمَ الأُمَّةُ وَتَستَيقِنَ أَنَّهُ لا سَعَادَةَ لها وَلا نجاحَ في هَذِهِ الحَيَاةِ وَلا فَلاحَ وَلا فَوزَ في الآخِرَةِ وَلا تَوفِيقَ وَلا سَدَادَ وَلا نَصرَ وَلا تَمكِينَ إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالسَّيرِ عَلى نَهجِهِ وَقُفُوِّ أَثَرِهِ وَالثَّبَاتِ عَلى هَديِهِ في الاعتِقَادِ وَالأَعمَالِ، وَالرِّضَا بِمَا جَاءَ بِهِ في الحُكمِ وَالتَّحَاكُمِ، وَالاقتِدَاءِ بِهِ في الأَخلاقِ وَالسُّلُوكِ، وَقَد كَانَ في كُلِّ خطوَةٍ في حَجَّتِهِ يُؤَصِّلُ هَذَا المَعنى الكَبِيرَ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ وَيَغرِسُهُ في قُلُوبِهِم ويُرَسِّخُهُ، حَيثُ كَانَ يَقُولُ عِندَ كُلِّ مَنسَكٍ مِن مَنَاسِكِ الحَجِّ: ((خُذُوا عني مَنَاسِكَكُم)) ، وَهُوَ الذي قَد قَالَ: ((مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). فَمَا أَسعَدَ الأُمَّةَ حِينَ تَقتَدِي بِه وَتَمتَثِلُ أَمرَهُ! مَا أَعظَمَ بَرَكَتَهَا حِينَ تَتَأَسَّى بِهِ وَتَسِيرُ عَلى نَهجِهِ وطَريقَتِهِ! وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ، قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُم وَإِن تُطِيعُوهُ تَهتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمَالَكُم.
وَإِنَّ ممَّا يجِبُ التَّنبِيهُ عَلَيهِ في هَذَا المَقَامِ أَنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يُولِيَ هَذَا الأَمرَ في الحَجِّ كَبِيرَ عِنَايَتِهِ، فَلا يُقدِمَ عَلَى عَمَلٍ إِلاَّ عَن عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ، وَلا يَشرَعَ في الحَجِّ إِلاَّ بَعدَ تَفَقُّهٍ في أَحكَامِهِ، وَأَن يحرِصَ عَلَى تَعَلُّمِ صِفَتِهِ وَمَا يَلزَمُهُ لأَدَائِهِ كَمَا أَدّاهُ الحَبِيبُ ، وَإِنَّ الأَمرَ في ذَلِكَ لَسَهلٌ مُيَسَّرٌ، وَوَسَائِلَ العِلمِ مُتَعَدِّدَةٌ ومُتَنَوِّعَةٌ، وَأَهلَ العِلمِ كَثِيرُونَ مُنتَشِرُون، فَلَم يَبقَ إِلاَّ الاجتِهَادُ وَطَلَبُ العِلمِ مَظَانَّهُ، أَمَّا التَّخَبُّطُ وَالاستِحسَانَاتُ الشَّخصِيَّةُ أَو تَقلِيدُ الآخَرِينَ فِيمَا يَفعَلُونَ دُونَ وَعيٍ أَو إِدرَاكٍ فَمَا هُوَ مِن سِيمَا المُسلِمِينَ المُؤمِنِينَ، وَإِنما ذَمَّ اللهُ بِهِ المُتَرَفِينَ الغَافِلِينَ المُعرِضِينَ: وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقتَدُونَ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ العَظِيمَةِ في الحَجِّ لُزُومُ الاعتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَمُجَانَبَةُ الغُلُوِّ أَوِ الجَفَاءِ، وَالحَذَرُ مِنَ الإِفرَاطِ أَوِ التّفرِيطِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: ((اُلقُطْ لي حَصًى)) ، فَلَقَطتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذفِ، فَجَعَلَ يَنفُضُهُنَّ في كَفِّهِ وَيَقُولُ: ((أَمثَالَ هَؤُلاءِ فَارمُوا)) ، ثم قَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ)). فَالاعتِدَالُ مَطلُوبٌ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَالتَّوَسُّطُ محمُودٌ فِيهَا جمِيعِها، وَالبُعدُ عَنِ الغُلُوِّ وَالجَفَاءِ هُوَ المَنهَجُ القَوِيمُ وَالصِّرَاطُ المُستَقِيمُ الذي يَنبَغِي أَن يَسلُكَهُ جمِيعُ المُؤمِنِينَ، وَذَلِكَ لَيسَ بِالأَهوَاءِ وَلا الرَّغَبَاتِ وَالمُشتَهَيَاتِ، وَإِنما يَكُونُ بِالأَخذِ بِحُدُودِ القُرآنِ وآثَارِ السُّنَّةِ، وَالسَّيرِ على مَا فِيهِمَا مِنَ الهَديِ وَالبَيَانِ، وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ وَدُرُوسِهِ العَمِيقَةِ أَنَّ الأُمَّةَ عَلَى مُختَلِفِ أَجنَاسِها وَتَعَدُّدِ دِيَارِهَا وَأَوطَانِها وَكَثرَةِ شُعُوبِهَا وَوَفرَةِ قَبَائِلِهَا وَاختِلافِ أَشكَالِهِم وَأَلوانِهِم وَلُغَاتِهِم لا رَابِطَةَ تَربِطُهُم إِلاَّ رَابِطَةُ التَّوحِيدِ، وَلا نَسَبَ يَجمَعُهُم إِلاَّ نَسَبُ الدِّينِ، فمتى تمسَّكُوا بِهِ وَكَانُوا به إِخوَانًا مُتَحَابِّينَ فَهُم قُوَّةٌ لا تُمَاثِلُهَا قُوَّةٌ، وَمتى ابتَعَدُوا عَنهُ أَو تَشَبَّثُوا بِغَيرِهِ مِن رَوَابِطِ الجَاهِلِيَّةِ أَو عُرَى الدُّنيا الفَانِيَةِ لم يَزدَادُوا إِلاَّ اختِلافًا وَافتِرَاقًا، وَلَن يَلقَوا إِلاَّ ذُلاً وَضَعفًا وَمَهَانَةً وَمَقتًا، وَلهذا وَلَمَّا كَانَت قُرَيشٌ في الجَاهِلِيَّةِ لا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الحَرَمِ في حَجِّها وَلا تَقِفُ مَعَ النَّاسِ في عَرَفَةَ استِكبَارًا وَاستِنكَافًا جَاءَ كِتَابُ اللهِ لِيَقُولَ لهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، وَبُيِّنَ فيهِ أَنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ لِلنَّاسِ جمِيعًا: سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ ، ثم رَسَّخَ الحَبِيبُ صلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيهِ ذَلِكَ في خُطبَتِهِ في عَرَفَةَ حَيثُ قال: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ)) ، ثم أَكمَلَ هَذَا عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ عَمَلِيًّا أَمَامَ النَّاسِ في نِهَايَةِ ذَلِكَ المَوقِفِ العَظِيمِ حِينَ أَردَفَ مَولاهُ أُسَامَة بنَ زَيدٍ عَلى رَاحِلَتِهِ، ولم يَحمِلْ غَيرَهُ مِن أَشرَافِ بَيتِهِ أَو عُظَمَاءِ قَومِهِ أَو وُجَهَاءِ القَبَائِلِ الأُخرَى، إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ العَظِيمَةِ وُجُوبُ تَعظِيمِ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ. فَتَعظِيمُ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ مِن تَقوَى القُلُوبِ وَخَشَيتِها لِخَالِقِهَا وَمَولاهَا، وَكُلَّمَا خَلا قَلبٌ مِن ذَلِكَ كَانَ أَبعدَ مَا يَكُونُ مِن تَعظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ وَالوُقُوفِ عِندَ حُدُودِهِ، ولِهَذَا كَانَ خَيرُ زَادٍ يَحمِلُهُ الحَاجُّ وأعظمُهُ وأكملُهُ زادَ الخَشيَةِ وَالتَّقوَى، قال جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى واتقونِ يَا أُولي الأَلبَابِ.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ والأُصُولِ المُعتَبرَةِ فيه مَا يَظهَرُ في رَميِ الجِمَارِ فِيهِ مِن تَذكِيرِ بني آدَمَ بِأَلَدِّ أَعدَائِهِم وَأَعتى خُصُومِهِم وَتَحذِيرِهِم مِن قَائِدِ اللِّوَاءِ إِلى النَّارِ، قال عز وجل: إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ.
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ تَذكِيرُ المُسلِمِينَ بِأَنَّ مِن أَجَلِّ أَهدَافِ العِبَادَاتِ ذِكرَ اللهِ عز وجل بها، لا أَدَاؤُها عَادَاتٍ مُجَرَّدَةً مِن رُوحِهَا وَلُبِّهَا، خَالِيَةً مِن مَعنَاهَا وَمغزَاهَا، أَوِ المُضِيُّ فِيهَا رِيَاءً لِلنَّاسِ وَطَلَبًا لِلسُّمعَةِ عِندَهُم، قال جل وعلا: لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ ، وقال سُبحَانَهُ: وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ ، وقال سُبحَانَهُ: فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ وَاذكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم ، وقال تعالى: فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءَكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا ، وقال عزّ وجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
تِلكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ جُملَةٌ مِن مَعَاني الحَجِّ الكَرِيمَةِ وَأُسُسِهِ العَظِيمَةِ، يَجِدُها مَن تَتَبَّعَ أَدِلَّتَهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لَيَجِدُ مِن أَمثَالِها كَثِيرًا كُلَّمَا أَنعَمَ النَّظَرَ وَرَدَّدَ التَّدَبُّرَ، فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَحَقِّقُوا مَا شُرِعَتِ العِبَادَاتُ مِن أَجلِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبحَانَهُ قَد بَيَّنَ لَنَا في مَعرِضِ الحَدِيثِ عَنِ الحَجِّ أَنَّ النَّاسَ مُختَلِفُونَ، فَمِنهُم مَن يَطلُبُ الآخِرَةَ وَيَنشُدُ مَرضَاةَ رَبِّهِ، فَهُوَ بِأَعلى المَنزِلَتَينِ وَأَجَلِّ المَقصِدَينِ، وَمِنهُم مَن لا هَمَّ لَهُ إِلاَّ الدُّنيا وَمَتَاعُهَا، فَهِيَ حَظُّهُ مِن حَيَاتِهِ وَسَعيِهِ طُولَ عُمُرِهِ، وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ، قال سُبحَانَهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ وَمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ. وَالمُوَفَّقُ مَن أَدَّى حَجَّهُ بِنِيَّةٍ صَالحَةٍ خَالِصَةِ وَمَالٍ حَلالٍ وَنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَعَطَّرَ لِسَانَهُ فيه بِذِكرِ اللهِ، وَصَاحَبَ عِبَادَتَهُ إِحسَانٌ وَنَفعٌ لِعِبادِ اللهِ، فَكُونُوا في حَجِّكُم كَذَلِكَ، وَأَخلِصُوا في دِينِكُم للهِ، وَاجتَهِدُوا في الأَعمَالِ الصَّالحةِ، وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروُةِ الوُثقَى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُم تَستَقبِلُونَ أَيَّامًا عَظِيمَةَ الفَضلِ كَبِيرَةَ القَدرِ، أَيَّامًا لا أَفضَلَ مِنهَا وَلا أَكمَلَ مِنَ العَمَلِ فِيهَا، إِنها العَشرُ الأُوَلُ مِن ذِي الحِجَّةِ، التي أَقسَمَ اللهُ بها تَنوِيهًا بِفَضلِهَا وَإِشَارَةً إِلى عَظِيمِ شَأنِهَا، وَبَيَّنَ الحَبِيبُ عليه الصلاة والسلامُ عِظَمَ أَجرِ العَمَلِ فِيهَا، قال جل وعلا: وَالفَجرِ وَلَيالٍ عَشرٍ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلى اللهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ)) يَعني أَيَّامَ العَشرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟! قال: ((ولا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ ثم لم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ)).
فَأَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ جل وعلا في هَذِهِ العَشرِ حُجَّاجًا وَمُقِيمِينَ، فَقَد سُئِلَ عليه الصلاةُ والسلامُ: أيُّ الحَاجِّ أَعظَمُ عِندَ اللهِ؟ قال: ((أَكثرُهُم للهِ ذِكرًا)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَا مِن أَيَّامٍ أَعظَمُ عِندَ اللهِ ولا أَحَبُّ إِلى اللهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن أَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ وَالتَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ)) ، وَقَد ذَكَرَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ وَأبي هُريرةَ رضي اللهُ عنهم أَنهمَا كَانَا يَخرُجَانِ إِلى السُّوقِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكبِيرِهما. وَيُستَحَبُّ لِلرِّجَالِ رَفعُ الصَّوتِ بِهَذَا الذِّكرِ في الأَسوَاقِ وَالدُّورِ وَالطُّرُقَاتِ وَالمَسَاجِدِ.
ثم اعلَمُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَّ مَن أَرَادَ أَن يُضَحِّيَ فَلْيُمسِكْ عَن شَعرِهِ وَأَظفَارِهِ وَبَشَرَتِهِ إِذَا دَخَلَتِ العَشرُ حتى يُضَحِّيَ، قال : ((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبحٌ يَذبَحُهُ فَإِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الحِجَّةِ فَلا يَأخُذَنَّ مِن شَعرِهِ وَلا مِن أَظفَارِهِ شَيئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)) ، وفي رواية: ((إِذَا دَخَلَ العَشرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَن يُضَحِّيَ فَلا يَمَسَّ مِن شَعَرِهِ وَلا بَشَرِهِ شَيئًا)). وَهَذَا النَّهيُ خَاصٌّ بِالمُضَحِّي، أَمَّا مَن يُضحَّى عَنهُ مِن أَهلِ البَيتِ فَلا يَدخُلُ في هَذَا النَّهيِ.
فَاتَّقُوا اللهَ وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ تُفلِحُوا وَتَسعَدُوا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.
(1/4959)
واشوقاه إلى بيت الله
فقه
الحج والعمرة
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
24/11/1427
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشوق إلى البلد الأمين. 2- قصة رحلة الحاج عثمان دابو إلى الحج. 3- معاني رحلة الحج. 4- فضل عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلم، هل سمعت بالأشواق حين تختلج في قلوب المحبين؟ هل رأيت بعينيك دموع المحبين وهم يسمعون حادي الأرواح إلى مشاعر الحج؟ أوَلم تر عيناك ذلك الكهل الذي أثّر الزمن في ظهره ومع ذلك هو بنفسه يجوب تلك الفيافي ويرحل إلى عالم المحبين؟ فيا لله، لو رأيت تلك الجموع لهزك الشوق إلى هناك.
أيها المسلم، إليك قصة مثيرة دونها التاريخ كرحلة من أعظم الرحلات، قصة الحاج عثمان دابو رحمه الله تعالى من جمهورية جامبا في أقصى المغرب الإفريقي وقد تجاوز الثمانين من عمره، قصة قصّها الداعية عبد الرحمن الصويّان.
يقول الداعية: زرته قبل وفاته في منزله في إحدى الرحلات إلى إفريقيا، زرته في منزله المتواضع بقريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عامًا إلى البيت العتيق، حجّ تلك الأيام ماشيًا على قدميه برفقة أربعة من صحبه، حجّوا من بانجول إلى مكّة قاطعين قارّة إفريقيا من غربها إلى شرقها، وهكذا هي الأشواق، لم يركبوا في تلك الرحلة إلا فتراتٍ يسيرة متقطّعة على بعض الدواب إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر، ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة، رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دوّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة، استمرّت الرحلة أكثر من سنَتين، ينزلون أحيانًا في بعض المدن للتكسّب والراحة والتزوّد لنفقات الرحلة ثم يواصلون المسير. يقول الداعية: سألته: أليس حجّ البيت الحرام فرض على المستطيع وأنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟! قال: نعم، ولكنا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته الحرام؟! خاصة أننا نظن أن الأيام لا تزيدنا إلا ضعفًا، فلماذا التأخير؟! خرج الخمسة من دورهم وليس معهم من القوت إلاّ ما يكفيهم لأسبوع واحد فقط، وأصابهم في طريقهم من المشقّة والضيق والكرب ما الله تعالى به عليم، فكم من ليلة باتوا فيها لا يجدون طعامًا ولا كساءً حتى كادوا يهلكون, كم من ليلة طاردتهم السباع وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة عرض لهم قطّاع الطريق.
رب ليلٍ بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
يقول الحاج عثمان دابو: لدِغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي.
وإني لأرعى النجم حتى كأنني على كل نجم في السماء رقيب
فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس ليك: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلّف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع؟! لكن الأشواق إلى رؤية بيت الله تعالى ومواطئ الأنبياء كانت أشد في قلبي من تلك الوساوس كلها.
ظل هؤلاء يسيرون في رحلتهم، وفي أثناء الطريق مات منهم ثلاثة كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أنه قال في وصيته لصاحبيه: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى شوقي للقائِه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي ، قال عثمان دابو: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌ شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشدّ ما لقيت في رحلتي، فقد كان أكثرنا صبرًا وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى تلك المشاعر، فكنت أحسب الأيام والساعات.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتطامن
فلما وصلنا إلى جدّة مرضت مرضًا شديدًا وخشيت أن أموت قبل أن أصلَ إلى مكة، فأوصيت صاحبي أن إذا متّ أن يكفنني في إحرامي ويقربني قدر طاقته إلى مكة لعل الله تعالى أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بينِي وبين جوار بيتك في الطواف
فكم من سائلٍ لك ربّ رغبًا ورهبًا بين منتعل وحافي
أتاك الراغبون إليك شعثًا يسوقون المقلّدة الصوافِي
مكثت في جدة أيامًا ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، بعد أن تدثّرنا بإحرام الحج كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي والشوق يهزني ويشدني إلى الوصول إلى المسجد الحرام، سكت الشيخ قليلاً وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذّة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمّا رأى الكعبة المشرفة، قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله تعالى شكرًا، وأخذت أبكي من شدّة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فيا لله ما أشرفه من بيت! وما أعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين تساقطوا في الطريق ولم يتيسّر لهم مثل رؤيتي، فبكيت وحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليّ اهـ. وكتب الله تعالى له أن يؤدّي فريضة الحج بمثل هذه المحن.
هذه رحلة عثمان دابو من أقصى إفريقيا إلى مكة عبر عامين من الزمن، قطع فيها البحر والبر، وتعرّض خلالها للسرقة والنهب، لدغ في الطريق وبات متألمًا من آثار ذلك السمّ الزعاف، كم من ليلة بات فيها في العراء دون لحاف، وكم من يوم ظل فيه يناظر الطرقات يبحث عمّن يتصدّق عليه بغداء أو عشاء، تساقط صحبه في الطريق، وماتوا وهم راحلون إلى الله تعالى، وحال الموت بينهم وبين تلك الأشواق، وعانق الرجل مكة بعد هذا الزمن كله، طاف بالبيت وسعى، وشهد مشاهد المشاعر كلها وهو يلبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: فرحلة الحج رحلة من أعظم الرحلات في تاريخ المسلم، ولم لا تكون كذلك وهي رحلة تطوف فيها بالمشاعر المقدسة وتلتقي فيها بجموع من المسلمين؟! وقبل ذلك وبعده رحلة تتعرّض فيها للنفحات الإلهية وغفران الذنوب.
إن رحلة الحج هي في المقام الأول تلبية للأمر الإلهي: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
وهي في المقام الآخر استجابة للنداء الذي نادى به إمام الحنيفية السمحة إبراهيم عليه السلام حين أمره الله تعالى بقوله: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: ناد في الناس بالحج، داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر وشجر ومدر، من كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم" اهـ.
وهي في المقام الثالث سير على وفق معالم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد مروا بهذه المشاعر وخاضوا رحلة الحج المباركة، فقد مرّ النبي في أثناء رحلته في حجة الوداع مع الصحابة الكرام بوادي الأزرق فقال لأصحابه: ((أي واد هذا؟)) قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية، وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية)) ، ثم أتى النبي على ثنية يقال لها: ثنية هَرشى فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: هذه هَرشى، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة ـ يعني مجمعة الخلق شديدة ـ ، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلبة ـ يعني من الليف ـ وهو يلبي)).
وهي في المقام الرابع أمل يحدو الإنسان إلى أن يناله الثواب الوارد في حديث النبي : ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة، وللبخاري: ((رجع كيوم ولدته أمه)) ، وقال في حديث أبي هريرة: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة)) متفق عليه، وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عائشة أن النبي قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء))، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني، وقال في حديث أبي هريرة: ((وفد الله عز وجل ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر)) رواه النسائي وصححه الألباني، وقال في حديث أبي هريرة: ((ثلاثة في ضمان الله تعالى)) وذكر منهم: ((رجل خرج حاجًا)) ، وعند الطبراني من حديث ابن عمر وحسنه الألباني أن رسول الله قال: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثًا غُبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج ـ أي: متراكم ـ أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)).
إليك إلَهي قد أتيت ملبيًا فبارك إلَهي حجتي ودعائيا
قصدتك مضطرًا وجئتك باكيًا وحاشاك ربِي أن ترد باكيًا
كفانِي فخرًا أننِي لك عابد فيا فرحي إن صرت عبدًا مواليًا
أتيت بلا زاد وجودك مطعمي وما خاب من يهفو لِجودك ساعيًا
إليك إلَهي قد حضرت مؤملاً خلاص فؤادي من ذنوبِي ملبيًا
وأخيرًا هذه بعض من ملامح هذه الفريضة المباركة، فإن حداك حادي الشوق إلى تلك المشاعر المقدسة فالله يتولاك برعايته، ونفقتك مخلوفة عليك بإذن الله تعالى، ولن تجد ألذ ولا أجمل ولا أفضل من هذه الرحلة في عمرك كله، وإن قصر بك الحال لمرض أو قلة ما بيدك فأحسن النية، واجعل قلبك يطوف بالمشاعر من كثرة الأماني والرغبة إلى هناك، ولك أجر النية الصالحة.
وبين يديك في العشر الأول من شهر ذي الحجة غنائم عظيمة وخيرات جسيمة، قال : ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري. ويوم عرفة يكفّر الله تعالى بصيامه سنتين، والحرص على الذكر من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد وكثرة النافلة من الصلاة نحوها والصدقة دلائل ترد بك بإذن الله تعالى إلى غايات المفلحين.
وحذار أن تكون ممن توفّرت لديه القدرة المالية والبدنية فتخلف عن الحج دون سبب، وقد اختلف أهل العلم في مثل حالك إذا مت وأنت لم تؤد الفريضة حجة الإسلام، فمنهم من قال: يقضى عنك كبقية الديون من مالك إن بقي لك مال، ومنهم من قال: يكفُر من كان هذه حاله ولم يحج، واستدلوا بقول الله تعالى: وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ، فقالوا: فقوله: وَمَن كَفَرَ دليل على كفره، واستدلوا بقول عمر رضي الله عنه حينما بعث إلى الأقطار بعوثًا لينظروا؛ فمن وجدوهم ذوي جِدة فلم يحجوا فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
عافاني الله وإياك من عقوبة المخالفة، وجعلنا من أهل المعروف في ساحات هذه الدنيا، والله يتولانا وإياك برعايته.
ألا وصلوا وسلموا...
(1/4960)
الإنابة في الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن فهد الواكد
حائل
جامع الواكد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحج. 2- مشروعية الاستنابة في الحج الفرض. 3- حكم الاستنابة في حج التطوع. 4- أحوال الناس مع الحج. 5- حكم أخذ المال في الحج عن الغير. 6- من أحكام الوكالة بالحج. 7- مفهوم خاطئ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، إن الحجَّ من أفضل العبادات التي شرعها الله عز وجل، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله عز وجل على عباده، ولكنه سبحانه وتعالى جعله مقرونا بالاستطاعة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 97].
صح عن النبي أنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). يعود نقيا من الذنوب، خاليا من الآثام، فأين أولو الألباب والأفهام؟!
إن الحج ـ عباد الله ـ عبادة بدنية، يطلب من العبد فعلها بنفسه إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع فقد جاءت السنة بجواز الاستنابة فيه، وذلك في الفريضة وفي حال اليأس من فعلها، وذلك لما ورد في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) ، وذلك في حجة الوداع. وفي حديث آخر أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: ((نعم، اقضوا حق الله، فالله أحق بالوفاء)).
ذلكم ـ يا عباد الله ـ أنه لا فرق في الشريعة بين ما كان أصلا فيها وما أوجبه الإنسان على نفسه بنذر أو نحوه، وهذان الحديثان يدوران حول حجة الفريضة في الأصل وحجة النذر وهو ما أوجبه العبد على نفسه بنذره، وهنا لا بأس بالإنابة في الحج، وأما حج التطوع وهو الزائد عن الفريضة فجدير بمن كان قادرا على الحج بنفسه أن يحج، ولا يصح له أن يوكّل من يحجّ عنه؛ لأن شرط الاستطاعة متحقق عنده، ولقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع، وخصوصا في زماننا هذا، حتى صارت هذه الأيام موسما لتعاطي الحِجَج، فإنّ من يستطيع الحج تطوعا عليه أن يحج بنفسه، ولا يحرم نفسَه من أجر تعب العبادة واستشعار الطاعة والذكر والدعاء والمنافع التي لا تعد ولا تحصى، ويكفيه من ذلك إذا لم يرفث ولم يفسق أن يرجع كيوم ولدته أمه، وهذا لا يمكن إدراكه بالتوكيل إنما بالنفس، وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى روايتين عنه من توكيل القادر شخصا آخر يحجّ عنه تطوّعا، ولا يصلح التساهل في ذلك أيها المسلمون، فإما أن يحج تطوعا بنفسه، أو يبذل المال الذي يريد الحجّ به لمن لم يحج، فيكون قد أعان من لم يحج ووفر لهم شرط الاستطاعة، ويكون له مثل ما لهم من الأجر والثواب، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ولقد رأيت الناس ـ أيها الأحبة ـ تفاوتوا في هذه المسألة تفاوتا عجيبا، واختلفوا اختلافا غريبا، وسلكوا في ذلك فجاج الإفراط والتفريط، فتجد منهم من هو كثير المال صحيح البدن ومضى به الكبر حتى بلغ منه مبلغا عتيا ومع ذلك لم يحجّ، حجة الفريضة لم يحجّها، أليست هذه مشكلة ومصيبة ومعضلة؟! ولقد قال النبي : ((تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
عباد الله، إن من كانت هذه حاله فهو على خطر عظيم إن لم يتدارك نفسه، فمن كانت هذه حاله فدعائي له بالتوفيق، ورجائي إليه أن ينوي الحج من هذا المكان، فالنية هي الانطلاقة، وبعدها ييسر الله سبحانه كل أمر، وإذا عاد إلى بيته وأهله أن يعلن بذلك، ويقول لهم: سأحج هذا العام بإذن الله، وذلك ليستقر الأمر على واقع وعزيمة، لا على سكوت وتسويف وهزيمة، وذلك ليسأله أهله كل يوم عن إنجازاته في هذا السبيل، ويكونون عونا له في ذلك، أما السكوت فهو مصيدة الشيطان وملجأ التسويف.
إخوة الإسلام، وفي مقابل ذلك تماما شخص يحج كل سنة ويذهب كل عام، ولم يحسب ولم يحتسب لمشقة الناس والازدحام وضيق المشاعر أيّ حساب واحتساب، نحن لا نقول: في حجه شيء؛ لأن الحج من أفضل الأعمال، ولكن الاحتساب في التوسيع على المسلمين طالما أنه حج حجة الفريضة وحج تطوعا مرة أو مرتين، وهنا يكون توسيعه على المسلمين من ناحيتين: الأولى أنه أفسح المكان لغيره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة: 11]، فإن كان هذا في حق آداب المجالس عموما فمن باب أولى أن يكون في آداب الأماكن المزدحمة التي يترتب عليها أداء الفرائض، والناحية الثانية أنه وسع على المسلمين بدفع ذلك المال الذي يزمع الحج به إلى من يحج به فريضته، أو إلى الفقراء واليتامى والمساكين، سيما وأنهم بأمسّ الحاجة في تلك الأيام أيام عشر ذي الحجة إلى المال، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)). إن القربات المتعدي نفعها للآخرين خير من القربات اللازمة، وذلك في غير الفرائض.
الحج ـ أيها المسلمون ـ عبادة، ركن من أركان الإسلام، لا يصرف ذلك إلى أمر دنيويّ ولا تكسب مادي؛ لأن هناك من يأخذون هذه الحجج ويبحثون عمّن ينيبهم، وذلك كلّه من أجل المال فقط، فهذا حرام عليهم؛ لأن الحج ليس سلعة، وليس عملا دنيويا، كبناء بيت أو إقامة جدار يقصد به التكسب والتجارة، بل إن من هؤلاء من يكاسِر على الحجة ويتشكّى من قلة المال المدفوع، حتى صارت العبادة حرفة وصنعة ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد حفظ الإمام مالك رحمه الله عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا يشترط على النسك من جهة المال، وقد صرح الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل الرجل ليحجّ عنه غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق" اهـ، لكنه إذا أخذ الحجة ومقصوده نفع أخيه وذلك بالحج عنه وليحصل له الدعاء والذكر والمنافع الأخرى في موسم الحج وكانت نيته سليمة فلا بأس في ذلك، والمال الذي يدفعه المستنيب صاحب الحجة يكون كله للوكيل إلا أن يشترط عليه صاحب الحجة أن يرد له ما بقي من المال، وتكون العمرة والحج لصاحب الحجة لثبوت ذلك في أعراف الناس، إلا أن يشترط الوكيل أن تكون العمرة له ويقبل الموكل ذلك، ولا يجوز للوكيل أن ينيب غيره إلا برضا صاحب الحجة، وما زاد عن الحجة المتفق عليها من دعاء وطواف وصلاة وتطوع خارج النسك فهو للوكيل، وعلى الوكيل أن يقول عند الإهلال بالنسك عند الإحرام: لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج عن فلان بن فلان، لمن كانت له الحجة، وعند الحج: لبيك حجا عن فلان بن فلان، وإن نسي اسمه نوى ذلك بقلبه. وينبغي للوكيل أن يتقي الله، وأن يجتهد في إكمال النسك الموكلة إليه، وأن يتحرّى الإخلاص في أداء تلك الأمانة.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإسلام، اشتهر عند كثير من الناس ـ وخصوصا في مجتمعاتنا ـ أن يكون من حق الوالدة أو الوالد على أولاده إذا مات أن يحجوا عنه، وهو قد أدى الفريضة، وربما حجّ تطوعا أكثر من مرة، وهذا العمل ليس عليه دليل، إنما هو اجتهاد في غير محله، ولو دفعت هذه الأموال لمن لم يحجّ ليحج وينوي بذلك الأجر لوالده أو والدته لأدرك فضائل شتى وأجورا كثيرة، ولو دفع ذلك المال لأولي القربى الضعفة واليتامى والمساكين ونوى أجر ذلك لوالديه لكان في ذلك خيرا كثيرا وبرا عظيما. فسبحان الله! لكأن سبل الخير وأبوابه أوصدت إلا من خلال هذا الباب، فما أكثر الفقراء والمساكين الذين توسِّع عليهم قيمةُ هذه الحجة شهرَ ذي الحجة كاملا، بأضحيته وملابس العيد ومستلزمات فرحته ودواعي الكفاف بقدومه، فنسأل الله أن يوفق المسلمين لما يحبه ويرضاه.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
(1/4961)
الحج من محاسن الإسلام
فقه
الحج والعمرة
محمد بن ماجد القحطاني
القويعية
جامع الفرشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الإسلام بالاعتصام. 2- الحج مظهر من مظاهر الوحدة والائتلاف. 3- من معاني الحج وأسراره. 4- فضل البيت الحرام. 5- الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على ما هداكم إليه من نعمة الإسلام الذي هو دينه الذي ارتضاه لنفسه ومنّ عليكم به وأتمّ عليكم به النعمة وجعلكم خير أمّةٍ أخرجت للناس.
إنَّ ديننا يأمرنا بالاعتصام بحبل الله جميعًا، وينهانا عن التفرق، وقد شرع لنا الاجتماع والتعارف والاتحاد والتآلف، فأمرنا بصلاة الجماعة في كل يوم وليلة خمس مرات، وفرض علينا اجتماعًا أعمّ من ذلك في كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة، وشرع لنا ما هو أشمل من ذلك في العيدين من كل عام، وكل هذه الاجتماعات التي دعانا إليها ديننا فمن شأنها أن تجمع أهل الحي أو سكان البلد، وذلك من أجل التواصل والتواد وعدم التقاطع، ولتتفق الكلمة وتتوثّق الروابط وتسود المحبة والوئام بين هذه المجتمعات الإسلامية.
عباد الله، إن من محاسن ديننا أنه لم يكتف بذلك، بل شرع ما هو أعم وأشمل من هذا كلّه، فدعانا إلى اجتماع عالمي شامل يجمع المسلمين من سائر أنحاء الدنيا على اختلاف أجناسهم وتعدد لغاتهم وتباين عاداتهم وتباعد أقطارهم، يؤمُّون هذا البيت العتيق الذي شرّفه الله وفضله وجعله مثابةً للناس وأمنا؛ ليجتمعوا في هذه المشاعر المقدسة في صعيد واحد، متمسكين بملة واحدة، متبعين شريعة نبي واحد، بمظهر واحد، قد زالت عنهم الفوارق الجنسية، وظهرت فيهم الأخوة الإيمانية، ملبين لربهم، خاضعين له، يرفعون أصواتهم بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، علموا أن الأمر كله لله، وأن غيره لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورا، فإن الله وحده هو النافع الضار المحيي المميت، قال الله جلّ وعلا: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14]، علموا أنه سبحانه المجيب لمن دعاه المغيث لمن ناداه، فأنزلوا حوائجهم به وحده، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
إخوة الإسلام، في هذه المواقف المشرّفة يتذكّرون دعوة خليل الرحمن حينما أمره الله بالنداء لحج بيته الحرام بقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 27-29]. في هذا الموقف العظيم يتذكر المسلم ما هو قادم عليه من أحوال الآخرة وأهوالها من أول ساعةٍ يوضع في قبره إلى يوم وقوفه بين يدي ربه يوم يحشر الخلائق في صعيدٍ واحد حفاءً عراةً غرلا، يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئا والأمر يومئذٍ لله، عند استشعار ذلك الموقف العظيم يخاف المرء من ذنبه ويندم على سابق فعله، فيجدد لله توبةً نصوحًا يعاهد ربه على إخلاص العبادة له وحده، ويندم على ما فرط من عصيانه، ويعزم على الكف عن جميع الذنوب والآثام.
عباد الله، إن الحاج من حين يتجرد من المخيط ويدخل في إحرامه يتذكر أهوال يوم القيامة، يتذكر نشره وحشره لأنه يكون تاركًا أهله وولده مفارقًا ماله ووطنه بعيدًا عن عاداته نائيًا عن مألوفاته متجردًا من مخيط ثيابه كاشفًا رأسه مبقيًا شعره وظفره معرضًا عن زخرف الدنيا ونعيم الحياة، أشعث أغر خائفًا وجلاً لا يدري هل كان سعيه مشكورا وحجه مبرورا وذنبه مغفورًا فيرجع إلى أهله وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أو يرد حجّه عليه فيرجع خاسئًا محسورا قد باء بالخيبة والحرمان لم يحصل له إلا التعب والمشقة. وهكذا ـ يا عباد الله ـ يكون الناس يوم القيامة كما قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 7-12].
عباد الله، إن هذا البيت الحرام هو أول بيتٍ وضع للناس، إنه مبعث أفضل المرسلين ومهبط الوحي المبين وقبلة المسلمين، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [البقرة: 96، 97].
عباد الرحمن، التزموا الأدب مع الله، فلا تلتفتوا لأحدٍ سواه بطلب المدد والحاجات، واتصفوا بالأدب مع نبيه الكريم ، فلا تقدّموا على قوله قولَ من سواه، ولا تأذوا إخوانَكم المسلمين وقد حرّم الله أذية المؤمنين بقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، فلا تقعوا في الإثم وأنتم لا تشعرون، ولا تبطلوا أعمالكم وأنتم لا تعلمون.
أسأله سبحانه أن يمنّ علي وعليكم بالبصيرة في الدين، وينفعني وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، أحمده سبحانه وأشكره أن دعانا لحج بيته الحرام، وجعل الحج كفارة لجميع الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعته، وأدوها بأدبٍ وانشراح صدر وسرور، فإنه ليس في الإعمال أحسن من عمل صالح مقبول يتقرب العبد فيه إلى مولاة، فيجني ثماره يوم القيامة، ويجزيه الله عليه الجزاء الأوفى، وينال به عند الله الحسنى.
ألا وإن من أعظم الأعمال ثوابًا وأجزلها عطاءً هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو حج بيت الله الحرام، فإن الله يكفر به الذنوب ويمحو به الخطايا ويجزل به العطايا، فهل هناك أفضل من عمل يكون جزاؤه الجنة التي هي غاية المطلوب ونهاية المنى؟! يقول : ((الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) ، يا له من جزاءٍ عظيم وثواب جسيم يتنافس فيه أولو العقول الزاكية والهمم العالية، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ، ولكن للحج شروطًا وله التزامات يجب الالتزام بها، فمن قام بواجباته وكمّل لوازمه حصل له المقصود من تمام الأجر ورضا الله سبحانه، وإذا لم يبال به فاته جلّ المطلوب، وقد بيّن لنا القرآن الكريم ذلك وأوضحته سنة النبي الكريم ، يقول سبحانه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني من نوى فيها الحج، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، ويقول : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
(1/4962)
دروس من حجة الوداع
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, محاسن الشريعة
محمد بن ماجد القحطاني
القويعية
11/12/1425
جامع الفرشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة استلهام الدروس والعبر من الحج. 2- خطب النبي في الحج. 3- المبادئ التي رسخها النبي في خطبه في الحج. 4- سبب ضعف المسلمين. 5- تغيظ الكفار من مظهر الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ها هم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح، قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلد وتاريخ قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، علمًا وعملا، فقها وخُلُقا، أرض طيبة وجوّ روحاني، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد حيةً نابضة، تختلط فيه مشاعر العبودية وأصوات التلبية والإقبالُ على الرب الرحيم، ما أحوج الأمة في أيام محنِها وشدائدها وأيام ضعفها وضياعها إلى دروسٍ من تاريخها تتأمّلها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها تستلهم منها العبر ويتجدّد فيها العزم على الجهاد الحقّ ويصحُ فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروسٍ تستعيد فيها كرامتها وترد من يريد القضاء على كيانها، وإن في حجة نبيّكم محمدٍ الوداعية التوديعيّة لعبرًا ومواعظ، وإن في خطبها لدروسًا جوامع.
فلقد خطب عليه الصلاة والسلام خطبةً في موقف عرفة ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق، أرسى فيها قواعد الإسلام وهدم مبادئ الجاهلية، وعَظّمَ حُرمات المسلمين، خطب الناس وودعهم بعد أن استقر التشريع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي الله هذا الإسلام دينًا للناس كلهم، لا يقبل من أحدٍ دينًا سوى عبادتِه، يقول سبحانه وتعالى في هذا اليوم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]، وقال جلّ من قائل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]. ألقى نبيكم محمد في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزة، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين، وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، وإنما كلامهم حقٌ وشفاءٌ لما في الصدور ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبّت النبي في نفوس المسلمين أصول الديانة الإسلامية وقواعد الشريعة، ونبّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى، ولقد كانت عبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهد الناس فيها على البلاغ، كان من خلال تبليغه كلمات يمتلئ حبًا ونصحًا وإخلاصًا ورأفة بالناس، يقول الله جلّ في علاه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3]. لقد عانى وكابد من أجلِ إخراج الناس من الظلماتِ إلى النور ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، حتى صنع منهم بإذن ربه أمةً جديدة ذات أهدافٍ واضحة ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقة، وعلمهم بعد جهل. وهذه وقفاتٌ مع بعض هذه الأسس الإسلامية والقواعد النبوية والأصول المحمدية.
إن أول شيء أكد عليه في النهي عن أمر الجاهلية وهو الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" شعار الإسلام وعَلَم الملة، كلمةٌ تخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة، فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وطريقه، يقول الله سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40]، الأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، يقول سبحانه: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14].
ومن القضايا المثارة في كلام الرسول التأكيد بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسبٍ ولا تمايزَ في لونٍ، فالنزاعات العنصرية والنعَرات الوطنية ضرب من الإفك والدجل، ومن الواقع الرديء في عصرنا أن توصَف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات، والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقارًا لأبناء القارات الأخرى، ولم تلفح المواثيق النظرية ولا التصريحات اللفظية، فإنك ترى هذا التمييز يتنفّس بقوةٍ من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويأتي نبينا محمدٌ لينبّه منذ مئات السنين على ضلال هذا المسلك، ويُعْلِنَ في ذلك المشهد العظيم بقوله : ((أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى)) ، وفي روايةٍ عند الطبراني عن العداء بن خالد قال: قعدت تحت منبر الرسول يوم حجة الوداع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((إن الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] ، فليس لعربيٍ على عجميٍ فضل، ولا لعجميٍّ على عربي فضل، ولا لأسودٍ على أحمر ولا لأحمرٍ على أسود فضل إلا بالتقوى. يا معشر قريش، لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا. أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناسُ رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقيّ هيّنٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق اللهُ آدم من تراب)) رواه الترمذي واللفظ له وأبو داوود وغيرهما.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الناس، حِفْظُ النفوس وصيانةُ الدماء قضيةٌ خطيرة يُثيرها خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأمة في كلماته التوديعية، ذلكم حكم القصاص في النفس والجِراحات، كان من حِكَمِه التشريعية زجرَ المجرمين عن العدوان. وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدّمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين واكتفت بعقوباتٍ هزيلة؛ بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين إلا عتوًا واستكبارًا في الأرض، ولكنه في شرع محمد محسومٌ بالقصاصِ العادل، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. إن في القصاص حياةً حين يكفّ من يهمّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لا يقف عند حدٍ، لا في القديم ولا في الحديث، ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، لا تكفّ معه الدماء عن المسيل، وتأتي شريعة محمد في هذا الموقف العظيم وفي إلغاء حكم جاهلي هو مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: ((ألا كلّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماءُ الجاهليةِ موضوعة)) الحديث.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الخير والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
سبحان من أوجد الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، وسبحان من شرع الشرائع فأحكم ما شرع، وسبحان من إذا أعطى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والحمد لله أهل الحمد ومستحقه، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد مصطفاه من رسله ومجتباه من خلقه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ضعفَ حال المسلمينَ واضطراب أمورهم لم يكن إلا من عند أنفسهم، تسلُّط الأعداء لا يكونُ إلا بسبب الأعمال والإهمال. فيا حكام الإسلام ويا ولاة أمور المسلمين، اتقوا الله فيما وُلّيتم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنّة، اتقوا الله في توجيه الرعية، وجِّهوهم إلى ما فيه ترسيخ الإيمان وحب الإسلام.
عباد الله، يقفُ الرسول في خطبة الوداع، ويُوقف أمته على أمرٍ حاسم وموقفٍ جازم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبُدَهُ المصلون ولكن في التحريشِ بينهم)). إنّه تحذيرٌ مبكّر من الرؤوف الرحيم بالمؤمنين من فناءٍ ذريع إذا هي استسلمت للخلاف واسترسلت في الغفلةِ عن سنن الله والجهل بما يحيكه الشيطان وإخوان الشيطان من مؤامرات، إنها وصايا أودعها النبي ضمائر الناس.
وإذا كان الإسلام في عهد النبي قد دفن النعرات الجاهلية والعصبيات الدموية والشيطانُ قد يئس أن يُعْبَد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدّد آماله في هذه العصور المتأخرة، تتجدّد آماله في الفرقة والتمزيق، فالعالم الإسلامي اليوم تتوزّعه عشرات القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قومياتٌ ذات توجهاتٍ هدامة، ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار والفرقة والتمزق.
عباد الله، ما أحوج الأمة إلى مثل هذه الدروس التي يعرضها لنا رسوله ، أما تتكرر الروح التي سادت حجة الوداع لكي تتشبع هذه الكثرة العددية بين المسلمين اليوم بكثافةٍ نوعية وطاقاتٍ روحية؟! أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم وتسوي صفوفهم وتردُّ مهابتهم؟!
عباد الله، إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه أصغر وأحقر، فيغيظ أعداء الله، ويرجعون خاسئين ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين، يغيظ الكفار حين يرون جموع هذه الأمة وقد استسلمت لربها وأطاعت نبيها واجتمعت كلمتها. فيا أيها الناس، اعبدوا ربكم كما أوصى نبيكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنّة ربكم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/4963)
الانتفاع في حسن الاستماع
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, قضايا دعوية, مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
24/11/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول مواسم الخيرات. 2- ضرورة المراجعات الداخلية. 3- مفتاح النجاح. 4- حقيقة الاستماع الحسن وفضله. 5- حسن الاستماع في الكتاب والسنة وآثار السلف. 6- فضل الإنصات. 7- مشكلة عدم الإنصات وسوء الاستماع. 8- صوارف الاستماع الحسن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس جميعًا ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، واتقوا ربَّكم يا أولى الألباب.
فهذه مواسمُ الخيرات والبِقاعُ الطاهرات المقدَّسات، يتفيّؤُها الزائر والحاجّ والعاكِفُ والبَاد في بيتِ الله الحرامِ والمشاعرِ العظام ومسجدِ رسولِه عليه الصلاة والسلام، وأيّامُ الحج أيّام ذِكر وقُرُبات، نجائِب تحمل الأحباب، صابرات على [الإيجاب] والإتعاب، تأخذ الزائرِين إلى ربِّ الأرباب، قد ادُّخِرت لهم الأجورُ والبشائر، مؤمِّلين من ربهم بالأجرِ الوافر، رَحِم فيهم شَعَث الشّعث ووعثاء المسافِر، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج: 27].
عبادَ الله، حجَّاجَ بيت الله، يشعر المسلمون أنَّ دينَهم يتعرَّض لهجمةٍ شرسة، تحدَّثوا عن هذا الهجوم وتداوَلوه في ندواتهم وكتاباتِهم ولقاءاتهم ووسائِلِ إعلامهم، والحديث ليس حديثَ تشفِّي، ولا المقام مَقامَ تلاوُم، ولا بإلقاء التبعَةِ على الأعداء والخصوم، وإن كان هذا له مصداقيّته وموقعه بالقدر الذي يَبني ويَدفَع إلى العمل لا إلى الإحباطِ والتحسُّر.
غير أنّه قد يكون من المناسب أن ينظرَ المسلمون إلى أحوالِهم في أنفسِهم في واقعيّة وإيجابية بإذن الله ممّا يدفع إلى العمل والبناءِ؛ لتسير القافلة وتدَعَ الأصواتَ النّشاز، ولقد قيل: إذا رأيتَ النّاسَ يرمونك بالحجارةِ مِن خلفك فما ذلك إلاّ لأنك في المقدِّمَة.
غيرَ أن ممّا يجِب أن يتقرَّرَ أنَّ الأمةَ لا تستطيع إعزازَ دينِها ولا نصرةَ إسلامها إلاّ إذا أعزَّت نفسَها وانتصرت على أهوائِها ورغباتها، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
معاشرَ الإخوةِ والأحبّة، وهذه وقفةٌ مع أحَدِ عوامل بناءِ الأمة، يوقِفُها على طبيعتها، ويدلُّها على عيوبها، ويعينُ على تشخيصِ بَعض أدوائِها، ويُبرِز لها مصادِرَ قَوّتها، بل تستطيعُ من خلاله بإذنِ الله أن تَفحصَ نفسَها وتقوِّمَ مسيرتها. إنها وَقفةٌ مع وَسيلةٍ مِن أعظمِ وسائل شهودِ المنافع، ومن أعظم وسائل تجنُّب الجدال المذموم، والموسمُ موسمُ حجٍّ وتجمّع، والعصرُ عصرُ إعلامٍ وانفتَاح وحِوار. ذلكم ـ عبادَ الله ـ هو فِقه الإنصاتِ وحُسن الاستماع.
أيّها الإخوة المسلمون، بِناءُ العلاقات مِفتاح النجَاح، وحُسن الإنصاتِ وأدَبُ الاستماع مِن أعظَمِ ما يَبني العلاقاتِ ويرسُم طريقَ النجاح. كم هو جميلٌ أن يفهَمَ الرّاغبُ في الحقّ والجادّ في البناء وجمعِ الكلمة أنَّ الحجّةَ وحدها ليسَت كافيةً لإيصال الحقّ وإقناع الناس، بل لا بدَّ أن ينضَمَّ إلى ذلك حُسنُ الخلق واللّينُ والقدوة الحسنة، فالعقلُ والمنطِق بمفرَدِه شيء جافٌّ جافي وإن كان حقًّا، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159].
ومِن أحسن هذه الأخلاق التي تُرطِّب جَفَافَ الحقّ وقَسوةَ المنطق الاستماعُ الفعّال والإنصاتُ الثّاقب. الإنصات الحَسن والاستماع المؤدَّب احترامٌ وتقدير وامتِصاص لانفعالات الغضب وتجنُّب لمواطِنِ الخَطأ وسبيلٌ مستقيم لاتِّخاذِ القَرار السَّديد والرَّأي الرشيد. حُسنُ الاستِماع يُرسِّخ الثّقَةَ في النَّفسِ ويَردُم الجَفوَة ويسُدّ الهوَّة ويخفِّف وَطأةَ الخِلاف ويفتح المجالَ واسعًا للتفاهم والحوار البنّاء. المرءُ لا يصافِح الناسَ وكفُّه مقبوضةٌ، فكذلك لا يفهم الناسَ ولا يفهمونه وأذُنُه مغلَقَة مقفولة. ليس أسهلَ مجهودًا ولا أَفعَل تأثيرًا في تملُّكِ القلوب منَ الإنصات.
تأمَّلوا ـ رحمكم الله ـ كتابَ ربكم وما جاء فيه بشأن الاستماع والإنصاتِ، لقد ذَكَر سبحانه السمعَ والبصر في تِسعةَ عَشر موضعًا، وقدَّم السمعَ في سبعةَ عَشر موضعًا؛ ممّا ينبِّه على مكانِ السمع وقدرِه وعظيم أثره وكبيرِ نَفعه وفائدته، فالإنسانُ تبدأ معارِفُه بالسمع، وبه يفقَه التشريع، ويكون أهلَ التكليف والامتثال، يقول عزَّ شأنه: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36]، قال أهل العلم: عبَّر بالسمع لأنّه طريق العلم بالحقّ والآياتِ والبراهين، والسماعُ والإنصات انتِباه وفهمٌ واستجابة.
وقِفوا ـ رحمكم الله ـ عند هذه الآيات الكريمات، يقول عزَّ شأنه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الجن: 29، 30]، قال قتادة: "ما أَسرَعَ ما عَقل القومُ!"، ذلكم هو السماعُ الفعّال؛ سماعُ عِلمٍ وفقهٍ وتدبُّر وفهمٍ وتعقُّل وانصياع.
مَعاشر المسلمين، أنتم أمّةُ الاستماع، فقد خاطَبَكم ربُّكم بقوله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]، الاستماع والإنصاتُ هو الوسيلة المثلى للتدبُّر من أجل الفهم والعمل. أنتم أمّة الاستماع، فاحذروا قوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال: 21]، قال أهل العلم: ما الفائدة أن يقول المرء: سمِعنا وأطعنا ولم تظهر عليه آثارُ الطاعةِ والإيمان؟! فلا خيرَ في السمع ولا في الاستماع إذا لم يظهَر أثرُ ذلك بالقبول والامتِثال وابتغاء الحق، وصدق الحقّ تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67].
أمّا في سنة رسول الله فقد رَوَى الطبرانيّ بإسناد صحيحٍ عن عمرِو بن العاص قال: كان رسولُ الله يُقبِل بوجهِه وحديثِه على شرِّ القوم يتألَّفُهم، وكان يقبِل بوجهِه وحديثِه عليَّ حتى ظننتُ أني خيرُ القوم. وإنَّ لكم في رسولِ الله لأسوةً حسنة.
أمّا أصحاب رسول الله فقد كانوا يستَمِعون وينصِتون إلى حبيبِهم محمّدٍ وكأنَّ على رؤوسهم الطير من فَرط التقدير والأدب والمهابَة والرغبة في الحقّ وحُسن الإنصات وأدب الاستماع.
معاشرَ الأحبة، المنصِتُ يحبِس لسَانَه ويرسِل أذُنيه، يَعرِفُه الجالِسون والمتحَدِّثون بحضورِه وهدوئِه وترقُّبِه وحُسن متابعتِه وأَدَبه وتقديرِه لمحدِّثه، يحمل روحَ المساواةِ والبُعد عن الاستعلاء والفوقية وتجنّب الجَزم بالانفرادِ بالحقّ والقَطع بمعرفةِ الصواب. ما أجملَ الأذُن الصاغِيَة ذات الهدوء والوَقَار وهي تحتضِن امرَأً يكادُ يتميَّز مِنَ الغيظِ والغضب ويضيقُ بالحزن ذَرعًا، يقول أبو الدرداء : (لا خيرَ في الحياة إلاّ لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ أو متكلِّمٍ عالم)، ويقول بعضُ الحكماءِ: "إذا جالستَ العالمَ فأنصت، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِت، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم"، ويقول أبو حامِدٍ الغزالي رحمه الله مبيِّنًا خصالَ المنصِت وصفاتِه: "هو المُصغِي حاضِرُ القلب قليلُ الالتفات إلى الجوانِب مُتَحِرِّزًا عن النظرِ إلى وجوهِ المستمِعين وما يظهَر عليهم من أحوال وأوضاع مشتَغِلاً بنفسِه متحفِّظًا عن حركةٍ تشوِّش على أصحابِه، سَاكِن الظاهِرِ هادِئ الأطراف متحفِّظ من التنحنُح والتثاؤب".
معاشر المسلمين، كم حُلَّت المشكلاتُ بحسن الاستماع، فلا تقاطِع واسمَع حتى ينتهِيَ محدِّثُك، استَمِع إلى صاحبِك لتفهَمَ، لا لتَلتَقِطَ عَثراتِه وتتبّعَ زلاَّتِه، لا تسمع وأنت لا تَرغَب الفهمَ، لا تشتغِل بإعداد الردِّ أثناءَ الاستمتاع، ولا تستعجل الإجابَةَ، إنك إن فعلتَ ذلك فإنَّك لا تردّ إلاّ على نفسِك، ولا تحرِم إلا نفسَك، إياك أن تستمعَ لتتصيَّدَ الأخطاءَ؛ فهذا خذلانٌ وعَمى وحِرمان من الحقّ وضَرَرٌ عَلَى النّفسِ والقَلب والدين، لا تفسِّر كلامَ محدِّثك بوجهَةِ نظرِك، وانظر إلى الأمورِ بمنظورِه لا بمنظورِك، وسوف تجِد أنك سريعُ الفهم منشَرِح الصدر غيرُ قَلِق ولا مُتَحفِّز.
تأمّلوا هذه الكلمةَ العظيمة ذات الفِقه النَّفيس النّفسيّ العميق من الإمام ابن حَزم رحمه الله حيث يقول: "من أراد الإنصاتَ فليتوهَّم نفسَه مكانَ خصمه؛ فإنه يلوح له وجهُ تعسُّفِه". لا تحمِل أحكامًا مسبقة ولا قرارات مُقَولَبَة، بل كن مستَمِعًا جيِّدَ الإنصات لكل ما يقال ويُلقى.
أيّها المتحدّث، اعلم وتأكَّد أنَّ هناك أناسًا كثيرين لدَيهِم مِنَ الفطنة والفَهم والعِلم والبداهة أكثر مما عندك وما يفوقُ تقديرَك، وحين تستَمِع فلا تتصنَّع المتابَعَة؛ فجَليسُك ذكِيٌّ نبِيه، فاحترِمه واحترِم نفسَك وأدَبَك، فاستمِع ـ بارك الله فيك ـ استماعَ يَقَظةٍ وفَهمٍ وابتغاء للحَقّ.
يا أصحابَ الحقّ، أيها الدعاةُ إلى الله، يا رجالَ الحِسبة، يا أهلَ الرأي والفكر، إنَّ أفضلَ طريقٍ لإقناعِ الآخرين وأيسَر سبيلٍ إلى الوصول إلى الحقّ هو فِقه حسن الاستماع وأدب الإنصاتِ.
وبعد: عبادَ الله، فانظرُوا ـ حفظكم الله ـ حينما يكون المرءُ في ضيقٍ أو ضائقة فإنّه لا يجد الفرَحَ ولا الفَرَجَ إلاّ عند من يحسِن الإنصاتَ إليه والاستماعَ إلى شكواه؛ يواسيه ويسليه [ويتولاّه]، يحِبّ الناس المنصتَ لأنّه مغناطيس تنجذِب إليه القلوب وتَلجَأ إليه الناس، يفرَّج همومَها وأحزانها. إنَّ الاستماعَ الجيّد والإنصاتَ العَميق هو سِرّ نجاح كثيرين في علاقاتهم وأعمالهم، وإذا صَلح الاستماع صَلحَت الحياة واستقامَت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 20-23].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله بيدِه مفاتيحُ الفرَج، شَرَع الشرائعَ وأحكم الأحكامَ وما جعل علينا في الدِّين من حرج، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، قامت على وحدانيّته البراهين والحجَج، وأشهَد أن سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، هو المفَدَّى بالقلوب والمُهَج، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ساروا على أقوم طريق وأعدَل منهج، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلِمون، مِن أَكبر مشكلاتِ الناس عدَمُ إحسان الإنصات وإحسان الاستماع، فكم من أمر أسيء فهمُه بسببِ التعجُّل وعدم إحسان الإنصات والتسرُّع في الردّ وكَثرة المقاطعة. لو رَأَيتم في بعضِ الآباء والمعلِّمين والمربّين والمتحاوِرين وأمثالهم لرأيتم أنَّ همَّ أحدِهم أن يكونَ ابنه أو تلميذُه أو محاوِرُه مستَسلِمًا مُنقادًا، ليس عليه إلا الانصياع لما يقوله والاقتناع بما يطرح. عدَمُ حُسن الاستماع يؤدِّي لِسوء الفهم، وسوءُ الفَهم يؤدّي إلى ضياع الأوقات والجهودِ والأموال والعلاقات [و...], عدَمُ إحسان الاستماع يؤزِّم العلاقات بين الآباء والأمهات والأبناء والبَنات والأزواج والمعلمين والطلاب والمسؤولين ومرؤوسيهم والعامل وربِّ العَمل، كلُّ ذلك لأنهم لا يحسِنون الاستِماع، ومن ثَمَّ لا يَفهَم بعضهم بعضًا ولا يعطي لصاحبِه حقَّ الفهم وحقَّ الاستقلال بالرأي، فكلٌّ يريد الحديثَ وفرضَ الرأي بل فرضَ الاستماع غير المفيد، والأشدُّ من ذلك والأنكى حينما يتَّبع المرء هواه ويضلّ على علم، وحينئذ يُختم على سمعِه وقلبِه، ولقد قال الله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
ونعى الله عزّ وجلّ على الذين عطَّلوا أسماعهم فكانوا كالأنعام بل هم أضلّ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].
إنَّ من الصوارِفِ عنِ الاستماعِ النّفَّاع الاستهزاءَ والاستخفافَ وعَدم الاكتراث والسخرية وعدم التركيز والاضطراب النفسيّ ومقاطعة المتحدث ومسابقتَه في التنبُّؤ بما يقول وإظهار الملَل وعدم التحمل.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحذَروا الإنصاتَ المنحاز ممّن يستَمع وقد استبطَن حُكمًا مسبَقًا أو تصنيفًا حاجزًا للأشخاصِ أو المعلوماتِ.
هذا، وصلوا وسلِّموا على الرحمة المسداة والنعمة المهداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك المولى جلّ في علاه فقال عزَّ قائلً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمد...
(1/4964)
فضل الحج وعشر ذي الحجة
فقه
الحج والعمرة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/11/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي مواسم الخيرات. 2- فضل الحرم. 3- فرض الحج وفضله. 4- الحج المبرور. 5- من آداب الحج. 6- أهمية التوحيد. 7- فضل التوكل على الله. 8- الحكمة من رمي الجمار. 9- فضل التوبة والاستغفار. 10- أصناف الناس في الحج. 11- فضل عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عِبادَ الله ـ حقَّ التقوَى، وراقِبوه في السرِّ والنَّجوى.
أيّها المسلِمون، مَواسِم الخيراتِ عَلَى العِباد تترَى، فَما أن تنقَضِيَ شعيرة إلاَّ وتتَراءَى لهم أخرَى، وها هِيَ قلوبُ العبادِ أمَّت بيتَ الله العَتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليلِ عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. بَيتٌ جعَلَه اللهُ مَثَابَةً للنّاسِ وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى مِنَ الكريمِ الرَّحماتُ والعطايَا، حرمٌ مبارَكٌ فيه خَيرَاتٌ وَآياتٌ ظاهِراتٌ، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 96، 97]، حَجُّه مِن عِمادِ الإسلام، قال عز وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97].
جاءَ الشَّرعُ بالأَمرِ بِبلوغِ رِحابِه لأدَاءِ فريضةِ الدِّينِ، قال عليه الصلاةُ والسلام: ((يا أيّها الناس، قد فرَض الله عليكُم الحجَّ فحُجّوا)) رواه مسلِم. فيه بذلٌ وعَطاء وعَناء وثوابٌ، سئِل النبيُّ : أيُّ العمَلِ أفضَل؟ قال: ((إِيمانٌ باللهِ ورَسولِه)) ، قيل: ثمّ ماذَا؟ قالَ: ((الجهادُ في سبيلِ الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور)) متفق عليه.
في أَداءِ ركنِ الإسلامِ الخامِس غُفرانُ الذّنوب وغَسلُ أدران الخطايا والعِصيان، يقول النبيّ : ((مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجَع كيوم ولدَته أمُّه)) رواه البخاري. ومَن لازَم التقوَى في حجِّه أعدَّ الله لَه الجنَّةَ نُزُلاً، قال عليه الصلاة والسلام: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارةٌ لما بينها، والحجُّ المبرور ليس لَه جزاءٌ إلا الجنة)) متّفق عليه، قال النوويُّ رحمَه الله: "لا يقتصِر لصاحبِه من الجزاءِ على تَكفيرِ بعضِ ذنوبِه، بل لا بدّ أن يدخلَ الجنَّة".
والأعمالُ توزَن بالإخلاصِ، وإذا شابَهَا شِركٌ أو رِياءٌ أفسدَها، قالَ جلَّ وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزّمَر: 65]. ولا يَتِمّ بِرُّ الحجّ إلا بكسبٍ طيِّبٍ تنزَّه عن شَوائبِ المحرمّات ودَنَسِ الشبهات.
والصّحبةُ الصالحَة في الحجّ عَونٌ على الطاعةِ وحُسنِ العبادة، والمروءةُ في السَّفَرِ بَذلُ الزادِ وقِلّةُ الخلاف على الأصحاب، والإحسانُ إلى الرفقةِ عبادَة متعدّيةُ النفع، قال مجاهدٌ رحمه الله: "صحِبتُ ابنَ عمر رضي الله عنهما في السّفَر لأخدِمه فكان يخدِمني"، قال ابن رجَبٍ رحمه الله: "وكانَ كثيرٌ من السّلَف يشتَرِط على أصحابِه في السّفَر أن يخدِمَهم اغتِنامًا لأجرِ ذلك".
وخيرُ زادٍ يحمِلُه الحاجّ معَ رُفقته زادُ الخَشيةِ والتقوى، قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، ومِن وَصَايَا المصطَفى لمعاذِ بنِ جبَلٍ رضي الله عنه: ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ الناس بخلقٍ حسن)) رواه الترمذي.
ومِن برِّ الحجِّ إطعامُ الطَّعام فيه وإفشاءُ السَّلامِ وطِيبُ الكلامِ ومُعامَلةُ الخلقِ بالإحسانِ إِليهم، فلا تحقِرَنَّ في حجِّك من المعروف شيئًا، فخيرُ الناسِ أنفعُهم للنّاس، وأعزُّهم أصبرُهم على أذاهُم، وخادِمُ الحجيجِ المخلِصُ للهِ في رعايَتِهم شَريكٌ لهم في الأجرِ والثَّواب، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّ الله ليدخِل بِالسَّهم الواحدِ ثلاثةً الجنَّةَ: صانِعَه يحتسِب في صنعَتِه الخَيرَ، والرامِي بِه، والممِدَّ به)) رواه الترمذي.
ومَن أمَّ البيتَ حقيقٌ بِلزوم ثلاثِ خِصال: ورَعٍ يحجِزُه عن معاصِي الله، وحِلمٍ يكفُّ به غَضبَه، وحُسنِ الصحبةِ لمن يصحَبه.
أيّها المسلمون، خير ما يتقرَّب به العبادُ إلى ربهم إظهارُ التوحيدِ في نُسُكِهم وإخلاصُ الأعمال لله في قُرُباتهم، ومَا كانَ مِنها لغيرِ الله يَضمَحلُّ، قالَ سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]. وإظهارُ النسُك بالقولِ فيه وحدانيّةٌ للخالق: لبّيك اللهم لبَّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك. وخيرُ ما نطَق به الناطِقون يومَ عرفةَ كلِمةُ التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قُلتُ أنا والنبيّون من قَبلي: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، له الملكُ وله الحمد، وهو علَى كلّ شيء قدير)) رواه الترمذي.
والتَّوكُّل على الله مِن أجَلِّ العبادات؛ قال عز وجل: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]. واليَأسُ ليس مِن دينِ الله في شَيء، قال سبحانه: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]. وما قدَّم أحدٌ حقَّ اللهِ على هوَى نفسِه ورَاحتِها إلاّ ورأَى سَعادةَ الدّنيا والآخرة.
هَاجَرُ تلتمِس الماءَ لها ولرَضيعها في ديار غربةٍ في وَادٍ غيرِ ذي زرع بين جبلين، أنهَكها العطش وأَضناهَا الإشفاقُ على صبيِّها، وبعدَ توكّلٍ على الله وبذلِ الأسبابِ وجَدت نَبعًا متدفِّقًا لها وللأجيَالِ من بعدها، فكان ذِكرُها معطَّرًا عبر التاريخ، يقول النبيّ : ((رَحِمَ الله أمَّ إسماعِيل، لو تَرَكَت زَمزَمَ لكانت زَمزَمُ عينًا معينًا)) رواه البخاري.
واللهُ جلّ وعلا بِيَده النّفعُ والضّرّ، فارِجُ الكُروبِ وكاشِف الخطوبِ، متعَالي على عبادِه، بيدِه مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، متَّصفٌ بالكبرياء والعظمة، يُعلِن ذلك الحاجُّ بالتكبيرِ في أنساكِه في الطوافِ والسعيِ ورميِ الجمار وفي يومِ النَّحر وأيّام التشريقِ، ليبقَى القلبُ مجرَّدًا للهِ، متعلِّقًا به، منسلِخًا عن التعلُّق بما في أيدِي المخلوقين.
وفي رَميِ الجِمار تذكيرٌ لبني آدمَ بعدوٍّ متربِّصٍ بهم يدعوهُم إلى النّارِ، قال عزّ وجلّ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. فكُن على حَذَرٍ من تقصيرٍ في واجِبٍ أو وقوعٍ في مَعصِيَة تورِدُك المهَالِك.
واعلَم أنّ لحظاتِ الحجِّ عَزيزةٌ وساعاتِه ثمينَة، قالَ عز وجلّ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]، فسابِق فيه إلى كلِّ خيرٍ وقُربةٍ مِن الذّكر والاستغفارِ والتكبيرِ وتِلاوةِ القرآن، قالَ سبحانَه: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة: 198].
وبعدَ انقضاءِ النُّسُك احمَدْه على الهِدايةِ واشكُره على العبادة، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]. وفي ثَنايَا النّسُك استِغفارٌ ورجوع إلى الله، قال عزّ وجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة: 199]. والاستغفارُ من أكبرِ الحسنات، ومَن أحسَّ بتقصيرٍ في قولِه أو عمَلِه أو حَالِه أَو رِزقِه أو تقلُّب قلبٍ فعليه بالتوحيدِ والاستغفار، ففيهما الشِّفاءُ.
والعِبادُ في الحجِّ على قدرِ هِمَمِهم، منهم مَن يطلُب الدّنيا العاجِلة، ومنهم من يَطلُب مرضاةَ الله والآخرةَ، قال سبحانه: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200-202].
والموفَّقُ من أدَّى حَجَّه بنيّةٍ صَالحَة خَالِصةٍ ونفقةٍ طيِّبة، وعطَّر لسَانَه بذكرِ الله، وصَاحَبَ عبادَتَه إِحسانٌ ونفعٌ للمَخلوقِين. فكونُوا في حجِّكُم كذلك، وأخلِصُوا دينَكم لله، واجتَهِدوا في الأعمالِ الصّالحة، وسَارِعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنّةٍ عَرضُها السماواتُ والأرض؛ تفوزوا بخَيرَي الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطانِ الرَّجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
بارَكَ الله لي وَلكُم في القُرآنِ العَظيمِ، ونَفَعَني الله وإيَّاكم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمينَ من كلّ ذَنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله علَى إحسَانِه، والشّكرُ لَه علَى تَوفِيقِه وامتِنانِه، وأَشهَد أَن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشَأنه، وأَشهَد أنّ محَمّدًا عبدُه ورَسولُه، صلّى الله عَلَيه وعلَى آلِه وأصحَابه وسلّم تسليما مزيدًا.
أمّا بعدُ: أيّها المسلمون، أظّلَتْكم أيّامُ عشرٍ مبارَكة، الأعمَالُ فيها فاضِلَة، يقول النبيُّ : ((مَا مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذهِ الأيام)) ، يعني أيامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلاَّ رجلٌ خرَج بنفسِه ومَالِه فلم يرجِع من ذَلِك بشيء)) رواه البخاري.
فَأكثِروا فيها من التَّكبيرِ والتّحميدِ وقِراءةِ القرآن وَصِلةِ الأرحام والصَّدقةِ وبِرّ الوالِدَين وتفريجِ الكرُبات وقَضاءِ الحاجات وسائرِ أنواعِ الطاعات، قال شيخ الإسلام رحمَه الله: "أيّامُ عشرِ ذِي الحجّة أفضلُ مِن أيّامِ العَشر مِن رمضان". ولقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم يحيُونَ في العشرِ سُنّةَ التكبير بين الناس، فكان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان إلى السّوقِ في أيام العشرِ، فيكبِّران ويكبِّر الناسُ بتكبيرهما. رواه البخاريّ.
ومِن أفضلِ الأعمال الصالحةِ في هذهِ العشرِ حَجُّ بيت الله الحرَام، فاغتنِموا مَواسمَ العبادةِ قبلَ فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام مَعدودَة، والأعمارُ قصيرة.
ثم اعلَمُوا أنّ اللهَ أَمرَكم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه، فقال في محكمِ التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائهِ الراشدين...
(1/4965)
عشر مباركة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
فهد بن عبد الله آل طالب
الرياض
28/11/1426
جامع الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- نعمة موسم الخيرات. 3- فضل العشر من ذي الحجة. 4- ما يشرع في العشر من ذي الحجة. 5- من أحكام المضحي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، إن من حكمة الله تعالى ودلائلِ ربوبيته ووحدانيته وصفاتِ كماله تخصيصَ بعضِ مخلوقاته بمزايا وفضائل، وقد قال جل جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.
هيأ لعباده مواسم عظيمة وأيامًا فاضلة؛ لتكون مغنمًا للطائعين وميدانًا لتنافس المتنافسين، قال ابن رجب: "وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يعود برحمته وفضله عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعدَ بها سعادة يأمن بها من النار وما فيها من اللفحات".
أيها المؤمنون، أروا الله من أنفسكم خيرا، فإنكم على أبواب عشر مباركة، أقسم الله بها في كتابه، فقال: وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم.
وعشركم هذه هي خاتمةُ الأشهر المعلومات، أشهرِ الحج التي قال الله فيها: الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وعشركم هذه في قول جمهور العلماء هي الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج: 27، 28].
وعشركم هذه من جملة الأربعينَ التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142]. رواه عبد الرزاق عن مجاهد رحمه الله.
وعشركم هذه فيها يوم عرفة ويوم النحر.
وعشركم هذه قال فيها : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيام العشر أحبُ إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحبَّ إلى الله فهو أفضل عنده، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضلَ وأحبَّ إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلِّها صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضلَ من العمل في غيره وإن كان فاضلاً".
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
وقال ابن رجب: "فإن قيل: قوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) ، هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته؟ قيل: الظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضلُ من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان، فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".
فأيام عشر ذي الحجة خير أيام السنة بنص هذا الحديث، قال ابن رجب: "وأما لياليه فمن المتأخرين من زعم أن ليالي عشرِ رمضان أفضلُ من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدا.. قال: والتحقيق ما قاله أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلةٌ لا يفضل عليها غيرها".
واستدل على هذا بأمرين:
الأول: أن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعا، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعا.
والثاني: أن الله أقسم بلياليه فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ.
أيها المؤمنون، وفي عشر ذي الحجة أعمال فاضلة ينبغي الحرص عليها، فمن ذلك الصيام، فيسن للمسلم صيام تسع ذي الحجة، لأن النبي حث على الصيام فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وروي عن بعض أزواج النبي أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة.
وأمّا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ما رأيتُه ـ تعني النبي ـ صائمًا في العشر قط، أخرجه مسلم، فقال ابنُ القيّم رحمه الله بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"، وقال ابن حجَر بعد أن ذكر فضلَ الصومِ في هذه العشر: "ولا يرِد على ذلك حديثُ عائشةَ لاحتِمال أن يكونَ ذلك لكونِه ـ وهو الرحيم المشفِق ـ كان يترك العمَلَ وهو يحبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يُفرَضَ على أمّته". قال النوويّ رحمه الله: "فيُتأوَّل قولُها: (لم يصُمِ العشرَ) أنّه لم يصمه لعارضِ مرضٍ أو سفَر أو غيرهما، أو أنّها لم ترَه صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدمُ صيامِه في نفس الأمر، وقال: صيامها مستحب استحبابًا شديدًا".
الثاني: يسن التكبير أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة، ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا)، وصحّ عن عمر وابن مسعود صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، ويصح التكبير بكل صيغة.
الثالث من أعمال هذه العشر أداء الحج، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، وجعله ركنًا من أركان دينه، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، وقال : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) متفق عليه. وقد حذرنا النبي من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال : ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد وحسنه الألباني، وقال عمر بن الخطاب : (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيا)، قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى عمر ".
أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج، أو عرض له أمر من مرض أو فقر أو تغير في الأحوال في السنة القادمة فلم يستطع الحج. ألا ترونَ الكثير من المسلمين يأتون من المشرق والمغرب من بلاد بعيدة، قد تركوا الأهل والأوطان وعرضوا أنفسهم لمخاطر الطرق والأسفار، ليصلوا إلى بيت الله الحرام، مع ما هم فيه من فقر وحاجة؟! فما بالنا نحن الذين في بلاد الحرمين، وقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة، ومع ذلك نفرط في الحج رغم قربه وتيسر أموره؟!
الرابع من الأعمال: الإكثار من الأعمال الصالحة، فاعمر هذه الأيام بطاعة الله عز وجل، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وصدقة وصلة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأبواب الخير مشرعة.
الخامس: التوبة، وهي واجبة في جميع الزمان، متأكدة في هذه العشر المباركة، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال صالحة في زمان فاضل فذاك عنوان الفلاح، فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ [القصص: 67].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، ومما يستحب في هذه العشر الأضحية، ومن أراد أن يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئًا، روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قال : ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)). والأمر للوجوب، والحكم متعلق بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والوكيل لا يتعلق به نهي. والحكم أيضا خاصّ بصاحب الأضحية، ولا يعمّ الزوجة والأولاد؛ لأن النبيّ كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.
والحكمة من النهي عن ذلك ـ كما قال ابن القيم ـ توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمالِ التعبد بها. وقد شهد لذلك أيضًا أنه شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حلق رأسه مع الذبح أفضل وأولى.
ومن أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها في أثنائها أمسك من حين الإرادة، وإن حلق أو قلم أظافره ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن الله تجاوز عن الناسي، ولو تعمد إنسان وأخذ فعليه أن يستغفر الله ولا فدية عليه، ولا حرج في غَسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر لأن النبي إنما نهى عن الأخذ.
(1/4966)
بناء الكعبة
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
22/11/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكعبة مثابة للناس. 2- قصة بناء البيت. 3- حسد الكفار للمسلمين على حبهم للبيت الحرام. 4- دروس وعبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
السادة الكرام، لقد جعل ربنا تبارك وتعالى بيته المعظم مثابةً للناس، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا، كلما رجعوا إلى أهليهم رجعوا إليه حبًا وشوقًا وابتهاجًا، إليه تشتاق الأرواح، وفيه تتعاظم المسرات والأفراح، وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة: 125]. هو أمان الناس وسلامتهم وروحهم وراحتهم، أمن فيه مجاوره وساكنوه، وتلذذوا بعيشه وبركته، في حين تخطّف الناس من حولهم وحصول البلايا والأذيات لغيرهم.
وهو أول بيت وضع في الأرض لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به، ويصلون ويعتكفون عنده.
وقد أمر الله نبيه الخليل إبراهيم عليه السلام ببناء البيت وأن يؤذن في الناس بالحج إليه وقصده للطواف والعبادة في قصة مفيدة عجيبة أخرجها البخاري في صحيحه، امتلأت بالإيمان الصادق والتوكل على الله والثقة بوعده واللجوء إليه، ومنها البشارة بنبوة محمد.
وسوف أتلو عليكم هذه القصة التي هي خبرُ أولِ بيت:
نزل مكة المكرمة، الوادي المُجدِب القفر الذي قد خلا من الأنيس والزرع، نزله سيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام بأسرته المؤمنة الصغيرة المكونة من زوجته هاجر رحمها الله وابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام. ومن هذا البيت الصغير أشرقت الحياة من جديد، وآذنت بميلاد نبينا محمد الرحمة المهداة التي شع لها الوجود وانبلج لها فجر الزمان.
فأقبلَ الفجر من خلف التلال وفي عينيه أسرار عشاق وسُمارِ
تدافع الفجر في الدنيا يزفّ إلى تاريخها فجرَ أجيال وأدهارِ
كأن فيض السنا فِي كل رابية موج وفي كل سفحٍ جدول جاري
ونص القصة كما في الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: جاء إبراهيم عليه السلام بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دَوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، قالت له: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي : ((فذلك سعي الناس بينهما)) ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه ـ تريد نفسها ـ ثم تسمَّعت، فسمعت أيضًا فقال: قد أسمعت إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه ـ أو قال: بجناحه ـ حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، ـ وهي رواية: بقدر ما تغرف ـ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي : ((رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم)) ، أو قال: ((لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينًا)) ، قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضَيعة؛ فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة من جُرهُم ـ أو أهل بيت من جرهم ـ مقبلين من طريق كدَاء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًّا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي : ((فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس)) ، فنزلوا، فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ـ وفي رواية: يصيد لنا ـ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غيّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه، قالت: خرج يبتغى لنا، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسَعة، وأثنت على الله تعالى، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي : ((ولم يكن لهم يومئذ حَب، ولو كان لهم دعا لهم فيه)) ، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفى رواية: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟! قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم : ((بركة دعوة إبراهيم عليه السلام)). قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلماء جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن ثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا ها هنا، وأشار إلى أكمَة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [البقرة: 127].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فها هي ـ يا مسلمون ـ قصة بناء الكعبة كما رواها البخاري في صحيحه، تبيّن لنا مبدأ هذا البيت الذي أضحى مثابة للناس وأمنًا لهم وسعادة يأوون إليها وموردًا خصيبًا يستحلون هداه ويعيشون بركته ويؤثرون سكناه وعمارته.
هذا البيت الذي يحسدكم عليه العالم أجمع، ويعجبون من ازدحامكم عليه، ويعجبون من إيثاركم له على محابّكم ولذائذكم، ويحتارون من سفركم إليه وطوافكم به. لقد انذهل العالم الكافر من اجتماع أكثر من مليونين من المسلمين حول هذا البيت، وتعجبوا من حنين هذه الأمة إليه متغافلة عن دنياها وشهواتها، وأدركوا أن وراءهم خطرا زاحفا من هذا الجمع الغفير؛ لأن هذا التجمع الكبير في الحج طريق لعودة الأمة إلى ربها واعتصامها بدينه، وهذا ما يخيف المجرمين الكفرة، نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم.
أيها الإخوة الكرام، لقد تجلت في هذه القصة العجيبة عظات ودروس مفيدة، منها عبودية إبراهيم عليه السلام لربه وامتثاله لأمره، حيث نزل منزلاً ليس فيه أنيس ولا شيء، وأنزل أسرته طاعةً لربه وتنفيذًا لأمره. ومنها الإيمان الصادق الذي حملته هاجر رضي الله عنها حيث قالت: آالله أمرك؟ إذن لا يضيعنا. ومنها حفظ الله تعالى لأوليائه وعباده الصالحين إذا آمنوا به وتوكلوا عليه حق التوكل، فالله لا يضيع أهله. ومنها بركة دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة. ومنها استجابة الله دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأن يبعث لهذه الأمة رسولاً يعلمهم ويزكيهم، فإن إسماعيل تزوج من قبيلة جرهم العربية، واكتسب منهم اللسان العربي، وكانت من نسله العرب المستعربة، ومنهم عدنان الذي هو جدّ النبي الذي اصطفاه الله على العالمين وجعله خاتم النبيين، حيث دعا الناس إلى عبادة الله وحده، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وأحيا مناسك الحج، وجعل الله أمته خير الأمم، شرفها برسوله وكتابه وبطاعته واتباعه، وسماهم المسلمين، وكتب لهم أسباب النصر والبقاء والتمكين.
بشرى لنا معشرَ الإسلام إنّ لنا من العناية ركنًا غيرَ منهدمِ
لَما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
ومن فوائد القصة تجديد الله تعالى ذكرى هذه المرأة الصالحة هاجر أم إسماعيل التي آمنت بالله تعالى حق الإيمان، واستلمت لأمره وابتلائه، وسكنت مكة حيث لا أنيس، فرفعها وإيمانها وصبرها حيث قالت: لا يضيعنا، وأصبح في هذه الشريعة من مناسك الحج ركنية السعي بين الصفا والمروة.
ومن فوائدها امتنان الله على الأمة المسلمة بأن أجرى لها بئر زمزم، الماء المبارك الذي لا يزال يتدفق طيبًا مباركًا، ينتفع منه سائر الناس، ((يرحم الله أم إسماعيل؛ لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا)).
ومن فوائدها أن الشدائد لأهل الإيمان غالبًا ما تنفرج عن نعم ورخاء وبركات، وأن الله يجعل المنن في طيات المحن رحمة منه وتوفيقًا وتيسيرًا، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4967)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
29/11/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنافس الناس على الدنيا. 2- حلول موسم عظيم. 3- غفلة بعض الناس عن مواسم الخيرات. 4- ما يستحب في العشر من ذي الحجة. 5- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.
تحل علينا هذه الأيام، أيام مباركات وذخائر نفيسات وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام عشر ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها تنويهًا بشأنها وإرشادًا لأهميتها: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2]، والتي قال عنها النبي كما في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)).
إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدّ والاجتهاد، فاحرصوا ـ يا مسلمون ـ على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن تدخل هذه الأيام والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا واجتاحتهم الغفلة واحتواهم الطمع.
إن الإنسان منا لينمّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!
والناس هَمّهم الحياةُ ولَم أرَ طولَ الحياة يزيد غيرَ خَبالِ
وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تَجد ذخرًا يكون كصالِح الأعمالِ
إن هذه الأوقات ـ يا مسلمون ـ جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم وزيادة في حسراتكم.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبا! إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار بالنوم، وهم على أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبّهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجرى بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد لإقامته. فالغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما فرحوا لا مع خير، فكم فيكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنه قد حدا الحادي فلم يُفهم صوته من وقع الندم".
إخوة الإسلام، إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها، واعمروها بطاعة الله تعالى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف والطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات". قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
أيها الإخوة الكرام، يُستحب عمارة هذه العشر المباركة بالطاعات والأعمال الصالحة، ومن ذلك الصيام، فيسن صيام تسع ذي الحجة لأن النبي حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ((عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له)) ، قال النووي رحمه الله: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا". وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، ويعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصلَ له. وأما صوم يوم عرفة فهذا يتأكد صيامه لورود فضل خاص به كما في صحيح مسلم قال : ((يكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة)).
ومن أعمال هذه العشر التكبير، فيسن فيها التكبير والتحميد والتهليل لحديث ابن عمر في المسند: ((ما من أيام أعظم ولا أحب فيهن العمل من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ، ويستحب إظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات. قال في المغني: "قال القاضي: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان".
والتكبير في هذه الأزمنة صار من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به في مواضعه إحياء للسنة وتذكيرًا للغافلين، وقد ثبت في صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبّران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
ومن أعمال العشر أداء الحج والعمرة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ويستحب في هذه العشر الإكثار من الأعمال الصالحة مطلقًا كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء والصدقة والبر والصلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أعمال العشرة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ولا ينبغي للمسلم أن يدعها مع سعته وقدرته.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، ومن الأعمال الصالحة التي يجب المبادرة بها في هذه العشر وفي كل زمان التوجه النصوح والرجوع إلى الله والإقلاع عن المعاصي والذنوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم: 8]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]. والتوبة في هذه الأيام طريق للفوز والفلاح؛ لأنها من مواسم الخيرات، والنفوس فيها مقبلة وتباشر أعمالاً عظيمة كالصيام والتكبير والحج والأضحية.
فسارعوا ـ يا مسلمون ـ إلى التوبة الصادقة بالكف عن المحرمات والتحلل من المظالم ورد الحقوق والبعد عن الفواحش والمشاهد الخليعة، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ [القصص: 67].
إن التوبة إلى الله شرف العبد وعزه وكرامته، بها يسعد ويغنم، وبها يفرح ويربح، وإنها لباب عظيم من أبواب السعادة، تُنال بها الحسنات، وتُحطّ بها السيئات، ويتنزل بها الرزق، ويدوم الحظ والتوفيق، ويزول الشقاء والحزن. روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فسارع ـ أخي رعاك الله ـ إلى طاعة ربك بالتوبة والاستغفار وكثرة خصال الخير، فإنك في زمان المهلة، واحذر التسويف والتضييع، قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) ، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرضٍ فلاة)).
فالله ـ يا مسلمون ـ يفرح بتوبة عباده، وبرجوعهم إليه، فسارعوا في التوبة واغتنموا الزمان، واحذروا الغفلة والتأخير.
فيا من فكر في الحياة وتأمّل أحوال الناس وشاهد مصارعهم وشيع جنائزهم وعاش أفراحهم وأحزانهم، إلى متى تدخر التوبة؟! وإلى متى وأنت غافل عن الطاعة؟! وإلى متى وأنت في وضع غريب؛ تسارع في المعصية وتقهر في الطاعة ولا تحدث لله توبة؟! لقد سمعت المواعظ وتلوت القرآن، ورأيت هادم اللذات، فلِمَ تتقاعس عن إجابة الدعوة ولا تلبي النداء والخطاب؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم: 8].
يا مسلمون، إن وراءنا يوما ثقيلا عسيرا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
(1/4968)
من معاني الحج
فقه
الحج والعمرة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
17/12/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة منظر الحج. 2- ضرورة التأمل في شعيرة الحج. 3- معاني الحج. 4- نكد الحياة الغربية. 5- لا عزة إلا بالإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، هل رأيتم الحج وضخامته، ورأيتم الإيمان وتوهجه، ورأيتم الجموع الغفيرة كيف أتت تعظم الله وتكبِّره وتحمده؟! لقد كان منظر الحج شيئًا عجيبًا ومنظرًا مَهولاً، ابتهج به المؤمنون، وعزَّ به الموحِّدون، وشَرِق به المجرمون، وانبهر به الغافلون. فماذا يعني لكم الحج يا مسلمون؟!
لا أظنّ أن تلك المشاهد العظيمة تمضي بلا اتعاظ، أو أن ذلك العدد الضخم يمر بلا اعتبار. لقد حضرت تلك الجموع الغفيرة تجيب دعوة الله لها، وحضرت تعظّم الله، وحضرت تعلن توحيدها لله رب العالمين، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 37].
مجمع عظيم يهتز له العالم، ويرجُف منه الأعداء، وينخلع منه اليهود والنصارى، فهل وعيتم ذلك؟ وهل أحسستم بعظمة هذا الدين، وعظمة أمته؟!
إن ثمة معاني في الحج ما ينبغي أن تخفى على ذوي العقول والبصائر.
فمن ذلك أن الحج مؤتمر إسلامي كبير، يدعو إلى وحدة الأمة وتضامنها، فالحجاج يجتمعون في صعيد واحد وفي مكان واحد، يعبدون الله، وهم من قبل قد اجتمعوا في صلاة واحدة وصاموا شهرًا واحدًا، وهم متراصون ومتقابلون، وكل تلك المظاهر الجماعية مؤذنة باجتماع هذه الأمة، وأنها لن تفلح إلا بالاجتماع والترابط. وفي ذلك تحذير من التنازع والتفرقة، وأنَّ المسلمين ما أُتوا إلا من تفرقهم وتمزقهم، وقد أفلح الأعداء حينما جعلوا من كلمتهم كلمات ومن دعوتهم دعوات ومن خلافتهم دويلات، وقال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
ومن معاني الحج أنه تجديد للإيمان وإصلاح للنفس، ويعتري الناس ما يعتريهم من أدواء الفتن والشهوات، فالحج يعج بمظاهر التوحيد والعبادة، وكل ذلك ماحٍ للخطايا موفّر للحسنات، وفي الحديث: ((من حج فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) أخرجاه.
ومن معاني الحج أنه صمود في زمن المهانة وشموخ في وقت الضعف، فالأمة يحاط بها في كل مكان، وتتهم في دينها، ويحمله الأتباع بضعف وانهزام، فيأتي الحج بتلك الجموع ليحيي معاني الصمود والشجاعة، وأن المسلمين يعزّون بعد ضعفهم، ويقوون بعد هزالهم، ويتجمعون بعد تفرقهم، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103].
ومن معاني الحج أنه رسالة للعالم الكافر أن هذه الأمة لا تراهن على دينها، ولا تساوم على مبادئها، وأنها قوية بربها عزيزة بدينها. فيا لله! كم أخاف ذلك المجمع من كفار، وكم أرهب من أعداء، وكم أخرس من ألسن. إن أمتنا تعلن بذلك الحج تمسكها بدينها واستعصامها بقرآنها، وأنها لن تتخلى عنها، فذلك الدين حياتها وعنوان بقائها ومصدر عزها وظهورها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10].
فأهل الإيمان رغم ما يدب فيهم من ضعف وهوان إلا أنهم بدينهم يستعصمون، ولهم في عباداتهم ما يوقظهم ويحيي نفوسهم؛ كالحج بما فيه من عج وثج وتوحيد ويقين ودعاء وانكسار وخشوع وإخبات.
ومن معاني الحج أنه ذكرى إلى الآخرة وتنبيه إلى ذلك اليوم الشديد، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: 9]. فيوم عرفة صورة مصغرة لمحشر الناس يوم القيامة، وفية تذكير باجتماع الناس إلى ربهم وخضوعهم له، وقد أصابهم من الرهق والتعب ما أصابهم.
ومن معاني الحج أنه مظهر فريد في التدين والعبادة، لم يؤتَِ لأمة من الأمم، يدل على شرف هذه الأمة، وأنها الأمة الباقية الخالدة، فمهما أصابها من سموم وبليات إلا أنها باقية ما اتجهت إلى ربها وقصدت بيته وحرمته، فلماذا اليأس وهذا الحج يجدد الوصال؟! ولماذا الحزن وهذا الحج يوثق الرابطة ويزيد في التآلف والمحبة؟!
يا مسلمون، إنَّّ من يقصد هذا البيت يشعر بمزيد الفخر والاعتزاز، ويسطع عنده الإيمان وهو يرى هذا البيت ويشاهد ازدحام الناس عليه ويرى حرصهم على اقتفاء هدي النبي ، وقد أتوا من أماكن بعيدة وقطعوا مسافات شاسعة. ومن يتأمل هذا الحج يُدرك خيرية هذه الأمة، وأنها تمرض ولا تموت، وتضعف ولا تتلاشى، وأنها بحاجة لمن يوقظها ويهديها ويبصرها بما ينفعها ويصلح لها، ومن ذلك اجتماعها في تلك الأماكن المقدسة بكل إيمان وخضوع مع أنها قد اجتمعت على شعارات ضالة وفي ميادين ساقطة وعلى ملاهٍ وسفاهات، ولكنها ما غيرت من حالها شيئا ولا رفعتها من مستنقع الهوان والذلة، بل ما زادتها إلا هوانا، وما زادتها إلا خزيًا وخسرانًا، وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج: 18].
ومن معاني الحج أنه اجتماع باسم الإسلام، جمعهم الله على دينه، وآواهم على شرعه، فلم تجمعهم نعرات ولا عنصريات ولا جنسيات، وإنما جمعهم هذا الدين وألف بينهم هذا الإيمان، وفي ذلك تأكيد أن هذه الأمة لا يؤلفها إلا الإسلام، ولا يجمع شتاتها إلا الإيمان، فهو دين الوحدة والتعاون والتضامن، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].
فيا معاشر الإخوان، استبشروا بأمتكم خيرًا، فإنها أمة العدل والقيادة، وبها يسود الأمن والرخاء ويعم الخير والسلام، وإن لها موعدًا مع الله تحكم به العالم وتقيمهم بكتاب الله. وتذكروا أنه بغياب المسلمين عن مسرح القيادة ضلَّ العالم طريقه وساد الظلم وعمَّت الفوضى واشتعلت الحروب والقلاقل وفقد الناس النور والسعادة. لماذا كل ذلك؟ لأن العالم حكَمه من ليس أهلاً لذلك، وحكمه المجرمون بالأهواء والشهوات، وجعلوا دينَهم الهوى وحياتهم الشهوة، فمزقوا العقول، ودمروا الطاقات، وقتلوا الإنسان، ولم يحققوا له أي معنى من معاني النجاة والسعادة.
وها هو الرجل الغربي مع ما يحفل به من تقدم حضاري مذهل إلا أنه تعيس في الدين، مفلس في الروح، غير مسرور بتقدمه وحضارته. فكيف تفلح حضارة بلا دين؟! وكيف يسود علم بلا صلاح؟! وها هم الآن يحاولون صناعة السعادة كما صنعوا الصاروخ والدبابة، ولكن هيهات هيهات! إنما يصنع السعادة الدين الحق، وليس الأهواء وميادين الخنا والتعاسات.
أدهى من الجهل علم يطمئن إلَى أنصاف ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا
قالوا هم البشرُ الأرقى وما أكلوا شيئا كما أكلوا الإنسان أو شربوا
وصدق الله إذ يقول: يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة السادة، لقد كان الحج ميدانَ اجتماع الأمة بعد تفرّقها، ومنارة عزها بعد هوانها، وكان عنوان حياتها ووجودها، فما ينبغي للأمة أن تَغفلَ عن معانيه وأسراره، فهو توثيق للروابط ومحل للتعارف وتجديد للإيمان وتعميق للأواصر والصلات؛ إذ فيه يتعرّف المسلم على أخيه الآتي من مكان سحيق، فيسمع كلامه، ويبث له أشجانه، ويعينه على قضاء حوائجه.
وفي الحج يرى متأمِله أن هذا الدين قد طبق الآفاق وشق الأرجاء، وليس حكرًا على إقليم معين أو بلد معين، فما من بقعة إلا وفيها مؤمنون وصادقون ومخلصون. وحَقَّ لنا أن نفرح بمثل ذلك، وأن هذا الدين له ممثلوه وأنصاره في كل مكان، وأن أهله أو العرب على الخصوص إذا ضيعوه ضيعهم الله واستبدل بهم غيرهم، وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]. فهل يجد العرب وغيرهم من المسلمين موطنًا للعزة غير الإسلام؟! فالإسلام هو قوميتهم وهو دعوتهم وحياتهم. وما ذلَّ العرب إلا حينما رفعوا شعارات غير الإسلام، وتجمعوا على غير هداه، فأعقبهم ذلك ذلة في قلوبهم، وهوانًا في أعمالهم وممارساتهم، ولن يرفع الله عنهم ذلك حتى يراجعوا بينهم، قال : ((وجُعل الذلة والصَّغار على من خالف أمري)).
وصلوا وسلموا ـ يا أخيار الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال : ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة)).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
(1/4969)
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة
جمال بن عبد الله الزهراني
تبوك
جامع الأمير فهد بن سلطان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشوق إلى بلد الله الحرام. 2- قصة بناء الكعبة المشرفة. 3- عظمة بيت الله تعالى وحرمته. 4- فضل عشر ذي الحجة وما يشرع فيها من أعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، إنه وفي مثل هذه الأيام من كل عام فإن قلوب كثيرٍ من المسلمين لا تفتَأ تذكُرُ بلدا من البلدان في أرض الله، إنَّ كثيرا من أهل الإيمان في مثل هذه الأيام لَتَسرحُ أفئدتهم وعقولهم لبلدةٍ ليست ككل البلاد، فهي كانت أرضا قاحلة ليس فيها الماء ولا الشجر، بوادٍ غير ذي زرع، ومع ذلك فإن قلوبًا تكاد تطير شوقا إلى السفر إليها ولو أن يبيع كل ما يملك.
هي ـ أيها الكرام ـ ليست بلاد فسق وفساد، ولا بلاد سياحة لحسن طبيعتها وروعة جمالها، كلاَّ، ولكنها تحمل شيئا أكبر من ذلك كلِّه، وإنه وبمجرد أن يُذكَر اسمها صاحبُ الثلاثة أحرف إلا ويزداد أُنسُ القلوب المؤمنة وتبتهج أساريرها؛ مكة، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 96، 97].
فما هذا البيت يا ترى؟ وما سِرُّ تعلق المسلمين به؟
ذلكم هو بيت الله العتيق الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل عليهما السلام. أثرٌ خالد، وبناء شامخ، ورمزٌ للحنيفية السمحة، وما برح هذا الصرح يطاول الزمان، شامخ البنيان، ثابت الأركان، في منعة من الله وأمان.
جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند دوحةٍ بين جبال فاران فوق الزمزم، وليس بمكة يومئذ أحد، فوضعهما، ووضع عندهما جِرابًا فيه تمرٌ وسِقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم عليه السلام. مضى منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل بقلب واجفٍ قلق، فقالت: أين تذهب يا إبراهيم؟! أين تذهب؟! أتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟! ولا زالت تُكَرِّرُ عليه ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له بعد ذلك: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت وبلسان الواثق بالله المتوكلة على الله: إذًا لا يضيعنا.
ما أعظمه من توكل! وما أصدقه من لجوء على الحي القيوم! لا ماء ولا طعام، ولا أخ ولا أب حميم، أرضٌ قيعان، وجبال وهوام، فمن يؤنسها إذا غاب الأمان، ومن يؤمِّنها إذا احلولك عليها الظلام؟! كل هذه الصعاب وغيرها ذابت كما يذوب الملح في الماء عند أمر الله، استجابة ما أروعها! وانقيادٌ ما أسرعه! وتوكل وامتثال ما أصدقه!
جلست هذه المرأة المؤمنة هي وابنها الرضيع، جلست هذه المرأة الضعيفة في ذلك الوادي الموحش، فتارةً هدوءٌ سيُقلقها، وتارة غبار وترابٌ سيسفُّها، وتارةً ظلام الليل سيلفها. وأمَّا إبراهيم عليه السلام فقد كان يمشي خطوات ثقيلة، يصارع معها ألم الفراق ومعاناة ذلك الابتلاء العظيم، فما أعظمه أيضًا من صبر وتوكل مع إيمان راسخ كالجبال يحمله هذا النبي عليه السلام! إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يكُ مِنَ المُشْرِكِينَ.
مضى إبراهيم عليه السلام وقد خلَّفَ وراءه قرّة عينه وفلذة كبده في العراء، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه وقف عليه السلام بعيدا عنهم، يقف وقوف الأب الحاني، ويستقبل بوجهه البيت متضرعًا إلى ربه ويناجيه، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37].
ذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: (أفئدةَ الناس) لازدحم عليه فارس والروم والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص المسلمون.
ثم ذهب إبراهيم عليه السلام في طريقه، وبعد ذلك جعلت أم إسماعيل تُرضِعُ ولدها وتَشرَبُ من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السِّقاء عَطِشت وعَطِشَ ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى ويتلبّط، فانطلقت في ذلك الوادي وهي لا تلوي على شيء، ولكن كراهية أن تنظر إلى ابنها، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظُرُ؛ هل ترى من أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي : ((فلذلك سعى الناس بينهما)). فلمَّا أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه، ثم تسمَّعت، فسمِعَت أيضًا، فإذا هي بالملك عند موقع زمزم، فبحث بعقبه وقيل: بطرف جناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه بيدها، فشربت وارتوت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإنّ هذا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضَيِّعُ أهله. رواه البخاري.
أيها المسلمون، عباد الله، يا من تستعجلون النصر والفرج، ها هي هاجر تحكي لنا أُنموذجًا فريدًا من نماذج الصبر وانتظار الفرج وانقشاع ألم الهمِّ والحَزَن، وهي تتعرض للمحنة، وتنتظر الفرج من ربِّ السماء، فجاءها الفرج، بدءًا بتفجُّرِ ماء زمزم، ليكون إيذانًا ببدء حياة جميلة لهذه البقعة المباركة، في هذه الأرض الموات، بوادٍ غير ذي زرع، ثم بعد ذلك إذا بأفئدة الناس تتهاوى إليها من كل فجّ عميق، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، وصار إسماعيلُ الرضيعُ أمة كبيرة العدَد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى حبيبنا ونبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
وتمر الأيام، فيأمُرُ الله إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد هذا البيت، فيقومُ إبراهيم ببنائه هو وابنه إسماعيل وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 127-129].
فاستجاب الله دعاء أبي الأنبياء، فهوت القلوب إلى هذا البيت، وَرَزَقَ الله أهله من الثمرات ما كفاهم وأفاض على مَن سِواهم، وظل هذا البيت العتيق شامخا على مر الأزمان والدهور والأحقاب، وعناية الله لا تزال تحفظ لهذا البيت حُرمته وتحيطه بالإجلال والإكبار، ولا تزال قِصة الفيل شاهدةً على حُرمة هذا البيت العظيم، ودليلاً على أنَّ من استعزَّ بغير الله ذَلّ ومن لجأ إلى غير الله ضَلّ.
ثم تتوالى الأيام والسنون إلى أن يأتي زمن خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، وهو بين أهله وقومه، فيحمل الحجر الأسودَ بيديه الكريمتين ليضعه في موضعه، فيقضي بذلك نزاعا وفتنة كادت تنشبُ بين بطون قريش.
إخوة الإيمان، وبعد بعثته واشتداد أذى قريشٍ عليه أُذِنَ له بالهجرة إلى المدينة لتكون فاتحة الأمل وبارقة النصر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85] يعني: إلى مكة، حكى ذلك البخاري والنسائي عن ابن عباس في تفسيرهما كما ساقه ابن كثير في تفسيره.
وبعد حياة طويلة ومريرة ملؤها الجهاد والصبر والتربية والتضحية يُتِمُّ الله لنبيه أمنيته برجوعه إلى بلده مكة، فيعود إلى بيت الله ليُطَهِّرهُ مما عَلُقَ به عبر مر السنين من رجس الأوثان وطاعة الشيطان، وليكون الدين كلُّه لله حنيفًا، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا [الحج: 78].
فاستجاب الله بعد هذا كله لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، ولبَّى دعوته، وآتاه مطلبه، فقال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57]، وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67].
فلنتأمل ـ أيها الإخوة الأكارم ـ إلى عظمة بيت الله الحرام وأهميته في قلوب المسلمين، حتى بقي في ظل الإسلام المتين شامخا عزيزا، يقصده كلُّ مسلمٍ دخل في الإسلام، ملبين ومستجيبين ومذعنين للأذان الأول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]، فيأتونه موحدين لا يشركون به شيئًا، فدين الإسلام دين التوحيد والعقيدة، وبيت الله بني لأجل التوحيد فحسب، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج: 26].
ألا فليخلع كل واحدٍ منا ثيابًا اتسخت بشوائب الإشراك بالله وتعلقت بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولنلبس ثياب التوحيد الخالص حنفاء لله غير مشركين به.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، ثم كونوا على علمٍ ـ إخوة الإيمان ـ أنكم قاب قوسين أو أدنى من دخول العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهي أيامٌ مباركات، روى البخاري أن النبي قال عنها: ((ما من أيام هي أفضل العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني عشر ذي الحجة، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)). وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن عشر ذي الحجة هي المقصودة في قول الباري جل شأنه: وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2].
وقد قال ابن كثير: "وبالجملة فهذه العشر قد قيل: إنها أفضل أيام السنة، كما نطق بذلك الحديث، وفضله كثير على فضل عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يُشرع فيه ما يُشرع في ذلك من صيام وصدقة وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه".
إخوة الإيمان، إن الأعمال في هذه العشر تتنوع ما بين صوم وصدقة وتوبة نصوح وإكثار من التحميد والتهليل، كما أن فيها الأضحية والحج، يقول المصطفى : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد.
فلنحرص على الإكثار من ذكر الله فيها بالتكبير في الطرقات والمساجد والبُيوت، وهو التكبير المطلق، والذي من صفاته: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. وهكذا جاء عند البخاري أنَّ أبا هريرة وابن عمر رضي الله عنهما كانا ينزلان إلى السوق، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد ثبت عند أبي داود والنسائي أن النبي كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. فلا حرج أن يُصام منها ما يُستطاع إن لم يكن كلّها، وبالأخص يوم عرفة، لما له من الأجر العظيم، كما جاء عند مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سُئل النبي عن صوم يوم عرفة، قال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)).
كما أن السنة قد دلت ـ يا رعاكم الله ـ على أن من أراد أن يضحي وقد دخلت عليه العشر فلا يأخذ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئًا حتى يضحي، كما جاء عند مسلم في صحيحه.
عباد الله، صِلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الوالدين والإخوان في هذه الأيام، وأكثروا من الصدقات والإحسان إلى الفقراء، وعمّروا لياليها بطلب علم أو قيام ليل تكونوا من الفائزين بإذن الله...
(1/4970)
حجة النبي كما رواها جابر
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
2/12/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة حج النبي كما رواها جابر. 2- مسائل وأحكام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، رَوَى مُسلِمٌ بِسَنَدِهِ عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ حُسَينٍ أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ جَابِرًا رضي اللهُ عنه فَقَالَ: أَخبِرْني عَن حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسعًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ مَكَثَ تِسعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في النَّاسِ في العَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ حَاجٌّ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُم يَلتَمِسُ أَن يَأتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ وَيَعمَلَ مِثلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَينَا ذَا الحُلَيفَةِ، فَوَلَدَت أَسمَاءُ بِنتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكرٍ، فَأَرسَلَت إِلى رَسُولِ اللهِ : كَيفَ أَصنَعُ؟ قَالَ: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي)) ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ في المَسجِدِ ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ، حَتَّى إِذَا استَوَت بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى البَيدَاءِ نَظَرتُ إِلى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيهِ مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَن يَمِينِهِ مِثل ذَلِكَ، وَعَن يَسَارِهِ مِثل ذَلِكَ، وَمِن خَلفِهِ مِثل ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ بَينَ أَظهُرِنَا وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِفُ تَأوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِن شَيءٍ عَمِلنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوحِيدِ: ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)) ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ عَلَيهِم شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَتَهُ.
قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَسنَا نَنوِي إِلاَّ الحَجَّ، لَسنَا نَعرِفُ العُمرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيتَ مَعَهُ استَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلام فَقَرَأَ: وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى ، فَجَعَلَ المَقَامَ بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ. قال جعفر بن محمد: فَكَانَ أَبي يَقُولُ: وَلا أَعلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ : كَانَ يَقرَأُ في الرَّكعَتَينِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلى الرُّكنِ فَاستَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: إِنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ)) ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ)) ، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى إِذَا انصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى المَروَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَروَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى المَروَةِ فَقَالَ: ((لَو أَنِّي استَقبَلتُ مِن أَمرِي مَا استَدبَرتُ لم أَسُقِ الهَديَ وَجَعَلتُهَا عُمرَةً، فَمَن كَانَ مِنكُم لَيسَ مَعَهُ هَديٌ فَلْيَحِلَّ وَليَجعَلهَا عُمرَةً)) ، فَقَامَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الأُخرَى وَقَالَ: ((دَخَلَتِ العُمرَةُ في الحَجِّ مَرَّتَينِ، لا بَل لأَبَدٍ أَبَدٍ)).
وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبُدنِ النَّبِيِّ ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا مِمَّن حَلَّ وَلَبِسَت ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكتَحَلَت، فَأَنكَرَ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَت: إِنَّ أَبي أَمَرَني بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالعِرَاقِ: فَذَهَبتُ إِلى رَسُولِ اللهِ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُستَفتِيًا لِرَسُولِ اللهِ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنهُ، فَأَخبَرتُهُ أَنِّي أَنكَرتُ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَ: ((صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلتَ حِينَ فَرَضتَ الحَجَّ؟)) قَالَ: قُلتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ: ((فَإِنَّ مَعِيَ الهَديَ فَلا تَحِلَّ)) ، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الهَديِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ.
فَلَمَّا كَانَ يَومُ التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَد ضُرِبَت لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمسُ أَمَرَ بِالقَصوَاءِ فَرُحِلَت لَهُ، فَأَتَى بَطنَ الوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كَانَ مُستَرضَعًا في بَنِي سَعدٍ فَقَتَلَتهُ هُذَيلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوضُوعٌ كُلّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ، فَإِنَّكُم أَخَذتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاستَحلَلتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُم عَلَيهِنَّ أَن لا يُوطِئنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكرَهُونَهُ، فَإِن فَعَلنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ، وَقَد تَرَكتُ فِيكُم مَا لَن تَضِلُّوا بَعدَهُ إِن اعتَصَمتُم بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنتُم تُسأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنتُم قَائِلُونَ؟)) قَالُوا: نَشهَدُ أَنَّكَ قَد بَلَّغتَ وَأَدَّيتَ وَنَصَحتَ، فَقَالَ بِإِصبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرفَعُهَا إِلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلى النَّاسِ: ((اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ، وَلم يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ، وَأَردَفَ أُسَامَةَ خَلفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ وَقَد شَنَقَ لِلقَصوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَورِكَ رَحلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمنَى: ((أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ)) ، كُلَّمَا أَتى حَبلاً مِنَ الحِبَالِ أَرخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرُ، وَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبلَ أَن تَطلُعَ الشَّمسُ، وَأَردَفَ الفَضلَ بنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلا حَسَنَ الشَّعرِ أَبيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ مَرَّت بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الفَضلُ يَنظُرُ إِلَيهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ عَلَى وَجهِ الفَضلِ، فَحَوَّلَ الفَضلُ وَجهَهُ إِلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجهِ الفَضلِ يَصرِفُ وَجهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، حَتَّى أَتَى بَطنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسطَى الَّتِي تَخرُجُ عَلَى الجَمرَةِ الكُبرَى، حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مِثلِ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِن بَطنِ الوَادِي، ثُمَّ انصَرَفَ إِلى المَنحَرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ، فَأَتَى بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ يَسقُونَ عَلَى زَمزَمَ فَقَالَ: ((انزِعُوا بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ، فَلَولا أَن يَغلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُم لَنَزَعتُ مَعَكُم)) ، فَنَاوَلُوهُ دَلوًا فَشَرِبَ مِنهُ.
هذا الحَدِيثُ العَظِيمُ في وَصفِ حَجَّةِ النبيِّ قَدِ اشتَمَلَ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الفَوَائِدِ وَنَفَائِسَ مِن القَوَاعِدِ، وَقَد تَكَلَّمَ العُلَمَاءُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الفِقهِ وَأَكْثَرُوا، وَخَرَّجُوا فِيهِ مِن الفِقهِ عَشَرَاتِ المَسَائِلِ، وَلَعَلَّنَا نجتَزِئُ شَيئًا مِن فِقهِ هَذَا الحَدِيثِ في خُطبتِنَا هَذِهِ:
فَمِن ذَلِك قَولُهُ لأَسمَاءَ بِنتِ عُمَيسٍ وَقَد وَلَدَت: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي)) ، فِيهِ اِستِحبَابُ غُسلِ الإِحرَامِ لِلنُّفَسَاءِ وصِحَّةُ إِحرَامِهَا، وَمِثلُها الحَائِضُ، فلا يجوزُ لهما تجاوزُ المِيقَاتِ إِلاَّ مُحرِمَتَينِ.
قَولُهُ: (فَصَلَّى رَكعَتَينِ) فِيهِ اِستِحبَابُ كَونِ الإِحرامِ بَعدَ صَلاةٍ.
قَولُهُ: (وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِف تَأوِيلَهُ) مَعنَاهُ: الحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا فَعَلَهُ في حَجَّتِهِ تِلكَ.
قَولُهُ: (وَأَهَلَّ النَّاس بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَته)، قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلى مَا رُوِيَ مِن زِيَادَةِ النَّاسِ في التَّلبِيَةِ مِنَ الثَّنَاءِ وَالذِّكرِ كَمَا رُوِيَ في ذَلِكَ عَن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ: (لَبَّيكَ ذَا النَّعمَاءِ وَالفَضلِ الحَسَنِ، لَبَّيكَ مَرهُوبًا مِنكَ وَمَرغُوبًا إِلَيكَ)، وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَبَّيكَ وَسَعدَيكَ، وَالخَيرُ بِيَدَيك، وَالرَّغبَاءُ إِلَيك وَالعَمَلُ)، وَعَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَبَّيكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا)، وَلَكِنَّ المُستَحَبَّ الاقتِصَارُ عَلَى تَلبِيَةِ رَسُولِ اللهِ ".
قَولُهُ: (حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيت مَعَهُ اِستَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا)، فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ سَبعةُ أَشوَاطٍ، وأَنَّ المُحرِمَ إِذَا دَخَلَ مَكَّة قَبلَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّ لَهُ طَوَافُ القُدُوم، وَأَنَّ السُّنَّةَ فيه الرَّمَلُ في الثَّلاثةِ الأُوَلى، وَيَمشِي عَلَى عَادَتِهِ في الأَربَعةِ الأَخِيرَةِ، والرَّمَلُ هُوَ أَسرَعُ المَشيِ مَعَ تَقَارُبِ الخُطَى.
قَولُهُ: (اِستَلَمَ الرُّكنَ) أي: مَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ في كُلِّ طَوَافٍ مَعَ القُدرَةِ عليه.
قَولُهُ: (ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَام إِبرَاهِيم عَلَيهِ السَّلامُ فَقَرَأَ: وَاِتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى ، فَجَعَلَ المَقَام بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ)، هَذَا دَلِيلٌ لِمَا أَجمَعَ عَلَيهِ العُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِن طَوَافِهِ أَن يُصَلِّيَ خَلفَ المَقَامِ رَكعَتَي الطَّوَافِ، وَإِلاَّ فَفِي سائِرِ الحَرَمِ، ويَقَرَأُ فِيهِمَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ [سورة الكافرون]، وَ قُلْ هُوَ الله أَحَد [سورة الإخلاص].
قَولُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَة مِن شَعَائِر الله ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ)) ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَه إِلاّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ)) ، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ)، في هَذَا أَنوَاعٌ مِنَ المَنَاسِكِ: مِنهَا أَنَّ السَّعيَ يُشتَرَطُ فِيهِ أَن يُبدَأَ مِنَ الصَّفَا، وَقَد ثَبَتَ في رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ في هَذَا الحَدِيث بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيّ قَالَ: ((ابدَؤُوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ)) ، هَكَذَا بِصِيغَةِ الأمر والجَمعِ. وَمِنهَا أَنَّهُ يَنبَغِي أَن يَرقَى عَلَى الصَّفَا وَالمَروَةِ، وهُوَ سُنَّةٌ لَيسَ بِشَرطٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ صَحَّ سَعيُهُ لَكِنْ فَاتَتهُ الفَضِيلَةُ. وَمِنهَا أَنَّهُ يُسَنُّ أَن يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُستَقبِلَ الكَعبَةِ وَيَذكُرَ اللهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكرِ المَذكُورِ، وَيَدعُوَ وَيُكَرِّرَ الذِّكرَ وَالدُّعَاءَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
قَولُهُ: (ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى اِنصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَروَة)، فِيهِ اِستِحبَابُ السَّعيِ الشَّدِيدِ في بَطنِ الوَادِي حَتَّى يَصعَدَ، ثُمَّ يَمشي بَاقِيَ المَسَافَةِ إِلى المَروَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ، وَلَو مَشَى في الجَمِيعِ أَو سَعَى في الجَمِيعِ أَجزَأَهُ وَفَاتَتهُ الفَضِيلَةُ.
قَولُهُ: (فَفَعَلَ عَلَى المَروَة مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا)، فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ عَلَيهَا مِنَ الذِّكرِ وَالدُّعَاءِ وَالرُّقِيِّ مِثلُ مَا يُسَنُّ عَلَى الصَّفَا.
قَولُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى المَروَةِ)، فِيهِ دَلالَةٌ على أَنَّ الذَّهَابَ مِنَ الصَّفَا إِلى المَروَةِ يُحسَبُ مَرَّةً وَالرُّجُوعَ إِلى الصَّفَا ثَانِيَةٌ، وَالرُّجُوعَ إِلى المَروَةِ ثَالِثَةٌ وَهَكَذَا، فَيَكُونُ اِبتِدَاءُ السَّبعةِ مِنَ الصَّفَا، وَآخِرُهَا بِالمَروَةِ.
قَولُهُ: (فَحَلَّ النَّاس كُلُّهم وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ)، المُرَادُ بِقَولِهِ: (حَلَّ النَّاس كُلُّهم) أَي: مُعظَمُهُم، وقَوْلُهُ: (وَقَصَّرُوا) أي: وَلم يَحلِقُوا مَعَ أَنَّ الحَلق أَفضَل لأَنَّهُم أَرَادُوا أَن يَبقَى شَعرٌ يُحلَقُ في الحَجِّ، فَلَو حَلَقُوا لم يَبقَ شَعرٌ، فَكَانَ التَّقصِيرُ هُنَا أَحسَنَ لِيَحصُلَ في النُّسُكَينِ إِزَالَةُ شَعرٍ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَن سَاق الهَديَ لَزِمَهُ الحَجُّ قَارِنًا، ولم يجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ حتى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّهُ، وَمَن لم يَسُقْهُ سُنَّ لَهُ التَّمَتُّعُ.
قَولُهُ: (فَلَمَّا كَانَ يَوم التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ)، فيه أنه يَنبَغِي لمنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الإِحرَامَ بِالحَجِّ أن يُحرِمَ يَومَ التَّروِيَةِ، وهُوَ الثَّامِنُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَفي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ إِلى مِنًى قَبلَ يَومِ التَّروِيَةِ.
قَولُهُ: (وَرَكِبَ النَّبِيُّ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ)، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن يُصَلِّيَ بِمِنًى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الخَمس، وأَن يَبِيتَ بِمِنًى لَيلَةَ التَّاسِعِ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَهَذَا المَبِيتُ سُنَّةٌ لَيسَ بِرُكنٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ فَلا دَم عَلَيهِ بِالإِجمَاعِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَخرُجُوا مِن مِنًى إلى عرفاتٍ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ.
قَولُهُ: (وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ)، فِيهِ اِستِحبَابُ النُّزُولِ بِنَمِرَةَ إِذَا ذَهَبُوا مِن مِنًى؛ لأَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَدخُلُوا عَرَفَاتٍ إِلا بَعدَ زَوَالِ الشَّمسِ وَبَعدَ صَلاتي الظُّهرِ وَالعَصرِ جَمعًا، وَفيه جَوَازُ الاستِظلالِ لِلمُحرِمِ.
قَولُهُ: (وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ)، مَعنَى هَذَا أَنَّ قُرَيشًا كَانَت في الجَاهِلِيَّةِ تَقِفُ بِالمَشعَرِ الحَرَامِ في المُزدَلِفَةِ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَتَجَاوَزُونَ المُزدَلِفَةَ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَظَنَّت قُرَيشٌ أَنَّ النَّبِيَّ يَقِفُ في المَشعَرِ الحَرَامِ عَلَى عَادَتِهِم وَلا يَتَجَاوَزُهُ، فَتَجَاوَزَهُ النَّبِيّ إِلى عَرَفَاتٍ لأَنَّ الله تَعَالى أَمَرَ بِذَلِكَ في قَولِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ أَي: سَائِرُ العَرَبِ غَير قُرَيشِ، وَإِنَّمَا كَانَت قُرَيشٌ تَقِفُ بِالمُزدَلِفَةِ لأَنَّهَا مِنَ الحَرَم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحنُ أَهلُ حَرَمِ اللهِ فَلا نَخرُجُ مِنهُ.
قَولُهُ: (فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أي: جَاوَزَ المُزدَلِفَةَ وَلم يَقِفْ بِهَا بَل تَوَجَّهَ إِلى عَرَفَاتٍ.
قَولُهُ: (ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ وَلم يُصَلِّ بَينهمَا شَيئًا)، فِيهِ أَنَّهُ يُشرَعُ الجَمعُ بَينَ الظُّهرِ وَالعَصرِ في ذَلِكَ اليَومِ جمعَ تَقدِيمٍ، وَقَد أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيهِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ)، في هَذَا الفَصلِ مَسَائِلُ وَآدَابٌ لِلوُقُوفِ: مِنهَا أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاتَينِ عَجَّلَ الذَّهَابَ إِلى المَوقِفِ، وَمِنهَا اِستِحبَابُ اِستِقبَالِ القِبلَةِ في الوُقُوفِ، وَمِنهَا أَنَّ الوُقُوفَ حَتَّى تَغرُبَ الشَّمسُ وَيَتَحَقَّقَ كَمَالُ غُرُوبِهَا، ثُمَّ يُفِيضُ إِلى مُزدَلِفَةَ، فَلَو أَفَاضَ قَبلَ غُرُوبِ الشَّمسِ صَحَّ وُقُوفُهُ وَحَجُّهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ. وَأَمَّا وَقتُ الوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَينَ زَوَالِ الشَّمسِ يَومَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الفَجرِ الثَّاني يَومَ النَّحرِ، فَمَن حَصَلَ بِعَرَفَاتٍ في جُزءٍ مِن هَذَا الزَّمَانِ صَحَّ وُقُوفُهُ، وَمَن فَاتَهُ ذَلِكَ فَاتَهُ الحَجُّ.
قَولُهُ: (يَقُولُ بِيَدِهِ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ) أَي: اِلزَمُوا السَّكِينَةَ، وفِيهِ أَنَّ السَّكِينَةَ في الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ سُنَّةٌ، فَإِذَا وَجَدَ فُرجَةً يُسرِعُ كَمَا ثَبَتَ في الحَدِيثِ الآخَرِ.
قَولُهُ: (حَتَّى أَتَى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهمَا شَيئًا)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِن عَرَفَاتٍ أَن يجمَعَ بَينَ المغربِ والعِشاءِ في المُزدَلِفَةِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرَ، فَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ)، فيه أَنَّ المَبِيتَ بِمُزدَلِفَةَ لَيلَةَ النَّحرِ بَعدَ الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ نُسُكٌ، وَأنَّهُ يَبقَى بِالمُزدَلِفَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبحَ إِلاَّ الضَّعَفَةَ فَلَهُم الدَّفعُ قَبلَ الفَجرِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا وَدَفَعَ قَبل أَنْ تَطلُعَ الشَّمسُ)، فيه مَشرُوعِيَّةُ ما ذُكِرَ وَسُنِيَّةُ الدَّفعِ مِن مُزدَلِفَةَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ إذا أَسفَرَ جِدًّا.
قَولُهُ: (حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مثلِ حَصَى الخَذفِ)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِن مُزدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَن يَبدَأَ بِجَمرَةِ العَقَبَةِ وَلا يَفعَلَ شَيئًا قَبلَ رَميِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الرَّميَ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، فَلَو بَقِيَت مِنهُنَّ وَاحِدَة لم تَكفِهِ السِّتّ، وَأَنَّ قَدرَهُنَّ بِقَدرِ حَصَى الخَذْفِ وَهُوَ نَحوَ حَبَّةِ البَاقِلاءِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّكبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفرِيقُ بَينَ الحَصَيَاتِ، فَإِنْ رَمَى السَّبعَ رَميَةً وَاحِدَةً حُسِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَصَاةً وَاحِدَةً، لأنَّهُ قال: (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ)، وهو تَصرِيحٌ بِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ حَصَاةٍ وَحدَهَا.
قَولُهُ: (ثُمَّ اِنصَرَفَ إِلى المنَحرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ)، فِيهِ اِستِحبَابُ تَكثِيرِ الهَديِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ ذَبحِ المُهدِي هَديَهُ بِنَفسِهِ، وَجَوَازُ الاستِنَابَةِ فِيهِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ تَعجِيلِ ذَبحِ الهَدَايَا وَإِن كَانَت كَثِيرَةً في يَومِ النَّحرِ، وَمَكَّةُ كُلُّها مَنحَرٌ وَمَوضِعٌ لِلذَّبحِ.
قَولُهُ: (أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا)، البَضعَةُ هِيَ القِطعَةُ مِنَ اللَّحمِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ الأَكلِ مِن هَديِ التَّطَوُّعِ وَأُضحِيَّتِهِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ)، هَذَا هُوَ طَوَافُ الإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الحَجِّ بِإِجمَاعِ المُسلِمِينَ، وَأَوَّلُ وَقتِهِ مِن نِصفِ لَيلَةِ النَّحرِ، وَأَفضَلُهُ بَعدَ رَميِ جَمرَةِ العَقَبَةِ وَذَبحِ الهَديِ وَالحَلقِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ضَحوَةَ يَومِ النَّحرِ، وَيَجُوزُ في جَمِيعِ يَوم النَّحرِ بِلا كَرَاهَةٍ، وَيُكرَهُ تَأخِيرُهُ عَنهُ بِلا عُذرٍ، وَتَأخِيرُهُ عَن أَيَّامِ التَّشرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ، وَشَرطُهُ أَن يَكُونَ بَعدَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يُشرَعُ في طَوَافِ الإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلا اِضطِبَاعٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَيَبقَى عَلَى الحَاجِّ بَعدَ يَومِ العِيدِ أَن يَبِيتَ بِمَنًى لَيلَةَ الحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانيَ عَشَرَ، وَلَيلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ لِمَن غَربَت عَلَيهِ الشَّمسُ وَهُوَ في مِنًى، وَهَذَا المبيتُ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، عَلَى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، وَفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ يَرمِي الحَاجُّ الجَمَرَاتِ الثَّلاثَ بَعدَ الزَّوَالِ، مُبتَدِئًا بِالجَمرَةِ الصُّغرَى وَهِيَ الشَّرقِيَّةُ، ثم الوُسطَى ثم العَقَبَةِ وَهِيَ أَقرَبَهُنَّ مِن مَكَّةَ، يَرمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، وَهُوَ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ أَيضًا، يَجبُرُهُ مَن تَرَكَهُ بِدَمٍ. وَيجُوزُ لِمَن كَانَ مَرِيضًا أَو ضَعِيفًا أَو صَغِيرًا أَن يُوَكِّلَ مَن يَرمِي عَنهُ، بِشَرطِ أَن يَكُونَ ذَلِكَ المُوَكَّلُ حَاجًّا، فَيرمِي عَن نَفسِهِ ثم عَن مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا قَضَى الحَاجُّ مَا عَلَيهِ وَرَمَى الجَمَرَاتِ في يَومِ نَفرِهِ أَو رُمِيَت عَنهُ إِن لم يَستَطِعْ وَجَبَ عَلَيهِ أَن يَطُوفَ بِالبَيتِ طَوَافَ الوَدَاعِ قَبلَ أَن يخرُجَ مِن مَكَّةَ، وَهُو مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، وَعَلى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، إِلاَّ أَن تَكُونَ امرأةً حَائِضًا فَلا وَدَاعَ عَلَيهَا؛ لما في الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهدِهِم بِالبَيتِ إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ. وَيجُوزُ لِمَن أَخَّرَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ أَن يَنوِيَهُ عَنِ الوَدَاعِ فَيُجزِئَهُ، وَيلزَمُ مَن كان مُتَمَتِّعًا أو كَانَ قَارِنًا أَو مُفرِدًا وَلم يَسعَ مَعَ طَوَافِ القُدُومِ أَن يَسعَى لِحَجِّهِ مَعَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ.
اللهم إَنَّا نَسأَلُكَ أَن تُوَفِّقَنَا لما تحبُّ وَتَرضَى، وَأَن تَأخُذَ بِنَواصِينا لِلبرِّ وَالتَّقوَى...
(1/4971)