حقيقة الداء ووصف الدواء
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
17/7/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة الإسلامية. 2- ضرورة معرفة الأسباب الحقيقية لذل الأمة وهوانها. 3- جناية الحلول المستوردة على الأمة. 4- وجوب الرجوع للقرآن والسنة لمعرفة الداء والدواء. 5- أضرار المعاصي على الأمة. 6- وجوب تحكيم شرع الله تعالى. 7- خطورة الركون إلى الدنيا. 8- ضرورة إعداد القوة لإرهاب العدو. 9- أهمية الوحدة والائتلاف وخطورة التفرق والاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه.
معاشر المسلمين، لا تَزال أمّتُنا تمرّ بأحوال عصيبة وظروفٍ مريرة، مهما أوتي القلم من براعةٍ ووصَلَت إليه البلاغة من مهارة فلن تفِي في تصوير الواقع المأساويّ للأمّة الإسلاميّة، فإلى الله الملجَأ والمشتكى، وبه العونُ والسند في كلّ ضرّاء.
إن ما تعانيه الأمّةُ الإسلاميّة اليومَ مِن أحداث موجعةٍ وآلام قاسِيَة وما تمرّ بِه في كثيرٍ مِن مواطِنِها من بلايا متعدّدة وما يسمَعُه المسلمون كلَّ يومٍ في أصقاعٍ متعدِّدة من عدوانٍ يشهَد الصّغارَ قبلَ الكِبار بلا استحياءٍ ولا اكتِراثٍ بحقوقٍ إنسانيّة ولا أعرافٍ بشريّة ولا مُراعاة لمَعَايِرَ أخلاقيّة ولا مبادئ حضارية من صهاينَة حاقدين وأعداء محاربين، كلّ ذلك يفرِض على المسلِمين جميعًا أن يعلموا أن الخطرَ قد أحدقَ وأن شرَّ قد أرعَدَ وأبرَق، وحينئذٍ يجب أن نتذكَّر ونستدرِك أنه آنَ الأوانُ وحان الوقتُ أن نقفَ عند الأسباب الحقيقيّة للمآسي والمصائب، وأن نُدركَ جميعا الإدراكَ الصحيح بالواقعِ المزرِي والضعفِ المُضني.
إنَّ الأمةَ الإسلاميّةَ منذ أكثرَ مِن قرنٍ وهي تستجدِي الحلولَ وتتلقّف أسبابَ النهضةِ والعزّة من تيارات متعدّدةِ المشارب وتوجّهاتٍ متنوّعةِ المآخذ، ومرَّ الزمن وطالَ العهدُ ولم تُجدِ تلك التوجهاتُ إلا عارًا وخزيًا ودمارًا وذلاًّ وهوانًا، لا دُنيا أقامَت، ولا دِينًا أبقَت، بل ما خلَّفت على المسلمين إلا تَأخُّرًا بالأمّة وتدهوُرًا في أحوالها وضعفًا في بلدانها وتخبّطًا في سياسَاتها وفقرًا في اقتصادها وتأخّرًا في ازدهارها، جرَّت ويلاتٍ وويلات، تعجَز الأقلام عن تسويدِها، ولا يسع الوقت عرضها، ولا تستطيع الذاكرةُ استيعابها.
نعم أيّها المسلمون، لأنها توجُّهاتٌ وتيّاراتٌ لا تستمِدّ تصوُّراتِها من كتابِ رَبِّها، ولا تستضِيء بهدي رسولها، ولا تأخذ العبرةَ من سيرة أسلافِها؛ لذا عاشَتِ الأمّة الإسلاميّةُ ومنذ ذلك الحين ولا زالت تنادِي بلسان حالها: ماذا حلَّ بها؟! ومَاذا دَهَى أمرَها مِن كوارثَ مزرِية وبلايا مخزية؟! وها هنا لا بدَّ أن يعلمَ الساسةُ ويفقَهَ المثقَّفون ويستدرِكَ العقلاء وتستفيقَ الشعوب بأنَّ هناك أسبابًا حقيقيّة لواقعهم المؤلم قد غُيِّبَت عن عقولهم وتناسَتهَا قلوبهم، وإلاَّ فمن أراد الرؤيةَ الواضحة والمنطلقاتِ الصحيحةَ لأسباب الضّعف والذلَّة الخِزي فلا بدَّ أن يعودَ لأصل البنيان وأساسِ الكيان، فالله جل وعلا اختارَ هذه الأمّةَ لتكون خيرَ الأمَم وهو العليم الخبير، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إنّه قد آن للأمّةِ الإسلاميّة أن تعودَ للقرآنِ، وأن ترجعَ لهدي سيّد الأنام عليه أفضل الصلاةِ والسلام؛ لتقفَ على الأسبابِ الحقيقية للتدهوُر، ولتستلهمَ العلاجَ الصحيح لتعديل المسار وتغيير الأحوالِ ورفع ما أصابَ البلاد والعباد.
تريد الأمّةُ أمنا وأمانًا من المصائب والكروب، وتبتغي حِفظًا من الكوارث والخطوب؟! فلن يتحقَّق لها ذلك إلاَّ بتحقيق الطاعةِ الحقيقيّة لخالِقِها جلّ وعلا ولرسولِه والمتابَعَة الصادِقَة في كلِّ شأن صغيرٍ وكبير، في كلِّ حالٍ دقيق وجليل، فربّنا جلَّ وعلا يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ويقول ربُّنا جلَّ وعَلا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، وَيَقول سُبحانَه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:130]، ورسولُنا يبيِّن لأمَّتِه طريقَ الحفظِ وسَفينَةَ النجاةِ وطوقَ الأمان، فيقولُ : ((احفَظِ الله يحفَظْك)). حِفظٌ يشمَلُ الحفظَ من كلِّ المصائبِ والشرور والآلام.
نحنُ ـ معاشرَ المسلِمين ـ نَصبُو إلى صَلاحٍ وإِصلاح ونَنشُد عِزَّ الشأن وسِيادَة السلطان، فلن يتمَّ ذلك إلاّ بالانقياد لما فيه رِضا الرّحمن، فالله جلّ وعلا يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]. ولَن يحصلَ التمكينُ ويتمَّ الأمان إلا بالامتِثال الحقيقيّ لشريعة الديّان، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
أيّهَا المسلِمون، كيف لا تسوءُ أحوالُ الأمّة وكيف لا يضعُفُ شأنها وكيفَ لا يعمُّ الشرُّ أرجاءَها وقَد كثُر من أبنائها العصيانُ في أوامر الله وأوامِرِ رسولِه ووَقَع فِئامٌ في التمرُّد عن منهَج الله جلّ وعلا؟! فربُّنا يحذِّرنا من ذلك فيقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وربُّنا جلّ وعلا يَقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
أينَ عقلاءُ الأمّة وأين حكماؤها من تاريخِ أمَّتهم المجيد وماضيها العتيدِ ومِن واقعِ أسلافِهم وأسباب عزِّ المسلمين الأوائل؟! ذكرَ ابن كثيرٍ رحمه الله عن أحَد قادةِ المسلمين وهو يخاطِب المسلمين في حال الخطوب والكروبِ فيقول: "إنَّ الله لا يُنال ما عنده إلا بِطاعتِه، ولا تُفرَج الشدائدُ إلاّ بالرجوع إليه والامتثالِ لشريعتِه ـ ثم يقول: ـ والمعاصي في كلِّ مكان باديةٌ والمظالمُ في كل موضع فاشِية، وإنما أوتِينَا مِن قِبَل أنفسنا، ولو صدقناهُ لعجَّل لنا عواقِبَ صِدقنا، ولو أطعناه لما عاقَبَنا بعدوِّنا". إِنَّها كلِماتٌ تكتَب بماءِ الذّهب، تنبئ عن الواقعِ الصحيح الذِي يكون بِه عزُّ الأمة وحضارتها وارتفاع شأنها.
أمّةَ الإسلام، لئن تحيَّرت علينا الأمورُ وأعيانا الأسى والواقع المريرُ فالتوجُّه الصادِق إلى الواحدِ الأحَدِ هو العِصمَةُ والشِّفاء، وهو الطريقُ إلى العِزّةِ والرّفعةِ والمَنَعَة مِن الأعداء، فربُّنا جلّ وعلا يَعِدنا فيقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
أمّةَ الإسلام، أَلَم يحِنِ الأوانُ أن ينطلِقَ المسلمون الانطلاقَةَ الصّحيحةَ لتَعديلِ المسار ويتوجَّهوا التوجّهَ الصادقَ لطرد الظلماتِ التي خيَّمت على كثيرٍ من الأوضاع؟! أين موقِع القرآن من دساتير المسلمين؟! أين منزلةُ الوحي من التحكيمِ في شؤون الحياة؟! ألَم يئِنِ الوقتُ لتحكيم شريعةِ الله وإقصاءِ حُثالة القوانين الوضعيّة والدساتير البشَريّة التي أضاعَتِ البلادَ والعبادَ وأغضَبَت رَبَّ العباد؟! لقد حَان الوقتُ أن تجمَعَ الأمّة قلوبها وجوارِحَها لمحاربةِ الفساد الواقعِ في كثيرٍ من الشؤون في علاقَاتِها واقتِصادِها ومجتمَعَاتِها وثقافَاتِها وإعلامِها، وَفقَ مسارِ القرآنِ الكريمِ والهدي النبويّ العَظيم، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. ولَن تنالَ الأمّةُ الإسلاميّة في يومٍ منَ الأيّام نصرًا ولا قوّةً ولا رفعةً ولا عزّةً أمام قوَى الطغيان وفي وجهِ صفوف العدوان إلا بالوفاءِ بالعهد الربانيّ والوعد الإلهيّ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، فربُّنا جلّ وعلا يَقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
يا حكّامَ المسلمين، يا عُلَماء الأمة، يا مجتَمَعاتِ المؤمنين، أتظنّون أنّ الشقاءَ يرتَفِع وأنّ الذلَّ والهوان ينقشِع وأنَّ الكروب والمصائب تنجلي ونحنُ نحارب حكمَ الله في عبادِه والمعاصِي تنتشِر في بلادِ المسلمين والموبقاتُ تُبَثّ في إعلامهم؟! أنَظُن أن لا تكثُرَ بِنا المصائبُ وتدور علينا الدوائر وكثيرٌ منّا يحارِب اللهَ بارتِكاب الموبقات ويضادُّ شرعَه بالعظائم المهلِكات؟! فربُّنا جلّ وعلا يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
إنَّ أمّةَ الإسلام متى رَكَنت إلى شهواتها الحيوانيّة البهيميّة ورضِيَت بالذلّ والهوان والخلود إلى هذه الدنيا الدنيئَة فسوف تمرّ عليها عواصِفُ مِنَ الآلامِ العصيبةِ والنّكبَات المريرةِ، وسوف تلاقي أبشعَ المصائبِ في تاريخها الحاضِر والمستقبل، فإنَّ أعداءَ الله كما أخبرَ الله عنهم: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]. لكن متى رَكَنت الأمّةُ إلى زخارِفِ الدنيا وجَمَالها والبُعد عن دينِ ربِّها وقعَ لها ما أخبرَ بهِ رسولها صلوات الله وسلامه عليه في قولِه: ((يوشِك أن تَتَداعى عليكُمُ الأممُ مِن كلِّ أفُقٍ كما تتداعى الأكَلَة إلى قصعتها)) ، قيل: يا رسول الله، فَمِن قِلّةٍ يومئذ؟ قال: ((لا، ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل، يُجعل الوَهن في قلوبِكم، وينزَع الرعبُ من قلوب أعدائكم)) ، لماذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((لحبِّكم الدنيا وكَرَاهِيَتكم الموت)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داودَ في سنَنِه، ورسولُنا يقول: ((إذا تبايَعتُم بالعينةِ ورضِيتم بالزّرع وأخذتم أذنابَ البقَر وتركتُم الجهادَ سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزِعه حتى تراجِعوا دينَكم)) حديث صحيح عن رسولِنا وسيدنا محمّد.
أمّة الإسلام في كلّ مكان، نحن في عالم سيطَر فيه القويّ على الضعيف، عالم اختلَّت فيه موازين مبادئِ العدل، ونُسِيت فيه شعاراتُ حقوقِ الإنسان، وأصبَحَ المنطق الذي يسودُ هو منطِق القوّة لا منطِق الحقّ والعدل والإنصاف واحترامِ الإنسان كإنسان؛ ولِذا حرِيٌّ بأمّة محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام حرِيٌّ بها وجديرٌ بأمرها أن تستجيبَ لأمر خالقِها بأن تُعِدّ القوة ليحتَرِمَها القويُّ قبل الضعيف ويخافَها العدوّ قبل الصديق: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60]. إعداد القوّة التي تحمِي البيضةَ وتصون النفوسَ والأعراضَ مِن بأس العدوّ وهجومِه، قوّةٌ تدافع عن الحقّ وتنافح عن مبادئِ العدلِ وتنصر الضعيفَ وتذود عن المقدَّسات.
ألاَ وإنَّه وإن كانتِ الأمة قد فرَّطَت في ذلك كثيرًا فاللهَ اللهَ أن تفرِّط في القوّةِ الحقيقية وهي التوكُّل على الله جلّ وعلا والوثوقُ الصادق بوعدِه، فمن توكَّل على اللهِ وتَوخّى أمرَه كَفاه ما أهمّه وردَّ عنه بأسَ عدوِّه، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فما كان الجزاء؟ قال ربّنا جلّ وعلا: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174].
بارك الله لنا في الوحيين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له في الآخرةِ والأولى، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدا عبده ورسوله النبيّ المجتبى، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى أصحابه النجباء.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا.
أيّها المسلمون، إنَّ الأمّة الحيّةَ هي التي تعمل على جمع شملِها ولَمِّ شتاتِها، وما تمسَّكت أمّةٌ بالتوحّد إلا قويت شوكتُها وعظُم سلطانُها وهِيبَ جانبُها، فلماذا لا تَتَّحدُ الأمّةُ على هديِ الوحيَين ومنهجِ الصحابة والتابعين؟! وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمرن:103].
إنّ من أعظم أسبابِ تقهقُر الأمّة وظهورِ خُسرانها وضَعفها وذلّها التفرّقَ السائِدَ في صفوفِها والتحزّبَ الظاهرَ بين أبنائِها، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]. فواجبٌ عَلَى قادةِ المسلمين وعلمائِهم ومُثَقفيهم السعي إلى وَحدةِ الصَّفّ تحتَ مظلَّةِ الإسلام الحقّ عقيدةً ونظامَ حياةٍ ودستورَ حُكمٍ.
فيا أمّة محمد، تقارَبوا على القرآن، تعاطفوا على سنّة سيِّد ولَد عدنان، تصافَوا على وفق منهج الصحابة والتابعين، انبُذوا التفرّقَ بينكم، اهدموا الفواصِلَ بين صفوفِكم، ارفَعوا الحواجِزَ عن توحُّدِكم، فاللهُ جلّ وعلا يَقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
ثمَّ إنَّ الله جلّ وعلا أمرَنا بأمر عظيم، ألا وهو الصّلاة والسّلام على سيِّدنا وقائِدنا وحبيبِنا محمّد عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
اللّهمّ ارضَ عن الخلفاءِ الأربعة...
(1/4775)
خطط الأعداء
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
17/7/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كذب المنافقين. 2- كشف القرآن الكريم للمنافقين. 3- الغلبة للإسلام والمسلمين. 4- تخطيط الأعداء لتغيير خارطة الشرق الأوسط. 5- آثار معاهدة "سايكس بيكو" على العالم الإسلامي. 6- منع الفلسطينيين من الصلاة في المسجد الأقصى. 7- القتلى المدنيين شهداء. 8- التنديد بالعدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
نعم أيها المسلمون، إن المنافقين لكاذبون؛ لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدون في قلوبهم. نعم، إن سيدنا محمدا هو رسول الله، وإن تكذيب القرآن الكريم للمنافقين لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة هي الآية الأولى من سورة المنافقون، وسبب نزولها قد ورد في كتب السيرة والتفسير، ومفاده أن الصحابي الجليل زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله في سفر، فأصاب الناس شدة، وسمعت رأس المنافقين عبد الله بن أبي يقول لجماعة: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي لتألمي لما سمعت، فذكر عمي للنبي ، فدعاني عليه الصلاة والسلام فحدثت بما سمعت، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا أنهم ما قالوا هذا الكلام.
أيها المسلمون، يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: فأصابني هم لم يصبني قط مثله، كأنني كاذب، فجلست في البيت، فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات المنافقين في سورة المنافقون لبيان الحقيقة، فيقول عز وجل: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، وقال رب العالمين في فضحهم: هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:7، 8]، فيقول زيد بن أرقم: فأرسل إلي رسول الله ثم قال: ((إن الله قد صدقك)). فقد جاء تصديق زيد من رب العالمين.
أيها المسلمون، لقد تناول القرآن الكريم نفاق العقيدة في ثلاثين موضعا لكشف المنافقين وفضحهم، ولأخذ الحيطة والحذر منهم، ولبيان أن فئة المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كل عصر، ولكن يتأرجحون بين القلّة والكثرة على ضوء صلاح المجتمع وفساده، فاحذروهم فهم أخطر من الكفار وأشد ضررا منهم؛ لأنهم يجمعون بين الكفر والخداع والمكر والحقد والتضليل.
أيها المسلمون، قال الله عز وجل في سورة المجادلة: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما فتح الله تعالى للمؤمنين مكة المكرّمة والطائف وخيبر وما حولها قال الصحابة مستبشرين: نرجو الله أن يظهرنا على فارس والروم كبعض القرى التي غلبهم عليها وإنهم لأكثر عددا ولأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت هذه الآية الكريمة مبشرة المسلمين بأنهم سيغلبون وسينتصرون على الفرس والروم، وأن المنافقين قد فشلوا في تثبيط العزائم.
أيّها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كأننا نعيش في هذه الأيام في أجواء هذه الآية الكريمة، فإن اللبنانيين يتلقّون مكالمات هاتفية تحذّرهم من قوة إسرائيل حتى يستسلموا وحتى لا يفكروا في صدّ الغزاة والمحتلين، ومن جهة أخرى فإن الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي مرعوبة من قوة أمريكا، فهي لا تقهر حسب أهوائهم وتخيلاتهم، فهم يسيرون كما توجّههم، كما أن صفة النفاق تصيب الأفراد والجماعات والأحزاب فهي تنسحب أيضا على الدول والحكام، وسبق أن كررنا مرارا المثل السائر: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فهل تذكر الحكام هذا المثل؟! وهل النفاق سوف يجمعهم؟! وهل الهرولة إلى البيت الأبيض ستنفعهم؟! والسؤال: لماذا نقول ذلك؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نقول ذلك لأن الخريطة الجغرافية السياسية الجديدة التي تطرحها أمريكا للشرق الأوسط تدقّ ناقوس الخطر لهؤلاء الحكام، أن أمريكا قد فرضت وصايتها على العالم الإسلامي، وأنها تريد ترسيم الحدود بين الأقطار الإسلامية من جديد، وذلك على ضوء الخارطة التي نشرتها مجلة القوات المسلحة، فأمريكا تخطط لترسيخ النعرات القومية بإقامة دولة كردية في شمال العراق وجنوب تركيا، ولإثارة النعرات الطائفية بإقامة دولة شيعية في العراق، أي: تريد تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، وإن ترسيم الحدود الجديدة المقترحة ستشمل اقتطاع أجزاء من المملكة العربية السعودية ومن أفغانستان وإيران وسوريا بإقامة دويلات متعددة ومتناثرة وبأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها، المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان، سبق أن تعرض العالم الإسلامي إلى تمزيق ودويلات بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية التركية، وعرف ترسيم الحدود وقتئذ باتفاقية "سايكس بيكو" التي أعلن عنها عام 1916 ميلادي، وهذه الاتفاقية منسوبة إلى وزير خارجية بريطانيا "مارك سايكس" ووزير خارجية فرنسا "شارل جورج بيكو"، ولا يزال المسلمون في العالم الإسلامي بعامة وفي بلاد الشام والعراق بخاصة يعانون من التجزئة والتفرقة والخصومة والخلاف على الحدود بين كل قطرين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ترسيم الحدود الذي فرض على المسلمين في الحرب العالمية الأولى هو ترسيم ظالم غير شرعي أصلا؛ لأن الإسلام لا يقر بالحدود المصطنعة، كما لا يقرّ بإقامة دويلات ممزقة، وإنما يدعو إلى الوحدة بين الأقطار، يرأسها حاكم مسلم واحد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الترسيم الجديد للحدود والذي تفرضه أمريكا وهو غير شرعي أيضا لأن مبدأ الترسيم مرفوض أصلا، وما بني على باطل فهو باطل، ونقول للحكام في العالم الإسلامي: ماذا تنتظرون؟! لماذا لا تتوحدون؟! لماذا لا توحدون مواقفكم وآراءكم؟! لِمَ لا تحرصون على مصلحة الأمة الإسلامية؟! ونقول للشعوب العربية الإسلامية أن يرفضوا أي تجزئة، بل يتوجّب على الشعوب أن تسعى إلى وحدة الأقطار الإسلامية لا إلى تمزيقها إلى دويلات هزيلة ومتناحرة. إن وحدة المسلمين هي القوة، إن عودة المسلمين إلى كتاب الله وسنة رسوله هي القوة والعزة والمنعة، ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) ، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
نعم أيها المسلمون، إن المنافقين لكاذبون؛ لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدون في قلوبهم. نعم، إن سيدنا محمدا هو رسول الله، وإن تكذيب القرآن الكريم للمنافقين لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة هي الآية الأولى من سورة المنافقون، وسبب نزولها قد ورد في كتب السيرة والتفسير، ومفاده أن الصحابي الجليل زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله في سفر، فأصاب الناس شدة، وسمعت رأس المنافقين عبد الله بن أبي يقول لجماعة: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي لتألمي لما سمعت، فذكر عمي للنبي ، فدعاني عليه الصلاة والسلام فحدثت بما سمعت، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا أنهم ما قالوا هذا الكلام.
أيها المسلمون، يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: فأصابني هم لم يصبني قط مثله، كأنني كاذب، فجلست في البيت، فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات المنافقين في سورة المنافقون لبيان الحقيقة، فيقول عز وجل: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، وقال رب العالمين في فضحهم: هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:7، 8]، فيقول زيد بن أرقم: فأرسل إلي رسول الله ثم قال: ((إن الله قد صدقك)). فقد جاء تصديق زيد من رب العالمين.
أيها المسلمون، لقد تناول القرآن الكريم نفاق العقيدة في ثلاثين موضعا لكشف المنافقين وفضحهم، ولأخذ الحيطة والحذر منهم، ولبيان أن فئة المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كل عصر، ولكن يتأرجحون بين القلّة والكثرة على ضوء صلاح المجتمع وفساده، فاحذروهم فهم أخطر من الكفار وأشد ضررا منهم؛ لأنهم يجمعون بين الكفر والخداع والمكر والحقد والتضليل.
أيها المسلمون، قال الله عز وجل في سورة المجادلة: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما فتح الله تعالى للمؤمنين مكة المكرّمة والطائف وخيبر وما حولها قال الصحابة مستبشرين: نرجو الله أن يظهرنا على فارس والروم كبعض القرى التي غلبهم عليها وإنهم لأكثر عددا ولأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت هذه الآية الكريمة مبشرة المسلمين بأنهم سيغلبون وسينتصرون على الفرس والروم، وأن المنافقين قد فشلوا في تثبيط العزائم.
أيّها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كأننا نعيش في هذه الأيام في أجواء هذه الآية الكريمة، فإن اللبنانيين يتلقّون مكالمات هاتفية تحذّرهم من قوة إسرائيل حتى يستسلموا وحتى لا يفكروا في صدّ الغزاة والمحتلين، ومن جهة أخرى فإن الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي مرعوبة من قوة أمريكا، فهي لا تقهر حسب أهوائهم وتخيلاتهم، فهم يسيرون كما توجّههم، كما أن صفة النفاق تصيب الأفراد والجماعات والأحزاب فهي تنسحب أيضا على الدول والحكام، وسبق أن كررنا مرارا المثل السائر: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فهل تذكر الحكام هذا المثل؟! وهل النفاق سوف يجمعهم؟! وهل الهرولة إلى البيت الأبيض ستنفعهم؟! والسؤال: لماذا نقول ذلك؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نقول ذلك لأن الخريطة الجغرافية السياسية الجديدة التي تطرحها أمريكا للشرق الأوسط تدقّ ناقوس الخطر لهؤلاء الحكام، أن أمريكا قد فرضت وصايتها على العالم الإسلامي، وأنها تريد ترسيم الحدود بين الأقطار الإسلامية من جديد، وذلك على ضوء الخارطة التي نشرتها مجلة القوات المسلحة، فأمريكا تخطط لترسيخ النعرات القومية بإقامة دولة كردية في شمال العراق وجنوب تركيا، ولإثارة النعرات الطائفية بإقامة دولة شيعية في العراق، أي: تريد تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، وإن ترسيم الحدود الجديدة المقترحة ستشمل اقتطاع أجزاء من المملكة العربية السعودية ومن أفغانستان وإيران وسوريا بإقامة دويلات متعددة ومتناثرة وبأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها، المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان، سبق أن تعرض العالم الإسلامي إلى تمزيق ودويلات بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية التركية، وعرف ترسيم الحدود وقتئذ باتفاقية "سايكس بيكو" التي أعلن عنها عام 1916 ميلادي، وهذه الاتفاقية منسوبة إلى وزير خارجية بريطانيا "مارك سايكس" ووزير خارجية فرنسا "شارل جورج بيكو"، ولا يزال المسلمون في العالم الإسلامي بعامة وفي بلاد الشام والعراق بخاصة يعانون من التجزئة والتفرقة والخصومة والخلاف على الحدود بين كل قطرين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ترسيم الحدود الذي فرض على المسلمين في الحرب العالمية الأولى هو ترسيم ظالم غير شرعي أصلا؛ لأن الإسلام لا يقر بالحدود المصطنعة، كما لا يقرّ بإقامة دويلات ممزقة، وإنما يدعو إلى الوحدة بين الأقطار، يرأسها حاكم مسلم واحد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الترسيم الجديد للحدود والذي تفرضه أمريكا وهو غير شرعي أيضا لأن مبدأ الترسيم مرفوض أصلا، وما بني على باطل فهو باطل، ونقول للحكام في العالم الإسلامي: ماذا تنتظرون؟! لماذا لا تتوحدون؟! لماذا لا توحدون مواقفكم وآراءكم؟! لِمَ لا تحرصون على مصلحة الأمة الإسلامية؟! ونقول للشعوب العربية الإسلامية أن يرفضوا أي تجزئة، بل يتوجّب على الشعوب أن تسعى إلى وحدة الأقطار الإسلامية لا إلى تمزيقها إلى دويلات هزيلة ومتناحرة. إن وحدة المسلمين هي القوة، إن عودة المسلمين إلى كتاب الله وسنة رسوله هي القوة والعزة والمنعة، ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) ، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
(1/4776)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل يوم هو في شأن. 2- الاستعداد لرمضان. 3- أصناف الناس في استقبال رمضان. 4- التهنئة بقدوم رمضان. 5- انقضاء الأعمار. 6- كراهية الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة، إن لله جل وعلا منحًا وعطايا ينعم بها على عباده في كل حين، وهذه هي حال الكريم مع عباده الفقراء المحتاجين إليه، وكل يوم هو في شأن؛ يستر ذنبًا، ويعفو عن زلة، ويمحو سيئة، ويقبل توبة، ويرفع درجة.
أيها المؤمنون، يا لها من أيام قليلة معدودة تمرّ مرّ البرق وتنقضي انقضاء الحلم، ويا للعجب! كيف مرّ علينا عام كامل بكلّ ما فيه، فإذا بنا مرّة أخرى نستعدّ لاستقبال رمضان جديد، أسأل الله أن يبلّغنا إياه.
إننا جميعا الآن على أبواب رمضان، فمن منا فكر في الاستعداد له والتهيؤ لاستقباله؟! أتدرون ما مشكلة بعض المسلمين أيها الأحبة؟! مشكلتهم في كل عام يأتيهم رمضان وهم غافلون، لا يكاد يجد بعضهم طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء، فيندمون ويتحسرون ويتألمون، ويقولون: نعوّض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى ربما كان آخر رمضان يدركونه ولا زلوا يؤجّلون.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ندمت على التفريط في زمن البذرِ
هل رأيتم مزارعًا يترك البذر ويرجو الحصاد؟! إنها سنة الله، أن لا يدرك إلا المجدّ، ولا يحصّل إلا الباذل.
وإذا كان الإنسان حريصًا أن يستعدّ لأمور دنياه أفلا يستعدّ المسلم للطاعة ويتهيأ للعبادة؟! ولو أننا تذكّرنا ما كان يقال عن أسلافنا وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، لو تذكرنا هذا لعرفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعمًا لا يجده كثير منا.
أيها الإخوة، إنّ الناس في استقبال هذا الشهر العظيم على ثلاثة أصناف:
فمنهم من هو إليه بالأشواق، يعدّ الأيام والساعات شوقًا ورغبة إلى لقاء رمضان، الشهر الذي أحبّه وأنِس به، ولسان حاله يقول:
مرحبًا أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبا زارنا فِي كل عام
قد لقيناك بِحب مفعم كلّ حب في سوى المولى حرام
إن بالقلب اشتياقًا كاللظى وبعيني أدمع الحب سجام
وهذا رسول الله كان إذا دخل رجب يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان)).
ومن الناس صنف لا فرق عندهم بين رمضان وغيره، فهم يستقبلونه بقلب بارد ونفس فاترة، لا ترى لهذا الشهر ميزة عن غيره إلا أنها تمتنع فيه عن الطعام والشراب، فهم يصبحون فيه ويمسون كما يصبحون ويمسون في غيره، لا تتحرك قلوبهم شوقًا ولا تخفق حبًا، ولا يشعرون أن عليهم في هذا الشهر أن يجدّوا أكثر مما سواه.
وصنف من الناس ضاقت نفوسهم بهذا الشهر العظيم، ورأوا فيه حبسًا عن المتَع والشهوات، فضاقوا به وتمنّوا أن لم يكن قد حلّ، لا يعرفون من رمضان إلا أنه وقت السهر في الليل على اللهو والغفلة، ووقت النوم في النهار، فتجده معظم نهاره نائمًا، فينام حتى عن الصلاة المفروضة.
وقد روت لنا كتب الأدب خبر واحد من هؤلاء، أدركه شهر رمضان فضاق به ذرعًا فجعل يقول:
أتانِي شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهرًا بعده آخِرَ الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فابتلاه الله عز وجل بمرض الصرع، فصار يصرع في كل رمضان.
فتأمل حالك أيها الأخ المسلم، وانظر من أي الأصناف أنت.
كم من شخص سمع موعظة ثم ها هو الآن موسّد في الثرى يتمنى لحظة يسبّح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
أيها الأحبة، لقد كان الرسول يهنّئ أصحابه بحلول هذا الشهر الكريم، ويعلن لهم عن فضائله شحذًا لهممهم وعزائهم، وتشويقًا لهم لاغتنام أيامه وساعاته، فقال رسول الله : ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة)) ، وقال: ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)). قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟!".
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يبق منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) ، وقال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
بمثل هذه الأحاديث العظيمة كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه إذا أظلتهم بشائر شهر رمضان؛ لينشط من هممهم إلى الطاعة والعبادة، وليصرفهم عن دنياهم إلى أخراهم، ومن متاع فان إلى تجارة رابحة دائمة. فهل لنا في ذلك متعظ؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة، ها هي الأيام تطوى يومًا بعد يوم، وأسبوعًا تلو أسبوع، وشهرًا يعقبه شهر. تمر بنا من أعمارنا ونفرح بمرورها وهي تقربنا من آجالنا وتنقص من أعمارنا، وبعضنا لا يزال في غفلة.
أيها المؤمنون، هذه الأيام مطيتنا إلى الله والدار الآخرة، تحملنا وتسوقنا إلى لقاء الله ويا له من لقاء. إنه لقاء مشوّق تشتاق إليه نفس المؤمن وتفرح به، وعلى العكس من ذلك حال المقصّر مع ربّه، وقد أخبرنا بذلك: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) ، فقالت عائشة رضي الله عنه: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت! فقال: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشّر برحمة الله ورضوانه وجنّته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)).
أيها الإخوة، البعض منا اليوم يكره الموت لا كما قالت عائشة، فإن كراهية الموت من طبيعة الإنسان وأمر خارج عن الإرادة، لكن البعض يكره الموت لأنه لم يستعدّ للقاء الله، ولم يعمل من الأعمال ما يجعله يقدم به على الله وهو فرح مستبشر. البعض منا مفرّط مقصّر في الفرائض قبل النوافل وفي الواجبات قبل المستحبات؛ لذا فهو غير مستعد للموت. وقد أشار إلى هذا المعنى بعض السلف رحمه الله عندما سئل: ما بالنا نكره الموت؟! فقال رحمه الله: "لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب". نعم، إنه والله السبب الرئيس لكراهيتنا للموت.
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالْجِسم إنسان
يا عامر الخراب الدار مجتهدا بالله هل لِخراب الدين عمران
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4777)
موقفنا عند الطوارق والمدلهمات
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
24/7/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عصر الفتن. 2- إيقاظ الضمير المسلم. 3- حقيقة الحروب. 4- ضرورة العقل والإنصاف وحسن القصد عند تحليل الأحداث. 5- تشخيص الداء. 6- الإرهابيّون الحقِيقيّون. 7- أهمية الاتحاد والائتلاف. 8- معيار الوحدة الإسلامية. 9- سياسة إظهار الجلد والصبر والقوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، ففيها الزاد، وعليها بعد الله جل وعلا الاعتماد، وبها النجاة بعد رحمةِ الله يومَ المعاد، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72].
عبادَ الله، إنَّ ممّا لا شكَّ فيه أنَّ تعاقُبَ الفِتنِ وتكاثُرَها وطَلَبَ بعضِها بعضًا طَلَبًا حثيثًا لهو من سِمَات عصرِنا الحاضِر الذي علَت فيه الحضَارةُ المادّيَّة وسَمَا فيهِ رُقِيُّه المعلُوماتيّ، كلُّ ذلكَ كانَ نَظيرَ سقوطٍ حادٍّ في الجانِبِ الرّوحِيّ والصَّفاءِ الإنسَانيّ؛ حتى أصبَحنَا نَعيش أجواءً مُلتاثةً لا تُتيحُ إبَّانَه رِياحُ الأهواءِ والإِحَن والحروبِ والفِتنِ لأيِّ رَمادٍ أَن يجثِمَ مَكانَه، ولاَ لأيِّ جمرةٍ أن ينطفِيَ وميضُها؛ [ممّا سهّلَ] إذكاءَ النار بالعيدان في هذا الزمن، وما أسرَعَ اشتعالَ نارِ الحروب وفتيلِ الفِتن. ولا جَرَم حينئذٍ ـ عِبادَ الله ـ أَن يتَزلزَلَ كِيانُ المجتمَعاتِ المسلِمةِ ويُقوَّضَ بُنيانُها على حِين غِرَّةٍ بعدَ تراكُمِ التَّداعِياتِ بعضِها على بَعض؛ لِيَخِرّ على شعوبِها سَقفُ الاستِقرار والسّلامَة مِن فوقِهم، وتأتيَهم الطوارقُ في عَسعَسة الليل أو تنفُّس الصباح، من حيث يشعرون أو لا يَشعرون. والواقِعُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ ذلكم كلَّه لم يكُن بِدعًا من السّنَن الإلهيّة، وليس هو طَفرةً لا يسبِقها مقدِّمات ولا مسبِّبات، وإنما هو شَرَرُ وميضِ جمرٍ كان يُرَى خِلالَ الرّماد وَسْطَ ميدان الأمّة الإسلاميّة في الوقتِ الذي بُحَّت فيه أصواتُ الناصِحين وأَسِفَت له قلوبُ المشفِقين على أمَّتِهم ومجتمَعاتهم، غيرَ أنَّ أمّةَ الإسلام ـ وا أسفاه ـ لم تَستَبِنِ النّصحَ إلاّ ضُحَى الغَد ولاتَ حينَ مَناص، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله.
ألاَ إِنّه غيرُ خافٍ علينا ـ معاشرَ المسلمين ـ ما يحلّ ببعضِ المجتمعاتِ المسلمة بين الحينِ والآخر من فتنٍ ورزايا وحروبٍ طاحنة تَلسَع عمومَ أمّة الإسلام بلهِيبِها على مرأَى ومسمَعِ العالم أجمع؛ ما يَستدعِي إِيقَاظَ الضميرِ المسلِم الوَسنان وإذكاءَ الغَيرةِ الإسلاميّة لدَى الشعوبِ المسلِمة حُكّامًا وعلماء ومُصلحين على مَا يواجِهُه بنو الملّة من عَنَتٍ وَلأْيٍ وشدائد جراءَ تلكم الحروب التي اجتاحَت حِياضَهم ومَشارِبَهم واستأصَلَت شأفَتَهم وجعَلَتهم مَذعورين شذَر مَذَر. وإنَّنا في الوقتِ الذي يَحمَد الله فيه كلُّ مجتمعٍ مسلِم لم تَنَله تِلكم الحروبِ الفتّاكة ولم يكتوِ بِلهيبِها حِسّيًّا وإن اكتَوَى بها معنويًّا، نَعَم إنهم في الوقت الذي يحمَدون الله فيه على السّلامةِ ليستعيذون بوجهِه الكريم أن تَطَالَهم تَبِعاتُها أو أن تَقَع في شَرَكها وهُوَّتها. وإنّه لينبغي لنا ـ عبادَ الله ـ كلّما لاحَت في الأفقِ غَيَايةُ فِتنة أو شَرارَة حَربٍ أن نتَذكَّر ما كانَ يَتَمثَّل به سلفُنا الصّالح رضي الله عنهم حينما تقبِل الفتنُ أو تُشَمّ رائحة الحروب، فقَد روى البخاريّ في صحيحِه عن ابنِ حوشَب أنَّ السلَف رحمهم الله كانوا يقولون عند الفتن:
الحربُ أوّلَ ما تكون فتيّةً تسعى بزينتها لكلّ جهولِ
حتى إذا اشتعَلَت وشَبَّ ضِرامُها ولّت عجوزًا غيرَ ذات خليلِ
شَمطاء يكرَه لونُها وتغيَّرت مكروهةً للشَّمِّ والتقبيلِ
أيها المسلمون، إنّه ينبغي علينا أن نسبر الأحداثَ والمدلهمّات بعقلِ المستبين سبيلَ المجرمين، وأن نحلِّلَها على وجهِ الإنصاف وطلب الحقّ والنصحِ للمسلِمين، فإنَّ الاكتفاءَ بمجَرَّدِ التَّلاوُم وإلقاءِ التَّعِلّة على الغَير والرّميِ بالدّاء ثم الانسِلال مِنه لهو حجّة العاجز القانط، وإنَّ لكلِّ رامقٍ بعين النقدِ أن يَرَى التَّراشُقَ بالتُّهَمِ قد بلَغَ تَكاثُرًا زَاحمَ الهدَفَ الأساسَ للخروجِ مِن كلِّ أزمةٍ بعقلٍ صحيح وأفُقٍ نيِّر. ومِن المؤسفِ أن لا نَجِدَ إلاّ لائمًا للعلماء فحَسب، أو لائمًا للمصلِحين والمثقَّفين فحسب، أو لائِمًا للساسة والقادةِ فحسب، وما القادةُ والساسة والعلماءُ والمصلحون إلا جزءٌ من كلٍّ، ولا استقلالَ باللّومِ على صِنفٍ دونَ آخَر، غيرَ أنّ الأنصِبَةَ في ذلكم تتفاوَتُ بحسَب موقعِ كلٍّ من المسؤوليّة التي ألقاها الله على عاتِقِ كلِّ مسلِم مكلَّف، حيث يقول المصطفى : ((ألاَ كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)) رواه البخاري ومسلم.
ألا إنّ من المقرَّر عقلاً أن إلقاءَ كلّ واحد باللاَّئمة على الآخَر ليلزَم منه أنه ليس ثمّةَ أحد ملوم، فيلزَم من ذلكم الدورُ وهو ممنوعٌ عند جميع العقلاء. ورحم الله مالكَ بنَ دينار فقد وعظ أصحابه موعظةً وجلوا منها وارتفع بكاؤهم، وبَينَا هم كذلك إذ فَقَد مصحفَه الذي بين يدَيه، فالتفتَ إليهم وقال: "وَيحكم! تَبكون جميعًا، فمن الذي سرَقَ المصحَفَ إذًا؟!".
فلأجلِ ذا ـ عبادَ الله ـ كان لِزامًا علينا أن نوقنَ جميعًا بأن غيرَ المسلمين لم ينتصِروا علينَا بجيوشِهم وخَيلِهم ورَجِلهم قَدرَ ما انتصروا علينا بفراغ قلوبِنا وفَقدنا لهويَّتنا وإخلادِنا إلى الفوضَى وإخلادِنا إلى الأَرضِ والنَّأي بالأنفسِ عن المسؤوليّة وافتقارِنا إلى ما يجمَعُنا لا ما يفرِّقُنا وإلى ما نعتزّ به لا ما نستحي منه، حتى صِرنا بعد ذلك خاضِعين لغيرِنا طوعًا أو كرهًا، من خِلال ما أصبَحنا بِسبَبِه عالةً علَى فَلسفَةِ غير المسلمين ومادَّتِهم وسِيادتهم، فكانت النتيجة الحتميّةُ أن كثُرَت آلامُنا ونُكِئَت جِراحُنا واستُبيحت حرمَاتنا وتجرّعنا تلكم الجراحات في صياصينا ولا نكادُ نسيغها وقُذِف في قلوبنا الرّعبُ والوهن، حتى أزّنا أعداؤنا أزًّا إلى أن نُقِرَّ كارهين حينًا ومستَسلمين أحيانا بأنَّ باطلَ غيرِنا حقٌّ وحقَّنا باطِل على تخوّف ومضض، ليصدُق فينا قولُ القائل:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودكمُ وتخطِئون فنأتيكم ونعتذرُ
والوَيلُ كلُّ الوَيل لأمّة الإسلام حينَما تقِف حَاميةً عن حِياضها مجاهِدةً عن عِرضها ومالها ونفسِها ودافعةً بقوّتها المتواضِعَة أفتكَ أنواعِ السّلاح؛ فإنها سَتلاقي صيحاتٍ وشَنشَناتٍ أَخزميّةً تقولُ للملأ: "المسلِمون معتَدُون، المسلِمون إرهابيون"، ومِن ثمّ يكون هذا تَبريرًا لِصَبِّ جامِّ الغَضَب بِكلّ أنواع الأسلحة المدمّرةِ، وسيظلّ مثلُ هذا الإفكِ لا ينقَطِع ما دامَت هذه حالنا، وسيبقَى الادِّعاءُ بأنَّ المسلِمين إرهابيّون أكذوبَةً كبرَى، فهي كما يقول علماءُ النفس: ذلك نوعٌ من الإسقاطِ الذي يدفَع المرءَ إلى اتِّهام غيره بما في نفسِه هو مِن شرٍّ، وقديما قيل: "كلُّ إناءٍ بما فيه ينضَح". وستظلّ تلكُم القوّة الغاشمة تحمِل في ظاهِرِها صورَةَ الحمَلِ الوديع الذي يمثِّل الحضارةَ المادّيّةَ المعاصِرة، وهي في حَقِيقتِها شَخصُ ذئبٍ مُكشِّرٍ أنيابَه يقتَرِف الكبائرَ وهضمَ الحقوق وإهدارَ الحرّيّات باسمِ العدل والحضارَة، ويصنع من خلالِ ذلك فروقًا في الدماء والطبقاتِ والألوان، فلا نجِد الضمانات التي تمثِّلها مواثيقُ العدل العالميّة المزعومة عندَهم للمحافظةِ على أمن جميع الشعوبِ إلاّ فيما لم يكن المسلمون أو العرَب فيه طرفًا في صراعٍ ما، وإلا أمسى للقضيّة لونٌ آخر؛ ولهذا نجِدُهم يلاطِفونَ غيرَ المسلمين بروحٍ أطيَب ونفسٍ أهدَأ، فصارَت مِثلُ هذه التصرّفات مؤسَّسةً على مبدأ المصلحة الوطنية والقوّة، فهو كمَبدَأ العلاقةِ مع الآخَر لدى قُطّاع الطريق أو لدى أيّ تجمّعٍ مفترس في الغابة، فهل يُهزَأ بالمنكوبِ حينئِذٍ إذا أساء بالحضارة المعاصرة ظنَّه وعضَّ عليها الأناملَ من الغيظ، ولقد صدق الله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفِر الله إنّه كَانَ غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنَّ للأمة أعداءَها المتربِّصين بها من كلِّ حدَب وصَوبٍ، والذين لا يغيظُهم شيءٌ كأن يَروا هذه الأمّةَ متآلِفة متناصِرَة، تبذُل وُسعَها في الإعداد والقوّةِ والمقاومة، وإنّه كذلك لا يسرُّهم شيءٌ كسرورِهم أن يرَوا المسلمين إلى الخِلافِ والتنافُر مُهطِعين، عن اليمين والشمال عِزِين؛ ولذا كانَ لزامًا على أمّةِ الإسلام أن تتَّحدَ كلِمَتُها وتتآلَفَ قلوبها وأهواؤُها. ثم إنَّ التآلفَ هذا لا يمكِن أن يَتمَّ على أساسٍ مِنَ اللّغَةِ أو اللّون أو الجنس؛ إذ لم تفلِح المجتَمعاتُ عبرَ التاريخ في الاجتماع على مثل تِلكمُ الأسس، فلم يبقَ إذًا إلا أساسٌ واحد يجمَع الأرواح قبل أن يجمع الأشباحَ، ويُقنِع العقول إِثرَ سَيطرته على القلوب، ويؤلِّف بين الرغبات والأهواء كما أُلِّفَ بين النبات والماء، إنّه أساس الكتاب والسنة وعقيدةُ الإيمان المستقِرَّة في الخواطِر، إذ تلك هي صبغة الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].
هذا هو مِعيارُ الوَحدة وأُسُّها الحقيقيّ وأُقنومها الأساس، وإنَّ أيَّ مِعيارٍ سِواها فهو كالظِّئرِ المستأجَرَة أو النائِحَةِ المزوَّرة. ومِن هذا المنطَلَق يجِبُ أن نحذَرَ الطَّوارِق التي تغير على المسلِمين لئلاَّ تقفَ عائقًا منيعًا في وجهِ الدَّعوة إلى الوَحدة والاجتماع، ويجِب أن لا تَنالَ مِن قوّتِنا أو الإعدادِ منَ القوّةِ التي نُرهِبُ بها أعداءَ الله وأعداءَنا، فإنَّ الطَّوارقَ والحروبَ مَظِنَّةٌ لحُصولِ الأضدادِ من اتِّحادٍ واختلاف وضَعفٍ وقوّة، وليسَ بخافٍ على متابعٍ لسيرة المصطفى حينَما رجَع هو وأصحابُه من غَزوةِ المُرَيْسِيع، وفي طريق عَودَتهم ازدحم على الماء خادِمان، أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فاقتَتَلا، فصاح الأوّل: يا لَلمهاجرين، وصاحَ الثانيِ: يا لَلأنصار، وهمّت الدعوةُ الجاهلية أن تثورَ، فما كان من النبيِّ إلا أن قال: ((ما بال دعوى الجاهلة؟!)) ، ثم قال: ((دعوها فإنّها منتنةٌ)) ، وأمر بالارتحال من ذلِكم المكان لئلا يبقَى للدعوَةِ العِبِّيَّة أَثرٌ في النفوس. والقصةُ في الصحيحين وغيرهما.
كما أنَّ في سيرةِ المصطَفى أيضًا ما يدلّ على عَدمِ الرّكون إلى الضعف الذي يعقُبُ الطوارقَ والنوازل، بل على إظهار الجلَد والصبر والقوّة حتى في حالة الضّعف، وذلكم حينما خرَج رسول الله إلى عُمرة القَضاء وأخذ يطوف هو وأصحابه حولَ الكعبة، وكانت الحمّى قد فعَلت بهم الأفاعيل، فانتَهَزَها المشرِكون فرصةً للسُّخريّة منهم ويقولون: إنَّ محمّدًا وأصحابَه قد وهَنتهم حمّى يثرِب، فأرادَ رسول الله أن يقضِيَ على أثَر ذلكم الهمسِ الخبيث، فأمَرَ أصحابَه أن يرمُلُوا الأشواطَ الثلاثةَ الأولى في الطَّواف ويمشُوا ما بَين الرُّكنَين؛ ليرَى المشركون جَلَدَهم. والقصّةُ في الصحيحين وغيرهما.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
هذا وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحِبِ الحوضِ والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد...
(1/4778)
رمضان
فقه
الصوم
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر رمضان. 2- رمضان شهر القرآن. 3- فقه أسرار الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فكم هو عظيم شهر الصيام، وكم فيه من حكم وأسرار يدرك كلّ صائم منها بحسب علمه وإيمانه وتعبّده لمولاه، ويكفي أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير وسبيل الفلاح والنجاح. كم يكسر الصيام شهوة النفس، وكم يحطّم كبرياء المرء. إن الصيام جنة أي: وقاية يتّقي بها الصائم المعاصي والآثام المهلكة والمؤدية إلى النار كما يتقي المحارب بجُنّةٍ أي: بخوذة حين المعركة فيسلم من القتل، كما قال رسول الله : ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)) والحديث في صحيح الجامع.
أيها المسلمون، وفي شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال السيئات، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأخطار، وهذه وتلك لا يحسّ بوطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حلّ شهر رمضان وصاموا أحسّوا بانشراح صدورهم وخفّة أرواحهم وانفراجٍ في كربتهم وأنسٍ بدل وحشتهم، وذلك بفضل شهر الصيام.
مضى أمسك الأدنَى شهيدا مسجلا ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة فثنِّ بإحسان وأنت حميد
ولا تُرجِ فعل الخير منك إلَى غد لعل غدا يأتي وأنت فقيد
فبشراكم ـ معاشر المسلمين ـ بشهر الصيام، يرتفع فيه المؤمنون درجات، وتحطّ به الأوزار عن أهل التقصير، ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنِسه حتى يكون شافعا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن كما النبي : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة, يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه, ـ قال: ـ فيشفعان)) والحديث في صحيح الترغيب.
أيها المسلمون، ورمضان شهر القرآن، وما أدراك ما شهر القرآن، إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء ولا هواء، ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء، وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]. شفاء القلوب وشفاء الأبدان، فكلّما ضاق المرء في هذه الحياة وافتقد الصواب وجد القرآن خير الملجأ، لا يملّ حديثه، وترداده يزداد به تجمّلا وبهاء، ويجد في القرآن الملجأ والمعتصم.
فشمر ولُذ بالله واحفظ كتابه ففيه الهدى حقّا وللخير جامع
هو الذخر للملهوف والكنز والرجا ومنه بلا شكّ تنال المنافع
به يهتدي من تاه في معمة الهوى به يتسلى من دهته الفجائع
كان بعض السلف يختم في رمضان في كلّ ثلاث ليال، وبعضهم في سبع، وبعضهم في عشر، وإنما ورد النهي عن النبي عن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضّلة كشهر رمضان فيستحبّ الإكثار فيها من تلاوة القرآن ولكن بتدبر وفهم وتفكّر.
هذا الشهر المبارك شهر القرآن، يشدّ الناس إلى الدين، يذكّرهم بحقّ الله، فيظهر فيه إقبال الناس على كتاب الله، يقرؤونه، ويسمعونه، ويتدبرون آياته، والقرآن يجعل في الناس رغبة في تغيير ما في أنفسهم حتى يغير الله ما بهم، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فلنغير ما في أنفسنا من عادات سيئة حتى يغير الله ما بنا.
أيها الإخوة، ويدرك من فقه سرّ الصيام كم لرمضان من أثر على تربية النفس بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرّب النفس على كثير من خصال الخير، فتحيا المراقبة لله، ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام، وتتطبع النفوس بالكرم والجود والإحسان إلى المحتاجين والبر بالأقربين، وتتهذب الأخلاق، فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالسبّ ورديء الكلام، وتربى العين على عدم النظر في الحرام، ذلك كلّه يدل على أن بإمكان المرء أن يغيّر من واقعه ويرتقي بنفسه إلى الأفضل والأحسن، ليس فقط في رمضان بل في جميع أيام حياته، متى؟ إذا بذل أسباب الهداية وسعى في تحصيلها واستعان بالله على ذلك، أما أن نتمنى الخير دون عمل وبذل وجد واجتهاد ونرجو الفلاح فهذا محال.
ما أحوجنا ـ أيها الإخوة ـ إلى شهر الصيام يأتي ليشعرنا بقيمة الوقت وأهمية ملئه بالطاعات، والصائم الفطن يقضي يومه في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسّر على الوقت الذي يضيع دون فائدة، ومن ثم يتربى المرء على حفظ أوقاته بعد رمضان على الدوام.
وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة ويوحّد الصفوف ويؤلف بين القلوب، وفِطر أهلِ كلّ بلد في زمان واحد يذكّر بوحدة المسلمين، وهو دعوة إلى تآخيهم وتوادّهم وشيوع المحبة بينهم، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). وهذه الوحدة تقلق الأعداء، فتراهم يسعون جاهدين لتفريق صفّ المسلمين، فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويسعون لجمع كلمتهم؟! ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام، فجدير بنا أن ندركه.
أيها الصائمون، وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات وترغيبهم في الصدقات وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على قراءة القرآن وسائر الطاعات كل ذلك من المسؤوليات الواجبة على عاتق الآباء والأمهات، فرمضان فرصة أكثر من غيره من المواسم لأنّ النفوس لديها استعداد ما لا يتوفّر مثله في سائر الأزمان. والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضل رمضان، والأم الحانية هي التي تشجع على الخير وتؤازر الأب في تربية الأبناء؛ حتى تقرّ وتسرّ أعين الأبوين بأولادهم في الدنيا والآخرة.
فانتبهوا لتربية أبنائكم على الدوام، خصوصا في هذا الشهر العظيم بمزيد من العناية والاهتمام، فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة وحين ترحلون إلى الدار الآخرة، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها الولد الصالح الذي يدعو له. وكم هي مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين والساجدين والخاشعين وأبناؤهم يسرحون ويمرحون في الأسواق، أو ربما عكفوا وعكفت البنات على مشاهدة ما لا يحلّ وسماع ما حرم الله والزمان زمان رحمة، الأيام فاضلة، والدعوة مستجابة، ومن تذكّر فإنما يتذكر لنفسه، ومن أساء فعليها.
اللهم اهدنا واهد بنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين أماما.
بارك الله ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فشهر الصيام شهر المواساة، ألا ترون الناس أجمع غنيّهم وفقيرهم ذكرهم وأنثاهم صغيرهم وكبيرهم يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات؟! أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعض ما يملكون للمحتاجين والمساكين؟!
ولئن نسي أهل الغنى حاجة غيرهم طوال العام فشهر رمضان فرصة للتعويض في كثرة إطعام الطعام وإفطار الصائمين، وكم هو مشهد إيماني محبّب للنفس هذه الاجتماعات عند الإفطار، فيشعر المسلم بقرب أخيه منه وحنانه، وترى مشهد التآلف والتواضع والإحسان.
ومن مشهد المواساة في شهر رمضان قضاء الدين عن المدينين وتفريج الكربات للمعسرين، وعلى الأغنياء أن تطيب نفوسهم بما يجودون به من صدقات فضلا عن دفعهم للزكاة الواجبة، ولا مانع من الدقة والسؤال والتحري ولا سيما في أهل الزكاة والمستحقين لها.
وشهر رمضان فرصة للمواساة مع شعوب العالم الإسلامي، تلك التي أثخنتها الجراح وعز فيها الطعام وقل فيها الكساء، حيث الجبال شديدة البرودة وانعدام ما يقيهم البرد القارص، فهذه مسؤولية يتحملها المسلمون القادرون تجاه إخوانهم.
أيها الإخوة، شهر رمضان جدير بتذكيرنا بهذه المعاني وأكثر لمن تفكر وتدبر، أما من ينتهي تفكيره في الصيام عند الإمساك عند الفجر والإفطار عند تحقق الغروب دون إحساس بالحكمة والسر العظيم من وراء ذلك فما فقه حكمة الصيام، وما بالله حاجة أن يدع طعامه وشرابه دون أن يورثه ذلك تقوى تدعوه لفعل الخيرات وتنأى به عن المحرمات وتهذب نفسه وترقّق مشاعره وتخفّف من حدّة الشح والبخل في غياب التقوى.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتَّى عصى ربه فِي شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهُما فلا تصيِّره أيضا شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهدا فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الْموت واستبقاك بعدهم حيا فما أقرب القاصي من الدانِي
اللهم اجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيمانا واحتسابا، اللهم اجعل هذا الشهر شهر نصر وعز للإسلام والمسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4779)
ذم الظلم والظالمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
24/7/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الظلم. 2- سوء عاقبة الظالمين. 3- براءة الإسلام من الإرهاب. 4- وجوب التحلل من مظالم العباد. 5- من صور الظلم. 6- أمر الولاة بالعدل بين الناس. 7- وجوب العدل بين الأولاد. 8- فضل العفو والصبر. 9- وجوب نصرة المظلوم. 10- التحذير من الشرك في الدعاء. 11- عدم مشروعية تخصيص رجب بعبادة ما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فيَا أيُّها المسلِمون، أوصيكُم ونَفسِي بتقوَى الله جلَّ وعَلا، ففيهَا السعادةُ والهنَا.
معاشِرَ المسلِمين، مِن نورِ الوَحيَين فَلنَستَلهِم ما يُسعِدُ حَياتَنا ويُضيء لنا طَريقَنا.
ثبَتَ في صَحيح مسلمٍ عنِ النبيِّ فيما يَروِيه عن ربِّه جلَّ وعلا في الحديث القدسيِّ أنَّ الله جلَّ وعلا يقول: ((يا عِبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي، وجعلتُه بينَكم محرَّمًا فلا تَظَالموا)).
حديثٌ جَليل يتَوَجّه إلى البشَريّة حين يجورُ بها الطّريق، ويحذِّر الأفرادَ حين يُغرِيها الجشَعُ والطمَعُ العميق. تَوجيهٌ ربَّاني يحذِّر فيه الربّ جلَّ وعلا خلقَه من أن يتَهَارَشوا ويتغَالبوا ويأكلَ قويُّهم ضعيفَهم ويعتَدي كبيرُهم على صغيرهم. توجيهُ إِلَهيٌّ ينبِّه العقلَ أن يزلَّ به الهوَى فيَقَع في الظلم على الضّعَفَاء. وصيةٌ من البارِي جلّ وعلا يسوقها رسولُه المجتبَى ليتحاشَى الخلقُ كلُّهم الظلمَ والعدوانَ والطّغيان، ويتجنَّبوا ظلمَ العباد والتعدِّي على حقوقهم والتَّجنّي على مقدَّراتهم والاعتداء على أنفسِهم وأموالهم وأعراضِهم.
الظلمُ عاقِبَتُه وخيمَةٌ وآثارُه شَنِيعة، يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: "عاقبة الظلم وخيمَةٌ، وعاقبة العدلِ كريمة"، ويقول ابنُ القيّم رحمه الله: "أصلُ كلِّ خيرٍ هو العلم والعَدل، وأصلُ كلِّ شرٍّ هو الجهل والظلم".
أيّها المسلمون، لا فلاحَ مع الظلمِ، ولا بقاءَ للظالم، ولا استقرارَ للمعتَدِي مهمَا طالَ الزمان ومهما بلَغ به الشأن، يقولُ ربنا جلّ وعَلا: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، ويَقول عزّ شأنُه: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، ويَقول عزَّ في عُلاه: هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:47]؛ ولِذلك فلاَ بقاءَ لقِوَى الظلم والطغيان، ولا سُلطانَ لها يَدوم على مدَى الأزمان، فخالِقُ الأرض والسمَاء يقول سبحانَه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]. أخرج البخاريّ أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الله ليملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته)) ، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أيّتُها البشَريّة في كلِّ مكانٍ، مِن مُنطلَق الحقِّ نَدعُو ومِن مَبَادِئ العدلِ والإنصافِ ننادي: إلى مَتى يَعيش العالَم تحتَ ظلمِ القوِيِّ وبَغيِ المعتَدِي؟! فاسمَعي إلى قولِ الخالق عمّا يقوله في حقّ الظالم فرعون: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:39، 40]، ويقول سبحانَه عن شأنِ الظالمِين: وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19].
إنَّ مِن الظلمِ العَظيم الذي لاَ يقِرُّه دِينٌ ولا يَرتَضيه عَقلٌ سَليمٌ ولاَ واقِعٌ تأريخيّ أن تُعكَسَ المفاهِيم، فيُتَّهَم الإسلامُ بالإرهابِ والفاشِيّة وهو الدينُ الذي قامَت أصولُه وقواعِدُه على مَبادئ السّلام والعدالة والإنصافِ وحِفظ العُهود واحتِرامِ المواثيق؛ حتى صَارَت مِن توجِيهاتِه إبّانَ الحَربِ أن لاَ تُقتَلَ امرأةٌ ولا طِفل ولا شيخٌ ولا راهِب في صومَعَتِه ولا يحَرَّق شَجَر مُثمِر ولا يمثَّل بجثّة ولاَ يُهان أسيرٌ ولا يُخفَر بذِمّة، بينما غيرُ المسلمين يعتَدون ويَصبُّونَ قَنابِلَهم على النّساء الضعيفاتِ والأطفال الأبرياء والشّيوخ الضّعفاء، يحرِّقون ويُدمّرون، فالتّدمير هَدفُهم، وإفسادُ حياةِ الناس مقصدُهم، حتى لم يسلَم من فسادِهم جمادٌ ولا حيوان، فمَن هو ـ يا تُرى ـ الإرهابيُّ حينئذ؟!
معاشرَ المؤمنين، مظالِمُ العباد لا بدَّ من التحلّل منها والتخلّص من عواقبِها، فرسولُنا يقول: ((إذا خَلَصَ المؤمِنون منَ النّار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالِمَ كانت بَينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِن لهم بِدخولِ الجنّة)) الحديث أخرجَه البخاريّ، وأَخرَج أيضًا عنِ النّبيِّ أنّه قالَ: ((مَن كانَت له مَظلَمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شَيءٍ فليتحلّله منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دِرهمٌ ولا دِينار، إن كان له عَمَلٌ صالح أُخِذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تَكن له حسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحُمِل عليه)).
معاشِرَ المسلمين، من أعظمِ الظلم وأقبَحِ المعاصي التطاوُلُ على أموالِ اليتامى والاعتداءُ على حقوقِهم، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
عبادَ الله، مِن الظلمِ العظيمِ الاعتداءُ على أَراضِي الآخَرين في غَيبَتِهم والاستيلاءُ عليهَا في حَضرَتهم، ورسولُنا يقول: ((مَن اقتَطَع أَرضًا ظلمًا لقِيَ الله وهو عليه غَضبان)) رواه مسلم.
كما أنَّ من الظلم ارتكابَ الحِيَل وركوبَ أسبابِ المكر والخِداع بالاعتداءِ على أراضي المسلمين وتَغييرِ مَنار الأرض التي مَنافعُها للنّاسِ أَجمعين، عَن هشامِ بنِ عُروة عن أبيهِ أنَّ أروى بنتَ أويس ادّعَت على سعيد بن زيد أنّه أخَذَ شيئا من أرضِها، فخاصَمَته إلى مروان بنِ الحكم، فقال سَعيد: أنا آخُذ شيئًا من أرضِها بعد الذي سمعتُه من رسول الله ؟! قال: وما سمعتَ من رسولِ الله ؟ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن أخَذَ شبرًا من الأرض ظلمًا طُوِّقه إلى سبعِ أراضين)) ، فقال له مَروان: لا أسألُك بيِّنةً بعد هذا، فقال: اللّهمّ إن كانَت كاذِبةً فعَمِّ بَصَرَها واقتُلها في أرضِها، فما ماتَت حتى ذهَبَ بصرُها، ثم بَينَا هِي تمشي في أرضِها إذ وقعَت في حفرةٍ فماتت. متّفق عليه. وفي حديثِ عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال: لعَنَ رسول الله من غيّر مَنارَ الأرض. أخرجه الحاكِمُ وحسَّن إسنادَه الذهبيّ.
ومِثلُ العدوانِ عَلَى حقوقِ الناسِ في الأرضِ العدوانُ على المالِ العامّ المالِ الحُكوميّ في الأرَاضي وغيرِها، بل ربما كان العدوانُ على المالِ العامّ أشدَّ حُرمَةً وأبشَعَ أثَرًا؛ لأنّ الضَّرَرَ فيه يُصيبُ الأمّةَ بمَجموعها، وفي البخاريّ: ((مَن أخَذَ مِن الأرضِ شَيئًا بغير حقٍّ خُسِف بِه يومَ القيامَةِ إلى سَبعِ أَراضِين)) ، وفي الحديثِ أيضًا: ((مَن أخَذَ مِن طَريقِ المسلِمين شِبرًا جاء يومَ القيامة يحمِله من سبع أراضين)).
أخِي المسلم، اتّقِ الله فيما عليك من حقوقِ المسلمين، وأدِّ مَا وجب عليك من الواجِباتِ والدّيون، فرسولُنا يقول: ((مَطلُ الغَنيِّ ظلمٌ)) متّفق عليه، وفي الحديثِ: ((ثلاثةٌ يبغِضُهُم الله: الشّيخُ الزاني، والفَقير المختال، والغَنيّ الظلوم)) حديث صحيح.
إِخوةَ الإسلام، كلُّ مَن تَولّى للمسلِمينَ وِلايةً فهو سُلطانٌ على هَذه الوِلاية، يجِب عليه تقوَى الله والعدلُ بين المسلمين والحذَرُ من ظلمِ الخَلق أجمعين، قال : ((ثَلاثٌ أخافُ عَلَى أمّتي: الاستسقاء بالأنواءِ، وحَيف السلطان، وتكذيبٌ بالقدر)) رواه أحمد وَهوَ صَحيح، ويقول : ((إنّ أحبَّ النّاس إلى الله يومَ القيامة وأَدناهم منه مجلِسًا إمامٌ عادل، وأبغَض النّاس إلى الله وأبعَدهم منه مجلِسًا إمامٌ جائرٌ)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب". والوَيلُ ثمّ الوَيل للقَاضِي إذا ظلَم والحاكمِ إذا جَار عنِ العدل، قال : ((القضاةُ ثلاثة، وَاحدٌ في الجنّة واثنانِ في النّار، فأمّا الذي في الجنّة فرجلٌ عرَف الحقَّ فقضى بِه، ورَجلٌ عرفَ الحقَّ فجار في الحكمِ فهو في النّار، ورجلٌ قضى للنّاس على جهلٍ فهو في النار)) رواه أبو داود وابن ماجَه وسنده صحيح.
يا أهلَ الولاياتِ والمناصبِ، يا أهلَ الوظائف والمراتِب، اتّقوا الله جلّ وعلا فيما وُلِّيتم عليه من أمور المسلمِين، فتفضيلُ بعض الناس على أمثالهم في الوظائف ظلمٌ جسيم، وتقديمُ مَن ليس أهلا على مَن هو أهلٌ جَورٌ عظيم، وقَصدُ المضرّة بالآخرين في دُنياهم ظلمٌ مبين، قال : ((صِنفان من أمّتي لا تنالهما شفاعتي: سُلطان غشوم ظَالم، وغَالٍ في الدين)) الحديث روَاه ابن أبي عاصِم في السنّة بِسندٍ صحيح وذكَرَه المنذِري وقال: "رواه الطّبراني في الكبيرِ ورِجاله ثقات". وفي حديثِ أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله : ((مَا مِن أميرِ عَشَرةٍ إلا يؤتى به يومَ القيامة مغلولا، لا يفكُّه إلاّ العدل أو يوبقه الجور)) رواه أحمد وسنده صحيح.
واحذَروا ـ يا مَن جعَل الله حَاجاتِ الخلقِ عِندهم ـ أن تَضطرّوهم لما لا يُحمَد شرعًا ولا يُرتَضَى طبعًا، فتبوؤوا بالإثم والغضب من الربّ جلّ وعلا، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا الجورَ حتى افتُدِي).
إخوةَ الإسلامِ، ومِن الظّلمِ الواضِحِ الذي يَقَع فيه بَعضُ الناسِ ظلمُ الأجَرَاء والمستَخدَمين من عمّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حقوقَهم أو تأخيرها عن أوقاتها أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فعل، في صحيحِ البخاريّ أنَّ النبي قال: ((ثلاثةٌ أنا خَصمُهُم يَومَ القيامة)) ، وذكر مِنهم: ((ورجلٌ استأجَرَ أجيرًا فاستَوفى مِنه ولم يعطِهِ أجرَه)) ، وفي الحديث أيضا أنَّ رسولَ الله قال: ((إنَّ الله يعَذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدّنيا)) رواه مسلم.
أيّها الآباء، ومِن الظلمِ الذي يقَعُ فيه بعضُ النّاس بِسَبَب العَاطِفَة المذمُومَةِ تَفضيلُ بعضِ الأولاد على بعضٍ في العطيّة. فضّل بشير ابنَه النعمان بهديّةٍ من بين أولاده وأرادَ أن يُشهِد رسولَ الله ، فقالَ لَه سيِّدُنا رَسولُ الله : ((يا بَشير، أَلَك ولدٌ سِوى هذا؟)) قال: نعَم، فقال: ((أكلَّهم وَهبتَ له مِثلَ هذا؟)) قال: لاَ، قال: ((فَلا تُشهِدني إذًا؛ فإني لا أشهَد على جَور)) متفق عليه، وفي الحديثِ الآخر: ((اتَّقوا اللهَ واعدِلوا بينَ أولادِكم)).
إخوةَ الإسلام، ومِن الظلم العظيمِ مؤاخذةُ غيرِ الجاني والاقتِصاصِ من غير [الباغي]، يقول سبحانَه في قصَّة العَزيز: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79].
مَعَاشِرَ المسلِمين، العفوُ عنِ المظلَمَة فيه أجرٌ عظيم وثوابٌ جزيل، فربّنا جل وعلا يقول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]. ولَئِن كان العفوُ بهذه المثابَةِ فالصَّبر على الظلم واحتساب الأجرِ فيه من الله أعظمُ أجرًا وثوابًا، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].
بارك الله لنا في الوَحيَين، وَنفَعَنا بما فيهِما مِن الهَديِ والبيانِ، أقول هذا القَولَ، وأستَغفِرُ الله لي وَلَكم ولسائِرِ المسلمين مِن كلّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى تَوفِيقه وامتِنانِه، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لاَ شَريكَ لَه تعظيمًا لِشأنِه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورَسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك عليه وعَلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، أوصِيكم ونفسِي بِتقوى الله جلّ وعلا؛ ففيها الفَلاح في الدّنيا وفي الأخرى.
أيّها المسلمون، وإنَّ مِن الواجِبِ الشَّرعيّ نُصرةَ المظلومِ ورَدعَ الظالمِ والأخذَ على يَدَيه بالنّصيحةِ تَارَةً وبِرفعِ أمرِه لوَليّ الأمر أو نَائِبه الشرعيّ تارة، قال : ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، قالوا: يا رسولَ الله، هذا ننصُرُه مظلومًا، فكيفَ ننصُره ظالمًا؟! قالَ: ((تأخُذُ فوقَ يَدِه)) متّفَق عليه. وفي حديثِ البراءِ: أمَرَنا رسول الله بسبعٍ، وذكر منها: ((ونَصر المظلوم)).
أيّها المسلِمون، إنَّ مِنِ انعِكاسِ المفاهيمِ وقَلبِ الحقائِق والتّمويه على العقولِ تسميةَ مقاومة الاحتلال والعدوان والدّفاع عن الأموال والأعراض إِرهابًا وإجرامًا، بَينَما الاحتلالُ والاعتِداء والقَهر والظلم عند أولئك [مشروعٌ ومحمود]، والله جلّ وعلا يقول: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، ويقول: وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:41، 42].
أيّها الإنسانُ، إذا دَعَتك قدرتُك على ظلمِ الناس فتذَكّر قدرةَ الله جلّ وعلا عليك، واخشَ من دعوةِ المظلوم فإنّه ليسَ بَينها وبين الله حِجاب، يقولُ رسولُنا لمُعاذٍ وقَد أرسَلَه إلى اليَمَن: ((واتَّق دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبين الله حِجاب)) ، وفي الحديث: ((ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم)) ، وذكَر منهم: ((ودَعوة المظلوم، يرفعها الله فوقَ الغَمامِ، ويَفتَح لها أَبوابَ السّماء، ويَقولُ الرّبّ جلّ وعلا: وعِزّتي، لأنصُرَنّك ولو بعدَ حين)).
أيّها المسلم، إذَا خَرجتَ من بيتِك فاستَعِن بالله، واحرِص على التضرّع إلى اللهِ أن يعصِمَك من الزلَلِ وأَن يجنّبَك الظلمَ كما ثبَت ذلك في الحديثِ عنِ النبيِّ.
أيّها المسلِمون، مَسألتان عَظيمَتانِ مُهِمّتان نذَكّر أنفسَنا وإخوانَنا بها:
أوّلها: أنَّ الدعاءَ إنما يُصرف ويُطلَب مِنَ اللهِ جلّ وعلا، فمَن أراد زيارةَ قبرِ النبيِّ فلا يجوز له أن يتوجّهَ إلى القبرِ فيدعو الله، أمّا إذا دعَا النبيَّ من دونِ الله في كشفِ ضرٍّ أو جَلبِ نَفعٍ فذلك من الشركِ العظيم الذي جاءَ النبيُّ لمحارَبَتِه، وجاءَ لإقامَةِ لِواءِ التّوحيد إلى أن يرثَ الله الأرضُ ومَن عليها.
المسألةُ الثانية: أنّ شَهرَ رَجب شهرٌ عَظيم، ولَكن لم يثبُت عنِ النبيّ أنّه أمَر بتخصِيصِه بعبادةٍ ما، وقد نبّهَ على ذلك أساطِينُ العِلم ومحقِّقي العلَماء في المذاهِب كلِّها.
فلنتَّبِع هديَ النبيِّ ، ولنَكُن مخلِصينَ للهِ جلَّ وعَلا موَحِّدين له في السّراء والضّرّاء.
ثم إنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكاهَا عند خالِقِنا جلّ وعلا الصلاةَ والسّلام على سيّدنا وحبيبِنا ونبيِّنا وقُرّة عيونِنا محمّد.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/4780)
التفاؤل
التوحيد
الشرك ووسائله
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفأل الحسن. 2- صور من التفاؤل. 3- حب النبي للفأل الحسن. 4- حقيقة التطير والتشاؤم. 5- نهي الإسلام عن الطيرة. 6- من صور التشاؤم عند العجم. 7- مفاسد التشاؤم. 8- فوائد التفاؤل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد روى اِلْبُخَارِيّ ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِيّ : ((لا طِيَرَة، وَخَيْرهَا الْفَأْل)) ، قَالوا: وَمَا الْفَأْل يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: ((الْكَلِمَة الصَّالِحَة يَسْمَعهَا أَحَدكُمْ)) ، وَفِي رِوَايَة أخرى: ((لا طِيَرَة، وَيُعْجِبنِي الْفَأْل: الْكَلِمَة الْحَسَنَة الْكَلِمَة الطَّيِّبَة)) ، وَفِي رِوَايَة: ((وَأُحِبّ الْفَأْل الصَّالِح)).
أيها الإخوة، إن التفاؤل والفأل الحسن من المعاني التي تحبها النفوس؛ ولذلك حين سئل رسول الله كما في الحديث: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: ((الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ)) ، وَهِيَ الَّتِي تُذكرُ بِمَا يَرْجُوهُ المرء مِنْ الْخَيْرِ، فَتُسَرُّ بِهِ النَّفْس، وَتحصل لها الْبِشَارَة بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْخَيْرِ. فالْفَأْلَ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَان كلام يَتَضَمَّنُ نَجَاحًا أَوْ سرورا أَوْ تَسْهِيلاً، فَتَطِيبُ النَّفْسُ لِذَلِكَ وَيَقْوَى الْعَزْمُ عَند الإنسان.
وقد جَعَلَ اللَّه تعالى فِي فطَر النَّاس مَحَبَّة الْكَلِمَة الطَّيِّبَة وَالأُنْس بِهَا، كَمَا جَعَلَ فِيهِمْ الارْتِيَاح بِالْمَنْظَرِ الأَنِيق وَالْمَاء الصَّافِي وَإِنْ كَانَ لا يَمْلِكهُ وَلا يَشْرَبهُ، كما جاء في وصف بقرة بني إسرائيل أنها تسرّ الناظرين، فهي تسرّ مَن نظر إليها وإن لم يملكها.
وَمَنْ أَمْثَلة التَّفَاؤُل أَنْ يَكُون لَهُ مَرِيض، فَيَتَفَاءَل بِمَا يَسْمَعهُ، فَيَسْمَع مَنْ يَقُول: يَا سَالِم، فَيَقَع فِي قَلْبه رَجَاء الْشفاء بإذن الله.
والتفاؤل كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ففِي حَدِيث أَنَس عِنْد التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ النَّبِيّ كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ يُعْجِبهُ أَنْ يَسْمَع: يَا نَجِيح يَا رَاشِد. وَكَانَ عليه الصلاة والسلام إِذَا بَعَثَ عَامِلاً يَسْأَل عَنْ اِسْمه, فَإِذَا أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ, وَإِنْ كَرِهَ اِسْمه رُئِيَ كَرَاهَة ذَلِكَ فِي وَجْهه. وَكان النَّبِيُّ يستبشر بالخير عند سماع الأسماء كما في يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عندما طَلَعَ سُهَيْلُ بْنُ عُمَرو, فقال رسول الله : ((سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) ، فَكَانَ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام. بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام من تفاؤله بالأسماء الحسنة غيَّر بعض أسماء الرجال أو النساء لقبح أسمائهم، وأبدلهم بأسماء جديدة، فقد غير اسم إحدى الصحابيات من عاصية إلى جميلة، وغير اسم الصحابي حزن إلى سهل.
والفأل كله خير؛ لأن الإنسان إذا أحسن الظن بربه ورجا منه الخير وكان أمله بالله كبيرا فهو على الخير ولو لم يحصل له ما يريد، فهو قد حصل له الرجاء والأمل والتعلق بالله والتوكل عليه، وكل ذلك له فيه خير، فالتَّفَاؤُل حُسْن ظَنّ العبد بربِهِ, وَالْمُؤْمِن مَأْمُور بِحُسْنِ الظَّنّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلّ حَال؛ ولذلك ذكر أهل العلم أَنَّ تَحْوِيلَ ردَاءِ النَّبِيّ بعد صلاة الاستسقاء ونَفعله نحن كذلك اقتداء به فهو من باب التَّفَاؤُلِ وحسن الظن بالله لِلانْتِقَالِ مِنْ حَالِ الْجَدْبِ إِلَى حَالِ الْخَصْبِ، ولو لم ينزل مطر فقد حصل الخير برجاء الله جل وعلا، وهذا أعظم من نزول المطر؛ لأنه متعلق بأمور العقيدة.
وأما حكم الفأل الحسن فهو مستحب، وقول الكلام الحسَن من الأمور التي رغبت بها الشريعة، ويحصل بهذا الكلام الحسن عند من سمعه أنه يتفاءل به، وخاصة عند من كانت به مصيبة، ولكن دون الركون إلى تلك الكلمة، ولكن من باب حسن الظن بالله؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي)) حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
أيها الإخوة، إن العبد إِذَا قَطَعَ رَجَاءَهُ وَأَمَلَهُ باللَّه تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ شَرّ لَهُ, وهو من الطِّيَرَة التي فِيهَا سُوء الظَّنّ وَتَوَقُّع الْبَلاء.
وَالتَّطَيُّر هو التَّشَاؤُم، وَأَصْله الشَّيْء الْمَكْرُوه مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْل أَوْ غيره, وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجِبهُ الْفَأْل لأَنَّ التَّشَاؤُم سُوء ظَنّ بِاللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ سَبَب مُحَقَّق.
وكَانَ التَّطَيُّر فِي الْجَاهِلِيَّة موجودا عند الْعَرَب، فقد كانوا يَتَشاءمون, فَيُنَفِّرُونَ الظِّبَاء وَالطُّيُور, فَإِنْ أَخَذَتْ ذَات الْيَمِين تَبَرَّكُوا بِهِا وَمَضَوْا فِي سَفَرهمْ وَحَوَائِجهمْ, وَإِنْ أَخَذَتْ ذَات الشِّمَال رَجَعُوا عَنْ سَفَرهمْ وَحَاجَتهمْ وَتَشَاءَمُوا بِهَا, فَكَانَتْ تَصُدّهُمْ فِي كَثِير مِنْ الأَوْقَات عَنْ مَصَالِحهمْ، فَنَفَى الشَّرْع ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِير بِنَفْعٍ وَلا ضُرّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْله : ((لا طِيَرَة)) ، وَفِي حَدِيث آخَر: ((الطِّيَرَة شِرْك)) أَيْ: اِعْتِقَاد أَنَّهَا تَنْفَع أَوْ تَضُرّ; إِذْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا مُعْتَقِدِينَ تَأْثِيرهَا، فَهُوَ شِرْك لأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا أَثَرًا فِي الْفِعْل وَالإِيجَاد.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَة قَالَ: كُنْت عِنْد اِبْن عَبَّاس فَمَرَّ طَائِر فَصَاحَ، فَقَالَ رَجُل: خَيْر خَيْر، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: مَا عِنْد هَذَا لا خَيْر وَلا شَرّ.
وكذلك كان عند العرب الاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلامِ، وَالأَزْلامُ قِدَاحٌ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَتَّخِذُهَا قد كتب فِي أَحَدِهَا: "افْعَلْ" وَفِي الثَّانِي: "لا تَفْعَلْ"، فَإِذَا أَرَادَتْ فِعْلَ شَيْءٍ اسْتَقْسَمَتْ بِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تُلْقِيَهَا، فَإِنْ خَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي فِيهِ "افْعَلْ" أَقْدَمْت عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ خَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي فِيهِ "لا تَفْعَلْ" امْتَنَعْت مِنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ما قَدْ يَكُونُ بِالْخَطِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِقُرْعَةٍ وَأَنْوَاعُهَا كَثِيرٌ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ. فَجَاءَ الشَّرْع بِرَفْعِ ذَلِكَ كُلّه، فقد قَالَ الرسول : ((مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ رَدَّهُ عَنْ سَفَر تَطَيُّرٌ فَلَيْسَ مِنَّا)) وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الأَحَادِيث.
وَكَانَ التَّشَاؤُم موجودا عند الْعَجَم، فإِذَا رَأَى أحدهم الصَّبِيّ ذَاهِبًا إِلَى الْمُعَلِّم تَشَاءَمَ، وإن رآه رَاجِعًا استبشر, وَكَذَا إِذَا رَأَى الْجَمَل يحمل متاعا تَشَاءَمَ، فَإِنْ رَآهُ وَاضِعًا حِمْله مضى, وَنَحْو ذَلِكَ, وفي العصر الحديث نرى أن الغرب يتشاءمون من الرقم ثلاثة عشر، ففي بعض المباني لا يوجد الدور الثالث عشر، يوجد الدور الثاني عشر ثم الرابع عشر مباشرة، وكذلك عندهم في بعض المستشفيات لا يوجد غرفة رقم ثلاثة عشر؛ تشاؤُمًا من هذا الرقم، وهذا من الجهل المطبق، فما دخل الرقم ثلاثة عشر بالتشاؤم أو بالتفاؤل؟!
ويوجد كذلك من يتشاءم بصوت الإسعاف أو صوت سيارات المطافي أو الشرطة أو غيرها، ويوجد من يتشاءم من بعض الألوان كاللون الأحمر، ويوجد كذلك في القنوات الفضائية والمجلات وبعض الإذاعات ما يسمّى بالأبراج؛ برج الجوزاء برج العقرب برج الثور وغيرها، وفيها أيام نحس، وأيام سعد، وأيام النحس في هذا البرج هي نفس أيام السعد في ذلك البرج، ومن ولد في هذا اليوم من البرج فهو سعيد، ومن ولد في ذلك البرج فهو منحوس، والذي وضعها وأذاعها ـ والله ـ هو النحس، وإلا فما دخل البرج الفلاني أو اليوم الفلاني بمصير الإنسان وعاقبة أمره؟! بل كل ذلك من الله جل وعلا، ولا دخل للأبراج ولا غيرها في شيء، وهو من الشرك الذي نهى الشارع عنه.
وأيضا يوجد من بعض الناس من لا يسمي ولده الجديد باسم الولد الذي قد مات مخافة أن يموت مثلَ أخيه، وهذا من التشاؤم المنهي عنه.
فعلينا جميعا أن نؤمن بقضاء الله وقدره، ونحسن ظننا بربنا ولا نتشاءم؛ لأن القدر قد يوافق كلمة سيئة أو سوء ظن بالله فتقع المصائب والبلاء؛ ولذلك قيل: "إن البلاء موكّل بالنطق، ويصير بالإنسان السوء الذي ظنه".
ثم إن التشاؤم يعذب به صاحبه ويتألم به قبل وقوع أي أمر، فإن بعض الناس قد يجمعون بين المصائب بسبب سوء ظنهم بربهم وتشاؤمهم، وبين الألم والخوف والعذاب قبل وقوع المصائب.
أيها المسلمون، الإسلام رغبنا في التفاؤل؛ لأنه يشحذ الهمم للعمل، وبه يحصل الأمل الذي هو أكبر أسباب النجاح، وهذا من أسرار هذه الشريعة أنها توفر للمسلم أسباب النجاح؛ ولذلك نرى الطالب الذي يذهب للامتحان أو لمناقشة رسالة جامعية وهو عنده حسن ظن بربه تجد همته قوية، وينعكس ذلك على تقويمه ونجاحه، وعكس ذلك من دخل متشائما فسيفشل بلا شك ولو كان يعرف الإجابة معرفة جيدة.
وكذلك ترى رجلين مسافرين، أحدهما مطمئن على أولاده بأن الله سيحفظهم بحفظه، وأنهم بخير ولم يصبهم أي مكروه بإذن الله، فهو متوكل على ربه بأن الله لن يضيعهم، أما الآخر فتجده يقول في نفسه: "لا بد أنه قد حدث لأولادي مكروه، ولماذا لم يتصلوا بي؟ ربما دخل أحدهم المستشفى، وربما حدثت لهم مصيبة"، وهذا من التشاؤم ومن سوء الظن بالله الذي أمرنا باجتنابه.
أيها المسلمون، إن التشاؤم له علاقة بالأخلاق، وهو طبيعة نفسية سيئة؛ لأنها تضعف الأمل وتؤدي إلى الفشل، فتجد المتشائم دائما عبوسا، ولا تجد عنده نضارة، أما التفاؤل فهو من أسباب إشراق الوجه، ولا تجد في الغالب أحدا يبتسم إلا وهو متفائل، وقد ضربوا مثالا لمعرفة المتشائم من المتفائل بنصف كوب من الماء، لو عرض على المتفائل لقال: "هذا نصف كوب ممتلئ بالماء"، والمتشائم سيقول عنه: "إنه نصف كوب فارغ من الماء".
فعلى من ابتلي بهذه الصفة السيئة أن يهذب نفسه ويزكيها منها، فالأطباع والعادات السيئة يمكن التخلص منها كما قال رسولنا : ((وإنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم)).
أيها المسلمون، إن التفاؤل له علاقة بجميع قراراتنا في حياتنا كلها، سواء في العبادة وهو أن يتفاءل العبد بأن الله لن يضيع عبادته وجهده إذا أخلص لله، أو في طلب العلم بأن الله سيرزقه العلم النافع وينفع به، وكذلك التفاؤل له علاقة في العمل أو الوظيفة أو أي نشاط آخر؛ ولذلك في مجتمعنا لو رأيت جميع الأشخاص الناجحين سواء في الدين أو الدعوة أو في التجارة أو في أي مجال ستجد عندهم جميعا قاسما مشتركا، ألا وهو التفاؤل، ويكفي بالتفاؤل حصول الأمل الذي هو من السعادة، وكما قيل: "تفاءلوا بالخير تجدوه".
أسأل الله أن يجعلنا ممن يحسن الظن به جل وعلا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفورا رحيما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله خلقكم لعبادته وحده لا شريك، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
هذا واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4781)
التوكل على الله
الإيمان
خصال الإيمان
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة التوكل. 2- فضل التوكل على الله. 3- التوكل على الله من صفات المؤمنين. 4- حب الله تعالى للمتوكلين. 5- وجوب توحيد الله تعالى بالتوكل. 6- انخذال المعتمدين على الأسباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعبدوه؛ فإنكم لم تخلقوا في هذه الدّنيا عبثا، وإنما خلِقتُم لعبادَةِ ربّكم.
أيها المسلمون، حديثنا اليوم عن خصلة من الخصال التي يحبها الله عز وجل، والتحلي بها من الواجبات التي أوجبها علينا ربنا، وكثيرا ما تمر علينا حينما نقرأ كتاب الله، أتدرون ما هذه الصفة الكريمة التي تحلّى بها المؤمنون الصادقون؟ إنها صفة التوكل على الله عز وجل، قال تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرِّئا من حولك وقوتك.
وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلّها، وتفويض الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.
قال سعيد بن جبير: "التوكل جماع الإيمان"، وقال وهب بن منبه: "الغاية القصوى التوكل"، وقال الحسن: "إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته".
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا)).
إن من أعظم الأسباب التي تجلب الرزق التوكلَ على الله، قال بعض السلف: "بحسبك من التوسّل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره فكفاه منه ما أهمه"، ثم قرأ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
لو حقّق الناس التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدوّ والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير، وقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]. من علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له ومن خذله لا ناصر له فوض أموره إليه وتوكل عليه ولم يشتغل بغيره.
وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، والمعنى أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة ويقينا، وقالوا: حسبنا الله أي: كافينا الله، والوكيل هو من توكل إليه الأمور، أي: نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي أو الكافل.
والمؤمنون يعتمدون بقلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]. إن الخلّةَ التي يحبها الله ويحبّ أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون، بل هي التي تميّز المؤمنين عن غيرهم، والتوكل على الله ورد الأمر إليه في النهاية هو الحقيقة التي غفل عنها الكثير، وهي حقيقةً أنّ مردَّ الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد.
وقال تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، قال العلماء: لما فوضوا أمورهم إليه واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضَّاهم عنه ورضي عنهم.
وهنا فائدة لطيفة وهو تقديم الجار والمجرور في قوله: وَعَلَى اللهِ تفيد الحصر، لم يقل: "فليتوكّل المؤمنون على الله"، وإنما قال: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، فتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره؛ لأنه قد علم أنه الناصر وحده، فالاعتماد توحيد محصّل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.
وفي تلك الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكّله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، كما أن حب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمَر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن:13].
إذا توجه العبد إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصا له الدين أجاب دعاءه وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة، فبذلك يذوق العبد من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذقه غيره. ومن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخل بواجب التوحيد، فهو كما أنه مأمور بالأخذ بالأسباب فكذلك هو مأمور بالتوكل؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب، فمن رجا نصرا أو رزقا من غير الله خذله الله كما قال علي رضي الله عنه: (لا يرجُوَنّ عبد إلا ربه، ولا يخافَنَّ إلا ذنبه)، وقد قال تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].
أيها الإخوة، إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا نصر ولا خذلان ولا خفض ولا رفع ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه ونصره وهداه، فأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.
فإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعبد التوكل على الله والاستعانة به ودعاؤه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عباده وإسباغ نعمه عليهم وحاجة العباد إليه في هذه النعم، والقرآن مملوء من ذكر الآيات التي تتحدث عن حاجة العباد إلى ربهم دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعَدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا، فإذا استشعرنا ذلك ـ أيها الإخوة ـ حقّقنا التوكّلَ على الله والشكر له ومحبته على إحسانه.
وبتجربة الناس والواقع والاستقراء: ما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل.
والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائما فقره إلى الله وحاجته إلى أن يكون معبودا له وأن يكون معينا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه.
(1/4782)
صدقة الفطر: إشارات ودلالات
فقه
الزكاة والصدقة
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية زكاة الفطر. 2- فوائد زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
شهر كامل تنهال فيه عطايا الكريم على عباده، يتقلب فيه المسلم بين صيام وصلاة وصدقة وذكر ودعاء، حتى إذا استتم الشهر وكملت النعمة إذا هو يؤمر بزكاة الفطر تزكية للنفس وجبرًا للنقص. عن ابن عمر قال: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
إن ختم الشهر بزكاة الفطر فيه فوائد وله دلالات يجب أن لا تغيب عن الأمة وهي تعيش نشوة العيد وفرحته والشغل به، ولعلي في هذه العجالة أعرض إلى بعض الدلالات وأشير إلى شيء من هذه الإشارات:
أولاً: الإخلاص لا الخلاص، زكاة الفطر عبادة تفتقر إلى الإخلاص والمتابعة، الإخلاص لا الخلاص، الإخلاص الذي يجعلها تخرج بطيب نفس ونقاوة خلق، لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، لا يخرجها على أنها عناء يضعه عن كتفه أو هم يزيحه عن عاتقه. إن من الناس من يشغله السعي للخلاص منها عن الإخلاص فيها، فهو يأخذ زكاة فطره يطير بها كالبرق أينما وجهت ركابه، جريًا على عادة آبائه وأهل بلده، فتصل إلى المسكين دون أن تقع في نفسه موقع العبادة. إن زكاة الفطر ليست ضريبةً يخرجها كرهًا حتى يجد مبررًا له أن يَغش فيها أو يَخْرُج منها بحيلة، بل هي طهرة له وعلامة على يقينه وصدق إيمانه، يحتاج أن يختارها بعناية ويدفعها برضا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267].
ثانيًا: طهرة وزكاة، عموم الصدقة التي يخرجها المسلم هي له طهرة ونماء، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، أما في خصوص صدقة الفطر فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين. طهرة للصائم الذي أمضى شهره في عبادةٍ؛ صيام وقيام وتلاوة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى تطهير. إن استشعار هذا الأمر يغلق في النفس باب الإعجاب والإدلاء بالعمل على الله، فهو مهما بلغ به حفظ الصيام يحتاج أن يخرج هذه الزكاة تطهيرًا للغو خفيٍّ ورفث خاطر، وبذلك يتعلق القلب بالله خوفًا من ذهاب العمل بالرياء أو بالإعجاب والإدلاء. وزكاة الفطر أيضًا طهرة للصائم من البخل والشح والأنانية المقيتة التي قد تحيط بالنفس فتحرمه الفلاح، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].
ثالثًا: فرصة لتربية الأولاد، هل أولادنا يحسون بهذه العبادة العظيمة زكاة الفطر؟ وهل يعيشون أحداثها أم أنها تفعل في غيابهم وغفلتهم؟ عجب والله! حتى الصدقة التي تخرج ـ في الحقيقة ـ عنه لا يعلم بها؛ إذ ربما بلغ الشاب أو الفتاة سن التكليف وليس عنده فيها خبر إلا أن تسعفه مناهج التعليم. إن الاتصال السريع من الدكان إلى المسكين مباشرة أفقد شيئًا من روحانية هذه العبادة، ليس على أولاده فقط بل حتى على نفسه هو. ماذا يضير الأب لو أتى يكيل الطعام أمام أبنائه وهو يغرس فيهم معاني البر والعطاء ويلفت نظرهم إلى ضرورة تزكية النفس وتطهيرها من كل لغو يفسد أعمالها؟! جميل أن تقول له: يا بني، إذا كانت أعمالنا التي يظهر فيها الصلاح تحتاج إلى تطهير وتزكية، فكيف بما يظهر منها التقصير؟! يا بني، إننا نؤديها شكرًا لنعمة الله على إدراك الشهر وزيادة الفضل، يا بني، إن المسكين الذي أعوزته الحاجة أخ لنا يجب أن يفرح بالعيد كما نفرح.
رابعًا: أضخم حملة إغاثية، زكاة الفطر صورة كبيرة وضاءة من صور البذل والعطف والرحمة وسد جوعة المسكين ولوعة المحروم، فهي تأكيد للتكافل الاجتماعي بين المسلمين وإغناء لهم عن ذل السؤال ذلك اليوم، وفي الحديث أنه قال: ((أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة)). إنها صورة من صور التربية على السخاء ونبذ البخل الذي يجاور ويحاور النفوس الضعيفة. إنها بحق أضخم حملة إغاثية خيرية تقوم بها الأمة كلّ عام، ولو أننا أفدنا منها ووجهناها توجيهًا حسنًا لاستطعنا بعد توفيق الله أن نقضي على حالة الفقر المدقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم. وبسبب عدم التحري والاحتياط الناشئ عن عدم الهم والاهتمام بهذه الشعيرة المباركة فإنك تجد أن زكاة الفطر تتكدس في بيوت رفعت أعلامها فعرفت، بينما ترى بيوت أقفرت وبقيت تلازم الفقر حَوْلاً وهي تبغي عنه حِوَلا. إن الذي كان في العام الماضي مسكينًا قد يكون هذه السنة غنيًا، والذي كان غنيًا قد يلحقه الفقر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. إن هذه الكميات الضخمة من الزكوات التي تبلغ بالآصع عدد السكان تحتاج إلى جهد جماعي كبير يتناسب وهذه الكميات الضخمة. وإن جزءًا من هذا الجهد يقع على عاتق الجمعيات الخيرية والإغاثية والتي نذرت نفسها لمثل هذه الأعمال الكبيرة. هذه الكميات من الزكوات تحتاج إلى جهد مؤسسي منظم لتجني النتائج المرجوة. والمطلوب هنا هو تعزيز ثقتنا بهذه الجمعيات والمؤسسات وتحميلها المسؤولية والإدلاء بالآراء والمقترحات والملحوظات إليها، لا أن تبقى ملاحظاتنا حبيسة المجالس الخاصة في صورة من اللمز الخفي الآثم،.كما أن على الجمعيات والمؤسسات الخيرية والهيئات الإغاثية أن تولي هذا المشروع عناية فائقة، وأن تجدد فيه الدراسات وتراجع فيه التنفيذ، والله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4783)
قل هو من عند أنفسكم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- درس معركة أحد. 2- حال الأمة الإسلامية اليوم. 3- معاول الهدم في المجتمعات الإسلامية. 4- ضريبة الغفلة والإهمال. 5- وجوب التصدي للفساد والمفسدين. 6- رسالة إلى المفسدين في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
في أحد تعبّأ النبي للقتال، وحدّد مواقع جيشه، وكان من حنكته العسكرية أن اختار من جيشه خمسين رجلاً يجيدون الرمي بالنبل، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وأصدر أوامره المشدّدة الصريحة للرماة فقال: ((انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعيوننا، لا تبرحوا وإن تخطّفنا الطير)) ، وأكد على ابن جبير فقال: ((إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتينَّ من قِبَلك)). ويلتقي الجيشان، وتدور رحى الحرب، ويضرب السيف القنا، فيتنزل مدد الله وينصر جنده، ويجيد الرماة دورهم في حماية الظهر وردّ خيل المشركين، وألقي الرعب في المشركين، فهربوا فزعين في مشهد يصوّره لك البراء بن عازب حيث قال: فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتدِدن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن. فلما رأى الرماة المشهد أخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، ونزلوا عن مواقعهم، فصاح بهم عبد الله بن جبير: مكانكم، عهد رسول أن لا تبرحوا، فأبوا إلا النزول. نزلوا وهم يظنون إلا أن الحرب قد وضعت أوزارها، ناسين بذلك الأوامر المشدّدة من النبي بلزوم المواقع وعدم البراح عنها. لقد عصوا بذلك أمر النبي ، وتركوا حماية الظهر، فوقعت السنة الإلهية عليهم، السنة لا تحابي أحدًا ولا تداريه، فدارت الدائرة عليهم، وانقلبت رحى المنون إلى دارهم، فكانت نتيجة هذه المعصية أن قتل من الصحابة سبعون، وكان يوم بلاء وتمحيص خلص فيه المشركون إلى رسول ، فرجم بالحجارة حتى وقع لشقه، وأصيبت رباعيته، وشج وجهه، وكلمت شفته، فدخل في وجنته حلقتان من حلَق المِغْفَر. فتساءل القوم: أنى هذا؟! كيف أصابنا الضر ونحن جند محمد ؟! فأنزل الله قوله الفصل وحكمه العدل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، قل: هو من عند أنفسكم.
إنه درس للأمة عظيم، فإذا كان الجيل المبارك جيل الرسالة قد أصيب بما أصيب به بسبب معصية الرماة وتخليهم عن مواقع الحماية فإن غيرهم من باب أولى وأحرى، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
إن الأمة اليوم لم تصب بمصائب من داخلها أو خارجها إلا بسبب من أنفسها وتفريط وغفلة عن حماية الذمار ورعاية الدار، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
إن نظرة ناقدة إلى مجتمعنا اليوم توجب الحذر من عذاب قد انعقد غمامه وادلهم ظلامه، إننا وإن كنا نرى نوع توجه في المجتمعات إلا أننا نعايش فيها انحدارًا رهيبًا يؤذن بخطر، فها هي سوق الفساد قد راجت، ومعاول الهدم قد كثرت، والناس في غفلة عما يراد بهم. إن جهودًا فردية ضعيفة تقف أمام هذا الطوفان الجارف قد لا تغني شيئًا؛ إذ إنه لا بد من استنفار عامّ لحماية العقائد والأخلاق يشارك فيه المجتمع بأكمله، كل بما يستطيع، فكل على ثغر، ولا بد لنا من حماية الظهر، نريد من يحمي ظهورنا من الإعلام الفاجر، الإعلام الذي غيّر الفطر وزعزع العقائد وأفسد الأخلاق وأضعف في المجتمعات المناعة الفكرية؛ مجلة خليعة وصحيفة هابطة ومسرحية ماجنة، جاؤوا بعدها بما هو أسرع تأثيرًا وتغييرًا، فأمطرتنا القنوات الفضائية بما تعرض من الفجور ليل نهار، جهود ضخمة وسعار مستمرّ حتى كان آخر الإحصائيات أن 500 قناة فضائية ما بين عربية وأوربية وأمريكية وآسيوية تنشر انحرافاتها العقدية والأخلاقية والاجتماعية وتبثّ سمومها في مجتمعنا، يقول مدير أحد القنوات الفضائية العربية وهو ماروني نصراني متعصب: "نعم، استخدمنا الجنس وهدفنا الخليج".
فبعد هذا الغزو المحموم أي حال ستكون عليه مجتمعاتنا؟! هل ستثبت الثوابت فيها أم ستتزعزع وتنهار؟! لقد كان من النتائج الأولية لهذا الغزو ما طاشت له الأرقام وحارت معه الأفهام، ففي استبانة وضعت لطلاب بعض المدارس في هذه البلاد وكان عددهم 507 طلاب أن كان من نتائجها أن 35 في المائة يرون أن للقنوات أثرًا عقديًا عليهم، 60 في المائة يرون أن للقنوات أثرًا أخلاقيًا عليهم، 44 في المائة يرون أن القنوات سببًا للتهاون في الصلاة، 40 في المائة يرون أن للقنوات تأثيرًا على الدراسة، 76 في المائة يرون أن القنوات تساعد على الجريمة، 14 في المائة فكّروا بارتكاب الجريمة بعد رؤية مشهد أو برنامج معين. وفي دراسة أخرى أثبتت أن 46 في المائة من طلاب الابتدائي شاهدوا لقطات جنسية حيّة من بعض الفضائيات.
إن خطر هذه القنوات وخطر شبكات الإنترنت واضح، تراه بأم عينك، تراه وأنت تسير في بلادك، لا تحتاج معه إلى شاهد أو دليل. إنك لترى أن المجتمع الذي كان مجتمعًا مسلمًا محافظًا صاحب عادات حسنة وتقاليد مرضية قد بدأ يتغيّر في شخصيته بتلك القبعة العجيبة والقَصَّة الغريبة واللباس الضيق المقزّز ذي الألوان المختلفة التي عجز النساء عن تنسيقها واختيارها، وترى تغيّرًا في الأخلاق والعادات وبذاءة في اللسان وعدم احترام للكبير وقلة في الحياء وسوء أدب وانحرافًا نحو الجريمة والعنف. جاء في تقرير صدر عن اليونسكو أن إدخال وسائل أعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين. هذا في التلفزيون فماذا فعلت القنوات؟! وماذا ستفعل؟! وماذا ستفعل شبكات الإنترنت؟! وأي جيل ستخرج لنا؟! وعش رجبًا ترَ عجبًا.
لقد صعق من هذا الغزو عقلاء الكفار فتنادوا لحفظ بلادهم ومجتمعاتهم من ثقافات وافدة، فالصين واليابان وكندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها أصبحت تخاف على ثقافتها ومواطنيها من أثر الانفتاح الإعلامي، فهذا وزير الثقافة البريطاني "كريس سيمث" قام بفرض الحظر على بعض القنوات التي تعرض الجنس حماية لمجتمعه، وصرح وزير الثقافة الفرنسي أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار الثقافي الأمريكي! فإذا كانت هذه غيرة الكفار على عوائدهم وأخلاقهم فأين غيرة المسلمين على دينهم وثقافتهم؟!
لقد دخل الاستعمار اليوم مواقع لم يكن يحلم بدخولها، دخل الأفنية والغرف والاستراحات، لقد غزاها بالفكر والثقافة والعادات فأين حماة الظهر ورعاة الدار؟! أين دور الآباء تجاه أبنائهم؟! أليس الذين ضاعت أخلاقهم واختلفت عاداتهم هم أبناؤنا؟! لماذا يغفل عن الولد فتًى كان أو فتاة يخلو لوحده مع الإنترنت يقلب صفحاته دون حسيب أو رقيب؟! لقد بلغني أن بعض طلاب المتوسّطات يتبادلون أسماء بعض المواقع فضلاً عن غيرهم، وما الذي يمنعهم من ذلك حين يضعف الخوف من الله وتسهل الوسيلة؟! لماذا الغفلة عن أبنائنا لا ندري أين يبيتون ولا مع من يسهرون وإلى أين يذهبون؟! في الحديث عنه قال: ((ما من مسلم يسترعيه الله رعية فيموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) رواه البخاري.
ومن السهام التي صوّبت إلى مجتمعاتنا من أجل إفساد شبابها وتدمير قوتها سموم المخدرات التي كثر الحديث عنها وكثر وتستَحِقّ من الحديث أكثر، فسدت بها عقول الشباب، وأضاعوا بسببها الدين والدنيا. وكنت يومًا مع أحد المسؤولين في جهاز مكافحة المخدرات فكان يقول: إن نسبة انتشار المخدرات بين الطلاب عمومًا تزداد عامًا بعد عام. فمن الذي ينشرها؟! ومن الذي يروّج لها في سكون الليل؟! إنها الغفلة عن المراقبة والمتابعة وعن حماية الظهر وسد الثغر.
ومن السموم التي تسري في المجتمعات انتشار المعاكسات عن طريق المكالمات الهاتفية أو رسائل الجوال أو صوره أو البلوتوث أو التردّد المربك للأسواق دون حسيب، والذي ينشأ عنه علاقات محرّمة، ثم فضيحة تهدم البيت من أساسه، يودّ معها أن لو كان نسيًا منسيًا.
إن ضريبة الغفلة والانشغال بالدنيا على حساب ترك الأولاد دون رعاية أو توجيه ستكون ضريبة صعبة، وسيكون الثمن باهظا يدفعه كل مفرط جهول، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. إنه من أجل الحفاظ على أمن المجتمع واستقراره وعلى معتقداته وأخلاقه وعاداته يجب أن يكون هناك شيء من الحزم والجد في المواجهة، لا بد أن نضع أيدي بعضنا مع بعض وأن نقوم لله قيامًا نحمي به ظهورنا ونحفظ به ديارنا لا نخاف مع ذلك لومة لائم. وجاء التغليظ على المتشبّه بالنساء وإخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، قال البخاري رحمه الله في صحيحة: "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت"، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم)) ، قال: فأخرج النبي فلانا وأخرج عمر فلانة. إنه نوع من الحزم الذي نرحَم به العاصي فنأطره به على الحق أطرا ونجرّه فيه إلى الجنة بالسلاسل.
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا فليقس أحيانًا على من يرحم
لا بد أن يقف المجتمع وقفته الحازمة أمام كل مشيع للفاحشة حتى نجفف بذلك منابع الجريمة والفساد، لا بد أن يُبلّغ عن كل مروّج للمخدرات حتى يقطع دابره ويزال شره، لا بد من مدافعة كلّ من ينشر الرذيلة بأي وسيلة، بشريط ماجن أو بيع لأجهزة الاستقبال أو الكروت المشفّرة من أجل دراهم معدودة لا بارك الله لهم فيها. ولا بد أيضًا من التعاون مع الجهات المسؤولة في القضاء على هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر كالتفحيط أو العبث بالسيارة في الرمال التي يقصد منها مآرب أخرى وأذية الناس وإفساد الممتلكات وسرقة الأموال والسيارات. إنه لا يصح للمجتمع أن يكون حاميًا لمفسِد بسكوته أو مدافعًا عنه بشفاعة سيئة تجعل المفسد يعيد الكرة وبقوّة ويستهوي غيره ليسلك طريقه، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، وفي الحديث: ((لعن الله من آوى محدثًا)). إن أحد أبنائنا حين يقصّر فيجد المجتمع بأجمعه قد وقف ضدّه فإنه سيحس بقوّة الصدمة وبشاعة الجرم؛ الشيء الذي يجعله لا يعاود ذلك مرة أخرى. إن الواجب أن يكون كلّ أبٍ منا مخولاً لرعاية أبناء غيره وأمرهم ونهيهم وتأديبهم إن احتاج الأمر إلى ذلك. إن الأمر عظيم والخطب جلل والسفينة تكاد تغرق إن لم نحمها من عبث العابثين وكيد المعتدين.
ثم في ختام الكلام أوجه رسالة إلى كل من لبس ثوب الإفساد وإشاعة الفاحشة أن يتقوا الله ويخشوا عقابه، وأن يعلونها توبة تجبّ ما قبلها، وأن يعلموا أنهم في استمرارهم على ذلك يجمعون إلى سيئاتهم سيئات غيرهم، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [ النحل:25]، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ثم عليهم أن يعلموا أن ما يفعلونه من إفساد للغير ما هو إلا قرض سيرَدّ إليهم، "دقّة بدقة ولو زدت لزاد السقا".
عُفّوا تعفّ نساؤكم فِي المَحرم وتَجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
من يزني في قوم بألفي درهم فِي بيته يزنى بربع الدرهم
يا هاتكًا حرم الرجال وتابعًا طُرق الفساد تعيش غير مكرم
لو كنت حرًا من سلالة ماجدٍ ما كنت هتاكًا لحرمة مسلم
ثم ليعلموا أن لهم في نشر الفساد عذابا أليما في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4784)
أصحاب الظل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الموت والحشر, فضائل الأعمال
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
1/8/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس إلى الظل. 2- دنوّ الشمس من الخلائق يوم القيامة. 3- أصحاب الظل يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى. 4- كيف الوصول إلى ظل الرحمن. 5- عدل داود وسليمان عليهما السلام. 6- عفّة يوسف عليه السلام وورعه. 7- فضل التقرب إلى الله بالنوافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. منِ اتَّقى الله وقاه، ومن كلِّ كربٍ أنجاه، وكلّ همٍّ كفاه، ثم جَعَل الجنّةَ مأوَاه ومَثوَاه.
عِبادَ الله، حينَ تنشُر الشّمس أشعَّتَها اللاّهِبَة ويلسع لهيبُها الأجسادَ المنهَكَة حين ينتصف الصيفُ ويشتدّ الحرُّ ويعرَق الناسُ في كلّ حركة وتنقُّلٍ ويبلغ الجَهدُ البدَنيّ والنّفسيّ بالنّاس مبلَغًا تضيق به نفوسُهم فإنهم يُهرعون إلى الظّلِّ وإلى وَسائل التّبريدِ، ورُبما بَلَغ بهمُ الجزعُ إلى الهُروبِ بعيدًا إلى البِلادِ البارِدَة والأجواءِ المعتَدِلَة؛ يتفيّؤون الظلال ويسكنون الجبالَ.
وبوقفةِ تأمّلٍ في شمسِنا المحرِقَة ـ خاصّةً في البلادِ الحارّة ـ حين يضيق بالإنسانِ نَفَسُه ويكاد يغلي كلُّ شيءٍ حولَه فإنَّ المسلمَ يتذكَّرُ وَقفةً عظيمة لا مناصَ عنها وكُربَةً شديدةً لا مفرَّ منها، وذلك حين يجمَع اللهُ الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الداعي ويَنفُذُهم البَصَر، حين تَدنُو الشمسُ من الرؤوسِ مقدارَ مِيل، فلا ماءَ ولا شجَر، ولا ظلَّ ولا مدر، ولا حتى حَجَر. إنها أرضُ السّاهرة، مستَوِيَةٌ مبسوطة، فأينَ المفرُّ؟! وإلى أين يكون المستقرّ؟! أإلى الجنّة أم إلى سقر؟ إنّه يوم تشتدّ فيه الكربةُ وتضيقُ النّفوس، وليس ذلك في شهرٍ أو شهرين، إنه يومٌ مقدارُه خمسون ألف سنَةٍ، حتى يقضي الله تعالى بين الخلائق. عنِ المقدادِ بن الأسودِ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((تُدنى الشَّمسُ يومَ القيامَةِ مِنَ الخلقِ حتى تكونَ مِنهم كمِقدارِ مِيل، فيكون الناسُ على قَدرِ أعمَالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعبَيه، ومِنهم مَن يكون إلى رُكبَتَيه، ومِنهم من يكون إلى حقوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرَقُ إلجامًا)) ، قال: وأشار النبيّ بيدِه إلى فيه. رواه مسلم. وفي الصّحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ العرقَ يومَ القيامة ليَذهَب في الأرضِ سبعينَ بَاعًا، وإنّه ليبلُغ إلى أفواهِ النّاس أو إلى آذانهم)).
أيّها المسلمون، وفي خِضَمِّ هذهِ الشّدائِدِ والكُرَب وبَينَما النّاسُ في همٍّ وغمٍّ وعذابٍ وضَنك إذَا بِفِئامٍ من المؤمِنين ممّن أكرَمَهم الله تعالى ليسوا مِن هذه الشدَّةِ في شَيءٍ؛ إنهم في ظِلِّ عرشِ الرّحمن، قد اصطَفَاهم الله فأكرَمَهم ورَعَاهم في كَنَفِه وأحاطَهم بلُطفه، فهم في ظلٍّ وارِف حتى يُقضَى بين العِباد. في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((سَبعةٌ يظِلّهم الله تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه)).
أيّها المسلِمون، إنَّ الجامعَ بين هذه الأصنافِ السَّبعةِ هو خشيةُ الله تعالى بالغيبِ وتقواهُ في السرِّ والعلَن وتقديمُ أمرِ الله على هوَى النفس مع قُدرتهم على خِلافِه؛ فالإمام يعدِل مع قدرتِه على الحيفِ والظّلم، لكنه عظَّم الله في قلبِه وعلِم قدرتَه عليه ووقَر الإيمانُ في قلبِه، فاتَّقى الله في أمانتِه، ويدخُل فيه كلُّ مَن إليهِ نظرٌ في شيءٍ من مَصالح المسلمين مِنَ الوُلاةِ والحكّام كما قالَ النوويّ رحمه الله، وبَدَأ به لكَثرةِ مصالحِه وعمومِ نَفعِه. أمّا الشابُّ الذي نشَأ في عبادةِ الله فقَد شَبَّ وتَرَعرَع متلبِّسًا بالعِبادةِ مُلتَصِقًا بها، لم تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّبابِ، ولم يَغُرَّه طولُ الأمَل، بل غلَب نفسَه في عُنفُوان شبابِه ومَلأَ قلبَه الإيمانُ والتّقوى، فنشأ في طاعةِ الله وعبادتِه، ليست له صبوةٌ ولا كَبوَة. وأمّا الذي تعلَّق قلبه بالمساجِد فهو شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعَة فيها، فقَلبُه مع الصّلاة وفِكرُه مشغولٌ بها، يتحيَّن وقتَها، ويترقَّب نِداءَها، ويتحرَّى إقامَتَها، لا يكادُ ينتهي مِن صلاةٍ حتى يشتاق للأخرى؛ إنّه الأنسُ بالله. أمّا الحبُّ في اللهِ فهو مِن أوثقِ عُرى الإيمانِ، وهو عملٌ قلبيّ يطَّلعُ عليه مَن يَعلَم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصّدور، فهو سبحانَه أعلَمُ بمَن أحبَّ لله ووَالى في اللهِ، اجتَمَع المسلِمَانِ على المحبَّةِ والمودّة لله وفي الله، لم يجمَعهما عرَضٌ من الدّنيا زائِل، ولا طَمَعٌ في مالٍ ولا جَاه، بل هو الصِّدق والإخلاص. أمّا العفيفُ الوَرِع فمع اجتِماعِ أسبابِ المعصيَةِ وتوفُّر دواعِيها وقُدرتِه على الحرام في حالِ الخَلوَة والأمانِ إلا أنَّ خوفَ الله في قلبِه أعظمُ مِن هذه الفِتنةِ وأقوى من هذا البلاء. والمنفِقُ المتصدِّق بالغَ في الإخلاص وأبعَدَ عنِ الرّياء؛ يبتَغي بذلكَ وجهَ الله. والأخيرُ رَقيقُ القلبِ حاضِرُ الإيمان، إنّه المختَلِي بدمعَتِه، لم يُراءِ بها، إنَّ الإنسانَ ليقدِرُ علَى النشيجِ والصّراخ أمامَ الناس مجاراةً لهم أو تأثُّرًا بهم، لكن من الذي يذكُر الله في الخَلوةِ فتَفيضُ عينُه ويَهمل دَمعُه خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا؟! إنّه الإيمانُ واليقين.
عبادَ الله، هذه المُثُل العاليةُ والمواقِف الجلِيلَةُ ليسَت سَهلَةَ المنال لكلِّ خوّارٍ أو بطَّال، إنها مَواقفُ يُؤثِر فيها المؤمِنُ رضا الله على رِضا غيرِه وإن عظُمَت فيه المحَن وثقُلَت فيه المُؤَنُ وضعُف عنه الطّولُ والبَدَن، وكم مِن غافلٍ يظنُّها يسيرةً هيِّنَة وما دَرَى أنّه لا يُوَفّق لها إلاّ المخلَصون، وقد يَرَى الإنسانُ نفسَه قادرًا على الصّمود لكنّه إذا فُتِن افتَتَن وإذا ابتُلِيَ فشل. وإنَّ الذي يبغِي النجاةَ والفلاح والعِصمةَ والنجاحَ ليتعاهَد إيمانَه حتى يتوصّلَ إلى الكَمَالاتِ ويمتَلِئ قلبُه بالإيمانِ واليقين والخوف من ربِّ العالمين والخشيةِ والإخلاص، عِندها تفيضُ النّفسُ بالأعمالِ الصّالحة وتَنزَجِرُ عنِ الرَّذائِل وتَثبُتُ عندَ الفِتَن، وهذا لا يحصُلُ مع التواني والكَسَل، فلا بدَّ مِن تفقُّد النّفسِ ومجاهَدَتها، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]؛ وذلك ليعلَمَ الله صِدقَكَ في طلَبِ الحقِّ والإيمانِ وصِدقَ رَغبَتِك في نيلِ الجنانِ والعِياذِ منَ النّيران.
وإذا ذُكِر المُلك والعَدل ذكِر أنبياءُ الله داود وسليمانُ عليهما الصّلاة والسّلام، وقد امتَدَحَهما الله بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال سبحانه: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]. هذه أهمُّ صِفَةٍ وصف الله بها النبِيَّين الملِكَين، إِنَّهُ أَوَّابٌ. إذًا كثرةُ التوبة والاستغفَار والأوبةِ والاعتِذار في اللّيلِ والنّهار مما يصطفي الله به عباده الأخيار، ويرتقِي بالمسلم إلى مصافّ الأولياءِ، ويحشُره في زُمرة الصّالحين والأنبِياء.
وعندَ ذِكرِ العِفّة والورَع يتقدَّم المِثال الطاهرُ نبيّ الله يوسفُ عليهِ السلام حين أنجاه الله من الفِتنةِ العظيمة وصاحَ صيحةَ مؤمنٍ: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، قال الله تعالى عنه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وفي قراءَةٍ سَبعيّة: الْمُخْلِصِينَ. قال القرطبي رحمه الله: "وقد كان يوسفُ عليه السّلام بهاتَين الصِّفَتَين؛ لأنّه كان مخلِصا في طاعةِ الله، مستَخلَصًا لرسالة الله، وكذلك التضرعُ والدعاءُ والالتِجاءُ للهِ تعالى كما دعا يوسفُ ربَّه بأن يصرِفَ عنه كيدَ النِّسوَةِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34]".
فاللّهمّ احشُرنا في زُمرة أوليائِك، وارزقنا مرافقَةَ أنبِيائك، وأظِلَّنا في ظلّ عرشِك يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّك.
بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له الملِكُ الحقُّ المبين، وأشهَد أنَّ سيّدنا محمَّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيّها المسلمون، ممّا يرتقي بالمسلمِ في كمالاتِ الإيمان ويدخل المؤمنَ في كَنَف الرّحمن التقرُّبُ إلى الله تعالى بنوافِلِ العِبادات بعدَ أداءِ الفرائضِ والواجِبات، ففي صحيحِ البخاريّ أنَّ النبيَّ قال في الحديث القدسيّ الذي يرويه عن ربِّه عزّ وجل: ((وما تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ممّا افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتّى أُحبَّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمَع بِه، وبَصَرَه الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها, وإن سَأَلني لأُعطيَنَّه، ولئِن استعاذَني لأعيذنّه)).
اللهُ أكبَر، هكذا فلتَكُن العِصمةُ والحِفظُ والصِّيانة، إنها درَجَةُ الوِلايةِ الحَقَّة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس62-64].
أيّها المسلِمون، إنَّ ممّا يرقِّق القلوبَ ويُكسِبُها دُربَةً عَلَى الإخلاصِ ويَكسو الوجوهَ مَهابةً وجَلالاً وعِصمَةً وكَمَالاً الخلوةَ بالله تعالى في هَزيعِ اللّيل بين صلاة ودعاءٍ وتملُّقٍ وبكاءٍ، وفي صفاتِ الأولياء: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. إنَّ رُهبانَ اللّيل هم أقربُ الخلقِ للإخلاصِ وأَحرَاهُم بدَمعةٍ هطَّالةٍ تهملُ في بهيمِ اللّيلِ، فهنيئًا لمن وفَّقَه الله وأعانَه.
وأخيرًا فإنّ نقاءَ السّريرةِ وصفاءَ القلب وَسَلامةَ الصدرِ وتركَ الضّغينةِ على المسلمين شروطٌ لازِمَة لصلاحِ القلبِ لأن يحملَ المحبةَ الخالِصة لله والمودّةَ الحقّةَ فيه.
هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد اللهِ الهاشميّ القرشيّ.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد، كما صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبَارِك على محمّد وعلى آلِ محمّد، كما باركتَ على إبراهِيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد...
(1/4785)
أسباب حسن الخاتمة وسوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/8/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الله تعالى. 2- فضل الأعمال الصالحة. 3- ذم الأعمال السيئة. 4- الحرص على حسن الخاتمة. 5- عناية الصالحين بحسن الخاتمة. 6- أسباب التوفيق لحسن الخاتمة. 7- خوف السلف من سوء الخاتمة. 8- صور لسوء الخاتمة. 9- أسباب سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ ـ عِبادَ الله ـ حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه.
عبادَ الله، إنَّ ربَّكم غَنيٌّ عَنكم، لاَ تَضرُّه مَعصيةُ من عَصَاه، ولا تَنفعُه طاعةُ مَن أطاعَه، كما قال الله تعالى في الحديثِ القدسيّ: ((يا عِبادِي، إنّكُم لن تَبلغوا ضرِّي فتَضرُّوني، ولَن تبلغُوا نفعِي فتنفَعوني)) رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه [1] ، وكما قالَ تعالى: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176].
فالأعمالُ الصَّالحاتُ سَبَبُ كلِّ خَيرٍ في الدّنيَا والآخِرة، وأَعظَمُ الأعمَالِ وأفضلُها أَعمالُ القلوبِ كَالإيمانِ والتوكُّل والخَوفِ والرَّجَاءِ والرَّغبةِ والرَّهبةِ وحُبِّ مَا يحبُّ الله وبُغضِ ما يُبغض الله وتَعلُّق القلبِ باللهِ وَحدَه في جَلبِ كُلِّ نَفع ودفعِ كلِّ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].
وَأَعمَالُ الجوارِحِ الصّالحةُ تابعةٌ لأَعمالِ القلوبِ، كما قال الرّسولُ : ((إنَّما الأعمَالُ بالنّياتِ، وإنما لِكُلِّ امرِئٍ ما نَوَى)) رواه البخاريّ ومسلم من حديث عمرَ رضي الله عنه [2].
والأعمالُ السيِّئة الشِّرِّيرَة سَبَبٌ لكلِّ شرٍّ في الدّنيا والآخِرة، كما قَالَ تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقَالَ تَعَالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وَالعَبدُ مَأمورٌ بالطّاعاتِ وَمَنهِيٌّ عن المحرَّماتِ في جميعِ الأوقات، ولكنَّه يتأكَّد الأَمرُ بالعمَلِ الصَّالح في آخِرِ العُمر وفي آخِرِ ساعةٍ من الأجَل، ويتأكَّد النَّهيُ عن الذّنوبِ في آخرِ العمرِ وفي آخر ساعةٍ من الأجَل؛ لقولِ النبيِّ : ((إنما الأعمالُ بالخَواتِيمِ)) رواه البخَاريّ من حديث سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنه [3].
فمَن وفَّقه الله للعمَلِ الصالحِ في آخر عمرِه وفي آخرِ ساعةٍ من الأجَل فقد كتَب الله له حُسنَ الخاتمة، ومن خذَله الله فَخَتَم ساعَةَ أجلِه بعَمَل شرٍّ وذنبٍ يغضِب الربَّ فقد خُتِمَ له بخاتمةِ سوءٍ والعياذ بالله.
وَقَد حثَّنا الله تعالى وأمَرنا بالحِرصِ على نيلِ الخاتمةِ الحسَنة، فقَالَ تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
والسَّعيُ لحُسنِ الخاتمَةِ غَايَةُ الصّالحينَ وهِمّة العِبادِ المتَّقين ورَجاءُ الأبرارِ الخائفِين، قالَ تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وَقَالَ تعالى في وَصفِ أُولي الأَلبَابِ: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، وَقَالَ تعالى عن التائِبِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين [الأعراف:126]، وعن عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يَقولُ: ((إنّ قلوبَ بني آدَمَ كلَّها بين أصبعَين من أصابعِ الرحمنِ عز وجلّ كقَلبٍ واحد يصرِّفُه حيثُ يشاءُ)) ، ثم قال رسول الله : ((اللّهمّ مصرِّفَ القلوب، صرّف قلوبَنا على طاعتك)) رواه مسلم [4].
فمن وفَّقه الله لحسنِ الخاتمةِ فقَد سعِد سعادةً لا يشقَى بعدها أبدًا، ولا كَربَ عليه بعد ذلكَ التّوفيقِ، ومن خُتِم له بسوءِ خاتمةٍ فقد خسِرَ في دنياه وأخراه.
والصّالحونَ تعظُم عنايَتُهم بالأعمالِ الصالحة السّوابِقِ للخاتمة، كما أنَّهم يجتهِدون في طلبِ التوفيقِ للخاتمةِ الحسنَةِ، فيحسِنون الأعمالَ، ويحسِنون الرجاءَ والظنَّ بالله تَعالى، ويُسيئون الظنَّ بأنفسهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218].
وَمَن صَدَق اللهَ في نيّتِه وعمِل بسنّةِ رَسولِ الله واتَّبعَ هَديَ أصحابِه فقَد جَرَت سنّةُ الله تَعالى أن يختمَ له بخَيرٍ، وأَن يجعَلَ عواقبَ أموره إلى خيرٍ، قَالَ تَعَالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].
وَأَسبَابُ التوفِيقِ إلى حسنِ الخاتمةِ النِّيةُ الصالحةُ والإخلاصُ؛ لأنَّ النيةَ الصالحةَ والإخلاصَ شرطُ الأعمالِ المقبولةِ عند الله.
ومِن أَسبابِ الخَاتمةِ الحَسَنَةِ المحافَظَةُ على الصَّلواتِ جمَاعَةً مَعَ المسلِمِينَ، ففي الحدِيثِ: ((من صلّى البَردَين دَخَل الجنة)) رواه البخاريّ ومسلم من حَديث أبي موسَى رضي الله عنه [5]. والبردان الفجرُ والعصر، ومن صلاَّهما فقَد حافَظ على غَيرهما من بابِ أولى.
ومِن أَسبابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمةِ الإيمانُ والإِصلاحُ في كلِّ شيءٍ، قال تَعَالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [الأنعام:48].
وَمِن أسبابِ توفيق الله لحسنِ الخاتمة تقوَى الله في السّرِّ والعَلَن بامتثالِ أمرِه واجتِنابِ نهيِه والدَّوامِ على ذلك، قَالَ تَعَالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
ومِن أَسبَابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمةِ اجتِنابُ الكبائِرِ وعَظائمِ الذّنوبِ، قال تَعَالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31].
ومِن أَسبَابِ التّوفِيقِ لحسنِ الخاتمَة لزومُ هَديِ النَّبيِّ واتِّبَاعُ طَريقِ المهَاجِرِينَ والأنصارِ والتّابعينَ لهم بإحسانٍ رَضي الله عنهم، قال تَعَالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقالَ تَعَالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100].
ومِن أَسبَابِ التَّوفيقِ لحسنِ الخَاتمَة البُعدُ عن ظُلمِ الناسِ وعدَمُ البغيِ والعدوانِ عليهم في نفسٍ أو مالٍ أو عِرضٍ أو حُقوقٍ مَعنَوِيّة وأَدَبيّة أو مَادِّيّة، قال : ((المسلِمُ من سَلِم المسلمون من لسانِه ويَدِه، والمهاجِر من هجَر ما حرَّم الله)) [6] ، وعن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رَسول الله : ((واتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حِجَابٌ)) رواه البخاريّ [7] ، وفي الحديثِ: ((مَا مِن ذَنبٍ أسرَع من أَن يُعَجِّل الله عقوبتَه من البَغي وقطيعةِ الرَّحم)) [8].
ومِن أسبَابِ التوفيقِ لحسنِ الخاتمةِ الإحسانُ إلى الخلقِ، قال الله تَعَالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
وصِفةُ السَّخاءِ وسماحةُ النَّفسِ مَعَ الإسلامِ سَببٌ للتَّوفيق لحسنِ الخاتمَةِ، قال : ((صَنَائِعُ المعروفِ تقِي مصارعَ السّوء)) [9].
ومِن أسبابِ حُسنِ الخاتمة العافيةُ مِنَ البِدَع، فإنَّ ضررَها كبِير وفسادَها خطير، والبِدعُ هي التي تفسِدُ القلوبَ وتهدِم الدّينَ وتنقُضُ الإسلامَ عُروةً عروةً، قال تَعَالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وَهَؤلاءِ المنعَمُ عَلَيهم مُبرَّؤونَ مِنَ البدَع كلِّها.
ومِن أسبابِ حسنِ الخاتمة الدُّعاءُ بذلك للنَّفسِ، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وفي الحَدِيثِ: ((لا يُنجِي حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، والدّعاء ينفع ممّا نزَلَ ومما لم ينزِل)) [10]. ودُعاء المسلِمِ لأخيه المسلِمِ بحسنِ الخاتمة مُستَجَابٌ، وفي الحديث: ((ما مِن مسلمٍ يدعو لأخيه بالغيبِ إلاَّ قال الملك: آمين، وَلَك بمثله)) [11].
فاسعَوا ـ رحمكم الله ـ إلى تحصيلِ أسبابِ حُسنِ الخاتمة ليوفِّقَكم الله إلى ذَلك، واحذَروا أَسبابَ سوءِ الخاتمة؛ فإنَّ الخاتمةَ السيِّئة هي المصيبةُ العظمى والدَّاهيَة الكبرى والكَسرُ الذي لا ينجَبِر والخُسران المبين والعياذ بالله، فقَد كان السَّلَف الصالح يخافون مِن سوءِ الخاتمَةِ أشدَّ الخَوف، قال البخاريّ في صحيحه: "قال ابنُ أبي ملَيكة: أدركتُ ثلاثين من الصّحابة كلُّهم يخاف النّفاقَ على نفسه" [12] ، وقال ابنُ رجب: "وكان سفيان الثّوريّ يَشتَدّ قلقُه منَ السَّوابِقِ والخَواتم، فكان يبكِي ويقولُ: أخاف أن أكونَ في أمِّ الكتاب شَقيًّا، ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمانَ عند الموت" [13] ، وقال بَعضُ السلَف: "ما أبكَى العيونَ ما أبكاها الكِتابُ السّابق"، وقد قيل: "إنَّ قُلوبَ الأبرارِ معلّقَةٌ بالخواتيم يقولون: بماذا يُختَم لنَا؟ وقلوبُ المقرَّبين معلّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبَق لنا؟"، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقوم طولَ ليله ويقول: "يا ربِّ، قد عَلمتَ ساكنَ الجنة والنار، ففي أيِّ منزلٍ مَالكٌ؟" [14]. وكلام السّلَف في الخوف من سوءِ الخاتمة كثيرٌ.
ومَن وقَف على أخبارِ المحتَضَرين عندَ الموتِ وشاهدَ بَعضًا منهم اشتدَّت رغبةُ المسلم في تحصيلِ أسبابِ حُسن الخاتمة؛ ليَكونَ مع هؤلاءِ الموفَّقين لحسنِ الخاتمةِ، فقد شوهِدَ بعضُهم وهو يقولُ: مَرحَبًا بهذهِ الوُجوهِ التي ليست بوجُوهِ إنسٍ ولا جَانّ، وشوهِد من المحتضَرينَ من يَلهَج بِلا إله إلا الله، ومَن كان آخر كلامِه من الدنيا لا إله إلا الله دَخلَ الجنّة، وشوهِد بعضُهم يتلو القرآنَ، وشوهِدَ بعضُهم يُقَسِّم مسائلَ الفرائِض ويتكلَّم في مسائلِ العلم، وقال بعضهم: لا تخَافُوا عليَّ فقد بُشِّرتُ بالجنّة السَّاعَةَ، قال بعضُ أهل العلم: "الخواتيمُ ميراثُ السّوابق".
فكونوا ـ عبادَ الله ـ مَعَ الموفَّقين، فمَن سلك سبيلَهم حُشِر معهم، ولا تسلُكوا سبُلَ الهالِكين المخذولِين الذين خُتِم لهم بخَاتمةِ سوءٍ والعياذُ بالله، قال عبد العزيز بن أبي رَوّادٍ: "حضَرتُ رجلاً عند الموتِ يلقَّن: لا إلهَ إلا الله، فقال في آخر مَا قَالَ: هُو كافِرٌ بهَا، ومات على ذلك، قالَ: فسألتُ عنه فإذا هو مُدمِنُ خمرٍ، وقيل لآخر عند الموت: قل: لا إلهَ إلا الله، فقال: عشَرةٌ بأحدَ عشَر، وكان مرابيًا، وقيل لآخر: اذكُرِ الله، فقال: رِضا الغلامِ فلان أحبُّ إليَّ مِن رِضا الله، وكان يميل إلى الفاحِشَة، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قائِلةٍ يَومًا وقد تَعِبت: أينَ الطريقُ إلى حمّام منجَابِ؟
وكان خَدَع جَارِيةً تريدُ حمّام منجاب فأدخَلَها داره؛ لأنها تشبِه ذلك الحمّامَ يريد بها الفَاحِشةَ، فهام بها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: سيجارَة سيجارَة؛ لأنّه كان يشرَب الدّخَان.
وأَسبابُ سوء الخاتمة كثيرةٌ، مِنها تركُ الفرائضِ وارتكاب المحرَّمات وتركُ الجُمَع والجماعات، فإنَّ الذنوبَ ربما غلَبت على الإنسانِ واستَولَت علَى قلبِه بحبِّها، فيأتي الموتُ وهو مُصِرّ على المعصية، فيستولي عليهِ الشيطانُ عند الموت وهو في حالةِ ضَعفٍ ودَهشَةٍ وحيرة، فينطِق بما ألِفَه وغَلَب على حالِهِ، فيُختَم له بسوء خاتمةٍ.
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمةِ البِدَعُ التي لم يَشرَعها الرسول ، فالبِدعَة شُؤمٌ وشرٌّ على صَاحِبها، وهي أعظم من الكبائرِ، وفي الحديث عن النبيّ : ((يَرِد عليَّ أناسٌ من أمّتي الحَوضَ أعرِفهم، فتطردُهم الملائكةُ وتقول: إنّك لا تَدرِي ماذا أحدَثوا بَعدَك، فأقول: سُحقًا سحقًا لمن غيّر بعدِي)) [15].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمةِ ظُلمُ الناس والعُدوان عليهِم في الدّمِ أو المالِ والعرض أو الحقوقِ المعنويّة، وظلمُ النفسِ بنوعٍ من أنواع الشِّركِ بالله تَعالى، قال تعالى: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمة الزهدُ في بذلِ المعروف، وعدَمُ نفعِ المسلمين، والزهد في الدعاءِ فلَم يطلُبِ الخير، قال تَعَالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم [التوبة:67]، وَقَالَ تَعَالى: أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمة الرّكونُ إلى الدنيا وشَهَواتها وزُخرفِها، وعَدمُ المبالاة بالآخرة، وتقديمُ محبّتِها على محبّة الآخرةِ، قالَ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة أمراضُ القلوبِ مِنَ الكبرِ والحسَدِ والحِقدِ والغلِّ والعُجبِ واحتقارِ المسلمين والغدرِ والخيانة والمكرِ والخداع والغشّ وبُغضِ ما يحبّ الله وحبِّ ما يبغِض الله تعالى، قال الله تَعالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمةِ عقوقُ الوالدين وقطيعةُ الأرحام.
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة الوصِيّة الظالمةُ المخالِفَة للشَّرع الحنيفِ.
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أقول قولي هَذَا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[2] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (1)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1907).
[3] صحيح البخاري: كتاب القدر (6607).
[4] صحيح مسلم: كتاب القدر (2654).
[5] صحيح البخاري: كتاب الصلاة (574)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (635).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2448)، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الإيمان (19).
[8] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/124) من طريق الحسن عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795). وفي الباب عن عدد من الصحابة منهم: أبو أمامة ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وأم سلمة رضي الله عنهم. انظر: مسند الشهاب (100، 101، 102)، ومجمع الزوائد (3/155، 8/193-194).
[10] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201) من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وشاهد ثان من حديث ابن عمر عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخرى في سند كلٍّ منها مقال.
[11] أخرجه مسلم في الذكر (2732) عن أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه.
[12] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[13] جامع العلوم والحكم (ص57).
[14] أخرجه أحمد في الزهد (ص321)، وانظر: صفة الصفوة (3/285)، وجامع العلوم والحكم (ص57).
[15] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6585) ، ومسلم في الفضائل (2291) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله مُعزِّ من أطاعه واتَّقاه، ومذِلِّ من خالَف أمره وعصاه، أحمد ربّي وأشكرُه على ما أسبغ من نعَمِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، لا إِلهَ سِواه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وَسَيّدنا محمّدًا عَبدُه ورَسُوله اصطَفاه رَبُّه واجتَبَاه، اللّهُمّ صَلّ وسلِّم وبَارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى بلزومِ طاعاته ومجانبةِ محرَّماته؛ تنجُوا من عذابه، وتفوزوا بجنَّاته، قال تَعَالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، وعَن ابنِ مَسعودٍ رَضِي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسول الله : ((والَّذي نفسي بيدِه، إنَّ أَحدَكم ليعمَل بعملِ أهلِ الجنّة حتى ما يكون بينَه وبينها إلا ذِراع، فيسبِق عليه الكِتاب، فيعمل بعمَل أهل النار فيدخُلها، وإنَّ أحدَكم ليَعمَل بعمل أهلِ النّار حتى ما يكون بينَه وبينها إلا ذِراع، فيسبِق عليه الكِتابُ، فيعمَل بعمل أهلِ الجنّة فيدخلها)) رواه البخاريّ ومسلم [1].
فاطلُبُوا ـ رحمَكم الله ـ حُسنَ الخاتمةِ بالمدَاوَمَة على طاعةِ ربّكم والبُعدِ عن مَعصِيَتِه، فما أَعظمَهَا من غَايةٍ، وما أَجَلََّ حُسنَ الخاتمة من مَطلب، فالاستقامة على الدِّين ضامِنةٌ لحسن الخِتام، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
عِبادَ الله، إنّ اللهَ أمرَكم بِأمرٍ بَدَأَ فيه بنفسِه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قَالَ : ((مَن صَلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصَلّوا وسلّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمامِ المرسَلين.
اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب القدر (6594)، صحيح مسلم: كتاب القدر (2643).
(1/4786)
ألم يأن لنا أن نتعظ؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
1/8/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إهلاك الله تعالى لقوم عاد. 2- الاعتبار بهلاك الأمم قبلنا. 3- ذم قسوة القلب. 4- قصة توبة ابن المبارك. 5- حال المسلمين اليوم. 6- قصة توبة الفضيل بن عياض. 7- ضرورة المحاسبة. 8- خطة الإدارة الأمريكية. 9- الحرب على لبنان. 10- الأوضاع في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، يقول الحق جل في علاه: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:25].
نزلت هذه الآية المباركة في عاد، وهؤلاء تكبروا وتجبروا وأفسدوا في الأرض، وقالوا: من أشدّ منا قوة؟! وكانوا ذوي أجسام طوال وخَلق عظيم وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم، فأرسل الله عز وجل إليهم نبيَّه هودا عليه السلام، ودعاهم لعبادة الله تعالى، وطلب منهم الاستغفار والتوبة، ولكنهم كفروا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا كلَّ جبار عنيد.
فماذا كانت النتيجة يا عباد الله؟ لقد أهلكهم الله وأرسل عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات، أرسل عليهم ريحا شديدة البرودة شديدة الصوت والهبوب، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، فلم يبق للمكذّبين ديار، فترى المجرمين فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم باقية؟!
عباد الله، ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في حياتهم والعلماء في خطبهم ومقاماتهم، فكان نبي الله سليمان عليه السلام إذا مر بخراب قال: يا خراب الخربين، أين أهلك الأولون؟! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط؟! أين مشيِّدو القصور وعامروها؟! أين جاعلو العجَب فيها لمن بعدهم؟! تلك بيوتهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟!
عباد الله، ونحن اليوم أمَا آن لنا أن نتعظ ونعتبر؟! أما آن لنا أن نعود إلى الله؟! أما آن لنا أن نزدجر؟! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]. ألم يحن للذين آمنوا أن تتواضع قلوبهم وتلين لذكر الله والقرآن وما فيه من العبر؟!
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفوة لا تجتمعان، فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة.
عباد الله، ذكر ابن مبارك قال: أخبرنا مالك بن أنس قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
عباد الله، وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى، فقد سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده فقال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت العود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق ويقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، قلت: بلى والله، وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي وسرت في الطريق إلى الله.
ونحن اليوم ـ يا عباد الله ـ وقعنا في الفساد، كانت الحرب في لبنان مستعرة ومنا من يعيث في الأرض فسادا، فرق الموسيقى إلى منتصف الليل، المفرقعات تضرب في كل ناحية، البذخ والإسراف والتبذير، المقاهي مفتوحة الأبواب، ألعاب الماكنات للأولاد في كل شارع، موائد الخمر والقمار حدّث ولا حرج. ابتعدنا عن الله، ابتعدنا عن ديننا الإسلامي، فماذ حصل؟ مطارق يضرب بها المسلمون، مناجل حصدت الرقاب، رايات حمر لطخت بدماء الأبرياء من المسلمين. امتلأت أماكن الفساد بالناس، وكأن أهل الفساد في أرضنا وفي لبنان ليسوا من أهل ملتنا، ماذا جرى لكم يا أهلنا؟! ألستم أصحاب أرض الإسراء والمعراج؟! ألستم أحفاد سعد وعكرمة وخالد؟! ألستم من سلالة الفاتحين من أمثال صلاح الدين وعز الدين؟!
عباد الله، لما نمنا وغفلنا ولعبنا وطربنا وشربنا وسهرنا سحبت الأرض من تحت أقدامنا سحبا، وأصبحت معاركنا معارك كلام، معارك سباب وشتائم. تركنا كتاب الله إلى كتب ما أنزل الله بها من سلطان، وتركنا حبيب الله إلى رجال أهل باطل وتزوير، هذا يعبد الدينار والدرهم، وذاك يقدِّس البشر، وهذا يحفظ الميثاق، وبنفس الوقت لا يجيد ولا يحسن قراءة آية واحدة من الكتاب المنزل على سيد الأنبياء والمرسلين.
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن. فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
فأين الذين يعيثون فسادا بالليل؟! أيامكم قليلة، وأعماركم صغيرة، فتوبوا إلى الله، فوالله إن البشر لن يغنوا عنكم من الله شيئا. هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم، لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.
عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين كان يحاسب الولاة والقضاة والوزراء، وأما اليوم فلا خليفة للمسلمين، ومن ثم فلا رقيب ولا حسيب، فلتان أمني في كلّ مكان، القوي يأكل الضعيف، وللأسف منا من يحارب الله، منا من يأكل الربا ويرتكب فاحشة الزنا، فينا من يسرق وينهب ويسلب، منا من يهتك حرمات وأعراض المسلمين. ولكن تذكروا ـ يا عباد الله ـ أن هناك إلَهًا سيحاسب الجميع وهو القائل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. سيحاسب الله الذين أفسدوا العباد وباعوا البلاد، سيحاسب الله الذين دمّروا الأخلاق وقطعوا الأرزاق وخانوا الله ورسوله وجماعة المسلمين. كلّهم سيقف بين يدي الله، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].
عباد الله، كتب الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي وكان النبي قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق، فكتب إليه أبو الدرداء أن هلمَّ إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: (إن الأرض لا تقدِّس أحدا، وإنما يقدّس الرجل عمله الصالح).
صحيح أن أرضنا مباركة وتعيش في رحمة الله وبركته، ولكن تذكروا أن عملكم الصالح وإيمانكم الخالص هو سبيل نجاتكم، هو سبيل خلاصكم وفوزكم في الدنيا والآخرة، فاعملوا ولا تتّكلوا، اعملوا ولا تيأسوا من روح الله، ففرجكم قريب إن شاء الله.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيّها المسلمون، تسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لإحداث فتنة بين المسلمين أنفسهم، ليس على صعيد منطقة الشرق الأوسط، وإنما على الصعيد الدولي، بعد أن فشلت فشلا ذريعًا في إخضاع المسلمين وتحقيق ما يسمَّى الحرية والديمقراطية في العراق وأفغانستان، فبعد العدوان على لبنان وصمود المسلمين أمام آلة الحرب الإسرائيلية المدمرة خرج رئيس أمريكا ليعلن صراحة أن الشرق الأوسط يمرّ بمرحلة مفصليّة بين انتصار الديمقراطية أو ما يسمّى الإرهاب.
ولم يعد خافيا على أحد معرفة أوجه الديمقراطية التي تنشدها أمريكا لشعوب المنطقة، غير أن المتعامين عن الحق والسائرين في الركب الأمريكي ووراء الوعود الكاذبة والسراب الخادع يسوقون الأفكار المسمومة هنا وهناك.
أيها المسلمون، إن الحرب على لبنان لم تنتهِ رغم الانتكاسة والهزيمة التي حلّت بالجيش وقيادته وحكومته، وما وقف إطلاق النار إلا مرحلة لالتقاط الأنفاس، فإسرائيل لن تستسلم بسهولة، وبالمقابل فإن التّكتّلات السياسية والانقسامات الداخلية على الساحة اللبنانية ليست وحدها التي تعمل على إجهاض انتصار المقاومة، ولم يرق لها الانتصار وإعادة الثقة لدى المسلمين بأنفسهم. فالتحركات التي تشهدها المنطقة ـ سيما الدول العربية التي أعلنت تحفظها منذ البداية ـ تنبئ بمخاطر الانقسام، فقد أعلنت هذه الدول أنها ستقدّم مبادرة سلام جديدة لإقناع إسرائيل بقبولها بضغط من أمريكا للحدّ من انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة، وهكذا تتّضح الصورة، والتاريخ يعيد نفسه.
أيها المسلمون، لقد كشفت هذه الحرب زيف الأنظمة العربية القائمة اليوم، وأنها مجرّد آلة في يد أمريكا، والواجب على أمتنا الإسلامية في كلّ مكان أن تعمل لإقامة دولة الإسلام بالوحدة الإسلامية، وإقامة حكم الله في الأرض متمسّكة بالمبادئ الإسلامية الإلهية التي شرعها الله لعباده.
وهنا في أرضنا الفلسطينية فالأوضاع كما ترون من سيّئ إلى أسوأ، دمار وقتلٌ وهدم واستِبداد واعتقالات في كلّ يوم والمسجد الأقصى ينادي المسلمين ولا مجيب، المسجد الأقصى وأهل فلسطين في حالة صعبة، ولكن تذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن اليأس والقنوط ليسا من صفات المسلمين، فنحن والحمد لله أمة مؤمنة بالله تعالى، ونرضى بقضاء الله عز وجل، والصبر هو شعارنا مهما اشتدّت المحن، بإذن الله سنبقى صامدين صابرين متمسكين بعقيدتنا مهما تكالب علينا الأعداء، وتذكروا دائما أن العاقبة للمتقين، وأن الله وعد المؤمنين بنصره، فالنصر آت لا محالة إن شاء الله، وها هي البشائر قد ظهرت، وآيات الله قد بهرت أعين الناظرين.
أيها المسلمون، عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم بالمحافظة عليه، وأفضل وسيلة هو إعماره، وتواجدكم فيه هو السبيل الأقوى للمحافظة عليه، وتذكروا أنه رمز عزكم وكرامتكم ورفعتكم في الأرض، فحافظوا على الأمانة.
(1/4787)
فجر جديد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
8/8/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فائدة الشدائد والأزمات. 2- ثقافة العزة والقوة. 3- مفهوم القوة الشامل. 4- انتصار المبادئ والقيم. 5- قوة قرار الأمة. 6- توارث الكراهية للغرب. 7- شنشنة اتهام الإسلام بالإرهاب. 8- أهمية الوحدة والتحذير من التلاوم وتبادل التهم. 9- أدب الخلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله، وسارعوا إلى مغفرة من ربِّكم وجناتٍ، فلِلَّه أقوامٌ قاموا لربِّهم في الخَلَوات، وحافَظوا الألسُنَ من فضول الكَلِمات، ولم تشغَلهم الشّهواتُ ولا اللّذّات، أعانهم ربهم فأصلَحهم، وأثنى عليهم ومَدَحَهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:16-19]، أرضَوا ربَّهم، فزال نصبُهم، ونالوا نصيبَهم، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:57، 58].
أيّها المسلمون، تُعرَف الأقوامُ في أوقاتِ المصائب والأزمات، وتُصنَع الأمَم بالمحَن والابتِلاءات، والزُّعماءُ يُعرَفون في الشدائِدِ، والحياةُ تُطلَب بالموتِ، ومَا ترَك قومٌ القوّةَ إلا ذلّوا، ولا رَكَنوا إلى طَلَب السّلامةِ إلاّ هانوا، والعظيمُ يخاطِر بعَظِيمَته، ومَن عَركَته المعارِكُ استَقَامَ أمرُه وصَلب عودُه، والأزماتُ والأحداث تجمَع الأمم وتوحِّد الشعوبَ والأقوام.
وإنَّ مِن أعظمِ الدّروسِ والعِبَر في الأَوضاعِ الأَخيرةِ في فِلسطينَ وفي لُبنانَ الشّقيقَتَين ونتائِجِها، إنَّ مِن أعظم ذلك هذا الانتقالَ النّفسيَّ مِن ثقافةِ الهزيمةِ والاستسلامِ وعُقدَةِ الضّعفِ والعَجز إلى الوقوف بقوّة أمام مشاريعِ الهيمَنَة والغَطرَسة والنّيل من كرامةِ الأمة. عِبرٌ ونتَائِجُ ومراجعاتٌ تبيِّن للأمّةِ الموقِعَ الصّحيح من القوَّةِ ومِن السّلام، بل تؤكِّد أنَّ الدّعوةَ إلى السَّلام وقَبول السلام لا تتعارض مع القوة وأخذِ الأُهبةِ والاستعداد.
للمتأمِّل أن يتساءَل: أين ذهبَت مسيرةُ السّلام وثَقافةُ السّلام وخارِطَةُ الطَّريق واتِّفاقاتٌ أُبرِمَت في مَدرِيد وغَيرها؟! هَل كانَت مجرَّدَ شِعاراتٍ استَخدَمها الخَصمُ لإخفَاء طموحاتٍ ظالمة؟!
دُروس كبرى بل مبَشِّرات لفجرٍ جديدٍ لا شَرق أوسَط جَديد، يترسَّخ فيه مفهومُ القوَّة بمعناهَا الشَّامِل؛ قوَّةُ الدين والإيمانِ، وقوَّةُ العِلمِ والفِكر، وقوّة الإرادةِ والتَّصميمِ والعَزم، وقوّة السلاح والعَسكَر والعُدّة، قوّةُ السياسة، وقوّةُ المفاوضات، وقوّة القناعة التامّة بالحقوق الكامِلة، وقوّة الردع والإباء، ((والمؤمن القويّ خيرٌ وأحَبّ إلى الله مِنَ المؤمِن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ)) وصدَق نبيُّنا محمَّد.
دُروسٌ وبشائِرُ تؤكِّد أنَّ القوّةَ ليسَت نقيضًا للسّلام، بل هي جزءٌ مِنَ السّلام؛ سلامِ القوّةِ والشّجاعة. القُوّةُ رَديفَةُ السّلام ودَاعِمَتُه وحَاميَتُه، قوّةٌ وسَلامٌ مِن أجلِ أن لاَ نخسَرَ الحَربَ ولا السَّلامَ، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:59].
عِبرٌ ومُستَفَاداتٌ ووَضعٌ جَديدٌ أكَّد حيادِيَّةَ السّلاح والتّقَنِيات، النصرُ بإذنِ الله للحق والإيمان وقُدرات الرّجال، أما السلاح والعتاد فسَبَب من الأسباب. وضعٌ متغيِّر يؤكِّد أنّ القوّةَ المبنيَّةَ على الظلمِ والعُدوان مَآلُها الهزيمةُ مهما طالَ الزّمَن، قوّةُ الظالم قوّةٌ مادّيّة بحتَة، تدمِّر الماديات ولا تدمِّر الإيمان ولا هِمَم الرجال ولا حقوقَ الأمَم. قوّةُ الظالم محدودةٌ ضَعيفَة أمامَ إيمانِ صاحِبِ الحقِّ وثَباتِه وإرادته وصَبرِه وتَصميمِه، صبرٌ ومصابرة يزرَع الثقةَ ولا يسمح بالهزائمِ النفسيّة.
دروسٌ وعِبَر ومتغيِّراتٌ ومراجَعات أظهَرَت أنَّ الخصمَ لم يكن قوِيًّا بذاته، بل لِتقاعُسِ صاحبِ الحقِّ واستِكانتِه، ولا يمكن لأمّةٍ أو شَعب أن يبقى دائمًا ضعيفًا مُستكينُا مُهانًا.
مبَشِّرات ومراجعاتٌ تؤكِّد أنَّ قرار الأمّةِ وقرارَ القيادات أقوَى مِن أيّ قرارٍ دولي مجحِف، قرارُ الأمّة هو الأعلى بإذنِ الله ما دام عادِلاً. القرارُ الدَّوليّ نابعٌ مِن توازُن القوى، وَحينَما تَكون الأمَّة قَوِيّة في اجتِمَاعِها قوِيَّةً في إِرادَتها قوِيّةً في ترتِيبِها وتخطِيطِها، وقَبلَ ذلك وبعدَه قوِيَّةً في إيمانها وحقّها، حينئذ ينعكس هذا التوازن وتعدِل الكفّة لتسير في جانبِ الحقّ والعدل.
فجرٌ جديد لأنَّ قياداتِ الأمّة وولاةَ أمورِها كلَّها كانَت مع لبنان ومَع فِلسطين، واجتمعت في لُبنان مِن أجل القضيّة، اجتمعت وتضامنت وأثَّرَت في القرارِ الدوليّ؛ حتى جاء فيه من الاعتدالِ ما يرسُم الطريق لهذا الفجرِ الجديد.
فجرٌ جديدٌ يدرك فيه قادةُ العرب والمسلمين أنهم يملِكون من أسبابِ التضامُن والتعاون ومقدَّرات السياسةِ والاقتصاد والإعلامِ ما يحقّق تضامنَهم ويدعَم مطالبهم. على الأمّةِ أن لا تغيِّب تارِيخَها وقوّتها وجهادَها ووقوفَها أمام أعدائها والتّأكيد أنَّ الحروبَ والنِّزاعات تكونُ في نتائِجها سجالاً ودُوَلا، والعاقبةُ لأهلِ الحقّ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
أيّها المسلمون، مع هذه الدّروسِ والعِبرِ والمراجَعاتِ تستَحضِر الأمّة مقوّمَاتها في إيمانها وعناصرَ فوزِها وانتصارِها.
فَجرٌ جديد يُؤكِّد أن الزّمَنَ مهما طال لن يُنسِيَ أصحابَ الحقِّ حقَّهم، وأنَّ الأجيال تتوارَثُ قوّتَها وثباتَها وإصرارَها. ويأسَف المتأمِّل أن يقولَ: وتتوارَث الأجيالُ أيضًا الكَراهِيةَ إذا كانَت بَواعِثُها قائِمَةً، فكَم ـ يَا تُرى ـ مرّ علَى قضيّةِ المسلِمين الكُبرى قضيّةِ فلسطين وبيتِ المقدس؟! فها هي الأجيالُ تِلوَ الأجيالِ تتواصَى في حقِّها وتَتوارَث الصبرَ والإقدامَ، لم يُنسها تعاقبُ الزّمن ولا مرورُ الأيّام ولا مخطّطاتُ الأعداء، لم ينسها حقها وتمسّكَها بقضيّتِها وتصميمَها وحماسها نحو قضيّتِها، فهي لا تقبَل المساوَمَةَ عليها، ولا يمكِن أن يكونَ مجرَّدُ مُضِيّ الزّمن مُنسِيًا حقَّها أو مُضعِفًا مَطَالِبَها أو موهِنًا عزمَها. كيف تنسى الأجيالُ وعوامِلُ الكُره وبواعِثُ البَغضاء تتكرَّر؛ مِن مجازر وقتلٍ واغتِيالات ومصادَرَات لكلِّ الحقوق، وكلُّ جريمةٍ يأتي بها العدوّ هي أكبَر مِن أختِها؛ مِن مجازِر دِير ياسين وحَريقِ المسجدِ الأقصى وصَبرَا وشتِلا وحريقِ المسجدِ الإبراهيميّ وقانا ثمّ قانا، مع كلّ صنوف التقتيل والاغتيال والاختِطاف، بل إنَّ من المؤكَّد أنّ تعاقُب الزمن ليس من مصلحة الأعداء والخصوم والظالمين والمغتَصبين.
فجرٌ جَديد لا تَسمَح فيه الأمّةُ أن تكونَ مُضغَةً في الأفواهِ. لِيُطلقوا ما شاؤوا من ألفاظٍ وأسماء ومصطلحات فيها ظلم واحتقارٌ وتشويه؛ مِن إرهابٍ وفاشيّة وأصولية وغيرها. إنَّ الذي تأمَل الأمّةُ أن لا يَكونَ مؤشِّر العُنفِ في تَصاعُدٍ، وأن لا يكونَ شِعار الحَربِ على الإرهابِ وفَّر أجواءً واسِعَة لتوسيعِ نِطاق الإرهابِ وَقَبوله وانتشاره والرضا عن أفعالِ أصحابه، بل إنَّ ما في المنطقة من عنف وإرهاب هو نتاجٌ للسّياسات الخاطئة من بعض القوَى الكبرى التي تنظُر إلى الإسلامِ نَظرةً خاطِئَة بِقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ، وتصمّم خُططًا وبرامج مَغلوطة تقود إلى تعميقِ الكراهِيَة والظّلم وزيادةِ العنف، بل إنها سِياساتٌ وبَرامجُ تقدِّم متفَجِّراتٍ للمتطرِّفينَ والإرهابيِّين. إنَّ تكريسَ الرّبطِ بين الممارَسات الخاطِئَة من بعضِ المسلمين وبين الإرهابِ أو ما سمّوه بالفاشية وغيرها مِن شأنِه أن يؤصِّل العَدَاوةَ وينشُر الكراهِيَة ويوسِّع الفجوَةَ. وإذا كَان مَن قام بعملٍ إرهابيّ أو بعملِ عنفٍ يوصَف دينُه وأهلُه بأنهم فاشِيون فكيف الحالُ مع الصهايِنَةِ المحتلِّين وما يقتَرِفونَه من قتلٍ وتدميرٍ وإفسادٍ واعتقالات للصغير والكبير والوزراء والنُّوَّاب ؟! وكيفَ الحالُ مع السّجونِ والمعتقلات المعلَن منها والسريّ في مواقع من العالم؟! وكيف الحال مع إخوانِنا في العراقِ وفي أفغانستان؟!
وبعد: فنحن بإذنِ الله في إرهاصاتِ فجرٍ جديد يزرَع في الأمّة الثّقةَ بنفسِها بعد ربِّها، وتعتَمِد على وحدَتها وأبنائِها وسِياسَتِها الحكيمة، لا على المنظَّمات الدّوليّة والقرَاراتِ الدوليّة فحسب.
فجرٌ جديد تؤكِّد فيه أمّةُ العرب والمسلمين للعالم احترامَها واحترامَ دينِها وأمنِها ودمائها وحفظ حقوقها وعدالة قضيتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبِهديِ محمّد ، وأقول قولِي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ وخَطيئة، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عمَّنا بلطفِه ورَحمته، أحمده سبحانَه وأشكره وأسأله المزيدَ من فضلِه وكرَمه ونعمته، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له في ربوبيّته وألوهِيَته، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله اصطفاه من خليقتِه، صلى الله وسلّم وبارَكَ عليه، وعلى أَصحابِه وعِترتِه، والتّابعينَ ومَن تبِعَهم بإحسانٍ فاستقَامَ على شريعته، وسلَّم تسليما كثيرا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، إنَّ مكاسِبَ الأمّةِ واستِعادَةَ حقوقِها والحفاظَ على انتصاراتها لا يمكن إلاّ بوَحدتها وتضامُنها، فلا مساومَةَ على الدين ولا على الدِّيار ولا على القِيَم؛ مِن أجل هذا فيجِب الابتعادُ عَن مسالك الاتهام والتخوين وإلقاءِ التبِعات والمسؤوليات على طرَفٍ دون طرف، ناهيكم إذا كانَ تُغذّي ذلك أَجهزةُ إعلامٍ رسميّة وغير رسميّة. إنَّ ذلك كلَّه إضاعةٌ للوقت وإلهابٌ للمشاعر غير بنّاء وزرعٌ لبذور الفرقة والفتنة وإجهاضٌ للنجاحات وصَرفٌ عن مواطنِ القوّةِ في الأمة. مِنَ المؤسفِ أنَّ الاتهامَ بالعمالةِ والخيانةِ مألوفٌ وجاهز منذُ بداية نكبةِ فلسطين العَزيزَة، يَتبادَلها أهلُ لسياسَة وكتَّابُها كلّما حلَّت أزمةٌ أو وقعَت كارثة.
يا قادةَ الأمّة، ويا ولاةَ أمورِها، يعلَم الله والمؤمنون والعقلاءُ أنَّ النصرَ لأيّ أمّة هو نصرٌ لجميعِها، يفرَح به الجميع، ويجني ثمارَه الجميعُ، والهَزيمةُ هِي هزيمةٌ للجَميع، يكتَوِي بآثارِها الجميع. ولا يفرَح بالخلاف إلاّ الأعداءُ، بل هذا النوعُ من الخِلاف هو الهزيمةُ بعَينها، لا يُغني معه نَصرٌ، بل لا يكون معه نصر. وكم هو جميلٌ تأمُّل قولِ الله عزّ وجلّ مخاطِبًا نبيَّه محمَّدًا والصّحبَ الكرام في غزوةِ أحُد وقد حَصَل فيها ما حصَل: وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين [آل عمران:152]. أليس من المؤمَّل بل من المتعيِّنِ والواجب أن تأخذَ الأمّةُ دروسَها وعِبَرها من تأريخها ومن واقعها؟!
أيّها القادةُ، يا ولاةَ الأمور، لا تدَعوا فرصةً للشامِتِين ليقولوا: حين تنتهي الحروب العسكريَّةُ تبدأ الحروب الكلامية، ويبدأ تزييف الوعي والتخوين والعمالة والتكفير السياسي في ألفاظ وعبارات من قواميس ومعاجم لا تنتهي. المسؤولية يتحملها الجميع بنصرها وهزيمتها، بإيجابياتها وسلبياتها وكلِّ استحقاقاتها.
أيّها القادة، يا ولاة الأمور، وإنَّ وحدة الموقف العربي والإسلاميّ من العدوان الإسرائيلي على إخواننا في فلسطين وفي لبنانَ بل في كلِّ قضايا الأمة في العراق وفي كشمير وفي كل مكان، وَحدةَ الموقف العربي والإسلاميّ ليست محلَّ شكّ أو تشكيك أو مُزايدة، وكلُّ القادة المخلصين في الأمّة الرؤيةُ عندهم واضحة والأولَويّات عندهم جلِيّة. غيرَ أنَّ الاختلافَ في الرأي أو التفسير أو التحليل أمرٌ اجتهادي، وتقديرُ الأمور في الأحداث والوقائع يخضَع لعوامل كثيرةٍ يصيب فيها المرء ويخطئ، لكن لا يجوز أبدًا أن تكونَ محلاًّ للتشكيك في الإخلاص والمصداقية للأمة وقضاياها والحرص على تحقيق هدفٍ واحد هو تحريرُ الأرض وزوال الاحتلال وحمايةُ الدار والحفاظ على أرواح الناس وممتلَكَاتهم وأرواحهم ومقدَّرات الأمة وثرواتها والتطلّع المخلِص إلى قوّتها وعزّتها ورِفعَة دينها. كما أنَّ الاختلافَ في الرأيِ والتحليل وتقديرِ بعض الأمور والأحداث لا يعني البتَّةَ الوقوف في جانب خصومِ الأمّة أو خُذلان قادتها ورجالاتها، معاذَ الله، فهذا ما لا يجوز تصوّرُه أو التفكير فيه، فحينما يختلف الأخُ مع أخيه في رأي أو فِكرة أو موقف لا يؤثِّر هذا على الأخوّة وثباتها، فضلا عن أن يكون تنكّرًا لها. وكم هو جميلٌ للأمّة في قياداتها وساسَتِها وأهلِ الرأي فيها أن تدرِكَ أن الخلافَ في الرأيِ لا يمكن أن يكونَ مدعاةً للاتِّهام أو التخوِينِ أو التّشكيك في المواقفِ والإخلاص للقضايَا والمصداقيّة في الدّفاع عنها.
وبعد: أيّها المسلمون، فإنَّ الأمة بإذن الله بين يدَي فجرٍ جديد يتأبّى على الخصوم، بل يكون شوكةً وغصَّة في حلوقِ المتكبِّرين والمتجبِّرين والظَّلَمَة وسفَّاكِي الدماء ومنتهِكِي الحقوقِ.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوا الله جميعًا، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
ألا وصلّوا وسلّموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمَرَكم بذلك المولى جلّ في علاه فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد النبي الأميّ المصطفى الهادي الأمين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4788)
بين الخوف والرجاء والمحبّة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
8/8/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أعمال القلوب. 2- فضل الخوف والرجاء. 3- الأمر بالخوف من الله تعالى. 4- حقيقة الخوف من الله تعالى. 5- ثواب الخائفين من الله تعالى. 6- أحوال السلف في الخوف من الله تعالى. 7- الخوف المحمود والخوف المذموم. 8- حقيقة الرجاء وبيان شرطه. 9- عبادة الله بالحب والخوف والرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد، فاتَّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5].
عبادَ الله، إنّ أعمَالَ القلوبِ أعظمُ شيءٍ وأكبَر شيء، فثوابها أعظَم الثّواب، وعِقابها أعظَم العقاب، وأعمالُ الجوارحِ تابعةٌ لأعمالِ القلوبِ ومبنيَّةٌ عليها، ولهذَا قيل: القلبُ ملِكُ الأعضاء، وبقيّةُ الأعضاء جنودُه.
عن أنسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ قال: ((لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه)) رواه أحمد [1]. ومعنى استقامةِ القلبِ تَوحِيدُه للهِ تَعَالى وتَعظِيمُه ومحبَّةُ الله وخوفُه ورَجاؤه ومحبَّة طاعتِه وبُغض معصيتِه.
ورَوَى مسلم من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله لا ينظُر إلى صورِكم وأموالِكم، ولكن ينظُر إلى قلوبكم وأعمَالكم)) [2] ، وقال الحسن لرجلٍ: "داوِ قلبَك، فإنّ حاجة الله إلى العباد صَلاحُ قلوبهم" [3].
وإنَّ من أعمالِ القلوبِ التي تبعَث عَلَى الأعمالِ الصَّالحةِ وترغِّب في الدارِ الآخرة وتزجُر عن الأعمالِ السيئة وتزهِّد في الدّنيا وتكبَح جماحَ النّفس العاتية الخوفَ والرَّجاء.
فالخوفُ من الله تعالى سَائقٌ للقلبِ إلى فعل كلِّ خير، وحاجزٌ له عن كلّ شيء، والرَّجاء قائدٌ للعبد إلى مرضاةِ الله وثوابِه، وباعِث للهِمَم إلى جَليلِ الأعمال، وصَارفٌ له عن قبيح الفعال.
والخوفُ من الله مانعٌ للنَّفس عن شهواتها، وزاجِرٌ لها عن غيِّها، ودَافِع لها إلى ما فيهِ صَلاحُها وفلاحها. والخوفُ من الله شعبةٌ من شُعَب التوحيد وأصلٌ من أصوله، يجِب أن يكونَ لربِّ العالمين، وصَرفُ الخوفِ لغير الله شُعبَةٌ مِنَ شعَب الشِّرك ونَوعٌ من أنواعه.
وقَد أمَر الله تعالى بالخوف منه عزّ وجلّ، ونهى عن الخوف مِن غيره، فقال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقَالَ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [المائدة:44]، وَقَالَ تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وعن أنس رضي الله عنه قال: خطبَنا رسول الله فقال: ((لو تعلمون ما أعلمُ لضحِكتم قليلاً ولبكَيتم كثيرًا)) ، فغطَّى أصحابُ رسولِ الله وجوهَهم ولَهُم خَنينٌ. رواه البخاري ومسلم [4]. أي: ارتَفَعَ بُكاؤُهم بصوتٍ يخرُجُ مِنَ الأنفِ.
والخوفُ يُراد به انزِعاجُ القلب واضطرابُه وتوقُّعه عُقوبةَ الله تعالى على فعلِ محرَّم أو تَرك واجب أو التقصيرِ في مستحبّ، والإشفاقُ أن لا يقبلَ الله العملَ الصالح، فتنزجِر النفسُ عن المحرّمات، وتسارِع إلى الخيرات.
والخشيةُ والوجَل والرَّهبَة والهيبَة أَلفاظٌ متقارِبَةُ المعاني، وليسَت مرادِفةً للخوفِ مِن كلّ وجه، بل الخشيةُ أخصُّ من الخوف، فالخشيةُ خوفٌ من الله مَعَ عِلمٍ بصفاتِه جلّ وعلا كمَا قَالَ تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وفي الصَّحيح أنّ النبيَّ قال: ((أمَا إني أخشاكُم لله وأتقاكم له)) [5]. والوَجَلُ رَجَفَان القَلبِ وانصداعُه لذكرِ مَن يخاف سُلطانَه وعقوبته. والرَّهبةُ الهرَب من المكروهِ. والهيبةُ خوفٌ يقارِنُه تعظيمٌ وإجلال. قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى: "فالخوفُ لعامّة المؤمنين، والخشيةُ للعلماء العارِفين ومَن وافَقَهم، والهيبةُ للمحِبّين، والإجلالُ للمقرَّبين، وعلى قدرِ العلم والمعرفَةِ يكون الخوفُ والخشية من الله تعالى" [6].
وقد وعَدَ الله من خافَ منه فحَجَزه خوفُه عن الشهوات وساقَه إلى الطاعاتِ وعدَه أفضلَ أنواعِ الثواب، فقال تَعَالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَى أَفْنَانٍ [الرحمن:46-48]، والأفنانُ هي الأغصان الحسَنَة النَّضِرة، قال عطاء: "كلّ غُصنٍ يجمَع فنونًا من الفاكهة" [7] ، وقال تَعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطّور:25-28]، فأَخبرَ الله أنَّ مَن خافه نجّاه من المكروهاتِ وكفاه ومَنَّ عليهِ بحُسن العاقِبَة.
وروى ابن أبي حاتم بسنَده عن عبد العزيز ـ يعني ابن أبي روّاد ـ قال: بلغني أنّ رسول الله تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وَعِنده بعضُ أصحابه وفيهم شيخٌ، فقال الشيخ: يا رَسولَ الله، حجارةُ جهنّم كحجارةِ الدّنيا؟ فقالَ النبيّ : ((والذي نفسي بيده، لصخرةٌ من صخرِ جهنّم أعظمُ من جبال الدّنيا كلِّها)) ، قال: فوقع الشيخ مغشيًّا عليه، فوضع النبيّ يدَه على فؤادِه فإذا هو حَيّ، فناداه فقال: ((يا شيخُ، قل: لا إله إلا الله)) ، فقالها، فبشَّرَه النبيّ بالجنّة، فقال بعضُ أصحابه: يا رسول الله، أمِن بينِنا؟ قال: ((نعم، يقول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14] )) [8] ، يعني في تلك الساعةِ، وإلاّ فإنَّ الصحابة موعودُون بالجنّة.
ولقد كان السَّلَفُ الصّالح يغلب عليهم الخوفُ من الله، ويحسِنون العمَلَ، ويرجونَ رحمةَ الله عزّ وجل، ولذلك صلحَت حالهم، وطابَ مآلهم، وزَكَت أعمَالهم، فقد كانَ عمَر رضي الله عنه يَعسّ ليلاً، فسمِع رجلاً يقرأ سورَة الطّور، فنزل عن حمارِه واستنَد إلى حائطٍ ومرِض شهرًا يعودونه لا يَدرون ما مرضُه [9].
وقَال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وقد سَلّم من صلاة الفجر، وقد علاه كآبةٌ وهو يقلّب يدَه: لقد رأيتُ أصحابَ محمّد فلم أر اليومَ شيئًا يُشبِههم، لقد كانوا يُصبِحون شُعثًا صُفرًا غُبرًا، بين أَعيُنهم أمثالُ رُكَبِ المعزى، قد باتوا لله سجّدًا وقيامًا، يتلون كتابَ الله، يراوِحون بين جِباهِهم وأقدامهم، فإذا أصبَحوا ذكروا الله، فمَادُوا كما يميد الشَّجرُ في يومِ الرّيح، وهملت أعينهم بالدّموع حتى تبلّ ثيابهم [10]. ومَرِض سفيان الثوري من الخوف [11]. والأخبار في هذا تطول عنهم رَضِي الله عنهم.
والخوفُ المحمودُ هو الذي يحُثّ على العمل الصالح ويمنَع من المحرَّمات، فإذا زَادَ الخوفُ عن القدرِ المحمود صار يأسًا وقنوطًا من رَحمةِ الله، وذلك من الكبائر العظيمة. قال ابنُ رجب رحمه الله: "والقدرُ الواجِب من الخوفِ ما حمل على أداءِ الفَرَائض واجتناب المحارِم، فإن زادَ على ذلك بحيثُ صار باعثًا للنّفوس على التشمير في نوافلِ الطّاعات والانكِفاف عن دقائق المكروهاتِ والتبسُّط في فضولِ المباحاتِ كان ذلك فَضلاً محمودًا، فإن تزايَدَ على ذلك بأن أورثَ مرضًا أو موتًا أو همًّا لازِمًا بحيث يقطَع عن السّعي لم يكن محمودًا" [12]. وقال أبو حفص: "الخوفُ سوطُ الله يقوِّم بِه الشّاردين عن بابه" [13] ، وقال: "الخوفُ سراجٌ في القلب" [14] ، وقال أبو سليمان: "ما فارَق الخَوفُ قلبًا إلا خَرِب" [15].
فالمسلِم بين مخافتين: أمر مَضَى لا يدرِي ما اللهُ صانعٌ فيه، وأَمر يأتي لا يدري ما الله قاضٍ فيه.
وأمّا الرجاءُ فهو الطّمَع في ثوابِ الله على العمل الصالحِ، فشرطُ الرجاء تقديمُ العملِ الحسَن، والكفُّ عن المحرّمات أو التوبةُ منها، وأمّا تركُ الواجباتِ واتباع الشهوات والتمني على اللهِ ورَجاؤه فذلك يكون أمنًا من مكرِ الله لا رَجاءً، وقد قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وقد بيّن الله تَعالى أنّ الرجاءَ لا يكون إلاّ بعد تقديم العملِ الصالح، ولا يكون بِدونِه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
والرَّجَاءُ عبادَةٌ لاَ تُصرَف إلاّ لله تعالى، فمَن علَّق رجاءَه بغير الله فقد أشرَك بربّه، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
والرَّجاءُ وَسيلةُ قُربى إلى اللهِ تَعالى، فقد جاء في الحديث عن الله تبارك وتعالى: ((أنا عند ظَنِّ عبدي بي، وأنَا معه إذا ذكرني)) [16].
والوَاجبُ الجمعُ بين الخوفِ والرّجاء، وأكملُ أحوالِ العبد في عبادتِه لربّه العبادةُ بالمحبّة لله تعالى مع اعتدالِ الخوفِ والرجاء، وهذه حالُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلامُ والمؤمِنين الذين هُم عَلَى طريقَتِهم، قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء:90]، وقَالَ تَعَالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
فإذا عَلِم المسلِمُ شمولَ رَحمةِ الله وعَظيمَ كرَمِه وتجاوزَه عن الذنوب العِظام وسعةَ جنّته وجَزيلَ ثوابه انبسطَت نفسُه واستَرسَلت في الرّجاء والطمَع فيما عند الله من الخير العظيم، وإذَا علِم عظيمَ عِقاب الله وشِدّةَ بطشه وأَخذه وعَسيرَ حسابِه وأهوالَ القيامةِ وفظاعةَ النّار وأنواع العَذاب في النار كفَّت نفسُه وانقمَعت وحذِرت وخافت، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله قال: ((لو يَعلمُ المؤمِنُ ما عند الله منَ العقوبةِ ما طَمع بجنّته أحد، ولو يعلَم الكافرُ ما عند الله من الرحمةِ ما قنط من جنَّتهِ)) رواه مسلم [17].
وقد جمع الله بين المغفرةِ والعذابِ كثيرًا فقال تَعَالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، ونَقَلَ الغَزَاليّ رَحمه الله عن مكحول الدّمشقيّ قال: "من عبدَ الله بالخوفِ وَحدَه فهو حَرورِيّ ـ أي: خارِجيّ ـ، ومَن عَبَدَه بالرّجاء فهو مُرجئ، ومَن عبده بالمحبّة فهو زِنديق، ومن عبَد الله بالخوفِ والرّجاء والمحبّة فهو موحِّد سنيّ" [18].
وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "القَلبُ في سَيره إلى الله عزّ وجلّ بمنزلةِ الطائر، فالمحبّة رأسُه، والخَوف والرَّجاء جناحاه، فمَتى سلِم الرأسُ والجناحان فالطائرُ جيِّد الطَيَران، ومتى قُطِع الرأس ماتَ الطائر، ومتى فُقِد الجناحان فهو عُرضَة لكلّ صائدٍ كاسر. ولكنّ السلفَ استَحبّوا أن يُقوَّى في الصِّحّة جناحُ الخوفِ على جناحِ الرجَاء، وعِند الخروجِ مِنَ الدّنيا يُقوَّى جناحُ الرجاء على جناحِ الخوف، فالمحَبة هي المركَب، والرّجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصِل بمَنِّه وكرمِه" [19].
قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49، 50]
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (3/198)، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في الصمت (9)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (442)، والقضاعي في مسند الشهاب (887)، قال الهيثمي في المجمع (1/53): "في إسناده علي بن مسعدة، وثقه جماعة وضعفه آخرون"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2841).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (2564).
[3] رواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (240)، وانظر: جامع العلوم والحكم (ص75).
[4] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4621)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2359).
[5] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (5063) عن أنس رضي الله عنه.
[6] مدارج السالكين (1/513).
[7] انظر: تفسير ابن كثير (4/278).
[8] عزاه ابن كثير في تفسيره (4/392) لابن أبي حاتم وقال: "هذا حديث مرسل غريب".
[9] انظر: التخويف من النار (ص30) نحوه.
[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/76)، والخطيب البغدادي في الموضح (2/330).
[11] حلية الأولياء (7/14، 60)، شعب الإيمان (949، 950، 951، 952، 954، 955، 956)، وانظر: التخويف من النار (ص28).
[12] التخويف من النار (ص19-20).
[13] انظر: مدارج السالكين (1/513).
[14] انظر: مدارج السالكين (1/513).
[15] انظر: إحياء علوم الدين (4/162)، ومدارج السالكين (1/513).
[16] أخرجه البخاري في التوحيد (7405، 7505)، ومسلم في الذكر (2675).
[17] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2755).
[18] إحياء علوم الدين (4/166).
[19] مدارج السالكين (1/517).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ذِي الجلالِ والإكرام والعِزّة التي لا ترام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له عزيزٌ الانتقام، وأشهد أنّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الكرام.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وارجوا ثوابَه، واخشَوا عقابَه، واسمَعوا قولَ الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].
ورَوَى البخارِيّ ومسلم من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنّ أَهونَ أهل النّار عذابًا يومَ القيامةِ لرجلٌ يوضَع في أخمصِ قدمَيه جمرتان، يَغلي منهما دماغُه، ما يَرَى أنَّ أحدًا أشدّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا)) [1].
ورَوى مسلم من حديث المغيرةِ بن شعبة رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ قَالَ: ((سأَلَ موسَى رَبَّه: ما أَدنى أهلِ الجنّة منزلةً؟ قال الله تعالى: هو رجلٌ يجيء بعدما أُدخِل أهلُ الجنّة الجنّةَ، فيقال له: ادخُلِ الجنّةَ، فيقول: أي ربِّ، كيفَ وقد نزلَ الناس مَنازلَهم وأخذوا أَخذاتِهم؟! فيقال له: أتَرضَى أن يكونَ لك مثلُ مُلكِ مَلِكٍ من ملوكِ الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول الله تعالى: لَكَ ذَلِك وَمِثلُه ومِثله ومثلُه ومِثلُه، فيقولُ في الخامسةِ: رضيتُ ربّ، فيَقول: هذا لَك وعشرةُ أمثالِه، ولك ما اشتَهَت نفسُك ولذّت عينُك، فيقول: رضيتُ ربّ)) [2].
فالخوفُ مِن عذابِ الله والرجاءُ في ثوابه وفي هذا العصرِ الذي غلبَت فيه القسوةُ والغفلة وحبّ الدنيا على القلوب وتجرّأ أكثَر العبادِ على الآثام والذّنوب يُقوَّى جناحُ الخوفِ لتستقيمَ النفوسُ وتزكوَ القلوب، وعند الانقطاع من الدنيا يُغلَّب الرجَاء لقولِه : ((لا يمُت أحدُكم إلاّ وهو يحسن الظنَّ بربِّه)) [3].
فالخوفُ من الله يقتضِي القيامَ بحقوقِ الله تعالى، ويبعِد المسلمَ عن التقصيرِ فيها، ويحجز العبدَ عن ظلم العباد والعدوان علَيهم، ويدفعه إلى أداءِ الحقوق لأصحابها وعَدم تضييعها والتهاون بها، ويمنع المسلمَ من الانسياقِ وراءَ الشّهوات والمحرّمات، ويجعله على حذرٍ من الدّنيا وفتنتِها وعَلى خوفٍ منَ الوقوع في الشّهوات وعلى شوقٍ إلى الآخرة ونعيمها.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6561، 6562)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (213).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (189).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2877) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
(1/4789)
سلاح شر لاقتلاع الإيمان وزرع النفاق
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
جمال بن عبد الله الزهراني
تبوك
جامع الأمير فهد بن سلطان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سلاح هدام. 2- أصناف الناس تجاه الغناء. 3- مفاسد الغناء وأضراره. 4- أدلة تحريم الغناء. 5- ظاهرة المجاهرة بالغناء. 6- الإشادة بقرار خادم الحرمين بإيقاف المهرجانات الغنائية.
_________
الخطبة الأولى
_________
حديثنا معكم ـ إخوة الإيمان ـ اليوم عن سلاح من الأسلحة الهدامة، يستخدمه شرُّ أعداء المسلمين، يَكيدون به لهذا الدين وأهلهِ؛ ليخرجوهم عن دينهم أو يقتلوا فيهم دينهم الذي ارتضاه الله لهم. إنه سلاح لقتل الإيمان وإحلال النفاق محله، إنه سلاح استعمله اليهود والنصارى والمشركون ضدّ أمتنا، ومن قبلهم استعمله الشيطان لإغواء بني آدم؛ لأنه صوته الذي يستفزّ به الناس، ولأنه مزماره الذي يهلكهم به، قال تعالى متوعّدا إياه: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:63، 64].
قال مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس وإمام المفسرين: "إن صوت الشيطان هو الغناء". وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمَّا دخل والجاريتان الصغيرتان تغنيان عندها، فقال: أمزمار شيطان في بيت رسول الله ؟!
وأما غزو اليهود بهذا السلاح فإنهم يدعون إلى الغناء بأقوالهم وبأفعالهم وبأموالهم؛ لعلمهم ويقينهم أنه سبب رئيس في انحراف المسلمين، فأنشؤوا القنوات والإذاعات الخاصة بالغناء لإفساد المسلمين، شبابا وشيبا، رجالا ونساءً.
وأمّا عن علم النصارى بدَور الغناء في إفساد عقول المسلمين فهو ما تأكده تقارير كافة منظمات التنصير ضمن خططهم في تدمير الشعوب المسلمة، وكان لعضُدِ الدولة القاضي أبي بكر الباقلاني موقف نحو هذا حين قدم إلى ملك الروم، فأراد الملك إذلالَه بالركوع له، فأمر بجعل باب صغير لا بد لمن أراد أن يدخل أن ينحني، ففهم أبو بكر ذلك فدخل على قفاه، فغضب الملك وأمر بإحضار المغنين والمغنيات لفتنته، فلما رآهم القاضي أخذ سكينًا من جيبه ثم قطع بها يده ليشتغل بها عن سماع الغناء.
وأما المشركون مع الغناء فإنهم كانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، وهو قوله تعالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، والمكاء هو الصفير، والتصديةُ التصفيق.
أيها الإخوة الأكارم، بعد هذه الغزوات على أمة القرآن، على أمة الإسلام، على أمة محمد ، بعد هذا الغزو انتصر أناس على أهوائهم وشهواتِهم، فحرّموا الغناء على أسماعهم، وكان أُناسٌ آخرون انهزموا هم أمام أهوائهم وملذاتهم؛ فآثروا ما عند عدوّهم وكرهوا ما نزَّل الله جل في علاه وتبارك وتقدس، فأطلقوا العنان لأسماعهم حتى فتك الغناء بالقلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، وأصبحت قلوبهم قاسيةً بعيدةً كل البعد عن الله؛ لأنها بعيدة عن الحق قريبة إلى الباطل، ولأنها لا تفقه ولا تسمع ولا تبصر. وقد توعّد الله تلك القلوب القاسية بالويل فقال: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
والغناء هو الذي صدَّ عن ذكر الله فأعرض أهله عن الله، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه. وبالغناء اشتغلت الألسن بالكلام الذي لا يرضي الله، فأجدبت الألسن عن منهج الله، وما أفلست الألسن إلا لإفلاس القلوب عن ذكر الله، يقول : ((إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلها تكفر اللسان وتقول له: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)). وبالغناء ـ أحبتي في الله ـ عزف الناس عن كلام الله تعالى؛ لأنهما متضادان، والمتضادان لا يجتمعان أبدا، قال بن القيم رحمه الله:
حب الكتاب وحب ألْحان الغنا في قلب عبد ليسا يَجتمعان
لأن القرآن كلام الله والغناء صوت الشيطان، ولأن القرآن ربحٌ والغناء خسارة، ولأن كلام الله حقٌ والغناء باطل، قال ابن عباس وقد سأله رجل عن الغناء: أرأيت الحقّ والباطل إذا جاءَا يوم القيامة، أين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل.
والغناء ـ أيها الأفاضل ـ يصد عن الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغناء يأمر بهما. ومجالس الغناء همٌّ وغم، تحفّها الشياطين وتعقبها الحسرة والندامة، قال : ((ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرة)) أي: حسرة وندامة. ومجالس الغناء مجالس فتنة لبعدها عن طاعة الله وقربها إلى معصيته.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله تعالى حرَّم الغناء في كتابه وفي سنة رسوله ، والواجب أن نقول: سمعنا وانتهينا. فمن أدلة تحريمه قول الباري تبارك وتعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]. فذم الله تبارك وتقدس أهل الغناء الذين يشترون الباطل والمعصية ونسوا أنهم مسؤولون أمام الله عن ذلك.
وسُمِّيَ الغناء لهوا لأنه يُلهي عن طاعة الله ويلهي عن الآخرة، وقد ذم الله اللهو بوصفه لحقيقة الدنيا فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]. ولقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والله الذي لا إله إلا هو، إنَّ لهو الحديث الغناء)، وكذلك قال ابن عباس وجابر وابن عمر وأكثر من ثلاثة عشر تابعيًا.
ومن الأدلة قوله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61]. قال ابن عباس: (السمود هو الغناء في لغة حِميَر). وقد ذم الله هؤلاء القوم الذين يضحكون من القرآن وحالهم الغناء والإعراض. وقد ذكر ابن القيم أن من أسمائه: اللهو واللعب والزور واللغو والباطل والمكاء والتصدية ورقية الزنا ومنبت النفاق وقرآن الشيطان والصوت الأحمق والصوت الفاجر ومزمار الشيطان والسمود وغير ذلك.
ومن أدلة تحريمه في السُّنة قوله كما عند البخاري: ((لَيَكونَنّ أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)). فقوله: ((يستحِلُّون)) أي: يجعلون الحرام حلالاً، وقوله: ((المعازف)) التي تشمل آلات الغناء كلها، وقرن الغناء بالزنا ولبس الحرير للرجال والخمر وهي من الكبائر فهو كبيرة.
ومن الأدلة حديث عبد الرحمن بن عوف كما عند الترمذي عندما بكى لموت إبراهيم، قال عبد الرحمن: ألم تُنهَ عن البكاء؟! قال: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة؛ خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة الشيطان)). فقوله: ((نهيت)) النهي يقتضي التحريم، ولقد أخبرنا الله في حق نبينا: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقوله عن نفسه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. وقد سمَّاه صوتًا أحمق لأنه للحمقى، وصوتًا فاجرًا لأنه لأهل الفجور.
ومن الأدلة قوله : ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) ، فقال رجل من المسلمين: متى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمر)) رواه الترمذي وقال: "حديث غريب". وهذا وعيد شديد لأهل الغناء بالمسخ والخسف والقذف، ونرى اقتران الغناء بالخمر؛ لأن الخمر يخامر العقول، والغناء يخامر العقول والقلوب والجوارح.
ولقد سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لمولاه نافع: هل تسمع شيئا؟ قال: لا، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي وسمع مثل هذا وصنع مثل هذا. رواه ابن حزم. وها هو ابن مسعود يقول: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب)، وقال عقبة بن عامر: (مَن قرأ كان رديفه ملك، ومن تغنَّى كان رديفه شيطان). وقال الإمام أبو حنيفة: "الغناء حرام، وسماعه من الذنوب"، وقال مالك: "لا يفعله عندنا إلا الفسَّاق"، وكان الشافعي يرد شهادة المغني والمغنية ويقول: "إن الغناء يشطف المروءة"، وقال أحمد: "الغناء حرام؛ ينبت النفاق في القلب".
وبهذا يُعلم إجماعُ الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون المفضلة على تحريم الغناء، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. والمسلم العاقل هو الذي يجتنب سماع الباطل، وهو الذي يُطَهِّرُ سمعه وقلبه ومنزله وسيارته من الغناء المحرم؛ رضا بأمر الله وتسليما لنهيه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إذا عُلِمَ ما سبق ـ إخوة الإيمان ـ عن حكم الغناء فلا بد أن تستيقظ الأمة من سباتها وغفلاتها؛ لأنه كثر انتشار الأغاني واستحلالُها بين الناس، يعني إعلان مجاهرة بمعصية الله؛ الأمر الذي يُبعِدُ عنا رحمته ويجلب سخطه، وما أحوجنا اليوم لأن نقترب من رحمته ونبتعد عن سخطه.
انظروا إلى أولئك الشباب صغار العقول أحداث الأسنان، يجوب أحدهم الأسواق وقد رفع الغناءِ بأعلى صوته ليُغضِبَ ربّ الأرباب ويؤذي المؤمنين والمؤمنات، بل والأدهى من ذلك وأشنع لمَّا تساهل الناس في حكمه استطاع ثلة من المسلمين أن ينفّذوا مخَطّطا قد وَعَدَ بفعله أعداء الإسلام، حيث وعدوا بأن يُدخِلوا الغناء إلى مساجدنا وقد فعلوا، وَبِيدِ من؟ بيدي وبيدك، وبيد ابني وابنك؛ عن طريق أجهزة الجوالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، وماذا نقول لمن يغني ويطرب من أمتنا في أوقات شدّة آلامها؟! ولقد أحسن ـ والله ـ خادم الحرمين الشريفين بأمره بإيقاف مثل هذه الحفلات والأخذ على أيدي من يلهون ويلعبون ويتراقصون وهم في غفلة معرضون عن حكم الله تعالى، ولا يدرون ما الذي يجري من حولهم.
(1/4790)
السماحة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
4/6/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الناس للرجل السمح. 2- فضل الرجل السمح. 3- من صور السماحة. 4- التحذير من حسبان السماحة عجزا وضعفا. 5- ذم الخصومة والمراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإن مِنَ الأخلاقِ الإسلاميةِ السَّامِيَةِ العَالِيَةِ التي قَلَّت في الناسِ وَقَلَّ مَن يَتَّصِفُ بها خُلُقَ السَّمَاحَةِ، ذلكم الخُلُقُ الجليلُ النَّبيلُ الذي ما اتَّصَفَ به امرُؤٌ إِلاَّ أَجَلَّهُ الآخرون وقدَّرُوهُ وارتاحوا لِلتَّعَامُلِ مَعَهُ وَأَحَبُّوهُ، وما اتَّصَفَ مُتَّصِفٌ بِضِدِّهِ إِلاَّ احتَقَرَهُ الناسُ وَمَقَتُوهُ وَتَبَرَّمُوا مِنَ التَّعَامُلِ مَعَهُ وَكَرِهُوهُ، وَحِينَ تجِدُ امرَأً سَهلاً مُيَسِّرًا يَتَنَازَلُ عَن حَظِّ نَفسِهِ أَو جُزءٍ مِن حَقِّهِ لِيَحُلَّ مُشكِلَةً هُوَ أَحَدُ أطرَافِهَا أَو لِيَطوِيَ صَفحَةً طَالَ الحَدِيثُ فِيها أَو لِيَتَأَلَّفَ قَلبا يَدعُوهُ أَو لِيَستَطِيبَ نَفسَ أَخِيهِ ويأخُذَ بِخاطِرِهِ وَهُوَ قَبلَ ذلك لا يَتَعَدَّى على حَقِّ أَحَدٍ وَلا يُلحِفُ في المُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ فَذَلِكَ هُوَ الرَّجُلُ السَّمحُ الهَينُ اللَّينُ، وَتِلكَ هي سِمَاتُ السَّمَاحَةُ وَالسُّهُولَةُ، وَحِينَ تجِدُ آخَرَ صَعبًا مُعَسِّرًا يُعَانِدُ وَيُخَاصِمُ وَيُمَارِي وَيُجَادِلُ وَيُفَاصِلُ وَيُقَاضِي وَيَتَعَدَّى على حُقُوقِ الآخَرِينَ ولا يُحسِنُ في أَخذِ حَقِّهِ وَلا يَجِدُ المُتَعَامِلُ مَعَهُ مجالاً وَلا مِنهُ تَنفِيسًا فَذَلِكَ هُوَ البَخِيلُ الشَّكِسُ الشَّرِسُ الضَّجِرُ.
وَقَد دَعَا رَسولُ اللهِ بِالرَّحمةِ لِلرَّجُلِ السَّمْحِ في تَعَامُلِهِ، وَأَخبر أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ، وَأَنَّ السُّهُولَةَ وَاللِّينَ سَبَبٌ مِن أَسبَابِ النَّجاةِ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ اللهَ يُبغِضُ الأَلَدَّ الخَصِمَ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((رَحِمَ اللهُ عَبدًا سمحا إِذَا بَاعَ، سمحًا إِذَا اشتَرَى، سمحًا إِذَا قَضَى سمحًا إِذَا اقتَضَى)) ، وقال: ((إِنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ سَمحَ البَيعِ، سَمحَ الشِّرَاءِ، سَمحَ القَضَاءِ)) ، وقال: ((حُرِّمَ عَلى النَّارِ كُلُّ هَينٍ لَينٍ سَهلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ)) ، وقال: ((إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ)). وَحِينَ خَصَّ بِالذِّكرِ السَّمَاحَةَ في البَيعِ وَالشِّرَاءِ وَالقَضَاءِ وَالاقتِضَاءِ فَإِنما مَثَّلَ بِذَلِكَ على صُوَرٍ مِنَ المُعَامَلاتِ اليَومِيَّةِ التي تَقتَضِي قَدرًا كَبيرًا مِنَ السَّمَاحَةِ وَاللِّينِ، وَإِنما نَصَّ على تِلكَ المُعَامَلاتِ المالِيَّةِ لأَنَّ أَكثرَ الخُصُومَاتِ الخِلافِيَّةِ وَالمُلاسَنَاتِ الكَلامِيَّةِ أَكثَرُ مَا تَكُونُ فِيهَا، وَإِلاَّ فَإِنَّ السَّمَاحَةَ مَطلُوبَةٌ في كُلِّ أَمرٍ وَتَعَامُلٍ وَممدُوحةٌ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ وعلى كُلِّ حالٍ.
أيها المسلمون، وَلِلسَّمَاحَةِ في حَيَاةِ النَّاسِ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ، وَمِن تِلكَ الصُّوَرِ التَّنَازُلُ عَنِ الحَقِّ وَرَفعُ الحَرَجِ عَنِ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ السَّمحَ السَّهلَ لا تَطِيبُ نَفسُهُ بِأَن يُحَصِّلَ حَقا لم تَطِبْ بِهِ نَفسُ الطَّرَفِ الآخَرِ، فَيُؤثِرَ لِذَلِكَ التَّنَازُلَ عنه وَالسَّمَاحَةَ بِهِ وَإِن كان لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لِسَمَاحَتِهِ يحرِصُ على عَدَمِ إِيقَاعِ النَّاسِ في الحَرَجِ، وَلا يَشغَلُهُ التَّفكِيرُ بِمَا لَهُ عَنِ التَّفكِيرِ بِمَا عَلَيهِ مِن سَمَاحَةٍ مَعَ إِخوَانِهِ وَتَقدِيرٍ لِظُرُوفِهِم،. في مُسنَدِ الإِمَامِ أَحمدَ أَنَّ عُثمَانَ رضي اللهُ عنه اشتَرى مِن رَجُلٍ أَرضًا فَأَبطَأَ عَلَيهِ، فَلقِيَهُ فَقَالَ له: مَا مَنَعَكَ مِن قَبضِ مَالِكَ؟ قال: إِنَّكَ غَبَنتَني؛ فَمَا أَلقَى مِنَ النَّاسِ أَحَدًا إِلاَّ وَهُوَ يَلُومُني، قال: أَوَذَلِكَ يَمنَعُكَ؟ قال: نَعَمْ، قَال: فَاختَر بَينَ أَرضِكَ وَمَالِكَ، ثم قال: قال رسولُ اللهِ : ((أَدخَلَ اللهُ عز وجل الجَنَّةَ رَجُلاً كان سَهلاً مُشتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقتَضِيًا)) ، وفي صحيحِ مُسلِمٍ أَنَّ صَحَابِيًا يُدعَى أَبَا اليُسرِ قال: كان لي على فُلانِ بنِ فُلانِ الحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيتُ أَهلَهُ فَسَلَّمتُ، فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلتُ له: أَينَ أَبُوكَ؟ قال: سَمِعَ صَوتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلتُ: اُخرُجْ إِليَّ فَقَد عَلِمتُ أَينَ أَنتَ، فَخَرَجَ فَقُلتُ: مَا حَمَلَكَ عَلى أَنِ اختَبَأتَ مِنِّي؟ قال: أَنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ ثم لا أَكذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَن أُحَدِّثَكَ فَأَكذِبَكَ، وَأَن أَعِدَكَ فَأُخلِفَكَ، وَكُنتَ صَاحِبَ رَسولِ اللهِ ، وَكُنتُ وَاللهِ مُعسِرًا، قال: قُلتُ: آللهِ، قال: الله، قُلتُ: آلله، قال: اللهِ، قُلتُ: آللهِ، قال: اللهِ، قال: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَال: إِنْ وَجَدتَ قَضَاءً فَاقضِني، وَإِلاَّ أَنتَ في حِلٍّ، ثم ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ رَسولَ اللهِ وهو يَقُولُ: ((مَن أَنظَرَ مُعسِرًا أَو وَضَعَ عَنهُ أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّهِ)).
إِنَّهَمَا صُورَتانِ مُشرِقَتَانِ مِن صُوَرِ السَّمَاحَةِ، تَجَاوَزَ فيهِما هَذَانِ الصَّحَابِيَّانِ عَمَّا لهما ابتِغَاءَ مَا عِندَ اللهِ، ممَّا يَدُلُّ عَلَى اتِّصافِهِما بالكَرَمِ وَسماحَةِ النَّفسِ، وهو الأمرُ الذي يَحرِمُ بَعضُ النَّاسِ نَفسَهُ الأَجرَ حِينَ يَحرِمُ نَفسَهُ مِنَ الاتِّصافِ به، فَتَرَاهُ يُلحِفُ في طَلَبِ حَقِّهِ مِنَ الآخَرِينَ مَعَ عِلمِهِ بِإِعسَارِهِم، وَيُسَلِّطُ لِسَانَهُ عَلَيهِم بِأَقذَعِ السَّبِّ وَأَفحَشِ الشَّتمِ، وَيَكِيلُ لهم مِنَ الكَلامِ مَا غَلُظَ وَقَبُحَ، وَكَأَنَّهُ قَد مَلَكَهُم بِمَا أَقرَضَهُم أَو أَدَانَهُم، غَافِلاً عَن عَظِيمِ أَجرِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِ رَبِّهِ له لَو تَجَاوَزَ عَنهُم وَعَفَا، نَاسِيًا أَنَّ مِن تَوفِيقِ اللهِ لَهُ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَأَسبَابِ تَيسِيرِ أُمُورِهِ أَن يُيَسِّرَ على إِخوانِهِ المُعسِرِينَ وَيُنظِرَهُم ويَصبرَ عَلَيهِم، قال : ((كان تَاجِرٌ يُدَايِنُ الناسَ، فَإِذَا رَأَى مُعسِرًا قَال لِفِتيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنهُ؛ لَعَلَّ اللهَ أَن يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنهُ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن يَسَّرَ عَلى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدنيا وَالآخِرَةِ)).
وَمِن صُوَرِ السَّمَاحَةِ رَدُّ القَرضِ بِمَا هُوَ أَحسَنُ مِنهُ وَأَفضَلُ، وَإِعطَاءُ المُقرِضِ مَا هُوَ أَكمَلُ وَأَغلَى، وهو خُلُقٌ نَبَوِيٌّ كَرِيمٌ، فَقَد كَانَ يَرُدُّ القَرضَ بِخَيرٍ مِنهُ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَلم يَكُنْ يَترُكُ صَاحِبَ القَرضِ يَمضِي إِلاُّ وَهُوَ رَاضٍ عَنهُ، في البُخارِيِّ عن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَجُلاً أَتى النبيَّ يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فقال رَسولُ اللهِ : ((أَعطُوهُ)) ، فقالوا: ما نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفضَلَ مِن سِنِّهِ، فقال الرَّجُلُ: أَوفَيتَني أَوفَاكَ اللهُ، فقال رسولُ اللهِ : ((أَعطُوهُ؛ فَإِنَّ مِن خِيَارِ النَّاسِ أَحسَنَهُم قَضَاءً)).
وَمِن صُوَرِ السَّمَاحَةِ وَأَجملِها السَّمَاحَةُ مَعَ الشَّرِيكِ، وهِيَ ممَّا اتَّصَفَ بها نَبِيُّنا حِيثَ كان شَرِيكًا لِلسَّائِبِ بنِ عَبدِ اللهِ في تِجَارَتِهِ قَبلَ البِعثَةِ، وَشَهِدَ لَهُ السَّائِبُ بِذَلكَ في الإِسلامِ حَيثُ قَالَ: كُنتَ شَرِيكِي في الجاهِلِيَّةِ، فَكُنتَ خَيرَ شَرِيكٍ، كُنتَ لا تُدَارِيني وَلا تُمَارِيني. وَالمَعنى أَنَّهُ لم يَكُن يُدَافِعُهُ في أَمرٍ وَلا يُجَادِلُهُ، بَل كَانَ عليه الصلاةُ والسلامُ شَرِيكا سمحًا مُوَافِقا. وَقَد ضَرَبَ اللهُ على الشِّركِ لِقُبحِهِ مَثلاً بِعَبدٍ يَملِكُهُ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ مُتَخَاصِمُونَ مُتَنَازِعُونَ، فَهُوَ حَيرَانُ لا يَدرِي أَيَّهُم يُرضِي، قال سبحانه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَستَوِيَانِ مَثَلاً الحَمدُ للهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمُونَ.
وَمِن أَجَلِّ صُوَرِ السَّمَاحَةِ وَأَعظَمِها السَّمَاحَةُ مَعَ مَن أَسَاءَ والإِحسَانُ إِلَيهِ، وَمِن أَبرَزِ مَوَاقِفِ الرِّجَالِ في ذَلِكَ مَوقِفُ أَبي بَكرٍ الصَّدِيقِ رضي اللهُ عنه حِينَ كان يُنفِقُ على ابنِ عَمِّهِ مِسطَحِ بنِ أُثَاثَةَ رضي اللهُ عنه وَكَانَ مِن فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا أَثَارَ المُنَافِقُونَ على عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها مَا أَثَارُوهُ مِن قَضِيَّةِ الإِفكِ وَاتَّهمُوهَا بِمَا هِيَ مِنهُ بَرِيئَةٌ، كَانَ مِسطَحٌ ممَّن تَوَرَّطَ في حَدِيثِ الإِفكِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أَن لاَّ يُنفِقَ عَلَيهِ بَعدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ تعالى بِالعَفوِ وَالصَّفحِ بَادَرَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه وَكَفَّرَ عَن يَمِينِهِ وَعَفَا وَصَفَحَ، وَعَادَ يُنفِقُ على مِسطَحٍ، فَرَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا أَسمحَهُ وَأَنبَلَهُ! وما أَكرَمَهُ وَأَجزَلَهُ! فَقَد كَانَ ممَّن قال اللهُ فِيهِم: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أيها المسلمون، وَلْنُوَفِّرْ أَوقَاتَنَا التي كثيرًا ما تَضِيعُ في المُخَاصَمَاتِ وَالمُنَازَعَاتِ، وَلْنَحفَظْ أُخُوَّتَنَا وَطَيِّبِ علاقاتِنا بِتَعمِيمِ رُوحِ السَّمَاحَةِ فِيمَا بَينَنَا، وَلْنُكنْ لَينِينَ سَهلِينَ مَعَ إِخوانِنا إِيثَارًا لِمَا هُوَ أَغَلى وأبقى عِندَ رَبِّنَا، وَلْنَصبرْ على ذَلِكَ، وَلْنُجَاهِدْ أَنفُسَنَا، فَقَد صَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((الإِيمَانُ الصَّبرُ وَالسَّمَاحَةُ)) ، فَالصَّبرُ عِلاقَةُ العَبدِ مَعَ رَبَّهِ؛ بِالصَّبرِ عَلى طَاعتِهِ وَالصَّبرِ عَن مَعصِيَتِهِ وَالصَّبرِ عَلى أَقدَارِهِ، وَالسَّمَاحَةُ علاقةُ العَبدِ بِأَخِيهِ؛ بِحَيثُ تَغلِبُ عَلَيهَا السُّهُولَةُ وَالمُيَاسَرَةُ وَالسَّمَاحَةُ، وَرَبُّمَا كَانَ مِن حِكمَةِ رَبطِهِ بَينَ الصَّبرِ وَالسَّمَاحَةِ أَنَّ السَّمَاحَةَ تَقتَضِي قَدرًا كَبِيرًا مِنَ الصَّبرِ وَالتَّحمُّلِ، وَهَذَا هُوَ الوَاقِعُ المُشَاهَدُ، فَإِنَّهُ لا يَكُونُ سمحًا سَهلا هَينًا لَينًا إِلاَّ مَن رَزَقَهُ اللهُ الصَّبرَ وَقُوَّةَ التَّحَمُّلِ.
وَإِنَّ مِن تَلبِيسِ الشَّيطَانِ وَأَعوَانِهِ وَوَسوَسَتِهِم أَنَّهُم قَد يَصِفُونَ المُتَسَامِحَ بِالعَجزِ عَن أَخذِ حَقِّهِ، وَيَرمُونَهُ بِالضَّعفِ عَن تَحصِيلِهِ، وَيَتَّهِمُونَهُ بِالخَوفِ مِنَ النَّاسِ وَخَشيَةِ شَرِّهِم، ممَّا يَحمِلُ ضَعِيفَ الإِيمَانِ وَالإِرَادَةِ على الفُجُورِ، أَمَّا المُؤمِنُ القَوِيُّ الصَّابِرُ الوَاثِقُ بِأَنَّ مَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأَبقَى فَإِنَّهُ يختَارُ مَا عِندَ اللهِ، وَيَتَسَامَحُ مَعَ عِبَادِ اللهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِم مِن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظلِمُونَ النَّاسَ وَيَبغُونَ في الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وأَطيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ.
وَاعلَمُوا أَنَّ السماحةَ خُلُقٌ إِسلامِيٌّ كَرِيمٌ، مَا تحلَّى بِهِ مجتمعٌ إِلاَّ تحابَّ أَفرادُهُ وَتَرَاحمُوا، وَمَا تحابَّ قَومٌ وَتَرَاحمُوا إِلاَّ رَحِمَهُمُ اللهُ، أَمَّا كَثرَةُ الخُصُومَاتِ وَاللَّدَدِ وَحُبُّ الجَدَلِ وَالمِرَاءِ وَالاندِفَاعُ في التَّلاحِي وَالفُجُورِ فَكُلُّ أُولئِكَ ممَّا يَتَنَافى مَعَ السماحَةِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ)) ، وَالأَلَدُّ هُوَ الكَذَّابُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَن يُكثِرُ المُخَاصَمَةَ فَإِنَّهُ يَقَعُ في الكَذِبِ كَثِيرًا. وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((وَمَن خَاصَمَ في بَاطِلٍ وَهُوَ يَعلَمُ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَنزِعَ)).
وَكم تُحرَمُ الأُمَّةُ كَثِيرًا مِنَ الخَيرَاتِ وَكم تُرفَعُ عَنها كَثِيرٌ مِنَ البرَكَاتِ حِينَ يَكثُرُ فِيهَا التَّلاحِي وَتَدِبُّ فِيهَا الخُصُومَاتُ، في الحدِيثِ أَنَّهُ خَرَجَ مِن بَيتِهِ على أَصحَابِهِ فَقَال: ((خَرَجتُ لأُخبِرَكُم بِلَيلَةِ القَدرِ، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ فَرُفِعَت)) ، وَمِن صِفَاتِ المُنَافِقِ أَنَّهُ إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. أَمَّا المؤمِنُ الكَرِيمُ السَّمحُ فَلا يَلِيقُ بِهِ أَن يَتَعَنَّتَ وَيُجَادِلَ وَيَشتَدَّ، فضلاً عَن أَن يَفجُرَ في الخُصُومَةِ.
وَإِنَّ مِن ظَوَاهِرِ الضَّلالَةِ التي تَفَشَّت في بَعضِ أَفرَادِ الأُمَّةِ وَسَاعَدَ عَلى تَفشِّيهَا قَنَوَاتٌ غُثَائِيَّةٌ فَاجِرَةٌ خَادِعَةٌ مَا يَبرُزُ في تِلكَ القَنَوَاتِ مِن بَرَامِجَ يُجعَلُ فِيهَا الحَقُّ مَعَ البَاطِلِ وَجهًا إِلى وَجهٍ، وَتَكثُرُ فِيهَا المُدَاخَلاتُ التي لا تَمُتُّ إِلى النِّقَاشِ الهَادِفِ وَالحِوارِ البَنَّاءِ بِصِلَةٍ، وَإِنما هِيَ جِدَالاتٌ تَافِهَةٌ وَحِوَارَاتٌ عَقِيمَةٌ، في أُمُورٍ سِيَاسِيَّةٍ أَو قَضَايَا فِكرِيَّةٍ أَو تَوَقُّعَاتٍ غَيبِيَّةٍ، لا يَلبَثُ المُتَحَاوِرُونَ فِيهَا أَن يَنفَضُّوا عَنهَا مُتَبَاغِضِينَ مُتَشَاحِنِينَ، وَلا يَستَفِيدُ المُشَاهِدُ لها إلاَّ أَن يَقُومَ عَنها مُتَزَعزِعَ الثِّقَةِ مُتَلَجلِجَ الأَفكَارِ، وَصَدَقَ حِينَ قَالَ: ((مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ)) ، ثم تَلا قَولَهُ تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمُونَ.
لَقَد حَثَّ على السماحةِ في الحِوَارِ، وَرَغَّبَ في التَّنَازُلِ عِندَ الاختِلافِ، وَحَذَّرَ مِنَ الوُقُوعِ في مَغَبَّةِ الجَدَلِ، فَتَعَهَّدَ وهو لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى بِبَيتٍ في الجَنَّةِ لمن تَنَازَلَ وَتَرَكَ المِرَاءَ وَالجَدَلَ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لمن تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا)) ، كَمَا حَذَّرَ عليه الصلاةُ والسلامُ مِن كَثَرَةِ اللَّغوِ وَالتَّبَارِي بِالأَلسِنَةِ وَتَضيِيعِ الأَوقَاتِ في الأَخذِ وَالرَّدِّ وَالجَذبِ وَالشَّدِّ، قال : ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيكُم عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَوَأدَ البَنَاتِ وَمَنعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُم قِيلَ وَقَالَ وَكَثرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ المَالِ)).
ألا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المسلمون، وتحلَّوا بِالسَّمَاحَةِ، وَجَاهِدُوا أَنفُسَكُم على الاتِّصافِ بها، فَإِنَّهُ مَا كَثُرَتِ المُشكِلاتُ الأُسْرِيَّةُ ولا انتَشَرَتِ المُنَازَعَاتُ بَينَ الجِيرَانِ وَلا بَرَزَ التَّهَاجُرُ بَينَ الأَقَارِبِ وَالإِخوَانِ إِلاَّ حِينَ فُقِدَ التَّسَامُحُ مِنَ النُّفُوسِ وَارتَفَعَتِ السَّمَاحَةُ مِنَ القُلُوبِ، فَهَيَّا إِلى السَّمَاحَةِ، هَيَّا إلى اللِّينِ، هَيَّا إلى مَا يُرضِي الرَّحمنَ، وَحَذَارِ مِنِ اتِّبَاعِ خُطُواتِ الشَّيطَانِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(1/4791)
ظواهر سلبية في الولائم والاجتماعات الأسرية
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
11/6/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة التزاور والتواصل. 2- انتشار ظواهر سلبية في الاجتماعات. 3- من الظواهر السلبية: الإسراف، تنافر القلوب، المباهاة والمفاخرة، السهر الزائد، الجدال والمراء. 4- خير الاجتماعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإِنَّ ممَّا يَكثُرُ في أَيَّامِ العُطَلِ وَالإِجازَاتِ وَهُوَ مِنَ الظَّواهِرِ الصّحِيَّةِ في المجتمعِ زِيَارَةَ الأَقَارِبِ لأَقَارِبِهِم وَصِلَتَهُم ذَوِي أَرحامِهِم، إِضافَةً إلى وَلائِمِ الأَفرَاحِ وَحَفَلاتِ الزَّواجِ، حيثُ تجتَمِعُ الأُسَرُ والبُيُوتَاتُ، وَيَلتَقِي الأَصهَارُ والأَحمَاءُ وَالأَنسَابُ، وَتَأتَلِفُ القُلُوبُ وَتَتَقَارَبُ النُّفُوسُ، وَيَكمُلُ بِذَلِكَ الفَرَحُ وَيَتِمُّ السُّرُورُ.
وَهَذِهِ الاجتماعاتُ التي تحصُل وتِلكَ الوَلائِمُ التي تُقَامُ في ظِلِّ ما يَتَمَتَّعُ بِهِ الناسُ مِن وَارِفِ الأَمنِ وَرَغِيدِ العَيشِ إنما هي مِن نِعَمِ اللهِ العَظِيمَةِ وَآلائِهِ الجَسِيمَةِ التي يجِبُ أَن تُشكَرَ لِتَقرَّ وَلا تَفِرَّ، عَمَلاً بِقَولِ المولى تبارك وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم. فَفِي الوَقتِ الذي يَنَامُ فِيهِ إِخوَانٌ لنا غَيرَ بَعِيدٍ مِنَّا على خَوفٍ وَجُوعٍ وَنَقصٍ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَيصحَونَ على هَمٍّ وَحَزَنٍ وَقَلَقٍ بِسَبَبِ ما يَسُومُهُم بِهِ اليَهُودُ وَالنصارى مِن سُوءِ العَذَابِ، أَقُولُ: في ذلك الوقتِ العَصِيبِ عَلَيهِم ـ نَسأَلُ اللهَ أَن يُفَرِّجَ عنهُم ـ نَنعَمُ نحنُ بِالأَمنِ وَالرِّيِّ وَالشِّبَعِ، وَنَتَمَتَّعُ بِلِقَاءِ مَن نَوَدُّ وَرُؤيَةِ مَن نُحِبُّ بَينَ وَقتٍ وَآخَرَ، مُطمَئِنِّينَ غَيرَ مَفزُوعِينَ وَلا مَطرُودِينَ، فَلِلهِ الحَمدُ على مَزِيدِ نِعَمِهِ، وَلَهُ الشُّكرُ على وَافِرِ عَطَائِهِ.
إِلاَّ أنها تَبرُزُ في أَثنَاءِ هذِهِ الاجتِمَاعَاتِ وَتِلكَ اللِّقَاءَاتِ أَو قَبلَهَا أَو بَعدَهَا ظَوَاهِرُ سَلبِيَّةٌ غَيرُ مَرغُوبٍ فِيهَا، وَتصَرُّفَاتٌ سَيِّئَةٌ تُنبِئُ عَن عَدَمِ تَفَكُّرٍ في العَوَاقِبِ، ظَوَاهِرُ تُكَدِّرُ الصَّفوَ وَتُنَغِّصُ الحَيَاةَ، وَتَصَرُّفَاتٌ تُبَيِّنُ عَدَمَ تَقدِيرِ بَعضِنا لِنَعمَةِ اجتِماعِ القُلُوبِ وَائتِلافِ الأَفئِدَةِ. وممَّا يجعَلُ العَاقِلَ يَقِفُ حَائِرًا مَبهُوتًا أَن تَقَعَ تِلكَ التَّصرُّفاتُ ممَّن يُظَنُّ فِيهِم الخَيرُ، وَيَرضَى بها مَن يُنتَظَرُ مِنهم أن يَكُونُوا على مُستَوًى مِنَ التَّعَقُّلِ وَالتَفكِير أَعلَى وَأَكمَلَ.
مِن تِلكَ الظَّوَاهِرِ ـ أيها المسلمون ـ الإِسرَافُ في المَطَاعِمِ وَالمَشَارِبِ وَالتَّبذِيرُ الزَّائِدُ في الدَّعَوَاتِ وَالوَلائِمِ، فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الكَرَمِ وَالسَّمَاحَةِ وَالنَّدَى، وَهُوَ في حَقِيقَةِ أَمرِهِ نَوعٌ مِن جُحُودِ النِّعمةِ وَكُفرانِ المُنعِمِ سبحانَه، وَإِلاَّ فَإِنَّ العاقلَ الذي يَقدُرُ النِّعمَةَ حَقَّ قَدرِها وَيَرَى الناسَ مِن حولِهِ يُتَخَطَّفُونَ مِن أَرضِهِم يَعلَمُ أَنَّ أَيَّ قَدرٍ زَائدٍ على ما يَسُدُّ جَوعَةَ ضُيُوفِهِ وَيستُرُ وَجهَهُ إِنما هُوَ في الغَالبِ نَوعٌ مِنَ الفَخرِ وَالخُيَلاءِ لا يُحِبُّهُ اللهُ، وَضَربٌ مِنَ الرِّيَاءِ وَطَلَبِ السُّمعَةِ لا يُكتَسَبُ مِنهُ إِلاَّ السَّيِّئَاتُ وَالذُّنُوبُ، وقد قال سبحانَه: تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ ، وقال جل وعلا: إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وكُلُوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسرِفِينَ ، وقد نهى عَنِ الإِسرافِ فقال: ((كُلُوا وَاشرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالبَسُوا في غَيرِ إِسرَافٍ وَلا مخِيلَةٍ)).
وَأَمَّا مَا يخشَاهُ بَعضُ الناسِ مِن تحدُّثِ الناسِ عنه أَو اتِّهَامِهِم إِيَّاهُ بِالشُّحِّ وَالبُخلِ إِن هُوَ اقتَصَرَ على القَدرِ الوَاجِبِ وَلم يُبَذِّرْ فَإِنما هُوَ تَسوِيلٌ مِنَ الشَّيطَانِ وَوَهمٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ في الوَاقِعِ ولا وُجُودَ، يَدفَعُهُ المُؤمِنُ بِإِيمانِهِ أَنَّ اللهَ أََحَقُّ أَن يُرضِيَهُ وَيَرعَى نِعمَتَهُ وَيخشَاه وَيخَافَهُ، فهو سبحانَه الذي أَعطَى هذِهِ النِّعمَةَ، وَهُوَ وَحدَهُ القَادِرُ على سَلبِها في أَيِّ وَقتٍ، قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُرْ كَيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُم يَفقَهُونَ. وهُوَ سبحانَه الذي يَزِينُ مَدحُهُ وَيَشِينُ ذَمُّهُ، مَن رَضِيَ عَنهُ فلا يَضُرُّهُ سَخَطُ مخلُوقٍ، وَمَن سَخِطَ عَلَيهِ فَمَن ذَا الذي يُنجِيهِ وَلو رَضِيَ عنه كُلُّ أَهلِ الأَرضِ، في الحديثِ الصحيحِ أَنَّ رجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ حمدِي زَينٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَينٌ، فَقَال النبيُّ : ((ذَاكَ اللهُ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن أَرضَى اللهَ بِسَخَطِ الناسِ رَضِيَ اللهُ عنه وَأَرضَى عنه الناسَ، وَمَن أَرضَى الناسَ بِسَخَطِ اللهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنَ الناسِ لَهُ ذَامًّا)).
وَلْيَتَذكَّرْ كُلُّ مُسرِفٍ مُبَذِّرٍ قَولَ الحَقِّ جل وعلا: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ.
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ السَّلبِيَّةِ في الاجتِمَاعَاتِ أَن تجتَمِعَ الأَبدَانُ وَالأَفئِدَةُ مختَلِفَةٌ، وَتَتَعَارَفَ الأَجسَادُ وَالقُلُوبُ مُتَنَافِرَةٌ، وَأَشَدُّ مِن ذَلِكَ وَأَنكَى أَن تَجِدَ مَن يَخنَسُ عَن تِلكَ الاجتِمَاعَاتِ وَلا يحضُرُها، أَو يَتَكَلَّفُ المَعَاذِيرَ لِلهُرُوبِ مِنها وَالابتِعَادِ عَنهَا، لماذا؟ أَهُوَ لِمُنكرٍ فِيهَا لا يَستَطِيعُ إِزَالَتَهُ وَلا تَغيِيرَهُ؟! أَهُوَ لأَنْ لا فَائِدَةَ له مِنها في دِينِهِ؟! أَلأَنَّهُ مَشغُولٌ وَلا وَقتَ لَدَيهِ لِلحُضُورِ، لا، وَإِنما لأَنَّ فِيها قَرِيبَهُ فُلانًا أَو نَسِيبَهُ عَلاَّنًا، الذي اختَلَفَ مَعَهُ عَامَ أَوَّلَ، أَو وَشَى بَينَهُمَا مَن لا يخَافُ اللهَ، فَأَصبَحَا وَكأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ مُتَحَارِبَانِ، لا يُطِيقُ أَحدُهُما مُقَابَلَةَ الآخَرِ وَلا يَتَحَمَّلُ رُؤيَتَهُ. وَايمُ اللهِ، إِنَّ هذَا لِمَن قِلَّةِ البركَاتِ وَالحِرمَانِ الكَبِيرِ، حَيثُ نجَحَ الشيطانُ وَأَعوَانُهُ في التَّحرِيشِ بَينَ المُسلِمِينَ وَإِيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَهُم، فَحَرَمُوا أَنفُسَهُم بِذَلِكَ عَظِيمَ الأَجرِ وَكَرِيمَ الثَّوَابِ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ حُرِمُوا صَفَاءَ الأَنفُسِ وَنَقَاءَ القُلُوبِ وَسَلامَةَ الصُّدُورِ، التي هي مِن أَسبَابِ خَيرِيَّةِ العَبدِ ورِضا اللهِ عنه وَقَبُولِهِ عَمَلَهُ، حيثُ قال : ((تُفتَحُ أَبوَابُ الجنةِ يَومَ الاثنينِ وَيَومَ الخَمِيسِ، فَيُغفَرُ فِيها لِكُلِّ عَبدٍ لا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَت بَينَهُ وَبَينَ أَخِيهِ شَحنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنظِرُوا هَذِينِ حتى يَصطَلِحَا)) ، وَعِندَمَا سُئِلَ عليه الصلاةُ والسلامُ: أَيُّ الناسِ أَفضَلُ؟ قال: ((كُلُّ مخمُومِ القَلبِ صَدُوقِ اللِّسانِ)) ، قالوا: صَدُوقُ اللِّسانِ نَعرِفُهُ، فَمَا مخمُومُ القَلبِ؟ قال: ((هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثمِ فِيهِ وَلا بَغيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ)).
وَإِنَّ ممَّا لا يُذكَرُ لِتَفَاهَتِهِ وَحَقَارَتِهِ لكِنَّ الرِّجالَ بُلُوا بِهِ في زَمَنِ ضَعفِ العُقُولِ وَسَفَاهَةِ الأَحلامِ أَنَّ بَعضَ التَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ وَالتَّشَاحُنِ كان مِن أَسبَابِهِ أَنْ حَدَثَ خِلافٌ بَينَ الأَطفَالِ أَوِ النِّسَاءِ في زِيَارَةٍ أَو في وَلِيمَةٍ، أَو كَلِمَةٌ فُهِمَت على غَيرِ مَقصُودِ صَاحِبِها، أَو خِلافَاتٌ قَدِيمةٌ أَحيَاهَا شَيطَانٌ مِنَ شَيَاطِينِ الإِنسِ بَعدَ أَن مَاتَت وَأَكَلَ عَلَيهَا الزَّمَنُ وَشَرِبَ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! مَا أَتفَهَ عُقُولَ بَعضِ الناسِ وَأَرذَلَ تَفكِيرَهُم! وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! كَم يَحرِمُونَ أَنفُسَهُم مِنَ الأُجُورِ وَالبركَاتِ بِسَبَبِ ضَعفِ تَحَمُّلِهِم وَضِيقِ عَطَنِهِم! فَرَحِمَ اللهُ مَن كان وَاسِعَ الصَّدرِ قَوِيَّ التَّحمُّلِ، كَم هُوَ حَبِيبٌ إِلى اللهِ حَبِيبٌ إلى الناسِ، قال سبحانَه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وقال لأَشَجِّ عَبدِ القَيسِ: ((إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ تعالى: الحِلمُ وَالأَنَاةُ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيرٌ وَأَوسَعُ مِنَ الصَّبرِ)).
وَمِنَ الظَّواهِرِ السَّيِّئَةِ في الاجتماعاتِ أَن تُجعَلَ مجالاً لِلمُغَالاةِ في الملابِسِ أَو مَعرِضًا لإِبرَازِ الزِّينةِ، إِذْ يُحِسُّ بَعضُ الناسِ في نَفسِهِ مِنَ النَّقصِ شَيئًا وَافِرًا، فَيَسعَى لِتَعوِيضِهِ بِالمُبَالَغَةِ في لبسِ الثِّيَابِ أَوِ الظُّهُورِ وَالتَّشبُّعِ بِمَا لَيس عِندَهُ، وقد قال : ((المُتَشَبِّعُ بِمَا لم يُعطَ كلابِسِ ثَوبي زُورٍ)). وَأَكثَرُ مَا يَظهَرُ ذَلِكَ لدى النِّسَاءِ وَالشَّبَابِ، حَيثُ يَعمَدُونَ إِلى أَغلى الثِّيَابِ وَأَثمَنِ الحُلِيِّ، لِيُظهِرُوا مِن أَنفُسِهِم مَا لَيسُوا لَهُ بِمُقرِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ على حِسَابِ وَليِّ الأَمرِ أو كَبِيرِ العَائِلَةِ الذي قَد يَقتَرِضُ أَو يَستَدِينُ أَو يُكلِّفُ نَفسَهُ رَهَقًا؛ لِيُرضِيَ النِّسَاءَ أَوِ السُّفَهَاءَ، غَيرَ مُلتَفِتٍ إِلى مَا نهاهُ اللهُ عنه حَيثُ قال: وَلاَ تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُم قِيَامًا وَارزُقُوهُم فِيهَا وَاكسُوهُم وَقُولُوا لَهُم قَولاً مَعرُوفًا.
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ غَيرِ المَرغُوبَةِ في الاجتماعاتِ السَّهَرُ الزائِدُ عَن حَدِّهِ، حَيثُ اعتَادَ الناسُ عِندَ اجتماعِهِم في العُطَلِ أَن يَغتَنِمُوا فُرصَةَ لِقَاءِ الأَحبَابِ وَالأَترَابِ، فَيَقطَعُوا اللَّيلَ كُلَّهُ أَو جُلَّهُ في سهرٍ على أحاديثَ جَانِبِيَّةٍ أَو تَبَادُلٍ لِلطَّرَائِفِ وَالنُّكَاتِ، فَلا يَشعُرُون إِلاَّ وَقَد طَلَعَ عليهم الصُّبحُ أو كَادَ، فَيُلقُونَ بِجُنُوبِهِم على وَثِيرِ الفُرُشِ مُنهَكِينَ، ثم لا يُقِيمُونَ بَعدَ ذَلِكَ لِصَلاةِ الفَجرِ وَزنًا، بل منهم مَن يُتبِعُها بِصَلاتَيِ الظُّهرِ والعَصرِ أَو إِحدَاهما، غَيرَ مُنتَبِهِينَ إلى عِظَمِ الأَمرِ وَفَدَاحَةِ الخَطبِ، حَيثُ تَرَكُوا الصلاةَ التي هي عَمُودُ الإِسلامِ وَالفَارِقَةُ بَينَ الكُفرِ وَالإِيمانِ، والتي لم يَكُنْ أَصحَابُ محمدٍ يَرَونَ مِنَ الأَعمَالِ شَيئًا تَركُهُ كُفرٌ غَيرَها، وقال : ((العَهدُ الذي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَثقَلُ الصلاةِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِما لأَتَوهما ولو حَبْوًا، وَلَقَد هَمَمتُ أَن آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثم آمُرَ رَجُلاً يُصلِّي بِالنَّاسِ، ثم أَنطَلِقَ مَعِيَ بِرِجالٍ مَعَهُم حِزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَومٍ لا يَشهَدُونَ الصلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِم بُيُوتَهُم بِالنَّارِ)) ، وقال: ((مَن تَرَكَ صَلاةَ العَصرِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ)). أَمَّا حِينَ يَكُونُ السَّهرُ على ما حَرَّمَ اللهُ استِمَاعَهُ أوِ النَّظَرَ إِلَيهِ مِن غِنَاءٍ أَو تمثِيلِيَّاتٍ أَو مَسرَحِيَّاتٍ أَو غَيرِها فَتِلكَ ظُلُمَاتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، وَمِثلُهُ حِينَ يَكُونُ في السَّهرِ اختِلاطٌ بَينَ رِجالٍ وَنِسَاءٍ غَيرِ محارِمٍ وَلَو كَانُوا أَقرِبَاءَ، فَقَد قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِيَّاكُم وَالدُّخُولَ على النِّسَاءِ)) ، فقال رَجُلٌ: يَا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيتَ الحَموَ؟ قال: ((الحَموُ المُوتُ)).
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ السلبيةِ في بَعضِ الاجتِمَاعَاتِ وَلا سِيَّمَا حَفَلاتُ الزَّواجِ ما يَنتَشِرُ فِي بَعضِها مِن جِدَالاتٍ وَمُمَارَاةٍ، خَاصَّةً في المُحَاوَرَاتِ وَالعَرضَاتِ، حَيثُ التَّفَاخُرُ بِالأَنسَابِ وَالتَّعالي بالأَحسَابِ وَتَعيِيرُ الآخَرِينَ وَنَبزُهُم بِالأَلقَابِ وَالحَطُّ مِن شَأنِ قَبَائِلَ بِأَسرِها أَوِ السُّخرِيَةُ مِنها أَوِ الرَّفعُ لأُخرَى وَالغُلُوُّ في مَدحِها، وَكُلُّ ذلك ممَّا لا يُؤجَرُ عَلَيهِ المُسلِمُ وَلا يُثَابُ، بَل هُوَ ممَّا قَد نُهِيَ عنه وَحُذِّرَ منه، وَهُوَ إِنْ وَقَعَ فِيهِ على إِثمٍ وَخَطِيئةٍ، قال سبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيرًا مِنهُم وَلا نِسَاء مِن نِسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيرًا مِنهُنَّ وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاِسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لم يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وقال جل وعلا: وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لَيَنتَهِينَّ أَقوَامٌ يَفتَخِرُونَ بِآبَائِهِم الذين ماتوا إِنما هُمْ فَحمُ جَهَنَّمَ، أَو لَيَكُونُنَّ أَهوَنَ على اللهِ مِنَ الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخُرءَ بِأَنفِهِ، إِنَّ اللهَ أَذهَبَ عَنكم عِبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤمِنٌ تَقِيٌّ أَو فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُم بَنُو آدَمَ، وَآدمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَان مُحِقًّا)).
ألا فاتقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحذَرُوا مِثلَ هذِهِ الظَّوَاهِر التي لا يُبتَلَى بها مجتَمَعٌ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا ورَضِيَ بمحمدٍ نَبِيًّا ورسولا.
أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ.
وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ الاجتِمَاعاتِ ما كَانَت على طَاعةِ اللهِ وَخَلَت مِن مَعصِيَتِهِ، وَخَيرَ الصَّدَاقَاتِ وَالمحبَّةِ مَا كَانَت لِوَجهِ اللهِ خَالِصَةً، وَعَنِ الرِّيَاءِ وَالسّمعَةِ نَائِيَةً، قال سبحانَه: الأَخِلاء يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوفٌ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلا أَنتُم تَحزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلِمِينَ ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَاجُكُم تُحبَرُونَ يُطَافُ عَلَيهِم بِصِحَافٍ مِن ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعيُنُ وَأَنتُم فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ لَكُم فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنهَا تَأكُلُونَ. إنما هِيَ أَرحَامٌ وَأَنسَابٌ وَعِلاقَاتٌ يَتَعَارَفُ بها الناسُ وَعَلَيهَا يَجتَمِعُونَ، وَهُم عَلَى رِعَايَتِهَا مَأجُورُونَ مُثَابُونَ، لكنَّها لا تَنفَعُ مَن خَفَّت مَوَازِينُهُ بَعدَ المَوتِ وَلا تُنجِيهِ مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإنما يَنفعُهُ عَملُهُ الصالحُ وَمَا قَدَّمَهُ أَمَامَهُ، قال سبحانَه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.
ألا فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وزُورُوا أَقارِبَكُم للهِ وفي اللهِ، تَنَالُوا عَظِيمَ الأَجرِ مِن عِندِ اللهِ، قال : ((مَن أَحَبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَأَن يُنسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ فِيمَا يَروِيهِ عَن رَبِّهِ تبارك وتعالى أنه قال: ((وَجَبَت مَحبَّتِي لِلمُتَحَابِّينَ فيَّ وَالمُتَجَالِسِينَ فيَّ وَالمُتَبَاذِلِينَ فيَّ وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن عَادَ مَرِيضًا أَو زَارَ أَخًا لَهُ في اللهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبتَ وَطَابَ ممشَاكَ وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجنةِ منزِلاً)).
(1/4792)
الرويبضة ومطاولة العلماء
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, العلم الشرعي
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
8/8/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السنون الخداعة. 2- ظهور الرويبضة. 3- ظاهرة الطعن في العلماء الربانيين. 4- سنة التدافع. 5- مسطور الجرائد عن العلماء الأماجد. 6- وجوب تبجيل العلماء واحترامهم. 7- حال الرويبضة. 8- من شبهات الرويبضة ومصائدهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فقد صَحَّ عنه أنه قال: ((إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فِيها الأَمِينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّوَيبِضَةُ)) ، قِيلَ: وما الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: ((المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ)).
اللهُ أَكبرُ وهو المُستَعَانُ أيها المسلمون، وَعِشنَا وَعِشتُم وَطَالَ بِبَعضِكُمُ العُمُرُ حتى رَأَينَا مِصدَاقَ هذا الحديثِ وَاقِعًا حَيًّا بَينَ أَظهُرِنَا وَمِن حَولِنَا، نَقرَؤُهُ في جَرَائِدِنا وَصُحُفِنَا، وَنَرَاهُ في الكَثِيرِ من قَنَواتِنَا، وَنَسمَعُهُ في إِذَاعَاتِنا وَوَسَائِلِ إِعلامِنَا، وَإِذَا لم تَكُنْ هذِهِ السَّنَوَاتُ التي نَعِيشُها دَاخِلَةً في السِّنِينَ الخَدَّاعَةِ فمتى تَكُونُ؟!
وَإِنَّهُ بِمَوتِ كَثِيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَذَهَابِ الجَهَابِذَةِ المُخلِصِينَ بَدَأَ أَولَئِكَ الحَمقَى المَأفُونُونَ يَظهَرون وَيَبرُزُونَ، وَعَلى صَفَحَاتِ الجَرَائِدِ يَسرَحُونَ وَيَمرَحُونَ، وَبِكُلِّ خَبِيثٍ مِنَ القَولِ يَتَقَيَّؤُونَ وَلا يَستَحيُونَ، وَصَدَقَ إِذ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تعالى لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ، حتى إِذَا لم يُبقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)). هَذِهِ هِيَ الحَالُ اليَومَ لَولا رَحمَةُ رَبِّي، بَلْ إِنَّ السُّفَهَاءَ مِن خَفَافِيشِ الصَّحَافَةِ وَأَدعِيَاءِ الكِتَابَةِ اليَومَ لم يَكتَفُوا بِضَلالِهِم وَإِضلالِ مَن سِوَاهُم مِنَ العَوَامِّ وَالمُغَفَّلِينَ حتى أَضَافُوا إلى ذلك ـ ولا سِيَّمَا في الأَيَّامِ المُتَأَخِّرَةِ ـ رِقَّةً في الدِّينِ وَسُوءًا في الأَدَبِ وَصَفَاقَةً في الوُجُوهِ، فَجَادَلُوا أَئِمَّةَ الهُدَى وَكَذَّبُوهُم، وَرَدُّوا على عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وخَطَّؤُوهُم، وَسَارُوا حَسْبَمَا تُملِيهِ عَلَيهِم أَمزِجَتُهُمُ الفَاسِدَةُ، وَتَبَجَّحُوا بما تُملِيهِ عَلَيهِم شَهَوَاتُهُم العَارِمَةُ وَأَهوَاؤُهُم الزَّائِغَةُ، مُعَرِّضِينَ أَنفُسَهُم بِذَلِكَ لما صَحَّ عَن إِمَامِ العُلَمَاءِ حَيثُ قال: ((لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)).
وَمِن أَسَفٍ أَنْ يُكَذَّبَ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَتُنسَفَ أَقوَالُهُم وَتترَكَ فَتَاوَاهُم، وَيُصَدَّقَ أُولَئِكَ الخَوَنَةُ وَتُتَّبَعَ آرَاؤُهُم، وَيُؤخَذَ بِمَا يُلَبِّسُونَ بِهِ مَعَ تَفَاهَتِهِم وَحَقَارَتِهِم. أُغَيلِمَةٌ صِغَارٌ مَا شَمُّوا رَائِحَةَ العِلمِ وَلا ذَاقُوا حَلاوَتَهُ، يَفتِلُونَ عَضَلاتِهِم أَمَامَ جَهَابِذَةٍ مِن كِبَارِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَمُفَكِّرِيهَا، مِنَ الذينَ أَفنَوا عَشَرَاتِ السِّنِينَ في تَعلُّمِ العِلمِ وَتَعلِيمِهِ، وَتَألِيفِ الكُتُبِ فِيهِ وَالدَّعوَةِ إِلى اللهِ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ، لَكِنَّهَا سُنَنٌ إِلهِيَّةٌ جَارِيَةٌ، وَأَقدَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مُحْكَمَةٌ، وَفِتَنٌ مُمَيِّزَةٌ مُمَحِّصَةٌ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الكَاذِبِ، وَيَتَمَيَّزَ الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَذهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً غَيرَ مَأسُوفٍ عَلَيهِ، وَلا يَبقَى في الأرضِ إِلاَّ مَا يَنفَعُ الناسَ، قال سُبحانَه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ، وقال تعالى: أَم حَسِبتُم أَن تُترَكُوا وَلَمَّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَلَم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ ، وقال جل وعلا: لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجعَلَ الخَبِيثَ بَعضَهُ عَلَىَ بَعضٍ فَيَركُمَهُ جَمِيعًا فَيَجعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ، وقال جَلَّ مِن قَائِلٍ: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحتَمَلَ السَّيلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيهِ في النَّارِ ابتِغَاء حِليَةٍ أَو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ في الأَرضِ كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ ، وقال عز وجل: أَم حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لن يُخرِجَ اللهُ أَضغَانَهُم.
نَعَمْ أيها المسلمون، يَتَدَافَعُ الحَقُّ وَالبَاطِلُ، وَيَتَصَارَعُ الصِّدقُ وَالكَذِبُ، وَيَتَبَارَى الخَيرُ وَالشَّرُّ، وَيَتَكَلَّمُ المُؤمِنُونَ وَيَتَشَدَّقُ المُنَافِقُونَ، وَيُدلي العُلَمَاءُ بِالأَدِلَّةِ النَّاصِعَةِ وَالحجَجِ الدَّامِغَةِ، وَيُلقِي السُّفَهَاءُ بِالشُّبُهَاتِ الفَاسِدَةِ وَالتَّلبِيسَاتِ الوَاهِيَةِ، فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ ، وَلَكِنَّ الأَمرَ كَمَا قال إِلهُ الحَقِّ سبحانَه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاء مَا يَحكُمُونَ ، وكما قال تعالى: أَم نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ في الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ ، وكما قال سبحانه: أَفَنَجعَلُ المُسلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ مَا لَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ ، وكما قال جل وعلا: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُّحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألبَابِ. إنهم وَاللهِ لا يَستَوُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم وَيَزيدُهُم مِن فَضلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ استَنكَفُوا وَاستَكبَرُوا فَيُعَذِّبُهُم عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِوَكِيلٍ.
أيها المسلمون، إِنَّ مَا يُنشَرُ هذِهِ الأَيَّامَ في صُحُفِنَا ممَّا يَنطقُ به الرُّوَيبِضَةُ وَيَكتُبُهُ التَّافِهُونَ وَتِلكَ الرُّدُودَ التي يَتَطَاوَلُونَ بها على الرَّاسِخِينَ مِن عُلَمَاءِ الدِّينِ دُونَ تَقدِيرٍ وَلا إِجلالٍ لهو عَجَبٌ مِنَ العَجَبِ، إِذْ كَيفَ تُطَاوِلُ التِّلالُ الجِبَالَ؟! بَل كَيفَ يُقَارِعُ الجُبَنَاءُ الأَبطَالَ؟! وَشَتَّانَ بَينَ الغُيُومِ وَالنُّجُومِ! لَكِنَّهَا السّنُونَ الخَدَّاعَةُ التي ذَكَرَهَا مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، حَيثُ تَنقَلِبُ المَوَازِينُ وَتَختَلُّ المَفَاهِيمُ، وَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ وَيُؤتَمَنُ الخَائِنُ، وَتَنطِقُ الرُّوَيبِضَةُ.
إِذَا عَيَّرَ الطَّائِيَّ بِالبُخلِ مَادِرٌ وَعَيَّرَ قِسًّا بِالفَهَاهَةِ بَاقِلُ
وَ قَالَ السُّهَا لِلشَّمسِ أَنْتِ كَسِيفَةٌ وَقَالَ الدُّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِلُ
وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَةً وَفَاخَرَتِ الشُّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ
فَيَا موتُ زُرْ إِنَّ الْحَيَاةَ ذَمِيمَةٌ وَيَا نَفسُ جِدِّي إِنَّ دَهرَكِ هَازِلُ
إِنَّ المُتَابِعَ بَلِ النَّاظِرَ في الجَرَائِدِ في هذِهِ الأَيَّامِ لَيَرَى إِلحَاحًا وَاضِحًا مِن كُتَّابِها عَلَى النَّيلِ مِنَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَتَنَقُّصًا ظَاهِرًا لأَشخَاصِهِم وَمَا يَحمِلُونَ، وَاتِّهَامًا لهم بِالجَهلِ وَعَدَمِ التَّفَقُّهِ في الوَاقِعِ، وَتحمِيلاً لِكَلامِهِم مَا لا يَحتَمِلُهُ، وَإِذَا أَعيَتْهُمُ الحِيَلُ وَسُدَّت في وُجُوهِهِمُ السُّبُلُ زَعَمُوا خِدَاعًا وَتَضلِيلاً وَإِمعَانًا في رَدِّ الحَقِّ أَنَّ مَا يَذكُرُهُ هَذَا العَالمُ أَو ذَاكَ لا يَعدُو أَن يَكونَ رَأيَهُ الشَّخصِيَّ وَفَهمَهُ الذَّاتيَّ، وَكَأَنَّ أَحكَامَ الدِّينِ المَبنِيَّةَ عَلى مَا قال اللهُ وقال رسولُهُ أو على إِجماعِ الأُمَّةِ، كَأنَّهَا قد أَصبَحَت قَضَايَا سُوقِيَّةً يَكتُبُ فِيهَا مَن هَبَّ وَدَبَّ، أَو آراءَ يُنَاقِشُها مَن هَرَفَ وَمَا عَرَفَ.
أَلا فَلْيَعلَمِ المُسلِمُونَ أَنَّ اللهَ مُبتَلِيهِم بِهَؤلاءِ الأَفَّاكِينَ التَّافِهِينَ، وَأَنَّهُم في سِنِينَ خَدَّاعَةٍ وَيَتَعَرَّضُونَ لِفِتَنٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَأَنَّ الأَمرَ قَد وُسِّدَ إِلى غَيرِ أَهلِهِ وَالأَمَانَةَ قَد ضُيِّعَت، وَحِمى الشَّرِيعَةِ قَد صَارَ مُستَبَاحًا لِكُتَّابِ الجَرَائِدِ وَمُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ، وَأَنَّهُ لا عِبرَةَ بِمَن فَسَدَ ذوقُهُ أَو سَقُمَ فَهمُهُ.
فَكَم مِن عَائِبٍ قَولاً صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَّقِيمِ
وَمَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجِدْ مُرًّا بِهِ المَاءَ الزُّلالا
قَد تُنكِرُ العَينُ ضَوءَ الشَّمسِ مِن رَمَدٍ وَيُنكِرُ الفَمُ طَعَمَ المَاءِ مِن سَقَمِ
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ المُسلِمُونَ، وَلْيَعرِفُوا قَدرَ عُلَمَائِهِم وَلْيَحفَظُوا مَكَانَةَ مَشَايِخِهِم، فَإِنَّهُم لَن يَزَالُوا بِخَيرٍ مَا دَامُوا عَلَى ذَلِكَ، وَالأَمرُ عَقِيدَةٌ وَدِينٌ، وَالنِّهَايَةُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَالخَاتِمَةُ فَوزٌ أَو خَسَارَةٌ.
وَلَقَد تَوَافَرَتِ الأَدِلَّةُ وَتَظَاهَرَت على إِبرَازِ فَضلِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَجَاءَ مَدحُهُم على لِسَانِ الصَّادِقِ الأَمِينِ، حَيثُ قَال سبحانَه: قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ فِيهِ عِلمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أَجنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلمِ رِضًا بِمَا يَصنَعُ، وَإِنَّ العَالمَ لَيَستَغفِرُ لَهُ مَن في السمواتِ وَمَن في الأرضِ والحِيتَانُ في جَوفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضلَ العَالمِ على العابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ على سَائِرِ الكَواكِبِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولا دِرهمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)) ، وَقَال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الدُّنيا مَلعُونَةٌ مَلعُونٌ مَا فِيها، إِلاَّ ذِكرَ اللهِ وَمَا وَالاه وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا))، وقال: ((فَضلُ العالمِ على العابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم، إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهلَ السمواتِ والأرضِ حتى النملةَ في جُحرِها وَحتى الحوتَ لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّمِ الناسِ الخَيرَ)) ، وقال: ((إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ ولا الجَافي عَنهُ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ)) ، وقال: ((البركَةُ مَعَ أَكَابِرِكُم)) ، وَصَحَّ عَنِ ابنِ سِيرِينَ رحمه اللهُ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ هَذَا العِلمِ دِينٌ، فَانظُرُوا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم". وَأَمَّا هؤلاءِ المُتَشَدِّقُونَ الأَصَاغِرُ الخَائِضُونَ فِيمَا لا يَعلَمُونَ فَإِنَّهُم مِن أَجهَلِ النَّاسِ وَإِنْ حَسَّنُوا العِبَارَةَ وَزَيَّنُوا المَقَالَةَ، وَقَد صَحَّ فِيهِم حَدِيثُ الحَبِيبِ حَيثُ قال: ((إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكم بَعدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَيمِ اللِّسَانِ)) ، وَانطَبَقَ عَلَيهِم قَولُ مَن قَالَ:
زَوَامِلُ لِلأَسفَارِ لا عِلمَ عِندَهُمْ بِجَيِّدِهَا إِلاَّ كَعِلمِ الأَبَاعِرِ
لَعَمرُكَ مَا يَدرِي البَعِيرُ إِذَا غَدَا بِأَوسَاقِهِ أَو رَاحَ مَا في الغَرَائِرِ
وَمَا حُبُّهُم لِلجَدَلِ وَاللَّجَاجَةِ وَتَمَادِيهِم في الخُصُومَةِ وَالنِّقَاشِ العَقِيمِ إِلاَّ دَلِيلُ ضَلالِهِم، حَيثُ قال : ((مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ)) ، ثم قَرَأَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً ، وَإِلاَّ لَو كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالبَحثِ عَنِ الحَقِّ لَوَقَفُوا عِندَ المُحكَمِ مِن آيَاتِ التَّنزِيلِ وَمَا صَحَّ مِن أَحَادِيثِ الرَّسولِ، فَإِنَّ تِلكَ هِيَ حَالُ المُؤمِنِينَ الذين قال اللهُ تعالى فيهم: إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ، أَمَّا المُنَافِقُونَ فقد قال اللهُ فِيهِم وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا. تِلكَ حَالُهُم، وَذَاكَ ضَلالُهُم، وَلَو تَرَكُوا الأَمرَ لأَهلِهِ لأَرَاحُوا وَاستَرَاحُوا، وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أيها المسلمون، يَا مَن تَقرؤُونَ الصُّحُفَ وَتَسمَعُونَ الإِذَاعَاتِ وَتَرَونَ القَنَوَاتِ، فَإِنَّكُم مُتَعَبَّدُونَ بِمَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ عَلَى فَهمِ السَّلَفِ الصَّالحِ وَمَا استَنبَطَهُ العُلَمَاءُ، أَمَّا مُرتَزِقَةُ الإِعلامِ وَالصَّحَافَةِ فَالحَذَرَ منهم وَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ.
وَاعلَمُوا أَنَّ الدِّينَ اتِّبَاعٌ وَلَيسَ ابتِدَاعًا، وَتَسلِيمُ قَلَوبٍ مُؤمِنَةٍ لا هَوَى نُفُوسٍ مَرِيضَةٍ، وَأَنَّ مَن بَانَ لَهُ الدَّلِيلُ فَلا يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُهُ، وَمَن كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَيسَ لَهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ العُلَمَاءِ وَتَقلِيدُ المُفتِينَ الذين عُرِفَ عَنهُمُ العِلمُ وَالتَّقوَى وَخَشيَةُ اللهِ، أَمَّا السَّيرُ وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ وَتَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَزَلاَّتِ العُلَمَاءِ فَمَا هِيَ حَالَ مَن نَصَحَ لِنَفسِهِ وَطَلَبَ لها النَّجَاةَ، وَأَمَّا آخِذُو دِينِهِم وَأَحكَامِ شَرِيعَتِهِم مِنَ الصُّحُفِ وَكُتَّابِها فَمَا لِخَسَارَتِهِم وَاستِبدَالِهمُ الأَدنى بِالذي هُوَ خَيرٌ وَصفٌ أَدَقُّ مِن قَولِ الشَّاعِرِ:
وَمَن يَكُنِ الغُرَابُ لَهُ دَلِيلاً يَمُرُّ بِهِ عَلَى جِيَفِ الكِلابِ
وَإِنَّ ممَّا شَرَّقَتْ فِيهِ أَقلامُ أُغَيلِمَةِ الصَّحَافَةِ هذِهِ الأَيَّامَ وَغَرَّبَتْ مَسأَلَةَ الحِجَابِ وَكَشفِ المَرأَةِ وَجهَهَا، بَوَّابَةُ الانحِرَافِ الأُولى التي عَبرَ منها التَّحرِيرُ وَالتَّغرِيبُ إلى عَامَّةِ بِلادِ المُسلِمِينَ، والتي حَرِصَ على نَشرِهَا الكُفَّارُ في دِيَارِ الإِسلامِ لإِضعَافِ أَهلِهَا وَتَوهِينِ مَا بَقِي مِن قُوَّتِهِم، وَتَابَعَهُم عَلَيهَا أَذنَابُهُم مِنَ العِلمَانِيِّينَ وَالمُنَافِقِينَ الذين تَتَبَّعُوا الأَقوَالَ الضَّعِيفَةَ في هذِهِ المَسأَلَةِ لِيَتَّكِئُوا عَلَيهَا وَيَتَّخِذُوهَا سِلاحًا في مُقَابَلَةِ دُعَاةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثم جَاءَ مُرتَزِقَةُ الصَّحَافَةِ وَمُحِبُّو الشُّهرَةِ وَلَو بِمَا يَجلِبُ الخِزيَ وَالعَارَ، فَأَجلَبُوا عَلَى الجِلبَابِ بِخَيلِهِم وَرَجِلِهِم، وَضَوضَوا وَنَعَقُوا وَنَبَحُوا، يُرِيدُونَ لِيُطفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ.
أَلا فَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى المُسلِمِ الذي يُرِيدُ السَّلامَةَ لِدِينِهِ وَالنَّجَاةَ في آخِرَتِهِ أَن يَلزَمَ النُّصُوصَ المُحكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الظَّاهِرَةَ الدِّلالَةِ، وَيَدَعَ تَتَبُّعَ النُّصُوصِ المُتَشَابِهَةِ التي يَتَعَلَّقُ بها مَن فُتِنَ عَقلُهُ وَزَاغَ قَلبُهُ؛ لِكَي لا يَكونَ ممَّن قال اللهُ تعالى فِيهِم: فَأمَّا الذين في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ. وَايمُ اللهِ، لَو كَانَ هَؤلاءِ الصَّحَفِيُّونَ صَادِقِينَ أَنَّهم يُرِيدُونَ لِلمَرأَةِ في بِلادِنَا الخَيرَ لما تَحَمَّسُوا لِنَشرِ هَذَا الرَّأيِ الضَّعِيفِ بَينَ النِّسَاءِ العَفِيفَاتِ المُتَسَتِّرَاتِ، ولما قَعَدُوا عَن دَعوَةِ المُتَبَرِّجَاتِ الفَاسِقَاتِ إلى التِزَامِ الحِجَابِ، مَعَ أَنَّ أُولِئَكَ المُتَبَرِّجَاتِ يَرتَكِبنَ المُحَرَّمَ بِالاتِّفَاقِ، وَأُولَئِكَ النِّسوَةَ المُتَسَتِّرَاتِ يَفعَلْنَ الأَفضَلَ وَيَأخُذْنَ بِالأَكمَلِ وَيسلُكنَ الأَحوَطَ عَلَى الأَقَلِّ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِن زَيغِ القُلُوبِ وَانتِكَاسِ الفِطَرِ، وَنَسأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ على الحَقِّ إلى المَمَاتِ، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.
(1/4793)
كيف يستقبل رمضان؟
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
مريع بن فرج الله الصعيدي
خليص
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دنو شهر رمضان. 2- سرعة انقضاء الأيام. 3- كيفية استقبال رمضان. 4- مظاهر سلبية في استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ما هي إلا أيام قلائل حتى تكتمل دورة الفلك، ويشرف على الدنيا هلال رمضان المبارك الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين وتتطلع شوقًا لبلوغه.
مرحبًا أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبًا زارنا في كل عام
قد لقيناك بِحب مفعم كل حبُ في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربِي صومنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
كنا نودع شهر رمضان الماضي، وكأن صفحاته قد طويت قبل أيام، واليوم يستقبله المسلمون بعد مرور عام، عام مضى ذهبت لذاته وبقيت تبعاته، نسيت أفراحه وأتراحه وبقيت حسناته وسيئاته. نعم، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقصرها، ويعود الناس إلى ربهم بعدما أمضوا فترة الامتحان على ظهر الأرض، كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ [الأعراف:29، 30]، ثم تصبح الدنيا ذكريات، وهنا من ينتظر على أمل ولا يدري فقد يباغته قبل ذلك الأجل، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
كيف يُستقبل هذا الوافد القريب؟ يستقبل رمضان بتهيئة القلوب وتصفية النفوس وتطهير الأموال والتفرغ من زحام الحياة. مرحبًا برمضان، جئت بعد عام كامل، مات أقوام وولد آخرون، سعد أقوام وشقي آخرون، واهتدى أقوام وضل آخرون. جئت ـ يا رمضان ـ لتقول للعيون: صومي عن النظر الحرام، واسكبي الدمع في جنح الظلام، وتقول للألسن: صومي عن الغيبة والنميمة والتيهان واللغو والفحش، جئت تقول للبطون: صومي من أكل الحرام والغشّ. مرحبًا بشهر صيامه سر بين العبد وبين ربه، ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)).
فيا من يريد أن يتعرف على ربه، استبشر بقدوم هذا الشهر، واحرص أن تكون من المعتوقين والمقبولين فيه، وحاول أن تصوم كل جوارحك عن كل ما حرمه عليك ربك. كان السلف الصالح إذا دخل رمضان بشر بعضهم بعضًا وتهيؤوا له، قدوتهم في ذلك رسول الله.
فيا أيها الأبرار والأخيار، استقبلوا هذا الشهر بالتوبة النصوح والاستغفار. ويا أيها المسلمون، يا من ولد على لا إله إلا الله، ويا من شبّ على لا إله إلا الله، جاء شهر رمضان وأصبح منكم قاب قوسين أو أدنى، فالله الله لا يخرج رمضان منكم وقد خاب الكثير وخسر الكثير، اغتنموه لكي يعتق الله رقابكم فيه من النار، وخذوه فرصة لا تعوض، فإنه مناسبة التوبة والقبول من الله، أكثروا فيه من الذكر والتهليل والتسبيح والتحميد، وتدارسوا فيه القرآن، وأحيوا بيوتكم بآيات الله البينات، واهجروا الأغاني الماجنات الخليعات التي أغوت القلوب عن ربها سبحانه، قال ابن عباس: ويرسل ربنا ريحا تهز ذوائب الأغصان لمن حرم في الدنيا على آذانه استماع الغناء، فتهتز أغصان تلذّ لسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان، يا خيبة الآذان لا تتعرض بلذاذة الأوتار والعيدان، فاغتنموه عسى أن تعتق رقابكم من النار، وأن تبيض وجوهكم يوم تعرضون على الواحد القهار، طوبى لبطون جاعت في سبيل الله، وهنيئًا لأكباد ظمئت لمرضاة الله، هنيئًا لكم يوم تصومونه ـ إن شاء الله ـ إيمانًا واحتسابًا أن شهر رمضان هو شهر المغفرة والتجاوز عن الخطيئة والشحناء والقطيعة من موانع المغفرة الشديدة؛ لذا يستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد التي خلخلت العرى وأنهكت القوى ومزقت المسلمين شر ممزق، فالذي يطلّ عليه رمضان عاقًا لوالديه قاطعًا لأرحامه هاجرًا لإخوانه أفعاله قطيعة دوره في المجتمع النميمة هيهات هيهات أن يستفيد من رمضان، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
أيها الفضلاء، ترُسخ حقيقة الصيام الفضائل الجليلة طبعًا لا تصنّعًا وسجية لا تكلفًا، فلنجعل هذا الشهر الكريم انطلاقًا للسمو والترفع عن سفاسف الأمور والحذر من كل ضلالة وزور. من حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزًا بمشاعره كل الفواصل، متسلقًا بمبادئه كل الحواجز، يتألم لألمهم، ويحزن لأحزانهم، مبتدئًا بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه ولإخوانه من بني جلدته صَحْبه وأقاربه، يستقبل رمضان بنفس معطاءة ويد بالخير فياضة، ويبسط يده بالصدقة والإنفاق، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
إن شهر رمضان هو شهر النفحات والرحمات والدعوات، المال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، لا يستجاب معه الدعاء، ولا تفتح له أبواب السماء؛ لذا يستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرة وندامة أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة، وربنا تبارك وتعالى يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. فانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وأدخل يدك في جيبك، وتطهّر من كل مال حرام ليس من مالك، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع ومال طاهر ودعاء صادق يصعد في الفضاء وتفتح له أبواب السماء.
إن الذين يستقبلون رمضان على أنه مدرسة لتقوية الإرادة هم الذين يستفيدون منه، فيجدون في نهاره لذة الصابرين، ويجدون في مسائه وفي ليله لذة المناجاة في ساعاتها الغالية، هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشر والسلام، هؤلاء هم الذين مسح الصيام عن جبينهم وعثاء الحياة، وأزال عن أجسامهم غبار المادة، وأبعد عن بطونهم ضرر التخمة، ودفع عن أنفسهم الحيرة والفتور، وغذى إيمانهم بالقوة والنور.
فاحمدوا الله واسألوه أن يبلغكم رمضان، واغتنموا فرصته، وتعرضوا لنفحات المغفرة والرضوان فيه، وقوموا بحقه كما أمر، واحذروا نهيه وسَخَطه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي اختار للخيرات أوقاتًا وأيامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب المغفرة لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله للناس إمامًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ذكره الذاكرون قعودًا وقيامًا.
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، واستعدوا للموسم العظيم والشهر الكريم الذي خصه الله من بين سائر الشهور بالتشريف والتكريم.
فيا ذوي الهمم العالية، ويا ذوي المطالب الرفيعة السامية الغنائم، على الجد وهجر البطالات فالأوقات الفضائل فوات، ألا فشمروا لقِراه بالتوبة والإنابة، وابذلوا في ضيافته مقدوركم من الأعمال المستطابة، وأروا الله الخير من أنفسكم فيه، فإن الله تعالى ينظر إلى جدكم وتنافسكم فيه، ولقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله، وكان الحبيب عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بقدوم رمضان فيقول: ((أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) رواه النسائي والبيهقي. شهر هذا بعض فضائله حقيق بالإجلال والإكرام، وجدير بأن يصان عن فعل القبائح والإجرام، وأن يغتنم بالطاعات أوقاته، وتبادر بالأعمال الصالحة ساعاته.
ولكن ـ أيها الأحبة ـ انعكست المفاهيم، وأصبح استقبال معظم الناس لهذا الشهر الكريم استقبالاً واستعدادًا للمأكولات والمشروبات والمقليات والمعجنات، مبالغة في إعطاء نفوسهم ما تشتهيه، إنه موسم البطون عندهم، ومضمار تتنافس فيه الموائد الزاخرة بصنوف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم قبل دخول هلال رمضان يفزعون إلى الأسواق من كل فج عميق، يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضان حفلة زفاف أو وليمة نجاح تبسط فيها الموائد العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، ثم ترمى في النفايات، وأكبر دليل على ذلك ازدحام الناس في الأسواق في هذه الأيام لشراء الكماليات التي لا داعي لها، أصبح شهر رمضان معرَضًا لفنون الأطعمة والأشربة، وهذا إسراف نهى الله عنه، فوق أنه مدعاة إلى الفقر وجلب الأسقام للبدن، وبعض الناس يستقبله لإقامة الدوري والمباريات وسهر الليالي في لعب الورق، وفي النهار نوم حتى عن الصلاة المكتوبة، لا بصيام يتلذذون، ولا بقيام يتعبدون، ليلهم ضياع، ونهارهم خسران، ما هكذا يستقبل رمضان، استقبلوه بالجد والطاعة، لا الإخلاد إلى الراحة، استقبلوه بتطهير النفوس والقلوب والأبدان والأرواح من أدران المعاصي والسيئات.
(1/4794)
صرخة الحجاب
الأسرة والمجتمع
المرأة
رياض ين يحيى الغيلي
صنعاء
جامع الأوقاف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عفاف نساء السلف. 2- منزلة العلماء في الأمة. 3- محاربة فرنسا للحجاب. 4- تقاعس المسلمين عن الدفاع عن قضاياهم. 5- لماذا الحرب على الحجاب؟ 6- فرنسا منطلق الحرب على الحجاب والطهر والعفاف. 7- مؤامرة تحرير المرأة. 8- تناقض فرنسا مع مبادئها. 9- المستقبل للإسلام والمسلمين. 10- رسالة لفتاة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاءت امرأة من الأنصار تدعى أم خلاد، جاءت تبحث عن ولد لها قتل في إحدى الغزوات، تبحث عنه بين الجثث، وكانت محجبةً منقبة، لا تظهر منها إلا عين واحدة، فتعجب الصحابة واستغربوا وقالوا لها: يا أم خلاد، كيف تبحثين عن ولدك بين جثث القتلى وبك ما بك من الحزن عليه ولا زلت تنتقبين؟! أما دفعك حَرّ المصاب وألم الفراق إلى أن تخلعي عنك حجابك؟! فماذا كانت إجابة المؤمنة التي تخرجت من مدرسة الحبيب محمد ؟! قالت: يا إخوتاه، إن أُرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أُرزأ في إيماني وحيائي.
الله الله الله يا إخوتاه، إن أرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أرزأ في إيماني وحيائي.
يا سيد الأبرار أمتك الْتَوَت في عصرنا ومضت مع التيارِ
شربت كؤوس الذلِّ حين تعلقت بثقافة مسمومة الأفكارِ
إني أراها وهي تسحب ثوبها مَخدوعةً في قبضة السمسارِ
إني أراها تستطيب خضوعها وتلين للرهبان والأحبارِ
إني أرى فيها ملامح خطة للمعتدين غريبة الأطوارِ
اللهم صل على سيدنا محمد الذي صَليتَ عليه قبل أن يصلى عليه أحد من العالمين، وأرسلته رحمة للعالمين، اللهم اجعلنا بالصلاة عليه من الفائزين، وعلى حوضه من الواردين، وبيديه الكريمتين من الشاربين، وبسُنتهِ من العاملين، ولا تَحُل بيننا وبينه يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بِقلب سليم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة، العلماء في الإسلام هم من الأمة بمنزلة السمع والبصر، في ظلمة الطريق وهدأة الوحشة يستهدي بهم الناس، كشِعرى يضيء في ليل ضن فيه القمر بنوره. ويوم تخلو الأمة الإسلامية من قيادة لائقة ترنو الأبصار جميعها إلى حملة الرسالة وحراس الشريعة، أنوار لهم العيون شاخصة، ومشاعل لها السواعد رافعة. وحين تداهمنا الملمات في إثر بعضها نفيء إلى ظلال علمائنا الوارفة، نتقي بها حر الهجير.
قبل أيام تجاسر الرئيس الفرنسي "شيراك" على حجاب الصغيرات المسلمات المؤمنات العفيفات الطاهرات، نظر "شيراك" إلى الحجاب على أنَّ ارتداءَه في المدارس إرهاب، رأت دولة الحرية والعدل والمساواة أن الحجاب تهديد لعلمانية فرنسا!
وإذ تناهت إلى أسماع معظم علماء الأمة أنباء هذا الحيف الفرنسي بحق الفتيات الصغيرات فقد تمنيت قبل أن يقر القانون في البرلمان، تمنيت أن يعمد وفد من علمائنا الأفاضل إلى طرق أبواب قصر الإليزيه؛ لينقلوا إلى ردهاته وإلى ساكنيه غضبة هذه الأمة لكشف ضفائر المسلمات العفيفات. تمنيت وأنا أعلم أن علماء الأمة تكبلهم قيود كثيرة ليس أقلها التضييق الممارس على تحركاتهم وانطلاقتهم، لا أقلها رجاء كثير من أنظمة حكمهم أن يستلهموا حكمة "شيراك" في دولهم المسلمة. تمنيت ونحن نجتر ذكريات وفد العلماء إلى طالبان لبحث قضية تمثال بوذا العملاق في إمارة أفغانستان يومها، كان للوفد الذي قطع آلاف الأميال رؤيته التي لم نطمئنّ إليها، ولكننا ما أسأنا بهم الظنون.
واليوم ألا تستحق فجيعة ثلث مسلمي أوروبا ـ 5 ملايين مسلم مقيم في فرنسا من بين 15 مليونا يقيمون في أوروبا كلها ـ، ألا تستحق فجيعتهم تشكيل وفد كبير من علماء اليمن والحجاز ومصر والشام والعراق والمغرب العربي وغيرهم لقطع مسافة تقل كثيرا عن مشقة السفر إلى أفغانستان؛ لإيصال احتجاجنا القوي على الفعلة الفرنسية النكراء؟! وقد يستجيب "شيراك" وشيعته أو لا، لا غرو؛ لكن هذا الوفد لا شك سيزلزل قصر الإليزيه أو سيردع غيره أو لا، فتكفينا منه حينئذ كرامة المحاولة.
ولكن للأسى والأسف الشديدين تجرعنا المرارة من هذا القانون الظالم، ولكن مرارته لم تكن أشد من تلك المرارة التي تجرعناها عندما انبرى شيخ الأزهر يبرّر لفرنسا ظلمها وجورها وعدوانها على العفاف، ويعطيهم الحق في وأد الفضيلة، ويفتي العفيفات المسلمات بالاستجابة لهذا القانون وخلع رداء الحياء؛ لأنهن قد أصبحن في حكم المضطرّ.
أيها الأحبة، فيما كان يعاني المسلمون هول الصدمة؛ إذ استل شيخ الأزهر فتواه فطعن بها أفئدة الملهوفين على عورات المسلمات في فرنسا. فيما كانت صغيرات المسلمات في بلاد الغال يستصرخن شيخ الأزهر حفظ شعورهن عن أعين الغرباء، ويصرخن وامعتصماه؛ إذ ارتدّ صدى صوتهن من شيخ الأزهر لهيبا إلى صدورهن.
ألفنا فتاوى المسلمين على مرّ العصور فتاوى شرعية، إلى أن لاقيناها في آخر زمانهم فتاوى ديبلوماسية, وتلك أسمى درجات العبقرية! فلئن كان الحجاب عصيا على رؤوس النساء، فثمة من هو به خليق، فليحتجب من خذلنا ونأى بجانبه عن جادة طريق العفاف الكريم.
إن الحجاب ستر لعورات النساء، وهو كذلك ستر لأناس لا يأبهون بالحرمات المستباحة. لقد قال مؤرخ أجنبي في يوم ما: "من لم يذهب إلى مصر ما عرف مجد الإسلام ولا عزه؛ لأن فيها الأزهر"، يوم كان رأس قمة الأزهر يذبّ عن حياض الدين، ولكن عظم الله أجركم ـ أيها المسلمون ـ في الأزهر وفي شيخ الأزهر.
أيها الأحبة المؤمنون، هل أتاكم نبأ الوفد السيخي الذي ذهب يحث الخطى إلى فرنسا محتجًا على إدراج العمامة السيخية ضمن القرار؟! هل عمامتهم أولى من حجاب العفيفات؟! هل عمامتهم أعز من عفاف المؤمنات؟! هل باطلهم أقوى من حق الفضيلة؟! لا، لا، ولكنهم يعتزون بباطلهم في وقت تخلى المسلمون عن دينهم وحقهم.
أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات العفيفات، لماذا الحجاب؟! لماذا الحجاب بالذات هو المستهدف في أوروبا؟! أتعلمون لماذا؟ أتدرون لماذا الحجاب؟ لأن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي، وحجاب المرأة جزء هام من هذه اللبنة يصونها من غوائل السوء، ويحفظها من لصوص الأعراض، ويقي حياءها من الخدش، ويحفزها إلى نقاء الروح وصلاح النفس، كما يحفظ شخصيتها من الذوبان في المجتمعات الأخرى، لهذا كان الاستعمار شديد الحرص على نزع حجاب المسلمات ليصل إلى ما يتمناه من تلك المجتمعات المسلمة.
قال المرحوم محمد طلعت في كتابه: "المرأة والحجاب": "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان، لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربا بالعالم الإسلامي".
وفرنسا بالذات قبل غيرها من دول أوروبا هي من يتولى كبر هذه المؤامرة، فمنها تخرج رفاعة الطهطاوي الذي بدأ إثر عودته إلى مصر يمهد للتبرج والاختلاط، وينفي أن يكون ذلك داعيًا إلى الفساد، وكان معجبًا بمراقصة الرجال للنساء، معتبرًا ذلك فنًا من الفنون، غَير خارج عن قوانين الحياء. وعلى أرضها درج مرقس فهمي الذي طالب بالقضاء على حجاب المسلمات، ودعا إلى الزواج بين المسلمات والأقباط. وفيها نبتت الأميرة نازلي فاضل، فوثقت علاقتها مع "اللورد كرومر"، وفتحت ناديها لسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهما لتنظيم جهودهم ضد الآداب والتقاليد الإسلامية. وفيها نشأت هدى شعراوي التى كانت أول مصرية مسلمة تتمرد علانية على أحكام الله فتخلع الحجاب، وتنشط في تكوين "الاتحاد النسائي المصري" الذي يدعو إلى منع تعدد الزوجات وتقييد الطلاق وإلغاء بيت الطاعة. ومنها انطلق قاسم أمين الذي لقبوه بـ"محرر المرأة"! فكان بمثابة قنبلة فجرت في عالم المرأة كل شيء بما نشره في كتابَيه: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" من دعوة إلى رفع الحجاب؛ لأنه يحول بينها وبين العالم الحي، ويجعلها لا ترى ولا تسمع ولا تعرف إلا ما يقع في عالمها الضيق من سفاسف الأمور. وعلى ثراها درجت أمينة السعيد التي تأثرت بطه حسين أشد التأثر، وراحت تُهاجم المحجبات، وتزدري الحجاب، وتتطاول على قانون الأحوال الشخصية، وتحرض النساء على النشوز والفتيات على الانحلال. وفي كنفها ترعرعت نوال السعداوي التي تزعم أن الحجاب استعباد للمرأة وإذلال لها، وتطالب بانتساب الإنسان لأمِّهِ لا لأبيه؛ لأن الأبوة على زعمها مشكوك فيها دائمًا! وتقول: لنفرض أنني سافرت على باخرة، وصادف أن يكون في غرفتي رجل يحجز سريرًا في نفس الغرفة، ماذا أفعل؟ هل أترك له الحجرة؟! لا، لا بد أن أكون متمردة على كل القيود، وواثقة بنفسي. ومن ثقافتها نهل جميل صدقي الزهاوي الذي يقول في مقال له في مجلة المؤيد العراقية: "ليست المرأة المسلمة مهضومة من جهة واحدة، بل مهضومة من جهات عديدة.
ولو كان رمحًا واحدًا لاتَّقيتهُ ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيده يحلها وحده، وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل، وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة في حجاب كثيف يمنعها من شمِّ الهواء، ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة الحياة الكبرى، وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في الأخرى"، وأرجع تخلف المسلمين علميا إلى حجاب النساء، ودعا إلى كسر سلاسل العادات ورفع الحجاب، وختم مقاله بقوله: "أَخَّرَ المسلمين عن أمم الأرضِ حجابٌ تشقى به المسلمات"، ثم نظم قصيدة قال فيها:
اسفري فالحجابُ يا ابنة فهر هو داء في الاجتماعِ وخيم
واعتبر حجب النساء غيًا، فقال في قصيدة له بعنوان: "ابنة يعرب":
القوم يا ابنة يعربٍ من جهلهم وأدوكِ وأدا
حجبوكِ عن أبناءِ نوعِكِ حاسبين الغيَّ رشدا
ثم ازدادت وقاحته وجرأته في قصيدته التي أعلن فيها حربه على الحجاب وتحريضه على السفور الذي اعتبره عنوان الطهر والعفاف، فقال:
مزقي يا ابنة العراق الْحجابا واسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقية وأحرقيه بلا رَيْثٍ فقد كان حارسًا كذابا
زعموا أَنَّ في السفور سقوطًا في الْمهاوي وأَنَّ فيه خرابا
كذبوا فالسفور عنوان طهرٍ ليس يلقى مَعَرَّةً وارتيابا
وعلى نهج فلاسفة وأدباء فرنسا سار معروف الرصافي الذي قال في قصيدة له بعنوان: "التربية والأمهات"، اتهم فيها المجتمع المسلم بقبر البنات قبل الممات، ورمى طباع المسلمين باللؤم لحجبهم النساء، وأثنى على الأعراب الذين تبرز نساؤهم حاسرات بحكم البداوة التي يعيشون فيها، فقال:
لئن وأدوا البنات فقد قبَرنا جميع نسائنا قبل المماتِ
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا لما غدت النساء مُحجبات
وما ضرَّ العفيفة كشف وجه بدا بين الأعِفَّاء الأُباة
فدًى لخلائق الأعراب نفسي وإن وُصِفوا لدينا بالْجُفاة
فكم برزت بحيِّهِمُ الغواني حواسرَ غيرَ ما مُتَريِّبَاتِ
وكم خشفٍ بمربعهم وظبْي يَمر على الجداية والمهاةِ
ولولا الجهل ثَمَّ لقلتُ مرحا لمن أَلِفوا البداوة في الفلاةِ
ولم يقف عند هذا الحدّ، بل ترسَّم خطى صديقه الزهاوي في معظم ما قال، فاعتبر المرأة مظلومة مهضومة الحقوق في كل شيء حتى في الميراث، حيث تأخذ نصف نصيب الرجل، فتستدعي الرحمة والإشفاق، وقد أنشد في هذا:
لم أرَ بين الناس ذا مَظْلِمَة أحقَّ بالرحمة من مسلمة
منقوصةٍ حتَّى بِميراثها مَحجوبةٍ حتى عن المكرُمَة
وفي سوريا التي كانت مستعمرة فرنسية مزق رجال البعث الحجاب في شوارع دمشق، ومنعوا المحجبات من دخول المدارس بحجابهن. وفي الجزائر التي استعمرتها فرنسا أكثر من مائة عام دعا ابن بلّة الجزائريات إلى خلع حجابهن، وقال: "إنني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر"، فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن، ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام. أما المجاهد بورقيبة في تونس فقد بزَّ أقرانه في حرب الحجاب، وأصدر مرسومه الشهير (108) بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية للدولة، ودعا التونسيات أن لا يُشْعِرْنَ السياح الأجانب بالغربة في بلادهن.
أيها الأحبة المؤمنون، أيتها العفيفات المسلمات، هذه هي حلقات المؤامرة على الحجاب، على العفاف، على الحياء، على الفضيلة، فعودوا إلى الله، وتوبوا إلى الله، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد ألا إله الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد المجاهدين، صلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات، أرأيتم لماذا يخافون من الإسلام ومن الحجاب؟ إنها جريمة كبرى سيسجّلها التاريخ للفرنسيين؛ لأنهم خالفوا ما يدّعونه من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل خالفوا دستورهم الذي وضعه "رونان" والذي من مبادئه: "على الدولة أن تكون حيادية عندما يتعلق الأمر بالديانات، وأن تكون متسامحة مع كل المذاهب".
كان ينبغي على فرنسا أن تدعم الحجاب، وتدعو إليه، فالسوس ينخر في أمتهم من الفساد والانحلال، أليس "نابليون" قائدهم المحنّك هو الذي يقول: "الأم التي تهزّ سرير الطفل بيمناها تهزّ العالم بيسراها"؟! إنها الصرخة التي أطلقها "نابليون" للمرأة كي تعود إلى بيتها.
أيها الفرنسيون، هذا يوم عار في تاريخكم، فلا تذكروا الحريّة الشخصية بعد اليوم، ولا تتشدّقوا بحقوق الإنسان، ولا تتكلموا عن تقرير المصير، إنكم تدنّسون طهر هذه الألفاظ ونقاءها حين تضعونها في أفواهكم. لا تحتفلوا بيوم الرابع عشر من تموز، ولا تقرؤوا كتب "روسو" و"هوغو" و"لامارتين" و"لافوازيه" و"ديكارت"، ولا تتبجّحوا بالأدب الفرنسي؛ لأنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب، ولا تتباهوا بثورتكم الكبرى، فما هي إلا ثورة القتل والتدمير والنهب. أنسيتم ماذا فعلتم بسوريا والجزائر والمغرب ومصر وأفريقيا كلها أيها المتحضّرون؟! أنسيتم ماذا فعلتم بدمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ يوم أحرقتموها على رؤوس أبنائها؟!
لقد كتب ملككم "فرانسوا الأول" يوما رسالة لأمه يقول فيها: "لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف"، اليوم سيكتب التاريخ أنكم خسرتم كل شيء حتى الشرف.
أما قولكم: لن نسمح للمدّ الإسلامي أن يخترق أوربا فستصير نكتة مضحكة من نكت الحماقة الفرنسية، يتفكّه بها التاريخ، وتضحك عليكم بها القرون الآتيات، فنحن قادمون إليكم كالإعصار، نحن قادمون إليكم بقوة التيار، وسنملك بلادكم بإذن الله، وسيصدح الأذان في كل مكان: الله أكبر، صوت الخلود يملأ الوجود صوت التوحيد يعلن على العبيد، نحن قادمون إليكم نحمل لكم الحضارة التي ما قدرتم على حملها، أخبرنا بذلك الصادق المعصوم : ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهر، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر)) ، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله نكتب، إذ سئل: أيّ المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أم رومية؟ فقال : ((مدينة هرقل تفتح أولا)) ، ورومية هي روما عاصمة إيطاليا، والقسطنطينية هي مدينة هرقل، وهي الآن إسطنبول، وقد فتحت على يد محمد الفاتح رحمه الله تعالى.
إذًا فقد تحقّق الشطر الأول من الوعد الصادق، وبقي الشطر الثاني، وهو آت بإذن الله، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
وأنت يا فتاة الإسلام، يا أخت العقيدة، يا رمز العفاف، يا تاج الفضيلة، إياك ـ يا أختاه ـ أن تنخدعي بدعواتهم، إياك أن تنطلي عليك حيلهم وشعاراتهم الزائفة ومزاعمهم الكاذبة. حذار ـ يا أختاه ـ أن تسهمي في إنجاح مخططاتهم وتحقيق أهدافهم، فتكوني سلعة رخيصة بأيديهم ومادة تسويقية لمنتجاتهم. تأملي يا أخت العقيدة: هل يمكن أن يسوقوا منتجًا من منتجاتهم بدون إعلان رخيص يعري المرأة؟! هل يمكن أن يسوقوا مجلة من مجلاتهم دون أن يضعوا صورة عارية على غلافها؟! هل يمكن أن ينتجوا أغنية أو فيلمًا أو مسلسلاً دون أن يعروا النساء فيها؟! هل يمكن أن ينشئوا فضائية دون مذيعات سافرات مائلات مميلات؟! هل يمكن أن يقيموا حفلاً فنيًا ساهرًا دون نساء؟!
يا ابنة الإسلام، هل تريدين الحرية؟! هل تريدين التقدم؟! هل تريدين الفوز؟! حريتك في حجابك، تقدمك في عفافك، فوزك في حيائك، الحجاب عفة، الحجاب طهارة، الحجاب ستر، الحجاب إيمان، الحجاب حياء، الحجاب غيرة. واعلمي أن خلع الحجاب سنة إبليسية، وقصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس على كشف السوءات وهتك الأستار وأن التبرج هدف أساسي له.
اسمعي إلى قول المولى جل جلاله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا. إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف، وهو زعيم زعماء ما يسمى بتحرير المرأة. وخلع الحجاب جاهلية: قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى.
يا فتاة الإسلام، يا صاحبة الفضيلة، يا حفيدة خديجة الكبرى، يا بنت فاطمة الزهرا، يا حفيدة أسماء وسمية والخنساء وصفية، يا أختاه، يا أختاه، يا أختاه، اصرخي في وجههم قائلة:
بعزيزِ إيماني أصونُُ حجابي وأصونُ عرضي في حِمى جلبابي
كذب الذين يتاجرون بقصّتِي كذبوا وكانوا مثل زيفِ سرابِ
تجريرَهمْ أبصرتُ لا تَحريرَهم قد خابَ مَن قد سار خلف غرابِ
لا لن أكونَ كما أرادوا سلعةً ضاعت بسوق نَخاسةٍ وبغابِ
لا لن أحيدَ عن الْحجاب وطهرهِ رغم الذئاب ورغم نبحِ كلابِ
ثار البغاةُ وكشّروا أنيابِهم وغدًا نحطّمُ صورةَ الأنيابِ
يعوي العبيدُ على صدى أسيادهم وعواؤُهم ما ضرَّ سيْرَ سحابي
أنا لستُ وحدي فِي قرار تحجّبِي خلفي كثيرٌ يقتفينَ مَتابي
فمعي النساءُ السائراتُ على الْهدى ومعي الْحياءُ وفطرتي وكتابي
سأظلُّ أرقى للسماوات العُلا وأظلُّ أحيا في هدى المحرابِ
اللهم صن عفاف المسلمات، واحفظ حياء المؤمنات، واحم الفضيلة في نفوس الفتيات، اللهم عليك بالمتآمرين على حجاب المسلمات وعفاف العفيفات، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرًا لهم يا رب العالمين، اللهم احفظ بلادنا ونساءنا وفتياتنا وشبابنا من السفور والفجور، وافضح دعاة السفور والفجور على أعين الأشهاد أينما كانوا يا رب العالمين...
(1/4795)
أثر الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد بن ماجد القحطاني
القويعية
15/2/1426
جامع الفرشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعاصي تزيل النعم. 2- المعاصي تمنع القطر وتسلط السلطان. 3- المعاصي تورث الذل وتفسد العقل. 4- المعاصي تضعف الحفظ. 5- المعاصي تدعو إلى المعاصي. 6- المعاصي ديون في الذمم. 7- المعاصي تثقل العبادة. 8- فضل الاستقامة على الطاعات. 9- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه.
واعلموا أن الذنوب والمعاصي تضر في الحال والمآل، وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وما في الدنيا والآخرة شرٌ وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، فبسببها أُخرج آدم عليه السلام من الجنة، وأُخرج إبليس من ملكوت السماوات، وأغرق قوم نوح، وسلطت الريح العقيم على قوم عاد، وأرسلت الصيحة على قوم ثمود، ورفعت القرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبها الله عليهم فجعل عاليها سافلها، وأرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فسبب المصائب والفتن كلها الذنوب والمعاصي، فالذنوب والمعاصي ما حلت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمتها، ولا في أجسامٍ إلا عذبتها، ولا في أُمةٍ إلا أذلتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها.
أيها المسلمون، للمعاصي آثارٌ وشؤم، فهي تزيل النعم وتحل النقم، قال علي بن أبي طالب : (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، قال الله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، ويقول سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، وروى أحمد عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) ، وفي الحديث الآخر: ((الذنوب تنقص العمر)).
ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر وتسلِّط السلطان، فعن ابن عمرٍ رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لم ينقص قومٌ المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) ، وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]، قال: "دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يُمنع عنّا القطر بخطاياهم"، وقال عكرمة: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم"، وقال أبو هريرة : (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم).
وشؤم المعصية هذا بلغ حتى البر والبحر، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ومن شؤم المعصية أنها تورث الذلّ وتُفسد العقل، وتورث الهم وتضعف الجوارح وتعمي البصيرة، وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب، كما في حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتةً سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) ، وقال حذيفة : (القلب هكذا مثل الكف، فيذنب الذنب فينقبض منه، ثم يذنب الذنب فينقبض منه، حتى يختم عليه، فيسمع الخير فلا يجد له مساغًا)، وقال الحسن: "الذنب على الذنب ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت، فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه". يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيْرٌ لنفسك عصيانُها
وأحسن من هذا قول الله عزّ وجل: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضةً في قلوب الخلق)، وقال سليمان التميمي: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلّته".
ومن خطورة المعاصي أنها تُضعف الحفظ وربما أذهبته، وتحرم صاحبها العلم، كما قال الشافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يعطاه عاصي
فاتقوا الله عباد الله، ولا تقترفوا الذنوب، ولا تستهينوا بها، قالت عائشة رضي الله عنها: (أقلّوا الذنوب فإنكم لن تلقوا الله عزّ وجل بشيءٍ أفضل من قلّة الذنوب)، قال بلال بن سعد: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت"، وقال بشر: "لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عزّ وجل"، وقال وهيب بن الورد: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
ومن خطورة السيئة وشؤمها فعل السيئة بعدها، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، قال أبو الحسن: "الذنب عقوبة الذنب". وقد بيّن الله عزّ وجل أن سبب كفر بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء أنهم اقترفوا المعاصي، قال الله عزّ وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الذنب دَينٌ في ذمة فاعله لا بد من أدائه، قال أبو الدرداء : (البر لا يبلى، والإثم لا ينسى)، وقال الفضيل بن عياض: "ما عملت ذنبًا إلا وجدته في خُلُق زوجتي ودابتي"، ونظر أحد العبّاد إلى صبيٍ فتأمل محاسنه، فأُتي في منامه وقيل له: "لتجدنّ غِبّها بعد أربعين سنة"، وقال ابن سيرين حين ركبه الدين واغتمّ لذلك: "إني لأعرف هذا الغم بذنبٍ أصبته منذ أربعين سنة"، وقال أحد السلف: "نسيتُ القرآن بذنبٍ عملته منذ أربعين سنة".
ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تُكْسِلُ صاحبها عن العبادة، كما قال رجلٌ للحسن: إني أبيتُ معافى وأحب قيام الليل وأعدّ طهوري فما بالي لا أقوم؟! فقال: ذنوبك قيّدتك. وقال أبو سليمان الداراني: "لا تفوتُ أحدٌ صلاة الجماعة إلا بذنب"؛ لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن الذنوب، ويهجر أهل الذنوب والمعاصي، فإن شؤم معصيتهم يبلغه.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا جنّة إلا للمتقين، الذين يرثون الفردوس الأعلى هم فيها خالدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم اجتماع العالمين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون، فكما أن الذنوب والمعاصي تمحق بركة العمر وبركة الرزق والعلم كذلك الاستقامة والتقوى تجلب البركة على العباد والبلاد، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال سبحانه: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، قال الحسن: "لو استقاموا على طاعة الله وما أمروا به لأكثر الله لهم من الأموال حتى يغتنوا بها"، ثم يقول الحسن: "والله، إن كان أصحاب محمد لكذلك كانوا سامعين لله مطيعين له، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر"، وقال نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنةِ ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعةٍ في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبة في قلوب الخلق).
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى الله، يقول النبي : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) ، وقال جلّ من قائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فعلى العبد المؤمن أن يأخذ بأسباب المغفرة، وأجلّها وأهمّها التوبة النصوح والاستغفار والاعتراف بالذنب والندم عليه، يقول النبي : ((ما من عبدٍ يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له)) ، وفي حديث أبي هريرة عن النبي : ((إن رجلاً أذنب ذنبًا فقال: أي ربي أذنبت ذنبًا، ـ أو قال: ـ عملت عملاً فاغفر لي، فقال تبارك وتعالى: عبدي عمل ذنبًا فعلِمَ أن له ربًا يغفر الذنب، قد غفرتُ لعبدي)) ، وقال : ((يا عائشة، إن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا أذنب ذنبًا ثم استغفر الله غفر الله له)).
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنّا من الظالمين...
(1/4796)
الشرق الأوسط الجديد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
حمود بن غزاي الحربي
الرس
3/7/1427
جامع عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رجوع المسلم إلى ربه عند الشدائد. 2- وصف القرآن الكريم للداء والدواء. 3- تكرر لمآسي على أمة الإسلام. 4- وقفات قرآنية مع ما يحدث في المنطقة. 5- المخطط الصهيوني الأمريكي في المنطقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، عند اشتداد المحن وتفاقم الأزمات يذكر العبد أنَّ له ربًا يسمع الشكوى ويرفع البلوى، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، كما قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
وعند اشتداد المحن ونزول النوازل بالأمة يجدُ العبدُ المسلم أسبابها وآثارها والمخرج منها في كتاب الله الذي سماه بصائر، فقال في سورة الجاثية: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ [الجاثية:20], أي: معالم يتبصرونها.
إن أهل القرآن يجدون ما يقع الآن في فلسطين ولبنان أو وقع في العراق وأفغانستان في كتاب الله الذي أنزله على قلب رسوله وخليله محمد قبل أربعة عشر قرنا، فأعداء الله ورسوله بالأمس هم أعداءُ اليوم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله، دماؤنا وأشلاؤنا وأسرانا وقتلانا واستباحة الأوطان والأموال والأعراض مشاهد ألفناها منذ عشرات السنين، ورأيناها منذ غابر الزمن في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكوسوفا وفي البوسنة والعراق وفي لبنان وغيرها، منذ متى ودولة يهود تفعل أكثر مما تفعله في لبنان وفلسطين اليوم؟! وينتهي المشهد على مظاهرات ومسيرات، صراخ وعويل وشجب واستنكار، ثم ماذا؟ كامب ديفيد، معاهدات سلام، أوسلو الأولى والثانية، شرق أوسط كبير، ثم شرق أوسط جديد، وهكذا يبدأ المشهد داميًا ثم يسدل الستار على ابتسامات ومصافحات ومعاهدات مليئة بالذلّ والخنوع، وهكذا عاشت أمّة الإسلام في سراديب الظلام طيلة فترة الصراع، وفي أنفاق التيه إلى اليوم، وستبقى حتى تعود إلى ربها وخالقها وتقرأ معالم الطريق من القرآن الكريم وتستبين سبيل المجرمين كما أمرها الله تعالى: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37].
عباد الله، لستم بحاجة إلى سماع أعداد القتلى والجرحى في فلسطين ولبنان، فالكل يسمع ويرى، ولن نتحول إلى محللين سياسيين من على منبر الجمعة، فلكل مقام مقال كما يقال، لكننا نودّ أن نقف وقفات قرآنية ونبوية مع هذا الحدث الذي يدرك الرجل الحصيف أنّ له ما بعده على المنطقة بأسرها. وفي القرآن خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكمُ ما بيننا، لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ورسول الله تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
الوقفة الأولى: يقول تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]، ويقول تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ويقول رسولنا الكريم الذي لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن ورواه ابن عمر رضي الله عنهما: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
في كل حدث وكل نازلة وكل مصيبة يتحدث الناس عن الأسباب، سواء كانت حربًا أو غرقًا أو زلزالاً، ويقولون كل شيء إلاّ شيئًا وحدًا، ويعرجون على كل سبب إلاّ سببًا واحدًا، هو الذنوب والمعاصي التي غرقت بها الأمة اليوم إلاّ من شاء الله، والإقصاء لهذا السبب إقصاءٌ للعلاج أيضًا. لمَا خالف الرماة أمر رسول الله في أحد كانت المصيبة التي أصابت جيش المسلمين، فتساءل الناس: أنَّى هذا؟! فجاء الرد قاسيا: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ. فكيف بنا نحن اليوم؟! كيف بالعالم الإسلامي الغارق في شهواته وملذاته؟! أليس من العار والشنار على الأمة الإسلامية أن تمزق أشلاؤها وتسبى أعراضها وتهدم مدنها وقراها ويقتل رجالها في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وغيرها وعلى بعد مئات الكيلومترات تشارك ثلاث عشرة دولة عربية بمسابقة ملكة جمال العرب لاختيار أجمل فتاة عربية، ويتخلل المسابقة حفل فني ساهر يحييه مطربون ومطربات من لبنان والمغرب وليبيا وغيرها؟!
إنّ الأمة ـ عباد الله ـ قبل أن تصاب في جسدها أصيبت في دينها وعقلها وتفكيرها، أمتنا مخدّرةٌ بالفن والرياضة والمسرح، وأنّى لأمة مخدرة بأفيون الشهوات والشبهات أن تنتصر على أعدائها؟! ومن سفاهات الشعوب أن تطالب قادتها وسادتها أن يكونوا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين والشعوب ذاتها غارقةٌُ في وحل الشهوات ومستنقعات الرذيلة ما بين كأس وغانية وسباق محموم لحرب الله تعالى بالرِّبا، ومن استحيا منها تسلل لواذًا إلى الربا بطرق ملتوية وفتاوى مشتبهة, فيا ليت شعري متى نفقهُ هذا السِّر من أسرار المصائب والابتلاءات؟! فإنه ما وقع بلاءٌ إلاّ بذنب، وما رفع بلاء إلاّ بتوبة, وسنظل ـ من وحي القرآن الكريم وسنة سيد الأولين والآخرين ـ نستبعد النصر على يهود في وقتنا هذا، فالنصر ليس عبارة تكتب، ولا شعار يرفع، إنه غالي الثمن، ومن المستحيل أن يتحقق النصر بضعفائنا على يد قوم يلعنون خيارنا، من المستحيل أن يتحقق النصر لأمة عطَّلت الجهاد وسكتت عن الإلحاد ورضيت بالفساد. إنَّ الذين يرفعون راية النصر في المستقبل قومٌ وصفهم الله بقوله في سورة الإسراء: عِبَادًا لَّنَا ، حقّقوا العبودية لله تعالى قولاً وعملاً واعتقادًا، لم يتحدث عن دولتهم ولا عن حزبهم ولا عن لونهم، بل وصفهم بالعبودية لله تعالى.
الوقفة الثانية: وأمام الواقع المر الذي تعيشه الأمة في لبنان وفلسطين يتعين القول بأنه ليس من المروءة في شيء الشماتة بدماء تنزف وديار تحرق وبشيوخ وأطفال ونساء يقتلون، ولكن من الحكمة والحصفة عدم الانجرار وراء غبار العاطفة القاتلة. لقد نجح الغرب في تحويل الشعوب المسلمة عند الأزمات إلى متفرجين بكائين بالدمع على إخوانهم في فلسطين وفي أفغانستان وفي العراق وأخيرًا في لبنان؛ مسيرات في الشوارع وملاسنات في الفضائيات ومظاهرات تحرق علم إسرائيل وأمريكا، وأيام معدودة وينتهي الصراخ وتجف المآقي بدموعها وكأن شيئًا لم يكن، بينما يهود لمَّا شُتّتوا خطّطوا عشرات السنين حتى أقاموا دولتهم في فلسطين، مؤتمرات وجمعيات وندوات وضغطٌ سياسي حتى قامت إسرائيل الكبرى، والتي يُخطط لها أن تكون العظمى في الشرق الأوسط الجديد، ولا زالت إسرائيل تُقاضي ألمانيا سنويًا لمذبحة اليهود المكذوبة. المعركة القادمة مع إسرائيل تحتاج إلى عمل منظم يبدأ بالفرد ويمر بالأسر وينتهي بالمجتمع، لا يحتاج إلى حرق أعلام وصراخ وعويل وشجب واستنكار.
الوقفة الثالثة: إنَّ خيارات السلام سقطت ومبادرات الاستسلام فشلت بتوقيع إسرائيل التي غدرت ونقضت العهد، فإلى متى نخدع؟! وإلى متى تخدع الأمة بالتعايش السلمي مع إسرائيل؟! إنَّ المسلم الذي رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولا يدرك ديمومة المعركة وسجال الحرب مع يهود حتى تقوم الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلاّ الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
إن تاريخ يهود مليء بالغدر مع أنبيائهم ومع نبينا محمد ، فقد غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر، وغدرت بنو النضير بعد غزوة أحد، وغدرت بنو قريضة بعد غزوة الأحزاب، واليوم يعيد التاريخ نفسه، كم هدنة وقعت مع اليهود فكانت كلّ هدنة عهد لحرب لاحقة، ولا يصلح ليهود إلاّ الدم ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، فإن كان صوابًا فذلك من الله وكرمه، وإن كان غير ذلك فأستغفر الله، إن الله غفورٌ رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم, صلاة زكية طيبة مباركة، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فعلى ظهر دباباتها وتحت أزيز طائراتها في فلسطين ولبنان وفي العراق وأفغانستان بشّرت أمريكا العالم بميلاد شرق أوسط جديد ينهي حالة الصراع في المنطقة، وكعادة الضعفاء فرح المخلّفون بمقعدهم بهذه البشرى، وظنوا أنها وليدة أزمة ونهاية حرب، وما اعتبروا عبارات أمريكا السابقة: اتحاد دول حوض البحر الأبيض، والسوق الشرق الأوسطية المشتركة، والشرق الأوسط الكبير، واليوم: الشرق الأوسط الجديد، فما هو يا ترى؟!
لقد تكلم "هرتزل" مؤسس الدولة اليهودية في فلسطين عن مبادرة "رايز" قبل ستين عامًا في مذكراته عندما طالب بـ"كومونولث شرق أوسطي"، فليست جديدةً كما يظنها البعض، لكننا أمة لا نقرأ، وبعد ذلك ألّف "شمعون بيريس" كتابه الذي سماه: "شرق أوسط مدمجٌ بالتنمية والرفاه", وطرح فيه مشروعه الذي نادت وبشرت به "رايس"، اليوم ثم جاء "هورفينز" ونادى بالمجتمع من أجل السلام، وفي عام اثنين وتسعين وتسعمائة وألف وفي نهاية عهد "بوش الأب" وبداية عهد "كلينتون" بدأ التحضير لهذا الأمر بين "بول وولفر" و"زلماوي خليل زاده" و"لويس سكوتر" وفي عام ستة وتسعين أي: قبل عشر سنوات استكمل دراسته "ريتشارد بيرل" و"دوجلاس فيت" مع مجموعة من المحافظين المتشدّدين في الإدارة الأمريكية، ومن أجله صنعت الأزمة في لبنان حتى تأتي إليه العرب وهي صاغرة.
أما أهدافه فهي باختصار "سايكس بيكو" جديد، يهدف إلى أن يدور المشرق العربي في الفلك الإسرائيلي الأمريكي مقابل دوران المغرب العربي في الفلك الأوروبي، ويدعو إلى التخلي عن اتفاقية "أوسلو" وإسقاط النظام العراقي والسوري وإعادة تشكيل العراق على أساس طائفي وإعادة تقسيم المنطقة وطمس شخصية الإقليم العربي، أي: إقامة كانتونًا سياسيًا تصبح إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى التي تسيطر عليها، وفي جانبه الاقتصادي يهدف الشرق الأوسط الجديد إلى ربط شرايين الحياة الاقتصادية العربية المياه النفط السياحة التكنولوجيا بالاقتصاد الإسرائيلي، ودعوة رأس المال العربي للاستثمار في إسرائيل، وإنشاء أكبر بنك شرق أوسطي في "تل أبيب" ترتبط به دول المنطقة.
هذا ما جاءت به "رايس" وتدعو إليه، وهو بنصِّه ما نشر في مجلة الحركة الصهيونية في عام اثنين وثمانين وتسعمائة وألف، سبحان الله! £ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].
عباد الله، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ. لقد دعم الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي دولة يهود قبل قيامها وبعد قيامها وميلادها قارب الستين عاما، لكنها خلال هذه العقود ومع سياسة القَمع والقتل والسجن والتغريب ما ذاق شعبها الراحة والاستقرار خصوصًا في العشر السنوات الأخيرة من عمرها، وها نحن ننتظر وعد الله فيها، والشعوب المسلمة التي أسقطت كلّ مبادرات الاستسلام واختارت ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله ستسقط هذه المبادرة وتحيلها إلى التقاعد المبكر بإذن الله.
اللهم أبرم لأمتنا أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهل طاعتك...
(1/4797)
زنا المحارم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا الأسرة
محمد بن أحمد شامي
جدة
مسجد أبي بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ شريعتنا للأعراض وحمايتها. 2- التعريف بزنا المحارم. 3- نفرة النفوس السليمة من الزنا. 4- تعظيم الإسلام لجريمة زنا المحارم. 5- قصص مؤثرة عن زنا المحارم. 6- الوقاية من الوقوع في زنا المحارم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصه الله ورسوله فلا يضرنّ إلا نفسه، ولا يضرّ الله شيئا.
أيها المسلمون، قد جاء ديننا الإسلامي بحفظ الأعراض وحمايتها، وبسدّ كل باب يمكن أن تنفذ منه الشهوة بين المحارم، وأوجب ستر العورات بينهم، ولم يتوسع في القدر المعفوّ عن ستره بينهم حتى لا تقع العين على ما يهيج الجسد ويحرك الشهوة، فيضعف مع هيجانها رقابة الضمير، أو يتلاشى الحاجز النفسي تحت ضغط الشهوة، أو يضعف تحت وطأتها الملحة.
أيها الإخوة، إننا في هذا اللقاء لن نتكلم عن الزنا بعمومه، ولكن سيقتصر كلامنا عن زنا المحارم عافنا الله وإياكم. ونقصد بزنا المحارم زنا الأخ بأخته أو العمّ ببنت أخيه أو الخال بابنة أخته، وأعظم منه زنا الرجل بابنته التي من صلبه والله المستعان.
وإن كان الزنا في حد ذاته مستقبحا في النفوس والفطر، فإن الفطر السليمة تكاد تنكر وقوعه لو سمعوا به، وهذا دليل على أن الله فطر في النفوس قبحه والنفرة منه والابتعاد عنه، فقد جبلت النفوس على عدم الميل الجنسي بين المحارم، بل استعظام هذا واستقباحه، ومن شأن الرجل أن يحمي حريمه ويذود عنهم، فيكون ذلك أدعى أن لا يفكر في الاستمتاع بهنّ، وهو الذي يحميهن من أن يتعدَى عليهن، فلا يتصوّر أن يعتدي هو عليهم، بل لا يفعل ذلك إلا من خرج عن فطرته؛ ولذلك عظمت الشريعة عقوبة الزاني بمحارمه، فأشهرت في وجهه أعتى سلاح يمكن أن يصيب الإنسان، إنه القتل، فقال ابن حجر الهيتمي من فقهاء الشافعية في كتابه "الزواجر": "وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم"، وعن البراء بن عازب قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله. رواه الخمسة.
وقد اتفق العلماء في أن المحصن إذا زنى فإن حكمه في الشرع هو الرجم، بل ذهب بعض العلماء إلى أن من زنى بمحرم من محارمه فيقتل، سواء أكان محصنا أم لا، تغليظا له في العقوبة، وإن كان جمهور الفقهاء على أن عقوبة زِنا المحارم هي عقوبة الزاني، فيجلد إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "الجواب الكافي": "قد اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرم فعليه الحد، وإنما اختلفوا في صفة الحد هل هو القتل بكل حال أو حده حد الزاني؟ على قولين، فذهب الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايتيه إلى أن حده حد الزاني، وذهب أحمد وإسحق وجماعة من أهل الحديث إلى أن حده القتل بكل حال" اهـ.
ونحن في هذا المقام لسنا في مقام تقرير الحدّ الشرعي فيمن زنى بامرأة من محارمه، وإنما في مقام الوقاية من ذلك الداء العضال. وإذا نظرنا إلى أصل المشكلة نجده يكمن في التساهل في النظر إلى العورات ونظر الشهوة المحرم، ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وعليك الثانية)) ، والخلوة المحرمة التي حظر منها النبي : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)) ، وسئل النبي عن الحمو الذي هو أخو الزوج فقال: ((الحمو الموت)) ، وما يحصل من سكنى أخي الزوج مع أخيه في نفس البيت وتساهل الناس في الحجاب الشرعي ودخوله وخروجه حتى عند عدم وجود الزوج وأيضا عدم السعي إلى إعفاف الابن أو البنت عن طريق الزواج الشرعي والصعوبات التي تقابل كلا الجنسين الرجل أو المرأة والتي أولها المهر وتاليها التقليد لما عليه الناس من الإسراف والإفراط، وقد شكا لي البعض من تحرش أحد أقاربه اللصيقين جدا بأخته، وشكت امرأة من محاولة تحرش أخيها بابنتها نسأل الله العافية.
وإليكم في بادئ الأمر بعضا من القصص الواقعية التي وقعت وليست من نسج الخيال، قصص مؤثرة عن زنا المحارم:
القصة الأولى: وقفت تلك الفتاة ذات السابعة عشر من عمرها وبجوارها أمّها، وقد نزل عليها خبر حمل الفتاة كالصاعقة، لم تتوقّع الأم أبدا أن ابنتها العذراء والتي لا تخرج من البيت إلا قليلا ولا تختلط بأحد أن تحمل سفاحا. أمام انهيار الأم المسكينة حاولت معرفة من اقترف هذا الفعل الأثيم مع هذه الفتاة؛ حتى تستطيع الأسرة إدراك الخطأ وعلاجه، خاصة أن الحمل قد تجاوز الأشهر الستة، ولكن الفتاة أصرت على الإنكار وادعاء أنها لا تعرف كيف حدث هذا في بلاهة مستفزة. انصرفت الأم وابنتها التي ما لبثت إلا أن عادت لتهمس في أذني بخبر سقط عليّ أنا هذه المرة كالصاعقة، أخبرتني بأن صاحب هذه الفعلة هو خالها الذي يكبرها بخمسة أعوام، إنه الخال الذي كانت تخرج الأم وتغيب عن البيت وهي مطمئنّة أنّ الابنة في أمان معه، وقالت الفتاة: إن خالها قد اعتاد على ملامستها منذ عام، ولكن لماذا لم تقاوم الفتاة؟ ولماذا لم تخبر أحدا؟
القصة الثانية: قالت: كنت في سن المراهقة، اعتدت على ممارسة الجنس مع أخي الذي يكبرني مباشرة، واستمررنا في ذلك حتى سنّ الجامعة، ثم انتبه كلّ منا إلى خطورة ما يحدث فتوقّفنا، وتزوّج أخي وتزوجت، ولكن كانت دائما تلك المشاهد تعود أمام عيني بمجرد أن يبدأ زوجي معاشرتي، فتصيبني بالقرف والنفور، أي: النفور من زوجها.
القصة الثالثة وهي لعلها تكون أفظع من سابقاتها: دخلت الفتاة ذات الخمسة عشر عاما إلى عيادة إحدى الطبيبات بصحبة خالتها التي طلبت من الطبيبة مباشرة توقيع الكشف الطبي عليها للاطمئنان على عذريتها، وعندما سألتها الطبيبة عن السبب وضعت يدها على وجهها، ونظرت إلى الأرض، وقالت: "إن والد الفتاة ووالدتها في شجار مستمر، تركت الوالدة على إثره منزل الزوجية، وأخذت معها الطفلين الصغيرين، وظلت هذه الفتاة وحدها مع الأب، كانت هذه المسكينة تتّصل بالأم دائما، وتطلب منها سرعة العودة، والأم ترفض بحجة أن الأمر لا يعدو كونه محاولة من الزوج لإجبارها على العودة، وذات يوم أخذت الفتاة تبكي بشدة، وتستعطف الأم بسرعة العودة قائلة: أنت لا تعرفين ما يحدث لي، والأم في لامبالاة حتى تدخلت أنا، وأخذت التليفون من الأم، وسألت الفتاة: ماذا يحدث؟ ولماذا كل هذا البكاء؟ فهذه ليست أول مرة تترك الأم المنزل بالشهور! ولكن الفتاة أغلقت التليفون بسرعة، وأضافت الخالة: "بعد يأسي من لامبالاة أختي تجاه دموع ابنتها ذهبت إلى الفتاة التي ارتمت في حضني، واشتكت لي مما يفعله أبوها معها عندما يعود مساء، وأنها أصبحت لا تستطيع المقاومة أكثر من ذلك". قامت الطبيبة بالكشف على الفتاة، وبفضل الله وجدت أنها ما زالت عذراء، فنصحت خالتها بجعل أمها تحتضنها، ولا تتركها لهذا الأب المتوحش.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: عباد الله، فأخوة الإسلام التي عبر عنها القرآن بقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، والولاية بين المسلمين فيما بينهم رجالا ونساء وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ تجعل حرص المسلم على أخته المسلمة من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله، بل تدفع المسلم إن رأى مسلما ومسلمة تعدّيا حدود الله أن يقوم بواجب النصح لهما، امتثالا لقول النبي : ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، كما يعد الوازع الديني ورقابة الضمير وتحقيق مقام المراقبة أنجح قانون وأنجع وسيلة لعدم التعدي على الحرمات، بل نعدها من إعجاز القرآن التشريعي أن ينضبط سلوك الناس دون القانون الذي يضع العقاب، فالخوف من الله تعالى وشؤم المعصية ومخافة الحساب والوقوف على الصراط ورد المظالم وغيرها من القيم الإيجابية في الدين تجعل المرء يخاف أن يتعدى حدود الله، بل أولئك هم الظالمون.
أما فيما يخص الوقاية من زنا المحارم فقد وضع الإسلام التدابير الوقائية التي تحمي المجتمع من الاقتراب منه، وتحول بينهم وبين الوقوع فيه. إننا عند طرحنا لهذا الموضوع المؤلم والذي يزعج الكثيرين ليس مقصودنا منه التسلية، ولكن مقصودنا أن نقف على الجرح، حتى نتمكن من الوقاية منه وعلاجه إن وقع. فمن الإجراءات الوقائية:
1- مراقبة الأبناء وعدم الغفلة عنهم عند التجمعات الأسرية بين الأقارب. نعم أيها الإخوة، إن كثيرا من العادات السيئة يكتسبها الأبناء من احتكاكهم بأقاربهم، وربما يكون بينهم فاسد فيفسد باقي الأبناء، أو يستغل جهل بعضهم أو خوفه منه أو سذاجته، فيفعل بهم الأفاعيل والأهل عنه غافلون أو متساهلون. سلوا ـ أيها الإخوة ـ بعض الأبناء: كيف تعلمت ذلك؟ لربما أجابك من قريبه الفلاني.
2- الاستئذان قبل الدخول ومراعاة الخصوصيات في الغرف المغلقة، ولقد بلغت الحيطة مداها، فاحتاط الإسلام من وقوع النظر على العورات ولو خطأ، ففي موطأ مالك عن عطاء أن رجلا سأل رسول الله فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ((نعم)) ، فقال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله : ((استأذن عليها)) ، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله : ((استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!)) قال: لا، قال: ((فاستأذن عليها)). فانظر إلى تعليل وجوب الاستئذان، وهو الخوف من احتمال رؤية أمه عريانة.
3- التفريق بين الأولاد والبنات في المضاجع لِما جاء من الأمر بالتفريق بين الأبناء في المضاجع: ((وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني. قال العلامة الحنفي ابن عابدين: "إذا بلغ الصبي عشرا لا ينام مع أمه وأخته وامرأةٍ... ـ إلى أن قال: ـ فالمراد التفريق بينهما عند النوم خوفا من الوقوع في المحذور، فإن الولد إذا بلغ عشرا عقل الجماع، ولا ديانة له ترده، فربما وقع على أخته أو أمه، فإن النوم وقت راحة مهيج للشهوة، وترتفع فيه الثياب عن العورة من الفريقين، فيؤدّي إلى المحظور وإلى المضاجعة المحرمة، خصوصا في أبناء هذا الزمان، فإنهم يعرفون الفسق أكثر من الكبار" انتهى.
يقول أحد الشباب بعد أن سمع أحد المشايخ يتكلم عن ضرورة التفريق بين الأبناء في المضاجع، قال: "عندما كنت صغيرا وكنا ننام أنا وإخوتي معا كان شيء يشغل بالي وهو: ما الفرق بيني وبين أختي؟ ولماذا هي بنت وأنا ولد؟ وعندما سمعت كلام الشيخ عرفت أهمية التفريق بين الأبناء في المضاجع". أيها الإخوة، هذا مع ما تعجّ به القنوات من إفساد تلك الفطر السليمة.
4- عدم ظهور الأم أو البنات بملابس كاشفة أو خليعة تظهر مفاتن الجسد أمام المحارم الذكور، والعكس بعدم تبسط الذكور أمام محارمهم من الإناث. قال العلامة الدردير من فقهاء المالكية فيما يجوز كشفه بين المحارم حيث عرض لقول قبله: "فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا ـ أي: على المحرم ـ كَشْفُ صَدْرِهَا": "وأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ رُؤْيَةَ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَذَلِكَ فُسْحَةٌ"، أي: أن الحاجة ربما اقتضت أن ترضع الأم أو الأخت وليدها أمام محرمها لضيق المكان أو نحو ذلك.
5- التزام قدر معقول من التعامل المحترم بعيدا عن الابتذال والتساهل بين أفراد الأسرة، يجب تجنب المداعبات الجسدية بين الذكور والإناث في الأسرة، والتي تأخذ شكلا من أشكال المزاح.
6- عدم نوم الأبناء أو البنات في أحضان أمهاتهم أو آبائهن خاصة بعد البلوغ: أوجب الإسلام على الأطفال المميزين أن يستأذنوا في الدخول على آبائهم وأمهاتهم في الأوقات التي يتصوّر أن يتمّ فيها الاتصال الجنسي عادة بين الزوجين، والتي يحبّ أن يجلس فيها الإنسان متخفّفا من ثيابه، كاشفا بعض ما لا يظهر منه أمام أبنائه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58]؛ وذلك حتى لا يقع بصر الطفل على صورة ترتسم في ذهنه، بحيث يستدعيها من ذاكرته حينما يمكنه التفكير فيما لم يكن يفكر فيه وهو صغير، إذ إن رؤية الصور الجنسية تطبع صورة ذهنية، بل هياجا حين يتكرر النظر، ويدفع للإثم إن حانت له فرصة في حال ضعف. ولا غرو أن ذهب بعض الفقهاء إلى منع الأبوين من ترك الطفل بينهما أثناء الاتّصال الجنسي، حتى لا تعلق تلك الصور الجنسية في ذهنه منذ الصغر، فتؤثر في سلوكه في الكبر، بل بلغ التحوّط منتهاه عند ابن عابدين حينما قال: "ويفرق بين الصبيان في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، ويحول بين ذكور الصبيان والنسوان وبين الصبيان والرجال، فإن ذلك داعية إلى الفتنة ولو بعد حين". فأين هذا من أسرة مستهترة تتحلق جميعا لمشاهدة ممارسات جنسية فاضحة باسم مشاهدة الفن؟!
(1/4798)
الحرب اللبنانية السادسة: الدروس والعبر
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
24/7/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبر والدروس التي تُستفاد من هذه الحرب. 2- تنبيهات مهمات. 3- واجبنا تجاه إخواننا المنكوبين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد نشبت الحرب السادسة في لبنان، وخلَّفت وراءها كثيرًا من الدروس والعبر، وهي:
الأول: أنَّ المستقبل لهذا الدين، مهما حاول الأعداء القضاء عليه مهما خططوا لذلك فإنّ المستقبل للإسلام، قال ربنا تبارك وتعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].
الثاني: تنبئ هذه الأحداث عن واقع مزرٍ أليم وضعف كبير يخيم على أمة الإسلام، فالأمة التي بلغ عددها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون فرد لا تقوى على فعل شيء لرفع الظلم على إخواننا في لبنان! يُؤسر علج يهودي فتمتلئ الدنيا ضجيجًا، بينما يمكث عشرة آلاف أسير فلسطيني في سجون الصهاينة ولا أحد يُحرِّك ساكنًا! والله المستعان. هذا هو الضعف والهوان الذي تنبأ به نبينا ، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) رواه أحمد (21363)، وأبو داود (3745)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3567).
الثالث: أنَّ هذه الأمة أمة باقية لن تباد، مهما خطط الأمريكان واستعملوا اليهود كأداةٍ لتحقيق ذلك فلن يقدروا على إبادة هذه الأمة، لن يتمكنوا من إعدامها، مهما نفذوا فيها من مجازر، مهما قتَّلوا فلن يقدروا، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)) رواه مسلم (2889)، وقال: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)) رواه البخاري (6767)، ومسلم (1920).
الرابع: علمتنا هذه الحرب أنَّ من رام مجدًا فلا يكون ذلك إلا برفع راية الجهاد في سبيل الله، لن يعود للأمة مجدُها ولن تسترد كرامتها إلا بالجهاد، يصدق ذلك حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاً لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) رواه أبو داود (3003)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3462). أما المناداة بسلام دائم مع اليهود فهذا هدم للشرع وعدم عقل، إن اليهود ـ أيها المسلمون ـ لا تجدي معهم إلا لغة واحدة، هي لغة القتال والجهاد.
الخامس: من دروس هذه الحرب أنَّ أجبن عباد الله عند النزال وأحرصهم على البقاء وعدم الزوال هم اليهود. لقد عاين الناس وأدركوا عظيم جبن اليهود وكبير حرصهم على الحياة الدنيا، رأينا جنودًا منهم توجهت إليهم الأوامر بالتوجه إلى مواقع النزال فبكوا بكاء الثكلى من النساء، فلما جاءهم الأمر بالانسحاب وتوقَّفَ إطلاق النار رقصوا وفرحوا! قال الله عنهم: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، وقال: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:6، 7].
السادس: تعلمنا هذه الأحداث ما للإعلام من دور كبير في توجيه الأمة وبناء تصوراتها، فلقد كان من المستقر عند الناس بسبب هذا الإعلام المضل أنَّ الجيش اليهودي جيش لا يُقهر وكيان لا يُكسر! ولكن تبدد هذا الوهم بالوعد الصادق [1] ، لقد قُصف اليهود في يوم واحد قبل وقف إطلاق النار بأكثر من (250) كاتيوشا وهم عاجزون عن صدها والتصرف حيالها إلا بمغادرة مساكنهم إلى الملاجئ والنحيب من الجنسين.
ولذا ـ أيها المؤمنون ـ نهى الله عزَّ وجل عن كل ما من شأنه أن يفت في عضد الأمة بإشاعة الأخبار الكاذبة وترويج الشائعات المغرضة: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:60-62].
السابع: من الدروس أنَّ اليهود متى ما عادوا إلى الغطرسة والبغي والإفساد عاد الله عليهم بالإذلال، وهذا هو تأويل قول الله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [الإسراء:6-8]، قال البغوي رحمه الله: " عَسَى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَن يَّرْحَمَكُمْ بعد انتقامه منكم، فيرد الدولة إليكم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا أي: إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة".
الثامن: أنّ الذلة والمهانة قدَر مكتوب على اليهود، وقد قال تعالى في ذلك: فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:166، 167]. لقد سامهم الله سوء العذاب بصواريخ القسام من مجاهدي غزة، وبكاتيوشا لُبنان، وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران:112].
التاسع: من الدروس أنَّ للخيانة دورًا كبيرًا في هزيمة الأمة، لقد اجتمع العرب لحرب اليهود من قبل عام 1967م، فكانت النكسة لوجود الخيانة؛ ولذا امتلأ القرن الكريم بالنهي عنها لخطورة أمرها وعظيم خَطْبها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
العاشر: أنَّ النصر بيد الله، حزب واحد فقط يقف في وجه قوة عسكرية بهذه الآليات الضخمة ويوقع النكايات العظيمة بها. لأول مرة تُقصف حيفا ونهاريا وعكا وكرمئيل بالصواريخ، لأول مرة ينام مليون يهودي في الملاجئ، خسر اليهود حسب الإحصائيات التي نُشرت في بعض صُحفهم (5.7) مليارًا من الدولارات.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] الوعد الصادق اسم أطلقته المقاومة على عملياتها العسكرية تجاه اليهود.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير المرسلين وسيِّد المؤمنين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: وأما المحور الثاني فتنبيهات مهمّات تتعلق بهذا النصر الذي حققته المقاومة في لبنان:
الأول: من المعلوم أنَّ هذا الحزب شيعي، ولكنَّ المسلم يفرح بوقوع النكاية على اليهود بغضِّ النظر عن الذي أوقعها، ويدل لذلك قول الله تعالى في القرآن الكريم: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:1-5]. فقد أقرَّ الله تعالى فيها فرح الصحابة بانتصار الروم الكتابيين على الفرس الوثنيين.
الثاني وهو من الأهمية بمكان: فرق بين الفرح وبين أن نشهد بصحة ما هم عليه من الضلال أو نعلن انتماءنا إليهم، فرق بين الفرح وبين طمس الهوية وتغيير المبادئ. بعض الناس ينقادون لعواطفهم ويكبلون عقولهم، فلا يتعدى نظرهم موضعَ أقدامهم، فلهذه النكاية التي أوقعتها المقاومة اللبنانية على شرذمة اليهود يشهدون بصحة مذهبهم، وربما أدى ذلك إلى إعلان انتمائهم إليهم! وفاتهم أنَّ الصحابة الذين فرحوا بانتصار الروم على الفرس لم يُصَحِّحوا مذهبهم ولم يتحولوا إليه، بل قاتلوهم في معارك عديدة.
الثالث: من مهمات التنبيهات أنّ عالمًا من علمائنا إذا قال في مسألة برأيه تتعلق بعدم مناصرة طرف من الأطراف فهذا لا يسوّغ لنا أن نقع في عرضِه، وأن نكشف عن عوار أخلاقنا بسبِّه، فما هكذا نعامل علماءنا.
لقد أفنى الشيخ الجبرين حفظه الله ورعاه عمره في تعلم وتعليم الوحي الذي أنزله الله على قلب محمد ، فهذا رأيه الذي يدين الله به، وهذه الفتوى قديمة، فكيف نتجرأ على علمائنا؟! أما علمنا أن المجتهد بين الأجر والأجرين؟! أما قال نبينا : ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)) رواه البخاري (6805)، ومسلم (1716)؟!
الرابع: إذا كنَّا نحزن لقتل إخواننا في لبنان على يد اليهود الغاضبين فلنحزن على تقتيل إخواننا في العراق على يد الشيعة الخائنين.
الخامس: لا شك أن اليهود سيبحثون عن فريسة يحاولون أن يمسحوا فيها عار هزيمتهم في لُبنان، وهذه الفريسة هي إخوانكم في فلسطين، فأكثروا لهم من دعاء الله تعالى.
السادس: يقول أحد الفضلاء: "عند النظر إلى ما يحدث الآن من صراع فليس من العدل ولا من الحكمة أن يحشر الناس في زاوية ضيقة وأن يخيروا بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع هذا الطرف أو مع ذاك، فتستبدل عدوا بعدو وخصما بآخر. إن المسلم وإن كان يفرح بكل ما يقع في العدو الصهيوني من خسائر وجراحات ونكايات فلا يلزم من هذا أنه يؤيد كل الأطراف المقاومة في لبنان، أو يقف معها في خندق واحد ويشاركها مشروعها وأهدافها، كما أن انتقاده المقاومة وبيانه لحقيقتها وحديثه عن أخطائها ومثالبها لا يعني أبدا أنه يقف مع العدو الصهيوني أو يسكت على جرائمه ويغضّ الطرف عنها، أو يسوّغ له عدوانه الذي يقع في حقيقة الأمر على الشعب اللبناني الأعزل كله وعلى كافة مناطقه وفئاته. إنَّ مقاومة العدوان الصهيوني والاحتلال اليهودي لفلسطين أو لأي أرض عربية هو حق لا مرية فيه، بل هو واجب شرعي على الجميع، كل حسب طاقته واستطاعته، ولكن مصير الأمة لا يجوز أن يكون رهنا لعواطف جياشة أو تبعا لحماس جماهير غاضبة لا تدرك العواقب، أو تحركات عجلى لا تبنى على حقائق".
عباد الله، بقي الكلام عن واجبنا حيال أهلنا المنكوبين في لبنان وفي هذه البلاد بسبب الأمطار والسيول، إنَّ كتاب الله وسنة رسوله يحتمان علينا أن نقف مع المنكوبين، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، ويقول النبي : ((الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ)) رواه مسلم (2586).
عباد الله، أكثروا من الصلاة والتسليم على نبيكم كما أمر ربكم...
(1/4799)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعد بن عبد الله السبر
الرياض
جامع الشيخ عبد الله الجار الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- قدوم رمضان. 3- نعمة بلوغ رمضان. 4- استقبال رمضان. 5- فضل الصيام. 6- من أسرار الصوم ومقاصده. 7- الإعلام في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، كم تُطوى الليالي والأيام، وتنصرم الشهور والأعوام، فمن الناس من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وإذا بلغ الكتاب أجله فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ومن يعش منكم ـ يا عباد الله ـ أسأل الله عز وجل أن يطيل في أعماركم وأن يجعلها في طاعته وأن يتوفانا جميعًا سبحانه وتعالى وهو راض عنا، أقول: أيها الإخوة، فإنه من يعش منكم فإنه يرى حلوًا ومرّا، فلا الحلو دائم، ولا المرّ جاثم، وسيرى أفراحًا وأحزانًا، وسيسمع ما يؤنسه، وسيسمع ما يزعجه، وهذه سنة الحياة، والليل والنهار متعاقبان، والآلام تكون من بعد زوالها، أحاديث وذكرى ولا يبقى للإنسان إلا ما حمله زادًا للحياة الأخرى، يولد المعدوم، ويشب الصغير، ويهرم الكبير، ويموت الحي، وينظر المرء ما قدمت يداه، وكل يجري إلى أجل مسمى. قعدت بالمؤملين آجالهم عن بلوغ آمالهم، وعدوا أنفسهم بالصالحات فعاجلهم أمر الله، كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني، ولكن أين الجازمون؟ وأين الكيسون؟ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أيها المسلمون، لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، كنتم قد وَعدتم أنفسكم قبله أعوامًا ومواسم، ولعل بعضكم قد سوّف وقصّر، فها هو قد مُدّ له في أجله، وأنسئ له في عمره، فماذا عساه فاعل؟
إن بلوغ رمضان نعمةٌ كبرى، يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. إن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى بحديثه على منبره في مساءلةٍ بينه وبين جبريل الأمين: ((من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين)) ؟! من حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟!
إن العمل الجاد لا يكون على تمامه ولا يقوم به صاحبه على كماله إلا حين يتهيأ له تمام التهيؤ، فيستثير في النفس همّتها، ويحدوه الشوق بمحبة صادقة ورغبة مخلصة.
أتاكم ـ أيها المؤمنون المسلمون ـ شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقيّ من حرم رحمة الله.
في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات وعهود الطهر والصفاء والعفة والنقاء، ترفع عن مزالق الإثم والخطيئة، إنه شهر الطاعات بأنواعها؛ صيام وقيام، جود وقرآن، صلوات وإحسان، تهجد وتراويح، أذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبكم في فضائله أن أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخِره عتق من النّار. رب ساعة قبول أدركت عبدًا فبلغ بها درجات الرضا والرضوان.
في الصيام تنجلي عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية، يدَعون ما يشتهون، ويصبرون على ما يشتهون في الصيام، يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله وهجر الرغائب والمشتهيات، يدَعون رغائب حاضرة لموعد غيب لم يروه، إنه قياد للشهوات وليس انقيادًا لها.
في نفوسنا ـ يا عباد الله ـ شهوةٌ وهوى، وفي صدورنا دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يُدَافع ذلك كله إلا بالصبر والمصابرة، ولا يُتَحمّل العناء إلاّ بصدق المنهج وحسن المراقبة. وما الصوم إلا ترويض للغرائز وضبط للنوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزن الصعاب ويتحملون التكاليف ويصبرون في الشدائد.
تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثيرًا من اللذائذ وتنفطم عن كثير من الرغائب، والراحة لا تنال بالراحة، ولا يكون الوصول إلى المعالي إلا على جسور التعب والنصب، ومن طلب عظيمًا خاطر بعظيمته، وسلعة الله غالية، وركوب الصعاب هو السبيل إلى المجد العالي، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام.
إن عبّاد المادة وأرباب الهوى يعيشون ليوم حاضر، يطلقون لغرائزهم العنان، إذا أحرزوا نصيبًا طلبوا غيره، شهواتُهم مسعورة، وأهواؤهم محمومة، ونفوسهم ملوثة، ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ?لأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، ويجعلون مكاسبهم وقودًا لشهواتهم وحطبًا لملذاتهم، ويوم القيامة يتجرعون الغصة، ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75]، وما فسدت أنظمة الدنيا إلا حين أعرضت عن توجيهات الدين وتعليمات الملة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]. إنها الأنعام السوائب والضّوالّ من البهائم، تفعل ما تحب وتدع ما يضايقها، لا تنازع عندها بين شهوات وواجبات، وحينما يقود الإنسان رشده فإنه يحكّم رغائبه، وإلا فهو إلى الدواب أقرب، بل إنه منها أضلّ، أَرَأيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43، 44].
ولعلكم بهذا ـ أيها الإخوة ـ تدركون أسرارًا من التشريع في الصيام، فهو الضبط المحكم للشهوات، والاستعلاء على كثير من الرغبات، إنه زاد الروح ومتاع القلب، تسمو به همم المؤمنين إلى ساحات المقربين، يرتفع به العبد عن الإخلاد إلى الأرض؛ ليكون أهلاً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض.
عباد الله، جديرٌ بشهرٍ هذه بعض أسراره وتلك بعض خصاله أن يفرح به المتعبّدون ويتنافس في خيراته المتنافسون. أين هذا من أناس استقبالهم له تأفّفٌ وقدومه عليهم عبوس؟! لقد هرم فيه أقوام فزلت بهم أقدام، اتبعوا أهواءهم فانتهكوا الحرمات، واجترؤوا على المعاصي فباؤوا بالخسار والتبار. من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب، يقضي نهاره نائمًا، ويقطع ليله هائمًا، وفيهم من رمضانُه بيع وشراء، يشتغل به عن المسابقة إلى الخيرات وشهود الصلوات في الجماعات، فهل ترى أضعف همة وأبخس بضاعة ممن أنعم الله عليه بإدراك شهر المغفرة ثم لا يتعرّض فيه للنفحات؟!
فها هو من طالت غيبته قد قرب قدومه، فيا غيوم الغفلة تقشعي، ويا قلوب المشفقين اخشعي، ويا جوارح المتهجدين اسجدي لربك واركعي، وبغير جنان الخلد ـ أيتها الهمم العالية ـ لا تقنعي. طوبى لمن أجاب وأصاب، وويل لمن طرد عن الباب.
ها هو الشهر الكريم يحل بالساحات، فاستعدوا واجتهدوا، فما أكرمَ الله أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد.
في هذا الشهر ذنوب مغفورة وعيوب مستورة ومضاعفة للأجور وعتق من النار، يجوع الصائم وهو قادر على الطعام، ويعاني من العطش وهو قادر على الشراب، لا رقيب عليه إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجل الله تبارك وتعالى. الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب، والآذان معرضة عن السماع المحرّم، والأعين محفوظة عن النظر المحظور، والقلوب كافّة لا تعزم على إثم أو خطيئة، في النهار عمل وإتقان، وفي الليل تهجد وقرآن، صحة للأجساد، وتهذيب للنفوس، وضبط للإرادات، وإيقاظ لمشاعر الرحمة، وتدريب على الصبر والرضا، واستسلام لله رب العالمين. فاجتهدوا رحمكم الله، واعرفوا لشهركم فضله، وأملوا وأبشروا.
فيا أهل الصيام والقيام، اتقوا الله تعالى وأكرموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم، وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمل بلوغه أصبح رهين القبور، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل الصيام جُنّة وسببًا موصلاً إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره هَدَى ويسّر فضلاً منه ومنّة، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جعلنا على أوضح محجة وأقوم سنة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى أصحابه، نفوسهم بالإيمان مطمئنة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فللصيام معانٍ ومقاصد عظيمة، لو تأملناها وتفكرنا فيها لطال عجبنا منها، ومهما أعمل الإنسان فكره فلن يحيط بمقاصد الصيام كلها، لكن هذه بعضها:
فمن معاني الصوم أنه مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا، ولذلك جاء أن الصوم عبادة السّر؛ لأن الإنسان بإمكانه أن لاّ يصوم إذا شاء، إذًا فالصوم عبادة قلبية سرية بين العبد وربه، فإنّ امتناع العبد عن المفطرات على الرغم من استطاعته الوصول إليها خُفيَةً دليل على استشعاره اليقيني لاطّلاع الله تعالى على سرائره وخفاياه، وفي ذلك بلا ريب تربية لقوة الإيمان بالله جل وعلا، وهذا السر الإيماني يجري في سائر العبادات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه.
انظروا ـ رحمكم الله ـ مثلاً إلى الوضوء الذي يتطهر به العبد من الحدث، فإن فيها دلالة على إيمان العبد بأن الله تعالى رقيب عليه مما يحمله على أداء تلك الأمانة السرية بينه وبين ربه، ولو أتى إلى الصلاة بدون طهور لما علم الناس بذلك. انظروا كذلك إلى الصلاة، ألا ترى أن المصلي يقرأ في قيامه الفاتحة، وفي ركوعه يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي جلوسه بين السجدتين يقول: رب اغفر لي، وفي التشهد يقول: التحيات لله، وكل هذا يقوله سرًا لا يسمعه مجاوره الملتصق به، أتراه لو لم يكن مؤمنًا بعلم الله تعالى بهمسات لسانه وخواطر ذهنه ووساوس قلبه، أتراه يدعو ويذكر الله عز وجل في صلاته بهذه السرية التي لا يطّلع عليها إلا ربه سبحانه، وَإِن تَجْهَرْ بِ?لْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7].
ومن معاني الصيام أيضًا ـ أيها الإخوة ـ أنه يربي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة، فحين يتخلى الصائم عن بعض الأمور الدنيوية تطلعًا إلى ما عند الله تعالى من الأجر والثواب فلأن مقياسه الذي يقيس به الربح والخسارة مقياس أخروي، فهو يترك الأكل والشرب والملذات في نهار رمضان انتظارًا للجزاء الحسن يوم القيامة، وفي ذلك توطين لقلب الصائم على الإيمان بالآخرة والتعلق بها والترفع عن عاجل الملاذّ الدنيوية التي تقود إلى التثاقل إلى الأرض والإخلاد إليها.
ومن معاني الصيام أن فيه تحقيقًا للاستسلام والعبودية لله جل وعلا؛ إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرب امتثالاً لقول ربه الكريم: وَكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ?لْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ?لْخَيْطِ ?لأسْوَدِ مِنَ ?لْفَجْرِ [البقرة:187]، وإذا طلع الفجر أمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات امتثالاً لأمر الله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ [البقرة: 187]، وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة، وإنما هي طاعة لله تعالى وتنفيذ لأمره، وإذا أمره ربه بعد رمضان على الجماعات في المساجد حضر، وإذا أمره ربه بترك الربا في معاملاته ترك، فالطاعة والامتثال ليس في رمضان بترك الأكل والشرب، بل هي الطاعة الكاملة المطلقة في كل وقت وفي كل حين حتى يأتيك اليقين، وإلا فهو تلاعب وليس طاعة لله. وإن العبودية لله سبحانه لهي الحرية الحقيقة، وكمال الحرية من كمال العبودية له عز وجل؛ ولذلك قال عياض رحمه الله:
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحْمد لي نبيا
هكذا يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى، بحيث يأمر بالشيء فيمتثل، ويأمره بضده فيمتثل، سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
ومن معاني الصوم العظيمة أيضًا أنه تربية للمجتمع، وذلك أن الصائم حين يرى الناس من حوله صيامًا كلهم فإن الصوم يكون يسيرًا عليه، ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي يلتقي عليه الجميع.
إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئًا من الكلفة، بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل لا كلفة فيه ولا مشقة للسبب الذي سلف ذكره، حيث إن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صيامًا، وإن دخل البيت وجد أهله صيامًا، وإن ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صياما، وهكذا فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه، فيكون ذلك عونًا له ومنسيًا له ما قد يجده من المشقة.
ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة دفعتهم الضرورة للذهاب إليها إما لمرض أو لغيره، نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان؛ لأن المجتمع من حولهم مفطرون، يأكلون ويشربون، وهم مضطرون لمخالطتهم.
فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته يخفّف عليه أمر الصوم ويعينه على تحمله بيسر وسهولة، ومن هنا كانت عناية الإسلام بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة؛ لأنه إذا صلح المجتمع كله ولو بوجه عام سهل فيه فعل الطاعات وصعب فعل المخالفات؛ لأن المجتمع كله سوف يستنكر المخالفة.
ولهذا نجد أن صغار السن في مجتمعات المسلمين يصومون، لماذا؟ لأن المجتمع كله مسلم صائم يساعد على ذلك حتى صغار السن، وفي المقابل تجد أهل الفسق في مجتمعات المسلمين يتسترون بمعاصيهم، لماذا؟ لكي لا يفضحوا، ولأن المجتمع كله ينكر ذلك، وتجد أن الكفّار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب في رمضان في الأوساط الإسلامية الحقة، والله المستعان.
ومن هذا المنطلق حرص أعداء الإسلام على إفساد المجتمعات الإسلامية لكي يسهل عمل المخالفة فيه ويقل الإنكار عليه، ولعل من أحدث وسائلهم في ذلك ما يسمى بالبث المباشر والقنوات الفضائية، والتي فيها من الشرور والأخطار على المجتمع الإسلامي فكريًا وعقديًا وأخلاقيًا وسلوكيًا وسياسيًا ما لا يخفى.
كنت أُقلب أحد الأعداد من مجلة أصداف، وهي إحدى المجلات السيئة التي تباع عندنا، فتعجبت مما تنشره المجلة بكل جرأة وصراحة، وإن كان هذا أمرًا معلومًا من قبل وليس سرًا، لكن الغريب كما قلت لكم هو الجرأة والصراحة والنشر. فبالخط العريض: "مدير محطة إل بي سي يعترف علنًا بأن المحطة تركز على الجنس، وأن هذا هو الذي يجذب المشاهد العربي". وفي نفس العدد وفي أحد الحوارات التي أجريت مع مالك إحدى المحطات الفضائية المعروفة في الوطن العربي اعترف علانية وبصراحة بأن محطته تستخدم المذيعات الجميلات اللواتي يجدن الإثارة والإغراء والبرامج ذات الطابع الجنسي لاستقطاب المشاهدين وخاصة من دول الخليج.
فيا أولياء أمور البنين والبنات، لا أظنّ إلا أن خطر القنوات الفضائية أصبح واضحًا لكل عاقل، فإني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم، وأخاطب الإسلام الذي تعتنقون، وأنتم أعلم مني بأن ما يعرض في بيوتكم عبر هذه الدشوش أنه يخالف إسلامكم الذي تعتنقون، ويضاد إيمانكم الذي تحملون، أما وصل بك الجرأة ـ أيها الأب ـ أن تصارح أهل بيتك بأن هذا الذي أدخلناه كان خطأً، ولا عيب أن يخطئ الرجل ثم يصحح ويتراجع، أم أنك ضعيف إلى هذا الحد أمام أهل بيتك ولا تستطيع المواجهة وأنت رجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، نصيحة مشفقٍ عليكم أقولها لكم، انجوا بأنفسكم من النار، انجوا بأنفسكم من النار، ولعل شهر رمضان فرصة للتوبة والرجوع إلى الله وتصحيح الماضي.
اللهم بلغنا رمضان...
(1/4800)
آدم عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/10/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة آدم عليه السلام كما جاءت في القرآن العظيم. 2- وقفات مع قصة آدم عليه السلام. 3- ذكر شيء من الحكم من وراء إهباط آدم من الجنة. 4- إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، تبدأ قصة أبينا آدم عليه السلام بتلك المحاورة بين الله والملائكة، فالله تعالى يخبر الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة هو آدم وذريته، وأنه سيمكنهم في الأرض ويجعلهم أصحاب السلطان فيها، ولكن الملائكة تعجبوا من هذا النبأ، فقد خلق الله بشرًا قبل آدم فأفسدوا في الأرض، فقال الملائكة مخاطبين ربهم: "أتجعل في الأرض بشرًا يفسدون فيها بالمعاصي ويسفكون الدماء، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بجلالك ونمجدك شكرًا لك". ولكن الله أجابهم بالسر المغيب عنهم والحكمة التي اختص بها في خلق آدم، وهي أنه يعلم ما لا يعلمون، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. وبعد أن خلق الله آدم علّمه أسماء أشياء وحقائقها وخواصها؛ ليتمكن في الأرض وينتفع بها حق الانتفاع، ثم أراد الله أن يُري الملائكة رأي العين أن هذا الكائن الجديد الذي صغّروا من شأنه هو أكثر منهم علمًا وأوسع معرفة، ولهذا سألهم أن يخبروه بأسماء أشياء معينة وخواصها إن كانوا مصيبين في ظنهم وأنهم أحق منه بخلافة الأرض، ولكن الملائكة عجزوا عن الإجابة، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33].
خلق الله آدم من طين أسود على هيئة إنسان، حتى إذا جف إلى حد أنه إذا نُقر سمع له صوت غيّره طورًا بعد طور، ثم نفخ فيه من روحه فإذا هو إنسان من لحم ودم وعصب، يتحرك بإرادته ويفكر، ثم يأمر الله الملائكة بتكريم آدم بأن يسجدوا له سجود تكريم لا سجود عبادة؛ لأن الله لا يأمر أحدًا أن يتوجه بالعبادة إلى سواه، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28، 29]. سجد الملائكة كلهم لآدم عليه السلام امتثالاً لأمر الله باستثناء إبليس الذي أبى أن يسجد استكبارًا وعنادًا، ولقد سأله الله تعالى وهو أعلم عن السبب الذي منعه من السجود لآدم بعد أن أمره به، فاحتج بأنه أفضل منه تكوينًا، فهو قد خُلق من نار بينما آدم خلق من طين، والنار في رأيه أفضل من الطين، وأبدى غاية التكبر، عندئذٍ طرده الله من الجنة ولعنه لعنة دائمة إلى يوم القيامة بسبب كبريائه، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:73-78]. كان جزاء إبليس على عناده وكبريائه وتمرده عن السجود لآدم هو الطرد من الجنة ذليلاً مهانًا حقيرًا، وطلب من ربه أن يمهله حيًا إلى يوم القيامة، فأجاب الله طلبه لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:13-18].
أمر الله آدم أن يسكن الجنة مع زوجته، وأباح لهما أن يتمتعا بكل شيء فيها، فيأكلان ما يشتهيان من ثمرها، ولم ينههما إلا عن شجرة واحدة، وأمرهما أن لا يقرباها وأن لا يذوقا من ثمرها. سُرَّ إبليس في قرارة نفسه لأنه وجد في ذلك النهي منفذًا فيه إلى آدم وزوجه، فأخذ يحدثهما ويغريهما ليأكلا من ثمر تلك الشجرة؛ ليكون عاقبة ذلك كشف ما سُتر وغُطّي من عوراتهما. وقد بالغ إبليس في إلحاحه وخداعه فأوهمهما أن الله منعهما من الأكل من تلك الشجرة لكي لا يصيرا ملكين ولا يخلدا في الجنة، وأقسم أنه لهما من الناصحين، وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ [الأعراف:19-21].
نسي آدم وزوجه أن إبليس هو عدوهما، ووقعا في حبائل الفتنة، وأكلا من الشجرة، فلما ذاقا طعمها انكشفت لهما عوراتهما وكانا قبل ذلك لا يرى كل منهما عورته ولا عورة الآخر، ومن فرط حيائهما أخذا يجمعان بعض أوراق الشجر ليغطيا به ما انكشف، وناداهما ربهما مؤنبًا لهما على ذنبهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]. وشعر آدم وزوجه بمبلغ ما اقترفا من إثم في معصيتهما لله، فندما أشد الندم وتضرعا إلى ربهما قائلين: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. قبل الله توبة آدم: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]. ولكن الله أنزل آدم وزوجه من الجنة إلى الأرض لحكمٍ عظيمة، قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24، 25].
هذه باختصار قصة آدم عليه السلام، كما جاءت في كتاب ربنا ولنا معها عدة وقفات:
أولاً: في القصة درس بليغ في الابتعاد عن الكبر والنفور منه؛ بعد أن بين الله لنا عاقبته المترتبة عليه. فإبليس عندما تكبر ولم يذعن لأمر الله ابتلاه الله بالذلة، وطرده من الجنة مُهانًا، كما قال تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13]. المتكبر مكروه من الله، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]. الكبر يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة المؤمنين إلى زمرة الملعونين، ولهذا خاطب الله إبليس المتكبر بقوله: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:77: 78].
ثانيًا: أخبرنا جل وتعالى في هذه القصة بعداوة إبليس لأبينا آدم، وبين لنا كيف أغراه بالأكل من الشجرة التي نهاه عن الاقتراب منها، وأوقعه في مخالفة أمر ربه بكذبه وخداعه.
إن عداوة إبليس لآدم لم تنقطع منذ ذلك العهد، فهي مستمرة في ذريته إلى يوم القيامة، يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]. ومن هنا نشأ الصراع بين الخير والشر في الإنسان، وفي ذلك اختبار له وامتحان لجوهره، فإن جاهد أهواء نفسه وانتصر عليها فاز بنعيم الله ورضوانه، وإن انقاد لأهواء نفسه واستجاب لوساوس الشيطان قادته إلى الشر وأصبح من الخاسرين.
إبليس هو أبو الشياطين وأصلهم الأول، وإبليس وذريته هم المتمردون من عالم الجن، إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50].
إبليس ومن معه من الشياطين هم أعداء الإنسان الذين يدأبون على تقوية دواعي الشر والباطل في النفس الإنسانية، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169].
والشياطين هم دعاة الشر والفساد على هذه الأرض، فالشيطان هو الذي يزين لكل فرد ما تهفو إليه نفسه ويميل إليه هواه؛ من حب للجنس وتطلع إلى الجاه وإيثار للاستبداد وميل إلى الطغيان والفساد. فهو الذي يغري بالعداوة والبغضاء بين الناس، فيفرق بين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه، وبين طوائف الأمة وجماعاتها، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].
ويبدأ الصراع بين عدو الله وآدم عليه السلام، ويعلنها عدو الله حربًا لا هوادة فيها، ولا يضع عدة الحرب، ويلبس لباس المعركة ولا ينزعه حتى اليوم المعلوم، حرب شاملة تسير على خطة متشعبة، ويقوم بتنفيذها جيوش الباطل في كل مكان بقيادة إبليس، حربٌ الهدف منها إطفاء نور الله وإلقاء بني آدم في جهنم، وها هم الآلاف المؤلفة يتساقطون أمام مهام الشيطان ويخرون في وحل الضلال، وها هي جيوش الشيطان تسير وكل يوم ينضم إليها الكثير من بني آدم، بسبب إحكام إبليس تنفيذ مخططه بالإغواء. فانج بنفسك يا عبد الله، فإنها نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.
ثالثًا: بالتوبة والإنابة يتغلب الخير على الشر، ومتى تغلّب الخير على الشر انهزم الشيطان وتعرّض الإنسان لهداية الله. فإذا زلت قدمك ـ أيها المؤمن ـ فاقترفت معصية، فأمامك السبيل الذي سلكه قبلك أبوك آدم من التوبة واستئناف حياة أفضل وأطهر، وبهذا تتخلص من سلطان الشيطان ووساوسه. إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
وإذا كنا نعلم بأن أنبياء الله ورسله كانوا على رأس التائبين، وكم منهم كان يقول: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وكم منهم يقول: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، ومنهم من قال الله تعالى عنه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص:24، 25]، بل علّم الله رسوله ومصطفاه أن يستغفر فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، وكان من شأنه أنه كان يحسب له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة قول: أستغفر الله وأتوب إليه، فإذا كان هذا شأن الأنبياء والرسل فما بالك بنا ونحن في ذنوبنا وفي معاصينا وفي غفلتنا وفي تقصيرنا وقلوبنا قد أصابها الران وغطى عليها الغبار ما لا يدفعه إلا الله؟!
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله كان يدعو في صلاته: ((اللهم اغفر لي خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جِدّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت)).
فما بالنا بعد هذا كله لا نتوب؟! وما بالنا نتنكب الطريق، نقدم رجلاً ونؤخر أخرى وباب التوبة مفتوح، والله عز وجل يقول لنا: يا عبد الله، متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهارًا قبلتك، وإن تقربت مني شبرًا تقربت منك ذراعا، وإن تقربت مني ذراعًا تقربت منك باعًا، وإن مشيت إليّ هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جودًا وكرمًا؟!
يا عبد الله، إن العباد يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فُرُشِهِم. إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ. من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
يا عبد الله، إن أهلَ ذكري أهلُ مجالستي، وأهلَ شكري أهلُ زيادتي، وأهلَ طاعتي أهلُ كرامتي، وأهلَ معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبُهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب. من آثرني على سواي آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.
أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، وأنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها.
اللهم إني أسألك بعزك وذلي إلاّ رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عنّي وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيّد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من كثر ذنبه، وقلت حيلته، وخضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذلّ لك قلبه، أسألك أن تغفر لي، اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مِما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
رابعًا: إن من وراء إهباط آدم من الجنة حكمًا كثيرة، منها:
أن الله عز وجل أراد أن يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الشيء أحيانًا لا يعرف إلا بضده، وبضدها تتبين الأشياء، ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
وأيضًا من حكم إهباط آدم من الجنة أنه سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذلّ المحيي المميت الوارث الصبور، ولا بد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن يُنزِل آدم وذريته دارًا يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى، فيغفر فيها لمن يشاء، ويرحم من يشاء، ويخفض من يشاء، ويرفع من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وينتقم ممن يشاء، ويعطي ويمنع، إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته، ولم يكن لأثر هذه الأسماء أن تظهر وهم في الجنة.
ومن الحكم أيضًا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم واللئيم والعادل والظالم، فعلم سبحانه أن من ذريته من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه، ثم ميزهم سبحانه بدارين، فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره، وجعل الخبيث أهل دار الشقاء دار الخبثاء، قال الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37]. فلما علم سبحانه أن في ذريته من ليس بأهل لمجاورته، أنزلهم دارًا استخرج منها أولئك، وألحقهم بالدار التي هم لها أهل، حكمة بالغة ومشيئة نافذة، ذلك تقدير العزيز العليم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لما كانت حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي حياة الكمّل من الناس الذين اختارهم الله عز وجل عن علم وحكمة واصطفاهم على البشر، كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة التي صُنعت على عين الله تبارك وتعالى، كما كان لزامًا على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فردًا كان أو جماعة أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر، علّها أن تكون نبراسًا لحياتنا ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من واقع أليم. ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خلال أمور كثيرة، أهمها ما يلي:
أولاً: لأننا مأمورون من الله عز وجل بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم، وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء، ومن هذه الآيات ما ذكره الله عز وجل في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول بالاقتداء بهديهم، والأمر له أمر لأمته، قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:83-90].
ثانيًا: في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان وزمان، سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله عز وجل، أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم، أو بهديهم ومنهجهم وصبرهم في الدعوة والصراع مع الباطل وأهله. وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم، حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه، والتعزي بحياتهم وصبرهم وجهادهم، حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم.
ثالثًا: وتأتي دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى، وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين، وفرقة بين دعاة الحق، وتسلط الأعداء وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس ومداهن ومستعجل، وهذا يُبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في واقعنا المعاصر، لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي الله سبحانه بها من التخبط والانحراف، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحد صفوفنا، ويبطل كيد أعدائنا، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي نصر الله عز وجل به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان.
رابعًا: في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعرف على سنن الله عز وجل في التغيير، وتعرف على سننه سبحانه في الدفع والمدافعة، كما أنها تكشف للدعاة إلى الله عز وجل ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل، وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق، وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع، وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصراعهم مع أقوامهم، بالحجة والبيان والهجرة والجهاد، حتى أتاهم الله تعالى نصره وتمكينه.
خامسًا: ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة، ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون، وأن يحشره في زمرتهم، فيصدق عليه قول الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
اللهم احشرنا مع النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحِين...
(1/4801)
الاستعباد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الفتن, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبودية الحقة لا تكون إلا لله وحده. 2- من صور اللاستعباد. 3- بماذا ندفع الاستعباد؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الاستعباد أمر تكرهه النفوس الأبية، ولا يمكن لعاقل رشيد أن يرضى بالاستعباد، إلاّ إذا استعبد في بعض جوانب حياته وهو لا يدري. فعندما يكون هناك من يقيد حركة المرء بقيود الاستعباد وعندما يضيق الحصار على الحرية يصبح للحياة آنذاك وجه آخر، يعجز عن وصفه من أدرك وقائعها وعاش لحظاتها، إنها العبودية الشنعاء، أي: العبودية لغير الله تعالى التي تكبل بقيودها الإنسان لتجعله عبدًا ذليلاً، فتحرمه الانطلاق الحر على وجه هذه البسيطة ليتفاعل مع مكنوناتها وينتج ما يخدم أمته ودينه.
وذلُّ الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه، فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل إن استمر في ذلك، فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء.
وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم أدرك عمر أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الإسلامية ومصالحهم، فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعليًا ليرسخ مبدأ أن ليس لأحد حق الاستعباد وإن ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة مخاطبًا عمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!).
علمتَ أن وراء الضعف مقدرة وأن للحق لا للقوة الغلبا
أيها المسلمون، العبودية لا تكون إلا لله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:]. والعبودية من أعظم ما يُصرَف لله؛ إذ إنها لا تكون إلا لله وحده، فإنه سبحانه لم يخلق البشر والخلق أجمعين إلا لعبادته والإذعان بالعبودية له. والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، فيتوجه المرء بحسه وإحساسه نحو خالقه ورازقه، فيدعوه ويتوسل إليه ويلجأ ويلتجئ إليه؛ لأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، ولأن العبد يحتاج إلى الله في كل حين. والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد.
أيها المسلمون، للاستبعاد صور عديدة أذكر بعضها:
الاستعباد الباطني من الناحية القلبية: وهذا من أخطر أنواع الاستعباد، أن يُستعبد قلب المرء، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرقّ لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا متيَّمًا لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب.
خذ على سبيل المثال العشق والتعلق، فإنه من أخطر الأمراض على العبد ومن أشدها عبودية، فهو عدو الصحة وشلل الدعوة وتوقف الحزم وتبلد العقل وطريق الشيطان، فالعاشق لا يجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقًا بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكًا؛ لأن الهوى قد غلّفها بظلامه، فهو يعيش ـ وإن رأيته حرًا ـ أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبدًا ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره، فهو مستَعبدٌ داخليًا مُذللٌ خارجيًا. قال ابن تيمية رحمه الله: "عشاق الصور من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلّقًا بها مستعبَدًا لها اجتمعت له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد".
العشق مشغلة عن كل صالحة وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ
صورة أخرى من صور الاستعباد حب الدنيا والاغترار بها: لم يدخل حب الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبّه وأفقده بذله للآخرة، فهي دار غرور وبلاء وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده، حتى يبلغ ذلك دينه والعياذ بالله. وأعظم الخلق غرورًا من اغتر بالدنيا وعاجِلها، فآثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة، وكما قيل: "الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له".
ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عمّا قليل فانية، فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا. ويبين لنا الرب جل وعلا مَثَل الحياة الدنيا، فيقول عز وجل: إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]. ولأن هذه الدنيا دار غرور ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ذي النهاية المعروفة فقد حذرنا منها نبينا ، بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته، ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي خرج يومًا، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: ((إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني ـ والله ـ لأنظر إلى حوضيَ الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو: مفاتيح الأرض ـ، وإني ـ والله ـ ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها)). ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب هَمّهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سِلمًا لأهلها وإن تجتذِبها نازعتك كلابها
أيها المسلمون، ومن صور الاستعباد التي يقع بها الناس حب المال والجاه: حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء، فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثًا خلفها، مجتهدًا في الحصول عليها. إن اللاهث خلف المال والجاه يَعمَى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله : ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). فالنبي ذم الحرص على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. وما من شك في أن حب المال عندما يطغى على قلب المرء يصبح أسيره، فلا يرى معروفًا ولا منكرًا، فتصبح كل الأمور لديه واحدة، والأهم في نظره هو جمع المال فقط وتحصيله من أي مصدر سواء كان حلالاً أم حرامًا.
أيها المسلمون، العقل نعمة من الله عز وجل أنعمها علينا، فبه يميز العاقل بين الخير والشر والمعروف والمنكر، ومتى استُخدم هذا العقل في غير مكانه الذي هو الخير أصبح مجرد كتلة لا تصلح لأي عمل، وأصبح الشخص بذلك فردًا لا همَّ له سوى عبادة ما يمليه عقله عليه، فكان كما قال تعالى: إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22].
ومن أخطر الأشياء أن يقع العقل تحت الاستعباد، ومن أوضح صوره الانحراف الفكري: الفكر هو لب العقل وأساسه، وتقويمه واعتماده، فإن سَلِم صحت تلك الأفكار التي يحملها، فتنتج ـ بإذن ربها ـ ثمارها اليانعة، وإن خَبُثت واستقت أفكارًا خبيثة وهدامة لم يُجنَ منها إلا العلقم، ولم يُبلَ العقل بمثل بلوى الانحراف، فهو مسلك خطير، من سلكه هلك، ومن اتقاه نجا واستدرك. فالانحراف الفكري كالرمال المتحركة التي سرعان ما تلقي بصاحبها داخل جوفها، وصاحب الفكر المنحرف يتلقى أفكاره من مصادر خبيثة لتصادف هوى، فيصبح بأذيالها متمسكًا وبشأنها متعبدًا. ولم يكن هناك شيء أخطر على الأمة من الانحراف الفكري، فبه تحدث المنازعات والخلافات العقدية والفكرية والشقاقات السياسية والاقتصادية، ويصرفها عن النظر لواقعها وحالها.
صورة أخرى من صور استعباد العقل التبعية: لم يحدث استعباد العقول وانحرافها إلا عن طريق التبعية الخاطئة؛ ولذا عندما عطلوا عقولهم نفى سبحانه الاهتداء والتعقل عن هؤلاء الذين يتّبعون الآخرين، فقال سبحانه: وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]. فالأمر يزداد خطورة عند عدم إدراك من نتبع وأي طريق نسلك، وما انحرف من انحرف إلا عندما سلكوا مسلك التبعية الخاطئة. ولنعلم أن التبعية التي لا أصل لها من الكتاب والسنة لا تولِّد حضارة ولا فكرًا، وإن حدث ذلك فهو ناقص وسرعان ما يزول؛ إذ إن من شأن الأمور الوضعية أنها تزول وإن استمرت برهة من الزمان؛ وذلك لأنها لا توافق البشر كلهم وإن رغبها بعضُهم، ولا يظن آخرون أنه عند استمرار حضارة ما أو فكر ما قد خالطه تبعية غربية أنه باق ما بقي الدهر، أو أن زواله مستحيل، كلا، بل على العكس تمامًا، إن زواله قريب وانهياره سريع.
أيها المسلمون، اعلموا أن استعباد البدن أهون من استعباد القلب؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصًا له، وفترته قد لا تستغرق وقتا طويلاً. نعم، ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره، فهو يعيش الحرية داخليًا، ويفقدها خارجيًا.
وما صبر الكثير على طريق الإيمان إلا عندما أوذي وسجن وعُذِّب، وما يظن عاقل أنه بإمكانه الاستمرار على هذا الطريق دون ابتلاءات وفتن، قال الله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].
إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]. إنها سُنَّة العقائد والدعوات، لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حُفَّت الجنة بالمكاره، كما حفت النار بالشهوات، وعلى قدر إيمان المرء يكون ابتلاؤه.
فالقهر والظلم والسجن والضرب وغيرها كلها وسائل ظاهرية تتولى الاستعباد الظاهري، ولا تستطيع أن تملك الداخل، إذ إن من شأنها التعذيب والسياط والجلد، وفرض الهيمنة والسيطرة الخارجية، وما ظن أولئك أن من كان مع الله كان الله معه. ولنا في السابقين عبرة، فهؤلاء الأنبياء ابتُلوا وغيرهم من الصالحين الذين حملوا همَّ هذا الدين، فقد سُجِن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وعذّب، وما زاده ذلك إلا ثباتًا ورسوخًا. وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية فما كان منه إلا أن قال: "ما يفعل أعدائي بي؟! أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة". وقُهِرَ أناس وظلم آخرون وهددوا فلم يردهم ذلك عن إيمانهم، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي
أيها المسلمون، إن تاريخ الاستعباد تاريخ قديم، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج منها، فمن ذلك استعباد فرعون، فلم تذق أمة من الأمم السابقة ذل العبودية والاستعباد مثل ما ذاقته أمة بني إسرائيل في عهد ذلك الطاغية فرعون، فقد فعل بهم الأفاعيل، وجعل منهم خدمًا وعبيدًا لا قيمة لهم، قال الله تعالى: إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]. وكل طاغوت يُخضِع العباد لشريعة من عنده وينبذ شريعة الله هو من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وآثار الظلم والاستعباد باقية إلى اليوم، شاهدة على أفظع الصور وأبشعها في إذلال العباد وإن سميت بغير اسمها ودُعيت بالحضارة الفرعونية.
اللهم فرج عن أمة محمد فرجًا عاجلاً غير آجل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بماذا ندفع الاستعباد؟ ندفعه بأمور من أهمها خشية الله عز وجل والخوف منه، والخشية لله تعالى تزيد العبد اطمئنانا في القلب وتعلقًا بالله، فلا يعبد سواه، ولا يخشى أحدًا إلا إياه، فيتوجه إليه بالكلية، فلا تغره دنيا، ولا يهيبه مَلك أو سلطان، فقد مُلئ قلبه خشية وخوفًا من الله تعالى. وقد قرن سبحانه وتعالى خشيته بالفوز في الدنيا والآخرة، فقال: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]. والخشية من المنجيات التي تنجي العبد من كل شيء، من الدنيا وغرورها، من الحياة وفتنها، قال : ((ثلاثٌ منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاثٌ مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه)). وبالخشية يستعين العبد على دينه، فيحفظه من الضلال ويحفظه من الزيغ والانحراف.
ومن الوسائل في دفع الاستعباد المنهج السليم الذي هو الطريق القويم، الذي يضمن لذوي العقول السير الصحيح والتبصر الحكيم، وأي أمة فقدت المنهج الصحيح السليم حارت في دروب التيه العقدي والإعصار الفكري، أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم [الملك:22].
ولكي نضمن منهجًا سليمًا خاليًا من الشوائب لا بد من أمرين: أخذ المنهج من مصدره الأساسي الذي هو المصدر الرباني المتمثل في الكتاب والسنة، والتلقي السليم الذي لا تتنازعه أهواء ولا تعصبات ولا منازعات، ولا يشوبها انحرافات فكرية، ولا يخالطها معتقدات فاسدة باطلة.
ومن الوسائل في دفع الاستعباد الأخذ بزاد الصبر، قال الله تعالى مبينًا شأن أولئك الذين صبروا وما آل إليه صبرهم: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22]. والصبر أمر مطلوب، فقد حث الله سبحانه عباده المؤمنين على الصبر فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. ولنا في السابقين أبلغ العظات والعبر، فقد صبر سيد المرسلين محمد بن عبد الله أشد الصبر وأبلغه حتى بلَّغ دين الله عز وجل، وصبر من بعده أتباعه كبلال وخباب، وصبر كذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، ومن بعده ابن تيمية، والكثير من أئمة الدعوة صبر، فما أوهنه القيد ولا غيَّره السجن، فهو صامد كالطود، قال : ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).
ومن وسائل دفع الاستعباد تحرير الفكر، ولكي يتحرر الفكر من قيود الاستعباد لا بد له من الاطلاع الواسع والقراءة المكثفة النافعة، فبها يرقى فكره ويعلو، فلا ينجرف فكريًا ولا ينقاد تبعيًا، ويصبح ملمًّا بأمور الحياة. إن القراءة للعقل بمثابة الغذاء للجسد؛ ولذا كان خطاب الله عز وجل لنبيه بداية بقوله تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:3]. ولا يمكن لأحد أن يكون ذا فكر جيد وخيال واسع دون القراءة.
ومن الوسائل البعد عن الإعلام الهابط والهدّام، الإعلام من أقوى الوسائل تأثيرًا على البشر وعلى المجتمع؛ إذ إنه سلاح ذو حدين، ولا يُمنع أحد من عدم مشاهدته؛ لأنه في متناول الجميع، سواء كان مرئيًا أم مقروءًا أم مسموعًا، ولذا كان من مراتب الجهاد جهاد الكلمة أو جهاد القلم، ولكن ما إن يتحول هذا الإعلام إلى وسيلة لإذلال العباد واستعبادهم حتى يصبح ذا خطورة عالية، فيهوِّل لهم الأمور حتى تصبح كالموبقات لديهم، فأصبح الجميع مستعبَدًا لما يقوله الإعلام، فيلعب بعقولهم كيف شاء، فتارة يُلهب عواطفهم ضد أمر ما، وتارة يحذرهم من أمر فيه خير، وقلما تجده يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، ولو أنهم رجعوا إلى عقولهم وبصيرتهم لوجدوا أن الحق خلاف ذلك، ولو أنهم تجنبوا ذلك الإعلام السيئ أو أخذوا الإعلام من مصدره الصحيح لما حدثت التغيرات الداخلية لديهم، ولما تقاعسوا وتراجعوا، ولأبصروا الحقيقة.
ومن الوسائل الدعاء، الدعاء خير سلاح يتسلح به المؤمن، وبه يُدفع البلاء والاستعباد، فهو عدته وعتاده، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال ، وحث سبحانه عباده على دعائه فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
أيها المسلمون، عندما ابتعدت الدولة الإسلامية في عصر صدر الإسلام عن مظاهر الظلم والاستبداد والاستعباد ارتفع شأنها وبلغت رقعتها أقصى الأرض وبلغ مجدها ذروته، فأصبحت رايتها خفّاقة وخيلها سبّاقة، وحق فيها قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:56]. وما إن يظهر الاستبداد والظلم والقهر بأرض حتى يحل بها فساد وانتشار فتن وزوال نِعَم، لا يرفعه إلا رجعة صادقة إلى الله، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض [الأعراف:96].
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يكلأنا برعايته، هو مولانا وعليه التكلان...
(1/4802)
أم لم يعرفوا رسولهم؟!
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الشمائل
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/1/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر صفات الرسول الخُلقية. 2- ذكر بعض شمائله. 3- ذكر خصائصه. 4- خصائص الأمة المحمدية. 4- ذكر شيء من معجزاته. 5- مكانة النبي في قلوب أصحابه رضي الله عنهم. 6- مكانة النبي في قلوب التابعين رحمهم الله. 7- محبة الجمادات لرسول الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45، 46].
أيها المسلمون، إن الحديث يحلو عن الرجال العظماء من الناس، ولكن الحديث عن النبي لا يجاريه أي حديث في روعته وحلاوته والطرب به والشوق إليه، رجل ملأ حبه القلوب، واصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه، إنه رسول الله الذي تشتاق إليه النفوس، وبذكره ترق وتلين القلوب، وعند الحديث عنه تطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به في الجنان، والموعد حوضه الشريف حيث ينتظر المؤمنون، يأتون إليه غرًا محجلين عن باقي الأمم، كي يشربوا من حوضه الشريف شربه هنيئة لا يظمؤون بعدها أبدا.
إنه محمد بن عبد الله، من بني هاشم من قريش، أعز الناس نسبًا، وأشرفهم مكانة، ولد في بطاح مكة، فرأت أمه نورًا أضاءت له قصور الشام، نشأ حين نشأ يتيمًا، فكفله جده ثم عمه، واسترضع في ديار بني سعد، أرضعته حليمة السعدية، فكانت أسعد الناس به، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف في مجتمع جاهلي يعج بالشرك والظلم والمنكرات، لم يتجه يومًا بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمرًا، ولم يتسابق كغيره إلى النساء، صادق اللسان، لم يجرب عليه قومه كذبةً واحدة، أمين وأي أمين؟! تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً، أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته. حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار، وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسولا مرسلا من ربه، بـ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق [العلق:1، 2]. فرجع بها إلى بيته خائفًا يرجف منها فؤاده قائلاً: ((زمّلوني زملوني)) ، فسكبت عليه خديجة رضي الله عنها أعذب الكلام وأروعه حتى هدأت نفسه: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصِل الرحم وتحمل الكلَّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ).
ثم تتابع الوحي عليه من ربّه آمرًا له بالدعوة إلى الله، فخرج يدعو سرًّا من كان يرجو قبول الحق، فلما تكاثر المؤمنون من حوله أتاه الأمر: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر [الحجر:94]، فلقي منذ ذلك الوقت صنوف الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمل هو ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يزدادون يومًا بعد يوم الشدائد؛ لتمسكهم بالإسلام والمحافظة على هذا الدين العظيم، فلما رأى من قومه الصدود والإعراض بدأ بإخراج دعوته خارج مكة، فوصل الطائف ولاقى من أهلها أكثر مما لاقاه من قومه في مكة، فأخذ يعرض دعوته على القبائل، حتى هيأ الله له نفرًا من أهل المدينة قدموا مكة في الموسم، فعرض دعوته عليهم، فأوقع الله في قلوبهم الإيمان، فاتفق معهم على الهجرة للمدينة، وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون أبناءهم وأهليهم، فكانت تلك الهجرة العظيمة وذلك الحدث التاريخي الذي قلب الأمور على الأرض رأسًا على عقب، وانطلقت دولة الإسلام من المدينة، وبدأ الجهاد لما توافرت أسبابه، فجاهد رسول الله هو وأصحابه بأموالهم وأنفسهم، حتى فتح الله له القرى وأمها، ودانت له جزيرة العرب، وهابته الأعاجم في ديارها، فكان من آخر أمره حجه بالناس، فنصح وبلغ رسالة ربه حتى حانت ساعة وفاته عليه الصلاة والسلام.
إنه محمد بن عبد الله، فإن سألت عن خِلقته: كيف كان؟ فإنك تسأل القمر ليلة تمامه، فكان أجمل الناس وأبهاهم منظرًا، أبيض مشربًا بحمرة، ربعة من الناس ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، واسع الجبين، مقوس الحواجب في غير اقتران، طويل الأنف مع صغر أرنبته، له نور يعلوه، كث اللحية، واسع الفم مفلوج الأسنان، ليس بالنحيف ولا بالسمين، مستوي البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، أشعر الذراعين والمنكبين والصدر، لين الملمس كأن يده الحرير.
يمشي وكأن مشيته في منحدر، إذا التفت التفت بكل جسمه، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يمشي وأصحابه أمامه، طويل السكوت، دائم الفكرة، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله تعالى، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يضحك إلا تبسمًا، لا يتكلم فيما لا يعنيه، يؤلف الناس ولا ينفرهم، يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، يحلم على الجاهل والسفيه، ويصبر على من يحادثه حتى يكون محدثه هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور جميل من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبًا.
مجلسه مجلس علم وحياء وأدب، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذاع فلتاته، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بصخاب ولا فحاش ولا عياب. يبيع ويشتري، يضحك مما يضحك له الناس، ويتعجب مما يتعجبون.
بين كتفيه خاتم النبوة، وهي غدة حمراء بها شعرات مجتمعات. كان شعره إلى أنصاف أذنيه، وعدت شعيراته البيضاء فبلغت عشرين شعرة، وقال عنها: ((شيبتني هود وأخواتها)). يحسبه الرائي له أنه يخضب بالحناء شعره، كان وبيص الطيب الذي يضعه.
عاش عيشة الزهد، فلم يشبع من خبز الشعير قط، يمر على بيوته الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيوت آل محمدٍ نار، ربما وضع حجرين على بطنه ليسكت جوع بطنه. كان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا انتهى بأدب. أحب من الطعام الدباء والحلوى والعسل، وكان لا يذم طعامًا قط.
قسم وقته داخل بيته ثلاثة: فقسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، والقسم الذي لنفسه ما بينه وبين الناس. كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقًا، كان يسمر مع نسائه ويحدثهن ويحدثونه.
كان راجح العقل، صادق الفراسة، ثابتًا في الشدائد، صابرًا في البأساء والضراء وحين البأس، حليمًا وقورًا وفيًا للعهد والناس، يصفح ويعفو عمن أساء له، فعفا عمن سحره، وعفا عمن دس له السم، وصفح عن أهل مكة. كان وسطًا يحب الاعتدال، كريمًا سخيًا كالريح المرسلة.
لقد انفرد عن إخوانه من الرسل والأنبياء والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة، لم تكن لغيره؛ كرامة وتشريفًا له ، منها أن الله أخذ العهد والميثاق على الأنبياء من قبله على الإيمان به ونصرته والبشارة به، ومنها أن رسالته كانت للناس كافة وكانت رسالة من قبله من الأنبياء لأقوامهم خاصة، ومنها أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وكانت رسالته رحمة للعالمين، ومنها أنه النبي الوحيد الذي خاطبه الله بوصف النبوة والرسالة، فكان القرآن ينزل بـ يَا أَيُّهَا النَّبِيّ ويَا أَيُّهَا الرَّسُول ، ونادى بقية الأنبياء بأسمائهم. وجعل الله له ولأمته الأرض مسجدًا وطهورًا، ونُصر على أعدائه بالرعب، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كانت معجزات الأنبياء من قبله وقتيةً تنتهي بموتهم، وكانت معجزته خالدة إلى يوم الدين. تفرد عن بقية الأنبياء بالإسراء والمعراج حتى أدناه الله منه في سدرة المنتهى. خصه الله يوم القيامة فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة. وهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها.
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير الأمم أخرجت للناس، أحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة.
أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.
أيها المسلمون، أي عبارة تحيط ببعض نواحي تلك العظمة النبوية؟! وأي كلمة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر وأحاطت بكل عصر وكُتب لها الخلود أبد الدهر؟! وأي خطبة أو محاضرة تكشف لك عن أسرارها وإن كُتبت بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس؟!
إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألَم تر أن الله خلَّد ذكره إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشقّ له من اسْمه ليجله فذو العرش مَحمود وهذا مُحمد
إنه النبي محمد ، حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأيًا، وأصحهم فكرةً، أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، أجود بالخير من الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب المئين وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا وينادي صاحبه: ((أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم وإباء: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة، ولا برسم من رسوم الظهور
ألين الناس عريكةً، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلبًا، وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)).
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون به ، ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة.
أعف الناس لسانًا وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة.
أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة، يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقُه، ولصاحبه حقُه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها، أزهد الناس في المادة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يَطعم ما يقدَّم إليه، فلا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف.
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله، وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم يتزوج معها أحدًا، وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكر غير عائشة رضي الله عنها.
أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، ويحذر أصحابه فيقول لهم: ((إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
أيها المسلمون، لو لم يكن للنبي من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفي الناس حامله بعض جزائه. ذلك قبس من نور النبوة وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسَعَة، وفي المقام تفصيلاً.
وسل التاريخ ينبئك: هل مر به عظيم أعظم من النبي محمد ؟! فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة.
خُلقتَ مُبرءًا من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء
كم ترتقي الروح للمعالي حين يخطر على القلب ولو لبرهة صورة محمد بن عبد الله، رسول رب الأرض والسماء، من هو؟ هو من كان يحلب شاته، هو من كان يخيط ثوبه، خير من خلق الله، هو عينه من كان يقول: ((أنا سيد ولد آدم)). وهو أيضًا من كان يجمع الحطب لأصحابه، وهو نفسه من كان يرتجف ألما وحرقة حين يرى دابة ضعيفة قد حملت من الزاد والراحلة ما لا تحتمل، هو السيد وهو الرحيم وهو الإنسان.
هو من كان يخاطب الملوك ويراسل قياصرة الدنيا، وهو نفسه وهو عينه من كان يُنهِي صلاته على عجل لأنه سمع بكاء طفل رضيع كان قد أتى مع أمه للمسجد.
دخل عليه رجل وهو يرتجف خوفًا وفرقًا من عظيم هيبته ، قال له: ((هون عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة)).
يسأله أعرابي يومًا في بداوة جافة: يا محمد، هل هذا المال مال الله أم مال أبيك؟ ويبتدره عمر يريد أن يؤنبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((دعه يا عمر، إنّ لصاحب الحق مقالاً)).
صلى الله وسلم عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لنسرح بخيالنا مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع الرسول ، وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعَمَرَ ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما إن يسمعوا بلالاً يردد من خلفه بصدق: (أشهد أن محمدًا رسول الله) تخرج حارّة من قلوبهم، فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتمّ بأمر سواكه، وهذا مهتمّ بنعله، وهذا مهتمّ بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته، وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه، ويتوضؤون بفضلة وضوئه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثرًا من النبي. قال عروة بن مسعود: يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا ، والله ما يحدّون النظر إليه تعظيمًا له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وها هم يرحلون في طلب حديثه وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه وجرسه في أسماعهم وصداه في قلوبهم.
نعم، لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمدًا رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة حتى يُرى أثر ذلك في وجهه، فتصيبه الهموم والأحزان. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يَرُدّ عليه النبي حتى نزل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70]. وما فرح الصحابة فرحًا مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((المرء مع من أحب)) ، قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر.
نعم، بمثل هذا كان يحدّث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي ، كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا، فهل ـ يا ترى ـ نكون معه في الجنة؟! هذا السؤال كان يشغل جانبًا كبيرًا من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين.
لقد شهدوا حق الشهادة أن محمدًا رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو وما يأمر به وينهى عنه، فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين. جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه وذهبت صحته وأقبل مرضه كان يتمنى أن لو كان شابًا يقاتل ويناضل عن رسول الله.
لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رُئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله، فقال: "لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوسًا". قال ابن رجب رحمه الله: "وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد لكانوا مجوسًا، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان". وكان أيوب السختياني وهو من كبار التابعين يبكي كثيرًا ويقول: "لولا هذا النبي لكنا كفارًا". وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: إن عندنا من شعر رسول الله شيئًا من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض. قال الذهبي رحمه الله: "وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس". ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد وفاة النبي بخمسين سنة. وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنس أخذ يده فقبلها، ويقول: "يدٌ مست يد رسول الله ".
لقد كان حب النبي في قلوب الأمة حبًا عظيمًا، لقد كان حبًا لأمره ونهيه، لقد كان حبًا شرعيًا، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان. ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي فلقد أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي يخطب النبي عليه، يحنّ إلى حديثه شوقًا، ويظل يُسمع له حنينًا في المسجد وبكاء، فينزل إليه رسول الله ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله. ثم هذا جبل أحد، يصعده النبي عليه الصلاة والسلام ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم فيقول: ((اثبت أحد)) ، ثم يقول: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)).
أنا وأنت بعيدون عن مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه ـ والله ـ الحرمان. إن هذا الذي أدركه الصحابة وأدركه التابعون تجاه النبي جهله مع كل أسف عوام الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيمِ المنّة عليهم بمبعث رسول الله وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:10، 11].
(1/4803)
صراعنا مع الباطل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/11/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة. 2- إطلاقات السحر في الكتاب والسنة. 3- الصراع العسكري وكيف تتم مدافعته؟ 4- الصراع الفكري وكيف تتم مدافعته؟ 5- الغلبة والتمكين لأهل الحق والدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن صراع الحق مع الباطل صراع قديم، ولن يتوقف ما دام هناك حق وباطل في هذه الأرض، قال الله عز تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
صراع الحق مع الباطل تمتد جذوره منذ أن وجد البشر على وجه الأرض، فهو من سنن الله القدرية التي فطر الخلق عليها، ولأن الشرع الحكيم قام على الحق وقام ليعالج ما فطر عليه البشر من نوازع ورغبات ليقيمها على ما فيه صلاحها فقد شرع الله للمسلمين أن يَشْرَعُوا ويبدؤوا في إزالة الباطل واجتثاثه من جذوره، حتى لا تقوى أصوله، ولا تتجذر آثاره في حياة الناس والخلق، ولذلك شرع الله الجهاد لعباده، وكان شعار هذا الجهاد هو إقامة دين الله تعالى وإماتة الشرك: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].
أيها المسلمون، وقد كشف الله مسيرة الصراع بعبارات رائعة تحمل في طياتها طبيعة الحق وتكشف حقيقة الباطل، والمنهج القرآني هو منهج الحق والصواب، وضده منهج السحرة القدامى والجدد. منهج السحرة تزوير الواقع وإلباسه لبوس الخداع والتمويه، فالساحر هو الذي يقلب لك في نظرك العصا حية، ويزيف لك صورة الأشياء فلا تراها على ما هي عليه. وعلى مدار التاريخ الإنساني كان طواغيت البشر يستخدمون السحرة في تعبيد الناس لهم. والسحر حسب النص القرآني والحديث النبوي يطلق على أمرين:
الأمر الأول: هو الذي يغير صور الأشياء في أعين الناس دون تغييرٍ لحقيقتها، لأنه لا يستطيع أن يخلق إلا الله، فالعصا تتحول إلى أفعى في أعين الناس لا في حقيقتها، قال الله تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].
الأمر الثاني: هو الذي يغير الحقائق في أذهان الناس عن طريق الخداع البياني والقدرة اللفظية، قال : ((إن من البيان لسحرا)).
وكلا الأمرين يجتمعان في تزوير الحقائق بتمويهها في البصر أو في البصيرة.
والأمة اليوم تعاني من السحرة الجدد، الذين يلعبون في عقول الناس.
أيها المسلمون، إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة ودرء السحرة الجدد بدون الصراع مع الباطل وأهل الفساد والسحرة هؤلاء يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء الصراع والمدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر، يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل وإيثار الحياة الدنيا.
والصراع مع الباطل ومقاومة السحرة الجدد في عصرنا هذا يأخذ صورًا متعددة، فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله صورة من صور الصراع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة أخرى من صور الصراع، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين صراع، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة صراع، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه الصراعات؛ لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
واليوم لم يعد خافيًا على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة، وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم، كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لا يكاد يسلم بلد من بلدان المسلمين عن طريق السحرة الجدد، وهذا يوجب نصرتهم ما أمكن ذلك، قال الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]. هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقديًا واجتماعيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وثقافيًا وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير، فما الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
لا يختلف المسلمون أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجبًا على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكريًا وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها سواء باشرها الكفار بأنفسهم أو عن طريق إخوانهم من المنافقين من السحرة الجدد، فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجبًا عينيًا على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يُخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديمًا للدنيا الفانية على محبة الله عز وجل ورسوله والجهاد في سبيله تعالى، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله تعالى: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين [التوبة:24]. هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال فما الذي يمنع من أن تشمل أيضًا القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟!
أيها المسلمون، لم يعد خافيًا على أحد ما تطرحه وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله عز وجل أو من الناس، وذلك فيما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله عز وجل وحكم رسوله والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون والسحرة الجدد في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود الدلالة على أن سنة الله عز وجل في الابتلاء والتمحيص تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين، كما فضح الله عز وجل إخوانهم وسلفهم في غزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزوة تبوك التي أنزل الله عز وجل فيها سورة كاملة هي سورة التوبة، التي من أسمائها "الفاضحة"؛ لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحِكَم العظيمة والفوائد الجليلة لسُنَّة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم فإنهم يشكلون خطرًا وتضليلاً للأمة، أمّا إذا عُرفوا وفُضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان.
وقد عرف الناس ـ ولله الحمد ـ في الفترة الأخيرة عددًا من هؤلاء المنافقين الذين يكتبون في الصحف والمجلات، ففضحوا أنفسهم بكتاباتهم العفنة، وإن تمكنوا من خداع البعض من خلال سحر الكلام الذي يسودون به أعمدة الصحف اليومية، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182، 183]. وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات في كلا النوعين من الغزو: الغزو العسكري والغزو الفكري.
أما معسكر أهل الكفر فقد بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغًا عظيمًا، ونراهم يزدادون يومًا بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء، ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان الولايات المتحدة، حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: "من أشد منا قوة؟!". وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم دولة عاد وحلفاؤها هم الآن يعيشون سُنَّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية، وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59].
وكذلك السحرة الجدد ممن يلوثون الصحف والمجلات بكتابات تمس أصول الدين وثوابته، هؤلاء أيضًا يستدرجون لحكمة هو يعلمها، وهذا الإمهال لهم ليس فيه إهمال.
ففي الإمهال للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، وكذلك في إمهال المنافقين والسحرة الجدد، حتى إذا آتت سنَّة الابتلاء أُكُلَها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفًا ممحصًا عندئذ تكون سُنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها، فيحق القول على الكافرين وعلى المنافقين، ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين، الذين يمكن الله لهم عز وجل في الأرض بعد محق الكافرين، قال الله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. فذكر الله سبحانه التمحيص قبل المحق، ولو محق الله الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟!
إن الله عز وجل حكيم عليم، وما كان سبحانه ليحابي أحدًا في سننه، ولله عز وجل الحكمة في وضع السُّنَّتين ـ سنة الابتلاء وسنة الإملاء ـ في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن أهم ما ينبغي التأكيد عليه في هذه الأيام في خضم هذه الأحداث الرهيبة التي تحيط بأمتنا هو مسألة أسلَمة الصراع والنظَر من زاوية واحدة لمجرَيات الأحداث، وهو أن هذه الحرب السافرة هي حرب صليبيّة جديدة لها وجهان لعملة واحدة: وجه الصهيونية اليهودية، ووجه النصرانية الإنجيلية التي يمسك بمقودها دول الغرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، فالحرب ولو اتخذت ظاهريًا أهدافًا أخرى لكنها باطنيا حرب صليبية دينية، كحملات الصليبيين الأوائل. نعم، ألم تقرؤوا قول العليم الخبير: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى? وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِير [البقرة:120]، ويقول الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم [البقرة:217]. يبين النص بأنها مقاتلة مستمرة وأنها حرب شاملة.
أيها المسلمون، الحرب بين الإسلام والصليبية على اختلاف أقنعتها وأنظمتها وأسمائها ستستمر إلى نزول عيسى عليه السلام؛ لأنها حرب عقدية. وهذا لا يعني التكاسل والتباطؤ، فلا ينبغي أن ننخدع بحوار الأديان ودعاوى السلام ونشر ثقافة المحبة؛ إذ الغرض من كل ذلك تخدير المسلمين. واجب المسلمين المدافعة ومقاومة الكفر والبغي؛ لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذا يُلزمنا بإعداد كلِّ قوة، لقوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة [الأنفال:60].
يا أمتي، بالعناءِ تكلمي وعِمِي ظلامًا للعدوِّ وأظلِمِي
ودعي زمانًا قد مضى بجلالِهِ لا تُنْصِتِي لزمانك الْمُتصرِّمِ
وتأهّبي فالشرُّ أضحى مُطْبِقًا وتجهّزي لعدوِّك الْمُتجَهِّمِ
لم يتركِ الأفغانَ في أحلامِهمْ ومضى إلَى بلدِ العراقِ المسلمِ
آمالُهُ الخيراتُ والثرواتُ في تلكَ الديار وأمتي لمْ تعلمِ
وبيارق التنصير فِي آفاقِهِمْ تعلُو ونحن نسيرُ خلفَ المُجْرِمِ
أمّا جُموعُ المسلمين فجُلُّهُمْ قد نام فِي كهف الضلالِ الْمُعتِمِ
لا تطلُبي منّا جهادَ عدوِّنا فضرورةٌ في حُضْنِه أنْ نرتمي
حتى متى تلك المصالِحُ مُرسلة ووراءَها الخوّان دومًا يحتمي
أمقاصدُ التشريعِ تقضي أنّنا ندعُ الرضيع يُدَاسُ تَحت المَنْسَمِ
أمقاصدُ التشريعِ أنْ نَدَعَ العِدا يقتصُّ من آي الكتاب المُحْكَمِ
إنّ المصالحَ والمفاسدَ تشتكي وتصيحُ هيّا يا صلاحُ ألا اقدمِ
يا أمّتي والليلُ أمسى حالِكًا وقصائدُ التأبين تقطرُ منْ فمي
ماذا دهاكِ ألَمْ تكوني أمّةً ركضتْ بساحِ العزِّ رَكْض الأدْهمِ
يا أمتِي، إنّ الفضاء مُلَبّدٌ بسحائِبِ التغريب للمستسلمِ
أوَلَمْ تكوني أمة الشرف الذي خلعَ اللثامَ لخائنٍ مُتلثّمِ
لاتُنصتي لِمجلسِ الظلمِ الذي نصرَ الظلومَ وحافَ بَالمُتظلِّمِ
يا أمتي هيّا نعود لدينَنا فالنصرُ في دين الإلهِ الْمُنْعِمِ
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والشر والفساد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين...
(1/4804)
كلمات في الأسهم
فقه
البيوع, الزكاة والصدقة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/11/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهافت الناس على جمع المال. 2- تعريف شركة المساهمة. 3- أقسام الشركات المساهمة في أسواقنا المحلية. 4- وصايا مهمة لمن أراد دخول سوق الأسهم. 5- زكاة الأسهم المالية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد فطر الله جل وتعالى الإنسان على حب المال، فقال جل شأنه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]. ولنعلم ـ معاشر المسلمين ـ أن فتنة هذه الأمة في المال، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الضرورات الخمس، وهي الدين والنفسُ والعقل والنّسل والمال. فالبيعُ والشّراء والمرابحة كلُّها تندرِج تحت ضرورةِ حِفظ المال، وانطلاقًا مِن حِفظ هذه الضّرورة فإنّ الشارعَ الحكيم لم يدَعِ الفردَ المسلم حرًّا في التصرّف المالي دون ضوابط؛ لئلاّ يخرج بالمال عن مَقصدِه الذي أُكرِم به بنو آدم، من كونِه نِعمة ومنّة، إلى كونه نِقمة على صاحبه ووبالاً يُسأل عنه يومَ القيامة، فقد صحّ عند الترمذيّ وغيره أنّ النبي قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) ، وذكر منها: ((وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)). فالواجب على كلِّ مسلمٍ أن يدركَ حقيقة المال، وأنه سلاح ذو حدين، وليحذَر أشدَّ الحذر أن ينقلبَ عليه فتنة وبلاءً؛ لأنّ الله جلّ شأنه قال عن المال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].
أيها المسلمون، غير خاف على أحد هذه الطفرة في سوق الأسهم في الفترة الأخيرة، وانكباب الناس وتهافتهم عليها كتهافت الفراش على النار، حتى إنّها لم تدَع بيتًا إلاَّ وأصابته بدخَنها. فهناك من باع كلَ ما يملك من عقارٍ ودار من أجلِ الفوزِ بأعلى المكاسب وأسرعِ المرابح، فترى المسكينَ في صالاتِ البنوك وخلفَ شاشاتِ الحاسبِ الآلي يُحدقُ بعينه في أسعارِ الأسهم، لعله أن يظفرَ بشيءٍ يفوزُ به. وليس هذا هو العجبَ عباد الله، فإنّ النبي قد أخبرنا بهذا التنافس، وإنما العجَب حينما يكون هذا الانكبابُ والانغماس في حمأة الطّفرَة الماليّة لدى المستثمِرين عاريًا عن الأناةِ والوضوح والفَرز بين ما أحلَّه الله وبين ما حرّمه، وأن تكونَ غاية الكثيرين هي التحصيلَ كيفما اتَّفق، دون النظرِ إلى الضوابط الشرعية والقواعِد المرعيّة في أبوابِ المعاملات بين الناسِ، بيعًا وشراءً ومرابحةً.
وإنّ مثلَ هذه المعرّة لم تأتِ بغتةً دون مقدّمات، بل إنها رَجع صدى لقلَّة العِلم وضَعف الحرص على استجلابِ المال من طُرُقه الواضحة البيّنة من حيث الحِلّ والحرمةُ. وما نشاهِده اليومَ من عروضٍ استثماريّة متنوِّعة يعتريها شُبَهٌ وشكوك بل يعترِيها ظنٌّ راجح بأنها متلوثةٌ بشيءٍ من الطّرق المحرَّمة في المعاملاتِ إنّما هو يذكِّرنا بقول النبيِّ : ((ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخذَ من المال بحلالٍ أو بحرام)) رواه الإمام أحمد.
لذا فهذه كلمات مختصرة في الأسهم المالية وشركاتها، أوضح فيها حقيقتها وأنواعها وأحكامها بشيء من الاختصار والإيجاز.
أيها المسلمون، شركة المساهمة نوع من شركات الأموال، وهي إحدى الصيغ التي تم ابتكارها في العصر الحاضر، وقام عليها الاقتصاد المعاصر، وبواسطتها يمكن الدخول في المشروعات الضخمة التي تحتاج إلى أموال هائلة؛ حيث يتم تجميعها من آلاف الناس بحسب أسهمهم في هذه الشركة، حيث يجتمع من المدخرات الصغيرة من الأفراد ما تتمكن به شركة المساهمة من الاستثمارات الكبيرة التي ما كان يمكن للفرد العادي أن يقدر عليها، وعلى هذا فالمساهم في شركة معينة معناه أنه يمتلك جزءًا وحصة ونصيبًا مشاعًا في هذه الشركة، بمقدار ما عنده من أسهم، فمن كان عنده أسهم كثيرة فهو يمتلك جزءًا كبيرًا من الشركة، ومن كان عنده أسهم قليلة فهو يمتلك جزءًا قليلاً من الشركة بحسب أسهمه.
أيها المسلمون، وإذا نظرنا إلى شركات المساهمة المطروحة أسهمها للتداول في السوق المحلية والتي تبلغ أكثر من سبعين شركة مساهمة نجدها على أقسام، ويختلف الحكم الشرعي لكل قسم:
فالقسم الأول: أسهم البنوك الربوية: فشراء هذه الأسهم محرم بإجماع أهل العلم؛ لأن المساهم معناه أنه شريك في هذا البنك الربوي، وله جزء وحصة ونصيب منه، ومعلوم حرمة الربا والنصوص الشرعية الواردة في الوعيد الشديد لآخذه ودافعه والمتعاون فيه. وأما أسهم البنوك الإسلامية فهذه حلال ولا شيء فيها بحمد الله.
ومثل البنوك الربوية في التحريم أسهم الشركات التي تمارس نشاطًا محرمًا أصلاً، وهذه غير موجودة في السوق المحلية، لكنها موجودة في السوق الدولية عن طريق محافظ البنوك الربوية. والناس اليوم يساهمون فيها ويتعاملون معها عن طريق الإنترنت، وهذه لا يجوز شراء أسهمها باتفاق أهل العلم.
القسم الثاني: أسهم شركات نشاطها مباح وجائز، كالشركات الزراعية والصناعية والخدمية، ولا تتعامل بالربا لا أخذًا ولا عطاءً. فهذه تجوز المساهمة فيها وشراء أسهمها، ويبلغ عددها في السوق المحلية بضع شركات فقط. وهذه الشركات هي السالمة من الربا، وهي النقية.
القسم الثالث: أسهم شركات أصل نشاطها مباح وجائز، كالشركات الزراعية والصناعية وشركات الخدمات، ولكنها تتعامل بالربا أخذًا أو عطاءً أو كليهما، ويأتيها الربا عن طريق اقتراضها بفوائد ربوية من البنوك إذا احتاجت لتمويل إنتاجها، وهذه مع الأسف أغلب الشركات الموجودة التي يساهم فيها، والتي تسمى بالشركات المختلطة. والراجح ـ والله أعلم ـ في هذه الشركات الحرمة؛ لأنها تتعامل بالربا، والربا كله حرام سواءً كان كثيرًا أو قليلاً. فإياك ثم إياك أن تتعامل مع الشركاتِ التي تتعاملُ بالربا أو فيها نسبة ولو قليلةٌ، فالربا إعلانٌ للحربِ على الله ورسوله. فيا ترى، من يحاربُ الله ورسولَه أتراه ينتصر؟! والله جل جلاله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، وقال : ((درهم ربا يأكلُّه الرجلُ وهو يعلم أشدُّ من ستةٍ وثلاثين زنية)) رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن حنظلة وصححه الألباني في صحيح الترغيب، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الربا ثلاثٌ وسبعون بابا، أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمه)) صححه الألباني أيضًا في صحيح الترغيب. فاتق الله في نفسك يا عبد الله، ولا تعرضْ نفسَك وأهلكَ لأكلِ الحرام، يقولُ النبي : ((لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ ولا دمٌ نبتَ من سحتٍ، النارُ أولى به)) رواه الطبراني.
ولذلك أيها المسلمُ، إذا أردتَ شراءَ أسهمِ أيّ شركةٍ فعليك أن تتثبتَ من أنَّ نشاطَها مباح، وأنْ تسلمَ الشركةُ من الربا إيداعًا واقتراضًا، ولو كان نشاطها في أعمالٍ مباحة أصلاً. نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه.
أيها المسلمون، ومما يجب أن نعلمه جميعًا أن سوقَ الأسهمِ نموذجٌ غربي، مبنيٌ على فلسفةِ الاقتصادِ الرأسمالي، والذي يعتمد أساسًا على الربا بأشكالهِ المختلفة، ويخالطُهُ القمار والاحتكار، فالأصلُ فيه أنه سوقُ شبهاتٍ محرمة؛ لذا لا بد للمسلمين أن يجردوهُ من الشوائبِ المحرمةِ قبلَ ولُوجهِ واستيراده، وهو وإن كان قائمًا على تحقيقِ منافعَ اقتصادية إلا أن هذه المنافعَ يمكنُ تحقيقَها بدون ما تحتوي عليه من مفاسد، فالآليةُ التي تُدار بها السوق لا تزال تُعاني من إشكالاتٍ شرعية، تدورُ حولَ الربا الذي تتمولُ به بعضُ الشركاتِ المساهمةِ، إضافة إلى ما يحصلُ من خداعٍ وكذبٍ وغش وتسريبٍ لمعلوماتٍ خاطئة داخل السوق، مما يُفوتُ المصالح المرجُوة ويجلبُ المفاسد، ولهذا كثيرًا ما نتساءل: ما سرُ الصعودِ والهبوطِ لهذه الأسهمِ من لحظةٍ لأخرى رغمَ عدمِ تغيرِ واقعِ الشركاتِ التي يجري التعاملُ على أسهمِها، بل بعضُها في خسارة؟!
فينبغي أن نعي لعبةَ الأسهم، فهناك مجموعاتٌ لا تخافُ الله تعالى ولا ترجو الدارَ الآخرة، يتحكمون في السوق ويعقدون اتفاقاتٍ خاصة مع بعضِ الشركاتِ التي يرغبونَ في زيادة أسعارِ أسهمِها، وبالمقابلِ يكسرونَ أسعارَ أسهمِ شركاتٍ أخرى بما يملكون من سيطرةٍ ماليةٍ احتكاريةٍ على السوق، ولهذا فهم يتلاعبون بأسعارِ الأسهم، كما يفعلُ لاعبو اليانصيبِ؛ بما قد يؤدي فعلُه هذا إلى أضرارٍ اقتصادية، فها نحن اليوم نرى انصرافَ فئامٍ من الناسِ عن المشاريعِ الإنتاجيةِ الفاعلة ركضًا وراءَ الأرباحِ العاجلة، ألا يعدُ هذا ضررًا على المجتمع؟! ألم تتراكمْ الأموالُ في البنوك دون أن يكون لها أثر في تطوير البلد وإنشاء المصانعِ وإقامة المشاريع؟! ألم ترتفع أسعار الإيجارات؟! فمن المتضرر؟! ألم تتقلص الحركة التجارية في البلد؟! ألم يخسر أصحاب المصانع والمحلات بسبب وقوف المشاريع التجارية أو بسبب تأخر دفع المستحقات؛ لأن الأموال تحرك في الأسهم؟!
وبناءً عليه فإنه لا ينصحُ بالتعاملِ في هذه السوقِ بحالتِها الراهنةِ، فهي شبهاتٌ بعضُها فوق بعض، فإنْ أبيتَ إلا الدخولَ في هذه اللعبة فيجب عليك وجوبًا أن تتعلم ما فيها من الحلالِ والحرام، وتستعمل جميعَ ما تملكِ في الأسهم، لأنك قد تصبحُ طعمًا سهلاً للكبارِ دون أن تشعر، فإذا بي أراك تُساهم في بدايةِ أمركَ بمبلغٍ رمزيٍ، فيعطونَك طُعمًا يسيلُ له لعابك، ثم تطمعُ فتزيدَ من رأسِ المالِ فتربح، فتبيعَ بيتك من أجلِ الفوزِ بمكاسبَ ضخمةٍ في وقتٍ قياسي، فلا تشعرْ بنفسِكَ إلا وقد أصبحتَ من المفلسين.
واعلم أن ارتفاع قيمة السهم في أسواقنا وانخفاضه ليس حقيقيًا، بمعنى أن هناك شركات يعلم الناس أنها خاسرة، ومع ذلك يرتفع قيمة أسهمها! فبماذا يفسر ذلك؟! يفسر أن هناك أصابع خفية تلعب في السوق وتحتكر اللعبة.
أيها المسلمون، إنّ الأصلَ في أموال الناس وحقوقِهم الحرمةُ والحظر، فلا يجوز الاعتداءُ عليها أو المماطلة والتفريطُ فيها أو الوقوعُ في التأويلاتِ المبرِّرة للتصرّفات الممنوعةِ فيها؛ لأنّ النبيَّ يقول: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه وماله وعِرضه)) رواه مسلم.
واعلم ـ يا عبد الله ـ أنّ القناعة والسماحةَ في ميدان التّجارة أمران مندوبٌ إليهما؛ إذ هما مظِنّة البركة، كما أنَّ الطمعَ والجشَع وعدم القناعة مظِنّة للكبوةِ وقِلّة البركة؛ لأنّ للتجارةِ سورةً كسورةٍ الخَمرة، تأخذ شاربَها حتى ينتشِي، فإذا انتشى عاوَد حتى يصيرَ مدمِنًا، لا يفيقُ من نشوةِ المغامَرة والطمعِ، حتى يستويَ عنده حالُ السكر والإفاقة، ولاتَ ساعةَ مندَم، ولقد قال النبيّ : ((من يأخُذ مالاً بحقِّه يبارَك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقِّه فمثله كمثلِ الذي يأكل ولا يشبَع)) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وهنا قضيةُ حريٌ التنبيهُ عليها، وهي أن غالبَ البنوكِ الموجودةِ اليومَ يوجد لها لجانٌ شرعية، ولكنها تفتقرُ إلى إداراتٍ للرقابةِ الشرعية، والتي تتولى التدقيقَ على ما يقومُ به البنكُ من عملياتٍ تجارية، ومن هنا تحدثُ المخالفاتُ والتي أحيانا تُخالف ما أفتتْ به الهيئاتُ الشرعيةُ في ذلك البنك.
أخي المساهم، إذا دخلتَ مضمارَ الأسهم فعليكَ بالأمانةِ في التعاملِ مع الناسِ والنصحِ لهم، فلا غشَ ولا خداع، فلا يحقُ لك بحالٍ أن تكذبَ على الناسِ في أسعارِ الأسهم، أو أن تُوهِمَهُم أن أسهمَ هذه الشركةِ في ازدياد، وفي حقيقتِها أنها في خسارةٍ، أو تدعي أنك تستثمرُ أموالَهم في شركاتٍ نقية، وأنتَ قد خلطتَ الحلالَ بالحرام، فالنبيُّ يقول: ((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، الأسهمُ والمكاسبُ المالية لها بريقٌ ولمعان، قد تصدُّ الإنسانَ عن ذكرِ الله تعالى وعن الصلاة، فليتق الله أولئك، فإنْ فعلَهم ذاك خطرٌ وعظيم، فقل لي بربك: ماذا بعد أن جمعتَ الأموالَ الطائلة وتركتَ بعدك الملياراتِ الهائلة وأنت قد ضيعتَ صلاتَك وفرطتَ في طاعةِ ربك؟! ماذا تنفعُك تلك الأموال؟! ماذا ينفعُك حرصُك على جمعِ حطامِ الدنيا إذا أُوقفتَ على سقر وما أدراك ما سقر، لا تُبقي ولا تذر، لواحةٌ للبشر، عليها تسعةُ عشر؟! ماذا ينفعُك حرصُك على الأسهمِ واللهثِ وراءَها إذا أوقفتَ بين يدي الله تعالى، وبدأتَ تبحثُ يمنةً ويسرةً عن حسنةٍ واحدةٍ تُنجيك ـ بإذن الله تعالى ـ من ناره وجحيمه فلم تجد؟!
فيا أخي الكريم، كن ممن قال الله فيهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].
واعلم ـ رعاك الله ـ أنك إذا حافظتَ على صلاتِك وداومتَ على طاعةِ ربك فتحَ لك الرزاقُ الكريم أبوابَ فضلِه، وجاءكَ الخيرُ من حيثُ لا تحتسب، يقول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، ويقول النبيُّ فيما يروى عنه: ((الكيّسُ من دانَ نفسَه وعملَ لما بعد الموتِ، والعاجزُ من اتبعَ نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني)) رواهُ الترمذي.
أيها المساهم، يجب عليك أنْ تخرجَ ما وجب عليك من زكاةٍ في أسهمك؛ لأنك أنتَ المطالبُ بذلك وليس الشركة، وزكاةُ الأسهمِ تُخرجُ وفقَ الطريقةِ الآتية:
إن كنتَ ساهمتَ في الشركةِ بقصدِ الاستفادةِ من ريعِ الأسهمِ السنوية وليس بقصدِ التجارةِ فإنَّ صاحبَ هذه الأسهمِ لا زكاةَ عليه في أصلِ السهم، وإنما تجبُ الزكاةُ في الربح، وهي ربعُ العشرِ بعدَ دورانِ الحولِ من يومِ قبضِ الربحِ إن كان نصابًا.
وإن كنتَ قد اقتنيتَ الأسهمَ بقصدِ التجارة بمعنى أنك تبيع وتشتري في الأسهم فزكاتُها زكاةُ عروضِ التجارة، فإذا جاءَ حولُ زكاتك وهي في ملككَ زكيتَها بقيمتِها الحاليةِ في السوقِ لا بما اشتريتَها به، وإذا لم يكنْ لها سوقٌ زكيت قيمتَها بتقويمِ أهلِ الخبرة، فيخرجُ ربعَ العشرِ من تلكَ القيمةِ ومن الربحِ إذا كان للأسهمِ ربح. وإذا باعَ المساهمُ أَسهُمَه في أثناءِ الحولِ ضمَ ثمنَها إلى مالِه وزكَّاه معه عندما يجيءُ حولُ زكاته.
اللهم علما ما ينفعنا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك...
(1/4805)
نحن والآخر
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء, مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/1/1427
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما المقصود بالآخر؟ ومن وراء هذا المصطلح؟ 2- الأهداف من ترويج مثل هذه المصطلحات والعبارات. 3- دعوة أهل الكتاب وغيرهم. 4- العلاقة مع أهل الكتاب. 5- معنى الولاء والبراء في الإسلام. 6- واجب الدعاة إلى الله تجاه هذا المصطلح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد ظهر علينا في الآونة الأخيرة مصطلح جديد، كثر تداوله عبر وسائل الإعلام المختلفة، من إذاعة وصحافة وتلفزة وفضائيات وعلى الشبكة العنكبوتية، ومع الأسف صار يستخدمه أيضًا عدد من الدعاة والكتّاب المسلمين، ألا وهو مصطلح: "الآخر". وأصبحنا نسمع عن أهمية الحوار مع "الآخر"، وعن ضرورة الاعتراف بـ"الآخر"، وعن سماع وجهة نظر "الآخر"، ونحو هذه العبارات. ومن أجل "الآخر" عقدت ندوات ومؤتمرات.
لقد أصبحت قضية ما يسمى بـ"الآخر" تشغل حيّزًا واضحًا في الأطروحات الثقافية في الآونة الأخيرة، لا سيما في مجال مواجهة التصور الإسلامي ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى التصور والفكر الإسلامي بأنه لا يعترف بـ"الآخر"، ولا يفقه التعامل معه، بل لا يضع قضية "الآخر" برمتها في الحسبان، ويُرمى بهذه التهمة من قِبَل رموز العلمانية على امتداد ساحة العالم العربي الفكرية، كما تُبنى على هذه التهمة اتهامات فرعية تتعلق بدعوى ضيق الأفق والانغلاق والتعصب وما شابه ذلك، وتقترن بهذه القضية أو هذا الطرح مسائل أخرى، أصبحت مشهورة ثقافيًا في الفترة الأخيرة؛ كقضية التعددية والتفاعل الفكري الحضاري وتجنب الحديث عن الغزو الفكري والثقافي، باعتبار أن كل هذه المسائل تعالج قضية "الآخر" وتحلها. وفي الوقت نفسه ينشغل بعض المثقفين الإسلاميين بالرد على الأطروحات الدائرة في فلك قضية "الآخر"، بتوضيح انفتاحية الإسلام وقدرته على التواصل الحضاري وسماحته الدينية وعدم تبنيه مفاهيم ضيقة حول الهوية والذات.
فما المقصود بـ"الآخر"؟ ومن "الآخر"؟ ومن وراء هذا المصطلح؟ ولصالح من تروج مثل هذه المصطلحات والعبارات؟
هل "الآخر" هو الغرب بنزعاته من صليبية إلى استعمارية جديدة وقديمة إلى صهيونية وعلمانية، أم هو غير المسلمين في خارج وداخل البلدان الإسلامية ومعهم النخب اللادينية، أم هو اليهودية العالمية والإسرائيلية؟ وهل هذا "الآخر" أفراد ودول، أم أفكار ومذاهب وفلسفات، أم حركات سياسية واجتماعية ودولية، أم تيارات اقتصادية ومادية كبرى؟
إن هذا المصطلح من المصطلحات الغامضة الحمّالة لمعانٍ مختلفة، ولعل ذلك مقصود ممن هم وراء طرحه وإثارته، ولذلك لا بد من تحرير هذا المصطلح وكشف أبعاده؛ ليتعرى الملبسون المضللون الذين يعنون ما يقولون، وليحذر الذين غرر بهم بتبني هذا المصطلح من بعض أهل العلم والدعوة.
أيها المسلمون، إن المقصود بـ"الآخر" في طرح هؤلاء هو الكافر بجميع أطيافه وأشكاله وألوانه، فهؤلاء عندما تحرجوا أن يستخدموا الألفاظ الشرعية استعاضوا عنها بهذا المصطلح، والواقع أنه ليس هناك "نحن" و"الآخر"، وإنما هناك المسلمون والكافرون، قال الله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْل [الأنبياء:78]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن [التغابن:2]، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أَنصَار [المائدة:72]. والآيات في ذكر الكفر والكافرين كثيرة جدًا، جاء ذكرها في ما يزيد على 352 موضعًا، فلماذا التحرج من كلام الله عز وجل الذي هو أحسن الحديث وأصدقه وأفصحه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]. إن من يتحرج من كلام الله عز وجل وتسمياته ويرتاح لكلام البشر ومصطلحاتهم ومسمياتهم يخشى عليه أن يكون تحت طائلة قوله تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون [الزمر:45].
أيها المسلمون، إن مصطلح "المؤمنين" و"الذين آمنوا" ورد في القرآن أكثر من 450 مرة، و"الكفر" و"الكافرين" و"الكفّار" و"الذين كفروا" وردت في القرآن أكثر من 400 مرة، و"المشركين" و"الذين أشركوا" وردت في القرآن أكثر من 200 مرة، و"المنافقين" و"الذين نافقوا" وردت في القرآن أكثر 50 مرة، و"الآخر" و"الآخرون" لم نجد لها ذِكرًا في كتاب الله.
ولو أن الأمر في استبدال "الآخر" بـ"الكافر" توقف عند الاستبدال اللفظي لكان الأمر أهون، مع مخالفته لكلام الله عز وجل، ولكن الخطورة في هذا الاستبدال يتجاوز اللفظ إلى الهزيمة النفسية أمام "الآخر" الكافر؛ وذلك بالدعوة إلى عدم الكراهية له، وإخفاء ظلمه وعدوانه وإرهابه، وكأنه مظلوم قد سلبت حقوقه! ويشعر السامع من الذين يطرحون مصطلح "الآخر" بأنهم يعيشون تحت ظرف سياسي داخلي أو خارجي صوّر لهم "الآخر" وكأنه مظلوم يريد من ينصره ممن ظلمه! واعتمدوا في ذلك على نصوص في الكتاب والسنة تدعو إلى التسامح والبر والقسط مع الكفار، وحرّفوها عن معانيها، وفصلوها عن مناسباتها التي نزلت فيها، ونسوا أو تناسوا الآيات التي فيها وجوب عداوة الكافر والبراءة منه وجهاده حتى يكون الدين كله لله. إنه تحريف في ثوابت الدين وأصوله.
أيها المسلمون، إن البراءة من الكافر في الإسلام تعني بغضه وبغض ما هو عليه من الكفر وعداوته، هذا إذا كان مسالمًا، أما إذا كان حربيًا فإنه يضاف إلى المعاني السابقة جهاده وقتاله ورد عدوانه وإزاحته من طريق الحق والتوحيد، ليصل الحق إلى قلوب الناس، ويفرض سلطان الإسلام ودولته عليهم.
إن المسلم حينما يسمع مثل هذه التعاريف والمواقف المتخاذلة ليخرج بنتيجة واحدة مفادها المطالبة بعدم كراهية الكافر، وأن نحترمه ونحافظ على حقوقه، ونشفق عليه، وكأنه هو المظلوم المسلوب الحقوق! فهلا يعلم قومنا ما فعله الكافر "الآخر" ـ وبخاصة أهل الكتاب ـ في المسلمين في القديم والحديث؛ ليعلموا من المعتدي ومن المعتدى عليه.
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين ألّبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعًا وردءًا. إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية. إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين يشردون المسلمين الآن في كل مكان، في الحبشة والصومال وأرتيريا، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين وتركستان والهند. إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين قتلوا أهلنا ونساءنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق، ثم يظهر بيننا من يظن أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر، ندفع به الإلحاد والإرهاب. إن هؤلاء لا يتدبرون القرآن الكريم، وإلاّ لما اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام بدعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.
إن هؤلاء الذين يحترقون اليوم على "الآخر" نسألهم بكل صراحة: أليس "الآخر" هو الذي أجرى دماء المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟! أليس هو القوة المسيطرة التي تحكم في الأرض بموازينها المضطربة وشعاراتها المزخرفة ومكاييلها المتعددة؟! يحقُّ لنا أن نتساءل: لماذا هذا الحرص على "الآخر" و"الآخر" ليس بحاجة إلى حرصنا عليه ولا هو حريص علينا؟! ولماذا تُثار هذه القضية و"الآخر" يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟!
وباستعراض تاريخنا ـ وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه ـ لا نجد أنَّ "الآخر" وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين. لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي، فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية، ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة، حين يتلقّون منهم التوجيه ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم. فهؤلاء الذين يطالبون أن نُقْسِط مع "الآخر" وأن نعترف به نسألهم: لِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك؛ بأن يُقسِط "الآخر" معنا ويعدل معنا؟! فهو الظالم المعتدي المنكِر لحقوقنا. والذين قالوا: "يجب أن ننفتح عليه" هل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه؟! فُتِحَتْ له القلوب والديار. إنَّ "الآخر" بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
أيها المسلمون، إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق. يجب أن لاّ يدفعنا الإحباط والهوان إلى أن نتلمس النجاة عند "الآخر". إنَّ سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيِّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم. إنَّ الإسلام وحده مصطلحًا ومعنىً ونهجًا هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا، وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض، نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها، ونتعهّدهم عليها، بها نُخاصِم، وبها نرضى، وبها نتعاون.
أيها المسلمون، كيف يأمرنا الله أن ندعو هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟ فلنستمع إلى آيات الله البيّنات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيما [النساء:47، 48].
إنَّ أوّل ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الدعوة إلى الإيمان والتوحيد دعوة واضحة جادّة صريحة، دعوة إلى التخلّي عن الشرك. إنَّ المواربة في هذا الأمر أو المداهنة أو المساومة ليست أسلوبًا يدعو له الإسلام أو يرضى به الله. إنَّ الله يريد أن تكون دعوته واضحة جليّة، وأن نُبلّغها كما أُنزلت على محمد. فليست الدعوة إذًا إلى التقارب مع "الآخر"، فأيّ تقارب بين التوحيد والشرك؟! إنَّ قوة أهل الكتاب اليوم وسلطانهم الممتدّ يضغط على بعض المسلمين وعلى فكرهم، فتختلط الأمور تحت تأثير هذا الضغط. لا بدَّ أن نؤكِّد أنَّ أساس العلاقات هو الدعوة إلى الإسلام، وأن تكون الدعوة واضحة جليّة، لا تَدَعْ لأحد عذرًا يدّعي معه أنه لم يستوعب الدعوة، ويجب أن تكون الدعوة عامة على جميع المستويات، كما أنزلت من عند الله.
أيها المسلمون، والآن: من أين بدأت قضية "الآخر"؟ ومن المروّج والمستفيد من هذا المصطلح؟
إن فكرة وجود الطرف "الآخر" ابتداءً هي فكرة دخيلة على المسلمين، فالطرف "الآخر" أو الرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى أو كل ما يتعلق بـ"الآخر" هي فكرة أقحمها الغرب إقحامًا على النسيج الفكري الذي انعقدت عليه عقول أمة الإسلام؛ فأمة الإسلام منذ اللحظة الأولى كانت أمة واحدة، رأيًا واحدًا، وجهة نظر واحدة، عقيدةً واحدةً، مسلكًا واحدًا، قائدًا واحدًا، شرعًا واحدًا، ربًا واحدًا، نبيًا واحدًا، وقد مكثت الأمة على ذلك قرابة 13 قرنًا، ولم تعرف هذا "الآخر" المزعوم، ثم عاث الغرب فسادًا في عقل الأمة، فأفسد عليها كل ما طالته يده، أفسد عليها فكرها الصافي، وعقيدتها الدافئة الغضة الحلوة، وشرعها النظيف البهيّ الجميل، وتماسكها الصلب الصخري، وتحت عناوين "قبول الآخر" و"إقناع الآخر" و"التعامل مع الآخر"، تحت هذه المسميات وغيرها كثير تمثلت غزوة فكرية حاقدة شرسة من الكافر المستعمر، فأوهموا الناس أن هناك "آخر"، وأنهم يجب أن يقبلوه، وأنهم يجب أن يحاوروه، وللأسف انطلت الخدعة على بعض الأمة، وكان هذا "الآخر" هو عينه الكافر المستعمر، ذلك المسخ الذي غرس أنيابه في عنق الأمة ليمتص دماءها الزكيّة، وقد أعجبته هذه الدماء فراح يعمل ليوقف قلبها عن النبض، وصار الناس يفكرون في "الآخر" وإرضائه، بينما ليس هناك "آخر" مطلقًا، إنما هي أكذوبة أنتجتها عقول الغرب الممسوخة، فما "الآخر" إلا العدو، فلا "آخر" في الإسلام، ولا "آخر" في شريعة الله.
وحين أراد الغرب أن يبطل احتكامنا إلى نصوص الشريعة أراد أن يجد له أسلوبًا يدخل فيه إلى الأمة، فكان مما دعا إليه فكرة وجود "الآخر"، ووجوب تقبله واحترامه والإصغاء إليه!. وقد حاول أن يدلّس الغرب وأذنابه من عملاء الفكر ومروجي حضارته العفنة، حاولوا أن يدلّسوا على أبناء الأمة، فصاروا يستشهدون بالنقاشات والحوارات والمجادلات التي دارت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين خصومه من كفار مكة أو يهود المدينة أو منافقيها. ورغم أن الناظر في تلك المناقشات والمجادلات والحوارات يجد أنها كلها تتسم بصفات مشتركة أهمها المفاصلة ورفض كل شيء غير الإسلام وعدم قبول قواعد الكفار في الحكم ورفض طريقتهم في التفكير، وبالتالي إنكار أي شيء موجود يسمى "آخر"، فلا يصح أن يوجد إلا الإسلام، رغم ذلك نجد أن هذا التدليس قد انطلى على بعض أبناء أمتنا، فراحوا يحترمون "الآخر" حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مرحلة التقديس!
ولعله من المناسب سوق أمثلة على مدى خطورة اعتبار وجود "الآخر" والاستكانة لوجوده، فأول مثال أسوقه هو اتحاد بعض الجماعات الإسلامية مع النصارى الأقباط في قوائمهم الانتخابية؛ من أجل أن يبرهنوا على عدم تطرفهم الفكري، وأنهم أناس ناضجون متحضرون على حد فهمهم للحضارة، وأنهم يتقبلون "الآخر". ويتكرر الأمر في بلد مسلم آخر تسيل دماؤه مما يفعله به الاحتلال الجاثم على صدره، فتتحد جهة إسلاميةٌ هناك مع النصارى في قوائمهم الانتخابية؛ من أجل دخول مجالس أسموها "مجالس تشريعية"، ليسنوا القوانين والدستور، ويحموا حمى الإسلام العظيم من خلال فوزهم بانتخابات مجالس تحت حراب الاحتلال!
وليت الأمر يقتصر على ذلك، فالغرب الكافر لما خرج علينا بأكذوبة "الآخر" كان يقصد بها معاشرة الفكر الغربي للفكر الإسلامي؛ لينتج عنهما وليد جديد ممسوخ الوجه دميم الخِلقة، وليدٌ لا هو غربي صرف، ولا هو إسلامي صرف، هو مزيج من تلاقح الحضارات وتلاقي الأفكار وحوار الثقافات زعموا، فكرٌ يساوي بين الإسلام من جهة وبين النصرانية واليهودية من جهة أخرى، فلا هيمنة لكتاب الله على ما قبله، بل كل الأديان سماوية، إذًا كلها سواء!
ويزيد الأمر وبالاً على وبال، حتى صار الغرب الكافر اليوم هو وأذنابه يرفضون "الآخر". نعم، هم أوجدوا فكرة "الآخر" المزعومة وهم اليوم ينكرون هذه الفكرة، إذ صاروا ينظرون إلى فكر الغرب المسموم على أنه وحده الموجود، وما دونه إنما هي هرطقات يجب القضاء عليها، فلا "آخر" أمام الديمقراطية، وكل من يعادي الديمقراطية يجب القضاء عليه؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك "آخر" في ظل وجود الديمقراطية، وتحت مسميات الحرب على الإرهاب، والقضاء على التطرف الأيديولوجي صار الغرب يحارب فكرة "الآخر"، فلا "آخر" مع الديمقراطية عندهم، فهل يعقل أصحابنا هذا؟! وهل أدركوا اللعبة؟!
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها، في هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل.
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة وبالغ في تصويرها محبو الشهرة والبروز عقيدةُ الولاء والبراء.
زاد الأمر خطورةً عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطًا أو تفريطًا، وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات.
نحن المسلمين أصحابُ دين ومنهج، ربنا وخالقنا هو الله، ونبينا وقدوتنا محمد. نحن المسلمين أصحاب عقيدة صافية تدكدك كل معلم أو إشارة تنبئ عن الميول والروغان عنها. نحن المسلمين لا ينقطع بنا الدرب، ولا يفوتنا الركب، ولا تنهار بنا القوى، ولا تيبس لدينا أوراق الهدى. نحن المسلمين أنصار الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة مهما علا صوت الباطل، ومهما ظهرت نواقيس العداء. نحن المسلمين خرج منا علماء ربانيون، أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كل التائهين، وهدوا كل الحائرين، وتميز في صفنا علماء جهابذة في العلوم الطبيعية والعلوم التقنية وفي العلوم الأخرى. نحن المسلمين رزقنا الله بالتوحيد الخالص الذي نوّر الله به كلّ أفقٍ وبقعة في هذه الديار، فازدهرت الأرض به بعد قحْط، وارتوت به بعد ظمأٍ وهلكة، وأنقذ الله به عباده من ظلمات الجهل والشرك والتذلل لغيره سبحانه. نحن المسلمين أصحاب لا إله إلا الله، نرجو بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. نحن المسلمين لا يخفى علينا أن الولاء والبراء محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ كل دين أو مذهب، وعلى هذا فالولاء شرعًا هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين، والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى، من الأصنام الماديّة والمعنويّة كالأهواء والآراء، وبُغْضُ الكفر بجميع ملله وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه. هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام، فهو معتقدٌ قلبيٌّ، لا بُدّ من ظهور أثره على الجوارح كباقي العقائد التي لا يصح تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِه، وعلى قَدْر قوّة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة، وعلى قَدْرِ ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة. فإذا زال هذا المعتقد من القلب بالكلية زال معه الإيمانُ كُلّه.
أيها المسلمون، إن الولاء والبراء مع أنه مطلب شرعي عقدي إلا أنه أيضًا مطلب فطري وعقلي، فلا نجد جنسًا من الأجناس يرتبطون برابط من الروابط إلا وتظهر عليهم هذه الصفة، حيث يوالون بني جنسهم ويعادون من يعاديهم، حتى في عالم الحيوان والطير، والكفار أنفسهم ينطلقون في ولائهم وبرائهم من هذا المنطلق، وقد أعلنها طاغوتهم حينما قال: "من لم يكن معنا فهو ضدنا". هذا هو ولاء الكفار وبراؤهم، لكن المسلمين يتميزون عن جميع الأجناس بأن عقيدة الولاء والبراء تنطلق من كلمة التوحيد، فمن كان من أهلها فهو ممن يحبه الله تعالى، فنحب من يحبه الله عز وجل، ومن كفر بها أبغضه الله وأصبح عدوًا لله، فحينئذ نبغضه لأن الله يبغضه، أما بقية الأجناس الأخرى كالحيوان والكفار وأصحاب الروابط الجاهلية من بني آدم فهم يوالون ويعادون على الماء والتراب والمرعى والمصالح الدنيوية، والمسلمون يوالون ويعادون في الله تعالى. وهذا هو ما يزعج الكفرة والمنافقين، حيث يريدونها روابط جاهليه عصبية لا دخل للدين فيها.
أيها المسلمون، الكفار "الآخرون" هم أعداؤنا قديمًا وحديثًا، سواء كانوا كفارًا أصليين كاليهود والنصارى أو مرتدين، قال الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة [آل عمران:28]. فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل؛ وهي أن "الآخرين" الكفار دائمًا وأبدًا هم أعداؤنا وخصومنا، كما قرر ذلك سبحانه فقال عنهم: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّة [التوبة:10]، وقال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُم [البقرة:105]. ولكي يطمئن قلبك فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث، وما فعله "الآخر" في الماضي، وما يفعلونه في هذه الأيام، وما قد يفعلونه مستقبلاً.
فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تقدم البرامج الجادة للمدعوِّين من أجل تحقيق عقيدة الولاء والبراء ولوازمهما، وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله تعالى والسيرة النبوية وقراءة كتب التاريخ واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم والحديث والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم المنظم في سبيل القضاء على هذه الأمة ودينها والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء؛ كالإنفاق في سبيل الله والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن ومتابعة أخبارهم ونحو ذلك.
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد، مقتنعين بأنهم يخوضون المعركة لله، ليس لأنفسهم ولا لذواتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم ولا لقرابتهم وعشيرتهم، إنما هي لله وحده ولدينه وشريعته.
هذا هو الموقف بين المؤمن و"الآخر"، لا معاونة ولا مناصرة، ولا مداهنة ولا مجاملة، ولا تعاون ولا تمازج، ولا تمييع ولا تطبيع، ولا صداقة ولا تداخل، ولا شراكة ولا حتى مشابهة. لا بد أن تكون هذه هي العلاقة رضينا أم أبينا، فإن العداوة للمسلمين والكيد للمسلمين والغدر بالمسلمين والخداع للمسلمين هي صفات لازمة لـ"الآخر" مهما كانوا وأين وجدوا، ولا ينبئك مثل خبير، فهذا العليم الخبير ينبئك بصفاتهم وسلوكهم تجاهك، قال الله تعالى: هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُم [البقرة:105]. فما موقفك ـ أيها المسلم ـ من "الآخر"؟ ما موقفك تجاه من يكرهك؟ ما موقفك تجاه من يعاديك ويحقد عليك؟ ما موقفك ـ أيها المسلم ـ تجاه من يضمر لك الكيد ويحمل لك الحسد؟ بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
أيها المسلمون، لقد رأينا موقف "الآخر" في الإساءة للنبي ، ومع الأسف لم يفتأ كثير من الليبراليين والعلمانيين يُسبّحون ليل نهار بحمد "الآخر"، الذي رضعوا من ثديه ثم أجلبوا على الأمة به، وكأنها لا تستطيع العيش إلا بهذا "الآخر"، ولا تتنفس إلا برئتيه، ولا تسمع ولا ترى ولا تفقه إلا بوجوده وتحت ناظريه! واستغل أولئك القطيع قضية الإرهاب المفتعلة لتذويب قاعدة الولاء والبراء من قلوب المسلمين، حتى طال التذويب شيئًا من مناهج التربية والتعليم والتوجيه، وانطلقت أطروحاتهم الشاذة تدس السم في العسل، تحت عناوين "حوارنا مع الآخر" "التفاعل مع الآخر" "التعايش السلمي مع الآخر" و"الانبطاح للآخر"! فجاءت الفضيحة الدنمركية لتصيب هذا القطيع الليبرالي والقطيع العلماني في مقتل قبل أن تصيب الأبقار الدنمركية. واتحدت الأمة صفًا واحدًا صغيرها وكبيرها موالية لنبيها ، مضحية بمالها وملذاتها من أجل الانتصار لعرضه عليه الصلاة والسلام، معلنة البراءة ممن تجاوز على عقيدتها وثوابتها، بتطبيق عملي مباشر جعل البقر وأشباه البقر تندم على ما فعلت.
إن هذا الحدث برغم فظاعته في حق نبينا إلا أنه أيقظ عقيدة هامة جدًا في حياة الأمة عقيدة، الولاء والبراء التي سعى بقرنا الليبرالي وبقرنا العلماني لوأدها في مهدها، واستخدموا لذلك أساليب ملتوية ماكرة، ودبّجوا المقالات واللقاءات والندوات والحوارات، فاحترقت كلها في ساعة من نهار. إنا ونحن إذ نقاطع الأبقار الدنماركية اقتصاديًا بحاجة أيضا إلى مقاطعة أبقارنا الليبرالية وأبقارنا العلمانية فكريًا، فكلهم بقر، وإن البقر تشابه علينا.
(1/4806)
أنت أيها الآخر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الولاء والبراء, قضايا دعوية
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التزام شرع الله تعالى. 2- مغالطات المبطلين وتلبيسهم. 3- ما ينقمه المبطلون على أهل الحق. 4- "الآخر" الذي يقبل قوله. 5- التعايش السلمي. 6- ولادة مصطلح "الآخر". 7- تناقضات "الآخر". 8- من نحن؟ ولماذا الكلام عن "الآخر"؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله، التواصي بتقوى الله تعني بالضرورة التواصي بلزوم شرعه في القول والعمل، وفي الاعتقاد والسلوك، وفي أعمال القلوب والجوارح؛ فتقوى الله مطهّرٌ يغسل النفوس من درن العصبية ونوازع الهوى، فإذا طَلَبَتِ الحقَّ طَلَبَتهُ بحقِّه الذي هو التجرّد والإنصاف والشعور برقابة علام الغيوب، وستظل النفس كما هي في طبيعتها نزاعةً للهوى ما لم يكن لها دثارٌ من التقوى، ولن ينصف الإنسان نفسَه من غيره حتى ينصف نفسه من نفسه.
ولذا فما أحوجنا إلى التواصي بالتقوى كلما تباحثنا قضية من قضايا الإصلاح أو عرضنا لمشكلة من مشكلاتنا، وكلما تنازعنا مسألة من مسائلنا الخلافية، فإذا كان الحقّ هو طِلبةَ الجميع فلتكن التقوى زاد الجميع.
ولَكَمْ ترى من مُبطلٍ يعاند الحق وهو يراه، ويغالط الحقيقة وهي بيّنة، يُبدي في المسألة رأيه بانتقائية عجيبة، فلا تتهمه في عقله أكثر من اتهامك له في تجرده للحق ولزومه لكلمة التقوى، فلم يؤتَ فيها من قبل عقله، وإنما أُتِيَ من قلة تقواه وورعِه.
ولم يكن عجيبًا من ذي النفس المتخمة بأخلاط الهوى وذي العقلِ الملتاث بلوثة التغريب أن يُناقض دعوتَه بسوء فعالِه، وأن يدعو إلى خلقٍ هو أحوج الناس إليه، وأن يجعل من بعضِنا شاهدًا من شواهد تخلّفنا، وهو لا يشعر أنه هو "الآخَر" شاهد آخر من شواهد تخلفنا، تجلّى تخلفه في أسلوبه في نقد مجتمعه وفي طريقتِه في الإصلاح.
ومما نقمه هذا المبطل على مجتمعاتنا أحاديةُ الرأي ورفضُ "الآخَر" وإقصاؤه، وما نتج عن ذلك من الضِيقِ بالخلاف وسوء الأدب مع المخالف. ورفع عقيرته يدعو إلى ضرورة قبول "الآخَر" والتعايشِ السلميِ معه، وإلى فتح باب الحوار لتتسع الصدور للخلاف، ولتُقبل التعددية في المجتمع.
ويتقاضانا التجرد عن الهوى أن نعترف بأن هذا المأخذ صحيحٌ في بعض صورِه؛ ولكن على نحوٍ أقل من درجة التصوير المبالغِ فيها. نعترف بها إنصافًا للحقيقة ونصرةً للحق ولو وافق شيئًا مما يتهمنا به "الآخَر" وينقمه علينا، وكما تكون نصرة الحق بتكذيب الدعاوى الباطلة فإنها تكون كذلك بالاعتراف بالخطأ ولو بالغ في تصويره المغرضون، فلدنيا أحاديةُ رأيٍ في بعض المسائل الاجتهادية، والتي ليس فيها نصٌ صريحٌ ولا إجماعٌ صحيح، ومع ذلك لم تتّسع فيها صدورُنا للمخالف، وصار قولنا في هذه المسألة الاجتهادية صوابًا لا يحتمل الخطأ، وقولُ غيرِنا خطأً لا يحتمل الصواب.
على أنه ليس كل "آخر" يقبل، ولا كل رأي يُعتبر ويحترم؛ فإن "الآخَر" الذي يجب قبوله واحترام رأيه وأن تتسع الصدور لخلافه هو هذا الذي تأتي مخالفته في مسألة اجتهادية لا نصّ فيها صريح ويتفق معنا في الأصول، فهو "الآخَر" الذي لا يجوز إقصاؤه ولا اتهامه في دينه، بل له أخوة الإسلام وحقوقُ المسلمين، ولا يجوز أن نقطع عنه علائق الود والولاء.
أما "الآخَر" الذي يخالف في مسألة أصولية فأنّى لقوله قبول؟! وأنى لرأيه احترام؟! بل الواجب الحتم منعُه من نشر ضلالاته وشبهاته؛ لأن البلد بلد الإسلام الذي لا يجوز بحالٍ أن تُرفع فيها أصول غير أصوله، وحق هذا علينا أن يُدعَى إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة كما يدعى لذلك كل ضال وجاهل.
وأما التعايش السلمي فحقٌ ممنوح لكل مَن يُساكِنُنا في مجتمعنا ولو كان من ديانةٍ أو طائفة أخرى، كافرًا أو مبتدعًا؛ كما عايش النبي اليهودَ في المدينة وسالمهم؛ فخالطوا المسلمين وعاملوهم، فلما نقضوا عهدَه وحاولوا قتله وآذوا المسلمين وظاهروا عليهم الكافرين قتل منهم من قتل، وأجلى منهم من أجلى.
فمن احترمَ ديننا ولم ينازعنا في أصولنا وكف عنا شره وأذاه وأمسك عن الدعوة إلى ضلالته فله حق السِلم ما سالمنا، وله مطلق الحرية أن يفعل في بيته ما يشاء؛ كما قرر العلماء قديمًا هذا الحق لأشباهه من أهل الذمة، على أن لا يستعلن بذلك خارج بيته؛ فيجرح المشاعر، ويُلوّث الفكر والأخلاق، ويُلبِس على الناس دينهم.
"الآخَر" مصطلحٌ لم يكن وليد هذه الظروف، فقد كانت المطالبةُ بقبوله واحترامِه وعدمِ إقصائه تُلقى بصوت خافت وبتوجّسٍ وخيِفَة لا يكاد يسمعها إلا النخبة المثقفة، حتى إذا خرج المارد من قُمقُمه وجاء بلادَ الإسلام بقضه وقضيضه مستعمرًا بثوب جديد وبأس شديد خرجت من جحورها الأحراش، واستبشر بمقدمه الأوباشُ، وتدرعوا ببأسه، واستقووا بقوته، وانضووا تحت رايته طابورًا خامسًا ينهش لُحمة المجتمع من الداخل، يزعم الإصلاح ولكن على الطريقة الأمريكية المعروفة.
وأشهر هذا "الآخَر" الذي يطالب بقبوله واحترامه ويندد بإقصائه هو التيار الليبرالي، الذي يعني في أول ما يعنيه بـ"الآخَر" توجهَه هو؛ حتى لو قال كفرًا أو نازعَ في أصل من الأصول، فكل نصٍ ولو كان صريحًا فهو عنده محتمِل التأويل، ولو بالتفسير الباطني الخرافي الذي لا يتوافق مع عقلانيته.
ولْننظر فيما ينقم منا هذا "الآخَر" وفيما يطالبنا به، ثم لنقارن ذلك بسلوكه في هذه المطالبة وبتعامله مع مخالفيه.
لقد نقم منا هذا "الآخَر" أحادية الرأي وإقصاءَ "الآخَر" وعدم قبوله واحترامِ رأيه وسوءَ الأدب في الحوار وعدم التثبت في نقل الأخبار ومجاوزة نقد الأفعال إلى محاكمة النوايا واتهامها وتغليب إساءة الظن. وكما قلتُ: هذا في بعضه صحيح ولا شك، غير أن من الصحيح أيضًا أن كل ما نقمه علينا هو موجود فيه، فكأنه يتحسس أدواءه ليذكِّرنا بأدوائنا!
فهذا "الآخَر" أحادي الرأي في قضاياه الكبرى التي يطرحها في كل موطن يبسط فيه نفوذه من وسائل إعلام وغيرها، وقد يوسِّع للرأي الآخر لكن في القضايا الأخرى الصغيرة التي لا تصادم أهدافه ولا تعارض مخططاته، فإذا كنا لا نقبل بالرأي الآخر أن يعارض بعلانية أصلاً من أصولنا فقد رأينا هذا "الآخَر" لا يقبل منا كذلك أن نعارض قضية من قضاياه الكبرى في أيّ موطن من مواطن سيطرته، بل هو يعارض ما هو أدنى من ذلك كرهًا ومقتًا، فأينا أحق بالمقت والنقد في هذا؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بالفظاظة وسوء الأدب في الحوار رأيناه في ذلك لا يعدو ما اتهم به غيره، فأنت مستبدٌ متخلف حينما تقرر قوامة الرجل على المرأة كما قررها الله سبحانه، وأنت إرهابي متطرف حينما تطالب بإقامة الحدود في بلاد المسلمين، وأنت إرهابي كذلك حينما تؤيد المقاومة في العراق ولو أنكرت قتل المدنيين منهم، وأنت متخلف رجعي حين توجب على المرأة الحجاب كما أوجبه الله.، وأنت ظلاميٌّ من أرباب الكهوف المظلمة في "تورا" حين تنكر بعض المنكرات في المهرجانات السياحية.
وربما انتقل هذا "الآخَر" من مناقشة قولك إلى السخرية بشخصك، هؤلاء هم الذين يريدون أن يعلّمونا ويعلموا أولادنا حسن الأدب في الحوار وتقبلَ الرأي الآخَر، فهل يعطيك الشيء فاقدُه؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بعدم التثبت في حكاية الأخبار وما أكثر ما رأيناه يذكّر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية [الحجرات:6]، ثم نجده أولَ من ينساها أو يتناساها حين يكون التثبت لا يخدم مصلحته؛ فيلقي بالتهم على الأبرياء جزافًا من غير تثبت، ويفري الكذب في الأخبار، فيزيد فيها، أو يُنشئها من عالم الخيال إنشاءً.
هذا "الآخَر" يفتري الكذبَ، ويتخذ من الكذب مادةً للإثارة وترويج البضاعة، ولو على المؤسسات الحكومية الرسمية، وبخاصة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسارع في نشر بعض الأخبار التي تُشوِّه سمعتها، ثم يأتي التكذيب من إمارة أو وزارة.
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بمجاوزة الظاهر إلى محاكمة الباطن واتهام النوايا وسوء الظن هو نفسه يفعل الشيء نفسه، وإذا فعل هذا مثقفٌ يحسب نفسَه على النخبة فهو أقبح من أن يفعله شاب حدَثُ السن لم يجاوِز مرحلة المراهقة.
فهذا "الآخر" هو الذي ابتدع تهمة (المنهج الخفي) ليوسع عريضة الاتهام بالتطرف والغلو في بلاد الإسلام لبرآء نبذوا التطرف بطرَفَيْه: الغالي والجافي، ولم ينقم منهم إلا أنه لم ينل سعيهم، ولم يكتب له قبول كما كُتب لهم، ولأنهم حالوا بينه وبين ما يشتهي أن يراه في وطنه، وأصبح دليله في تهمته هو الدعوى نفسَها، ومع أنهم أنكروا الإرهاب والتفجير وكشفوا الشُبه فلم يكن ذلك في نظره سوى اقتسام للأدوار، ما بين جناح سياسي وعسكري.
هذا "الآخر" الذي يتهم غيره بأنه يحمل كلامه ما لا يحتمل ويحرِّفه عن مواضعه كأنما يعني بهذا الاتهام نفسه، فإذا قلت: "هذا الفعل كفرٌ" قال عنك: "إنك تكفِّر الناس"، ويتجاهل أن الحكم على الفعل بالكفر لا يعني بالضرورة كفرَ فاعله. وإذا قلت: "البراءة من الكفار أصل من أصول الإسلام" جعل لقولك لوازمَ باطلةً، فنسب إليك أنك تبيح ظلمَ الكافر والاعتداءَ عليه وتسوِّغ قتله بكل حال.
هذا "الآخَر" هو أكثر "الآخَر" انتهازًا للظروف واستغلالاً للحوادث، ومن المفارقات العجيبة في فتنة هذه الأيام أن يتفق هذا الذي يدعو إلى العقلانية ويتباهى بعقلانيته مع أشد الناس تعطيلاً للعقل وإعمالاً للخرافات من الرافضة وغيرهم فاتحدت هذه الأطراف المتباينة في حربها على أهل السنة من الوهابية وغيرها، ولم يكن بينها جامع يجمعها على هذا الاتفاق العجيب إلا بغضها لنا نحن "الآخَر" المفترى عليه.
هذا هو "الآخر" الذي يريد أن نعامله بغير ما يعاملنا هو به، فنحن بين "آخَر" يتحيّفُنا وعدو تملّك أمرنا، ولا طاقة لنا بهذه الهجمة الضروس ما لم نجعل من أصولنا التي نتفق عليها موئلاً ينزع عنا التفرق والاحتراب، وليس من السائغ أن نجعل من المسائل الاجتهادية منزعًا للتشاحن والتباغض في ساعة الرخاء، فكيف وربِكم نجعلها معقدًا للولاء والبراء في ساعة الشدة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى الاعتصام والوحدة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن نحن حين نتكلم عن "الآخر"؟ نحن كل مؤمن جعل القرآن والسنة ضياءَ طريقه إلى الله، وجعل شريعة الله حاكمةً لحياته، لسنا حزبًا سياسيًا ولا طريقةً ولا حركة؛ فيكونَ دفاعنا دفاعًا شخصيًا عن ذواتٍ خاصة، ولكننا من حزب الله الذين آمنوا بالله واتبعوا الرسول ، فدفاعنا دفاعٌ عن قيمٍ غيَّبها "الآخَر" في تعامله، فأصبحنا ضحايا تغييبها.
أما لماذا نتعرّض لذلك "الآخَر"؟ فذلك لكشف ألاعيبه، ولكي نكون أكثر فطنة من أن تخدعَنا الشعارات؛ فتلبِّس علينا حقيقتها الشائهة. يجب أن لا يدفعنا فضحُ "الآخَر" إلى الدفاع عن أخطائنا والسكوتِ عن ضرورة إصلاحها.
يجب أن نفطن إلى أننا لا يشملنا مصطلح "الآخَر" الذي يدافعون عنه ويطالبون بحقوقه، فنحن "آخر" من نوع آخر لا يستحق الكرامة ولا الحرية، ولا يستحق حتى تقنيات الحضارة؛ لأننا كما يدعون نفكر بعقول رجعية، لا تريد أن تعيش عصرَها الحاضر بظروفه ومعطياته.
يقولون: إن سبب عدم قبولكم لـ"الآخَر" ورفض التعايش السلمي معه هو الانغلاق والانكفاء على الذات، ونقول: ليس هذا هو السبب، ولكنه سبب من الأسباب، فقد رأينا من بني جلدتنا من هو أشد انفتاحًا وأكثر مخالطة للآخرين، ولكنه لا يزال في دائه، فلْيُداو نفسَه قبل أن يرمي غيره بدائِه.
هذا "الآخَر" يتجاوز في مفهوم قبول "الآخَر" مسألة قبول التعايش معه إلى فرض ثقافته وبسط هيمنته واستبداده بكل سُلطة، فيترقى من مجرد حرية الرأي إلى فرض الرأي، ويبقى لغيره حرية الكلام يلجلج به في فضاء يضيع فيه الكلام.
إن أزمة الحوار في بلادنا ليست أزمة فئة متديِّنة، ولكنها أزمة مجتمع نشأ في بيئة موبوءة بداءِ الاستبداد من البيت إلى المدرسة إلى المؤسسة؛ ولذا نجدها أزمة مشتركة بين أطياف المجتمع كلها، ما بين مقلّ ومستكثر.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/4807)
موقفنا من خلاف العلماء
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
العلم الشرعي, قضايا فقهية معاصرة, مذاهب فكرية معاصرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
15/8/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- متمسّك المميّعين للدين. 2- مفاسد تتبع الرخص والانتقاء من كلام العلماء. 3- الحق واحد لا يتعدد. 4- الموقف السليم من اختلاف العلماء. 5- أصناف الناس تجاه مسائل الخلاف. 6- الحق ليس محصورا في مذهب معين. 7- تحذير الأئمة من مخالفة الدليل. 8- التحذير من التحايل على شرع الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَقَد سَبَقَ الكَلامُ في الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ حَولَ مَا بُلِيَ بِهِ بَعضُ المَفتُونِينَ في الجَرَائِدِ وَالصُّحُفِ مِنَ التَّطَاوُلِ عَلَى العُلَمَاءِ وَالطَّعنِ فِيهِم وَالتَّقلِيلِ مِن شَأنِهِم، في مُحَاوَلَةٍ مِنهُم لِتَميِيعِ قَضَايَا الدِّينِ وَتَضيِيعِ أَحكَامِهِ، وَجَعلِ المُسلِمِين مسخًا مُشوَّهًا مِنَ المُجتَمَعَاتِ المُنحَلَّةِ الضَّائِعَةِ، وَتَخرِيجِ أَجيَالٍ مُرَاوِغَةٍ مُخَادِعَةٍ، ضَعِيفَةِ التَّمسُّكِ بِأَحكَامِ دِينِها، مُتقِنَةٍ لِلتَّحايُلِ عَلَى شَرَائِعِهِ، مُتَفَنِّنَةٍ في تَعطِيلِ سُنَنِهِ. وَإِنَّ ممَّا يَتَشَبَّثُ بِهِ هَؤُلاءِ المَفتُونُونَ وَيَجعَلُونَهُ مَخرَجًا لهم في كُلِّ مَرَّةٍ يُعَانِدُون فِيهَا وَيُجَادِلُونَ وَيُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ يَرُدُّوا الحَقَّ ويُطفِئُوا نُورَ الدَّليلِ أَن يَذكُرُوا أَنَّ في المَسأَلَةِ خِلافًا، وَأَنَّ لِلعَالِمِ الفُلانيِّ فِيهَا رَأيًا، وَلِلبَاحِثِ العَلاَّنيِّ فِيهَا قَولاً، وَأَنَّ المُتَلَقِّيَ أَوِ المُستَفتيَ لَيسَ مُلزَمًا بِقَولِ هَذَا العَالِمِ أَو ذَاكَ، مُحَاوِلِينَ بِذَلِكَ أَن يُرَسِّخُوا في عُقُولِ العَامَّةِ وَالسُّذَّجِ أنَّهُ إِذَا كانتِ المَسأَلَةُ خِلافِيَّةً وَالآرَاءُ فِيهَا مُتَعَدِّدَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلمَرءِ أَن يختَارَ مِنَ الأَقوَالِ ما يَرُوقُ لِذَوقِهِ ويُوَافِقُ هَوى نَفسِهِ.
وَايمُ اللهِ، إنهم بِذَلِكَ لَفَاتِحُو بَابٍ مِنَ الفتنةِ عَرِيضٍ، لَو وَلَجَتهُ الأُمَّةُ لَفَسَدَ دِينُها وَانهارت عَقِيدَتُها، وَلَمَا أَحلَّت حَلالاً ولا حَرَّمَت حَرَامًا؛ إِذْ إِنَّ مِن مَسَائِلِ الدِّينِ مجمُوعَةٌ لَيسَت بِاليَسِيرَةِ لِلعُلَمَاءِ فِيهَا آرَاءٌ وَأَقوَالٌ، إِضَافَةً إلى أَنَّهُ ما مِن عالِمٍ إِلاَّ لَهُ خَطَأٌ أَو زَلَّةٌ أَو شَطحَةٌ أَو تَمَسُّكٌ بِرَأيٍ ضَعِيفٍ أَو انتِصَار لِقَولٍ مَرجُوحٍ، لا يُؤَيِّدُهُ دَلِيلٌ مِن نَقلٍ وَلا نَظَرٌ مِن عَقلٍ، وَلَو جَازَ لِكُلٍّ أَن يختَارَ مِنَ الأَقوَالِ مَا شَاءَ دُونَ ضابِطٍ وَأَن يَتَّبِعَ زَلاَّتِ العلماءِ وَآرَاءَهُم المَرجُوحَةَ وَيَأخُذَ بما نُقِلَ عَنهم مِنَ الرُّخَصِ لَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ الدِّينِ، وَلَجَمَعَ الشَّرَّ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ. وَمَا أَحسَنَ مَا قال سُلَيمَانُ التَّيمِيُّ رحمه اللهُ: "لَو أَخذتَ بِرُخصَةٍ كُلِّ عالِمٍ اجتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ"، وَمِثلُهُ مَا جَاءَ عَنِ الإِمامِ أَحمَدَ رحمه اللهُ أَنَّهُ قال: سَمِعتُ يحيى القَطَّانَ يَقُولُ: "لَو أَنَّ رَجُلاً عَمِلَ بِكُلِّ رُخصَةٍ بِقَولِ؛ أَهلِ الكُوفَةِ في النَّبِيذِ، وَأَهلِ المَدِينَةِ في السَّمَاعِ، وَأَهلِ مَكَّةَ في المُتعَةِ، لَكَانَ فَاسِقًا"، وَقَالَ الأَوزَاعِيُّ رحمه اللهُ: "مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ العُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِسلاَمِ"، وَقَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ رحمه اللهُ: "لا يَجُوزُ لِلعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجمَاعًا".
أيها المسلمون، إِنَّهُ وَإِن كان في مَسأَلَةٍ مَا قَولانِ أو ثَلاثَةٌ أَو أَكثَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ على المُسلِمِ أَن يَعلَمَ أَنَّ للهِ تعالى ورَسُولِهِ فِيهَا حُكمًا وَاحِدًا فَقَطْ، وَلَيسَ أَكثَرَ. نَعَمْ، لَيسَ لِلشَّرعِ في كُلِّ قَضِيَّةٍ إِلاَّ حُكمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ؛ لأَنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ، وَهَذَا الحُكمُ الصَّحِيحُ يُصِيبُهُ بَعضُ العُلَمَاءِ بِتَوفِيقِ اللهِ، وَيُخْطِئُهُ آخَرُونَ بِقَدَرِ اللهِ، وَلمَّا سُئِلَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه اللهُ عَمَّن أَخَذَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ ثِقَةٌ عَن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ أَتُرَاهُ مِن ذَلِكَ في سَعَةٍ؟ فَقَالَ: "لا وَاللهِ، حتى يُصِيبَ الحَقَّ، مَا الحَقُّ إِلاَّ وَاحِدٌ"، وَقَالَ ابنُ عبدِ البَرِّ رحمه اللهُ: "وَلَو كَانَ الصَّوَابُ في وَجهَينِ مُتَدَافِعَينِ مَا خَطَّأَ السَّلَفُ بَعضُهُم بَعضًا في اجتِهَادِهِم وَقَضَائِهِم وَفَتوَاهُم، وَالنَّظَرُ يَأبى أَن يَكونَ الشَّيءُ وَضِدُّهُ صَوَابًا كُلُّهُ" انتهى كَلامُهُ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الخِلافَ في مَسأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ أَو حُكمٍ مِنَ الأَحكَامِ وَإِنْ سَاغَ لِلعُلَمَاءِ المُجتَهِدِينَ لأَسبَابٍ لَيسَ هَذَا مجالَ ذِكرِها فَهُوَ لا يُسَوِّغُ لِلمَرءِ أَن يختَارَ مَا يُنَاسِبُ مَيلَ نَفسِهِ أو يُوافِقُ هَوَاهَا، ثم إِذَا نُوقِشَ أَو أُنكِرَ عَلَيهِ قَالَ: في المَسأَلَةِ خِلافٌ، أَو: هَذِهِ مَسأَلَةٌ خِلافِيَّةٌ. إِنَّ هذا لا يَصِحُّ وَلا يُقبَلُ عَلَى إِطلاقِهِ؛ لأَنَّهُ يَعني أَنَّ الإِنسَانَ تَحَلَّلَ مِن قُيُودِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَلَو أَنَّ إِنسَانًا عَمِلَ بِهَذَا الانتِقَاءِ فَأَخَذَ قَولاً شَاذًّا في مَسأَلَة وَمَالَ إِلى فَتوَى شَاذَّةٍ في حُكمٍ وَأَعجَبَهُ رَأيٌ شَاذٌّ في قَضِيَّةٍ لأَصبَحَ مجمُوعَةً مِنَّ الشُّذُوذَاتِ، وَلاجتَمَعَ فِيهِ الشَّرُّ كُلُّهُ، وَلَصَارَ عَبدًا لِهَوى نَفسِهِ ضَالاًّ مُضِلاًّ مُبتَدِعًا، لا عَبدًا رَبَّانِيًّا مُخبِتًا مُتَّبِعًا.
وَمِن هُنا ـ أيها المسلمون ـ فَإِنَّ عَلَينَا أَن نَحذَرَ كُلَّ الحَذَرِ وَنُحَذِّرَ أَشَدَّ التَّحذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ هَذَا المَسلَكِ وَالاعتِمَادِ على قَضِيَّةِ الخِلافِ لِلتَّحَلُّلِ مِن أَحكَامِ شَرِيعَتِنَا وَالتَّحَايُلِ عَلَيهَا. وَيَقُولُ قَائِلٌ: مَا المَوقِفُ السَّلِيمُ مِن خِلافِ العُلَمَاءِ؟ وَمَاذَا نَفعَلُ وَأَيَّ قَول نُرَجِّحُ، وَلا سِيَّمَا وَنحنُ في عَصرِ العَولَمَةِ وَانتِشَارِ القَنَوَاتِ وَكَثرَةِ المُفتِينَ وَاصطِدَامِنَا بِهَذَا القَدرِ مِنَ الخِلافَاتِ الفِقهِيَّةِ في الكُتُبِ المَطبُوعَةِ؟
تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ فَمَا يَدرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ
فَنَقُولُ أَوَّلاً لِئَلاَّ يَأتيَ جَاهِلٌ مُغَرَّرٌ بِهِ أَو مُنَافِقٌ مَرِيضُ القَلبِ مَفتُونٌ فَيَدَّعِيَ أَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خِلافٌ وَتَنَازُعٌ وَتَجَاذُبُ آرَاءٍ، نَقُولُ: إِنَّ مَسَائِلَ الخِلافِ في الشَّرِيعَةِ وَإِنْ وُجِدَت وَتَكَلَّمَ فِيهَا العُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلاَّ أَنَّها بِحَمدِ اللهِ لا تُمَثِّلُ شَيئًا إِذَا قُورِنَت بِمَسَائِلِ الاتِّفَاقِ وَالإِجمَاعِ، فَمَسَائِلُ الإِجمَاعِ أَكثَرُ وَأَشمَلُ، وَاتِّفَاقُ العُلَمَاءِ أَغلَبُ وَأَعَمُّ.
ثم نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ الناسَ يَنقَسِمُونَ حِيَالَ المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ إلى قِسمَينِ:
طُلاَّبِ عِلمٍ وَعَامَّةٍ، فَهُنَاكَ طَالِبُ عِلمٍ يَمتَلِكُ الآلَةَ العِلمِيَّةَ مِن مَعرِفَةٍ بِأُصُولِ الفِقهِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَإِلمَامٍ بِدلالاتِ اللُّغَةِ وَتَفسِيرِ القُرآنِ وَمَعَاني الآثَارِ وَقُدرَةٍ على المُوَازَنَةِ بَينَ أَقوَالِ أَهلِ العِلمِ، وَيَستَطِيعُ أَن يَبحَثَ بِنَفسِهِ وَيَصِلَ بِالأَدِلِّةِ إلى القَولِ الرَّاجِحِ في نَظرِهِ وَإِن كَانَ لَيسَ دائِمًا هُوَ الرَّاجِحُ مُطلَقًا، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَفعَلَ هَذَا الأَمرَ وَيَبحَثَ بِنَفسِهِ، وَيَنصَاعَ لِلدَّلِيلِ إِذَا عَلِمَهُ وَصَحَّ عِندَهُ، وَلا يَجُوزُ لَهُ التَّقلِيدُ أَبَدًا، قَالَ الشَّيخُ محمدُ بنُ صَالحٍ العُثَيمِين رحمه اللهُ: "الوَاجِبُ على مَن عَلِمَ بِالدَّلِيلِ أَن يَتَّبِعَ الدَّلِيلَ وَلَو خَالَفَ مَن خَالَفَ مِنَ الأَئِمَّةِ، إِذَا لم يُخَالِفْ إِجمَاعَ الأُمَّةِ".
القِسمُ الثاني: وَهُم مَن يُمكِنُ أَن نَصِفَهُم بِالعَامَّةِ، وَلا نَقصِدُ بِهِمُ الذين لا يَقرؤُونَ وَلا يَكتُبُونَ، وَإِنما المَقصُودُ كُلُّ مَن لَيسَ عَلَى جَانِبٍ مِنَ العِلمِ الشَّرعِيِّ، ولا يَستَطِيعُ البَحثَ وَلا يَهتَدِي إِلَيهِ سَبِيلا، وَهَؤُلاءِ فَرضُهُم وَحُكمُهُم التَّقلِيدُ، لَيسَ لهم إِلاَّ هَذَا؛ لِعَجزِهِم عَنِ البَحثِ وَالنَّظَرِ وَالتَّرجِيحِ، وَلَكِنْ مَن يُقَلِّدُونَ؟ وَبِقَولِ مَن يَأخُذُونَ؟ وَمِن أَيِّ مَشرَبٍ يَرتَوُونَ؟ أَيجرُونَ خَلفَ كُلِّ نَاعِقٍ وَيَتَّبِعُونَ كُلَّ فَاسِقٍ؟! أَيَتَلَقَّونُ أَحكَامَ دِينِهمِ مِنَ مُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ وَأَقزَامِ الإِعلامِ، أَم يَستَفتُونَ ذَلِكَ العَالِمَ لأَنَّهُ مُتَسَاهِلٌ، أَم يَتَّبِعُونَ رَأيَ هَذَا لأَنَّهُ سَمحٌ، أَم يَجمُدُونَ عَلَى قَولِ عَالِمٍ وَاحِدٍ، أَم لا يَسمَعُونَ إِلاَّ لِمَن كَانَ مِن أَهلِ بَلَدِهِم، أَم يَأخُذُونَ القَضِيَّةَ بِالأَمزِجَةِ وَالأَهوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ؟! لا وَاللهِ، وَمَعَاذَ اللهِ أَن يَفعَلَ هَذَا مُسلِمٌ يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجُو رَحمَةَ رَبِّهِ. إِنَّ هَؤُلاءِ العَامَّةَ وَاجِبٌ عَلَيهِم أَن يُقَلِّدُوا مَن يَثِقُونَ بِهِ في عِلمِهِ وَتَقوَاهُ وَأَمَانَتِهِ، وَيَستَفتُوا مَن يَعتَقِدُونَ أَنَّ آرَاءَهُ أَقرَبُ إلى حُكمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الأَحيَاءِ كَانَ أَم مِنَ الأَموَاتِ، مِن أَهلِ بَلَدِهِم أَم مِن غَيرِهِ، ثم هُم بَعدَ ذَلِكَ غَيرُ مُلزَمِينَ أَن يَسأَلُوا عَنِ الدَّلِيلِ، إِلاَّ مَن كَانَ مِنهُم يَفهَمُهُ وَيَعِيهِ، فَحَسَنٌ أَن يَعرِفَهُ وَيَتَمَسَّكَ بِهِ وَيَعَضَّ عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ، أَمَّا مَن كَانَ مِنهُم غَيرَ مُستَطِيعٍ لِفَهمِ الأَدِلَّةِ فَحَسبُهُ أَن يَأخُذَ بِالفَتوَى وَيَعمَلَ بها دِيَانَةً للهِ القائِلِ سُبحانَه: فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِنْ كُنتُم لا تَعلَمُونَ.
أيها المسلمون، وَإِذَا كَانَ الشَّيءُ بِالشَّيءِ يُذكَرُ، وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: "إِنَّهُ يَجِبُ على العَامِيِّ أَن يُقَلِّدَ" فَإِنَّ ممَّا يُنَبَّهُ إِلَيهِ مَعَ اختِلافِ المَذَاهِبِ أَنَّ الحَقَّ لَيسَ محصُورًا في وَاحِدٍ مِنَ المَذَاهِبِ دائِمًا، وَلَو قَالَ قَائِلٌ: "إِنَّ المَذهَبَ الفُلانيَّ كُلُّهُ حَقٌّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ" لَكَانَ في ذَلِكَ مُخطِئًا بِلا خِلافٍ عِندَ أَهلِ العِلمِ، فَالحَقُّ لَيسَ مَحصُورًا في مَذهَبٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ العُلَمَاءَ مِن أَصحَابِ المَذَاهِبِ كُلُّهُم قَدِ اجتَهَدُوا وَبَحَثُوا عَن الحَقِّ بِدَلِيلِهِ، حَالُهُم في ذلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّهُم مِن رَسُولِ اللهِ مُلتَمِسٌ غَرفًا مِنَ البَحرِ أَو رَشفًا مِنَ الدِّيَمِ
وَمِن هُنَا فَقَد يَكُونُ الحَقُّ في مَسأَلَةٍ مَا عِندَ وَاحِدٍ مِنهُم، وَالصَّحِيحُ في مَسأَلَةٍ أُخرَى عِندَ غَيرِهِ، وَالرَّاجِحُ في قَضِيَّةٍ ثَالِثَةٍ عِندَ غَيرِهِما، وَهَكَذَا، فَلَيسَ الحَقُّ محصُورًا في مَذهَبٍ، بَل وَلا حتى في أَحَدِ المَذَاهِبِ الأَربَعَةِ فَقَطْ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لَيسَ مِنَ السَّائِغِ وَلا المَقبُولِ أَن يَجمُدَ مُسلِمٌ عَلَى مَذهَبٍ مَا، فَلا يَتَجَاوَزَهُ وَلَو عَلِمَ أَنَّ الحَقَّ الذي يُسنِدُهُ الدَّلِيلُ في غَيرِهِ، بَل الوَاجِبُ عَلَيهِ إَِذا قَلَّدَ عَالِمًا أَوِ اتَّبَعَ مَذهَبًا ثم وَجَدَ الحَقَّ في غَيرِهِ وَوَثِقَ أَنَّهُ الحَقُّ أَن يَأخُذَ بِهِ، قَال شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تِيمِيَّةَ رحمه اللهُ: "مَنِ التَزَمَ مَذهبًا مُعَيَّنًا ثم فَعَلَ خِلافَهُ مِن غَيرِ تَقلِيدٍ لِعَالِمٍ آخَرَ أَفتَاهُ وَلا استِدلالٍ بِدَلِيلٍ يَقتَضِي خِلافَ ذَلِكَ وَمِن غَيرِ عُذرٍ شَرعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، وَعَامِلاً بِغَيرِ اجتِهَادٍ وَلا تَقلِيدٍ، فَاعِلاً لِلمُحَرَّمِ بِغَيرِ عُذرٍ شَرعِيٍّ، فَهَذَا مُنكَرٌ. وَأَمَّا إِذَا تبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجحَانَ قَولٍ على قَولٍ، إِمَّا بِالأَدِلَّةِ المُفَصَّلَةِ إِن كَانَ يَعرِفُها وَيَفهَمُهَا، وَإِمَّا بِأَن يَرَى أَحَدَ رَجُلَينِ أَعلَمَ بِتِلكَ المَسأَلَةِ مِن الآخَرِ وَهُوَ أَتقَى للهِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَيرجِعُ عَن قَولٍ إلى قَولٍ لِمِثلِ هَذَا، فَهَذَا يَجُوزُ بَل يَجِبُ، وَقَد نَصَّ الإِمَامُ أَحمَدُ عَلَى ذَلِكَ"، وَقَالَ الشَّيخُ صالحٌ الفَوزَانُ حفظه اللهُ: "وَمُجَرَّدُ الانتِمَاءِ إلى المَذهَبِ لا مَانِعَ مِنهُ، لَكِنْ بِشَرطِ أَن لا يَتَقَيَّدَ بِهَذَا المَذهَبِ فَيَأخُذَ كُلَّ مَا بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ صَوَابًا أَم خَطَأً، بَلْ يَأخُذُ مِنهُ مَا كان صَوَابًا، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ لا يَجُوزُ لَهُ العَمَلُ بِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ القَولُ الرَّاجِحُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَأخُذَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ في مَذهَبِهِ الذي يَنتَسِبُ إِلَيهِ أَم في مَذهَبٍ آخَرَ؛ لأَنَّ مَنِ استَبَانَت لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ لم يَكُنْ لَهُ أَن يَدَعَهَا لِقَولِ أَحَدٍ... وَإِذَا كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقلِيدُ إِنسَانٍ مُعَيَّنٍ غَيرِ الرَّسُولِ فَهَذَا رِدَّةٌ عَنِ الإِسلامِ" انتَهَى كَلامُهُ.
نَعَم أيها الإِخوَةُ، الحَقُّ هُوَ مَا أَسنَدَهُ الدَّلِيلُ، الحَقُّ هُوَ مَا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَن أَفتى بِهِ مِنَ العُلَمَاءِ فَعَلَى الرَّأسِ وَالعَينِ، وَمَن جَهِلَهُ أَو ضَلَّ عَنهُ فَلا اعتِبَارَ لِرَأيِهِ وَلا اتِّبَاعَ لِقَولِهِ كَائِنًا مَن كَانَ، فَكَيفَ إِذَا كَانَ صَحَفِيًّا إِعَلامِيًّا مُهَرِّجًا أَو كَاتِبًا في جَرِيدَةٍ أَو مُحَرِّرَ صَحِيفَةٍ؟! قَالَ سُبحَانَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ.
وَقَد كَانَ الأَئِمَّةُ الأَربعَةُ رحمهم اللهُ على هذا، ولم يَكُونُوا يَدعُونَ الناسَ إلى رَأيِهِم، بَل كَانُوا يُؤَصِّلُونَ في نُفُوسِهِم اتِّبَاعَ الحَقِّ بِدَلِيلِهِ، قال الإِمامُ أَبو حَنِيفَةَ رحمه اللهُ: "إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذهَبي"، وَقَال: "إِذَا قُلتُ قَولاً يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ تعالى وَخَبَرَ الرَّسُولِ فَاترُكُوا قَولي"، وَأَمَّا الإِمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ رحمه اللهُ فقد قال: "إِنما أَنَا بَشَرٌ أُخطِئُ وَأُصِيبُ، فَانظُرُوا في رَأيِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوهُ، وَكُلُّ مَا لم يُوافِقِ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاترُكُوهُ"، وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه اللهُ: "مَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ وَتَذهَبُ عَلَيهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ وَتعزُبُ عَنهُ، فَمَهمَا قُلتُ مِن قَولٍ أَو أَصَّلتُ مِن أَصلٍ فِيهِ عَن رَسُولِ اللهِ خِلافُ مَا قُلتُ فَالقَولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ، وَهُوَ قَولي"، وَقَالَ الإِمَامُ أَحمَدُ رحمه اللهُ: "لا تُقَلِّدْني، وَلا تُقَلِّدْ مَالِكًا، وَلا الشَّافِعِيَّ وَلا الأَوزَاعِيَّ وَلا الثَّورِيَّ، وَخُذْ مِن حَيثُ أَخَذُوا"، وَقَالَ: "مَن رَدَّ حَدِيثَ رَسولِ اللهِ فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا ممَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا ، ويقول: فَلْيَحذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أيها المسلمون، وَكُونُوا رَبَّانِيِّينَ مُتَّبِعِينَ، وَلا تَكُونُوا شَهوَانِيِّينَ مُبتَدِعِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ حَقَّ التقوى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم جل وعلا، فَإِنَّ أَجسَامَكُم على النارِ لا تَقوَى.
ثم اعلَمُوا أَنَّ مَن أَرَادَ الحَقَّ أَصَابَهُ، وَمَن طَلَبَ الصَّوَابَ وَجَدَهُ، وَمَن لَجَأَ إلى اللهِ وَفَّقَهُ اللهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرضَاهُ، قال سبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى ، وقال جل وعلا: ومن يَعتَصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ.
وَأَمَّا مَن تَحَايَلَ على شَرعِ اللهِ وَطَلَبَ الحِيَلَ لِتَميِيعِ الأَحكَامِ وَجَادَلَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَأَلزَمَ نَفسَهُ المُحَاجَّةَ وَالمُمَاحَلَةَ في البَاطِلِ كَحَالِ أَولَئِكَ الصَّحفِيِّينَ الحَمقَى فَمَا أَقرَبَهُ مِن غَضَبِ اللهِ وَمَا أَشقَاهُ بِعَذَابِهِ، وَمَا أَضَلَّ سَعيَهُ وَأَبطَلَ حُجَّتَهُ، فَقَد قَالَ سُبحانَهُ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ في اللهِ مِن بَعدِ مَا استُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُم دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِم وَعَلَيهِم غَضَبٌ وَلَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ ، قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ في تَفسِيرِهِ: "يَقُولُ تعالى مُتَوَعِّدًا الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ بِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ في اللهِ مِن بَعدِ مَا استُجِيبَ لَهُ أَيْ: يُجَادِلُونَ المُؤمِنِينَ المُستَجِيبِينَ للهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُم عَمَّا سَلَكُوهُ مِن طَرِيقِ الهُدى، حُجَّتُهُم دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِم أَيْ: بَاطِلَةٌ عِندَ اللهِ، وَعَلَيهِم غَضَبٌ أَيْ: مِنهُ، وَلهم عَذَابٌ شَدِيدٌ أَيْ: يَومَ القِيَامَةِ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنه ومُجَاهِدٌ رحمه اللهُ: جَادَلُوا المُؤمِنِينَ بَعدَمَا استَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ لِيَصُدُّوهُم عَنِ الهُدى، وَطَمِعُوا أَن تَعودَ الجَاهِلِيَّةُ". وَقَالَ سُبحانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم إِنْ في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ فَاستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ، قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: " إنَّ الذينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم أَيْ: يَدفَعُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَيَرُدُّونَ الحجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الفَاسِدَةِ بِلا بُرهَانٍ وَلا حُجَّةٍ مِنَ اللهِ، إِنْ في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ أَيْ: مَا في صُدُورِهِم إِلاَّ كِبرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ وَاحتِقَارٌ لِمَن جَاءَهُم بِهِ، وَلَيسَ مَا يَرُومُونَهُ مِن إِخمَادِ الحَقِّ وَإِعَلاءِ البَاطِلِ بِحَاصِلٍ لهم، بَلِ الحَقُّ هُوَ المَرفُوعُ، وَقَولُهُم وَقُصدُهُم هُوَ المَوضُوعُ، فَاستَعِذْ بِاللهِ أَيْ: مِن حَالِ مِثلِ هَؤُلاءِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ".
(1/4808)
إضاعة الوقت في رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, الإعلام
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
8/9/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة تضييع رمضان في مشاهدة المسلسلات وغيرها. 2- مفاسد التلفزيون على روحانيات رمضان. 3- التحذير من المسابقات الرمضانية المتعاملة بالميسر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: مظاهر غير محمودة تقع خاصة في رمضان، وفيها من التفريط وتفويتِ نيل الأجر الشيء الكثير، بل إنها تعرّض صاحبها لاقتراف الذنوب وتحمّل الأوزار، ذلكم ما يشاهد في شاشات التلفزيون من المسلسلات؛ وخاصة الشعبية منها، والتي يؤجّل عرضها ـ للأسف ـ حتى تثبت رؤية هلال رمضان، وكأنّ رمضان عندهم شهر الهزل وتضييع الأوقات والضحك والسهر.
إن المسلسلات من هذا النوع لتفعل في نفوس مشاهديها ما تعجز عنه أمضى خطط المكر والتمييع؛ إذ إن هدف الأعداء تفريغ رمضان من معانيه الإيمانية والنفسية والصحية، فإذا تم لهم ذلك بأي وسيلة فهو المطلوب. ناهيك عما يعرض من المباريات الرياضية والأغاني التي يسمونها الأغاني الرمضانية.
ولعل هذا من أقوى الأسباب وأبلغها في جفاف الروحانيات التي يشكو منه الكثير، ويتبرم ويتضايق من أن نفسه لا تقبل على العبادة، ولا تتأثر بالمواعظ وخاصة القرآن، ربما دخل الشهر الكريم وخرج وعينه لم تدمع خشية لله أو خوفًا منه، بل ترقب وبكل شوق متى ينتهي شهر رمضان.
أيها المسلم، إذا كنت جادًا في إصلاح نفسك واغتنام فرصةِ عمرك والتزود للآخرة فأقلع عما يصرفك على الطاعات، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ، واحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وستجد انشراح صدرك وإقبال نفسك على فعل الخير والتوجه إليه والفرح بالظفر به والانتفاع.
ومسألة أخرى ـ معاشر الصائمين ـ تتعلق بإهدار الوقت في رمضان، ألا وهي الرّكض وراء المسابقات الرمضانية التي يُتعمَّد هي الأخرى نشرها في رمضان، سواء ما كان منها في الجرائد أو الإذاعات المحلية والخارجية، ومنها ما يشاهد في محطات التلفزة، وهي مع ما تضيّعه من الأوقات المتمثّل فيما يجري من المكالمات التلفزيونية بين الشباب بعضهم مع بعض بحثًا عن حلّ السؤال الفلاني أو التأكد من الجواب، وما يتم بين الفتيات ربما يفوق مثيله عند الشبان. إن ذلكم مع ما يضيعه من الوقت فإن بعضًا من المسابقات يدخل في تعاملاتها الميسر, والميسر ـ كما هو معلوم ـ محرم شرعًا، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90، 91]، وهو كلّ معاملة يدخل فيها المتعامل مع الجهالة لا يدري هل يغنم أو يغرم، ومعاملةٌ هذا شأنها تُعوِّد متعاطيها على البطالة والكسل وهجر الأعمال المشروعة.
يطرح في المسابقات الرمضانية وغيرها بطاقاتٌ تباع بأثمان مختلفة، لا يحق لأحد الدخول في المسابقة حتى يشتري هذه البطاقة، فحاله الآن إذًا غارم، فإذا أدخل بطاقته كرخصة دخول فيحتمل أن يكون جوابه صحيحًا فيغنم، كما يحتمل أيضًا خطؤه فيغرم. هذا من جانب، ومن جانب آخر فالبطاقات التي يبيعها منظمو المسابقة كثيرة، بينما الفائزون عددهم محدود. فمن هذا الباب دخلت في حكم الميسر.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في دينكم، واتقوه في صيامكم، فإنه ما شرع إلا من أجل بناء التقوى وعمارتها في القلوب، قال الله جل شأنه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فهل يجد المنشغلون والمتابعون للمسلسلات والمباريات والمسابقات، هل يجدون بعدها تقوى أو ضدها؟!
اللهم حبب إلينا الإيمان...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4809)
هزل الإعلام في رمضان
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
12/9/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ماذا أعد الإعلام للصائمين؟ 2- الإشادة بالترجمة الفورية لصلاة التراويح من الحرمين الشريفين. 3- استنكار ما يذاع من المسلسلات الهابطة. 4- التحذير من مغبة السكوت عن المنكر. 5- جريمة السخرية بالدين وحملته. 6- سبيل الإنكار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: مضى في الخطبة الأولى الكيفية التي عبأ بها المظفر قطز حاكم مصر، عبأ فيها الناس استعدادًا للقتال، وكان ذلك بعد سقوط بغداد بأيدي التتر بسنتين. فيا ترى، وحال المسلمين اليوم من التمزق والهزيمة والذل ما لا مزيد عليه مما تعلمون، فماذا أعد الإعلام للصائمين؟! وبماذا يعبئهم؟! هل هو تحبيبهم للجهاد وذك ر فضائله وإثارة النخوة الإسلامية تجاه إخوانهم الذين يقتلون ويشردون وتنت هك حرماتهم، أم أن الإعلام اكتفى بترغيب الناس في الصدقة والبذل والتزود من الطاعات والحرص على قراءة القرآن وصلاة التراويح؟!
تقوم الأجهزة الإعلامية مشكورة بنقل وقائع صلاة التراويح من المسجد الحرام ومسجد الرسول ، وقامت وزارة الشؤون الإسلامية بعمل غير مسبوق هذا العام 1424هـ، تمثل بترجمة فورية مكتوبة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية أثناء صلاة التراويح، مما كان له أثر بالغ على نفوس المشاهدين حتى غير المسلمين، وذلك على مستوى العالم كله، كل هذا تم عن طريق التلفزيون السعودي مشكورًا، لكن جانبًا مهمًا في الإعلام ركز جهوده لإشغال الناس عن طاعة الله وصرفهم عنها، من خلال المسلسلات الهزيلة التي لو كانت مباحة لتعين تأجيلها عن هذا الظرف العصيب الذي يمر به المسلمون الآن، كيف وهو لا يتحرج من عرض مسلسلات مُوَجَّهةٍ وموجِّهة، الغرض فيها أقل ما يقال فيه الهزل والضحك وتضييع الوقت في غير فائدة؟! فما بالك إذا عُرضت بعض المسلسلات متضمنة السخرية من العلماء والمتدينين، وتعرض مواقف مكذوبةً عنهم؛ بحجة معالجة الأخطاء وإخضاع شرائح المجتمع للنقد والتصحيح، وبدعوى الغيرة على فئات المجتمع كافة؟!
لكننا نتساءل: أين غيرة القائمين على هذه البرامج من السلوكيات الشاذة والضارة بالمجتمع، والتي لا يقرها الشرع إطلاقًا؟! لماذا لا تقف عندها نقدًا وتجريحًا وسخرية، أو لأن مَن وراء تلك الأعمال ليسوا محسوبين على المتدينين؟! أين ألسنتهم من حوادث المرور التي يذهب ضحاياها العشرات يوميًا قتلى وجرحى، وبلغت خسائرها المادية واحدًا وعشرين ألف مليون ريال سنويًا حسب الإحصائيات المعلنة؟! وأين هم من معالجة الفشل الدراسي عند الطلاب ومشاكل الخريجين من الجامعات والمعاهد المتخصصة؟! هل يريدون تقسيم المجتمع إلى فئة متدنية وأخرى منفلتة من ضوابط الشرع؟! لماذا لا يُعلِّمون أنفسهم آداب المواطَنة الصالحة التي من أبرزها العمل والسعي على تماسك المجتمع وتعاونه، أم أنهم لا يعالجون ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وليسوا على مستوى المعالجة، ولن ننتظر منهم ذلك؟!
إنما الشيء الذي نؤمله أن توقف تلك الممارسات فإنها فتنة، والله تعالى يقول محذرًا من السكوت عنها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25] أي: لا تصيب الظالمين وحدهم، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر، وتراخى في تغييره، ولم ينه عن الظلم وإن كان لم يظلم.
إن اتقاء هذه الفتنة يكون بالنهي عن المنكر وقمع أهل الفساد والشر والعابثين بقيم المسلمين، وأن لا يمكنوا من التمادي في المعاصي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية وَاتَّقُوا فِتْنَةً في أصحاب رسول الله ، وقال السدي: نزلت في أهل بدر خاصة، وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن لاَّ يُقِرُّوا المنكر فيما بينهم، فيعمهم الله بالعذاب. وقد تأولها الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، تأولها يوم موقعة الجمل سنة ست وثلاثين للهجرة، فقال: ما علمت أنَّا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأولها الحسن البصري والسدي وغيرهما.
عباد الله، إن منْكرَ السخرية بالدين أو بمن يحملونه منكٌر عظيم، نزل القرآن ببيانه، ولا تلتفت ـ أيها المسلم ـ لمن يقول: إن الفن للمتعة فقط، في حين أن وظيفة الخطبة مثلاً هي الفائدة، كما لا تلتفت لمن يقول: هناك فرق بين نقد الدين ونقد الذين يقومون ببعض وظائفه؛ كالأئمة والمؤذنين والدعاة والوعاظ والعلماء، لا تلتفت إليهم لأنّ المؤدى والنتيجة والثمرةَ واحدة، هي إظهار كل من يتديّن بأن سلوكه هكذا: شديد وعنيف وغير متفهم ولا يعرف اللباقة وحسن المخاطبة ومعالجة المشاكل. وإلا لماذا يُظهرون أحدَ رجال المرور بلحيته يتعامل بحدّة وقسوة مع السائقين المخالفين، بينما يُظهرون آخر بدون لحية ويتعامل مع السائقين المخالفين تعاملاً حضاريًا كما يقال، والأمثلة في هذا كثيرة، ليس الآن مجال ذكرها.
معاشر المسلمين، لقد نزل القرآن الكريم فاضحًا هذا المسلك في نبز المتدينين، فقال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:64-66]. قال الإمام الطبري وغيره عن قتادة: بينما النبي يسير في غزوة تبوك وركْبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به، فقال: ((احبسوا عليّ الركب)) ، ثم أتاهم فقال: ((قلتم كذا وكذا؟)) فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون: كنا غير مجدين. وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقًا بحَقَب ناقةِ رسول الله يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي يقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "لا يخلونّ أن يكون ما قالوه من ذلك جدًا أو هزلاً، وهو كيفما كان كفرٌ".
دين الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ شأنه عظيم، لم ينزل به الروح الأمين جبريل على محمد ليكون مجالاً للسخرية والاستهزاء، وقد سمعتم في الآيات السابقة وكلام أهل العلم عليها أن السخرية والضحك الذي صدر من أولئك الركب لم ينصبَّ على الدين مباشرة، وإنما كان موجهًا على من يحملونه، ومع ذلك أنذِرَ الساخرون بالعذاب الذي إن تخلّف عن بعضهم لمسارعتهم إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح فإنه لن يُصرف عن بعضهم الذي ظلّ على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله وبعقيدته ودينه.
وقد يقول قائل: كيف أنكر؟ وهل مثلي يمكنه ذلك؟! والجواب: نعم، تنكر أولاً بمعرفتك حكمَ ذلك شرعًا، واستشعارِه في قلبك، وكرهِك لأولئك الساخرين، وتحذيرِ الناس من شرهم ومغبة السكوت عنهم، كما تنكر ـ إذا استطعت ـ بالكتابة إلى الصحف أو بعضها بنقد تلك المسلسلات، وأنها لا تعبّر عن وجهة نظر المسلمين في هذه البلاد وغيرها، والمناداة بوجوب إيقافها ومعاقبة المستهزئين، ولا تتقالَّ ـ أيها المسلم ـ أي عملٍ تقوم به أو يقوم به غيرك في هذا الصدد.
إن محاولاتِ أولئك واهمة للنيل من قيم هذا المجتمع، وهي وإن نجحت ظاهريًا في تحقيق بعض أهداف القائمين على المسلسلات المضِلة لكنها تُدمغ إن شاء الله بقذائف الحق المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]، يدمغه فيصيبه في الدماغ، فلا تراه بعدها إلا محطمًا وخائبًا وخاسرًا، كما يقول أهل العلم.
ولكن الأسف على أقوام حظهم من رمضان إضلال الناس والسعي في تمييع قيمهم ومثلهم ودينهم، وفي الوقت الذي نجد فيه أقوامًا يسارعون في الخيرات رغبًا ورهبًا نرى أولئك يزيدون من رصيد الذنوب والمعاصي، فعياذًا بالله من الحرمان ودرك الشقاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4810)
استقبال شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
28/8/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دنوّ رمضان. 2- نداء للعاق وقاطع الرحم. 3- نداء لآكل الربا. 4- نداء لأصحاب المسكرات والمخدرات. 5- التحذير من الغناء والموسيقى. 6- خطورة مرحلة الشباب. 7- التحذير من فتن القنوات الفضائية. 8- فضل الشاب الصالح. 9- تحذير غير المستحقين من السؤال. 10- حث المرأة على اغتنام رمضان. 11- الحث على الدعاء للمجاهدين في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فرمضان على الأبواب، وسيحل ضيفًا بعد يوم أو يومين، وشأن الضيف أن يرتحل، فماذا أعددت لضيفك؟ حري بالمسلم أن يجعل من رمضان بداية توبة جادَّة، ونقطةَ انطلاقٍ إلى الله عازمة، قدِّر نعمة الله عليك أيها المسلم، واسأله أن يبلغك رمضان، وخذ أمورَك بالجد، فكم من النفوس صامت العام المنصرم ولن تصوم هذا العام، وما تدري من أي الفريقين تكونُ أنت.
كم صحيح رأيت من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
أيها المذنب، أيها العاق لوالديه والقاطع رحمه، رمضان يدعوك ويهتف بك أن تعال نظف نفسك، طهر نفسك، رمِّم ما تهدّم في بناء قلبك، انفض غبار الشقاقِ واتباع الهوى والانسياق وراء وساوس الشيطان وتوهيماته، واحرص على ما ينفعك، فعمّا قليل سترتحل، وإلى الآخرة تنتقل، ويقفل ملفك في هذه الدنيا، دع عنك إغراءاتِ الأصدقاءِ ورفاقِ الهزل والضحك، ولا تلتفت لمكائد زوجتك إن كانت سببًا في عقوق والديك ومقاطعتهم، فإنّ كل زهرة ستذبل، وشبابك وشبابها زهرة وسيذبل، ويتقدم بك العمر إن عمرت وتعجز، وتحتاج إلى خدمة الأولاد وحنوِّهم، فإذا فتشت صفحاتِ ماضيك وعلاقتك مع والديك وجدتها لا تسر. عجبًا لك أيها العاق! أي قلبٍ تحمل في جوفك وقد تركت والديك أو أحدهما يذرف الدمعَ كمدًا ويكظم الغم قهرًا؟! ألا تخاف من دعوة مستجابة من والدٍ وفي رمضان؟! ألا تخشى أن تبلى بمن يؤرق ليلك غدًا وينغص نهارك ممن كنت تؤمِّل برَّهم؟!
رمضان يدعوك يا آكل الربا، إلى متى تظل تبارز ربك وتعلن الحرب عليه؟! ألست تعلم أنك ضعيف وخصمك قوي ويملك جنود السماوات والأرض؟! رمضان يذكرك بحلم الله عليك وإمهاله لك؛ لعلك تتوب وتكتفي بالحلال، رمضان يفتح أمامك أبواب الرزق الحلال، ويحذرك في الوقت نفسه من مغبة التمادي في تغذية جسمك على الحرام. ألم تسمع قول النبي في الرجل الذي يمد يديه إلى السماء داعيًا ومتضرعًا: يا رب، يا رب، لكن مطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، قال المصطفى : ((فأنى يستجاب لذلك)).
يا من تتعاطى المخدرات أو تشرب المسكرات، اتق الله في نفسك، كفى أذية لنفسك، ماذا جلبتْ لك تلك المحرمات؟! همّ وخوف، وفقرٌ وذلة، وقلق وفشل، وقسوة قلب، وتهرب عن كل فضيلة، وتهافت على كل رذيلة.
يا من تتعاطى المخدرات، أترضى أن تكون أختك أو بنتك أو زوجتك فريسة لوحوش البشر؟! هل يسرك أن إحدى محارمك يعبث بها شرار الخلق مقابل أن تحصل على شيء من المخدرات؟! فإن الواقع يثبت ذلك، ولا تظنَّ أنك في مأمن من هذا. وقد حكى أحد الشباب التائبين منها أنه كان يوافق مرغمًا على أن تفعل به الفاحشة مقابل الحصول على مخدّر. إنك بإصرارك على تناول المخدرات تسوق محارمك إلى تلك المستنقعات الموبوءة من الجريمة، غِرْ على محارمك، واحرص على ما ينفعك، فوالله عمّا قليل ستندم، وحينها ربما يكون الثمن غاليًا.
واعلم ـ أيها المسلم رعاك الله وحفظك وهداك ـ أن الموسيقى والغناء مفتاحٌ يلج به المرء عوالم المخدرات والمسكرات والفواحش، كثير من نجوم الموسيقى والغناء يتعاطون المخدرات علنًا، سواءً على المسرح أو خارجه، وكثير من الأغاني مطعمٌ بلغة المخدرات، فاحذروا.
أيها الشاب، إن مرحلة الشباب والفتوة لا تستغرق العمر كلّه، إنها مرحلة من مراحل عمرك، سرعان ما تطوى وتنتهي كما طوي ما قلبها، لكن أثرها على سلوك صاحبها أبلغ من أي مرحلة أخرى، فكن حذرًا أن تصير من ضحاياها، فكم غرت من فتى، وأوقعته في براثن الرذائل، ثم ولَّت هاربة عنه، وقد أسلمته لمرحلة الكهولة الممهدة للشيخوخة والعجز. يظن الشاب أنه هكذا سيظل دائمًا في نشاط وفتوة دون رقيب ولا مسؤولية، فما هي إلا مدة وجيزة ويفيق من سكرته، فيجد نفسه قد ضيع دينه ودنياه، وأهمل الاستعداد لمستقبل أيامه وآخرته؛ ضعفٌ في الدراسة وصدود عنها، وتهرُّب من كل عمل جاد، وشعور بالفشل يلاحقه.
أيها الشاب الفاضل، إن ضحايا الترصد للقنوات الفضائية ومتابعة غثها مما تعرضه في شاشاتها يكلفك كثيرًا، فاحرص على ما ينفعك، والسعيد من وعظ بغيره. لا يكن حظك من رمضان السهر في الاستراحات ومتابعة المسلسلات والنظر إلى المحرمات. وتذكر، كم من الشباب صاموا العام الماضي والآن هم في القبور.
حذارِ ـ أيها الشاب ـ أن تظن أن مرحلة الشباب لا يُستمتع بها إلا أن تمضي سفهًا وعبثًا أو اقترافًا للحرام، إنها أغلى وأشرف من ذلك وأقدس، وفي المسند للإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول : ((إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليس له صبورة)). والصبوة: الهوى والميل عن طريق الحق. وفي الحديث المتفق عليه عَدَّ رسول الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: شابًا نشأ في طاعة الله، وما ذاك إلا لتغلبه على هواه وانتصاره على نفسه وقهرِه للشيطان ودحرِه وترقبه لما عند الله. فرحة النصر على أعدائه من الشيطان وهوى النفس وقرناء السوء أبدلت طموحاته الأرضيةَ الوضيعةَ شوقًا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
أيها المفرط والمتساهل والمتهاون، أيها المذنب، لا تظن أن الأمر سهل وهين، إن الأمر جِدٌ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13، 14].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، سبقت رحمته غضبه، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يحب أنين النادمين، ويسمع دعاء المتضرعين، ويقبل توبة التائبين، ويعجب من الشباب الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ الحقُ المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، عبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، وسلم كثيرًا.
أما بعد: معاشر المسلمين، فإن من الناس من يفرح بقدوم شهر رمضان ليستغله في التسول وفتح جيبه ليضع الناس فيه زكواتهم، وهو ليس من أهل الزكاة، ولم يشرع له السؤال. ونسي أو تناسى أو جهل حديث الرسول : ((ما فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)). فاحذر ـ أيها المسلم ـ أن تفتح على نفسك باب الفقر فتشقى، ويشقى معك من تعول، ولن تغتني ولو صبَّت زكوات المسلمين كلها في جيبك؛ لأن الله فتح عليك باب الفقر حين فتحت على نفسك باب سؤال الناس. مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].
أما من كان محتاجًا وذا عيالٍ ودخله لا يغطي ضرورياته فالزكاة لم تشرع إلا لمثله والحمد لله، لكن كن حذرًا ـ أيها المسلم ـ أن تظن أن مظاهر الترف والكماليات والتوسع في متع الدنيا، حذار أن تظن أن تلك ضرورياتٌ، فهذه حتى لو لم تجدها ولا تستطيع تأمينها فلا يحل لك أخذ الزكاة.
أيها المسلمون، المرأة يجب أن يكون لها من رمضان نصيب، ليس من اللائق أن يضيع نهارها تفننًا في إعداد المآكل والمشارب، ويضيع ليلها تجوالاً في الأسواق بحجة شراءِ ملابسِ الشتاء أو العيد، لم لا يكون الاستعداد للعيد والشتاء قبل دخول رمضان؛ حتى تتفرغ المرأة أكثر للتزود منه لآخرتها؟!
عباد الله، لا تغفلوا عن الدعاء لإخوانكم المجاهدين في سبيل الله؛ فإن الجهاد ذروة سنام هذا الدين، ونرجو أن يكون المجاهدون قد قاموا به، وقاموا بفرض الكفاية ليسقط عن العاجزين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. إن المجاهدين كما أنهم يدافعون عن دينهم وحقوقهم وأعراضهم وديارهم فهم خط المواجهة أمام الأعداء، ولولا ما يبثه الجهاد من إثارة الرعب في قلوب الأعداء المتربصين لما أمهلونا ساعة، فالأعداء لم يتركونا حبًا لنا وشفقة علينا بل خوفًا من ثروتنا الحقيقية ومجدنا التليد، خوفًا من الجهاد أن يتفجر في مواقع أخرى، وقد جربوا وذاقوا نكايته بهم.
فاللهم أقم علم الجهاد، وانصر المجاهدين في سبيلك، وثبت أقدامهم، وسدد سهامهم وآراءهم، وانصرهم على القوم الكافرين...
(1/4811)
التحذير من البدع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
15/8/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نور الرسالة المحمدية. 2- ظهور البدع في الأمة. 3- أسباب الابتداع. 4- نصوص من الكتاب والسنة في التحذير من البدع. 5- حث أئمة السلف على الاتباع وذمهم الابتداع. 6- فضل اتباع السنة. 7- من مسالك أهل البدع. 8- مفاسد البدع. 9- التحذير من التقليد والتعصب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعَالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلَّكم تُرحمون، وتزوَّدوا من الصالحاتِ لعلّكم تفلحون، وبادروا بأعمالِكم أعمارَكم، فإنَّ في تصرُّم الأيام لَعِبَرًا، وفي سرعة طَيِّ السنين مُدَّكرا، فرَحِم الله عبدًا آمَن بالله واستَقام، ولم تُلهِهِ الدنيا عن الآخرة.
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعَالى بعَث رسولَه محمّدًا على حينِ فَترةٍ من الرسل حين استَحكمَت الضلالة واشتدَّت الظلمة، وتاه الخلق في جاهليّةٍ جهلاء وسُبُل عمياء، لا تعرِف من الحق رسمًا ولا نصيبا ولا قَسمًا، فكانت رسالة النبيِّ ووظيفتُه هي إخراجُ الناس من داعيةِ أهوائهم وتقليدِ آبائهم إلى اتِّباعِه واتّباع سنته.
وحين قام النبيُّ في الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا فسرعانَ ما عارض الأشقياء معروفَه بالنُّكر وقابلوا دعوتَه بالكفر، لكنّ الله تعالى أعلى كلمتَه وأظهر دينه، فقام رسول الله بما أوجَبَ ربّه، وهدى الله به إلى الحقّ، وأنقَذ به كثيرًا من الخلق، ولم يمتِ النبي حتى بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمّةَ وأكمل الدّينَ وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، وخاف على النّاس أن يعودوا لداعيَةِ أهوائهم ويتركوا اتِّباعَه، أو يقلِّدوا غيرَهم ويترُكُوا سنّتَه؛ لذا فقد أنذر وحذَّر وأخبر بظهور الفِتَن واندِراسِ السنَن وفشوِّ البدع، وحذَّر من أهل الأهواءِ الذين تشعَّبوا وتفرَّقوا بعد عصرِ النبوة.
ولم تَمضِ السّنون حتى ظهَرَ العقلانيّون وعلى رَأسِهم المعتَزِلَة، وغَلتِ المتصوِّفة، وخرَجتِ الخوارجُ، ونبَتَتِ المرجئة، وتشعَّبتِ الفرق، وتنكَّب بعضُ الخلق طريقَ السنة، وتاهوا في ضلالات الطّرُق، وهذا كلّه راجعٌ إلى ترك السنّة والجهل وتغليب الهوى وتحكيمِ العقل وتقليد الآباءِ وردِّ الحق لأجلِ الأشياخ والمتبوعين، وهذه رباعيّةُ البدع وعِدائيّة السّنن: الهوى وتحكيم العقل والتقليد والجهل.
لذا توافَرَتِ الأدلة من الكتاب والسنة وأقوالِ الصحابةِ والتابعين والأئمّة المهديِّين وتضافرت على الحثِّ على لزوم السنّة واتّباع هدي النبي واجتناب البدَع والمحدثات، وقد حفل القرآن العظيم بآياتِ الاتِّباع والطاعة وأنَّ اتِّباع النبيِّ هو علامة المحبّة الحقّة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]. ولَيسَ بعد النبيِّ إلاّ اتباعُ الهوى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ [القصص:50]. وأهلُ الأهواء همُ المعرِضون عن السنَن، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]. وهكذا هُم أهلُ البدع؛ ضيقٌ وضنك وحَرج، فلا انشراحَ في الصّدر ولا طُمأنينة؛ لأنَّ الهُدى لا يكون إلاّ في الاتِّباع، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
بل إنَّ الاتّباعَ ولزوم السنة هو مقتضَى شهادة أن محمدًا رسول الله، وهو طاعتُه فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتنابُ ما نهى عنه وزجَر وأن لا يُعبدَ الله إلاّ بما شرَع، فلا يجوز أن نتقرّبَ إلى الله بدينٍ أو عبادة لم يشرعها رسولُ الله ، وإلاّ كانت مردودةً موضوعَة، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فلا يجوز اتِّباعُ الأقوال المخالفةِ للسّنة مهما كان قائِلها، وكلٌّ يؤخَذ من قوله ويردّ إلا رسول الله ، كما قال الإمام مالك رحمه الله. وقد قَالَ الإمام الشافعيّ رحمه الله: "أجمَع العلماءُ على أنَّ من استبانت له سنّة رَسول الله لم يَكن له أَن يدَعَها لقولِ أحد"، وقال الإمامُ أحمد رحمه الله: "عَجِبتُ لقوم عرَفوا الإسنادَ وصحّتَه يَذهبون إلى رأيِ سفيانَ والله تعالى يَقولُ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أتَدرِي مَا الفَتنَة؟ الفتنةُ الشّرك، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزيغ فيهلك".
أيّها المسلمون، وكما أنّ الإسلامَ هو الاستسلام لله والانقيادُ له بالطاعة فإنَّ الدليل إذا قامَ والخبر إذا صحَّ عن المعصوم وجَب التسليم به والإذعانُ له، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]. ولقَد كانَ النبيّ يقولُ في خطبَتِه: ((إنَّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وكلَّ محدثة بِدعة، وكلّ بدعة ضلالة)) ، وفي الصحيح من حديث العرباض بن ساريةَ رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعة ضلالة)).
عبادَ الله، السنةُ كلُّها خير، ولزومها هو الفلاحُ والنجاح. السنّة هي الاتباع وترك الابتاع. السنة هي الوقوف على حدودِ الشريعة، فلا يقصِّر فيها ولا يتعدّاها، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. وفي مسندِ الإمام أحمد بسنَد صحيح أنّ النبيّ قال: ((لكنّي أنام وأصلّي وأصوم وأفطر، فمن اقتدى بي فهو مِنّي، ومن رغب عن سنتي فليس مني)).
صاحبُ السنة مجاب الدعوة، ساق ابن أبي عاصم في السنة بسنده الصحيح أن النبيَّ قال: ((إنّ الله تعالى يستحي من ذي الشيبةِ لَزوما للسنة أن يسأله شيئًا فلا يعطيه)). صاحبُ السنّة على خيرٍ وهدى ونورٍ وسلامة حتى لو كسَل أو فتَر، روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيحٍ أن النبيّ قال: ((لكلِّ عملٍ شِرة، ولكل شِرّة فَترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلَك)). وخرّج ابن المبارك وغيره عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (عليكم بالسّبيل والسنة؛ فإنّه ما على الأرضِ مِن عبدٍ على السبيل والسنة ذكر الله ففاضَت عيناه من خشية الله فيعذِّبه الله، وما من عبدٍ على السبيل والسنة ذكَر الله في نفسه فاقشعرَّ جِلده من خشية الله إلا حطَّ الله عنه خطاياه كما تحطّ الشجرة ورقَها اليابِس إذا أصابته الريح الشديدة، فإنّ اقتصادًا في سبيل وسنةٍ خير منِ اجتهاد في خلاف السنّة). وقال الجوزجاني رحمه الله: "مِن علامات سعادةِ العبد تيسيرُ الطاعة عليه وموافقةُ السنة في أفعاله وأقوالِه وصحبتُه لأهلِ الصّلاح وحُسنُ أخلاقه مع الإخوانِ وبَذل معروفِه للخلق واهتمامُه للمسلمين ومراعاتُه لأوقاته"، وقال الكِرماني رحمه الله: "من غض بصرَه عن المحارم وأمسك نفسَه عن الشبهات وعمَر باطنه بدوام المراقبة وظاهرَه باتِّباع السّنَّة وعَوَّد نَفسَه أَكلَ الحلالِ لم تخطِئ لَه فِراسةٌ".
أيّها المسلمون، هذه بعضُ محاسن اتِّباع السنن، وفي كلام العلماء: "من أمَّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسِه نطَق بالبِدعة". أمّا خلاف السنة فهو التفرُّق في الدين والضلال المبين، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]؛ ذلك أنَّ تجاوزَ المأمور لهو الطغيانُ بنصّ القرآن: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا [هود:112]. وإنَّ التعبُّدَ بمجرَّدِ ما يَستحسِنه الإنسانُ ويميل إليه من غَير دليلٍ ولا هُدى لهو عينُ اتِّباع الهوى، أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، وهو على خطَر أن يكونَ مشمولاً بمن قال الله فيهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].
وإنَّ النبي سمى البدَع ضلالة لأنَّ المبتدع يضلّ في الهوى، فيأخذ الأدلةَ المتشابهة مأخَذ الهوى والتشهي، لا مأخذَ الانقياد لأحكامِ الله، فيجعل الهوى والاستحسانَ أوّلَ مطالبه، ويأخذ الأدلّةَ بالتّبَع، فينزّل الأدلة على ما وافق عقلَه وهواه؛ لذا قال الله عز وجل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]. وحذّر سبحانه من طريق أهلِ الضلال في الاستدلالِ كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]. وقد استعَاذَ النبيّ مِن مُنكَراتِ الأخلاق والأهواءِ والأدواءِ.
عبادَ الله، إنّه لا رأيَ لأحدٍ مع سنّة رسولِ الله ، وفي الصحيحِ أنّه قال: ((من عمِل عملا ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)) ، وفي رواية: ((من أحدَث في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ)) ، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: (من أحدَث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمضِ به سنة من رسول الله لم يَدرِ ما هو عليه إذا لقي الله عزّ وجل)، وقال الشاطبيّ رحمه الله: "إنّ المبتدعَ يُلقى عليه الذل في الدنيا والغَضَبُ لقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، فهو عامٌّ فيهم وفيمَن أشبَهَهم؛ لأنّ البدع كلَّها افتراء على الله"، ونقل ابن الماجشون عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: "مَن ابتَدَعَ في الإسلامِ بِدعةً يراهَا حسنةً فقد زَعَم أنَّ محمَّدًا خَانَ الرّسالةَ؛ لأنَّ الله تعَالى يَقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فمَا لم يَكُن يومئذٍ دينًا فلاَ يكون اليَومَ دينًا". وقد أخبر النبيّ كما في صحيحِ مسلم أنّ المبدِّلين والمغيِّرين يُذادون عن حوضه ويُطردون.
وإنَّ البدع لتقضي على الدين الصحيح، وقد قال النبي : ((ما ابتَدَع قوم بدعةً إلا نزَع الله عَنهم من السنةِ مثلَها)) رواه أحمد وروي موقوفا. وهذا معلومٌ مشاهد؛ فإنّك ترى حرصَ بعض الخلق على البدع والمحدثات وتَركَهم للسنن الثابتاتِ بل للواجِبات المتحَتِّمات، كما ترَى نشاط الإذاعات والفضائيّات على نقل هذه البدع والترويجِ لها مع ما هم عليه من مخالفاتٍ، وينقُلون لطقوسها صوَرًا حيّة يغترّ بها العوام ويظنّها الناس من الدين، سيّما إذا شارك فيها المحسوبون على العلم والعلماء، فليتقّ الله من كان موضعَ اقتداءٍ أن لا يكون فتنةً للمؤمنين.
ألا فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أن فيما ثبت عن النبي غُنيةٌ للمسلم وخير كثير، فلا تلتفتوا لما سوى ذلك من الشّذوذات والمبتدعات وما لم يثبت من المرويات، وحسبُكم ما كان عليه نبيّكم وما كان عليه سلف الأمة.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسول، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فإنَّ مما يزِلّ بالناس في شَرَك البدع والأهواء تقليدَ الآباء والكبراء أو هَفواتِ العلماء أو التعصّبَ للمتبوعين، وقد أخرج أبو داود وغيرُه بسند صحيح أنّ معاذَ بن جبل رضي الله عنه قال: (إيّاكم وما ابتُدِع؛ فإنَّ ما ابتُدِع ضلالة، وأحذِّركم زَيغةَ الحكيم؛ فإنّ الشيطان يُلقي على الحكيمِ كلمةَ الضلالة، فاجتنبوا من كلام الحكيم كلَّ مُتشابِه، وقد يقول المنَافق كَلِمةَ الحقّ)، قلت: فما يُدريني أنَّ الحكيم يقول كلمةَ الضلالة؟ قال: (اجتنِب من كلام الحكيم المشتَهِرات التي يقال: ما هذه؟ ـ وفي رواية: المشتبهات ـ، ولا يثنِيَنَّك ذلك عنه؛ فإنه لعلّه أن يراجعَ، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعتَه؛ فإنَّ على الحق نورًا) انتهى. وهذا فيمن كان أصلُ حاله السنة، أمّا من انتصب للبدع ولم يعرَف بالسنّن فلا ولا كرامة؛ لأنهم قومٌ يتّبعون المشتبهاتِ لأجل موافقةِ العادات ولو خالفتِ السننَ الواضحات، نعوذ بالله والخذلان.
عن مقاتلٍ بن حيان رحمه الله عنه قال: "أهلُ هذه الأهواء آفة أمّةِ محمّد ؛ إنهم يذكُرون النبيَّ وأهلَ بيته، فيتصيَّدون بهذا الذِّكرِ الحسَن عند الجهّال من النّاس، فيقذِفون بهم في المهالك، فما أشبَهَهم بمن يسقي السم باسم العسل".
وإنَّ من الحجج القديمة التي يزيِّن الشيطان بها سُبُلَه لصدّ الناس عن الحق والسنة تقليدَ الآباء والمتبوعين والتعصبَ لهم وإن خالفوا الهدَى، وهذه سنّة قديمةٌ يحتجّ بها الضُّلاَّل من قديم الدهر، وقد أخبر الله تعالى عن محاجّةِ إبراهيمَ لقومه حين قال لهم: مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:70-74]. فحادوا عن الجوابِ عن السؤال إلى التحجُّج بالتقليد. وفي سورة الزخرف: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:21-24].
ألا فاتَّقوا اللهَ تعالى أيَّها المسلِمون، واتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، واعلَموا أنَّ مخالفةَ السّنَّةِ في الظاهِرِ علامةُ رياءٍ في الباطن.
فاللّهمّ اهدنا فيمن هديتَ، وارزقنا مرافقةَ نبيّك محمّد ، اللهمّ وفِّقنا لاتباع سنّته والتمسّك بشِرعتِه، وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا، واحشُرنا في زُمرته.
ثم صلّوا وسلّموا على الهادي البشير والسّراج المنير.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
(1/4812)
الشمائل المحمدية
سيرة وتاريخ
الشمائل
سلطان بن عبد الرحمن العيد
الرياض
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض من شمائل النبي. 2- بعض من صفاته. 3- بعض من أخلاقه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإنَّ أحسنَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن الله سبحانه وتعالى امتن علينا ببعثة نبيه الكريم محمد ، فقال الله جل وعلا: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]. بعث الله نبيه محمدا على فترة من الرسل، فهدى الله به من شاء إلى صراط المستقيم. وقد أمر الله جل وعلا بطاعته فقال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وأمر ربنا سبحانه وتعالى باتباعه فقال جل جلاله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. وأوصى ربنا بالتأسي بهذا النبي الكريم فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]. وهذه الآية أصل عظيم في التأسي برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله, فلنقف مع صفاته وشمائله.
من شمائله وصفاته عليه الصلاة والسلام التقشف في الطعام، قالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله. وفي رواية عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر من ثلاثة ليال تباعا حتى قبض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاويا هو وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزه خبز الشعير. وذكرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يأتيها فيقول: ((أعندك غداء؟)) فتقول: لا, فيقول: ((إني صائم)).
ومنها التقشف في الفراش, قالت عائشة رضي الله عنها: إنما كان فراش الرسول الذي ينام عليه أدم حشوه ليف.
ومن شمائله وصفاته التواضع, قال رسول الله : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) ، وعن أنس قال: إن امرأة كان في عَقْلِهَا شيء, فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال : ((يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك)) ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها. وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت. وكان رسول الله يدعى إلى خبز شعير والإهالة السنخة ـ أي: الدهن متغير الرائحة من طول المكث ـ فيجيب, وقال: ((لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت)). ولم يكن أحد أحب إلى الصحابة من رسول الله إلا أنهم كانوا إذا رأوه لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك. وقال : ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)). وكان لا يستكبر عن خدمة أهله، بل يكون في مهنة أهله كما قالت عائشة رضي الله عنها.
أما خلقه عليه الصلاة والسلام فقد كان يُقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفه بذلك, وخدمه أنس بن مالك عشر سنين، فما قال له: أف قط، وما قال لشيء صنعه: لم صنعته؟ ولا لشيء تركه: لم تركته؟ ولم يكن رسول الله فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ويقول: ((خياركم أحسنكم أخلاقا)). وقال لعائشة رضي الله عنها: ((إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه)). ونهى عن اللعن وقال: ((لا ينبغي لِصِدِّيق أن يكون لعانًا)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)). ولما قيل له: ادعُ على المشركين قال: ((إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة)). وما خيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما, ولم ينتقم لنفسه شيئًا حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله تعالى, وما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده لا امرأة ولا خادمة إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى, وما سئل رسول الله قط فقال: لا.
أما شجاعته فقد قال أنس : كان رسول الله أشجع الناس, ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْىٍ في عنقه السيف، وهو يقول: ((لم تُرَاعُوا لم تُرَاعُوا)). قال علي : لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله ، وكان من أشد الناس، ولم يكن أحد أقرب من المشركين منه.
أما حياؤه فقد قال أبو سعيد : كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. وقال : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)). وروى ابن عمر: أن النبي مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضر بك، فقال : ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فصنع ما شئت)). ولم يكن يستحي من الحق، فقد روت أم سلمة أن أم سليم جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: ((نعم، إذا رأت الماء)).
ومن شمائله وصفاته التيسير والرفق وهو القائل: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)). قال أبو هريرة : إن أعرابيا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا فيه, فقال لهم رسول الله : ((دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من الماء أو سجلا من الماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)). وقال عليه الصلاة والسلام في الرفق: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) ، وقال أيضا: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)). وقال : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
ومن ذلك الحذر من الغضب، قال جل وعلا في بيان بعض أوصاف المؤمنين: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقال : ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)). ولما قال له رجل: أوصني قال: ((لا تغضب)) ، فرددها مرارًا قال: ((لا تغضب)) ، صلوات ربي وسلامه عليه.
ومنه الحلم والأناة، فقد كان رسول الله يحب هاتين الصفتين, قال لأشج عبد قيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)).
ومن ذلك الوصية بالجار، قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) , قال لأبي ذر: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مَرَقَةً فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ، وفي رواية: ((ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف)) , وقال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) ، وفي رواية: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)).
ومن ذلك رحمته بالأطفال، قال أنس : إن النبي أخذ ولده إبراهيم فقبله وشمه. وبشر بالجنة من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث بفضل رحمته إياهم. وكانت تفيض عيناه لموتهم. وقد سأله مرة سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال رسول الله : ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)). ولما ذرفت عيناه لوفاة ابنه إبراهيم قال له ابن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا ابن عوف، إنها رحمة)) ، ثم أتبعها بأخرى وقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)). وخرج النبي على الصحابة وأمامة بنت ابنته على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع حملها. وقبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس, فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا, فنظر إليه رسول الله ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)). وجاءه أعرابي فقال: تقبِّلون صبيانكم؟! فقال النبي : ((أوَأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)).
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا وسائر بلاد المسلمين.
أقول هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
فمن شمائله وصفاته عليه الصلاة والسلام حنانه وشفقته بالمريض, لما اشتكى سعد بن عبادة عاده فقال: ((قد قضى؟)) ، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى عليه الصلاة والسلام، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا, فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم)).
ومن ذلك رحمته بالنساء والبنات، فقد شبه النساء بالقوارير؛ إشارة إلى ما فيهن من الصفاء والنعومة والرقة, وإشارة إلى ضعفهن وقلة تحملهن، ولذا فإنهن يحتجن إلى الرفق والصبر, قال عليه الصلاة والسلام: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)). وكان يحب فاطمة رضي الله عنها حبًا جمًا, فقد روي أنها كانت تأتيه فيقوم لها ويأخذ بيدها ويقبلها ويجلسها في مكانه الذي كان يجلس فيه. قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4813)
رمضان توبة وإنابة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سلطان بن عبد الرحمن العيد
الرياض
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف يستقبل رمضان؟ 2- فضائل الصوم. 3- فضائل شهر رمضان. 4- حكم الفطر في رمضان من غير عذر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله حكيم عليم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه وهو القوي العزيز, فضل الأيام والليالي والشهور على بعض, فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم بذي العشر عشر ذي الحجة, وجعل صوم عرفة مكفرا للذنوب والخطيئات. وما موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله فيه نفحات يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته, والسعيد من اغتنم الشهور والأيام والساعات، وتعرض لنفحات الله جل وعلا. خرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من عباده)). قال مالك بن دينار: "كان عيسى عليه السلام يقول: إن الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما". وكان عمر بن ذر يقول: "اعملوا ـ رحمكم الله ـ في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، فأحيوا أنفسكم بذكر الله، وإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل".
عباد الله، من عرف الجنة ونعيمها رغب فيها وزهد في الدنيا ومتاعها الزائل.
عباد الله، هلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حسنها, هواؤها النسيم، وماؤها التسنيم, يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين, ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، دعواهم: سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها: سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
يا أمة محمد , يا عباد الله، أبشروا برحمة الله وفضله وجوده وإحسانه، ها هو شهر رمضان قد أقبل, شهر الرحمة والغفران والعتق من النيران, ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: "إذا حضر رمضان فابسطوا فيه بالنفقة، إن النفقة فيه مضاعفة". قال الحافظ ابن رجب غفر الله له: "الصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره, فهو في صيامه صائم صابر, وفي ليله طاعم شاكر". قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
في رمضان تقبل القلوب إلى بارئها جل وعلا, وفي الصيام تذل النفوس لربها وتسهل عليها الطاعات والقربات. كان بعض السلف صائما فوضع فطوره بين يديه، فسمع سائلا يقول: من يقرض المليء الوفي الغني جل جلاله؟ فقال ذاك الصائم: أنا أنا العبد المعدِم من الحسنات، فقام فأخذ الإناء فخرج به إلى السائل وبات وهو جائع. سلام من الله ورحمات على تلك النفوس المؤمنة المخبتة.
الصيام يشفع عند ربه فيقول: يا رب، منعته عن شهواته فشفعني فيه. وهذا لمن حفظ صومه وخاف ربه, وأما من ضيع صومه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فجدير أن يضرب به وجه صاحبه، ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني.
أبشروا معاشر المؤمنين المخبتين، فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت, وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقة، وأقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة. في هذا الشهر يفك الله من أسَرَه إبليس, قال الحسن البصري غفر الله له: "قال إبليس: أهلكت أمة محمد بالمعاصي، فقطعوا ظهري بالاستغفار، فأنيبوا إلى ربكم واستغفروا".
عباد الله، استقبلوا هذا الشهر بالتوبة والندم والانكسار والاستغفار، حاسبوا أنفسكم وتفكروا في حالكم ومآلكم, أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت. كان السلف يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه, ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله يخافون أن يرد، هؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة, قال علي : (كونوا لقبول العمل أشد اهتماما من منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟!)، قال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون بالعمل الصالح, وإذا فعلوه وقع عليهم الهم؛ أيقبل منهم أم لا؟!".
يا أرباب الذنوب العظيمة، التوبة التوبة في هذه الأيام الكريمة, فما من واعظ ولا لها من قيمة، من يعتق فيها من النار فقد فاز فوزًا عظيمًا. ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من نار جهنم بأن يأتي بأسباب توجب العتق من النيران, وهي ميسرة في هذا الشهر ولله الحمد والمنة, ومنها التوبة والاستغفار. قال الحسن البصري: "أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة", وقال لقمان لابنه: "يا بني، عود لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيه سائلا", قال عمر بن عبد العزيز: "قولوا كما قال أبوكم آدم: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].وقولوا كما قال نوح عليه السلام: وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [هود:47]، وقولوا كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16], وقولوا كما قال ذو نون: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]". كان بعض السلف إذا صلى صلاة كان يستغفر من تقصير فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه.
عباد الله، أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة, فمن استغفر بلسانه وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد هذا الشهر المبارك فصومه عليه مردود، وباب التوبة عنه مسدود، إلا أن يشاء ربي شيئا, قال كعب: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه إن فرغ من رمضان أنه لا يعود إلى العصيان دخل الجنة بغير مسألة".
عباد الله، لا تتعلق قلوبكم بشيء من المعاصي، واعلموا أن من ترك شيئًا لله عوضه خير منه، إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70]. فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعة الله، وا حسرتاه على تفريط في جنب الله عز وجل. الله أكبر، يقال لأهل الصيام والقيام يوم القيامة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]. طالما تعبت أبدانهم من الجوع والقيام بين يدي الله جل جلاله، كَفّوا جوارحهم عن معصيته, ورتَّلوا كتابه ترتيلا, واستَعَدوا لما أمامهم، كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. صيام بالنهار وقيام بالليل وتصبر على طاعة الله في أيام قلائل, فإذا هم أمنوا مما كانوا يخافون, وبحور الحسان في خيام اللؤلؤ يتنعمون, كانوا يفرحون بالليل إذا أقبل ليفوزوا بمناجاة الملك العلام، وبالنهار إذا جاء لأن الصيام لله وهو الذي يجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه, ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فيا أيها الغافل المفرط، ربح القوم وخسرت, وساروا إلى الله مسرعين وما سرت, وقاموا بالأوامر وضيعت ما به أمرت, تذكر قول ربنا عز وجل: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:68-71]. إذا اشتد خوف جميع الخلائق يوم القيامة نودوا بهذه الآية، فيرفع الناس رؤوسهم، فيقوم الذين آمنوا وكانوا مسلمين, وينكس الكفار رؤوسهم، ثم يقال للمؤمنين: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون. اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
وعظ كعب عمر بن الخطاب فقال: "والذي نفسي بيده، إن لجهنم يوم القيامة زفرة، ولزفرتها لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر جاثيًا على ركبتيه يقول: نفسي نفسي، لا أملك إلا نفسي".
عباد الله، أبشروا وأملوا خيرا, جدوا واجتهدوا في طاعة الله في هذا الشهر الكريم. واعلموا أن ربنا رؤوف رحيم يقبل توبة المذنبين ويعظم الأجر للمحسنين, يفرح بتوبة عبده إذا أناب إليه, سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة, البشائر في هذا الموسم العظيم كثيرة.
فأبشروا ـ عباد الله ـ بمغفرة الذنوب، إن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. أبشروا بالعتق من النيران، فإن لله عتقاء من النار في رمضان, فنسأله أن يعتق رقابنا من النيران. أبشروا بالأجر العظيم من الرب الكريم, فإن القيام من الصبر والله عز وجل يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. أبشروا فإن الرسول يقول: ((من ختم له بصيام يوم دخل الجنة)). أبشروا بفضل وأجر القيام في رمضان، يقول رسول الله : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)). وأبشروا بليلة خير من ألف شهر, يقول الخليل المصطفى : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)). أبشروا فإن من فطر صائمًا فله مثل أجره، وعمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله. فأملوا خيرًا، واجتهدوا في طاعة الله عز وجل، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، واغتنموا الليل والنهار قبل حلول الأجل ومفارقة دار العمل، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
ومع هذا الفضل العظيم من الكريم المنان فليحذر العبد من أن يكون من المبعدين المطرودين عن رحمة الله. في ذلك الشهر الكريم أناس حل بهم سخط ربنا جل وعلا, ألم تسمعوا قول رسول الله : ((رغم أنف رجل أدرك رمضان ولم يغفر له)). آه أنت في شهر رمضان ما تبت ولا أنبت, ولا ندمت ولا استغفرت، ولا تعرضت لنفحات الله جل وعلا, ذنوبك هي هي، بل قد زادت في شهر العتق من النيران, فأين الحياء والخوف من الله عند ذاك الذي يسمع ما حرمه ربه عليه في شهر رمضان أو يطلق بصره في اللذات المستقذرة أو يلبس ويبيع الحرام في شهر رمضان؟! أقوام لا خافت ولا وجلت قلوبهم، يمني أحدهم نفسه بالعصيان بعد انقضاء رمضان, يصوم أحدهم عما أحل الله من المآكل والمشارب، ثم يقدم على حرمات الله، فأي تناقض هذا؟! والله ما شرع الصيام إلا لحكم عظيمة، منها ما ذكره الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
اعلم ـ أخي ـ أنك ميت وتنتقل من هذه الدنيا الفانية إلى حفرة موحشة، لا ينجيك من أهوالها إلا رحمة الله والعمل الصالح والإقبال على طاعة الله جل وعلا, أترضى أن تكون من أهل جهنم من قال الله فيهم: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]؟! أترضى أن تكون جبارًا عنيدًا مبارزًا لله بالعصيان؟! وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]. إن كنت لا ترضى ـ وهذا الظن بك ـ فلا تمكن الهوى ولا تمكن عدو الله إبليس من نفسك، وحاسب نفسك، وتخيل موقفك بين يدي الله جل وعلا وحيدًا فريدًا عريانًا حافيًا، فتنظر عن يمينك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر بين يديك فإذا جهنم تحطم بعضها بعضا، وفي هذه اللحظات المفزعة طرق سمعك صوت الجبار جل جلاله, وسألك عما قدمت يداك، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26]. فإلى متى الغفلة؟! إلى متى؟! إلى أن يحضر الأجل وعندها تقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]. في هذه اللحظة لا تقبل التوبة، وأنى لك الأوبة؟! أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37].
فيا أمة محمد ، إن باب التوبة مفتوح، من تاب تاب الله عليه وقربه, ومن تبع هواه فلا يلومن إلا نفسه، يقول الله جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
وكان أبو ذر يقول: (أيها الناس، إني لكم ناصح، وإني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا في الدنيا لحشر يوم النشور, وتصدقوا مخافة يوم عسير). وكان الأسود بن يزيد يكثر الصوم حتى ذهبت إحدى عينيه من ذلك, فإذا قيل له: لم تعذب جسدك؟! يقول: إنما أريد راحته. ولما حضر الموت عامر بن عبد قيس جعل يبكي، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء. وحضرت الوفاة أحد الصالحين فجزع جزعًا شديدًا وبكى بكاءً شديدًا, فقيل له في ذلك فقال: ما أبكي إلا على أن يصوم الصائمون لله ولست فيهم, ويصلي المصلون لله ولست فيهم, ويذكره الذاكرون ولست فيهم، فذالك الذي أبكاني. ودعا قوم رجلا إلى طعام فقال: إني صائم، فقالوا: أفطر اليوم وصم غدًا، فقال: من يضمن لي أن أدرك غدًا؟! وكان علي يقول: (ألا إن الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب واللغو الباطل). وقال جابر بن عبد الله: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم, ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك). ولقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله أنه قال: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) ، وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
معاشر المؤمنين، يستحب للصائم الإكثار من العبادات في هذا الشهر الكريم, فإنه موسم فاضل, قال ابن القيم غفر الله له: "وكان من هديه في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات, فكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان, وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة, وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف", صلوات الله عليه وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار.
اللهم نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لقد جاءت النصوص في فضل الصيام وعِظم أجر أهله، فمن ذلك أن الله خصّ الصائمين بابا من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم, ولقد خرج الشيخان في صحيحيهما من حديث سهل عن النبي قال: ((إن في الجنة باب يقال له: الريان، يدخل فيه الصائمون يوم القيامة, لا يدخل منه أحد غيرهم, يقال: أين الصائمون؟ فيقومون فلا يدخله أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) ، وزاد النسائي في آخره: ((ومن دخل فيه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا)).
ومن فضائله أن الصوم جنة من الشهوات، لقول النبي : ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) متفق عليه.
ومنها أن الصوم جنة من النار، لقوله : ((قال ربنا عز وجل: الصيام جنة، يستجن بها العبد من النار، وهو لي وأنا أجزي به)) قال المنذري: "رواه أحمد بإسناد حسن". وقال : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)) خرجاه في الصحيحين.
ومنها أن الصوم سبيل إلى الجنة، لحديث جابر أن رجلاً سأل رسول الله فقال: أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) , فقال الرجل: فوالله، لا أزيد على ذلك شيئًا. خرجه مسلم.
ومنها أن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة، لقول النبي : ((الصيام والقرآن يشفعان عن العبد يوم القيامة, يقول الصيام: أي ربي، منعته الطعام والشهوات في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) خرجه الإمام أحمد.
ومنها أن أجر الصائم بغير حساب، وخلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك، لقوله : ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: أني امرؤٌ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) متفق عليه.
ومنها أن الصوم كفارة للذنوب، لقوله : ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة)) متفق عليه، وفي صحيح مسلم مرفوعًا: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)). فالله الحمد والمنة.
أما شهر رمضان فله فضائل كثيرة ولله الحمد، منها أنه شهر القرآن، فإنه أنزل فيه، كما قال ربنا جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومنها فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران وتصفيد الشياطين، كل ذلك في هذا الشهر المبارك, قال رسول الله : ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء)) ، وفي رواية: ((فتحت أبواب الجنة)) ، وفي أخرى: ((أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) خرجه الإمام مسلم، وعند الترمذي: ((وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)).
ومنها أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر، يقول رسول الله : ((أتاكم شهر رمضان مبارك, فرض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها قد حرم)) خرجه الإمام أحمد في مسنده.
ومنها غفران الذنوب، لقوله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه، وقال : ((رغم أنف رجل ذكرت عنده ولم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له)) خرجه الإمام الترمذي.
ومن فضائله العتق من النيران أجارنا الله منها، لقوله : ((إن لله عند كل فطر عتقاء, وذلك في كل ليلة)) رواه ابن ماجه.
يا أمة محمد ، إن من الذنوب العظام الفطر في رمضان بدون عذر، فإنه من كبائر الذنوب، وصاحبه متوعد بالعذاب الأليم، قال أبو أمامه : سمعت رسول الله يقول: ((بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي ـ أي: عضدي ـ، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا: اصعد، حتى إذا كنت في سواء الجبل فإذا بي بصوت شديد فقلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشقّقة أشداقهم ـ الشدق: جانب الفم ـ تسيل أشداقهم دمًا، قلت: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلّةِ صَومِهم)) رواه النسائي في الكبرى والحاكم وهو في الصحيح المسند للعلامة مقبل الوادعي.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، اللهم بلغنا شهر رمضان وأعنا على صيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/4814)
العام الدراسي الجديد
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
5/8/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس في الإجازة. 2- دعوة للمحاسبة. 3- الشهود يوم القيامة. 4- مسؤولية الآباء وأولياء الأمور. 5- تربية الأبناء على احترام المدرس والمدرسة. 6- مراقبة صحبة الأبناء. 7- فضل تربية الأولاد على الصلاح. 8- رسالة لحاملي رسالة التربية والتعليم. 9- كلمات للطلاب والطالبات. 10- مسؤولية المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فها نحن نعيش الساعات الأخيرة من الإجازة الصيفية، والشوق واللهفة لغد مشرق بإذن الله تعالى، حينما يتوجه في الغد إخواننا وأبناؤنا وآباؤنا للمدارس وقلاع العلم والمعرفة.
وبهذه المناسبة نتوقف ونستريح من موضوع اللباس والزينة في هذا الأسبوع لنقف وقفات حول موضوع الساعات والعودة إلى المدارس.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، مضت أيام الإجازة وانقضت، والأيام إذا انصرفت لا تعود، تمتع في هذه الإجازة من تمتع، وجدّد الناس نشاطهم استعدادًا لعام حافل بالجد بإذن الله.
انقضت الإجازة، استفاد منكم من استفاد، وخسر منكم من خسر، كم من شابّ رأيناه في الإجازة نهل من علوم العلم المختلفة، فذلك يتلو كتاب الله ويحفظه، وآخر قدم على أحاديث السنة يحفظها ويسمع شرحها، وثالث ثنى ركبتيه عند العلماء ينهل من علومهم وفيض أنوارهم، وآخرون التحقوا بدورات تدريبية في العلوم المختلفة، فهنيئًا لمن استفاد من الإجازة راحة وعملا. وهناك من كان في إجازته مبارزًا للواحد الديان بالمعاصي والآثام، فسهرٌ وفسوق وزنا وانحلال ووقت في ما يغضب الواحد الديان.
فاليوم أدعوكم لمحاسبة النفس حتى يخف عليكم الحساب غدًا حين ينادى المؤمن يوم القيامة فيضع الله عليه كنفه وستره عن أعين الخلق فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكافر المنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق والأشهاد: هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
نقف اليوم ـ أيها المسلمون، ويا أيها الشباب ـ لا لنحاسب أنفسنا لأن غدًا الشهود كثير، فإن كنت في الدنيا قد تهرب من عقاب المسؤول بالحيلة والرشوة وشهود الزور والواسطة والنفوذ فغدًا من سيدافع عنك إذا تجمع عليك الشهود؟! وأعظم شهادة شهادة رب العالمين: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ، يوم تشهد الملائكة: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وأين أنت من شهادة الجوارح؟! الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وكيف بك بشهادة جلدك الذي يكسوك؟! وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وأين أنت من شهادة الأرض التي تحدث أخبارها؟! قالوا: يا رسول الله، ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا)).
هذه الإجازة قد ولت، وها هي الدراسة قد أقبلت، فافتحوا صفحة جديدة بيضاء، واستغفروا ربكم على ما فات.
الوقفة الثانية: الدراسة هي معكم يا أولياء الأمور، يا أيها الآباء والأمهات، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، فليست مسؤولية الآباء توفير الدفاتر والأقلام، ولكن دورهم أعظم وأكبر.
الله الله ـ أيها الآباء ـ في أدب أبنائكم، احرصوا على إرضاعهم الأدب قبل العلم، فلا قيمة للعلم بدون أدب، فهذه أم الإمام مالك رحمه الله ورحمها لما كان صغيرًا ألبسته أحسن الثياب ثم قالت له: يا بني، اذهب إلى مجالس ربيعة واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه. فنشأ على الأدب الرفيع أجيال يخلف بعضها بعضًا، تعرف للعلماء والمؤدبين قدرهم، حتى يقول الإمام الشافعي رحمه الله وهو تلميذ للإمام مالك: يقول: "كنت أصفح ـ يعني أقلب ـ الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحًا دقيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها"، وهذا الربيع بن سليمان رحمه الله وهو من تلاميذ الشافعي يقول: "والله، ما تجرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له"، وكان الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج رحمه الله يقول: "كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما دام حيًا"، وكان الإمام أحمد رحمه الله وهو تلميذ للشافعي يقول لابن الشافعي: "أبوك من الخمسة الذين أدعو لهم كل سحر".
معاشر الآباء، الله الله في حقوق المعلمين والمعلمات، واغرسوا في نفوس أبنائكم حبّ معلميهم واحترامهم وتقديرهم. إن من الآباء من يتكلم بكلام فيه إنقاص من قدر المعلم أو المعلمة أمام مسامع الأبناء، فوالله إن فعل أحدكم هذا ماذا يبقى للقدوة؟! وماذا يبقى للتعليم؟! وماذا يبقى لهيبة العلم والمعلم والتعليم؟! لما أساء بعض الآباء في قلة تقديرهم للمعلمين نتج لنا جيل يلعن المعلم ويضرب المعلم ويتلف ممتلكات المعلم. أترجون أن نعلو على الأمم وهذه أخلاقنا مع من يعلمون أبناءنا؟! حتى وإن أخطأ المعلم، أو كان هناك معلم سيئ ونموذج سيئ، فلا ينبغي هتك ستار الهيبة والاحترام الذي له؛ لأن في إهانة المعلم إهانة للعلم والتعليم. إذا كان الطالب يأتي للمدرسة وهو ينظر للمعلم أنه ليس بشيء لما استقرّ في ذهنه تجاه هذا المعلم، وإذا كان المعلم يرى من سوء أدب طالبه وسوء أدب والده فأي خير نرجوه من التعليم؟!
إن على الأولياء وعلى من يكتب في الصحف أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن الأب الناصح الشفيق إذا رأى ما يزعجه أو ما يلاحظه من خلل فليس له إلا التوجه للمعلم ومصارحته بما في نفسه من ملاحظات ومكاشفات، أما أن يجلس الأب يلعن المعلم والأم تلعن المعلمة أمام الأبناء فإني أقولها لكم صريحة: لا ترجوا من التعليم ومن أبنائكم شيئًا.
يا أيها الآباء، أعينوا أبناءكم على مشاقّ العلم ومتاعبه، فهذا سفيان الثوري العالم المشهور لما كان صغيرًا وقد توفي والده وله إخوة رأى أن يترك العلم والدراسة ليطلب العيش والرزق، قالت له أمه جزاها الله خيرًا: أي بني، اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل وتكافح، وانطلق سفيان يتعلم العلم حتى أصبح سفيان من أعلام المسلمين الكبار، وكل ذلك في ميزان تلك المرأة الصالحة.
ألا وإن بعض الآباء قد يشغل ابنه عن علمه وتحصيله لما فسدت النية في العلم حتى ينصرف الابن عن العلم بالكلية.
معاشر الآباء، أيها الآباء، لا تتركوا الحبل على الغارب لأبنائكم؛ يمكثون في الشارع ما شاؤوا ومع من شاؤوا وفي أي مكان شاؤوا، يتعلمون من الشارع ما يفسد عليكم وعلى المدرسة في التربية. فاحفظوا أوقات أبنائكم واضبطوها، وكونوا أعينًا تربيهم عن قرب وعن بعد.
إن بعضًا منكم كان آخر عهده بالمدرسة يوم سجّل ابنه فيها، وبعضهم لا يأتي إلاّ حين الاستدعاء. فيا أيها الوالد، يا ولي الأمر، مدارسنا يدرس فيها مئات الطلاب، فلا تنتظر أن تقوم المدرسة بكل شيء، فإذا لم تضع يدك بيد مدير المدرسة ومعلمها فالخاسر أنت وابنك.
إن على أولياء الأمور زيارة المدارس مرات ومرات للسؤال والمتابعة والمناقشة، السؤال عن الأدب، فكثير من الأبناء تختلف أخلاقهم في البيت عن المدرسة، وإن الخلل إذا عرف في أول الوقت سهل القضاء عليه. عليك أن تعرف جلساء ابنك وذهابه وإيابه، عليك صحبة ابنك للمسجد ومجامع الخير، علّمه مكارم الأخلاق مرة بعد مرة ويومًا بعد يوم، صوّب خطأه واشكر صوابه واعلم أن تربيتَهم جهاد أيّ جهاد؟! ولكن أعظِم به من جهاد.
يا أيها الآباء، أقولها لكم فاحفظوها: أنتم محتاجون أبناءكم إذا دخلتم قبوركم، فإحسانك لتربية ابنك هو عمل صالح مستمر لك بعد موتك، إن الصلاة والصيام والذكر والقرآن وكل خير زرعته في أبنائك لهو أُجور لك بعد موتك، والعكس بالعكس، فكل شر كنت سببًا في تعليمه لأبنائك من خلالك أو من خلال مجلة ساقطة سمحت بها أو فضائيات سمحت بها أو أحضرتها لهي سيئات تصبّ في ميزانك بعد موتك، فاختاروا ـ أيها الآباء ـ ما شئتم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة)).
وأما الوقفة الثالثة فهي إلى من حملوا وظيفة الأنبياء في تعليم الناس، قال : ((إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير)). إن المعلم والمعلمة إذا أخلصوا للأمّة ولم يغشوها فهم يمشون في رحمة الله ورضا من الله بما يصنعون.
أيها المعلمون، أبناؤنا غدًا يأتون بين أيديكم، فالله الله في أبناء المسلمين، إنهم أمانة كبيرة وحمل عظيم أعانكم الله عليها. ألا وإن أحسن ما يعينكم هو الإخلاص لله في أعمالكم، فعمل بلا إخلاص لا بركة فيه، والإخلاص ما كان في قليل إلا كثره، ولا في يسير إلا باركه.
يا مشاعل النور والرحمة، قدوتكم في التربية والتعلم هو المعلم الأول والنبي الآخر، قال معاوية رضي الله عنه: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله ، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وقال أنس : ما لمست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبته عشر سنين وأنا غلام ما قال لي يومًا: أف، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو ألا فعلت كذا؟ وقال جرير : ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي.
إن المعلم الذي يشتكي من سوء أدب طلابه هو في الواقع فشل في استمالة قلوب طلابه إليه برفيع أخلاقه. على المعلم اليوم أن لا يشتكي من أن جيل اليوم تغيّر والملهيات كثرت، فقولوا لي بربكم أيها المعلمون: فماذا ينفع تضرجكم وتبركم وشكواكم من سوء الأوضاع؟! إن اليأس هي صفة وسمة الكفار، إنما هذا السوء في الأمة يدعوكم لبذل المزيد من الجهد والعمل وابتكار الوسائل المفيدة النافعة، عليكم أن تزاحموا الشر الذي يحيط بأبنائنا، واعلموا أن من أخلص نيته لله وعلم الله منه الإخلاص والرغبة الصادقة في الخير فإن الله يؤيده ويسدده.
أيها المعلم، إذا دخلت فصلك وأغلقت بابك وغابت عين المدير والمسؤول وأولياء الأمور عنك، ولم يعد إلا أنت وهم بين يديك، فتذكر ملائكة الرحمن بين يديك وأن الله في عليائه مطلع عليك. لا يكن هم أحدكم متى تنتهي الحصة، فالحصص ليست فقط دروسا لما هو مسطر في الكتب، بل إن الجانب التربوي هو شغلك الشاغل. لا تستخفن بنفسك، فكلمة تقولها بإخلاص يبارك الله فيها وينفع فيها عشرات السنين.
على المعلمين أن يكونوا قدوة لطلابهم، فليس من المقبول أن تعلّم طلابك ما أنت تنسفه بأفعالك. إنها ضربة موجعة للتربية، كيف بالمعلم أن يضيع صلاة الجماعة ويتهرب منها في المدرسة وغيرها؟! كيف تعلم أبناءنا التمسك بسنة المصطفى في لحيته وثوبه وأخلاقه وظاهره وباطنه ثم يأتي المعلم وينسف كل هذا بحلق لحيته وإسبال ثوبه وسوء أخلاقه وغيبته ونميمته للمدير والمعلمين وأولياء الأمور والطلاب؟! على المعلم أن يتمثل الإسلام في هيئته وتصرفاته، فحوله عشرات الطلاب الذين يرقبون فعله وتصرفاته، ويتخذونه قدوة لهم.
أيها المعلم، من دعا إلى هدى كان له أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل به إلى يوم القيامة. فاحرصوا ـ معاشر المعلمين ـ على تعليم أبنائنا كل خير وهدى وفضيلة وأخلاق كريمة، فهي أبواب عظيمة من الأجور مفتوحة لكم، لم تفتح لغيركم فاغتنموها.
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، مصادر الشر تعزو اليوم أبناءنا من كل مكان، ما بين قنوات مدمرة للأخلاق، إلى إنترنت لنشر الإباحية، إلى تقليد وذوبان الشخصية في شخصية غربي كافر نجس، إلى أفكار تتسلل إليهم من هنا وهناك يحتاجون من يجليها بصدق ووضوح.
على المعلمين والمعلمات اليوم أن يسابقوا الزمن في رفع مستوياتهم العلمية والثقافية، عليكم أن تكونوا قارئين مثقفين واسعي الاطلاع، فنحن اليوم في زمن الشبكة العنكبوتية، سيكون ربما طلابك أفضل منك، فلتسبقهم إلى المعرفة، ولتستلم قيادة الدفة بدل أن تجد نفسك منقادًا مكسورًا مهزومًا.
معاشر المعلمين، الرفق الرفق بالأبناء، ستجدون في أبنائنا تصرفات تنكرونها وسلوكيات ترفضونها وأفكارا تتبرؤون منها، فعليكم بمنهج النبي في التعليم، البسمة تأسر بها طالبك، والحنان تملك به قلبه، والمناقشة الهادئة البعيدة عن التشنج والتعصب ترفع الغبش عن العقول، أطلقوا ألسنة أبنائكم للكلام، فإن أحسنوا فكافئوهم، وإن أخطؤوا فقوّموهم بالتي هي أحسن.
وفق الله الجميع للخير والفلاح، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها خير الزاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
أما الوقفة الرابعة ـ عباد الله ـ فهي مع أحبائنا وقرة عيوننا ومهج أفئدتنا وأكبادنا التي تمشي على الأرض: الأبناء والبنات الطلاب والطالبات.
يا أبنائي، إني لأتلم من أحدكم أجده حزين القلب كسير النفس، لماذا؟ لأن الدراسة غدًا.
يا بني، ألم تر إلى دول الكفر قد سبقتنا في علوم الدنيا التي بها قوام الناس؟! انظر إلى مسجدنا؛ فهذا مصنوع في اليابان، وهذا في أمريكا، وذاك في أوروبا، وغيره في الصين، ولم أجد شيئا مصنوعا يرفع له الرأس، مصنوع من أوله لآخره في بلادنا، من أسباب ذلك أنك تذهب غدًا إلى المدرسة حزينًا.
هل علمت أنه في كل ثانية ـ وليس كل دقيقة ـ اكتشاف وإنجاز علمي، هؤلاء ما وصلوا لهذا عبثًا، ولكنها سنة الحياة؛ من جد وجد، ومن زرع حصد. دهشت حينما علمت عن تجربة اليابان في التعليم، بلدة بدأت من الصفر بعد أن دكّت بالقنابل الذرية في يوم من الأيام، وها هي اليوم تتفوق على العالم، وإذا أردت أن تطمئن إلى صناعة جيدة قبل لك إنها يابانية، يدهشك ذلك إذا علمت أن الحكومة هناك لا تدفع ريالاً واحدًا على التعليم، فنفقات التعليم يدفعها أولياء الأمور، وما يدهشك حقًا وتتعجّب له أنه لا يجبر أيّ مواطن على دفع شيء، إنما كله عن حبٍ ورضا نفس.
هناك ـ يا بني ـ في الغرب انتشر عندهم كتاب الجيب، وهو كتاب صغير تجد الكل يحمله في جيبه ليقرأ به في وقت الانتظار والفراغ خارج البيت والعمل، أتظن أن الغرب هو تلك الموسيقى والأزياء والرقص واللهو؟! لو كانت هذه حياتهم كلهم ما رأيت كل هذا، بل هذا ما صدّروه لك لكي تبقى نائمًا غارقًا في شهواتك.
يا بني، إن أول ما نزل القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، وثناها: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. أرأيت ديننا كيف يدعوك للقراءة والبحث والعلم؟! بل يا بني، إن رسول الله يقول لك: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)).
فأخلص نيتك ـ يا بني ـ في العلم، واطلب العلم لترفع عن نفسك الجهل، واطلب العلم لتنفع غيرك وأمتك، واطلب العلم لأجل العلم لأن العلم زينة. إنك ما ترى عالمًا في أي مجال إلا والناس يكنّون له الاحترام والتبجيل، لا تطلبوا العلم لأجل الوظيفة، فالوظيفة رزق والرزق بيد الله وحده، واعملوا وجدّوا فكلٌ ميسر لما خلق له.
يا بني، إنك تتوجه غدًا لقلعة من قلاع العلم، فابدأ فيها باسم الله وعلى بركة الله، ولتكن بدايتك جادة، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فهذا طبع الكسول، ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، ومن كانت بدايته رمادا فالرماد لا يخلف إلا الرماد في الوجوه.
يا بني، كن صبورًا على العلم، ولا ترض بما يقدّم لك في المقررات، بل زد عليها من عندك قراءة وثقافة، فلا خير في من لا يقرأ.
معاشر الطلاب، عليكم بتقوى الله والصلاة، فلا خير فيكم إذا ضيعتم الصلاة. تجملوا بالدين والأخلاق واحترام المعلمين، وحققوا لآبائكم ما يرجونه منكم، فإنه من البرّ والعقوق أن تجعل قلب والديك يتحسران وقلقين كل يوم.
عباد الله، إنّ على المجتمع عمومًا أن يكون متعاونًا في سبيل التربية والتعليم، كل فيما يخصه، فليمتنع الحلاق عن قصات غريبة علينا، وليمتنع صاحب البقالة عن بيع الدخان لأبنائنا ولكبارنا أيضًا، وليمتنع عن بيع المجلات الهابطة وليستبدلها بمجلات نافعة، فليقدم المسؤولون عن المقاصف ما يفيد أبناءنا ولا يضرهم، وأن لا يكون الهدف الربح فقط من غير أخلاق، على المجتمع أن يتحسس الفقراء والمساكين والأيتام ليقدموا لهم المساعدة، على الميسورين أن يدعموا المدارس بكل ما يستطيعون، فهي أوقاف تجري عليهم حسناتهم.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير سيد الخلق أجمعين...
(1/4815)
كلمة التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد, الألوهية, شروط التوحيد
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
15/8/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أساس الدين كلمة التوحيد. 2- فضل كلمة التوحيد. 3- شروط كلمة التوحيد. 4- دلالة كلمة التوحيد. 5- حبّ الصحابة لكلمة التوحيد. 6- مفاهيم قاصرة لكلمة التوحيد. 7- معنى شهادة أن محمدا رسول الله. 8- أول أمر وأول نهي في كتاب الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
أيّها الناس، إنَّ لكل مبدأ باطلٍ كلمةً يبنى عليها، وإنّ لكل مذهب هدّامٍ قولاً أُسِّس عليه، وإنَّ الإسلام وهو دينُ الحق كلِمتُه التي بُنِي عليها وأصلُه الذي أسِّس عليه هو "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". فهو الدّين الحقّ، وهذه الكلمة العظيمةُ ترجع إليها أصول الدّين وفروعُه، وبُني عليها الإيمان وشُعَبه، ولأجلها أنزل الله الكتبَ وأرسل الرسُلَ وجُرِّدت سيوفُ الجهاد في سبيلِ الله، ونَصب الله لأجلها الميزانَ، وخلق الله الجنّةَ لأهل "لا إله إلا الله"، وخلق النّار لأعدائها، وكفى "لا إله إلا الله" شرفًا ومنزلةً وفضلاً وعُلُوَّ منزلة أنها أعظم وأجلُّ شهادةٍ نوّه بها وشهِد بها أعظم وأجلُّ وأعزّ شاهدٍ وهو ربّ العالمين، ثم شهدَ بها الملائكة وأولو العلم، قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]. وهي أوّلُ شيء دعت إليه الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام أمَمَهم، قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
و"لا إله إلا الله" كلمةُ التقوى المنوّه عنها في قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26]. وهي أوّلُ واجب على المكلّف كما هو قول أئمّة السلف رضي الله عنهم، وليس أوّل واجبٍ النظر ولا القَصد إلى النظر، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ قال: ((أمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) ، وأمَر معاذًا رضي الله عنه أن يدعوَ أهلَ اليمن أولَ شيء إلى الشهادتين.
والآيات والأحاديث في فضل هذه الكلمةِ العظيمة أكثرُ من أن يحصيها المقالُ في هذا المقام، وحسبنا أن نشير إلى ذلك إشارةً، وأوجز في هذا العبارة، فإنَّ النفوس المؤمنةَ والقلوب الحيّة لتتحرّك إلى جزيل الثواب واتِّقاء أليم العقاب بالقيام بأشقّ الأعمال وأشدِّ الفعال، فكيف إذا كان العمل سهلاً يسيرًا وثوابُه أعظم الثواب ويدرأ الله به أعظم العقابِ؟! لا شكّ أن الدافع لهذا العمل يكون قوّيًا، ويكون العزم مصمِّمًا والاستكثار متواصِلا دائمًا، وهذا الشأن هو ما يليق بـ"لا إله إلا الله".
فممّا ورد في فضلها ما رواه الشيخان من حديث عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه والجنة حقّ والنار حقّ أدخله الله الجنّةَ على ما كان مِن عمل)). وروى مسلم والترمذي من حديثه أيضًا أن النبيَّ قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله حرّم الله عليه النار)). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان)). وفي الحديث: ((لا إله إلا الله لا تدَع ذنبًا ولا يشبِهُها عمل)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((جدِّدوا إيمانكم؛ أكثروا من قول: لا إله إلا الله)) رواه أحمد بسند حسن. وروى الشيخان عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشرَ مرات كان كمن أعتق أربعةَ أنفس من ولد إسماعيل)). ولهما عن أبي هريرة أن النبيَّ قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائةَ مرة في أوّل يومِه كُنّ كعدلِ عتقِ عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وكانت حرزًا له من الشيطان يومَه ذاك)).
وهذه الكلمة الجليلة الكبيرة المعاني بيّنت الأدلة شروطَها، ووصفت أحوالها التي تجب مراعاتها لتكون هذه الكلمة نافعةً لصاحبها في الدارين، شافعةً له عند ربه، مقبولةً في الملأ الأعلى؛ بأن يقولها المسلم ـ وهذا من شروطها ـ أن يقولها المسلم وهو يعلم معناها ويفقه دلالتها كما قال تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، فاشترط العلم، وقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]. وأن يقولَها موقنًا بها كما قال : ((من قال: لا إله إلا الله موقنا بها دخل الجنة)). وأن يقولها مخلِصًا من قلبه، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل، مثبِتًا ما أثبتت من التوحيد لله عز وجل، نافيًا ومتبرِّئا مما نفت من الشرك بربّ العالمين، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعدُ الناس بشفاعتِك؟ قال: ((من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ـ أو: نفسه ـ )). وأن يقولها المسلم مصدِّقًا بها، يوافِق قلبُه لسانَه، لما روى أحمد عن رفاعة الجهنيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صِدقًا من قلبه ثم يسدِّد إلا دخل الجنة)). وأن يقولها محِبًّا لها ولما دلّت عليه من التوحيد لله، مبغضا لما نفَت من الشرك بالله، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. وأن ينقادَ ويخضع لما دلت عليه من الأوامر، وينزجر عمّا دلّت عليه من النواهي، قال عز وجل: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]. وأن يتقبَّل شريعة الإسلام جملة وتفصيلاً بالرضا والفرح والمحبّة كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به)). والشرطُ الثامِن لها أن يكفرَ المسلم بما يُعبَد من دون الله، ويتبرَّأ من الشرك، لقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26، 27]. فقائل ذلك مستجمِعًا شروطَها تنفعه وتنجيه.
وكان هذا الفضل المبين لهذه الكلمة لأنها دلّت على أمور عظام، فممّا دلت عليه دلّت على ثلاثة أمور كبار عليها مدار الإسلام:
الأول: إثبات العبادة كلِّها لله وحدَه لا شريك له، العبادات الظاهرة والباطنة، الأقوال والأفعال، الإرادات والمقاصد، ودخل في ذلك كلِّه كلُّ أمر يفعل وكلُّ نهي يترَك مع النية الصالحة، وحتى الأفعال التي يفعلها الإنسان بدافع الغريزةِ تكون عبادةً لله تعالى بالنيّة الصادقة الصالحة. فأثبتت هذه الكلمة العبادة لله سبحانه وتعالى، ونفتها عن غير الله، فإن معنى "لا إله إلا الله" لا معبودَ بحق إلا الله، وهذا توحيد العبادة.
الأمر الثاني: دلالتها على إثبات صفات الله عز وجل، صفات كماله المطلَق كلّها، فإن معنى الإله هو المعبود الذي تألهه القلوب وتدعوه وتحِبّه وتعظّمُه وترجوه وتتوكّل عليه وتستعين به وتستغيث به وتستعيذ به؛ لما اتَّصف به من صفات الكمال والجلال من جميع الوجوه، فكان مستحِقًّا للعبادة كلِّها لعظيم صفاته وجلال أسمائه؛ ولهذا كثيرًا ما يذكر الله تعالى صفاته المقدسة بعد "لا إله إلا الله" كقوله عز وجل: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وقوله تبارك وتعالى في آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22]، وذلك توحيد أسمائه وصفاته.
الأمر الثالث: تضمّنت هذه الكلمة العظيمة توحيدَ ربوبيته وأنه العزيز الحكيم في أفعاله وشرعه وقدره، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، تبارك الله رب العالمين.
فما أعظم هذه الكلمة، وما أجلَّها، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانت هذه الكلمة عندهم أحبَّ شيءٍ إليهم، أحبّ إليهم من أموالهم وأنفسهم وأوطانهم، وكان بلال رضي الله عنه يعذَّب من أجلها في الرمضاء، وكان يتعرّض للإهانة، فكان لا يزيد على أن يقول: أحَدٌ أحد؛ يشير إلى أن الله هو الواحد، وأنه لا إله إلا الله، وأنه قد كفر بما يعبَد من دون الله، وخلع الشركَ والأوثان والأنداد وأصحابها.
وأمّا من قال: إن معنى هذه الكلمة لا رازقَ إلا الله ولا خالقَ إلا الله وقال بأن الإله هو القادر على الاختراع فإنه لم يفقَه معناها، فإنّ المشركين كانوا يقِرون بأن الله هو الخالق الرازق ولم يدخلهم ذلك في الإسلام؛ لأنهم لم يثبتوا ما أثبتته ولم ينفوا ما نفته. وهذا قد جهل معنى "لا إله إلا الله"، وإنه من النقص المبين على المسلم أن يكونَ المشركون أعلمَ [منه] بشهادة أن لا إله إلا الله، فإنّ النبيَّ لما قال لقريش: ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) استكبروا وعاندوا ولم يقبَلوها، وذلك ما دلّ عليه قول الله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:4، 5]، حتى أدخل الله الإسلام على من هداه الله منهم.
ومعنى شهادةِ أنَّ محمّدًا رسول الله طاعةُ أمرِه واجتناب نواهيهِ وأن يَعبدَ المسلم ربَّه بما شرع رسوله ، فلا يُعبَد الله بالبدع والمحدثات لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من عمِل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) ، وأن يصدِّقَ المسلم أخباره عليه الصلاة والسلام، مع المحبّة الصادقة له ، وفي الحديث عن النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
أيها المسلمون، حقِّقوا معاني هذه الكلمة العظيمة، واعتنوا بما دلّت عليه، وفي الحديث: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) ، فإنها مفتاح الجنة والمنقِذ من النار وأساسُ الملة، الجنّة لأهل "لا إله إلا الله"، قال تعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70]، وإسلامُهم بالشهادتين، والنار لأعدائها، قال تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:33-35].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفَعنا بهديِ سيّد المرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الملِك القدوس السلام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله بعثَه الله بالرحمة والتوحيد ومكارم الأخلاق، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الكرام.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ تهتدوا وترشدوا لخيرِ أموركم في هذه الدار وفي دار القرار.
عبادّ الله، إنَّ أوّلَ أمر في كتاب الله تعالى هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. وإنّ أولَ نهي في كتاب الله تعالى هو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]. وهذا هو معنى "لا إله إلا الله"، فكونوا ـ عباد الله ـ من أهلها الذين حقَّقوا شروطَها، فأثبِتُوا ما أثبتَت، وانفُوا ما نفت؛ تفوزوا بجزاءِ أهلها، وأهلُها هم الذين أنعَمَ الله عليهم بطاعتِه وأكرَمَهم بالابتعادِ عن معصيته، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وفي الحديث عن النبي : ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعبَد من دون الله دخل الجنة)) رواه مسلم.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
(1/4816)
الإيثار والأثرة
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
1/8/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعم الله تعالى. 2- الغفلة عن شكر نعم الله تعالى. 3- من مظاهر كفر النعم. 4- تنازع الناس وخصوماتهم بسبب الأثرة. 5- ذم الحرص والأثرة. 6- الحث على الإيثار. 7- سعة رزق الله تعالى. 8- وجوب الرضا بقسم الله تعالى. 9- ذم الحسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَإنَّ ممَّا لا يحتَاجُ إلى استِدلالٍ أَو بُرهانٍ مَا حَبَا اللهُ أَهلَ هذِهِ البِلادِ المُبَارَكَةِ مِنَ الخَيرَاتِ وَالنِّعَمِ، وَمَا اختَصَّهُم بِهِ مِنَ العَطَايَا وَالمِنَنِ، حَيثُ أَطعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِن خَوفٍ، وَوَسَّعَ عَلَيهِم بَعدَ ضِيقٍ وَأَغنَاهُم بَعدَ فَقرٍ، فَلَهُ سُبحانَه الحَمدُ وَالشُّكرُ، وَنَسأَلُهُ المَزيدَ مِن فَضلِهِ وَإنعَامِهِ.
وَلَكِنَّ ممَّا يحُزُّ في نَفسِ الغَيُورِ على هذِهِ الآلاءِ وتِلكَ النِّعَمِ غَفلَةَ فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ عَن قِيمتِها وَعَظِيمِ شَأنِهَا، وَتَفريطَهُم فِيهَا وَعَدَمَ تَقييدِها بِشُكرِ الوَاهِبِ سُبحانَه؛ إِذْ إِنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ أَنَّ النِّعَمَ إِذَا شُكِرَت قَرَّت، وَإذَا كُفِرَت فَرَّت، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ.
وَإنَّ مِن مَظَاهِرِ كُفرِ النِّعمَةِ التي لُحِظَ أَنها تَزدَادُ بِازدِيَادِ النِّعَمِ وَتَكثُرُ بِوَفرَتِها مَا يَصدُرُ مِن بَعضِ النَّاسِ مِن تَصَرُّفَاتٍ رَعنَاءَ مَصدَرُها أَفكَارٌ حمقَاءُ تُنبِئُ عن قُصُورٍ في الفَهمِ وخَلَلٍ في التَّفكِيرِ والتَّصَوُّرِ، حَيث يُغرِقُونَ في حُبِّ ذَوَاتِهِم وَالانكِفَاءِ عَلَيهَا، وَيَرَونَ أَنَّهُم أَحَقُّ مِن غَيرِهِم في التَّمتُّعِ بما حَولَهم مِنَ النِّعَمِ دُونَ مُنازِعٍ وَلا مُشَارِكٍ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّ فَضلَ اللهِ وَاسِعٌ وَخَيرَهُ عَمِيمٌ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى وَيَدَهُ سَحَّاءُ بِالعَطَاءِ لَيلاً وَنهارًا، لا يَنقُصُ مِن مُلكِهِ شَيء وَلَو أَعطَى كُلَّ إِنسَانٍ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لا يَنقُصُ رِزق أَحَدٍ أَن يُشَارِكَهُ فِيهِ آخَرُ، وَأَنَّهُ لا مُعطِيَ لما مَنَعَ اللهُ ولا مَانِعَ لما أَعطَى.
يُقَالُ هَذَا الكلامُ ـ أَيُّها الإِخوَةُ ـ لما يَرَاهُ الرَّقِيبُ مِنِ استِمرَارِ قَضَايَا التَّنَازُعِ وَالشَّكَاوَى في المحاكِمِ وَمخَافِرِ الشُّرطَةِ، والتي لا مَنشَأَ لها إِلاَّ الحَسَدُ وَضِيقُ الأُفُقِ وَتَمَكُّنُ الأَثَرَةِ مِنَ القُلُوبِ، فَجَارٌ يَشكُو جَارَهُ عَلى أَمتَارٍ قَلِيلَةٍ اقتَطَعَهَا مِن أَرضٍ لَيسَت لهما جميعًا، وَآخَرُ يَتَبَرَّمُ مِن صَاحِبِ مَزرَعَةٍ حَفَرَ بِئرًا بِجَانِبِ بِئرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّهُ امتَصَّ الماءَ عنه، وَتَاجِرٌ يَتَسَخَّطُ مِن قِلَّةِ كَسبِهِ لأَنَّ فُلانًا افتَتَحَ محلاًّ يُزَاوِلُ فِيهِ نَشَاطَهُ وَيَبِيعُ كَمِثلِ سِلعَتِهِ، وَصَاحِبُ إِبِلٍ أَو غَنَمٍ يَشكُو أَنَّ فُلانًا ضَايَقَهُ أَو استَأثَرَ بِالكَلأِ دُونَهُ، فَيَسعَى لِلتَّضيِيقِ عَلَيهِ وَيَتَمَحَّلُ الحِيَلَ لِزَرعِ المَلَلِ في نَفسِهِ، إِلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ مِن شَكَاوَى يَصِلُ بَعضُها إِلى المَؤسَّسَاتِ الرَّسمِيَّةِ والمحاكِمِ الشَّرعِيَّةِ، وَيَظَلُّ أَكثرُها حَبِيسَ المجالِسِ رَهِينَ الزَّوَايَا، تَلُوكُهُ الأَلسِنَةُ وَتَتَحَرَّكُ بِهِ الشِّفَاهُ، وَيجعَلُهُ المُتَسَامِرُونَ مَادَّةً لِحَدِيثِهِم وَيَأخُذُونَ فِيهِ وَيُعطُونَ، وَيُسِرُّ بِهِ أُنَاسٌ لآخَرِينَ وَيَتَآمَرُونَ، وَيَعمَلُ الشَّيطَانُ عَمَلَهُ وِيجِدُ فُرصَتَهُ في التَّحرِيشِ بَينَ الناسِ وَإِيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَهُم وَالنَّفثِ في نَارِ البَغضَاءِ وَإِشعالِ وَقُودِ الحَسَدِ، وَصَدَقَ الشاعِرُ إِذْ قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَت بِلادٌ بِأَهلِهَا وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
نَعَمْ أَيُّها الإِخوَةُ، مَا ضَاقَت بِلادٌ بِمَنْ حَلَّ فِيهَا، وَلا نَفِدَ رِزقُ اللهِ لِكَثرَةِ مُشَارِكٍ، لَكِنَّهَا أَخلاقُ الرِّجَالِ وَصُدُورُهُم، لَكِنَّهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ وَأَفئِدَتُهُم، لَكِنَّهُ الحُمقُ وَالطَّيشُ وَضِيقُ العَطَنِ، لَكِنَّهُ النَّزَقُ وَالخِفَّةُ وَضَعفُ التَّحمُّلِ. إِنَّهُ الحَسَدُ وَالغِيرَةُ وَضَعفُ اليَقِينِ وَقِلَّةُ التَّوَكُّلِ، مَاتَ آباؤُنا وَقَبلَهُم قَضَى أَجدَادُنا، وَفَنِيَت أَجيَالٌ وَتَلتهَا أَجيَالٌ، وَمَا نَالَ أَحَدٌ مِنهُم فَوقَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَسَنمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَنُنسَى كَمَا نُسُوا، وَلَن يَزِيدَ في رِزقِ أَحَدٍ مِنَّا حِرصُهُ وَلا جَشَعُهُ وَلا طَمَعُهُ، وَلا حَسَدُهُ لأَخيهِ أَو جَارِهِ أَو قَرِيبِهِ، أَو أَن يَتَحَلَّى بِالأَثَرَةِ فَلا يَرَى إِلاَّ نَفسَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَن يَنقُصَ ممَّا قُسِمَ لَهُ أَن يُشَارِكَهُ الآخَرُونَ في رِزقٍ مُشَاعٍ، لَكِنَّهَا قَنَاعَاتٌ شَيطَانِيَّةٌ وَإِرجَافَاتٌ إِبلِيسِيَّةٌ، يَزرَعُها الشَّيطَانُ في قُلُوبِ مَن ضَعُفَ بِاللهِ إِيمَانُهُم، وَيَبُثُّهَا في صُدُورِ مَن قَلَّت بِاللهِ ثِقَتُهُم، وَيُزَعزِعُ بها عَقِيدَةَ مَن عُدِمَ عَلَيهِ تَوَكُّلُهُم، وَيُجلِبُ بها عَلَى مَن ضَمُرَ عَلَى رَبِّهِم اعتِمَادُهُم، فَلَم يَرَوا مِنَ الأَسبَابِ إِلاَّ مَا ظَهَرَ لأَعيُنِهِم، ولم يَقنَعُوا مِن الأَرزَاقِ إِلاَّ بما حَسَبَتهُ عُقُولُهُم.
أيها المسلمون، مَا أَجملَ أَن يَتَحَلَّى المسلمونَ بِخُلُقِ الإِيثَارِ وَسَمَاحَةِ النُّفُوسِ، فَيَطلُبُوا الرِّزقَ مِن وَاهِبِهِ وَيَسأَلُوهُ مِن فَضلِهِ العَمِيمِ، ولا يَشتَغِلُوا بِمُدَافَعَةِ أَحَدٍ أَو حَسَدِهِ أَو التَّضيِيقِ عَلَيهِ فِيمَا أَعطَاهُ اللهُ. وَمَا أَقبَحَ أَن يَكُونُوا لِبَعضِهِم حَاسِدِينَ، وَمِن رَحمَةِ اللهِ يَائِسِينَ مُبلِسِينَ، وَفِيمَا يُوغِرُ صُدُورَهُم مُشتَغِلِينَ. أَمَا لهم في صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ وَقُدوَةٌ؟! أَينَ هُم مِنَ الأَنصَارِ الذِينَ فَرِحُوا بِمَقدِمِ إِخوَانِهِم المُهَاجِرِينَ، فَقَاسمُوهُم الضَّيعَاتِ وَالدُّورَ، وَآثَرُوهُم بِالأَموَالِ وَالدُّثُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا في امتِدَاحِ اللهِ لهم حَيثُ قَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ؟! كَيفَ يَتَّصِفُ المسلمونَ الذِينَ أَكرَمَهُمُ اللهُ بِالإِسلامِ وَامتنَّ عَلَيهِمِ بِالإِيمانِ وَجَعَلَهُم إِخوَةً مُتَحَابِّينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم، كَيفَ يَتَّصِفُونَ بِأَخلاقِ الكَفَرَةِ وَالطُّغَاةِ في عَالمِ اليَومِ الذي تَقومُ فِيهِ حُرُوبٌ عَلى المَصَالحِ الدُّنيَوِيَّةِ ثم لا تَقعُدُ، وَيُقتَلُ فِيهِ الأَبرِيَاءُ وَالنِّسَاءُ وَالضُّعَفَاءُ مِن أَجلِ الاستِئثَارِ بِالثَّرَوَاتِ وَنَهبِ الخَيرَاتِ وَحَسَدًا لِلنَّاسِ على ما آتَاهُم اللهُ مِن فَضلِهِ؟! أَقُولُ: كَيفَ يَتَّصِفُ المُسلِمُونَ بِأَخلاقِ مَن لا يَرجُونَ جَنَّةً وِلا يخافُونَ نَارًا؟! كَيفَ يَسمَحُونَ لِلحَسَدِ أَن يملأَ قُلُوبَهُم وَيُضَيِّقَ صُدُورَهُم؟! أَيَظُنُّونَ أَنهم على مَنعِ رِزقِ اللهِ لِغَيرِهِم قَادِرُونَ، أَم مِن ضِيقِ الأَرزَاقِ لِكَثرَةِ مَن يُشَارِكُهُم هُم يخافُونَ؟! أَم هَل يَظُنُّونَ أَنَّ حِرصَهُم سَيَزِيدُهُم عَمَّا قَدَّرَ اللهُ لهم وَهُم في بُطُونِ أُمَّهَاتِهِم؟! أَمَا عَلِمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى لا تَنقُصُ وَلا تَغِيضُ؟! أَفي شَكٍّ هُم مِن أَنَّ الرِّزقَ مُقَدَّرٌ محدُودٌ؟! أَيخَافُونَ أَن يمُوتُوا وَمَا استَكمَلُوا ما لهم مِنهُ؟! يَقُولُ سُبحَانَهُ في الحدِيثِ القُدسِيِّ: ((يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُوني فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ ممَّا عِندِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ)) ، وقال : ((إِنَّ يمينَ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيتُم مَا أَنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ؟! فَإِنَّهُ لم يَنقُصْ مَا في يمينِهِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تموتَ حتى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلا يحمِلَنَّ أَحَدَكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَنْ يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لا يُنَالُ مَا عِندَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ)) ، وقال عليه السلامُ: ((إِنَّ الرِّزقَ لَيَطلُبُ العَبدَ كَمَا يَطلُبُهُ أَجلُهُ)) ، وعن ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهُما أَنَّ النبيَّ رَأَى تمرَةً عَائِرَةً فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلاً، فَقَال: ((أَمَا إِنَّكَ لَو لم تَأتِهَا لأَتَتْكَ)).
نَعَمْ أَيُّها الإِخوَةُ، رِزقُ اللهِ وَاسِعٌ، وَعَطَاؤُهُ غَيرُ محدُودٍ، وَلَن تموتَ نَفسٌ حتى تَستَكمِلَ رِزقَهَا وَأَجَلَهَا، فَعَلامَ التَّسَخُّطُ؟! وَإِلى متى التَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ؟! أَمَا آنَ لِلقُلُوبِ أَن تَرضَى بِمَا قَسَمَ لها عِلاَّمُ الغُيُوبِ؟! أَمَا آنَ لِلنُّفُوسِ أَن تَقنَعَ بما آتَاهَا الكَرِيمُ المَنَّانُ؟! أَمَا آنَ لِلصُّدُورِ أَن تمتَلِئَ يَقِينًا وَتَوَكُّلاً عَلَى اللهِ؟! أَلا يحسُنُ بِكُلِّ امرِئٍ أَن يَسعَى في طَلَبِ رِزقِهِ وَتَدبِيرِ شُؤُونِ مَعِيشَتِهِ بَعِيدًا عَنِ الاشتِغَالِ بِالتَّضيِيقِ عَلَى الآخَرِينَ وَتَنغِيصِ مَعَايِشِهِم؟!
إِنَّ الحَيَاةَ لأَغلَى مِن أَنْ تُضَاعَ في شَكوَى الآخَرِينَ وَالتَّضيِيقِ عَلَيهِم، وَإِنَّ الدّنيا لأَقَلُّ مَكَانَةً وَأَحقَرُ شَأنًا مِن أَنْ يجعَلَهَا مُؤمِنٌ لَهُ هَدَفًا وَيَتَّخِذَهَا غَرَضًا، فَلا يُقِيمُهُ وَيُغضِبُهُ إِلاَّ بُعدُها وَانفِلاتُها مِن يَدِهِ، وَلا يُقعِدُهُ وَيُرضِيهِ إِلاَّ قُربُها مِنهُ وَإِمسَاكُهُ بِزِمَامِهَا. إِنَّهُ لا أَفسَدَ لِدِينِ المَرءِ وَتَقوَاهُ وَلا أَشَدَّ تَنغِيصًا لِحَيَاتِهِ وَتَكدِيرًا لِعَيشِهِ مِن حِرصِهِ عَلَى الدُّنيا وَجَشَعِهِ في طَلَبِ المَالِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِمَا في يَدِهِ وَاشتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إلى مَا عِندَ الآخَرِينَ، قال : ((مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لها مِن حِرصِ المَرءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهدِ وَاليَقِينِ، وَيَهلَكُ آخِرُها بِالبُخلِ وَالأَمَلِ)).
فُزْ بِرَاحَاتِ قَلبِكَ الغِرِّ يَا مَن زَادَ مِن قُوتِ مَا يَرُومُ انزِعَاجُهْ
وَاطرَحِ الهَمَّ عَن فُؤَادِكَ وَاربَحْ صَفوَ عَيشٍ إِنْ طِبتَ طَابَ نِتَاجُهْ
لا تَقُلْ قَلَّ دُونَ غَيرِيَ رِزقِي كُلُّ رِزقٍ مُقَدَّرٌ إِخرَاجُهْ
قِسمَةُ اللهِ لا زِيَادَةَ فِيهَا لا وَلا نَقصَ عَذبُهُ وَأُجَاجُهْ
وَالفَتى غَيرُ رِزقِهِ لم يَنلْهُ وَلَوِ احتَالَ وَاستَطَالَ لِجَاجُهْ
كَمْ شُجَاعٍ أَرَادَ رِزقَ سِوَاهُ يَحتَوِيهِ فَقُطِّعَتْ أَودَاجُهْ
وَلَكَمْ ضَمَّ رِزقَ غَسَّانَ حِصنٌ فَغَزَوهُ وَهُدِّمَتْ أَبرَاجُهْ
صَاحِ لَو كَانَ فِيكَ رِزقُكَ مَا لَمْ يَفتَحِ اللهُ عَاقَكَ استِخرَاجُهْ
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاء بِغَيرِ حِسَابٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ ولا تَعصُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا.
ثم اعلَمُوا أَنَّهُ يجِبُ على المَرءِ أَن يَرضَى بِمَا قَسَمَهُ اللهُ لَهُ وَيَقنَعَ بِمَا أُوتيَ، وَأَن يَتَمَنَّى لإِخوَانِهِ وَيُحِبَّ لهم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ، لا أَن يَكُونَ حَاسِدًا ضَائِقَ الصَّدرِ بِرِزقٍ لَيسَ في يَدِهِ زِيَادَتُهُ وَلا النَّقصُ مِنهُ، قال : ((وَالذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ مِنَ الخَيرِ)).
لَقَد أَرَادَ اللهُ بِحِكمَتِهِ وَعَدلِهِ أَن يجعَلَ أَرزَاقَ الناسِ مُتَفَاوِتَةً وَعَطَايَاهُ لهم مختَلِفَةً، فَيُوَسِّعَ على بَعضِهِم وَيُضَيِّقَ على آخَرِينَ، وَقَدَرُهُ في ذَلِكَ جَارٍ وَأَمرُهُ نَافِذٌ، وَلا أَحَدَ يَستَطِيعُ بِحِيلَةٍ أَو قُوَّةٍ أَن يُغَيِّرَ ممَّا قَضَى اللهُ شَيئًا، قال سُبحانَهُ: وَاللهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ في الرِّزقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزقِهِم عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَهُم فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعمَةِ اللهِ يَجحَدُونَ ، وقال تعالى: أَوَلم يَرَوا أَنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لمن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ ، وقال جل وعلا: مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
أَمَّا الحَسَدُ فَهُوَ فَضلاً عَن كَونِهِ وُقُوعًا فِيمَا نُهِيَ عَنهُ، فَهُوَ مُفسِدٌ لِحَيَاةِ صَاحِبِهِ، مُقلِقٌ لِرَاحَتِهِ، مُذهِبٌ لِنَعِيمِ قَلبِهِ وصَفَائِهِِ، مُزِيلٌ لِسَلامَةِ صَدرِهِ وَنَقَائِهِ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ هَذَا لَكَفَى بِهِ زَاجِرًا عَنهُ وَرَادِعًا، كَيفَ وَهُوَ وُقُوعٌ فِيما نَهَى عَنهُ حَيثُ قَالَ: ((لا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا)) ؟!
إِنَّ الكَبَائِرَ لِلطَّاعَاتِ مُفسِدَةٌ وَإِنَّ أَفسَدَهَا لِلطَّاعَةِ الْحَسَدُ
لا تُضْمِرَنَّ عَلَى ذِي نِعمَةٍ حَسَدًا إِنَّ الْحَسُودَ مِنَ الرَّحْمَنِ مُبتَعِدُ
وَاقْنَعْ بِرِزقِكَ فَالأَرزَاقُ قَد قُسِمَتْ سِيَّانِ في الرِّزقِ بَطَّالٌ وَمُقتَصِدُ
فَإِنْ حَسَدْتَ امرَأً فِيمَا يُخَصُّ لَهُ فَاذهَبْ فَمَا لَكَ إِلاَّ الإِثمُ وَالكَمَدُ
لَقَد جَعَلَ الحَسَدُ وَحُبُّ الأَثَرَةِ بَعضَ النَّاسِ بَغِيضًا مُبَغَّضًا، غَيرَ مَألُوفٍ وَلا محبُوبٍ، ممَّا حَرَمَهُ كَمَالَ الإِيمَانِ وَلَذَّتَهُ، قَالَ : ((أَكمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُم أَخلاقًا المُوَطَّؤُونَ أَكنَافًا الذِينَ يَألَفُونَ وَيُؤلَفُونَ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَألَفُ وَلا يُؤلَفُ)).
فَاتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِخوَانًا، وَأَحِبُّوا لإِخوَانِكُم مَا تُحِبُّونَ لأَنفُسِكُم، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا.
إِنَّنَا نَشتَكِي قِلَّةَ الأَمطَارِ وَتَأَخُّرَ الغَيثِ وَغَورَ الآبارِ، وَمِنَّا مَن لا يَجِدُ في رَاتِبِهِ بَرَكَةً وَلا سَدَادًا، وَآخَرُونَ يَشتَكُونَ الهَمَّ وَالغَمَّ وَالأَمرَاضَ النَّفسِيَّةَ وَالحَزَنَ، فَإِذَا مَا تَأَمَّلنَا في وَاقِعِنَا فَإِذَا التَّنَافُسُ عَلَى الدُّنيا وَالتَّحَاسُدُ على حُطَامِها أَشَدُّ مَا يَكُونُ بَينَنَا، وَهَذَا مَا خَشِيَهُ عَلَينَا النَّاصِحُ الحَبِيبُ صَلَواتُ رَبي وَسَلامُهُ عَلَيهِ، فَإِنَّهُ لمَّا جَاءَهُ أَبُو عُبَيدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ وَصَلَّى مَعَهُ أُنَاسٌ مِنَ الأَنصَارِ صَلاةَ الفَجَرِ وَتَعَرَّضُوا لَهُ تَبَسَّمَ حِينَ رَآهُم ثم قَالَ: ((أَظُنُّكُم سَمِعْتُمَ أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ؟)) ، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((فَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم، وَلكني أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم)). وَصَدَقَ عليه الصلاةُ والسلامُ، فَإِنَّهُ لمَّا كَانَتِ الأَرزَاقُ في أَيدِي النَّاسِ قَلِيلَةً وَالأَحوَالُ مَيسُورَةً كَانُوا كَالإِخوَةِ وَإِنْ تَبَاعَدَت أَرحَامُهُم، فَلَمَّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِم وَأَغنَاهُم تَنَافَسُوا وَتَحَاسَدُوا وَاستَنكَرَ بَعضُهُم بعضًا، وَصَدَقَ اللهُ إِذ يَقُولُ: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَن رَّآهُ استَغنَى.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ، وَعُودُوا إِلى حِمَاهُ، وَاقنَعُوا وَعَلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا، وَغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِكُم، وَطَهِّرُوهَا مِن الشُّحِّ وَالأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم.
(1/4817)
دعونا نقوّم صيامنا
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
25/9/1418
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على اغتنام رمضان في الأعمال الصالحة. 2- حال كثير من الناس في رمضان. 3- الحث على الصدقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الصائمون الفضلاء، في هذه الليالي الشريفات المباركات يبدو الجو بديعا صافيا، يميل إلى برودة معتدلة، نهار نير زاهر، وليل أبلج طليق، والنفوس منشرحة رضية؛ إذ يتدفق المسلمون الصائمون إلى البلد الحرام لأداء العمرة والاعتكاف. فكم هي سعادتهم وبهجتهم بإتمام العبادة، وكم هو حزنهم وأسفهم بوداع رمضان.
رمضان تتصرم أيامه وتتلفظ أنفاسه، والساهون اللاهون في غفلة معرضون، ليال عظام تتنزل فيها الرحمات وتعظم الهبات وأرباب المعاصي والذنوب في شقاوة وندامة، أضمنوا الجنة أم فازوا بالنعيم، أم أنها الخسارة والضياع والضلال البعيد؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، وقال تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
إتيانهم المعاصي والآثام غطى قلوبهم عن أنوار رمضان، فكان صيامهم مجردا عن القرآن، مُلئ زورا ولغوا، وكان قيامهم سمرا ووترا ولعبا وضياعا.
في الثلث الأخير من الليل ووقت نزول الرب جل جلاله يتوجه الصائمون الأخيار إلى ربهم بالصلاة والذكر والضراعة والابتهال، بكل خشوع وخضوع وبكاء، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. في ذلك الوقت يتسابق الأشقياء إلى المقاهي والملاعب والطرقات، يقيمون سهرة الخيبة والندامة والحرمان، لغو طويل، وضحك مميت، قد جملوها بمزمار وتدخين وفعل سيئ مهين، ينشق الفجر وإذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون شهود.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له)) أخرجه الترمذي والحاكم وقال: "صحيح".
كم هي مصيبة أن تُجعل مواسم الخيرات أيام تسابق في اللهو واللعب وقاتلات الأوقات، أهذا حق رمضان يا صائمون؟! أهذا جزاء النعمة والإحسان؟!
كنا في مدة نشكو فئاما لا يعرفون ربهم إلا في رمضان ومواسم الرحمة، والآن نشكو طوائف كثيرة شقيت في رمضان وغيره، بل ربما كان شقاؤها في رمضان أعظم من غيره، والعياذ بالله. قبح الله أقواما ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، وكان رمضان عليهم شدة وبلاء ومشقة وعبءًا.
أيها الصائمون، دعونا نتأمل أحوال هؤلاء الصائمين، أهم صاموا على الجادة، أم أنهم على خلاف ذلك؟!
في مكان كذا وكذا عشرات المنازل، وتقام الصلاة في المسجد فلا يحضر سوى القليل في رمضان! خبرونا ـ يا مسلمون ـ هل يصح صيام بلا صلاة؟! وهل من زكاة الصيام التخلف عن الجماعة والمنازل ليست مساجد للرجال كما هو مشهور؟!
يا صائمون، هل يستقيم صيام آكل الربا ومن بنى بيته من أموال الناس بغير حق؟! وهل يزكو صوم مشاهدي الأفلام والمسلسلات التي طفقت بنساء سافرات وكلمات فاسدات؟! وهل من صام على غيبة ونميمة كان صومه سويا؟! روى أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). إن كان صومنا كحال أولئك فوالله ليس لربنا حاجة في تركنا الطعام والشراب.
يا صائمون، من يمكث على اللهو أو الدش أو السهر ساعات طويلة ونهاره نوم في نوم هل يقرؤون القرآن؟! هل ختموه هذه الأيام؟! والله، إن ترددهم على المقاهي والأرصفة والسكك أكثر من ترددهم على المساجد. أما صلاة التراويح فالسنة المقتولة، أناس زهدوا في فرائض ومهمات كيف يقومون بنوافل ومستحبات؟! قال : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم ذنبه)) أخرجاه.
تالله، إننا لمن المقصرين، وفي ثواب الله من الزاهدين، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الفضلاء، إن من أسرف أول الشهر وغفَل لا يضيع آخره الذي هو لبه وروحه وخلاصته. أيام فاضلات مباركات، وفيها ليله مباركة عظيمة، ليلة القدر التي هي فوز الدهر لمن أقامها إيمانا واحتسابًا. في المتفق عليه عن أبي هريرة قال : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
والله، إننا لقوم مساكين، ذُكرنا برمضان وفضله فتكاسلنا، ثم العشر فقصرنا، ثم أوتارها فشُغلنا، فماذا بقي بعد؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم أيقظ غفلتنا، واشف سقمنا، واجبر كسرنا، وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
أيها المسلمون، إن ما بقي من رمضان يتطلب منا رجوعًا إلى الله تعالى وإحداث توبة ومزيدا من الجد والعمل والإكثار من الطاعات، حتى يُختم لنا رمضان بخير.
اليوم الخامس والعشرون! يا من شغل عن الطاعة وتكاسل عن العبادة وشح بالصدقة، بقي أيام قلائل، ستنقضي كلمح البصر، وأنت تزهد راكضا وراء حطام الدنيا استقبالا للعيد، فتجمل أبناءك، وتجدد بيتك، وتجتهد في تحسينه وتجميله لكي يسر الناظرين.
رب صائم يروم الجنة وقد جدد بيته وجمله بعشرات الآلاف وشح بريالات في رمضان، ألا تريد ـ أيها الصائم ـ السلامة والنجاة يوم القيامة؟! يقول : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه عن عدي بن حاتم، وفي المتفق عليه عن حارثة بن وهب قال: سمعت النبي يقول: ((تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس نقبلها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها)) ، وفيهما عن عائشة أن رسول الله قال: ((أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك)).
أيها المسلمون، إنها لنذارة شر أن يتشاغل الإنسان عن هذه الأيام الطيبات الفاضلات، وإنها لأمارة خزي وخسران أن يقضيها الصائم في اللهو واللعب ولا يعي فضلها، وما فيها من الخير الجزيل.
يا أيها الذين آمنوا، ألم يدعكم ربكم إلى عبادته والتقرب إليه؟! تذكروا أنكم في زمن المهلة، قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، يومئذ تتذكرون، كم من رجل شيّد دارا فقضى قبل أن يسكنها، وكم من إنسانٍ جمع أموالا فمات قبل أن يهنأ بها. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ. [الأنفال:20-22].
إن العقلاء هم الذين يعظمون خالقهم ويوحّدونه، ويعملون بمقتضى أوامره ونواهيه الشرعية؛ لكي تتم حياتهم وتصفو قلوبهم وتزكو نفوسهم؛ إذ لا زكاة لهم ولا حياة إلا بالاستجابة لربهم وخالقهم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4818)
المدرس
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
27/5/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيمة المعلم. 2- الرسول المعلم الأول. 3- السيرة النبوية مدرسة تربية وتوجيه وإصلاح. 4- وصايا للمعلمين. 5- صفات المعلم الناجح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أيها الأخيار، أيها المربون، هل سمعتم بموظف يمكث مع أبناء المسلمين ساعات طوال؛ يعلمهم السنة والقرآن، والرياضيات والكيمياء، يعيش أفراحهم وأحزانهم، ويحسن إلى مجدهم، ويؤدب مهملهم، يقوم مقام الوالد في التربية والتوجيه، يغرس الأدب الحسن والخلق العالي، يعلمهم الفضيلة، ويجنبهم الرذيلة، يكشف النوابغ وينمي المواهب، ويزيد القدرات.
إن كان بارًا كان تلاميذه بررة، أدركوا نورًا وذكرًا وخيرًا، وإن كان ضارًا حملوا من خصاله السيئة صنوفًا وألوانًا. إن هذا الموظف قد استأمنته الأمة جمعاء على أبنائها وفلذات أكبادها، رأت فيه مثال المعلم الأمين والأب المشفق والداعية الناصح، فوهبته زهورها في أطباق من ذهب، سيماهم البراءة الصادقة والكلمة العذبة والبسمة الجميلة.
إن هذا الموظف قد توافرت له أسباب الإصلاح ومقوماته، فهو ثقة وفوق الثقة عند الآباء والأولياء، والتلاميذ راغبون متشوقون، والوقت معهم طويل، والعقول صاغية نقية، تنتظر ما يُملى عليها وما يقدم لها.
إنه يؤسس التوحيد وينشر الحق، ويربي ويهذب، ويأمر وينهى، قد جمع الله ذلك كله، والله إني لأعجب غاية العجب من جلالة هذه الوظيفة وضخامة محتوياتها وأسرارها.
لقد تقلد وظائف الرسالة ومهمات النبوة.
قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد الْمعلم أن يكون رسولا
أَعلمتَ أشرف أو أجلَّ من الذي يبني وينشئ أنفسًا وعقولا
سبحانك اللهم خيرَ معلم علمت بالقلم القرون الأولى
أرسلتَ بالتوراة موسى مرشدًا وابن البتول فعلّم الإنجيلا
وفجَّرت ينبوع البيان مُحمدًا فسقى الْحديث وناول التنزيلا
إنه المعلم مربي الأجيال ووالد النشء، وقدوة التلاميذ ومثال الناصحين، إن قال قيل بقوله، وإن تكلم أُنصت لكلامه، قد تلقى الجميع كلماته بالقبول التام، ولهو خليق أن يسمع له إذا أدى أمانة ما يحمل وما تحمل.
معاشر المسلمين، لقد بعث الله رسوله في أمة سيطرت عليها الجهالات ومزقتها العصبيات، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا، فصنع ـ بإذن الله ـ أُمة رائدة حيّة، حاملة الهداية للبشرية أجمع، وضعت منهج العلم والتعلم والتفقه، فقد ضربت أطناب علمها وحضارتها مشارقَ الأرض ومغاربها.
ولقد وصف الله تعالى نبيه محمدًا بأنه معلم فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
وما أجمل ذلك الوصف وأبر ذلك القسم الذي نطق به معاوية بن الحكم السلمي كما في الصحيحين: فبأبي هو وأمي، والله ما رأيت معلمًا أحسن تعليمًا ولا تأديبًا منه.
أيها المسلمون، إن في سيرة النبي قواعد عظيمة وأسسًا متينة، يرتكز عليها علم التربية والتعليم، إنك تلحظ في هذه السيرة النيرة الحض المكثف على العلم والتعلم، وتطالع فيها التربية الجادة المثمرة، وتقرأ فيها الإرشاد الناضج بمختلف الوسائل التعليمية والتربوية. إنكم تظفرون في هذه السيرة المباركة بأصل تربوي كبير أغفله كثير من المربين والموجهين، ألا وهو الأدب والخلق.
كم هو قبيح ـ أيها التربويون ـ أن نخرج طلابًا يضبطون الدروس ويعون العلوم وقد تجرّدوا من الآداب والأخلاق.
إن السيرة النبوية ـ يا مسلمون ـ مدرسة تربية وتوجيه وإصلاح، فاقرؤوها فهي من خير ما قرأتم، وتعلموها فهي من أجلِّ ما تعلمتم.
أيها التربويون، اقرؤوا السيرة النبوية واستنيروا بها، وأفيدوا منها في الحياة كلها. وإنه ليؤسفنا بحق أن تكون ثقافة المعلم بقايا المقررات أو حارقات الأوقات، ولا يقرأ في شيء من ذلك، بل حتى في مجال تخصصه يصبح صفرًا إذا خرج عن المقرر.
وفي مجلة المعرفة الرائدة الصادرة عن وزارة المعارف ثقافة نافعة وفوائد هامة للمعلم، وفيها تصحيح لكثير من المفاهيم الخاطئة، ودعوة للقراءة والبحث والمشاركة، وفتح لباب الحوار والنقاش المنضبط. فلتكن ـ أيها المعلم الواعي ـ قريبًا منها ومنتفعًا بها، فهي على جادة السلامة والسلام، فشكر الله للمسؤولين اهتمامهم، وجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
أيها المعلمون، إن إعداد الجيل إعدادًا تربويًا صحيحًا لا يكون بالتعليم والتدريس فحسب، بل يكون بالعلم والقدوة والأخلاق ومحاسن الآداب؛ ولذلك ينبغي أن تكون مهمة المعلم أمرًا آخر أكبر من مجرد نقل المقرر إلى أذهان التلاميذ، أو ختم المنهج الدراسي في نهاية العام، أو تصحيح أوراق الإجابة، لينام بعد ذلك قرير العين، ظانًا أنه قضى رسالته التعليمية.
ألا تحب ـ أخي المعلم ـ أن تنقذ شابًا من براثن الشهوة إلى سبيل الطاعة والفضيلة؟! ألا تحب أن تبني تلميذًا بناءً علميًا وخلقيًا بحيث يحمل هم دينه وأمته؟! ألا يسوؤك أن تكتظ الشوارع والمقاهي بشباب الإسلام ممن تدرسهم أنت في حين يقلّ عددهم في المساجد والمحاضرات؟! ألا تحترق عندما ترى أبناء بلادنا يركضون وراء التفاهات والتقاليد الغربية، فلبسة خليعة ولفظ بذيء وفكر منحط؟! ألا تحب أن تتوالى عليك الدعوات المباركات والكلمات العطرات إذا كان من تلاميذك عالم فذ وطبيب حاذق أو داعية مؤثر ومسؤول أمين؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب:70].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن وظيفة التعليم لا تنتهي إلى حد تطبيق النظام وإنهاء المقرر ثم الاختبارات وفهم التلاميذ أو لم يفهموا وانتفعوا أو لم ينتفعوا، كلا، بل إنها وظيفة جليلة ومهمة كبيرة؛ إذ إنها وظيفة المرسلين وطريق المصلحين ومنهاج الداعين.
إن المدرس القدوة هو الذي يصحح نيته ويطهر طويته عند الدخول إلى هذه الوظيفة حتى يتم له أجره ويُكتب له جهده ونصبه حسنات متضاعفات عند الله تعالى، قال الحافظ ابن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم مع طلبته: "الأول: أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجهَ الله تعالى، ونشر العلم ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه" انتهى.
إن النية الصالحة مع كونها شعورًا داخليًا إلا أنها تمثل عاملاً يضبط سلوك المعلم، ويفرض عليه رقابة داخلية وخشية روحية، تنعكس على سلوكه الخارجي، فينتج عن ذلك إتقان العمل وحفظ الأمانة وصيانة التلاميذ.
إن المعلم القدوة الناجح لا يحول العملية التربوية إلى مجرد تمثيل مظهري للأنظمة، بل إنه مع تطبيقه للنظام يجعله وسيلة إلى ما هو أهم منه؛ من بناء الجيل وتربية النشء وصياغة المدرسة وفق فريضة الله المطهرة، كما هو في سياسة التعليم في المملكة.
إن المعلم الناجح هو الذي يحرص على الوصول إلى قلوب الطلاب والتأثير فيهم، وأن يقيم معهم جسور المحبة والإخاء، فيكسبهم؛ إذ ألفهم فألفوه، وأحبهم فأحبوه، لما رأوا فيه من حسن التعامل وطيب الخلق والفكر النقي والقدوة الحسنة.
أي خيانة للتعليم والتربية عندما يدعو المعلم للباطل، فينصح بسماع الأغاني وقراءة الفكر السخيف وتمجيد ذوي التعاسة والسفاهة النائين عن الخلق والفضيلة.
وكم هو مؤسف أن يدعو المعلم لصلاة الجماعة ولا يشهدها مع المسلمين، أو يُرى مسامرًا للسفلة في مقاهي الخاملين وأرصفة الصائعين. وكم هو مؤسف أن تنصح المعلمة طالباتها بالحجاب والحشمة ثم تُرى في قميص سافر، قد بانت أعضاؤها ومفاتنها.
إن المعلم الناجح هو الذي يأسر قلوب تلاميذه بحسن تدريسهم وكريم أخلاقه وصدقه ونبله وتواضعه الجم، فيحبهم ويحسن إليهم ويشجعهم ويُعلي هممهم ويفتح لهم دروب الحق والهدى والنور، ثم هو مع ذلك لا يحتقرهم ولا يترفع عليهم، ولا يُهينهم، بل يعتقد أنه معلم مُربٍ داعية هادٍ ناصح مشفق.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4819)
تحايا رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
29/8/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف يستقبل الشهر الكريم؟ 2- حكم التهنئة بقدوم الشهر. 3- الحث على الاجتهاد في الخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
معاشر المسلمين، إن الأمم والشعوب لتبتهج بمقدم وفودها وأعيادها وأفراحها، وإنها لتحيي وتضاعف التحيات على قدر جلالة الضيف وعظمته ومكانته. ونحن ـ معاشرَ المسلمين ـ لنا مواسم وأعياد نفرح بحلولها، ونسر بإدراكها وبلوغها، فها هو شهر رمضان دنت أنواره واقتربت أفراحه، وإنكم إذ تحبون رمضان وتعظمون التحية فإنكم تعبرون عن مدى السعادة وبالغ المحبة التي تحملونها لرمضان. فما تحايا رمضان؟ وكيف نعظمه ونستقبله؟
إن رمضان شهر جليل متواضع لا يُحيا بحفلات ولا مهرجانات، وهو موسم سخي لا يكرم بماديات وأكلات، وهو شهر نزيه لا يُحب السهرات ودق الطبول والسفاهات، فإذا كانت تلك تحايا الناس لوفودهم وأحبابهم فإن رمضان تحاياه أجناس سامية وضروب فائقة عالية، فيها صدق التحية والتعظيم وروح الإجلال والتقدير، فتعظيمكم للزائر والحبيب لا يكون بالتصنع والتكلف، ولا يكون بالشعارات والخارقات، وإنما يكون بالأمور الجادات والأعمال العظيمات التي تبين عقلية أصحابها ورشاد أربابها.
فديتك زائرا فِي كل عامِ تُحيَّا بالسلامة والسلامِ
و تُقبل كالغمام يفيض حينا ويبقى بعده أثر الغمامِ
وكم في الناس من كَلِف مشوقٍ إليك وكم شجيٍّ مُستهامِ
بَني الإسلام هذا خيرُ ضيفٍ إذ غَشي الكريم ذُرا الكرامِ
أيها الإخوة، إن بزوغ رمضان وإشراقة جلواه سرور عباد الله المؤمنين وبهجة قلوب المتقين، سرهم نوره، وأبهجهم حلوله، وأسرهم فضله وثوابه، فلا مكان للملهيات في رمضان، ولا مقام للأشغال في زمانه. نأت الأعباء والأشغال، ورحلت اللذائذ والمباحات، وطوي الكسل والوقود.
الأمر جد وهو غير مزاحِ فاعمل لنفسك صالحًا يا صاحِ
أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أنس أن النبي قال: ((إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم)). إن ذوي الألباب يعطون التحايا لرمضان لعلمهم بفضله، ويفيضون التهاني إليه توقيرًا لحقه وعرفانا لزمانه. إن زمن رمضان أمسى عندهم كنزًا ثمينًا ودرًا متينا، رجح فضله، وغلا سعره، وعز نظيره، فهل يجوز بيعه وإهداره وإضاعته، كلا والله. إنهم يحفظون لرمضان وقاره، ويعطونه حقه ومقداره، ولا يرضون إساءته وإضراره.
يا مسلمون، إن تحية تُزف لرمضان هي إجلال زمانه، وتعظيم موسمه وأيامه، والبدار الصادق إلى الأعمال الصالحة بكل همة وحزم ومجاهدة، والحرص على استغراق الزمان بالطاعات الفاضلة والطيبات المباركة، سالكين بالنفوس القصد والاعتدال مع التدبير والتنويع. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تضع له عليها متاعه صدقه، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) متفق عليه.
عباد الله، إن تحاياكم لرمضان ركناها الصدق والجد، فليست تحية رمضان السرور بمجيئه فحسب، بل لا بد من إيفاء التحية وتزكيتها بفيض من الأعمال الصالحة عظيم، واجتهاد في نيل الحسنات كبير، حينها تصدق التحية ويسمو مضمونها وتعظم بركتها.
وفي هذه الأزمنة تدّعي طوائف كثيرة سرورها وغبطتها بحلول رمضان الخير، لكنها لا تعقب هذا السرور والابتهاج بالمبادرة في تحصيل الثواب، فيفرحون به في أوله، ثم يعودون إلى سيرتهم الأولى، خائضين في اللغو، عاكفين على اللهو، ضاربين في الكسل. يا ليتهم صانوا أنفسهم ثلاثين يوما، وزكوها أياما معدودات، ووطنوها على الخير هذه المدة الوجيزة، فإن الزمان تنصرم ساعاته وتكثر نكباته، والحركات مكتوبة والأعمال محفوظة.
يُروى أن إعرابيًا وعظ ابنًا له فقال: "لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تُعّد عليك، والأنفاس تعد منك، أحب أمريك إليك أردُّهما بالمضرة عليك".
أيها الإخوة الكرام، من التحايا الحسان التي يُستحب إذاعتها ونشرها إضافة إلى ما سبق قول المسلم عند رؤية الهلال الذكر الثابت الذي رواه أبو داود والترمذي وابن حبان عن طلحة بن عبيد الله أن النبي كان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير)). ولا بأس أن يبارك المسلمون بعضهم بعضًا بدخول الشهر الكريم، ويهنئوا الأهل والإخوة والأحبة، فإن هذه من محاسن الأخلاق ومن التهاني المباحة، ولا غضاضة في ذلك، فإن إدراك رمضان نعمة من الله على العبد، يضيء محياه بها نضرة وسرورا، وتذكيره بها أمر حسن، ثم إن التهنئة هنا مناسبة جدًا، فهي تعميم للفرح وتذكير بالعمل وتأهيل للنفس وتنبيه للأمة.
اللهم بلغنا رمضان، وفقنا للطاعة والإحسان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، إن التحايا الصادقة لرمضان مؤشر العمل والبذل والمنافسة، فأصدق التحيات ذريعة إلى العمل والسخاء والتضحيات، وأوفى التهاني آذنة بمزيد الشعور والاهتمام والمحاسبة، فكل تحية صادقة طريق لهمه حارقة ونفس مجاهدة مثابرة، وبقدر الصدق والجد والاهتمام تبلغ الروحُ منازل الثواب الأكرم والذكر الأدوم والفضل الأحسن والأنعم.
ومن تحايا المؤمنين لرمضان تجريد النفس من كل العوائق والأشغال، وتصفيتها مما قد يعكر عليها راحتها وطمأنينتها، حتى تكون مهيأة تهيئة كاملة لدخول الشهر الكريم.
ومن التحايا المسارعة في الخير والتسابق في الطاعة، وهذه من كبريات التحايا وصادق المودات، فما إن يحل رمضان ويلمع سناؤه إلا والصالحون قد احتشدوا بمعالي الهمم وقوائم العمل وسواعد المبادرة، قد شغلهم حر البين والفراق وحب اللقيا والتلاق.
فرمضان أضحى في حياتهم رياضًا فائحة وجنانا زاهرة، ربَا فيها النور والسعادة، فساعة ينعم بحلاوة القرآن، وأخرى يهنأ بروائع العلم والحديث، ثم الفقه والحكمة والأدب، يتخللها منافع البر وصنائع المعروف.
وذكرنِي حلو الزمان وطيبه مجالس قوم يملؤون المجالسا
حديثا وقرآنًا وفقهًا وحكمة وبرًا ومعروفًا وإلفا مؤانسا
والنبي كان يعد أصدق التحايا وأجملها وأوفرها لرمضان، مسامرة للقرآن، وطول قنوت ودعاء، واجتهاد واعتكاف، ومضاعفة الجود والبذل وسائر الأعمال، فقد كان رحب الذراع طويل الباع، وفي رمضان صبر، أجود الأمة كفًا، وأنداهم يدًا، كالريح المرسلة، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
والسلف الصالح اقتفوا آثار الرسول واحتذوا مقاله ونحو فعاله، فجاءت تحاياهم لرمضان حاوية الإكبار بالغةً الإخلاص راسخة العمل.
أيها الإخوة، يتلقى المسلم رمضان، ويحييه ببر وبشر وجد واجتهاد في الأمر، مستشعرًا قوله : ((إذا جاء رمضان فتِّحت أبوب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين)).
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه...
(1/4820)
الرابحون والخاسرون في رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
29/9/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كره الناس للخسارة. 2- تجارة رمضان. 3- تميّز الرابحين والخاسرين في رمضان. 4- اغتنام السلف الصالح لرمضان. 5- الرثاء لحال الخاسرين في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها الناس، لا أظن أحدا منا يحب أن يفني جهده ويبذل وسعه في عمل تكون عاقبته الفشل والخسارة. تصور أنك ساهمت بمائه ألف ريال في مشروع تجاري ثم لم تلبث أن خسر المشروع، وذهبت أموالك أدراج الرياح، فإن كنت ممن يحزن ويضجر لفوات ماله وتجارته وضياع ربحه وصفقته فاحزن على فوات رمضان، وما خلفه من ربح وخسارة وسعادة وشقاوة.
أيها الإخوة، إن فترة رمضان كانت تجارة عظيمة ومشروعا ناجحا وثروة كبيرة، لا تُضاهَى ولا تجارَى، فتأملوا أحوالكم وأحوال الناس في رمضان.
في هذا الشهر الكريم ظهر رابحون وخاسرون وناجحون وفاشلون، فلقد أدرك الرابحون أهمية رمضان وفضله وجلالته، فعمروه بالخيرات والصالحات، وتقاعس الخاسرون فأرهقوه بضروب اللهو والسفه والضياع، فحصدوا الخيبة والندامة والحرمان.
لما سمع الرابحون: ((إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة)) سبحت أرواحهم في الطاعة والخير، فتوّجوها بمحاسن الخصال وفضائل الأعمال. ولما سمع الخاسرون ذلك حجبت غشاوة الباطل سرج النور، فمرّ كأي حديث عابر لا تفكُّرَ ولا تفكير.
هل يتجاهل الرابحون: ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ فلم يغفر له)) ؟! كلا، وهم أرباب التلاوة والخشوع والجود والخضوع. بينما الخاسرون طفحت بهم حلاوة الأسمار والأوتار، فباتوا على جيفة حمار، حالت دون ولوج الخير والأنوار.
أيقن الرابحون أن عمر رمضان عمر من أعمارهم، بفوزه يدركون شأن من سبقهم، ويعوّضون شيئا مما فاتهم. وغفل الخاسرون فالتهمتهم أسباب الغواية ومشاهد الخنا والخلاعة، فها هم يقلبون أكّفهم ويطوون باطلهم، مرضى القلوب، سود الوجوه، صفر الأجور، والعياذ بالله من ذلك.
باختصار، قفَل رمضان فكان الرابح هم أهل الذكر والقرآن والصلاة والإنفاق، وكان أهل الخسر أهل اللعب واللهو والسفه والباطل. ربح خاتمو القرآن ختمات ومُديمو الذكر والصلوات وباذلو الخير والصدقات، خسر أهل النوم والغفلات وحارقو الشهر بالسهرات وهاجرو الذكر والخيرات.
الرّابحون تنعّموا بلذة القرآن وحلاوة الصلاة وأنوار الصدقات، فما شغلهم عنها مال يجمعونه ولا شغل يصنعونه، فها هو سيد الرابحين الفائزين نبينا ، كانت الصلاة أنسَه وميدانَه، والذكر نزهته وبستانه، يقول: ((أرحنا بها يا بلال)) ، وكان إذا حزبه أمر صلى، ويقول: ((وجُعلت قرة عيني في الصلاة)). يصلي ركعات فلا تسأل عن حُسْنهن وطولهن، وكان أجود الناس بالخير، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.
وفي ترجمة تميم الداري رضي الله عنه، قال محمد بن سيرين: كان يقرأ القرآن في ركعة، وقال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يرددها ويبكي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]. وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام إلى الصلاة كأنه عود، وحدّث أن أبا بكر رضي الله عنه كان كذلك. وفي السير في ترجمة سُهيل بن عمرو خطيب قريش رضي الله عنه، قال الذهبي: "لما أسلم كان كثير الصلاة والصدقة، وخرج بجماعته إلى الشام مجاهدا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن".
ومن خبر سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله، السيد في العلم والعمل، فقد كان كاسمه بالطاعات سعيدا، ومن المعاصي والجهالات بعيدا، متمكّنا من الخدمة، حافظا للحرمة، قال أبو حرملة عن سعيد قال: "ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة". وعن عثمان بن حكيم: سمعت سعيدًا يقول: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين عاما إلا وأنا في المسجد".
وفي ترجمة أبي إسحاق السبيعي أنه قال: "يا معشر الشباب، اغتنموا"، قال: ما مرت بي ليلة إلا وأقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة، وإني لأصوم الأشهر الحرم وثلاثة أيام من كل شهر والإثنين والخميس".
وفي ترجمة عثمان رضي الله عنه الإمام القانت الجواد أنه اشترى للمسلمين بئر رومة بأربعين ألف درهم، وأنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم. ويروى أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنه خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوما إلى المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان رضي الله عنه: هو لك ـ يا أبا محمد ـ معونة على مروءتك.
وفي ترجمة طلحة الفياض رضي الله عنه قال الحسن: باع طلحة أرضا له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرِقًا من مخافة المال حتى أصبح ففرقه.
وفي ترجمة علَم المجاهدين وأبي المساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال أبو هريرة: كنا نسمي جعفر أبا المساكين، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئا أخرج إلينا عكة أثرها عسل، فنشقّها ونلعقها. وفيه يقول أبو هريرة كما عند أحمد والترمذي بسند جيد: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب، يعني في الجود والكرم.
وقال الذهبي في ترجمة الأمير المجاهد قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما سيد الخزرج وابن سيدهم، قال: "وجود قيسٍ يُضرَب به المثل، قال يحيى بن سعيد: كان قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره مع النبي ، وكان إذا نفد ما معه تدين، وكان ينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد، وقيل: وقفت مع قيس عجوز فقالت: أشكو إليك قلة الجُرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية! املؤوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا. وروي أنه مرض رضي الله عنه، فاستبطأ إخوانه عن عيادته، فسأل عنهم فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا فنادى: من كان لقيس عليه دَين فهو في حلّ منه، فكُسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده".
لو كان يَقعدُ عند الشمس من كرمٍ قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
ومن جود بعض الأمراء الكبار الذين قيل فيهم: "والله، إن كانت السفن لتجري في جوده"، ومن أخباره أنه مر في طريق البصرة بأعرابية، فأهدت إليه عنزا فقبلها، وقال لابنه: ما عندك من نفقة؟ قال: ثمانمائة درهم، قال: ادفعها إليها، قال: إنها لا تعرفك يرضيها اليسير، قال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير. وكان يقول: إن خير المال ما قضيت به الحقوق وحملت به المغارم، وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني. وحكي أنه قدم عليه قوم من قضاعة من بني ضِنّة فقال رجل منهم:
والله ما ندري إذا ما فاتنا طلب إليك من الذي نتطلّبُ
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجِدْ أحدًا سواك إلى الْمكارم يُنسَبُ
فاصبر لعادتنا التي عوّدتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهبُ
فأمر له بألف دينار، فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
ما لي أرى أبوابهم مهجورةً وكأنَّ بابَك مجمعُ الأسواقِ
حابوك أم هابوك أم شاموا الندى بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقا والمكرمات قليلةُ العشاقِ
ولّيت أنعمكَ البلاد فأصبحت تُجبى إليك مكارمُ الأخلاقِ
مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الصائمون، ما مضى من أخبار هي نماذج ربح وفلاح، حازها الرابحون المفلحون الذين قدَّروا الوقت والزمان، وحفظوا النفس والجنان، فضرب كل واحد منهم في باب يقربه إلى الله، فمنهم رابح في التلاوة، وآخر في الصلاة، وآخر في الجود والصدقة، طرقوا محاسن الأمور فبقيت محاسن لهم تحتذى وتروى.
أما القائمة الأخرى السوداء فهي بمثابة العار والشنار والمصائب على أربابها. أما يحزنكم إعراض صائم عن ذكر الله والتفاته إلى ما يغضب الله؟! أما يحزنكم أن بعضهم لم يصل التراويح، وفي وقت القيام تجده في مقهى أو ملعب أو سفاهة كأنه لا يعرف رمضان، ولا يعرف فضله وثوابه؟! ألم ير هؤلاء مصائر الناس، وكيف تخطفهم المنايا والنكبات؟! نعم صدق من قال:
الناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحَنُ
وقول ربنا أبلغ وأجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ [الأنبياء:1]. وفقنا الله وإياكم للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/4821)
قيمة الوقت وإطلالة رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
28/8/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حالنا مع الأوقات. 2- الوقت هو الحياة. 3- نماذج رائعة لسلفنا الصالح في قيمة الوقت والزمان. 4- فضل شهر رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها السادة الأعزاء، بات الوقت في حياة كثير من المسلمين أرخص السلع وأوهن الأثمان وميدان اللهو والضياع، يعمد كثيرون إلى أوقاتهم فيقتلونها بالحارقات والمغريات والسفاهات. جفَّت عقولهم فهانت أوقاتهم، وسقطت أهدافهم فضاعت ساعاتهم، وضعفت نفوسهم فغُبنت أزمنتهم. لم يَعُد للجد في حياتهم مكان، ولا للفائدة في أوقاتهم عنوان، ولا للطموح عندهم قدر وميزان. جِدّهم لذائد وشهوات، وفائدتهم أخبار هشة، وطموحهم مرح زائد وأفراح. صارت الأوقات مستنقعًا للملهيات، يطول الحديث الفارغ، ويشمخ السمر المهين، وتعظم السهرة التافهة.
أصبحت حياة الشباب في ميادين السفه، وأضحى ذوو الشيب والوقار بُعداء عن الخير والأذكار، وصارت النساء أسيرات الزينة الغرّاء. يحفظ الإنسان في حياتنا المعاصرة مالَه ومتاعَه وسيارته ويضيّع وقته وحياته! يجادل على بقاء المال ونمائه ويستهين بالزمان وساعاته ولحظاته! يَعُدُّ الدنانير عدًا ويزيد الأوقات حسرةً وكدا!
من الذي يجعل الوقت والزمان أغلى الأثمان ويصونه عن التفاهة والخسران؟! هل سمعتم بمن ينام في اليوم بضع عشرة ساعة ومن يحيي الليل على السمر والإضاعة؟! وهل رأيتم قرين الفضائيات من الصبح إلى المساء غير مبالٍ بالساعات والصلوات؟!
أضحى المثقفون يَهرِفون بما لا يعرفون، ويقرؤون ما لا ينتفعون، ويتحدثون بالسمج الطويل والحديث الهزيل والقول الكليل. أين فينا حراس الزمان وحماة الساعات وصناع الأوقات الذين جعلوا أوقاتهم أعلى قيم حياتهم ورفعوها إلى أعاليها وصانوها من اللهو والهزل والتعاسة؟!
إن الوقت ـ يا مسلمون ـ هو الحياة، أقسم الله تعالى به لعظمه وشرفه ومكانته، قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (العصر هو الزمن).
إن هذا الزمن هو موضع الخير والشر، ومستودع السعادة والشقاوة، وهو عز الإنسان أو ذله، فيه أحياء وأموات، وسعداء وأشقياء، ويا خيبة من حرقه بالمعاصي والموبقات.
والوقت أنفسُ ما عُنيتَ بِحفظهِ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
أيها الناس، لقد غُبنَ كثير من المسلمين في أوقاتهم، تجاوزتها الغايات النبيلة، وفاتتها المقاصد الحميدة، همّهم لذتهم، ووقتهم معالم راحتهم ورفاهيتهم وسفاهتهم. وإن هذا تصديقه الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: فالوقت منقضٍ بذاته منصرم بنفسه، فمن غفلَ عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفَوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُرد الأمس في اليوم الجديد؟! لا، وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:52]، ومنع مما يحبه ويرتضيه، وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه.
فيا حسراتٌ ما لي إلى ردِّ مثلها سبيلٌ ولو رُدّت لهانَ التحسُّرُ
والواردات سريعة الزوال، تمر أسرع من السحاب، وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذبين في النار: ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75].
أيها الإخوة الفضلاء، لقد مرَّ على هذا العالم أقوام عرفوا أهمية الوقت، وأدركوا قيمته، فعظموه غاية التعظيم، وأرخصوا دونه كل المحاب والملاذ. عرفوا أن الوقت هو أنفس اللذائذ وأحسن الطيبات، عرفوا أن الوقت نعمة جليلة تأبى التلطخ بالملاهي والقاذورات، فجعلوا منه نديًا للخيرات والقربات.
وسوف أنقل لكم أقوالهم وأخبارهم وآثارهم في تعظيم الوقت وحراسته من العابثين واستغراقه في النافع المفيد. وإن من تمام العقل عندهم ورشاده عمارة الوقت بطاعة الله، وكل من أضاع وقته زهدوا فيه وترحّموا على عقله وصوابه.
ليس عندهم في حياتهم مجال للسفاهات أو التعرف على دقائق الأمور، عرفوا الحق فأخذوه بقوة، وتقلدوه على حزمٍ واجتهاد، لم يشمت بهم الكسل، ولم يعرفهم العجز والخور، فلله درهم.
قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : (ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعملْ فيهما". وقال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابنَ آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضُك". وقال أيضًا: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد حرصًا منكم على دراهمكم ودنانيركم". وقال رجل لعامر بن عبد قيس أحد التابعين الصلحاء: كلِّمني، فقال له عامر: أمسكِ الشمس. نعم، أمسك الشمس فإن الزمن دائر متحرك، أمسك الشمس فالوقت سريع الانقضاء، أمسك الشمس حتى لا تكتب علينا حسرات.
يا مسلمون، إننا لنستمتع بالمطاعم والمشارب ولو طالت، وباللذائذ ولو أثَّرت وغيرت، فاسمعوا ما يقول بعض هؤلاء الصلحاء، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله: "أثقلُ ساعةٍ عليّ ساعة آكل فيها". وفي ترجمة حماد بن مسلمة البصري رحمه الله تعالى قال موسى التبوذكي: "لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن مسلمة ضاحكًا لصدقت، كان مشغولاً؛ إما أن يحِّدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي، وقد قسم النهار على ذلك". وقال يونس المؤدِّب: "مات حماد بن مسلمة وهو في الصلاة رحمة الله عليه".
وهذا الإمام أبو الوفاء ابن عقيل، وقد كان من أفاضل العالم وأذكياء بني آدم، كان يقول: "إني لا يَحلّ لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبصري عن مطالعة أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عَشْر الثمانين أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة".
ودخل أناس على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك؟ فقال: أصدقكم، كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. وجاء عابد إلى السَري السَقطي فرأى عنده جماعة، فقال: صرت مُناخَ البطاّلين، ثم مضى ولم يجلس. وعن الحسن قال: "ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم يقول: يا أيها الناس، إني يوم جديد، وإني على ما يُعمل فيَّ شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة".
قال ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور بما يعجز عنه البدن من العمل".
مضى أمسُكَ الماضي شهيدًا معدَّلاً وأعقبه يومٌ عليك جَديدُ
فَيَومُكَ إن أغنَيْتَه عاد نَفعهُ عليك وماضِي الأمس ليس يعودُ
فإن كنتَ بالأمس اقترفت إساءةً فثنّ بإحسانٍ وأنت حَميدُ
فلا تُرجِ فعلَ الْخيْر يومًا إلَى غدٍ لعل غدًا يأتي وأنت فقيدُ
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأخيار، يُهل علينا هذه الأيام شهر رمضان المبارك، هو نوع من الوقت والزمان، لكنه زمان خير وبركة، تضاعف فيه الحسنات، وتقال العثرات، وتستجاب الدعوات، فما أنتم صانعون فيه؟!
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا جاء رمضان فُتِّحت أبوب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصُفدت الشياطين)). وفي سنن الترمذي والنسائي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشر أقصِرْ، ولله عتقاء من النار، وذلك كلَّ ليلة)).
إن رمضان ـ يا مسلمون ـ زمانٌ لا يضاهيه زمان، جعل الله صيامه وقيامه سببا لمغفرة الذنوب ومضاعفة الأجور وتحصيل السعادة والحبور. إن رمضان يستدعينا للجد والعمل وترك التواني والكسل. إنه كما قال تعالى: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:184]. فجدوا في اغتنامها، وسارعوا في عمارتها بالصالحات، واحذروا تضييعها أو الغفلةَ عنها أو التشاغل بغيرها، وخذوا حذركم من نواب إبليس وأعوان الشياطين الذين يجعلون من موسم رمضان موسم لعب ولهو أو موسم ترفيه ومسليات، فيظل الصائم في نهاره ناظرًا للسخافات ويبيت مستأنسًا بالسهرات التعيسة.
يقول مدير البرامج بإحدى القنوات الفضائية في مقابلة صحيفة: "نريد أن تكون برامج رمضان لهذا العام مليئة بالجاذبية والإثارة والتنوع، نريد أن نستغل هذا الشهر الذي يرتفع فيه معدل المشاهدين بمقدار كبير لتقديم رسالتنا الإعلامية برؤية عصرية تناسب مرحلة العولمة الإعلامية والثقافية التي نشهدها".
أتدرون ـ يا صائمون ـ ما الجاذبية والإثارة والتنوع التي يقصدها؟! إنها جاذبية الدعارة والفحش والخنا المبثوث المصحوب بتنوع ثقافي، مرة في مسلسلات هابطة وصور عارية، ورياضة وطرائف وأضحوكات. كل هذه الأمور ستتضخم وتتعاظم في هذا الشهر الكريم شهر الرحمة والمغفرة؛ لكي يتقرب الصائم أثناء صومه بالمنكرات، ويحيي ليله بالموبقات، ويظل مستمتعًا طوال الشهر بالجديد والإثارة والجاذبية، فأين إيمانك؟! وأين عقولكم يا صائمون؟! روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
إن الصيام ليس صيام الأكل والشراب، بل إن الأعين لتصوم، وإن اللسان ليصوم، وإن الأذن لتصوم، وصومها البعد عن الحرام، فلا ترى الأعين المشاهد المحرمة، ولا تسمع الآذان الأصوات المنكرة، ولا ينطق اللسان الزورَ الخبيث.
أيها المسلمون، إذا صمتم فلتصم منكم أعينكم وآذانكم وألسنتكم، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، واحذروا تلطيخ الصيام وتكديره بهذه القبائح والمفسدات، فإن الله سائلكم ومحاسبكم.
وكم هي حسرة ومصيبة أن يُضيَّع رمضان في الملهيات، ويُستغرَق في المفطرات والمباحات دون تأمل ومحاسبة وإنابة.
روى ابن ماجه في سننه بسند حسن عن أنس أن النبي قال: ((إن هذا الشهر قد حضَركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرمُ خيرها إلا محروم)).
اللهم بلغنا رمضان، وجنبنا الغفلة والعصيان. اللهم أحي قلوبنا بطاعتك، واملأها بنورك وهدايتك، اللهم جنبنا الغفلات وموارد الهلكة والحسرات، اللهم زك نفوسنا، وارفع هممنا، واحفظ أوقاتنا. اللهم احفظ أوقاتنا من الضياع، وأيامنا من الغفلة، واجعل مقاصدنا في أوقاتنا عظيمة، وأعمالنا فيها صالحة كريمة.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك...
(1/4822)
رمضان شهر القرآن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, القرآن والتفسير
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
5/9/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على المسارعة في الأعمال الصالحة في رمضان. 2- رمضان شهر القرآن. 3- نماذج رائعة لسلفنا الصالح في الاجتهاد في قراءة القرآن والأعمال الصالحات. 4- كيف ندرك بركة القرآن؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
معاشر الصائمين، لقد وفقكم الله تعالى لبلوغ شهر رمضان وإدراك خيراته والتماس أنواره وبركاته. وإنها لفرحة عظيمة تغشى عباد الله المؤمنين، يضيء لها محياهم، وتشرق حياتهم، وتستنير قلوبهم، ولكن فرحة رمضان ـ يا مسلمون ـ عمارته بالأعمال الصالحة، وإحياؤه بالفضائل والطيبات، والاندراج في قافلة المسارعين والمسابقين في الخيرات، فإن ربكم تعالى يقول: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [البقرة: 148]، فسروركم برمضان يعنى امتطاءكم الجد والحزم وترك التواني والكسل والإقبال على الشهر في سرعة وتنافس، فإنه أيام معدودات وساعات محفوظات.
عباد الله، إن من ألوان المسارعة في رمضان قراءة القرآن وذكر الله، فالقرآن وثيق الصلة برمضان، فيه يعظُم ويتبارك، ويتضاعف الأجر ويتكاثر، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].
روى الترمذي والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه ـ يعنى صاحبه ـ ، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيُلبَس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارتق، ويزداد بكل آية حسنة)). وفي الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وابن السني في عمل اليوم والليلة عن معاذ قال: قال رسول الله : ((ليس تحسُّر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)).
يا صائمون، القرآن ربيع الأبرار ونور القلوب وحُداء الصائمين وروضة القانتين، وما طابت الحياة بغير ذكر الله، وإن أعظم الذكر أن يذكر الله بكلامه وخطابه وما خرج منه، أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51]. وإن لذائذ الدنيا لتهون عند لذة القرآن وفرحته وحلاوته، قل بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
أيها الصائمون، لقد كان صيام رسول الله مُزدانًا بقراءة القرآن ذكرًا وتلاوة وتدبرًا، فقد كان القرآن سميره وأنيسه، وميدانه وبستانه، يذاكره جبريل عليه السلام القرآن كل سنة، فيقف عند مواعظه ويتأمل أسراره ويتدبر معانيه وأحكامه. إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
ولقد أدرك السلف الصالحون والتابعون لهم سر عظمة القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظه وحلاوته، وفى المواسم الفاضلة يزداد التعلق ويشتد التسابق، وتشتعل الهمم والعزائم، وتبيت نفوس الصالحين في موكب القرآن هنيّة طيبة نديّة، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26].
أيها الإخوة، لقد كان للسلف والصالحين أحوال عجيبة مع القرآن، ننقلها إليكم لتكون لنا حافزًا إلى الخيرات وسائقًا شديدًا في طلب الدرجات.
قال عبد الله بن مسعود : (ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون).
وقال معاذ في مرض موته: (اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا غرس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات وظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر).
وقيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: كم تسبح في كل يوم؟ قال: مائة ألف مرة إلا أن تخطئ الأصابع.
وكان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين. وعن الحارث بن يزيد أن سُليم بن عِتر كان يقرأ القرآن كل ليلة ثلاث مرات. وعن ابن شوذَب قال: كان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظرًا، ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قُطعت رجله، وكان وقع فيها الآكلة فنُشرت.
وقال سلام بن أبي مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم القرآن في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة.
وفي ترجمة حمزة بن حبيب الزيات قال الذهبي رحمه الله: "كان إمامًا حجة، قيمًا بكتاب الله، عابدًا خاشعًا قانتًا لله، ثخينَ الورع، عديم النظير"، وروي عنه أنه قال: "نظرت في المصحف حتى خشيت أن يذهب بصري". وكان رحمه الله يُقرئ القرآن حتى يتفرق الناس، ثم ينهض فيصلي أربع ركعات، ثم يصلي ما بين الظهر والعصر، وما بين المغرب والعشاء، وحدَّث بعض جيرانه أنه لا ينام الليل، وأنهم يسمعون قراءته يرتل القرآن.
وعن نافع قال: لما غُسِّل أبو جعفر القارئ نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شكَ من حضره أنه نور القرآن، رحمه الله.
وفي ترجمة أبي بكر بن عياش رحمه الله قال الذهبي: "قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، وهذه عبادة يُخضع لها".
أحاديثُ لو صيغت لألهت بِحُسنها عن الوشي أو شُمّت لأغنت عن المسكِ
وقال شمس الأئمة في كتابه مناقب أبي حنيفة: "أنه كان يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، وفي رمضان كل يوم مرتين، مرة في النهار ومرة في الليل". وقال محمد بن مسعر: "كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن".
وقال وكيع: "كان الحسن وعلي ابنا صالح وأمهما جزؤوا الليل ثلاثة أجزاء، يختمون فيه القرآن في بيتهم كل ليلة، فكان كلّ واحد يقوم بثلثه، فماتت أمهما، فكانا يختمانه، ثم مات علي فكان الحسن يختم كل ليلة".
وقال الإمام النووي في شرح مسلم: "أبو محمد عبد الله بن إدريس الأودى، متفق على جلالته وإتقانه وفضيلته وورعه وعبادته، روينا عنه أنه قال لبنته حين بكت عند حضور موته: لا تبكِ، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة".
وقال يحيى بن معين: "أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن كل ليلة". وقال عمر بن علي: "كان يحيى بن سعيد القطان يختم القرآن كل يوم وليلة، يدعون لألف إنسان، ثم يخرج بعد العصر، فيحدث الناس".
وقال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، كل ذلك في صلاة". وقال الإمام أحمد: "عطاء بن السائب ثقة ثقة، رجل صالح، ومن سمع منه قديما كان صحيحًا، وكان يختم كل ليلة".
أولئك قوم شيَّد الله فخرهم فما فوقه ولو عظم الفخرُ
وفي ترجمة ابن عساكر رحمه الله قال ابن القاسم: "كان أبي مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة". الله أكبر! ما أعلاها من همم، وما أشدها من عزائم.
قوم أبوهم سنانٌ حين تنسبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وجنبنا الغفلة والعصيان. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، هكذا عرف السلف القرآن، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه. قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده. وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته". وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره". وقال عثمان : (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم). وقال ثابت البُناني رحمه الله: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة".
أيها الصائمون، إن بركة القرآن ومواعظه تُدركُ بالتفهم والتدبر، وليس بالهذ والاستعجال، فلقد قرأ أقوام القرآن وأكثروا منه فلم يجاوز تراقيهم. فاقرؤوا القرآن ـ يا مسلمون ـ مرتلين متدبرين متعظين، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وتأملوا أسراره، فما وقع في القلوب منه فرسخ نفع بإذن الله، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
يا مسلمون، إن هذا الشهر العظيم شهر القرآن وشهر الخيرات والبركات، فاحفظوه بالصيام، وزينوه بالقرآن، وجملوه بالقيام.
روى أحمد والطبراني بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فُيشفَّعان)).
وقال بعض السلف: إذا احتضر المؤمن يقال للملك: شُمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شُمَّ قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شُمَّ قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظنه حفظه الله عز وجل.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه...
(1/4823)
المعلم الأول
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
19/6/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرسول المعلم الأول. 2- وصايا للمعلمين. 3- صفات المعلم الناجح. 4- عوائق في طريق التربية والتعليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران102].
معاشر المسلمين، حينما اشتد الظلام واشتعل الضلال وصار الناس في جاهلية وشر، يعبدون الأوثان، ويأكلون الضعيف، ويتجاسرون على الحرمات، لا كتاب يردعهم، ولا نظام يحميهم، ولا نور يهديهم؛ بعث الله رسوله محمدًا لينتشلهم من الظلمات، وينقذهم النكبات، ويقودهم إلى الجنات. فكان مبعثه رحمة أشرقت لها الحياة، ومنارة استضاء بها الناس، ومعلَمًا اهتدت به الخلائق، فيا شرف المسلمين بهذه النعمة، ويا مغناهم بهذه الرحمة.
قد كانت الأيام قبل وجودنا روضًا وأزهارا بعد شَميمِ
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا ليلاً لظالِمها وللمظلومِ
لما أطلَّ مُحمدٌ زكت الرّبا واخضرّ في البستان كلُّ هشيمِ
وأذاعت الفردوس مكنونَ الشذا فإذا الورى فِي نضرةٍ ونعيمِ
أيها الناس، لقد كانت بعثة النبي للناس كما قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
كان في أمته تاليًا للقرآن، داعيًا لعبادة الله وحده، معلمًا للكتاب والحكمة، مزكيًا للنفوس، فهو المعلم الأول والداعية المجاهد الذي قرأ القرآن ووعظ به العالم، ودعا لفعل الخيرات وحذر من فعل السيئات، وكان في دعوته وتعليمه الداعية الصابر والأب المشفق والقيم الرحيم، يبتغى بدعوته رضوان الله تعالى، وليس جمع الأموال أو التعالي على الناس أو كسب الصيت والظهور.
علمه ربه فأحسن تعليمه، وهذبه فأحسن تهذيبه، فهبَّ منطلقًا عليه تاج التقوى والإخلاص، متدرعًا بالصبر والشجاعة، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
فدأَب عليه الصلاة والسلام على تعليم الناس دعوة الله تعالى، وسعى إلى تبصير العقول ومعالجة كل أنواع الجهالات، وكان يقول: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
وكان في تعليمه مجاهدًا مثابرًا، همُّه دعوته، ومُناه صلاح الناس، وبشراه انتشار النور والهداية، كما قال عنه ربه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: كأنك قاتل نفسك حزنًا على عدم هدايتهم.
فأين من يتحرق من الدعاة والمعلمين على ضياع الشباب وتدفق الناشئة على الملاهي والسفاهات؟! وأين من يرى هؤلاء التلاميذ مثل أبنائه، فيسعى لمصلحتهم ويتعب لنفعهم وهدايتهم؟!
لقد كان المعلم الأول يقول: ((إني لم أُبعث لعّانًا، وإنما بُعثت رحمة)) ، وإن هذه الرحمة لتمد جسور المحبة والإخاء مع التلاميذ، وتحرص على إصلاح قلوبهم وتبصير فهومهم وتنوير مسالكهم، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فهل أنت ـ أخي المعلم ـ تلك الرحمة الطيبة التي تلين للتلميذ وتلاطفه وتسلم عليه وتستمع لشكواه وتقضى حاجته؟! فقد قال : ((من لا يَرحم لا يُرحم)) أخرجاه في الصحيحين.
أيها الإخوة الكرام، إننا إذ نتحدث عن التعليم والتربية ما ينبغي لنا أن ننسى منهج القرآن والسنة في تعليمنا وتربيتنا، فهما معالم عظيمات يهتدي بها المربي في حياته، بل إننا لا نربي الأجيال إلا على العبودية لله تعالى، ونحاول أن نعد أمةً قانتة لله، تخشى ربها وتخاف يوم الحساب.
إن التربية الإسلامية تعني إعداد جيل مؤمن يحمل هم دينه وقضايا أمته. جميل أن نشرح النظريات، ونعلم العلوم إذا احتجنا إليها، لكننا لا نغفل عن تربية الجيل على التوحيد والهدى والخضوع لله رب العالمين، قال : ((كل مولود يولد على الفطرة)). وهذه الفطرة المسلمة تحتاج لمن يربيها وينميها ويتعاهدها بالسقي والنظر والمتابعة، حتى تكبر وتنمو وتنبت من كل زوج بهيج.
ما أسوأ أن يحسن المعلم عرض المناهج وإتمام المقررات مع الغفلة الشديدة عن العقول النابهة وعن إصلاح الأخلاق وعن التربية الإيمانية. ليس وظيفة المعلم هي سرد المعلومات والترتيب والتنظيم والتصنيف فحسب، وإنما هي بناء العقول وإعداد النفوس بتزكيتها وتعليمها ما ينفعها.
أيها الإخوة الكرام، كم هو قبيح أن يعتقد كثيرون أن التعليم مهنة من لا مهنة له، وينصرف إليه طلبًا للوظيفة وجمع المال، ولا يشعر بخطورة هذه المهنة وعظم شأنها. إن المعلم مع تقاضيه مرتبًا شهريًا لا ينسى كونه معلمًا بانيًا وداعيةً مصلحًا ومرشدًا أمينًا.
ليست مهنة التعليم وظيفةً تأكل منها ولا تحمل همها ولا تعي قدرها ولا تؤدي حقها، قد قال كما في الحديث الصحيح: ((إنما بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق)). وأنت ـ أخي المعلم ـ مبعوثٌ في المدرسة لكي تعلم مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وتثبت في الجيل روح الإيمان وحب القرآن، وتنشر رسالة هذه الأمة في هذه الحياة، وتذكرها بماضيها المجيد، وتبين لها عدوها من صديقها، في زمن قد تسلط فيه الأعداء.
والله، إن الإنسان ليعجب من هذه المهمة، وصدق من قال: "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، ومن الرسالة أن تكون قدوة للتلاميذ، مبادرًا للخيرات، وبعيدًا عن السيئات. ولا يراك تلاميذك فيما تنهاهم، فتهدم التربية وأنت لا تشعر، وتعكر الماء ثم تشرب منه.
والمعلم الناجح هو من يتواضع لتلاميذه ويحسن إليهم، ولا يتجبّر عليهم ولا يحتقرهم كما كان هو هدي المعلم الأول ؛ يتواضع لأصحابه، ويجالس الفقير والمسكين، وكانت تأتيه الأمة من نساء المدينة وتأخذه لحاجتها، ولا يتردد عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد)).
والمعلم الناجح هو المعلم المستظهر للأخلاق في شؤونه كلها، في أقواله وأفعاله وسائر تعاملاته، قال : ((إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)). فما أجمل أن يتجمل المعلمون بحسن الخلق المبني على حسن الكلام والتودد وحسن المعاملة، والصبر وبذل الندى والسماحة والمروءة، فقد كان حسن الأخلاق، ذا هشاشة وبشاشة، ليّن المعاملة، صابرًا باذلاً لجاهه ومعروفه، ذا مروءة تامة، وقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إن المعلم في الوجود كنخلةٍ تؤتِي مع الثمر الرطيب ظليلاً
يكفيه فخرًا إذ يقال: معلم فمعلم الأجيال كان رسولاً
والمعلم الناجح هو الذي يفجِّر الطاقات ويكشف المواهب ويصنع العزائم، وقد كان يراعي ذلك في أصحابه وينميه ويذكيه، وقد قال لعبد الله بن مسعود : ((إنك شاب معلَّم)) ، وصنع أسامة بن زيد للقيادة وقال: ((وايم الله، إن كان لخليقًا للإمارة)).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يجب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المعلمون، علمتنا مدارسنا ونحن تلاميذ: "مَنْ جَدْ وَجد ومن زرع حصَد، ومن سار على الدرب وصَل". فاجعلوا من رسالتكم التربوية همة عاليَة وعزيمة صادقة، تحيون بها الجيل وتقودونه إلى رحاب الهداية والسلامة، فكم من تلميذ استيقظ بتوجيه معلمه، وكم من تلميذ اتعظ بموعظة معلمه، وكم من تلميذ نبغ برعاية المعلم وحسن فطنته.
يا فضلاء المعلمين، اجعلوا رسالتكم حياة الجيل واستنقاذه من براثن الهوى والشهوة، وكونوا سدودًا منيعة تحفظ النشء من تيارات الفساد والتغريب.
ليس عسيرًا عليكم إعداد جيل قد فاض بالإيمان، يجاهد في الله حق جهاده، ويعي حال أمته وحاضرها المشحون بالرزايا والمشكلات. كما يعز علينا رؤية شبابنا في مستنقع الشهوة أو محبًا للغرب، مقتفيًا لآثارهم ويحرص على تقليدهم في الزي والشكل والمعاملة.
هل يسركم ـ يا معلمون ـ اتساع ثقافة الشابّ الرياضية والفنية وضعفها من الناحية الدينية والعلمية؟!
نعم، أعلم أن أكثركم سيقول: إن هؤلاء يطالعون الصحف ويشاهدون الفضائيات، والمعلم المسكين لا يملك إلا حصة واحدة، فما العمل؟! ونقول: إن هذا الزمان زمان صعب خطير، والإسلام يحارب حربًا شعواء بالغة الخطورة، يحارب في اعتقاده في مبادئه وأخلاقه، ويصرف شبابه إلى اللذة والسفاهة، حتى ينفصل عن دينه وأخلاقه، ويصير غير ملتفت ولا مهتم بجلائل الأمور وعظائمها. كذا هو منهج الصليبية الصهيونية، تفتيت هذا الدين وتدمير شبابه بالتفاهة الساقطة وبالمرأة العارية وبالموسيقى الفاتنة؛ لكي يحيا ويموت على هذا الفكر السقيم.
نعم المسألة خطيرة، والجهد المطلوب عظيم، فلا تيأسوا ولا تكسلوا، وتحلّوا بالعزيمة والصبر، ولا تحقروا من المعروف شيئا، وجدّوا في خدمة دينكم كجد هؤلاء الكفرة من النصارى واليهود الذين يجعلون دينهم القضية الكبرى في حياتهم، فيربون أبناءهم عقائديًا، ويشوهون صورة الإسلام في نفوسهم، وأنه العدو الحالي والقادم، فما أنتم صانعون يا معلمون الأفاضل؟!
اجعلوا رسالتكم إخراج جيل قرآني يتعشق المجد ويهوى البطولة، ويرتسم منهج أبي بكر وعمر وخالد وأسامة.
ليس عسيرًا علينا ذلك إذا ملكنا الصدق والأمل، وكنا على مستوى الهم والعمل والإصلاح. المهم أن لا نتذرع بالكسل، وأن لا نعتذر بالأشغال، وأن لا تلهينا الدنيا، قال مرة لأصحابه: ((إنما أنا مثل الوالد أعلمكم)). والوالد الرحيم هو الذي يطعم أولاده قبل نفسه، ويحزن لحزنهم ويسعد لسعادتهم، ويحنو عليهم ويرفق بهم.
فكونوا في التعليم كالآباء الصلحاء الذين يحزنهم فساد الأبناء، فينقطعون لتربيتهم، والدعاء لهم كثيرًا كثيرًا.
يا أيها المعلمون الفضلاء، لا تيأسوا ولو عظم الخطر، ولا تكسلوا ولو بعدت الشقة، ولا تضعفوا ولو اشتد العمل. لقد كتب الله لدينه النصرة والتمكين، فكن ممن شارك ولو بكلمة أو نصيحة، أو شجع أو دعم مشروعًا، أو أيقظ عقلاً، أو صنع موهبة، المهم أن لا تكون في قائمة الكسالى والمتقاعسين، فتكون ممن عيّرهم الله تعالى بقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4824)
أهل رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
15/9/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال السلف في رمضان. 2- انتصاف الشهر. 3- الحث على الاجتهاد في الطاعة والاستعتاب. 4- التحذير من تضييع رمضان. 5- التذكير بالمصابين والمنكوبين من المسلمين والحث على الإنفاق عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
معاشر المسلمين، إن لرمضان أهلاً يعرفون قدره، ويجلّون زمانه، ويسارعون فيه مسارعة الأبطال. هل سمعتم بسباق رمضان والجادين فيه؟!
لقد كان السلف قبلنا هم أهل العمل والمسارعة وأرباب الجد والمبادرة، وفي مواسم الخير يتضاعف جدهم وتعظم مسارعتهم، فلا يجعلون رمضان إلا موسم المضاعفة وزمن الجد والمبادرة. قد استهواهم رمضان بجماله، وأسرهم بعظيم ثوابه ونواله، كيف وهم قد وعَوا: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)) ؟! إنهم أناس زكت عقولهم، وصانوا أنفسهم، واستثمروا أوقاتهم، وسارعوا إلى مرضاة ربهم.
يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم)، وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته"، وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرق للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
قال ابن رجب في لطائف المعارف: "كان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع منهم قتادة، وبعضهم في كل عشر منهم أبو رجاء العُطاردي، وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان الحنفي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير المصحف، وعن أبي حنيفة نحوه. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام".
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي بكر بن عياش رحمه الله: "قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، وهذه عبادة يُخضَع لها".
وقال نافع: لما غسل أبو جعفر القاري نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك من حضره أنه نور القرآن رحمه الله. وفي ترجمة عبد الرحمن بن مهدي قال ابن المديني: كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن. وقال الذهبي: "عبد الرحمن له جلالة عجيبة، وكان يُغشى عليه إذا سمع القرآن".
وقال حمزة بن حبيب الزيات رحمه الله وهو أحد القراء السبعة: نظرت في المصحف حتى خشيت أن يذهب بصري، قال الذهبي: "كان إمامًا حجةً، قيِّما بكتاب الله، عابدًا خاشعًا قانتًا لله، ثخين الورع، عديم النظير". وقال فيه أيضًا: "وكان رحمه الله يُقرئ القرآن حتى يتفرّق الناس، ثم ينهض فيصلي أربع ركعات، ثم يصلي ما بين الظهر والعصر وما بين المغرب والعشاء، وحدث بعض جيرانه أنه لا ينام الليل، وأنهم يسمعون قراءته يرتل القرآن".
كذا ـ يا مسلمون ـ كان سلفكم الصالح رضي الله عنهم، عرفوا قدر رمضان فاحترموه، وأدركوا فضله فسابقوا فيه، فاسلكوا آثارهم، وتشبهوا بهم حرصًا وجدًا واجتهادًا، كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
أيها الإخوة الكرام، ها هو رمضان قد انتصف وتصرمت أيامه، رمضان الذي هنأنا أنفسنا به واستقبلناه قبل أيام ها هو يقطع شطر زمانه، فأين أنتم يا مسارعون؟! وأين أنتم يا سابقون؟! ليسأل كل واحد منا نفسه: ماذا حصل في خمسة عشر يومًا؟! هل كان من عمارها أم من الغافلين عنها؟ ! هل كان من المسارعين أم من الضائعين؟!
لقد أفلح أناس عرفوا قدر رمضان، فكانوا من عُبّاده وقوّامه، يقرؤون القرآن ويختمونه الختمات، ويستغرقون ساعاتهم في الذكر والتلاوة والعلم والصدقة والمعروف، أقبلوا على الطاعات وقد سمعوا المنادي: ((يا باغي الخير أقبل)) ، وكفوا عن الشهوات وقد سمعوا المنادي: ((يا باغي الشر أقصر)).
يا صائمون، ليزدد محسنكم من الإحسان، وليتأهب للعشر الأواخر الكريمات، وليكن أكثر عملاً وجدًا ومسارعة، وليتنبه غافلكم، وليتعظ مسيئكم، فإن الأيام منصرمة، والمنايا خطافة، والسعيد من اغتنم أيام زمانه قبل الحسرة والندامة، السعيد ذاك الصائم القانت الذاكر، من اهتبل الرحمات وبادر الباقيات الصالحات.
يا صائمون، قد أساء ـ وايم الله ـ ذاك الذي ضيّع رمضان وغفل عن رحماته ولم يبادر لحظاته، قال كما في الحديث الصحيح: ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ فلم يغفر له)).
أي وبال علينا إذا نحن ضيعنا رمضان ولم نغتنم جواهره وكنوزه؟! وا حسرتاه على عمرٍ يمضي سبهللا ونفس تعيش حياة تعيسة بلا موعظة ولا أذكار!
يروى أن أعرابيا وعظ ابنًا له فقال: "لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، أحبُّ أمر إليك أردهما بالمضرة عليك".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إخوة الإسلام، هل استمتعتم برمضان؟! وهل تلذذتم بطيباته؟! قال : ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقائه بربه)).
حين تهم بالإفطار تذكر أن هناك مسلمين صائمين، ولا يذوقون الطعام، ولا يجدون الفرح الذي تجده أنت. إخوانكم المسلمون في أكثر من بلد إسلامي يؤذون ويحاربون، وفيهم الصائمون، فماذا قدمتم لهم؟!
ذات مرة جاء إلى النبي قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العَباء، متقلِّدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله لما رأى ما بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى، ثم خطب فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] )) ، وقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] ، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، ـ حتى قال: ـ ولو بشق تمرة)) ، قال الراوي: فجاء رجل من الأنصار بصُرّة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجِزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كَومَينِ من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مُذْهَبة ـ أي: كالقصعة المذهبة بياضًا وسرورًا ـ، فقال رسول الله : ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء)) الحديث.
كذا يا مسلمون، أغيثوا إخوانكم المنكوبين في أفغانستان وفلسطين وكشمير والشيشان، أغيثوهم بكل ألوان الإغاثة، وجودوا عليهم بكل ما تملكون، فإنهم في أمس الحاجة إلى صدقاتكم ومعوناتكم.
تذكروا ـ يا مسلمون ـ أنكم إذا تنعمتم بالطيبات فإن هناك إخوانا لكم لا ينعمون ولا يتلذذون، إخوانكم في الأرض المحتلة فلسطين لا يذوقون حلاوة رمضان؛ تتسلط عليهم الخنازير اليهودية، وتفتك بهم في كل ساعة، فذاك شهيد، وذاك منكوب، وذاك سجين، وذاك مهدوم بيته ومشرد أهله، وإخوانكم في غاية الخطورة، والدعم قليل، والمسلمون يشاهدون ويتأمّلون، والله المستعان.
إن صدقة تبذلها في هذا الشهر الكريم تغيث بها ملهوفًا وتطعم جائعًا وتعين مجاهدًا وصامدًا هي كبيرة عند الله، فابذلوا ـ يا مسلمون ـ لإخوانكم المبتَلَين في فلسطين، فأنتم في موسم الجود والرحمة، ولا تقولوا: كثرت المآسي، ولا تحقروا من المعروف شيئًا، فإن صدقة يسيرة تقوي بها مسلمًا وتقتل بها يهوديًا وترفع بها للإسلام راية.
اللهم انصر إخواننا المسلمين...
(1/4825)
ماذا بعد رمضان؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النكوص عن الصالحات بعد رمضان. 2- الحث على الاستمرار على الصالحات حتى الممات. 3- علامة قبول الأعمال. 4- الحث على صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]
معاشر المسلمين، لقد كان الجد في رمضان جميلا، والمسارعة للخير بهية، والطاعة أخاذة. استطعمت النفوس حلاوة القرآن, وتلذذت بحسن القيام، وانشرحت بصنوف الخير والطاعات المختلفة. الأمة كلها كانت مبتهجة ومسرورة برمضان، فلقد تعلمت وتربت، وازدانت وسعدت؛ إذ في رمضان نفوس كبرت وهمم علت وعزائم اشتعلت، فأثمرت وأينعت، واهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.
ولقد كانت تلك الأيام أياما بهية غالية، من نفائس أيام المؤمنين، جرَت فيها أحاسيس حية ومشاعر صادقة، أثمرتها معالي الهمم ومسابقة النفوس الدائبة، فلا غَروَ أن تستهل العبرات وتشتد الحسرات أسفًا على فوات خير عظيم وسعادة صافية راضية.
فللّه أيام تقضت حَميدةً بقربك واللذات في المنزل الرحبِ
وإذ أنت فِي عينِي ألذ من الكرى وأشهى إلى قلبِي من البارد العذبِ
فلهفي على ذاك الزمان الذي غدت عليه دموع العين دائمة السكبِ
أيها الإخوة الكرام، جدَّ واجتهد في رمضان أقوام، وسارع وسابق أناس، فلقد توالت الختمات، وعظُمت الصدقات، وحسنت الصلوات، وصلحت القلوب والأرواح، ثم عقِب رمضان وهنت الهمم وفترت العزائم!
إنّ من المؤسف أن يحصل عقب رمضان لكثير من المسلمين ضعف في الخير وشغل عن الطاعة وانصراف للَّعب والراحة، فلقد وهنت الهمم وفترت العزائم وقلّ رُوّاد المساجد.
يخطئ كثيرون ويجهلون عندما يظنون أن السباق في الطاعة خاص برمضان، فيحصل لهم من العمل والجد والعطاء ما تتمناه الرغبات، فإذا رحل رمضان رحلت طاعاتهم وخيراتهم، وركنوا إلى ملاذهم وشهواتهم، وهذا أمر خطير ينبئ عن جهالة وسفاهة من أولئك القوم، فلقد طمسوا خيرهم وظلموا أنفسهم، والله المستعان.
ليعلم ذوو الألباب أن الطاعات والمسارعة فيها ليست مقصورة على رمضان ومواسم الخير فحسب، بل عامة لجميع حياة العبد، وإنما كانت تلك منحًا إلهية وهبات ربانية امتن الله بها على عباده ليستكثروا من الخيرات، وليتداركوا بعض ما فاتهم وحصل التقصير فيه.
وإنه لمن الجهل بمكان أن يجتهد بعض الناس في رمضان، فيرى طائعًا صالحًا مبادرًا إلى الطاعات، ثم إذا انقضى رمضان شوهد مقصرا مفرطا، كدأبه قبل رمضان، فهذا بلا ريب أنه غاشٌ لنفسه وماحٍ لحسناته وخيراته.
إن ذلك المسلك ليس من سمة العقلاء ولا نهج الأبرار الصلحاء. ذكر ابن رجب رحمه الله وغيره في لطائف المعارف أن قوما من السلف باعوا جارية، فلما قرُب شهر رمضان رأتهم يتأهبون ويستعدون له بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم. وباع الحسن بن صالح رحمه الله جارية له، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار، الصلاة الصلاة، قالوا: طلع الفجر؟! قالت: وأنتم لا تصلّون إلا المكتوبة؟! ثم جاءت إلى الحسن فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة! ردَّني ردَّني.
قال بعض السلف: "صُم الدنيا واجعل فطرك الموت"، الدنيا كلها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم. من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، وشاهد ذلك قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف:20].
أنت في دار شتات فتأهب لشتاتِكْ
واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتكْ
وليكن فطرك عند الله فِي يوم وفاتكْ
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إن المحاسن التي جنتها النفوس المسلمة في رمضان ينبغي أن تكون طريقا للزيادة والمضاعفة للجد والعلاء، وليس التقاعس والانفلات، ففترة رمضان كانت تربية إيمانية على الخير وفضائل الأعمال، ذاق حلاوتها أهلها الذين لا يحبون زوالها ولا ضياعها، وهذا مما يجعلهم يعقدون العزم على تثبيتها وترسيخها حتى تستحكم في قلوبهم وتخالط دماءهم، فهي زادهم وغذاؤهم وأنسهم وسعادتهم.
أيها الإخوة، إن من علامات الفوز والقبول في رمضان فعل الطاعات والمسارعة فيها، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد وفقه للعمل الصالح، وتطلعت نفسه إلى خيرات مثيرة، كما قال بعضهم: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها". فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
ولقد شرع لكم تعالى عقب رمضان قربه حميدة وسنة مباركة، فيها أجر عظيم وخير كريم؛ ألا وهي صيام الست من شوال. أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)).
وقد استحبّ صيامها أكثر العلماء، وقضوا أنها ليست بواجبة وليست من رمضان، وتصام بعد يوم الفطر، سواء متتابعة أو متفرقة، بعد أن يقضي المسلم أو المسلمة ما أفطره من رمضان؛ لأن المفطر من رمضان لا يصدق عليه صيام رمضان حتى يتمّه ويكمله، لينال أجر صيام الدهر.
اللهم وفقنا للخيرات وجنبنا الغفلة والحسرات، اللهم انصر دينك وعبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/4826)
عيد الفطر 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
1/10/1425
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة التكبير. 2- الفرح بالعيد. 3- التحذير من الاغترار بالدنيا. 4- التحذير من كيد الأعداء. 5- حقيقة العيد. 6- التحذير من جلساء السوء. 7- الحث على إصلاح ذات البين. 8- نصائح للمرأة المسلمة. 9- الحث على احترام الزوجة. 10- التذكير بالمضطهدين من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنه العيد جاء ضيفًا عزيزًا فاكتبوا بالْمداد فيض التهاني
كبروا الله علَّ تكبيرة العيد تضخ الضمير في الشريان
زلزلت فِي القديم إيوان كسرى هل تَهز الغداة كسرى الزمان؟
لما كانت قلوبنا تردد التكبير مع الألسن نصرنا بالرعب مسيرة شهر وأحكمنا الأمر. إن تكبيرنا في العيد إعلان لانتصار الدين على الدنيا والآخرة على الأولى، فالله أكبر من الدنيا ولذائذها، والله أكبر من كيد الأعداء وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ. لقد دخلنا الأندلس لما كان نشيد طارق في العبور (الله أكبر)، وبقينا فيها زمانًا كانت الهمة تغلب الشهوة. ذكر أهل السير أنه لما قدِّم لعبد الرحمن الداخل الخمر قال: إني لما يزيد في عقلي أحوج لا لما ينقصه.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
خرج النبي من مكة حتى إذا وافاه العيد في المدينة لم يشأ أن يطفئ البسمة أو يطبق الشفاه، بل أعلن فرحة العيد وأظهر سروره به، مع أنه يلاقي ما يلاقي من كيد الأعداء ومكرهم، لكنها العزائم القوية والنفوس الكبيرة التي تأبى إلا الفرح بفضل الله ورحمته وعظيم فيضه ومنته. أليس يهزك الفرح حين تسمع بانتصار المسلمين في مكان مع أن جراحاتهم في أماكن أخرى لا زالت ملتهبة ودماءهم لا زالت نازفه؟! إنها النفوس الكبيرة التي تجد متسعًا للفرح بفضل الله حتى وإن عظم الجرح. نقول هذا لأناس يريدون منا أن نقضم شفاهنا ونقتل كل فرحة ونطفئ كل بسمة، يريدون أن نحول أفراحنا إلى مناحة وإن كان ذلك منهم بحسن نية لكن هدي النبي أتم وأكمل. إن التزام المسلم للحزن والكآبة كلَّ حين من شأنه أن يقعد النفوس عن العمل وأن يوقف الدم عن الحركة والذهن عن الفكرة، فلا نستطيع بذلك أن نحرز نصرًا أو نشبع جوعه أو نغيث لهفة، وإنما نضع ضغثًا على إبالة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
احذروا الركون إلى الدنيا وكفران النعم؛ فإنكم تعيشون نعمة الأمن والصحة والغنى في الوقت الذي يُتَخَطف الناس من حولكم في حروب طاحنة ومجاعات قاتلة وأمراض فتاكة، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ. اشتهت زوجة المعتمد بن عباد ـ أحد ولاة الأندلس ـ أن تمشي في الطين وتحمل القرب، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ، فأمر المعتمد أن ينثر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك لتخوض فيه زوجته تحقيقًا لشهوتها، وتجري السنة الإلهية وتتهاوى حصون الإسلام في الأندلس بسبب اللهو والغفلة والإغراق في الشهوات، ليؤخذ المعتمد أسيرا إلى أغمات وتبقى بناته يتجرّعن كأس الفقر بعد الغِنى والذلّة بعد العزة؛ يغزلن للناس يتكسبن، حتى إذا علم المعتمد بذلك تمثل يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك فِي الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
من بات بعدك فِي ملك يسَرّ به فإنَّما بات بالأحلام مسرورا
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
احذروا كيد الأعداء فإنهم لا يريدون بكم خيرا، وقد أخبركم ربكم بدوام عداوتهم لكم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وأنهم لن يرضوا عنكم إلا بانسلاخكم عن دينكم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. لقد نطقوا بالحقد قديما وحديثًا، قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، يقول "جلادستون" رئيس وزراء بريطانيا سابقًا: "ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق".
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
العيد استمرارٌ على العهد وتوثيق للميثاق. فيا من وفّى في رمضان على أحسن حال، لا تغير في شوال. ويا من أدرك العيد، عليك بشكر المنعِم والثناء عليه، ولا تنقض غزلاً من بعد قوة وعناء، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92]. العيد بقاء على الخير وثبات على الجادة واستمرار في الطريق، قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت مع سفيان يوم العيد فقال: إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر. ورجع حسان بن أبي سنان من عيده فقالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: ما نظرت منذ خرجت إلا في إبهامي حتى رجعت. هكذا فهم السلف العيد، لم يجدوه فرصة للنظرات الخائنة وتقلبٍ في المرد وأعين الغيد لا، "ما نظرت منذ خرجت إلا في إبهامي"، انشغال بالنفس عن الناس وتحديد لمحل النظر والانشغال به عن غيره؛ حتى لا يطير البصر هنا أو هناك. فاحذر الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة، فإن ذلك علامة مقت وخسران، قال يحيى بن معاذ: "من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود".
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
حذار حذار من جلساء أصحاب السوء واصطحاب آلات اللهو في المتنزهات والاستراحات والعكوف عليها، فعن عمران قال: قال رسول الله : ((يكون من أمتي قذف ومسخ وخسف)) ، قيل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟! قال: ((إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور)). حذار من جلساء السوء الذين لا يعينون على خير ولا يرشدون إلى طاعة، احذر أن تحضرَ مجالس لهوهم وغفلتهم فتكون ممن كثّر سوادهم، فقد جاء عن ابن مسعود قال: (من كثّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريكَ من عمل). ولا تنصب خيامك قربَ مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ففي الأرض مراغم كثير وسعة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
العيد فرصة لتحسين العلاقات وتسوية النزاعات وجمع الشمل ورأب الصدع وقطع العداوات المستشرية، ورحم الله من أعان على إعادة مياه المودة إلى مجاريها. اجعل هدية العيد لهذا العام عفوا وصفحا وغفرانا، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. ما أجمل أن يكون العيد فرصة لصِلة المتهاجرين والتقاء المتقاطعين. إن الرجل الكريم هو من يعفو عن الزلّة ولا يحاسب على الهفوة، حاله كما قال الأول:
وإن الذي بيني وبيْن بنِي أخي وبين بني عمي لمختلف جدًّا
إذا نهشوا لَحمي وفرت لحومهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
نعم، ليس زعيم القوم من يحمل الحقدا، ليس كريمًا ولا عظيمًا ولا سيّدًا من يجمع الأحقاد ويحمل الضغائن ويداوم على الجفاء والقطيعة. إنه لا بد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتّسع لهضم البغضاء وقضم العداوات، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]. لقد دعا الإسلام إلى احتواء النزاعات بفعل المعروف خاصة مع الأقارب، واعتبر ذلك من أفضل البرّ، فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي قال: ((أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد وغيره. فأصلحوا ذات بينكم، ولا يصدنكم الشيطان فإنه قد يزين للمسلم أن هذا التنازل عن الحقوق والصفح عن الهفوات نوع ضعف وعجز ومهانة، ولأن يؤثر المسلم أن يقال فيه ذلك خير له من أن يقع في بحور القطيعة وخطيئة التدابر، وروي في الحديث: ((يأتي عليكم زمان يخيّر في الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور)) رواه أحمد (2/278)، وفي الحديث الصحيح: ((وما زاد الله عبدًا بعفو إلى عزا)) و((إذا التقى المسلمان فخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر النساء، أجبن نداء الله لكن حيث قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]. إنها آية عظيمة جامعة، لو تأملتها المرأة وعملت بها لحازت خير الدنيا والآخرة. إن الأصل في المرأة قرارها في البيت؛ إذ هي نور أركانه وسكون أرجائه، والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة. البيت هو وظيفة المرأة الأساس، فما بالنا نرى تهافت النساء على الخروج من البيت لحاجة ولغير حاجة والله يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ؟! إنَّ خير النساء امرأة البيت، ففي الحديث المتفق عليه أن النبي قال: ((إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش؛ أحناه على ولدٍ في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده)). إن مكان المرأة في البيت لا يمكن أن يسده أحد، إن الخادمة في البيت قد تعد الطعام والشراب واللباس وتنظف الملابس والبيت، لكنها لا تستطيع أن تمنح البيت حنان الأم. حدثني أحد المشايخ الثقات فقال: "لي قريبة تدرس في إحدى المدارس، فلما أرادت أن تخرج إلى المدرسة كعادتها لحق بها طفلها الصغير وهو يناديها، فالتفتت إليه وقالت: ماذا تريد؟ فقال: أين تذهبين عني كل يوم؟ فقالت: للمدرسة، فقال: ولماذا؟ قالت:حتى آتي لك بالمال تشتري به ألعابا وحلوى ـ وكأنها تريد أن تخفف عنه لوعة الفراق ـ، فلما جاء يوم وأرادت الخروج كعادتها لحق بها ينادي وهو يمد يده قد قبض بكفه على ريال وهو يقول: خذي ـ يا أماه ـ واجلسي معي في البيت".
عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة ورعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه؛ فإن لك بذلك عظيمَ الأجر وجزيل العطاء، ففي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت فرضها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) رواه الخمسة وصححه الألباني، وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي قال: ((ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟)) يعني نساء الدنيا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الولود الودود التي إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتى ترضى)). ولعلكِ سمعتِ بخبر وافدة النساء التي جاءت إلى النبي تسأل لَكنّ، تلك هي أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت للنبي : إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي وعلى مثل رأي، إنّ الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنَّا بك واتبعناك، ونحن ـ معاشر النساء ـ مقصورات مخدرات قواعد بيوت، وإن الرجال فضّلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم وأولادهم، أنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي إلى أصحابه فقال: ((هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها؟)) فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال : ((انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أنّ حسن تبعّل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها لموافقته يعدل كلّ ما ذكرت للرجال)) أخرجه أحمد والدرامي والطيالسي وصححه الألباني. أما لَكِ أسوة حسنة في عباسة بنت الفضل زوجة الإمام أحمد؟! فقد قال عنها الإمام أحمد: أقمت مع أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة، ثم ماتت رحمها الله.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
احذري الخضوع في مخاطبة الرجال ومخالطتَهم وإبداءَ الزينة لهم، ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع، فضلاً عن الأسواق والحدائق العامة، عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع نساء في الطريق فقال : ((يا معشر النساء، استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق)) ، قال أبو أسيد: فقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها يعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة، فمن تشبه بقوم فهو منهم، وفي الحديث الصحيح: ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهم بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة الإبل لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم أسياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)).
حافظي على عفافك وحجابك وحيائك، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وفي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره)) صححه الألباني. احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء. احذري تمييع الحجاب, فالحجاب ستر وليس زينة. ليس العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجابًا شرعيًا، بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيتها المرأة المسلمة في هذه البلاد، لقد صمدت كثيرًا ودافعت التغريب طويلاً، فأنت آخر حصن بعدُ لم يسقط ولن يسقط بإذن الله. لقد ضاق العلمانيون المنافقون بك ذرعًا، فصاروا يحيكون المؤامرات لك ليلاً ونهارًا، فصمودًا وصبرًا وثباتًا واستعلاءً على كيد الشيطان وحزبه، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ، وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيتها المسلمة، الله لحكمته جعل القوامة بيد الرجل، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ، فكان ذلك تكليفًا له بهذه الأمانة، مِن أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه. وإنّ التمرد على القوامة والنشوز دون حق شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
على الزوج أيضًا أن يتّقي الله في زوجته، فلا يظلمها ولا يضربها، عليه أن يحفظ لها قيمتها وقدرها خصوصًا عند أولادها. عليك ـ أيها الزوج ـ أن تعلم أن رباط الزوجية رباط وثيق، فهو رباط مصاحَبة لا ينقطع بالموت، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. إنه عقد صحبة لا عقد رقّ وولاء، وفي الحديث عنه قال: ((كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها)) رواه ابن السني وصححه الألباني. فالواجب احترام سيادة المرأة في البيت، وأن لا تسقط خاصة عند أولادها، وحين يدوس الزوج كرامة المرأة وتفعل المرأة ذلك فهو إذن بسقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب. لا بد أن يبنى البيت على المودة والرحمة، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً ، وعلى العفو والصفح بين كل من الطرفين، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، وحين يرى أحد الطرفين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه، فقد صح عنه أنه قال: ((لا يفرك مؤمنًا مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم. تسامح ولا تستوفِ حقّك كله، وأبقِ فَلَم يستوف قط كريم.
أيها الرجال، إن المرأة خلقت من ضلع وإنّ أعوج ما في الضلع أعلاه، فيها الغيرة والعاطفة والليونة، وكل ذلك أمر طبعي، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ، فعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع هذا الاعوجاج الفطري والذي يعتبر منتهى الكمال في حقها، فاستقامة المنجل في اعوجاجه، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأنت تعيش العيد لا تنس أن تعيشه بروح الجسد الواحد، فتذكر إخوانك في فلسطين وما يلاقونه من شرذمة اليهود الغاصبين، وفي أفغانستان والشيشان وكيف تكالبت عليهم قوى الكفر والطغيان، وفي كشمير والفلبين والعراق. عليك بكثرة الدعاء لهم، واجعل من موسم العيد إعادةً لقضيتهم ونشرًا لصحيح أخبارهم، وتذكر أنهم يعيشون العيد تحت قذائف الطائرات ودوي الدبابات، كان الله لهم في العون وربط على قلوبهم وثبت أقدامهم.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن نصر هذه الأمة قد انعقد غمامه وقد أقبلت أيامه، فأحسنوا الظن بربكم، واجمعوا مع الأمل حسن العمل، واعلموا أن الشدائد التي تمرّ بها الأمة هي أمارات ميلاد جديد بإذن الله، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا، لا تقولوا: زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ، ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ، لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ، أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ، أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ، غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ، لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ ما دام لنا فيها وَلَدْ.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الكل ينشد الأمن والكل يحتاج إليه، إذًا فالكلّ مطالب بتحقيقه والحفاظ عليه.
لا بأس أن يهنئ بعضكم بعضًا في العيد؛ لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
وكان من هدي النبي مخالفة الطريق في العيد، فعودوا من غير الطريق التي قدمتم منها اقتداء بنبيكم محمد ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4827)
بين المدح والقدح والنصح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
22/8/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حتمية مخالطة الناس. 2- أصناف الناس المخالطين. 3- الصنف المادح. 4- الصنف القادح. 5- الصنف الناصح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّهَا النّاس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانَه والعَضِّ عليها بالنواجذ إبَّانَ هذه الفتن العمياء، وعليكم بالاستقامةِ على دينه والثباتِ عليه للنجاةِ مِن أيِّ داهيةٍ دهياء، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيّها النّاس، إنَّ حاجَةَ المرءِ في هذه الحياةِ تَؤُزُّه إلى الخوضِ في غمارِها أزًّا ويُدَعَّى إلى مخالطةِ بني جنسِه دعًّا، وإنه كادِحٌ إلى ربِّه كدحًا فملاقيه، ثم هو خِلال ذلك كلِّه إمّا أن يذوق حُلوَ الحياة فيَهنَأ فيها أو أن يُلسَعَ بلهيبِ مُرِّها فيتكدِّر وهو يتجرّعها ولا يكاد يُسيغُها، غيرَ أنه يستجلِب المراغمَةَ والمصابَرَةَ بخيلِه ورَجِلِه، وهو مع هذه المراغَمَةِ في نواحي الحياة خيرٌ ممَّن زَوَى نفسَه وقضَى عليهَا بالعزلةِ في زاويةٍ ضيِّقَة خسيسَةٍ لا يَرَى فيها إلا نفسَه؛ لينأى بها عن مكابَدةِ الحياة ومخالطةِ أهلِها، وقد قال النبيّ : ((المؤمنُ الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم)) رواه أحمد.
وفي خِضَمّ معافَسةِ الحياةِ وضُروبها يجِدُ المرءُ نفسَه بالضّرورةِ مُحاطًا بالنّاس في غيرِ ما سبيل؛ في بيتِه وسوقِه ومَسجدِه وعمَله، وهَيهاتَ هيهاتَ أن تكونَ سِماتُ المخالِطين لَه على حدٍّ سَواء، بل إنهم سَيمثُلون أمامَه على ثلاثةِ أصنافٍ: صِنف مادِح له، وصِنفٌ قادِح له، وصِنفٌ ناصِح له، وخَير هذه الثلاثةِ آخِرُها.
أمّا المَدح ـ عبادَ الله ـ فهو سِلاحٌ خطيرٌ ومحَكٌّ دقيق في عِفَّة اللِّسان وحُسن القَصد، وغالبًا ما يودِي بالممدوحِ إلى الغُرور والبَطَر، وبالمادِح إلى المبالَغةِ والتصنُّع والإغراءِ والنِّفاق؛ لأنَّ من نظَر إلى صاحبه بعينِ الرضا في كلّ شيء كلَّت عينه عن عيوبِه، ولربَّما اشتدَّ الإفراطُ به في المدحِ حتى يُصبح سُلَّمًا للمادِح عند الممدوح لبلوغِ مَأربٍ دنيويّ، فيكثُر مدحُه ويَقِلّ صدقُه ويحسُن لِسانُه ويخبُث قلبُه، أو يمادِح صِنوَه طلَبًا للودِّ ظاهِرًا وسِهامُه تَنطلِق غَيظًا إذا غابَ عنه.
والمحزِنُ أنَّ الناسَ مِن هذا الصِّنف ليسوا قلِيلاً، دَيدَنُ الواحدِ منهم المدحُ والإطراءُ بحقٍّ وبغير حَقّ، لهم وَلَعٌ بالإغراءِ وبقَلب السيِّئات حَسَناتٍ، يحمِل أحدُهم عن الممدوحِ القبائحَ ويحسِّن لَه الأخطاءَ ويسوِّق لَه الحقَّ باطِلاً والباطلَ حقًّا، حتى يألَفَ الممدوح ذلِك، فيغيبُ وعيُه عن حقيقةِ نفسِه، ويتعاظَم عَن عيبِ ذاته؛ ثُمَّتَ يدمِن الثناءَ والإفراطَ حتى يواليَ ويعاديَ على ذَلك؛ فصديقُه الحمِيم هو المادِح، وعدوُّه اللّدود هو المكاشِف الصادق.
ثم إنّه بذيوع مثل ذلكم يكثُر الغشُّ وتضيعُ الحقوق وتَذوب ثقة المرءِ بنفسِه وتضمحلّ منفعتُه ويضمر إخلاصه، فلا ينبض قلبُه إلا بالمَدح، ولا يتنفَّس إلا بالمدح، ولا يجالِس إلاّ المدّاحين، وحينئذ لن يكون للعقَلاء عندَه محلٌّ للاستشارةِ ولا للمخلِصين طريقٌ للاستنارة؛ حيث ذهب به حبُّ المدح والإطراءِ كلَّ مذهب، فصدَّه عن استبصارِ المصلحةِ والنفع المَعلوم.
ولذا ـ عبادَ الله ـ لم يأتِ المدحُ والإطراء في وجهِ الممدوح مذمومًا على هذهِ الصفة إلاّ لما يفضي إليه من الغرورِ والإعجابِ القاضِيَين بالبعدِ عن الأصلح وتضييعِ الأنفع وكسرِ الهِمَم عن بلوغِ المعالي، فقد سمع النبيُّ رجلاً يمدَح صاحبَه أمامَه فقال صلوات الله وسلامُه عليه: ((ويحَك، قطعتَ عُنُقَ صاحبك)) قالها مرارًا. رواه البخاري ومسلم. وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوهِهم الترابَ)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إيّاكم والتّمادُحَ؛ فإنّه الذَّبحُ)) رواه أحمد وابن ماجه.
وهذا كلُّه ـ عبادَ الله ـ لا يمنع إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وإنزالَ الأمورِ منازلَها من خلال الشكرِ للمحسِن حقيقةً والتشجيعِ لصاحب الهمّة بالثناء المنصفِ المعتدِل؛ لأنَّ ذلكم خُلُق من أخلاقِ الإسلامِ الرفيعة، ومن لا يشكر الناسَ لا يشكُر الله، وقد أثنى النبيّ في وجوهِ عددٍ من الصحابة على وجهِ الحقيقة والقصدِ مع أمنِ الافتتانِ والغرور.
والحذَرَ الحذَر ـ عبادَ الله ـ مِن حُبِّ المرءِ أن يُمدَح بما لَيس فيه أو بما لم يَفعَله، فقد قالَ جلّ شأنه: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].
أمّا الصّنفُ الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو ذَلكم الرّجلُ القادِح المنطَلِقُ قدحُه من خِسَّة طبعِه ولُؤم نَفسِه وقَذارةِ لِسانه، فهوَ لا يُرَى إلاّ طعَّانًا لعّانًا فَاحِشًا بذيئًا، لِسانُه كما الذّباب لا يقَع إلاّ عَلى الأذَى، لا يَعرف طريقًا إلى الإنصافِ، ويعذِّبه السكوتُ، لسانُه كالعقربِ وقَلَمُه كالعَقور، يقرِض الأعراضَ، ويتطاوَل على الكِرام واللِّئام على حدٍّ سواء، لا يعجِبه فعلُ أحد، ولا يستسيغ الإنصافَ، يُدمِن النقدَ، ويكنز العدلَ، ويُنفق القدحَ، يحبّ أن يخالِفَ ليذكَر وأن يبَلبِل ليُشكَر، يتَقَحَّم في الغَمَرات والمزلاَّت والخوضِ في الكلامِ عَلى غير هُدى، وربما لا تلذُّ نفسُه إلا حين يكون قدحُه ذائعًا في الملأ شائعًا بين الأصحاب، يرَى الناس كلَّهم خطّائين وأنه هو المصيبُ وحدَه، إن تحدَّث عن الماضي فكأنه مطَّلِعٌ عن الخبايا، وإن تحدَّث عن المستَقبَل فكأنه حديثُ من سيرى وسيسمَع، يرى نفسَه فقيهًا وحاكمًا وطبيبًا ومهندسًا ومعلِّمًا، لا يعجِبه العَجب، ولا تتوق نفسُه لحُسن الأدَب، وإنما يلوك لسانَه فيغتاب ويبهتُ، جاعِلاً لسانَه كالمقراض، يقلَع هنا ويجرح هناك، فللَّه ما أشبهَ حالَه بلاحِسِ المبرَد؛ كلّما ازداد لَحسُه ازداد دمُه على المبرد.
وأمثالُ هؤلاء آفةٌ عَلى المجتمعاتِ، وهم شِرار الخَلق الذين قال عَنهم النبيُّ : ((إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله يومَ القيامة من تَركَه الناسُ اتِّقاءَ فُحشِه)) رواه أبو داودَ والترمذي، وفي الصّحيح قولُ النبيِّ : ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)).
ثم إنّه قد يَشتدّ الأمر بلاءً إذا كان القَدح مصوَّبًا في نحورِ ذَوي الهيئاتِ والمكانة الرفيعةِ كالسلطان والعالِم؛ حيث إنَّ لهما من الإجلال والتقديرِ ما يقبُح معه التشهيرُ بهما أو التعيير لهما، يقول ابن عبد البرّ رحمه الله: "أحقُّ الناسِ بالإجلال ثلاثةٌ: العلماء والإخوان والسّلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسَد دنياه، والعاقلُ لا يستخِفّ بأحد".
وممّا يزيد الأمرَ تأكيدًا وتوثيقًا ـ عبادَ الله ـ حينما يكون الخوض فيما قالَ الله أو قال رسولُه ، فليس ذلك إلاّ للعلماء، فهم وَرَثة الأنبياء ومصابيح الدُّجى؛ ولذلك قال سفيانُ الثوريُّ رحمه الله: "ما كُفِيتَ عن المسألةِ والفُتيا فاغتنِم ذلك ولا تنافِس، وإيّاك أن تكون ممن يحبّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قوله أو يُسمَع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشهرة؛ فإنَّ الرجلَ يكون حبُّ الشهرة أحبَّ إليه من الذهبِ والفضة، وهو بابٌ غامِض لا يبصِره إلا العلماء السّماسِرة".
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكر والحِكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فقد مرّ مَعَنا ـ عبادَ الله ـ ذكرُ صِنفين من النّاس مَذمومَين، وها نحنُ نَذكر ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ ما فإنما يُراجِعه في لباقةٍ وبراعةٍ؛ ليحملَ المخطِئ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقت نفسِه يجتنِب النّصحَ المعلَن بين النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن ألوانِ التوبيخِ المودي إلى التّعيير.
ولا جرَمَ أنَّ تبادلَ النصحِ الخالص الصادقِ الأمين هو سُلّم الفلاح وطريقُ النجاح، وهو لونٌ من ألوان التعاون على البر والتقوى، وهو الصبغةُ الأصيلة التي أمَر الله بها جلّ شأنه في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقد أمر بها النبيّ في قوله: ((الدين النصيحة)) قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلمين وعامَّتهم)) رواه مسلم.
فالواجبُ على المسلم ـ عبادَ الله ـ لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة وتركُ الخيانة لهم بالإضمارِ والقول والفعل معًا؛ إذ إنَّ المصطفى كانَ يشترِطُ على من بايَعَه من أصحابِه النصحَ لكلِّ مسلم. متفق عليه.
ثم إنَّ خيرَ النّاس أشدُّهم مُبالغةً في النصيحةِ الصادِقة، ومِن هنا يصير ضَربُ النّاصِح خَيرًا من تحيّةِ الشانِئ.
بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
هذا وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكَى البَشريّة محمّد بن عبد الله صاحِبِ الحوضِ والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليه بها عَشرًا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد...
(1/4828)
في إطلالة رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
22/8/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعداد المسلمين لاستقبال شهر رمضان. 2- فضل رمضان. 3- التحذير مما يخدش الصوم وينقص ثوابه. 4- كيفية ثبوت شهر رمضان. 5- افتراءات الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان. 6- عدوان اليهود على المسجد الأقصى والقائمين عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يستعدّ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان المبارك بعد أيام معدودات؛ ليخرجوا من شهر رسول الله شهر شعبان ويدخلوا في شهر رمضان، شهر المغفرةِ والرحمة والرضوان والعتق من النار.
وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يدعون الله تعالى أن يبلغهم رمضان لما فيه من الخير والبر والطاعة التي تقرّب العبد إلى الله وتبعده عن سبيل الشيطان، فقد ورد عن النبي العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)).
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن شهر الصيام هو موسم النفوس الطائعة، وهو مدرسة كاملة للتربية على الأخلاق الفضيلة؛ من الأمانة والصبر والرحمة والشعور بآلام الفقير والمحتاج، فالصائم أمين على هذه العبادة التي لا يشوبها الرياء؛ لأن الصيام سرّ بين العبد وربه، وعهد على الطاعة والعبادة يقطعه المخلصون على أنفسهم، والصائمون على المعاصي طمعا في فضل ومغفرة خالقهم، وبهذا تسمو الأرواح، وتطيب الأعمال، وتصقل القلوب، وتنقّى السرائر، وتزكّى النفوس، ويذهب درَنها، ويتساقط وزرها. فهنيئا لمن أقبل بهمّة على صوم شهر رمضان، وأعدّ عدته ليكون من الصائمين القائمين احتسابا؛ لما روي عن الحبيب المصطفى عليه السلام: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)). إذًا فليغتنم المسلمون هذه الفرصة من أيام رمضان، ويقبلوا على مائدة الله فيه بنفوس راخية للطاعة في موكب العابدين السائرين بيقين نحو باب الريان يوم ينادي المنادي: أين الصائمون؟ فيقومون فلا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل أحد غيرهم.
أيها المسلمون، يا من تعّدون أنفسكم لصيام رمضان وقيام ليله وإحياء سنة نبيكم وخلفائه في التراويح والتسابيح وفعل الخيرات والبعد عن المعاصي والآثام والمنكرات ليقينكم أن الخاسر من أدراك رمضان ولم يغفر له، أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وحتى يفوز المسلم بقيام جزيل الأجر أدعى للقبول عند الله تعالى عليه أن يتجنب كل ما يخدش الصيام ويذهب بثوابه كالغيبة والنميمة والإفساد بين الناس وخمش الكلام وسوء العمل لقول رسول الله : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، والرسول يقول: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ولما كانت عبادة الصوم مرتبطة برؤية هلال رمضان لحديث النبي : ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) ، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما فقط، وهذا مرتبط بأحوال القمر ومطالعه، فعلى المسلمين في هذه الديار المباركة وفي غيرها من ديار المسلمين التماس هلال رمضان يوم الجمعة القادم بعد غروب الشمس، وهذا اليوم التاسع والعشرون من شهر شعبان الجاري، فإن ثبتت رؤية الهلال بشهادة عدل واحد دخل الناس في عبادة الصيام، وإن لم تثبت رؤية هلال رمضان أكمل المسلمون عدة شعبان ثلاثين يوما، فعلى كل مسلم يرى هلال رمضان في هذه الديار أن يتوجه إلى إحدى دور الفتوى أو إلى أقرب محكمة شرعيّة في منطقته لأداء الشهادة على الوجه الشرعي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلّ مكان، لقد تناقلت وسائل الإعلام يوم أمس الأول تفوّهات منسوبة لرأي الكنيسة الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان، مفادها أن العقيدة الإسلامية يجب أن تخضع لمقياس العقل كما أن محمدا نبيّ المسلمين لم يأت إلا بما هو سيّئ، تعالى الله عما يقولون، يقولون منكرات القول وزورا.
إن العقيدة الإسلامية السمحة هي التي عاش في ظلها الآخر ومنحته الحقوق المدنيّة والدينية كافة انطلاقا من قوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. وهي العقيدة التي رحبت بجيوشها رعايا الدولة الرومانيّة زمن الفتوحات الإسلامية هربا من ظلم إخوتهم في الدين، وإن الذي جاء به رسول الإنسانية محمّد عليه السلام هو الخير والرحمة للبشرية جمعاء، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ، ولكنها البغضاء قد بدت من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
إننا من على المنبر الشريف ندين هذه التفوّهات بشدّة، ونطالب بالاعتذار عنها، كما ندين كل إساءة أو تعرّض للإسلام ونبيّه وأهله ممن يزعمون رعاية حوار الأديان وحرية الإنسان.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وهنا في القدس في المسجد الأقصى المبارك يتعرّض أحد العاملين في لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك لاعتداء الشرطة الإسرائيلية لمنعه من الاستمرار في أعمال الترميم والصيانة في المصلى المرواني يوم الاثنين الماضي. إن هذا الاعتداء على عامل الإعمار في المسجد الأقصى ليس الأول من نوعه، بل قامت الشرطة الإسرائيلية بالاعتداء على حراس المسجد الأقصى، ومنعت عددا منهم من دخول المسجد لفترات متفاوتة, وهنا لا بد من التأكيد على ما يأتي:
أولا: إن المسجد الأقصى المبارك هو مسجد إسلامي، تقوم إدارة الأوقاف الإسلامية بالإشراف عليه ورعايته وإعماره وترميمه نيابة عن كل المسلمين في هذا العالم الذي يشكل المسجد الأقصى جزءا من عقيدتهم.
ثانيا: إن دائرة الأوقاف الإسلامية هي الجهة الوحيدة التي تدير المسجد وترعى شؤونه، ولا يحق لأية جهة أخرى شرطية أو غيرها أن تتدخل في شؤون هذا المسجد.
ثالثا: إن محاولات التدخل في شؤون المسجد الأقصى من قبل السلطات الإسرائيلية لفرض واقع جديد في المسجد ومحاولة سحب الصلاحيات من إدارة الأوقاف الإسلامية هي محاولات مكشوفة ومدانة، كما نرفض الاستهتار بكرامة العاملين، وإن الذي أفشل كلَّ المحاولات في المسجد الرامية للتسلل إلى المسجد سابقا سيفشِل كل محاولة في الحاضر والمستقبل.
فلا زالت عيون المرابطين في المسجد الأقصى وأكنافه ساهرة على حمايته، وما زال الإيمان الذي يعمر الصدور يسبح الصدور برعايته.
يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن وحدتكم والتفافكم حول مقدّساتكم والعمل على إنجاز أهدافكم في الحرية وصون حقوقكم المشروعة فوق هذه الأرض المباركة لهو الكفيل بإفشال كل المخططات الرامية للنيل من صمودكم.
(1/4829)
مرحبا بغائب طال انتظاره
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
29/8/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا مرحلة سفر. 2- خير الزاد. 3- مزادة رمضان. 4- فضل رمضان. 5- التحذير من إضاعة فرصة رمضان. 6- اجتهاد النبي في رمضان. 7- الفرح والبشارة بقدوم رمضان. 8- الدعوات المستجابات. 9- الحث على المصابرة والمجاهدة. 10 التحذير من سرّاق رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: أَيُّها المُسلمُونَ، فَإِنَّ لِكُلِّ مُسافِرٍ زَادًا يُبلِّغُهُ مُرادَهُ، وَلِكُلِّ زَادٍ مَوَاضِعُ وَمَظَانُّ وَثَمَنٌ، وَلَو أَنَّ مُسَافِرًا خَاضَ صَحرَاءَ قَاحِلَةً دُونَ أَن يَكُونَ لَهُ زَادٌ لَعُدَّ مُفَرِّطًا، وَلَو طَلَبَ آخَرُ زَادًا مِن غَيرِ مَوضِعِهِ أَو مَرَّ بِهِ وَلم يَتَزَوَّدْ مِنهُ أَو طَلَبَهُ دُونَ ثَمَنِهِ لَعُدَّ أَحمَقَ أَو مَجنُونًا، وَنحنُ في هَذِهِ الدُّنيا قَومٌ سَفْرٌ، نَتَنَقَّلُ في سِنيِّ أَعمَارِنَا مِن مَرحلَةٍ إلى أُخرى، ويُوشِكُ يَومًا أَن تَتَوَقَّفَ رِحالُنا وَتَنتَهِيَ آجَالُنَا وَنَصِلَ إلى غَايَتِنَا وَنِهَايَةِ طَرِيقِنَا، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَستَقدِمُونَ.
وَإِنَّ مِن رَحمةِ اللهِ لنا وَبِرِّهِ بِنَا وَهُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ أَنْ أَمَرَنَا بِالتَّزَوُّدِ وَبَيَّنَ لنا خَيرَ الزَّادِ لِيَومِ المَعَادِ، وَعَدَّدَ لَنَا مَوَاضِعَ ذَلِكَ الزَّادِ وَنَوَّعَ مَظَانَّهُ وَيَسَّرَ طُرُقَهُ؛ لِيَسهُلَ عَلَينَا التَّزَوُّدُ مِنهُ وَتَحصِيلُهُ وَالأَخذُ مِن كُلِّ نَوعٍ مِنهُ بِنَصِيبٍ، قال سُبحانَهُ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ.
وَإِنَّنَا ـ أيها المسلمون ـ لَدَاخِلُونَ غَدًا أَو بَعدَ غَدٍ مَوسِمًا عَظِيمًا وسُوقًا رَابِحَةً، مَوسِمٌ تُعرَضُ فِيهِ التقوى على طُلاَّبِ الآخِرَةِ لَيلاً وَنَهَارًا، وَسُوقٌ يُدعَى فِيهَا لِتَحصِيلِ أَسبَابِها بِأَيسَرِ الأَثمَانِ، تِلكُم هِيَ سُوقُ شَهرِ رَمَضَانَ وَمَوسِمُ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَالدُّعَاءِ وَالقُرآنِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ.
فَأَينَ المُتَزَوِّدُونَ مِنَ التقوى فَلْيَستَعِدُّوا؟ أَينَ المُشَمِّرُونَ للآخِرَةِ فَلْيَتَأَهَّبُوا؟ أَينَ الرَّاغِبُونَ فِيمَا عِندَ اللهِ فَلْيُقبِلُوا؟ فَإِنما هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ وَلَيالٍ قَلائِلُ، تَمُرُّ سَرِيعًا كَمَرِّ السَّحَابِ، ثم تَنقَضِي وَقَد تَزَوَّدَ مُشَمِّرٌ وَنَدِمَ مُسَوِّفٌ.
إِذَا أَنتَ لم تَرحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدَا
نَدِمتَ عَلى أَن لا تَكُونَ كَمِثلِهِ وَأَنَّكَ لم تُرصِدْ كَمَا كَانَ أَرصَدَا
قَال : ((إِذَا كَانَت أَوَّلُ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَت أَبوَابُ النَّارِ فَلَم يُفتَحْ منها بَابٌ، وَفُتِّحَت أَبوَابُ الجَنَّةِ فَلَم يُغلَقْ مِنهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ)).
أيها المسلمون، لَو نَظَرَ كُلٌّ مِنَّا فِيمَا مَضَى مِن عُمُرِهِ وَمَا خَلا مِن أَيَّامِ دَهرِهِ ثم سَأَلَ نَفسَهُ: كَم رَمَضَان مَرَّ عَلَيَّ؟ وَمَاذَا فَعَلتُ فِيمَا مَضَى مِن مَوَاسِمَ؟ هَل كُنتُ فِيهَا مَعَ المُشَمِّرِينَ المُسَابِقِينَ المُسَارِعِينَ، أَم كُنتُ مُسَوِّفًا مُقَصِّرًا عَاجِزًا؟ أَقُولُ: لَو طَرَحَ كُلٌّ مِنَّا على نَفسِهِ مِثلَ هَذِهِ الأَسئِلَةِ لَوَجَدَ إِجَابَاتٍ لا تُبَيِّضُ الوَجهَ وَلا تَسُرُّ الخَاطِرَ؛ سَهَرٌ في اللَّيلِ طَوِيلٌ، وَنَومٌ في النَّهَارِ وَبِيلٌ، وَتَفوِيتٌ لِصَلاةِ الجَمَاعَةِ، وَعَدَمُ إِدرَاكٍ لِتَكبِيرَةِ الإِحرَامِ، بَل رُبَّمَا تَركٌ لِلصَّلَوَاتِ المَفرُوضَةِ وَتَضيِيعٌ لها، فَكَيفَ بِصَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَقِيَامِ اللَّيلِ؟! أَمَّا القُرآنُ فَمَا أَطوَلَ شَكوَاهُ مِنَ الهَجرِ وَعَدَمِ العِنَايَةِ بِهِ! وَأَمَّا الإِنفَاقُ فَمَا أَقَلَّ نَصِيبَنَا مِنهُ! وَأَمَّا المُشَارَكَةُ في البِرِّ وَنَفعِ الآخَرِينَ فَمُقِلُّونَ مِنهَا. هَذِهِ هِيَ أَحوَالُ أَكثَرِنَا فِيمَا مَضَى وَخَلا إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ، وَأَحسَنُنَا حَالاً مَن يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ، وَيَقرَأُ مِنَ القُرآنِ شَيئًا وَلا يَكَادُ يَختِمُهُ، وَهُوَ في مَكَانِهِ هَذَا يُراوِحُ، وَلِمُستَوَاهُ مُنذُ سَنَوَاتٍ مُلازِمٌ، يَتَقَدَّمُ عُمُرُهُ ولم يَتَقَدَّمْ عَمَلُهُ، وَيَقتَرِبُ أَجلُهُ وَلم يَزدَدْ تَأَهُّبُهُ، فَلِلجَمِيعِ نَقُولُ: يَا إِخوَةَ الإِسلامِ، وَيَا أُمَّةَ القُرآنِ، إِلى الأَمَامِ إِلى الأَمَامِ، إِلى الأَمَامِ تَقَدَّمُوا، وَمِنَ الصَّالِحَاتِ فَتَزَوَّدُوا، وَإِلى الآخِرَةِ فَاسعَوا وَجِدُّوا، فَإِنَّ مَن لم يَتَقَدَّمْ فَهُوَ في تَأَخُّرٍ، وَمَن لم يَزدَدْ فَهُو إِلى النَّقصِ يَسعَى، إِنَّهَا لإِحدَى الكُبَرِ نَذِيرًا لِلبَشَرِ لِمَن شَاءِ مِنكُم أنْ يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ.
سِرُّ النَّجَاحِ عَلَى الدَّوَامْ هُوَ أَن تَسِيرَ إِلى الأَمَامْ
فَإِلَى الأَمَامِ أَكَانَ عَصرُ كَ عَصرَ حَربٍ أَمْ سَلامْ
وَإِلَى الأَمَامِ إِلَى الأَمَا مِ وَ إِنْ تَكُنْ أَنتَ الإِمَامْ
نِعمَ الشِّعَارُ لمَن أَرَا دَ لِنَفسِهِ عَيشَ الكِرَامْ
زَاحِمْ وَسِرْ نحوَ الأَمَا مِ فَإِنَّمَا الدُّنيَا زِحَامْ
قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "للهِ على العَبدِ في كُلِّ عُضوٍ مِن أَعضَائِهِ أَمرٌ وَلَهُ عَلَيهِ فِيهِ نهيٌ، وَلَهُ فِيهِ نِعمَةٌ وَلَهُ بِهِ مَنفَعَةٌ وَلَذَّةٌ، فَإِنْ قَامَ للهِ في ذَلِكَ العُضوِ بِأَمرِهِ وَاجتَنَبَ فِيهِ نهيَهُ فَقَد أَدَّى شُكرَ نِعمَتِهِ عَلَيهِ فِيهِ، وَسَعَى في تَكمِيلِ انتِفَاعِهِ وَلَذَّتِهِ بِهِ، وَإِنْ عَطَّلَ أَمرَ اللهِ وَنَهيَهُ فِيهِ عَطَّلَهُ اللهُ مِنِ انتِفَاعِهِ بِذَلِكَ العُضوِ، وَجَعَلَهُ مِن أَكبرِ أَسبَابِ أَلَمِهِ وَمَضَرَّتِهِ. وَلَهُ عَلَيهِ في كُلِّ وَقتٍ مِن أَوقَاتِهِ عُبُودِيَّةٌ تُقَدِّمُهُ إِلَيهِ وَتُقَرِّبُهُ مِنهُ، فَإِنْ شَغَلَ وَقتَهُ بِعُبُودِيَّةِ الوَقتِ تَقَدَّمَ إلى رَبِّهِ، وَإِنْ شَغَلَهُ بِهَوًى أَو رَاحَةٍ وَبَطَالَةٍ تَأَخَّرَ، فَالعَبدُ لا يَزَالُ في تَقَدُّمٍ أَو تَأَخُّرٍ، وَلا وُقُوفَ في الطَّرِيقِ البَتَّةَ، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ ".
وَمِن هُنا ـ أَيُّها المُسلمُون ـ فَإِنَّ عَلَى كُلٍّ مِنَّا دُونَ استِثنَاءٍ أَن يجعَلَ نَظَرَهُ عَالِيًا وَهَدَفَهُ سَامِيًا، فَيَتَقَدَّمَ إِلى الأَمَامِ وَيَزدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَيَستَكثِرَ مِنَ الخَيرِ وَيَتَزَوَّدَ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَيَحرِصَ على أَن لاَّ يَفُوتَهُ شَيءٌ مِن أَبوَابِ الخَيرِ إِلاَّ وَلَجَهُ وَأَخَذَ مِنهُ بِنَصِيبٍ، اقتِدَاءً بِالهَادِي الحَبِيبِ الذي كَانَ يَجتَهِدُ في رَمَضَانَ وَيَجُودُ، وَيَبذُلُ نَفسَهُ في طَاعَةِ المَعبُودِ، فقد رَوَى البُخَارِيُّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ أَجوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجوَدُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلقَاهُ جِبرِيلُ، وَكَانَ يَلقَاهُ في كُلِّ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ أَجوَدُ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ. قال الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه اللهُ: "وَعَبَّرَ بِالمُرسَلَةِ إِشَارَةً إِلى دَوَامِ هُبُوبِها بِالرَّحمَةِ، وَإِلى عُمُومِ النَّفعِ بِجُودِهِ كَمَا تَعُمُّ الرِّيحُ المُرسَلَةُ جَمِيعَ مَا تَهُبُّ عَلَيهِ".
فَانظُرُوا ـ رحمكم اللهُ ـ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ قُدوَتُكُم وَأُسوَتُكُم عليه الصلاةُ والسلامُ؛ دَوَامٌ في الطَّاعَةِ، وَاستِكثَارٌ مِن أَنوَاعِ العِبَادَةِ، وَمُسَارَعَةٌ إلى الخَيرِ وَمُلازَمَةٌ لِلبِرِّ، بَلْ لَقَد كان مِن شِدَّةِ رَغبَتِهِ في عِبَادَةِ رَبِّهِ وَتَلَبُّسِهِ بِهَا وَشَوقِهِ إِلى رَحمَةِ مَولاهُ وَرِضاهُ بها كَانَ يُواصِلُ صِيَامَ اليَومَينِ وَالثَّلاثَةِ لا يَطعَمُ طَعَامًا وَلا يَذُوقُ شَرَابًا، فَقَدِ اشتَغَلَ بِغِذَاءِ رُوحِهِ عَن غِذَاءِ بَدَنِهِ، وَتَلَذَّذَ بِطَاعَةِ خَالِقِهِ عَن طَعَامِ المَخلُوقِينَ، وَمِثلُهُ كَانَ أَصحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ وَالسَّلَفُ المُقتَدُونَ، مِنهُم مَن كَان يُؤثِرُ بِطَعَامِهِ غَيرَهُ مِنَ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ، وَمِنهُم مَن كَانَ يَختِمُ في كُلِّ يَومٍ مَرَّتَينِ، وَفِيهِم قَائِمُ اللَّيلِ لا يَفتُرُ، وَفِيهِم مُلازِمُ المَسجِدِ لا يَخرُجُ، نُفُوسٌ إلى العَليَاءِ سَمَت، وقُلُوبٌ بِاللهِ تَعَلَّقَت.
لَهَا أَحَادِيثُ مِن ذِكرَاكَ تَشغَلُهَا عَنِ الشَّرَابِ وَتُلهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَهَا بِوَجهِكَ نُورٌ تَستَضِيءُ بِهِ وَمِن حَدِيثِكَ في أَعقَابِهَا حَادِي
إِذَا شَكَت مِن كَلالِ السَّيرِ أَوعَدَهَا رُوحَ القُدُومِ فَتَحيَا عِندَ مِيعَادِ
نَعَمْ أَيُّها الإِخوَةُ، كَانَ القَومُ طُلاَّبَ آخِرَةٍ وَسُعَاةً إلى الجَنَّةِ، فَأَفنَوُا النُّفُوسَ وَأَرخَصُوا النَّفِيسَ، وَأعمَلُوا الأَجسَادَ وَبَذَلُوا الأَموَالَ، وَحَفِظُوا الأَوقَاتَ واغتَنَمُوا السَّاعَاتِ، وَتَلَذَّذُوا بِمَوَاسِمِ الخَيرَاتِ وَسَعِدُوا بِالنَّفَحَاتِ، فَهَيَّا وَلْنَتَشَبَّهْ بِهِم، وَلْنَفرَحْ بِهَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ فَرَحَ مَن قَدِمَ عَلَيهِ غَائبُهُ، وَلْنَسألِ اللهَ بُلُوغَهُ وَالتَّوفِيقَ فِيهِ لِصَالحِ العَمَلِ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ ، عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: كان النبيُّ يُبَشِّرُ أَصحَابَهُ يَقُولُ: ((قَد جَاءَكُم شَهرُ رَمَضَانَ، شَهرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَلَيكُم صِيَامَهُ، فِيهِ تُفتَحُ أَبوَابُ الجِنَانِ، وَتُغلَقُ فِيهِ أَبوَابُ الجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فِيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خَيرَهَا فَقَد حُرِمَ)). قَال الحَافِظُ ابنُ رَجَبٍ رحمه اللهُ: "وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ المُؤمِنُ بِفَتحِ أَبوَابِ الجِنَانِ؟! وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ المُذنِبُ بِغَلقِ أَبوَابِ النِّيرَانِ؟! وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ العَاقِلُ بِوَقتٍ يُغَلُّ فِيهِ الشَّيطَانُ؟! وَمِن أَينَ يُشبِهُ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانٌ؟!".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ عِندَ الفِطرِ لَدَعوَةً مَا تُرَدُّ، وَفي ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ أُخرَى، وَثَالِثَةٌ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَالحَاجَاتُ كَثِيرَةٌ وَالمَسَائِلُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَالعَبدُ فَقِيرٌ إِلى رَبِّهِ ولا غِنى لَهُ عَن رَحمَتِهِ طَرفَةَ عَينٍ، وَأَهَمُّ المُهِمَّاتِ مَغفِرَةُ الذُّنُوبِ وَتَكفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَالعِتقُ مِنَ النَّارِ وَالفَوزُ بِالجَنَّةِ، فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ ، وَقَد قَالَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((رَغِمَ أَنفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ ثم انسَلَخَ قَبلَ أَن يُغفَرَ لَهُ)) ، وَقَالَ لَهُ جِبرِيلُ: يَا محمدُ، مَن أَدرَكَ شَهرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَم يُغفَرْ لَهُ فَأُدخِلَ النَّارَ فَأَبعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، قال: ((فَقُلتُ: آمِينَ)) ، وَيَقُولُ بأبي هُوَ وَأُمِّي: ((أَعجَزُ النَّاسِ مَن عَجِزَ عَنِ الدُّعَاءِ)).
ألا فَاقتَرِبُوا مِن رَبِّكُم ـ أَيُّها المُسلِمُونَ ـ وَاسجُدُوا، وَادعُوهُ وَأَلِحُّوا وَأَخلِصُوا، وَإِيَّاكُم وَالكَسَلَ وَلا تَعجَزُوا، أَطعِمُوا الطَّعَامَ وَاحفَظُوا الصِّيَامَ وَأَلِينُوا الكَلامَ، وَاقرَؤُوا القُرآنَ وَأَحسِنُوا إِلى عِبَادِ اللهِ، وَفَطِّرُوا الصَّائِمِينَ وَادعُوا إِلى اللهِ، فَإِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ أَعمَالٌ جَلِيلَةٌ، دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى فَضلِها وَعِظَمِ أَجرِها، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الصِّيَامُ وَالقُرآنُ يَشفَعَانِ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهوَةَ فَشَفِّعْني فِيهِ، وَيَقُولُ القُرآنُ: مَنَعتُهُ النَّومَ بِاللَّيلِ فَشَفِّعْني فِيهِ)) ، قَال: ((فَيُشَفَّعَانِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثلُ أَجرِهِ)) ، وقال : ((إِنَّ في الجَنَّة غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها مِن بَاطِنِها وَبَاطِنُهَا مِن ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن أَلانَ الكَلامَ وَأَطعَمَ الطَّعَامَ وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِن تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ وَمَا يَستَوِي الأَعمَى وَالبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ وَمَا يَستَوِي الأَحيَاءُ وَلا الأَموَاتُ إِنَّ اللهَ يُسمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسمِعٍ مِن في القُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ إِنَّا أَرسَلنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:15-24].
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطيِعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، اِتَّقُوا اللهَ بِفِعلِ الأَوَامِرِ وَتَركِ النَّوَاهِي، تَزَوَّدُوا بِالتَّقوَى مِن شَهرِ التَّقوَى، وَتَأَمَّلُوا إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّى فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى وَكَذَّبَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى.
عَلَيكَ بِتَقوَى اللهِ فِي كُلِّ أَمرِهِ تجِدْ غِبَّهَا يَومَ الحِسَابِ الْمُطَوَّلِ
أَلا إِنَّ تَقوَى اللهِ خَيرُ مَغَبَّةٍ وَأَفضَلُ زَادِ الظَّاعِنِ المُتَحَمِّلِ
وَلا خَيرَ في طُولَ الْحَيَاةِ وَعَيشِهَا إِذَا أَنتَ مِنهَا بِالتُّقَى لم تَرَحَّلِ
إِنَّهُ لا بُدَّ مِن مُجَاهَدَةِ النَّفسِ عَلى فِعلِ الطَّاعَاتِ وَبَذلِ الخَيرَاتِ، لا بُدَّ مِنَ الصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَمَن صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ، وَمَن عَوَّدَ نَفسَهُ الخَيرَ اِعتَادَتهُ، وَإِنمَا يُؤتَى العَبدُ وَيُحرَمُ كثيرًا مِنَ الخَيرِ مِن الضَّجَرِ وَالجَزَعِ وَالمَلالِ وَالعَجَلَةِ، قال سُبحَانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ ، وقال : ((إِنما العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنما الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ)) ، وَقَالَ : ((اِفعَلُوا الخَيرَ دَهرَكُم، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحمَةِ اللهِ، فَإِنَّ للهِ نَفَحَاتٍ مِن رَحمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووِم عليه وإن قلَّ)) ، وقال: ((الخَيرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)) ، قَالَ الغَزَاليُّ رحمه اللهُ: "مَن لم يَكُنْ في أَصلِ الفِطرَةِ جَوَادًا مَثلاً فَيَتَعَوَّدُ ذَلِكَ بِالتَّكَلُّفِ، وَمَن لم يُخلَقْ مَتَوَاضِعًا يَتَكَلَّفُهُ إِلى أَنْ يَتَعَوَّدَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ تُعَالَجُ بِضِدِّهَا إلى أَن يَحصُلَ الغَرَضُ، وَبِالمُدَاوَمَةِ عَلَى العِبَادَةِ وَمُخَالَفَةِ الشَّهَوَاتِ تَحسُنُ صُورَةُ البَاطِنِ" انتهى كلامه.
وَأَمرٌ لا بُدَّ مِن ذِكرِهِ وَنحنُ نَدخُلُ شَهرَ رَمَضَانَ، أَلا وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا يَستَعِدُّ أَهلُ الخَيرِ وَدُعَاةُ الحَقِّ لِهَذَا الشَّهرِ وَيَسعَونَ لاغتنامه فِيمَا يُرضِي اللهَ وَيُقَرِّبُ منه فِإِنَّ هُنَاكَ قُطَّاعَ طَرِيقٍ وَسُرَّاقَ أَوقَاتٍ وَمَانِعِي خَيرَاتٍ، هُنَاكَ أَقوَامٌ مِن شَيَاطِينِ الإِنسِ وَمَرَدَةِ بَني آدَمَ، تُجلِبُ على المُسلِمِينَ بِخَيلِها وَرَجِلِهَا، مُضَيِّعَةً عَلَيهِم أَوقَاتَ شَهرِهِم، نَازِعَةً بَرَكَاتِ أَوقَاتِهِم، مُدَنِّسَةً أَسمَاعَهُم وَأَبصَارَهُم وَقُلُوبَهُم بِتَمثِيلِيَّاتٍ فَارِغَةٍ وَمَسرَحِيَّاتٍ هَازِلَةٍ وَأَغَانِي مَاجِنَةٍ وَصُوَرٍ فَاتِنَةٍ وَمَشَاهِدَ سَخِيفَةٍ، فَلْيَحذَرِ العَبدُ من ضياع وقتِهِ بِمُتَابَعَةِ هَؤلاءِ البَطَّالِينَ، أَمَّا تِلكَ الحَلَقَاتُ الطَّائِشَةُ وَالمَقَاطِعُ البَائِسَةُ المُنطَوِيَةُ على الاستِهزَاءِ وَالسُّخرِيَةِ القَائِمَةُ على نَقدِ مَا سَارَ عَلَيهِ هَذَا المُجتَمَعُ المُحَافِظُ مِن قِيَمٍ وَعَادَاتٍ هِيَ في حَقِيقَتِهَا ممَّا أَمَرَ بِهِ الشَّرعُ كَالحِجَابِ وَالتَّستُّرِ وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ فَظُلُمَاتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، يَجِبُ الحَذرُ مِن مُتَابَعَتِهَا وَاستِمرَاءِ مَا فِيهَا، بل لا يَجُوزُ الرِّضا بما فيها، وَكَيفَ يَرضَى مُسلِمٌ بِمُتَابَعَتِهَا بَعدَ قَولِ اللهِ جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيكُم في الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُستَهزَأُ بِهَا فَلاَ تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِثلُهُم إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا.
فاتقوا الله عباد الله، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِّن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَّبِّهِم وَجَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ.
(1/4830)
الآثار السلبية للغفلة عن التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
محمد بن علي المسعودي
تاوريرت
مسجد خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالإنابة إلى الله. 2- بيان حال الغافل عن طاعة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، فإن للغفلة عن التوبة آثارا سلبية وعواقب وخيمة، تنغص الحياة وتكدرها، وتعرض الإنسان الغافل للانتقام الرباني في الدنيا والعذاب في الآخرة. ولبيان هذه الحقيقة أحببت أن أتحدث عنها من خلال آية كريمة نستظل بظلالها، ونحيا بشرعتها ومنهاجها.
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية المباركة تشتمل على أمرين هامين: الأمر بالإنابة إلى الله والاعتصام بحبل الله قبل فوات الأوان، بيان حال الغافل عن طاعة الله وما يلحقه من مباغتة العذاب له والحسرة والندامة على ما فرط في جنب الله يوم يلقى الله.
1- الأمر الأول:
أيها الإخوة المؤمنون، دأب القرآن الكريم أن يدعو الناس إلى الخير عامة المؤمن وغير المؤمن، ويبين أنه سبيل النجاة المحقق للظفر بما عند الله من نعيم لا يزول ولا يحول. ومفتاح الخير كله هو التوبة إلى الله مما اجترحته جوارحنا من فسوق. والإنابة إلى الله مطلب أساسي في حياة الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
وما دام الإنسان حيا وفي كامل قواه العقلية فهو مأمور بالتوبة من ذنب أو من غير ذنب، وتجديدها كلما سنحت الفرصة، وليس هنالك ذنب مهما عظم لا تصح التوبة منه أو لا تقبل التوبة منه كما قد يعتقد البعض. وسبب نزول هذه الآيات التي نتحدث عنها يؤكد هذا المعنى ويوضحه، قالابن عطية رحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز: "واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال عطاء بن يسار: نزلت في وحشي قاتل حمزة. وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم، فنزلت الآية فيهم، منهم الوليد بن الوليد وهشام بن العاصي، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث. وقالت فرقة: نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا: وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة، فنزلت الآية فيهم. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن".
فالقرآن الكريم يوقظ الهمم ويحرك مكامن الفطرة في الإنسان لعله ينهض، فيصحو من سكرته، فيعانق معالم النجاة قبل أن يباغته العذاب أو يدركه الأجل؛ لذلك تضمن الأمر الأول من الآية ثلاثة عناصر ضرورية: أ- الإنابة إلى الله، ب- الإسلام له، أي: التصديق بالنبي والقرآن واتباع شرائع الإِسلام، ج- اتباع الوحي الذي أنزله على قلب نبيّه ، قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
والتوبة إلى الله ليست عملية معقدّة، تنهك التائب من الذنب أو تكلّفه عقوبة أو كفارة، وإنما هي إرادة قوية وعودة صادقة إلى الحق.
2- الأمر الثاني:
أيها الإخوة المؤمنون، هذا هو الشق الأول من الحديث عن الآيات المباركة، وأما الأمر الثاني ـ كما أشرت ـ فهو بيان حال الغافل عن طاعة الله.
أيها الإخوة المؤمنون، فإن لهذه الغفلة آثارا سلبية ونتائج فادحة، قد تصيب المرء في مقاتله، وخصوصا إذا فاته الأوان بأن لقي ربه وهو على تلك الحال من الانغماس في المنكرات وترك الواجبات. ومن تلك الآثار القبيحة الخطيرة على الفرد والأسرة والمجتمع ما يأتي:
أ- شقاوة في الحياة وضنك في المعاش، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ب- نزول العذاب ومباغتته، ولا يجد العاصي معينا ولا منجى ولا ملجأ، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
ج- الحسرة والندامة يوم القيامة على التفريط في دين الله، وهو وقت لا ينفع فيه الندم.
د- تمني العودة والكرة إلى الدنيا لاستدراك ما فات، وهو أمر ممتنع ولا شك، قال تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرؤوف الرحيم، التواب على عباده، وصلى الله على حبيبنا وإمامنا محمد بن عبد الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة، وعلى آله وصحبه الذين ألزموا كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، لو وزعت توبة أحدهم على أهل الأرض لوسعتهم.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، التوبة من الذنوب مكسَب كبير وغنم عظيم، وأي فوز أعظم من محو الذنوب والدخول إلى الجنة وتحقيق السعادة في الدارين؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]. وأعظم من هذا أن يفرح الله سبحانه بتوبة عبده، وأن يحبّ عبده التواب، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222].
أيها الإخوة المؤمنون، ليس بوسعي في هذه الخطبة أن أتحدث عن الإنابة إلى الله من كلّ جوانبها بقدر ما نستظلّ بظلال الآية المباركة التي هي أرجى آية في كلام الله، لعلنا نقتبس من نورها ونحيا حياة لا تحيد عن هداياتها.
(1/4831)
رسالة إلى مصاب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
محمد بن محمد الراجحي
أبها
21/7/1426
جامع الموسى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد البلاء وتنوعه. 2- مراحل البلاء. 3- حكم البلاء. 4- سؤال الله تعالى العافية. 5- روافع البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، في هذا اليوم أرسل رسالة إلى كلّ مصاب ومصابة، رسالة باعثها الصدق والنصح، وغايتها الذكرى والمواساة، قلمها المحبة، ومدادها الكتاب والسنة، وورقها آذان صاغية وقلوب واعية.
والبلاء متعدّد ومتنوع، فليس محصورًا في شيء واحد، فترى كثيرًا من الناس مصابًا ببلاء يختلف عما أصيب به غيره، وقد تتوالى بعض أنواعه على شخص واحد، وربك عليم حكيم، يقول تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
عباد الله، جرت سنة الله تعالى وحكمته بحدوث البلاء للعباد في هذه الدنيا، وللبلاء مع صاحبه مراحل وأحوال، فقد يصاب العبد ببلاء ثم ينفك عنه، وقد يعود إليه، وقد لا يعود، ومن البلاء ما يكون ملازمًا للعبد ما دام على قيد الحياة، وربك عليم حكيم. ومما يشار إليه أن التعزية مشروعة لكل مصاب أيا كان مصابه، لا كما يفعل البعض فيحصر التعزية في الوفاة فحسب.
عباد الله، ليعلم كل مصاب ومصابة وغيرهم من المعافين أن لله في إصابة عبده وأمته حكمًا ونعمًا، علمها مَنْ علم وجهلها من جهل، وبمعرفة ذلك يوفق العبد إلى التسليم والصبر والرضا.
فأولها: علم العبد بسبق القضاء والقدر، وأن ما أصابه مقدر ومكتوب عليه قبل وجوده، فهو واقع لا محالة، فلا مجال للاعتراض والتضجر والحسرة والندب، يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، وفي الحديث: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك)).
وثانيها: أن يعلم العبد أن الذي قضى عليه وقدر ذلك المصاب هو العليم الحكيم، فما نزل به من بلاء فالله يعلمه، وله فيه حكمة، تعالى وتنزه في قضائه وقدره عن الجهل والعبث. واسمع إلى يعقوب عليه السلام، لما قصَّ عليه يوسف عليه السلام الرؤيا، قال في آخر تعبيرها: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]. ويُخَصُّ المؤمن بأن ربه به رحمن رحيم، فالله أرحم بعبده المؤمن من نفسه، فلا يؤمل إلا خيرًا، ولا يظن إلا حسنًا.
ثالثها: استحضار المؤمن كثرة نعم الله عليه، فإن كان قد أخذ منه قليلاً فقد أعطاه كثيرًا، ولينظر إلى من أسفل منه، فذلك أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه. قال عمر بن الخطاب : (ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه).
رابعها: علم العبد بأن البلاء علامة محبة الرب؛ لما فيه من رفع الدرجات ومحو السيئات وتعجيل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فيستيقن العبد أن المحنة تحتها منحة وأن ربه عليم حكيم رحيم. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) متفق عليه. وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) ، وقال: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري، قال سفيان الثوري: "ليس بفقيه من لم يعدَّ البلاء نعمة والرخاء مصيبة". وعن أبي هريرة : قال رسول الله : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يُبَلّغَهُ إياها)) رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه من طريقه وغيرهما.
خامسها: علم المصاب والمصابة بأن البلاء والصبر عليه سبيل إلى الجنة ونيل ما فيها من النعيم المقيم، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتهون المصيبة ويسلى المصاب. عن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) رواه البخاري. وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء؛ أتت النبي فقالت: إني أُصرع وإني أتكشّف، فادع الله تعالى لي، قال: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيَك)) ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشّف فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها. متفق عليه.
سادسها: بروز حقيقة الدنيا للمصابين، وأنها دار أحوالها متقلبة، خلط حلوها بمرها ويسرها بعسرها، فلا تعلق بها، ولا ركون إليها، وأن اللذة الكاملة والنعيم المقيم لا يكون إلا في دار كرامة أرحم الراحمين، فلذلك فليعمل العاملون ويصبر الصابرون.
وقد وصف الله الصابرين بعدما بشرهم بأنهم يقولون معتقدين عند مصابهم: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، وهذا القول منهم يتضمن قاعدتين عظيمتين، وإن شئت فقل: عقيدتين:
أولاهما: أنهم لله، خلق من خلقه، وملك من ملكه، في حكمه وتدبيره، يفعل فيهم ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهل يعترض على المالك ويشكى إلى غيره إذا فعل في ملكه ما يشاء؟!
وثانيهما: أنهم إليه راجعون لا محالة، مفارقون لما أُعطُوا، خارجون من الدنيا، ملاقون لربهم وثوابهم إن صبروا، وإنما الأجل المعدود قد يبعد بهم ويقرب.
لما أرسلت بنت النبيّ إليه: إنّ ابني قد احتضر فاشهَدنا، فأرسل يقرئها السلام ويقول: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)) متفق عليه. وما دام ذلك كذلك فعلام الغمّ والحز ن؟!
واصبر على القدر المحتوم وارض به وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به إلا سيتبع يوما صفوه كدر
قال عيسى عليه السلام للحواريين: أشدّكم جزعًا على المصيبة أشدّكم حبًا للدنيا.
سابعها: أنّ البلاء امتحان للعبد في دينه أيصبر أم يجزع، يقول تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وشدّة البلاء دلالة على عظم الدين، و((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المراد على قدر دينه)) ، وهذه بشارة ومواساة.
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ويُعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قل فيما يتقيه اصطباره فقد قل فيما يرتجيه نصيبه
ثامنها: أن البلاء دعوة إلى المحاسبة، فلعل العبد كان مفرطًا في طاعة ربه معرضًا عن سبيله، فيرده الله إليه بذلك البلاء، فيتوب وينيب، فيكشف ما نزل به، وربما صحت الأجساد بالعلل، يقول تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ويقول: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تاسعها: علم المُصاب بقدر النعمة لمَّا يفقدها، وكذلك علم المعافَين بقدرها إذا رأوا فاقدها، فتحصل العبرة والموعظة، وهما طريق الشكر والطاعة.
عاشرها وآخرها: أنه يظهر للناس عامة بالبلاء وأنواعه قدرة الله على خلقه، يصيب من يشاء بما يشاء، ويصرفه عما يشاء، فيورث ذلك عندهم تواضعًا وسكينة وإنابة وخوفًا ورجاء، فيطيعون أمره ويجتنبون نهيه.
عباد الله، ولعل البعض بعد هذا قد يتمنى البلاء لعظم الفضل فيه والصبر عليه والحكم المتعلقة به، وهذا لا ينبغي لمخالفة النصوص الواردة بالنهي عن ذلك بسؤال الله العافية والمعافاة؛ لأن العبد لا يدري ما حاله عند نزول البلاء به أيصبر أم يجزع. عن وسط بن إسماعيل الجبلي قال: خطبنا أبو بكر، فقال: قام رسول الله مقامي هذا عام الأول، وبكى أبو بكر، فقال أبو بكر: (سلوا الله المعافاة ـ أو قال: العافية ـ، فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية أو المعافاة) رواه الإمام أحمد في المسند وإسناده صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، مما يُدفع ويُرفع به البلاء الدعاء والصدقة والتصبر.
فأما الدعاء فيدفع به البلاء ويرفع، في الحديث الصحيح: ((لا يرد القدر إلا الدعاء)) ، فكم من مبتلى دعا الله وألحَّ عليه وتضرع بين يديه فكشف الله ما به وقربه منه.
وأما الصدقة ففي الحديث: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).
وأما التصبر والصبر فهو البحر الذي لا ساحل له، فلقد أمرنا الله بالاستعانة به، ووعدنا معيته لنا إن صبرنا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم. ومن حديث أبي سعيد الخدري جاء فيه قول الرسول : ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) متفق عليه. وقال في ثوابهم: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
فالله أسأل لكل مُصاب ومُصابة أن يفرج الهم وينفس الكرب ويرفع الضر ويمحو بالبلاء السيئات ويزيد الحسنات ويرفع الدرجات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/4832)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عابد بن عبد الله الثبيتي
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل بني آدم خطاء. 2- التوبة مقام الأنبياء. 3- الحث على التوبة في الكتاب والسنة. 4- فضل التوبة. 5- التحذير من التهاون بالتوبة. 6- الصادون عن التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقواه، وتوبوا إليه وأنيبوا، فإن التوبة من الذنوب منزلة عظيمة من منازل الدين، مدح الله أهلها، وأفاض عليهم بمنه وكرمه ورضاه. واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن النقص في بني آدم وصف لازم، فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة لهم من الخطأ، ولكن الخير كل الخير فيمن إذا أخطأ تاب وأناب واستغفر، وخير الخطائين التوابون.
إن التوبة والإنابة مقام عظيم من مقامات النبوة، ابتدأه آدم عليه السلام حين عصى ربه فتاب وأناب، فتاب الله عليه، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]. وتتابع الأنبياء والرسل من بعده، وما زال أتباعهم يتسابقون في التوبة والإنابة إلى ربهم كما حكى الله عن كثير منهم في كتابه، بل وصفهم ومدحهم بالتوبة والإنابة، حتى جاء إمامهم وخاتمهم نبينا محمد فرفع لواء التوبة ودعا إليها بقوله وفعله، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) أخرجه البخاري، وعن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم.
وقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة بالدعوة إلى التوبة، يقول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54]، وقال : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم.
ولقد فتح الله باب التوبة لكلّ عبد، ووعد بقبولها فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]. بل قال في أصحاب الأخدود الذين قتلوا المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، قال الحسن البصري رحمه الله: "انظروا إلى هذا الجرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة".
بل لقد حذر سبحانه من القنوط من رحمته فقال: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، قال ابن عباس : (من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله). وقال أيضا مذكرا بالتوبة وحاثا عليها: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:104]، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25].
وما كل هذا الاعتناء بالتوبة إلا لما لها من الفضائل العظيمة، فهي سبب للفلاح والسعادة في دار الدنيا والآخرة، وهي كذلك سبب لتكفير السيئات، بل إبدالها بحسنات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
وإذا أحسن العبد التوبة بدل الله سيئاته حسنات، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].
فالتوبة ـ يا عباد الله ـ واجبة على المؤمنين على كل أحوالهم، وذلك لأن ما من عبد إلا ويعصي، ((لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) ، فإذا تاب العبد حصلت له من الفضائل الدينية والدنيوية ما لا يعلم قدرها إلا الله، قال الله تعالى في ذلك: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89]، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146]، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:153]، ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:119].
ليس هذا فحسب، بل إن الملائكة المسبحة بقدسه تدعوه أن يغفر للتائبين، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7].
وقد منع الله التوبة عن أناس استهانوا بأمره وأعرضوا عن الناصحين واتبعوا الشهوات وسوّفوا فيها فقال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18].
وقد ذكر الله تعالى تحذيره لعباده من التساهل في أمرها فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:53- 59].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما سمعتم وتسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروا ربي إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين.
أما بعد: فإن ربنا الغني عنا يدعونا للتوبة من معصيته، ويحثنا على الرجوع إليه، وهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه، وينكر علينا عدم الإقبال عليه فيقول: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]. ويُظهر لنا أنه يريد منا التوبة والرجوع إليه، فليس له حاجة في تعذيبنا، ولكن ثمةَ موانع تمنعنا عن التوبة إليه.
إنهم شياطين الإنس والجن الذين يزينون للناس المعصية ويدعونهم إليها، ما تركوا طريقا يقربهم من الله إلا قعدوا عليه يذودون الناس عنه، وما تركوا سبيلا يبعدهم عن الله إلا زينوه وبهرجوه، يغيرون الأسماء لتختفي الحقائق، يجلبون بخيلهم ورجلهم للصد عن سبيل الله، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
نشروا الخمور والمخدرات ليضلوا الناس ويبعدوهم عن ربهم ومرضاته، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
أنشؤوا القنوات، وعرضوا فيها كل غانية وفاتنة، فأشعلوا كوامن الشهوات في نفوس المسلمين، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
أخرجوا المرأة من خدرها وعفافها، وكرهوا إليها الحجاب والستر، وعرضوها سلعة بأيدي أرباب الشهوات وتجار الرذيلة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
أكلوا الربا ويسروا سبله، وأوقعوا فيه المسلمين، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
ابتدعوا شعائر وبدعا ما أنزل الله بها من سلطان، وزخرفوها وزينوها في عيون المسلمين، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
سخروا من الدين، وذموا الحجاب، واستهزؤوا بأهل الصلاح والتقوى، لا لشيء إلا للقدح في دينهم، وأظهروا التدين على أنه تخلف ورجعية، وترك التدين والاعتراض على أحكام الله ثقافة وتقدم، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
عرضوا المسلسلات الكوميدية والمسرحيات الموسمية، فأظهروا الفضيلة فيها رذيلة، وصوروا الحق فيها باطلا، فاستمالوا فئاما من المسلمين، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
حكموا بالأنظمة الوضعية، ونحِّيت أحكام الشرع أو بعضها عن الحكم بين الناس، وزعموا أن ذلك تقدم وديمقراطية، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
صوروا العيد على أنه حفلات مختلطة وغناء ومعصية ومشاهدة للألعاب السحرية والمسرحيات الترفيهية، فغدت الأعياد الشرعية أياما للمنكرات والمخالفات، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا.
عباد الله، إنها دعوة من ربنا عز وجل لعباده أن يتوبوا إليه ويستقيموا على أمره، فلنحذر جميعا سخط الجبار ونقمته، فإنه ليس بيننا وبين الله نسب، إنما صلتنا بربنا هي التقوى، فوالله لنتقين الله أو ليعذبنا الله.
كم من النذر تتوالى علينا في هذا البلد وفي غيره من بلاد المسلمين فلا نتّعظ، فما زعزعة الأمن وانتشار القتل واستحلال الدماء إلا فتنة من الله، وما خسوف القمر وكسوف الشمس إلا تخويف من الله، وما حصول الزلازل والهزات الأرضية إلا نذير من الله، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
فالتوبة التوبة، والاستقامة الاستقامة على أمر الله، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
(1/4833)
فريضة الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
22/8/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع العبادات. 2- فضل الزكاة والنفقات الواجبة. 3- عقوبة مانع الزكاة. 4- مصارف الزكاة. 5- الواجب في النقدين. 6- فضل الصدقة وصنائع المعروف. 7- وجوب السؤال عن أحكام الزكاة. 8- الحث على إعانة المدينين. 9- الاستعداد لرمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله بالعمل بطاعاته والحذَر من محرَّماته، فما أسعدَ الأتقياء، وما أشقى العصاةَ الجُرَآء.
أيّها المسلِمون، لقد بيَّن الله لَكم كلَّ خيرٍ وأمرَكم بهِ، وبيَّن لَكم كلَّ شرٍّ وحَذَّركم مِنه، فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92].
أَلاَ وإنَّ مِن شَرائعِ الإسلام إحسانًا من الله تعالى إلى المكلَّف نفسِه، وإحسانًا من المكلَّف إلى الخلق، قال الله تعالى: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15]. فتوحيدُ ربِّ العالمين بعبادَتِه وَحدَه لا شَريك له فرضٌ على العَبدِ، مَن حقَّقه دخَل الجنةَ، ومن أشرَك بالله في عبادَتِه دخَل النار. والتوحيدُ أعظمُ إحسان إلى النفس، ومثلُه الصلاةُ والصيام والإخلاصُ والذّكر وأَعمالُ القلبِ وغيرُ ذلك. والإحسانُ إلى الخلقِ بكلِّ عبادةٍ يتعدَّى نفعُها إلى الغيرِ، مِثل تعليمِ العلمِ والأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكَر وبِرِّ الوالدين وصِلةِ الأرحامِ وكفِّ الأذى عن الناسِ وحُسنِ الخلُق ونحوِ ذلك.
أيّها الناس، ألا إنَّ منَ العباداتِ التي يُحسِن بها المكلَّف إلى الخلقِ ويعود نفعُها إلى فاعلِها أيضًا الزكاةَ المفروضة والنفقاتِ الواجبةَ والمستحبّة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقالَ تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] أي: فيجازِيكم عليه، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
فالزكاةُ قرينةُ الصلاة، لا يقبَل من العبد صلاةٌ حتى يؤدِّيَ الزكاةَ. وهي فرض وحقٌّ في الإسلامِ لنفعِ الفقيرِ، حقٌّ وفرض في الإبل والبقَر والمعزِ والضَّأن والذهب والفضّة وما يقوم مقامَها من العملات المتداوَلة وفي الخارج من الأرض من الثّمار وفي عروضِ التجارة إذا بلغ كلٌّ من ذلك نصابًا على ما هو مفصَّل في الأحاديث النبوية الثابتة.
والزكاة أحدُ أركان الإسلام، عن أبي أيّوب رضي الله عنه أنَّ رجلا قال للنبي : أخبرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاةَ، وتؤتي الزكاةَ، وتصِل الرحم)) رواه البخاري، وعَن الحسن بنِ عليّ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((حصِّنوا أموالَكم بالزّكاةِ، وداووا مرضَاكم بالصّدقة، واستقبِلوا أمواجَ البلاءِ بالدعاء والتضرُّع)) رواه الطبرانيّ والبيهقيّ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول اللهِ، أرأيتَ إن أدَّى الرجل زكاةَ ماله، فقال رسول الله : ((مَن أدَّى زكاةَ ماله فقد ذهبَ عنه شرُّه)) رواه الحاكم والطبرانيّ في الأوسط واللفظ له وابن خزَيمة.
وصاحبُ المال إذا لم يؤدِّ زكاتَه صار عذابًا له ووبالاً عليه في الدّنيا وفي الآخِرة، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رَسول الله : ((ولاَ صاحِب إِبلٍ لا يؤدِّي حقَّها ـ يعني زَكاتها ـ ، ومِن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها، إلاّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قَرقَرٍ ـ أي: بأرضٍ مُستوية ـ أوفرَ ما كانت، لا يفقِد منها فصيلاً واحدًا، تطؤُه بأخفافِها وتعضّه بأفواهِها، كلّما مرَّ عليه أخرَاها ردّ عليه أُولاها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضِيَ الربّ بين العباد، فيرى سبيلَه إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار)) ، قيل: يا رسول الله، فالبقرُ والغنَم؟ قال: ((ولا صاحِب بَقرٍ ولا غَنَم لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كانَ يَوم القِيامَة بُطِح لها بِقاعٍ قَرقَرٍ أوفرَ ما كانت، لا يفقِد منها شيئًا، ليسَ منها عَقصاء ـ أي: مُنحنية القَرن ـ ولا جَلحاء ولا عَضبَاء، تنطحُه بقرونها وتَطؤُه بأظلافها، كلّما مرّ عليه أُخراها رُدَّ عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنَة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النّار)) رواه البخاري ومسلِم، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أيضًا عن النبيّ قال: ((مَن آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّلَ لَه يومَ القيامة شُجاعًا أقرَع ـ أي: ثُعبانًا عظيمًا ـ لَه زبيبتَان، يُطَوَّقُه يومَ القيامَة، ثم يأخُذ بِلهزمَتَيه ـ يعني شِدقَيه ـ ، ويقول: أنا مَالُك أنا كنزُك)) رواه البخاري ومسلِم، وقال تعالى عن المنافقين: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
فيا أيّها الناس، شأنُ الزكاةِ في الإسلام عظيمٌ، وعَدَم أدائِها محقُ بركةِ المال وعَذابٌ ألِيم، فأعطوهَا ـ رحمكم الله ـ لِمستحقِّيها، فقد أعطاكُم الله الكثيرَ من المال، وطلب منكم اليسيرَ، ووَعدَكم بالثواب عليه، ووعدكم أن يخلِفَ ما أنفقتم.
وقد بيَّن الله تعالى مصارفَ الزكاة وأهلَها، فلم يكِلْها إلى أحدٍ، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
فالواجبُ في الذهبِ والفضّة ربعُ العُشرِ في كلٍّ، وما زادَ على النّصاب فبِحِسابِه، وإذا أدى من العملات الورقيّة مِن كل مائة ربعَ العشر أي: اثنين ونصفًا في المائة فقد برِئَت ذمَّتُه وأدَّى أكثرَ ممّا عليه.
والنفقاتُ التي تلزم المسلمَ في غير الزكاةِ يُثاب عليها، وفي الحديث عن النبيِّ : ((دينارٌ أنفقته على أهلِك، ودينار تصدَّقتَ به، ودينار أنفقتَه في سبيل الله، أعظمُهُنّ أجرًا الذي أنفقتَه على أهلِك)).
والصّدقاتُ في سبُلِ الخيرِ يجلِبُ الله بها الخَيراتِ ويدفَع بها المكروهاتِ، عن أبي أمامةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((صَنائعُ المعروفِ تَقِي مَصارِعَ السوءِ، وصَدقةُ السِّرِّ تُطفِئ غَضَبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرحم تزيد في العمر)) رواه الطبرانيّ بإسنادٍ حسن، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما مِن يومٍ يصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسكا تلفًا)) رواه البخاريّ ومسلم، ويقول : ((اتَّقوا النّارَ ولو بشقِّ تمرَة)). ويعظم ثوابُ الزكاة والنفقةِ إذا وقعت في موقعها.
فيا أيّها الناسُ، من خفِي عليه من شأن الزكاة وتفاصيلها فليسأَل عن ذلك أهلَ العلم، قال الله تبارك وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، والرّسولُ يَقول: ((مَن يرِدِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين)).
فيا أيّها الناس، إنَّ ثوابَ الزكاة وثوابَ النفقة إذا وقَعَت في مَوقِعِها فإنّه يعظم ثوابُها أكثَر وأكثر، وإذا نفَّس الله بهَا كربَ مكروب ونفَع الله بها أسرةً محتاجة كان ذلك عند الله عظيمًا.
ألا وإنَّ ممن هو أهلٌ وموقِع للزّكاة والصدقة والعَطف والإعانَة الذين أثقَلتهم الديونُ وتحمَّلوا من الغير في أمورٍ مباحةٍ شرعًا، والذين أوقَعهم الدَّين في السجون وتركوا وراءَهم عَوائِلَ لاَ كافِلَ لهم، فضاعَ بعدَهم كثيرٌ مِن عيالهم، واحتاجوا إلى رعايةٍ وكفَالة، واستدانوا في إصلاحِ أحوالِهم استدانةً مباحة، أو وقَع عليهم غرمٌ لأسبابِ قدَر وقضاءٍ، فهؤلاء من أهلِ الزكاة والصّدَقة، والتّكافلُ الإسلاميّ يوجب علينا إنقاذَهم مما وقَعوا فيه ورعايةَ أسَرِهم والسعيَ في تفريجِ كربَتِهم، ولا سيّما في هذا الشهر المبارك الذي تضاعَف فيه الحسنات والذي تكفَّر يه السيِّئات، فإنَّ رعاية أولئك من أفضلِ الأعمال عندَ الله تبارَك وتَعالى، والمؤمِنون في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمّى.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:254].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروهُ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله رَبِّ العَالَمين، الرَّحمَن الرَّحيمِ، مالِكِ يَومِ الدِّين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
أيّها المسلمون، لقد أظلَّكم شهرٌ كريم وموسِم عظيم، شهر الإحسانِ والقرآن، شهرُ رمضان الذي جعَله الله سيّدَ الشهور، فاستقبِلوه ـ أيّها المسلمون ـ بالفرَح بطاعةِ الله تعالى، قال عزّ وجلّ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. واستَقبِلوه بالتوبةِ إلى اللهِ مِن جميع الذّنوب، وبالاستعدادِ لَه بأحسنِ ما تقدِرون عليه من الأعمالِ، فإنه شهرٌ من فاته الخيرُ فيه فقد فاته الخيرُ، ومن اغتَنَم أوقاتَه وتعرَّض فيه لنفحات ربِّه وتقرَّب إلى الله عزّ وجلّ فيه بما يوفِّقه الله [إليه] مِن الصّيامِ ومِن القِيام وتَرَك ما حرّم الله تبارك وتعالى عليه فقَد وفِّقَ لخير كثيرٍ، وفي الحديث عن النبيِّ أنه قال: ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
أيّها الناس، إنَّ ممّن زيَّن له الشيطانُ وغرَّه أنَّه إذا أتَى رَمضانُ أو دَخَل عليه رَمضانُ يُسوِّف لَه الشَّيطانُ ويقول: سأعمَل صالحًا وسأتوب في آخرِ الشهر وسأجتَهِد، ثمّ لا يزال به الشيطان يسوِّل له حتى يخرُج الشهر وهو لم يقضِ مِن أمره شيئًا.
فاستقبلوا شهرَكم ـ عباد الله ـ بالجدِّ والاجتهادِ في طاعةِ الله، فإنَّ الحسنةَ بعدَ الحسنة ثوابُ الحسنة عند الله، وإنَّ الحرمانَ مِن الحسنات أعظمُ العقاب عند الله تبارك وتعالى.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد...
(1/4834)
تدنيس القرآن وقيادة المرأة للسيارات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الإعلام, المرأة, جرائم وحوادث
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
3/5/1426
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن الكريم. 2- وقفات مع جريمة تدنيس المصحف الشريف. 3- محاولة بعض الكتاب إسقاط هيبة العلماء. 4- تغريب المرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، سنتكلم اليومَ عن بعض ما تداولته وسائل الإعلام مؤخَّرا، جاء عن ابن مسعود أنَّ النبي قال: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل مُصَدَّق ـ أي: خصم عادل ـ ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)).
إن القرآن بلا شكّ ولا ريب هو أعظم كتاب لدى المسلمين، فهو كلام الله تعالى الذي أنزله على أفضل رسله ، ولقد تواترت الأنباء عن قيام أعداء الله بتدنيس القرآن في معسكرات الاعتقال في جوانتاناموا وفي فلسطين المحتلّة، كنوع من الضغط على إخواننا الأسرى، نسأل الله تعالى أن يفرّج كربهم، ولنا مع هذا الحدث وقفات:
فأما الوقفة الأولى: فهي مع أعداء الله الذين وصفَهم الله تعالى بقوله: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، فليس بعد الكفر ذنب، ولا يعتقد مسلم أن الكفار يحبّوننا أو يحترِموننا وقد قال تعالى عنهم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، وهنا يمتحن كلّ مسلم إيمانه بأن يراجع عقيدة الولاء والبراء في قلبه، وينظر إن كان لا يزال يحبّ أعداء الله ومَن دنّس كتاب ربنا عز وجل.
الوقفة الثانية: مع قول الله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ، فالذين دنسوا القرآن هم من اليهود والنصارى، كما فعل ذلك الهندوس من قبل عندما هدموا مسجد البابري، وكما فعل أولئك الإرهابيون الذين فخّخوا كتاب الله في مكّة؛ مما يدلنا على أن القاسم المشترك بينهم بغض دين الله وكلامه عز وجل. وإن تعذّر رفع علم الجهاد وقتالهم لضعف المسلمين فإن جهادهم لا يكون بتسيير المظاهرات والتخريب كما حصل في بعض البلاد الإسلامية، بل بالدعوة إلى القرآن ومدارسته والعمل به، ولو فعلنا ذلك لكان ذلك أكبر نكسة لأولئك الكفرة ولأعوانهم المنافقين.
وأما الوقفة الثالثة: فإن إعراض المسلمين عن قراءة القرآن واشتغالهم بما هو دونه من أخبار وصحف وأغاني ورياضة ولهو هو ما جرأ الكفار على تدنيس مصاحفنا، وقد قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فنحن الذين هجرنا قراءته، وهجرنا العمل به، وهجرنا تدبر آياته والانتفاع بها لنعلم ما يريده منا ربّنا، ونحن الذين هجرنا التداوي به لشفاء أمراض قلوبنا وأجسادنا، ونحن الذين تركنا التحاكم إليه؛ لذا أذلنا الله تعالى، وجعلنا في آخر الأمم وأضعفها، ويظهر ذلك الضعف جليا في مظاهر شبابنا ولباسهم وتصرفاتهم، ولو قارناهم بشباب تحفيظ القرآن الكريم لرأينا فرقا عظيما وبونا شاسعا، وما ذلك إلا لإعراض الناس عن كتاب ربهم، حتى إن منا من لا يعرف الفرق بين آية وحديث لبعده عن القرآن.
والعجيب أن قلة من الكتاب والمثقفين كتَب يستنكر هذه الجريمة العظيمة، بينما أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على قيادة المرأة للسيارة والانتخابات البلدية، مما يدلّنا على خُبث طويّتهم وحقيقة نواياهم.
وأما الوقفة الرابعة والأخيرة: فهي مع حال طلابنا في موسم الاختبارات، إن ما يفعله بعض الجهلة من تمزيق الكتب الدراسية بعد الاختبارات بما فيها كتب التوحيد والتفسير والفقه ورميه في الطرقات ودهسه بالأرجل والسيارات لهو من جنس تدنيس كتاب الله تعالى؛ لأنه ما من كتاب إلا ويحتوي على آيات أو أحاديث أو على أقل تقدير فإنها تشتمل على لفظ الجلالة، ولا يمكن أن يصدر هذا الفعل من طلاب التحفيظ المستقيمين، ولا من المحافظين على الصلوات الخمس في المساجد، ولا ممن أحسن آباؤهم تربيتهم وتنشئتهم؛ إذ لا يصدر هذا الفعل إلا ممن نشأ في بيت جهل وبُعد عن الله، فلا يعرف للقرآن حقه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن الله تعالى يقول: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا.
إن وظيفة العلماء تبيين الأحكام للعامّة وتبصيرهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم؛ لأنهم ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث، إلا أن الملاحظ أن الكثير من الصحف والمجلات تحاول النيل من العلماء وإسقاط هيبتهم من قلوب الناس، كي يخلو لهم الجو في طرح أفكارهم المشبوهة وعقائدهم التالفة، ولا شك أن المسلمين عامة وكل من يعمل في مجال الإعلام خاصّة مسؤولون يوم القيامة كما قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. والعجيب أنك لا تكاد تجد داعية أو قاضيا أو عالما يكتب عامودا يوميا؛ لأنهم لا يريدونهم أن يكشفوا للناس عوارهم وعيوبهم، بينما يفسحون المجال للكتاب من فئة المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لتلويث أفكار الناس كما يشاؤون، وهم يتهمون الدعاة والأئمة وكل من خالفهم الرأي بالإرهاب والإقصاء والتطرف.
إنّ أهدافهم الظاهرة أن يخرجوا المرأة من خدرها بدعوتها إلى الاختلاط بالرجال وإبراز عينات شاذة لنساء أعمال وإداريات وطبيبات بشرط أن يكُنّ متبرجات مظهرات لشعورهن ونحورهن ويختلطن بالرجال، كي يكن قدوات لنساء المسلمين، وما دعواتهم لاختلاط الأطفال في المراحل الابتدائية ودعوتهم لقيادة المرأة للسيارة على الرغم من أقوال كبار العلماء في هذه المسألة وما مطالبة أحدهم بمسارعة اشتراك المملكة بفرق نسائية رياضية دولية كي لا نُحرم من المشاركة في مباريات كرة القدم على المستوى العالمي إلا أنموذج لضحالة التفكير وضعف الدين وقلة العلم عند من تصدروا الكتابة، إذًا هم لا يريدون للمرأة أن تقود السيارة فحسب، بل يريدونها أن تشارك في الأولمبياد، وبذلك نكون أهلا لنيل رضا اليهود والنصارى الذين لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم.
لقد وصفت كاتبة في مقالة بالأمس الذين يطالبون بالمقاطعة الاقتصادية للدول الكافرة بأنهم يتسكعون في مقاهي الدول الغربية، وأنهم يرتادون خمارات المطارات مودّعينها قبل أن يعودوا في هيئة الناسك المتعبد إلى هذه البلاد فيَعِظون الناس من على المنابر، فقذفت بذلك كل أئمة المساجد والدعاة من على وسيلة إعلامية يقرؤها مئات الآلاف، ولو أن إماما تجاوز حدّه ووصف أحدهم بأنه عميل للغرب أو علماني أو شيء من هذا القبيل لأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ولطالبوا بدمه وصلبه، على الرغم من أنه ما خطب إلا في مئات معدودة.
فاتقوا الله عباد الله، واقرؤوا بقلوبكم وعقولكم، صنّفوا أولئك الكُتّاب، واعرفوا لهم مواقفهم، وحذّروا الناس من شرورهم، أنكِروا على تلك الصحف بالهاتف والفاكس والزيارة، وارفعوا للجهات المسؤولة في وزارة الإعلام والمحاكم الشرعية محتسبين بذلك الأجر عند الله والدفاع عن الدين؛ كي لا يكتسح طوفان التغريب والعلمنة بلاد الحرمين، وقد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
(1/4835)
كفى بالموت واعظا
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن عبد العزيز الشمالي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحقيقة الغائبة. 2- الاستعداد للموت. 3- حقارة الدنيا. 4- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وتمسكوا بالعروة الوثقى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أخي الحبيب، إني لك محبّ، وعليك مشفق، ولك ناصح. وإني محدثك بحديث ومخبرك بحقيقة طالما نسيناها، حقيقة طالما غفلنا عنها، حقيقة طالما أهملنا التفكر والتفكير فيها. فأرع لي سمعك، وافتح لي قلبك؛ لتتعرف على هذه الحقيقة.
قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، وقال الرسول : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) ، وروي عن ابن عمر قال: سئل النبي : أي المؤمنين أكيس؟ قال: ((أكثرهم للموت ذكرًا وأشدهم استعداد، له أولئك الأكياس)) والحديث ضعيف، وعنه قال: أخذ الرسول بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)، ويقول : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
نعم أخي الحبيب، إنها حقيقة الموت، إنها مفارقة الدنيا، إنها مفارقة الأهل والخلان، تلك الحقيقة التي أقضّت مضاجع العارفين، فصاروا فيها دائمًا متفكرين، ولأجلها دومًا مستعدين، يقول الحسن البصري: "فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحا، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه وهان عليه جميع ما فيها"، وقال شميط بن عجلان: "من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها"، وكان حامد القيصري يقول: "كلنا قد أيقن الموت وما نرى له مستعدا, وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً, وكلنا أيقن بالنار وما نرى لها خائفا, فعلام تفرحون؟! وما عسيتم تنتظرون: الموت؟! فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشر، فيا إخوتاه، سيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً"، ويقول ابن مسعود : (السعيد من وعظ بغيره)، وقال أبو الدرداء : (إذا ذكر الموتى فعد نفسك كأحدهم).
فيا أُخَيّ، أين استعدادك للقاء ملك الموت؟! أين استعدادك لما بعد الموت من أهوال؟! في القبر، وعند السؤال، وعند الحشر، وعند الحساب، وعند تطاير الصحف، وعند الوقوف بين يدي الجبار جل وعلا. عن عدي بن حاتم قال: قال النبي : ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة)) متفق عليه. قال الشاعر:
إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت في الأرواح حادي
فلو كنا جمادًا لاتعظنا ولكنا أشدَّ من الْجماد
تنادينا المنية كل وقت وما نصغي إلى قول الْمنادي
وأنفاس النفوس إلَى انتقاص ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما لزرع قارنه اصفرار فليس دواؤه غير الحصاد
أخي المسلم، هل وقفت مع نفسِك وقفةً حازمةً؟! هل حاسبت نفسك محاسبة صادقة؟! حاسِب نفسك في خلوتِك، وتفكّر في سرعة انقراض مدّتك، واعمل بجدّ واجتهاد في زمان فراغِك لوقت حاجتك وشدّتك، وتساءل مع نفسك: هل أنا مؤمن بالله حق الإيمان؟! هل أنا مؤمن بملائكته؟! هل أنا مؤمن بكتبه ورسله؟! هل أنا مؤمن بقضائه وقدره؟! هل أنا مؤمن باليوم الآخر وما فيه من شدائد وأهوال؟! هل أنا ممّن يصلّي الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد؟! هل أنا ممن يصوم رمضان إيمانًا واحتسابًا؟! هل أنا حريص على النوافل من صلاة وصيام وصدقة؟! هل أنا ممن يبادر إلى التوبة والاستغفار بعد الذنب؟! هل أنا بار بوالدي؟! هل أنا محافظ على لساني؟!
أخي الحبيب، تدارك نفسك فأنت في زمن الإمهال، وتذكر وتأمل، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
أخي المبارك، إذا كانت هذه هي الحقيقة فعلام نفرح بدنيانا؟! وإلامَ نغتر بها والله عز وجل قد وصفها وقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، ويقول عز وجل: فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، ويقول عز وجل: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39]، ويقول الله تعالى واصفًا المغترين بها وحاثًا لهم على التزود منها: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حلوة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) رواه مسلم، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع رسول الله بذي الحليفة فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها، فقال: ((أترون هذه هيّنة على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده، للدنيا أهون عند الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها قطرة ماء أبدًا)) ، ويقول الحسن: مر عمر بن الخطاب على مزبلة فاحتبس عندها ـ أي: توقف عندها فترة من الزمن ـ فكأن أصحابه تأذّوا منها فقال: (هذه دنياكم التي تحرصون عليها)، وعن علي بن أبي طالب قال: (ألا إن الدنيا قد ولّت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بَنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل)، وقال الشافعي رحمه الله: "إن الدنيا دحض مزلّة ودار مذلّة، عمرانها إلى الخراب، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر معروف، فأكثر من عملك، واقصُر من أجلك"، قال الشاعر:
الْموت في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها ولو توشحت من أثوابها الْحسنا
أين الأحبة والجيران وما فعلوا أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الْموت كأسًا غير صافية فصيرتْهم لأطباق الثرى رهنا
فيا أخي، كم من ذاهب بلا إياب، وكم من حبيب على الرغم قد فارق الأحباب وترك الأهل والأصحاب وانتقل إلى ثواب جزيل أو عقاب وأنت ما زلت مخدوعًا بهذه الدنيا وسفرك على اقتراب، فانتبه واستعدّ للرحيل بعمل صالح تفرح به عند مقابلة ربك الجليل.
اللهم إنا نسألك أن تهدينا بهداية الإيمان، وأن تغفر لنا الذنوب والعصيان، اللهم واجعل الدنيا في أيدينا، وأعنّا اللهم على طاعتك، واغفر اللهم لنا ولجميع موتى المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [لطلاق:2، 3].
سلام على كلّ مؤمن مهموم، سلام على كل مؤمن مبتلًى مغموم، سلام على كلّ مؤمن مجروح، سلام على أولئك الذين فجعوا بأحبتهم، سلام على من فارق الآباء والأمهات، سلام على من ودّع الخلان والأصحاب.
أحبتي في الله، إنها الدنيا إن أضحكت يوما أبكت أيامًا، وإن سرّتك يومًا ساءتك سنينًا وأعوامًا، دار مؤلمة، دار محزنة، دار البلايا والكروب، فما أحوجنا للعودة الصادقة إلى ربنا.
أخي الحبيب، اغتنم أيّامك وساعات عمرك ودقائق حياتك وثواني ولحظات شبابك، إن فرطت فربك غفور رحيم، وإن أذنبت فباب التوبة مفتوح، وإن زللت فلا تيأس فالرجوع عند الزلل محمود.
يا من فرط فيما مضى من حياته، يا من غرّه شبابه، يا من ألهته دنياه، يا من غرق في ملذاته وشهواته، يا من أغراه ماله، يا من أغراه نسبه، يا من أغرته قوته، يا من زل، يا من أذنب، يا من قصر، يا من فرط، استمع إلى ربك وهو يناديك: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر:53-59].
اللهم يا حي يا قيوم، تقبل توباتنا، وامح زلاتنا، وأقل عثراتنا، واختم بالصالحات آجالنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين...
(1/4836)
تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
محمد بن عبد العزيز الشمالي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة العناية بتربية الأولاد. 2- ظاهرة إهمال تربية الأولاد. 3- وصايا وتوجيهات معينة على تربية الأولاد. 4- شكوى من ولد لأبيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المؤمنون، في زمنٍ تكالب فيه أعداء الإسلام على أهله، وفي زمنٍ كشر الشر عن أنيابه، وفي زمنٍ انتشرت فيه وسائل الفساد وعمت وطمّت كان لزامًا علينا نحن الآباء والمربون وأولياء الأمور أن نهتمّ بشأن تربية الأولاد، وأن نبحث عن كل ما مِن شأنه أن يعيننا على القيام بهذه المسؤولية.
وإن مما يحزن له القلب ويتفتّت له الفؤاد أن ترى كثيرًا من الناس قد أهملوا تربية أولادهم، واستهانوا بها، وأضاعوها، فلا حفظوا أولادهم، ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد إن كثيرًا من الآباء أصلح الله أحوالهم يكونون سببًا لشقاء أولادهم وفسادهم، قال ابن القيم رحمه الله: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته، وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوّت على ولده حظّه في الدنيا والآخرة"، ثم قال رحمه الله: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الآباء، إليكم هذه الوصايا وهذه المعالم التي تعينكم على القيام الحق بتوجيه أولادكم وتربيتهم التربية التي تسعدون بها في الدارين:
1- سؤال الله الذرية الصالحة: فهذا العمل دأب الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين كما قال تعالى عن زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وكما حكى عن الصالحين أن من صفاتهم أنهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
2- غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد: فمما يجب ـ بل هو أوجب شيء على الوالدين ـ أن يحرصوا كل الحرص على غرس العقيدة الصحيحة، وأن يتعاهدوها بالسقي والرعاية، كأن يعلّم الوالد أولاده منذ الصغر أن ينطقوا بالشهادتين، وأن يستظهروها، وينمي في قلوبهم محبة الله عز وجل، وأنّ ما بنا من نعمة فمنه وحده، ويعلمهم أيضا أن الله في السماء، وأنه سميع بصير، ليس كمثله شيء، وأن ينمي في قلبه محبة نبيه محمد ، إلى غير ذلك من أمور العقيدة.
3- غرس القيم الحميدة والخلال الكريمة في نفوسهم؛ مِن صدق ووفاء واحترام وبذل وحسن خلق وطيب معشر وحُسن حديث وحبّ للعلم والعلماء وصبر وحِلم وغيرها من الصفات الحميدة، فالطفل منذ نعومة أظفاره جوهرة لامعة، فمتى حرصت على هذه الجوهرة بقيت غالية وثمينة، ومتى أهملتها فقدت قيمتها ولمعانها، وأصبح من الصعب إعادتها إلى ما كانت عليه.
4- تنشئتهم على الآداب الإسلامية وتدريبهم عليها؛ من آداب الأكل والشرب وآداب النوم وآداب الضيافة وآداب المجلس وآداب السلام وآداب قضاء الحاجة وآداب الجار وتشميت العاطس وغير ذلك، فمتى اعتادها في الصغر نشأ عليها في الكبر، وسهل عليه القيام بها، وسرّ الأب بها وثناء الآخرين على حسن تربيته.
5- الحرص على استعمال العبارات المقبولة الطيبة مع الأولاد، والبعد عن العبارات المرذولة السيئة: فمما ينبغي للوالدين مراعاته أن يحرصا على انتقاء العبارات الحسنة المقبولة الطيبة، البعيدة عن الإسفاف في مخاطبة الأولاد، وأن يربؤوا بأنفسهم عن السب والشتم واللجاج وغير ذلك من العبارات البذيئة والسيئة.
فإذا أعجَب الوالدين شيءٌ من عمل الأولاد على سبيل المثال قالا: ما شاء الله، وإذا رأيا ما يثير الاهتمام قالا: سبحان الله، الله أكبر، وإذا أحسن الأولاد قالا لهم: بارك الله فيكم، أحسنتم، جزاكم الله خيرًا, وإذا أخطؤوا قالا: لا يا بني، ما هكذا، إلى غير ذلك من العبارات المقبولة الحسنة؛ حتى يألف الأولاد ذلك، فتعفّ ألسنتهم عن السباب والتفحّش.
6- الحرص على تحفيظهم كتاب الله عز وجل: فهذا العمل من أجلّ الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الوالدان؛ فالاشتغال بحفظه والعمل به اشتغال بأعلى المطالب وأشرف المواهب، ثم إن فيه حفظًا لأوقاتهم وحماية لهم من الضياع والانحراف، فإذا حفظوا القرآن أثر ذلك في سلوكهم وأخلاقهم، وفجر ينابيع الحكمة في قلوبهم.
7- أن تكون قدوة صالحة لأولادك: يقول الله تعالى: وَكَانَ أُبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فينبغي للوالدين أن يكونا قدوة صالحة لأولادهم في الصدق والاستقامة وجميع شؤونهم، وأن يتمثلا ما يقولانه. ومن الأمور المستحسنة في ذلك أن يقوم الوالدان بالصلاة أمام الأولاد؛ حتى يتعلم الأولاد الصلاة عمليًا من الوالدين، وهذا من الحكم التي شرعت لأجلها صلاة النافلة في البيت.
8- إبعاد المنكرات وأجهزة الفساد عن الأولاد: فمما يجب على الوالد تجاه أولاده أن يحميهم من المنكرات، وأن يطهر بيته منها، حتى يحافظ على سلامة فطر الأولاد وعقائدهم وأخلاقهم، ويجدر به أن يوجد البدائل المناسبة المباحة، سواء من الألعاب أو الأجهزة التي تجمع بين المتعة والفائدة، حتى يجد الأولاد ما يشغلون به وقت فراغهم.
9- أن تقدر مراحل العمر للأولاد: فالولد يكبر وينمو تفكيره، فلا بد أن تكون معاملته ملائمة لسنه وتفكيره واستعداده، وأن لا يعامل على أنه صغير دائما، ولا يعامل أيضا وهو صغير على أنه كبير؛ فيطالب بما يطالب به الكبار، ويعاتب كما يعاتبون، ويعاقب كما يعاقبون.
10- الجلوس مع الأولاد في المنزل: فمما ينبغي للأب مهما كان له من شغل أن يخصص وقتا يجلس فيه مع الأولاد؛ يؤنسهم فيه، ويسليهم، ويعلمهم ما يحتاجون إليه؛ لأن اقتراب الولد من أبويه ضروري جدا، وله آثاره الواضحة، فهذا أمر مجرب، فالآباء الذين يقتربون من أولادهم ويجلسون معهم ويمازحونهم يجدون ثمار ذلك على أولادهم، حيث تستقرّ أحوال الأولاد، وتهدأ نفوسهم، وتستقيم طباعهم.
11- العدل بين الأولاد: روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما ـ أي: وهبته عبدا كان عندي ـ، فقال رسول الله : ((أكلَّ ولدك نحلته مثله؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((فأرجعه)) رواه البخاري، وفي رواية: فقال رسول الله : ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) ، قال فرجع فرد عطيته، وفي رواية: ((فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور)) رواه مسلم.
فما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس إلا بالعدل؛ فمما يجب على الوالدين تجاه أولادهم أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنّبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المادية كالعطايا والهدايا والهبات، أو الأمور المعنوية كالعطف والحنان والفرح والحزن.
12- عدم استعجال النتائج في التربية: فعلى الوالد إذا بذل مستطاعه لولده وبيّن له وحذّره ونصح له واستنفد كل طاقته أن لا يستعجل النتائج، بل عليه أن يصبر ويصابر ويستمر في دعائه لولده وحرصه عليه؛ فلربما استجاب الولد بعد حين وادَّكر بعد أمة.
13- استشارة من لديه خبرة بالتربية من العلماء والدعاة والمعلمين والمربين، ممن لديهم خبرة في التربية وسبر لأحوال الشباب وتفهم لأوضاعهم وما يحيط بهم وما يدور في أذهانهم، فحبذا استشارتهم والاستنارة برأيهم في هذا الصدد، فهذا الأمر يعين على تربية الأولاد.
14- الحرص على مرافقتهم لرفقة صالحة، فالجليس الصالح هو خير معين لك على تربية ابنك؛ لأنه لا يأمره إلا بما فيه خير، ولا ينهاه إلا عن شر، يقول الرسول : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخلل)).
أيها الآباء، أبشروا بمرضاة الرب عز وجل وبقرار أعينكم بصلاح أبنائكم ونفعهم لكم في الدنيا وبرّهم بكم، وأعظم من ذلك بعد وفاتكم كما قال عليه السلام: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم (1631)، وليس ذلك فحسب، بل إنهم نفع لكم في الآخرة لقوله عليه السلام: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟! فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) رواه ابن ماجه (3660) وأحمد (10232) واللفظ له، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فهذه كلمات يبثّها صدرٌ مفعَم بالحب والمودّة لك أنت أيها الأب المبارك على لسان ابنك، فافتح قلبك لها، وارع لها سمعك.
يا أبتي، استمع إلى شكواي أبثّها إليك، ومشكلتي أضعها بين يديك، فمشكلتي ـ يا أبتي ـ أنك مشكلتي، فأين أنت يا أبتاه؟! بيتك الذي بنيته يناديك، عشك الذي رعيته يناجيك، ابنك الذي نسيته يبحث عنك ليدنو منك، أعمالك, شركاؤك, عقاراتك, رفاقك, إنهم جميعًا أعدائي؛ لأنهم أخذوك مني وأبعدوك عني بالرغم من علمي أنك لا تعمل بها إلا من أجلي ولإخوتي.
يا أبتي، دعني أُقدم لك الشكر كله على ما بذلته من أجلي وفي سبيل راحتي وسعادتي، فقد بذلت لي أسباب الراحة والرفاهية من مأكل ومشرب ومسكن على قدر جهدك وطاقتك، ولكنك ـ يا أبتي ـ قد قصرت في أهمّ الجوانب وأعظم المطالب، إنها مطالب الروح والقلب والإيمان، فمتى أهديتني كتابًا دينيًا يأخذ بيدي وينير لي دربي في هذا الزمان الذي كثرت ظلماته؟! ومتى حفظتني القرآن؟! ومتى علمتني السنة؟! ومتى فقهتني في الدين؟! لقد هيأت لي ـ يا أبتي ـ جوّ المعصية، وأحطتني بسياج الخطيئة، فتنفست رائحة الشهوة، والتقطت كل ما يفتن، ألقيتني في بحر الشهوات ولم تلبسني طوق النجاة، ثم تريدني بعد ذلك أن أكون ملكًا معصومًا! يا أبتي، إني أمانة في عنقك، فأشغلني بطاعة الله حتى لا أشغل نفسي بمعصية، استعملني في مرضاة الله حتى لا أقع فيما يغضبه، سخرني في قربات الله كي لا أجترح ما يسخطه.
أبتاه، اسمح لي أن أقسو في العبارة قليلاً، إنك ربيتني لأكون عبدًا للدنيا، فعليها أعيش، ومن أجلها ألهث، ولم تربني لأكون عبدًا لله كما يحب الله. فهل تذكر ـ أيها الحبيب ـ عندما تأخرت عن المدرسة يومًا من دون عذر ولم أُصلّ لله ركعة واحدة في ذلك اليوم وأنت على عِلم بهذا واطلاع عليه، أُسائلك بالله: علام وقع لومك وعتابك؟! وعلام كان عقابك؟! إنك ـ يا أبتي ـ عاقبتني على تأخّري عن المدرسة ولكنك لم تعاقبني ولم تلمني مجرّد لوم على عدم صلاتي ووقوفي موقف العزّ بين يدي خالقي ومولاي. فهل تريدني أن أهتم بالدنيا أكثر من الدين؟! وهل ترغب أن أخاف منك أكثر من خوفي من الله؟!
أيها الأب الكريم، ها هو ابنك يبثّ إليك ما دار في خلده وما احتبس في أعماقه وما احتوته جوانحه.
أيها الآباء، اتقوا الله في أبنائكم، وربوهم على حب الله وخوفه ورجاء ما عنده، ربوهم على منهج الله، وعودوهم على الطاعة، وعلموهم العبادة. ربوهم على أن يعيشوا في الدنيا بمنظار الآخرة، فيتزودوا من ممرهم لمقرهم؛ حتى تكونوا وإياهم في الجنة في شغل فاكهون وعلى الأرائك تنظرون.
(1/4837)
حقيقة الإيمان بالله وأثره
الإيمان
فضائل الإيمان
محمد بن عبد العزيز الشمالي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإيمان. 2- دلائل الإيمان. 3- ثمار الإيمان. 4- أسباب زيادة الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لقد بين الله ورسوله أن الإيمان أفضل الأعمال كما قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التّوبة:19]، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول سئل: أي العمل أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إيمان بالله ورسولهِ)) ، قيلَ: ثُمَ ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيله)).
والإيمان هو الأساس الذي يربط العبد بربه، ويثمر الحب والخوف منه سبحانه، ويحفز العبد على الاندفاع إلى الطاعات واجتناب المعاصي. وبه يفوز المؤمنون في الدنيا والآخرة.
ولقد عرفنا الله ورسوله بأن الإيمان يشتمل على اليقين القائم على الدليل، وعلى الشهادة بما استقر في القلب من يقين، وعلى الإسلام والانقياد لله ورسوله.
والقرآن يعرفنا بربنا بمخاطبة العقول ودعوتها للنظر في آيات الله: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ ءَايَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءَايَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:3-6].
كما يدلل القرآن على الإيمان بالله بمنهج عملي محسوس يعرفه المؤمنون ويراه المستغيثون به سبحانه، والمتمثل في إجابة الله لدعائهم، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
ويسوق القرآن وكذا السنة بيّنات الرسل ومعجزاتهم للتدليل على صدق الرسالة، فلا يبقى مجال لشك أو ريب، كما قال تعالى في وصف المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].
وهذا المنهج هو منهج الرسل جميعًا كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فرؤية آيات الله في الكون هي طريق لليقين والإيمان به سبحانه.
فالإيمان بالله من أجلّ نعم الله عز وجل على خلقه، به تطمئن النفوس، وتنتشر الهمم، ويأنس الضّعيف، وتطيب الحياة. والإيمانُ هُوَ الذي يفجّر المشاعر الطيبة، ويوجه إلى المكارم، ويعصم من التحلّل الخلقي، ويحفظ الإنسان من نفسه الأمّارة بالسّوء التي هي مصدر الشر والفساد.
فالإيمان هو مفتاح الحلّ لمشاكلنا المستعصية، فهو الطريق إلى النصر يقول الله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، والإيمان طريقنا إلى العزة قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، والإيمان طريق إلى الحب الإلهي قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، والإيمان طريق إلى الرخاء والنعمة قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، والإيمان طريق الخلاص من مكر الأعداء قال تعالى: إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
إن للإيمان أثرًا كبيرًا على المؤمن، وعلى رأس أركان الإيمان يأتي الإيمان بالله، فالمؤمن يشعر بأنّ الله ربه يعلم حاله ويراقب أفعاله، وسيحاسبه على كل صغيرةٍ وكبيرة، فعنذئذٍ يتقي الرذائل ويسارع للخيرات. والإيمان بالملائكة يجعله يستحي من معصية الله عز وجل؛ لعلمه أن الملائكة ترافقه ولا تفارقه. والإيمان بالكتب يجعله يعتزّ بكلام الله ويتقرّب إليه بتلاوته، ويشعر أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في الكتب التي أنزلها، والتي جاء القرآن الكريم مهيمنًا عليها ومصدقا لها. والإيمان بالرسل يجعله يأنس بأخبارهم وسيرهم، ولا سيما سيرة النبي العظيم الرؤوف الرحيم محمد ، ويتّخذ مِنهم قدوةً وأسوةً حسنة في الحياة. والإيمان باليوم الآخر يُنَمّي في نفسه حب الخير؛ ليلقى ثوابه في الجنة، فالمؤمن دائم الشوق إلى الجنة وظلالها ونعيمها، ويسارع في الخيرات لعله يصل إليها، كما أن الإيمان باليوم الآخر يجعله يكره الشر ويتجنّب الفواحش خشية من نار جهنَّم التي تفزع المؤمن وتخيفه كلما سمع ذكرها، وهنا ينمو عند المؤمن شعور المراقبة وشعور المحاسبة، وينعكس هذا على سلوكه بأحسن الآثار الطيبة. والإيمان بالقدر يجعلُ نفس المؤمن لا تخافُ ما أصابها ولا ترجو ما سوى الله، ولا تطمع إلا في رحمته، وتزهد في الدنيا ولا تبالي بالموت، ولا تركعُ للطّغيان.
إن الإيمان بالله تعالى قوة عاصمة عن الدنايا؛ ولذلك نجد أن الله تعالى عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم عن شر يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر في قلوبهم، وما أكثر ما يقول في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثم يذكر بعد ذلك ما يكلفهم به، والإيمان يُكَوِّن الخلق القوي حتمًا، وانهيار الأخلاق مردّه إلى ضعف الإيمان أو فقدانه.
والإيمان بالله تعالى يمدُّ الإنسان بقدرةٍ كبيرةٍ على تحمل المصائب؛ لأنَّه يعلم أن هذا ابتلاء واختبار وهو خير له، كما قال : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) رواه مسلم.
وليس هذا فقط، بل إنَّ الله تعالى يخلفُ عليه ما فاته، ويجزل له الأجر والمثوبة إذا التجأ إليه، قال : ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها)) رواه مسلم.
لذا نجد المؤمن دائما يشعر بالفرح والسرور، وفي أحرج الظروف وأشدّ المصائب نراه في غاية الصبر والرضا؛ لأنه يعتقد أنه عندما يشاك بشوكة فما فوقها يكون له بها أجر، فكل مصيبة تلحق الإنسان فهي بإذن الله تعالى، قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُّؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11].
أخي الحبيب، كم نحتاج لتقوية إيماننا ليبقى معنا دائما وحتى في أحرج الظروف، وإليك بعضًا مما يعين على ذلك:
1- تدبر القرآن الكريم: وهذا التدبر يكون بالتمعن في آيات القرآن الكريم وتأمل آياته وما فيها من وعد ووعيد وقصصه وأحكامه وأمثاله، فقد كان النبي كثير التدبر لآيات القرآن الكريم، وكذلك أصحابه الكرام، وإليك هذه الأمثلة:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله : أراك قد شبت! قال: ((شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)) رواه الحاكم في المستدرك (2/374).
يقول صاحب كتاب فيض القدير (4/168) في معنى ((شيبتني هود)) : "أي: سورة هود وأخواتها، أي: وأشباهها من السور التي فيها ذكر أهوال القيامة والعذاب والهموم والأحزان إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان، قال المتنبي:
والهم يخترم الجسيم مخافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
قال الزمخشري: مرَّ بي في بعض الكتب أنَّ رجلا أمسى فاحمَ الشعر كحنك الغراب وأصبح أبيض الرأس واللّحية كالثغامة، فقال: أُرِيتُ القيامة والناس يقتادون بسلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون".
وقال الأسود: كنا عند عائشة رضي الله عنها فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها قالت: لما مرض رسول الله مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذّن فقال: ((مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس)) ، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. رواه البخاري (663) ومسلم (418).
وفي مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه روي عن عبد الله بن شداد قال: سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وأنا في آخر الصف في صلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف حتى وصل إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ.
وجاء في سير أعلام النبلاء (4/324): قال القاسم بن أبي أيوب: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعا وعشرين مرة: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ.
وجاء في السير (8/446) أيضا عن إبراهيم بن بشار قال: الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في الأنعام: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27]، مع هذا الموضع مات، وكنت فيمن صلى عليه رحمه الله".
2- ومما يعين على تقوية الإيمان استشعار عظمة الله عز وجل:
ويكون هذا الاستشعار بمعرفة أسمائه وصفاته وبكثرة ذكره وبالتفكر في مخلوقاته، فمن أسمائه العظيم العليم القدير القوي الجبار. وإذا استشعرت معاني هذه الأسماء وما تدلّ عليه لوقر في قلبك عظمة لله عز وجل ودوام ذكر الله عز وجل؛ مما يزيد قوة الإيمان في قلبك، وتأمّل هذه الآيات:
قال تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال:45]، ويقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) رواه البخاري (4534).
3- ومما يعين على تقوية الإيمان طلب العلم الشرعي:
يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28]، فخشية الله عز وجل دليل قوّة إيمان انبعث من القلب، وهذا الباعث على الخشية هو العلم، فكلما كان تضلعك بالعلم أكثر كان إيمانك بالله أكبر، وشتان بين الجاهل والعالم، يقول الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
4- ومما يعين على تقوية الإيمان كثرة العمل الصالح:
فمما يقوي إيمانك ويزيده قوة وصلابة هو العمل الصالح، وهو علامة قربك من الله عز وجل، فأهل الإيمان قوي إيمانهم بالله لكثرة عملهم ومداومتهم عليه، وقد أشغلهم عن هذه الدنيا التي تلهي كثيرًا من الناس وتضعفهم عن السير الحثيث إلى الله عز وجل، وتأمل هذه الدعوة من الله عز وجل: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وبِمَ تكون المسارعة إلا بالعمل الصالح والمداومة عليه؟! فعن عائشة أن رسول الله سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((أدومه وإن قلّ)) رواه مسلم (782).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا. أما بعد:
5- ومما يعين على تقوية الإيمان كثرة ذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أكثروا ذكر هادم اللذات الموت)) رواه الحاكم (7909). فذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة يقوي الإيمان؛ لأنه يدفعك إلى العمل الصالح، ويبعدك عن المعاصي. ومِن تذكر الموت زيارة المقابر والصلاة على الجنائز، والحذر الحذر من التعلق بالدنيا والانشغال بها وجعلها أكبر اهتماماتك.
6- ومما يعين على الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه:
فما ألذها من لحظة تلك التي تكون فيها بين يدي الله عز وجل مع ذلٍّ لله وخضوع له وانكسار بين يديه واستشعار أنك فقير ضعيف محتاج إليه وقد قصّرت وأذنبت، فما ألذها حينما تعفّر جبهتك في الأرض ذلا لله متأمّلاً هذا الحديث: عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) رواه مسلم (482)، وقد حركت بين جوانحك هذه الآية: يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
7- ومما يعين على تقوية الإيمان محاسبة النفس:
يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، وعن شداد بن أوس عن النبي قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) ، ومعنى قوله: ((من دان نفسه)) أي: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر، وإنما يخفّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)، ويروى عن ميمون بن مهران قال: "لا يكون العبد تقيًّا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟".
8- ومما يعين على تقوية الإيمان الدعاء:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدّد الإيمان في قلوبكم)) رواه الحاكم في المستدرك (5).
قال في فيض القدير (2/323): "والمراد بأن الإيمان ليخلق أي: يكاد أن يبلى في جوف أحدكم ـ أيها المؤمنون ـ كما يخلق الثوب، وصفه على طريق الاستعارة، شبه الإيمان بالشيء الذي لا يستمرّ على هيئته، والعبد يتكلم بكلمة الإيمان ثم يدنسها بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر فقد جدّد ما أخلق وطهّر ما دنس، فاسألوا الله تعالى أن يجدّد الإيمان في قلوبكم؛ حتى لا يكون لقلوبكم وجهة لغيره ولا رغبة لسواه؛ ولهذا قال معاذ لبعض صحبه: اجلس بنا نؤمن أي: نذكره ذكرا يملأ قلوبنا".
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، ودمره اللهم تدميرًا.
(1/4838)
العزة
الإيمان
الولاء والبراء, فضائل الإيمان
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
13/12/1423
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العزة. 2- منبع عزة المؤمن. 3- مظاهر عزة المؤمن. 4- نماذج لعزة الإيمان. 5- مفاهيم خاطئة للعزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
عباد الله، إن العزة في اللغة هي الرفعة والامتناع والغلبة، وقد جعلها الله تعالى خاصة به وبرسوله وأتباعه من المؤمنين، وعزة المسلم ليست شيئا يُشترى بالمال، وليس منبعها شبابه أو قوته أو بيته وسيارته أو غير ذلك؛ لأن هذه الأشياء يشاركه فيها بل قد يتفوق عليه فيها الكافر والفاجر، ولكن مصدر عزة المسلم إيمانه بالله، فيوم يكون مؤمنا يكون عزيزا، وبقدر ما يكون إيمانه قويا فكذلك تكون درجة عزته والتي تنبع من عزة الله تعالى، فالمسلم إن اتبع أوامر الله واجتنب نواهيه وإن هو أسلم نفسه وروحه وقياده لشرع الله آنذاك يكون عزيزا، قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10].
وتبدو عزة المسلم جليّا في عبوديته لربه واستغنائه به عن الناس جميعا، قال نبينا : ((شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس)). وكلما تطلع المسلم إلى ما في أيدي الناس وطمع فيه وتعلقت نفسه به زاد ذلّه وعظم احتقار الناس وبغضهم له، يقول النبي : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما بأيدي الناس يحبك الناس)). فالمال ليس من أسباب العزة، بل قد يكون من أسباب الذل والهوان، ولقد كان خير الناس وأصحابه رضوان الله عليهم أعز الناس وأشرفهم وما كانوا من الأغنياء؛ لأن اعتزازهم بدينهم كان الباعث لهم لفعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن يوم تركنا شرع الله وراءنا ظهريا وآثرنا العاجلة على الآخرة فسلط الله علينا هذا الذلّ الذي تعيشه أمة الإسلام، يقول النبي : ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله عليهم ذلا، لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)).
عباد الله، إن هذه الحياة ابتلاء من الله تعالى، وهي دار تكليف واختبار، فالله تعالى يريد من عباده أن يطلبوا العزة من مصدرها وأن لا يتعجلوا الفوز والنصر والغنيمة في الدنيا؛ لأنهم طلاب آخرة، فإن أتت معها الدنيا فبها ونعمت. إن الله تعالى لو أراد لأرسل جنوده وملائكته فهزموا أعداءه بلمح البصر، ولكن الله تعالى يريد اختبار إيمانهم وصبرهم، يقول تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
لقد ذاقت امرأة فرعون طعم العزة بعد إيمانها، فلم تكن للتخلّى عنه ولو أذاقها فرعون سوء العذاب، لذا دعت الله تعالى بقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]. وأعجب من ذلك عزّة ماشطة ابنة فرعون التي سقط المشط من يدها ذات يوم فقالت: بسم الله، فرفعت ابنة فرعون رأسها وقالت: أبي؟ فقالت الماشطة: لا، ربي وربّ أبيك الله، فقالت لها: أخبرُ أبي بذلك إذًا، فقالت: أخبريه، فأتى بها فرعون وهو ليس لديه أدنى شكّ أنها ستتراجع، فسألها فأعادت عليه نفسَ الكلام بكلّ عزة وأنفة. امرأة ذاقت طعم العزة تتحدى ولا تهاب أكبرَ طاغية في التاريخ، فأحضر فرعون قدرا من نحاس فأوقد عليها النار حتى احمرت كالجمرة، فأعاد عليها الكلام فثبتت على دينها، فأخذ طفلا لها رضيعا فألقاه في القدر فإذا بالرضيع ينحمس كما تنحمس الحبّة، وما هي إلا لحظات وإذ به فحمة سوداء، فهل لانت أو استكانت؟ قالت له تلك المؤمنة: لي عندك حاجة وهي أن تجعل رفاتي ورفات أبنائي في قبر واحد، فقال لها: لكِ هذا، ثم ألقاهم واحدا تلو الآخر وهي تنظر وتحتسب، فأيّ صبر هذا؟! وأي عزة بدين الله عند تلك المرأة؟! لقد علمت هذه المرأة أنها هي الفائزة في حساب الله، وأن فرعون وحزبه هم الخاسرون، فاختارت الفوز على الخسران، وهذا ما ينبغي أن نربّي أنفسنا وأبناءنا عليه، فلا نرضى بالذل والخسران.
أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن عزة المسلم لا تنبع من عروبته وأرضه كما يظنّ الجاهلون، فهذا بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي لم يضرهم أنهم من العجم، كما أنه ما ضر الصحابة شيء عندما هاجروا إلى الحبشة، فقد كانوا أعزة بإسلامهم وإن لم تكن الأرض أرضهم؛ لأن الأرض أرض الله تعالى، فإسلامنا وجهادنا وتمسكنا بعاداتنا وتقاليدنا التي منبعها الإسلام هو مصدر عزتنا وتميزنا عن سائر الأمم.
والعجيب أن من إخواننا المسلمين من طغت الدنيا والمادية على بصائرهم فأعمتهم، حتى أصبحوا يرون أن الخير والتقدم والعزة كلّ العزة في اتباع الغرب في عاداتهم وألبستهم وتحللهم الأخلاقي، فتعلقت قلوبهم وقلوب أبنائهم بهم، فالعزة عندهم باتباع الغرب ولزوم غرزه وعدم مخالفة هديه، فالمرأة وبناتها متكشفات متبرجات يتبعن كل ناعق في عالم الموضة والأزياء، والأبناء لا تكاد تفرقهم عن البنات إلا بضحالة تفكيرهم وسطحيتهم، يكاد أحدهم يطير فرحا إن شبّهته بكافر أو فاجر؛ إذ إن ذلك ما يطلب ويريد، ولقد قال الله تعالى: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
فسبحان الله! كيف انقلبت الموازين؟! إن الشاب ذا الشخصية الضعيفة إذا لبس ثوب بلاده الذي يدل على إسلامه انكسر وأحسّ بالذل لعدم تميزه، ولكن ما إن يلبس اللباس الغربي حتى تعود إليه الحياة ويشعر بالعزة، وكذا المرأة الجاهلة تشعر بأنها ذليلة ومدفونة تكاد تختنق إذا لبست حجابها وتسترت عن أعين الناس، فإذا أسفرت عن وجهها ومفاتنها فإنّ العزة والأنفة تعود إليها وتشعر بشخصيتها وكيانها المميّز وتشعر بطعم ومعنى الحياة، وأيّ طعم للحياة بلا عقيدة تميز المسلم عن غيره؟! وأي معنى للحياة من دون هدف من أجله يحيا الإنسان ومن أجله يموت؟!
إن آلاف الكفار يدخلون بلادنا يوميا، لم نجد واحدا منهم يرتدي ثيابنا، بينما مئات الألوف منا يذهب إلى الخارج كلهم تقريبا يلبسون الزي الغربي ويتشبهون بهم حتى في أصغر التفاصيل الدقيقة، وصدق الفاروق عمر رضي الله عنه إذ يقول: (إنا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزّ بغير ما أعزّنا الله به أذلّنا الله).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/4839)
غزوة بدر
سيرة وتاريخ
غزوات
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
15/9/1422
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذكريات الجميلة في الأزمات. 2- مجريات معركة بدر. 3- من سمات معركة بدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الذكريات الجميلة هي ما يبثّ الأمل في النفوس، ففي أوقات الأزمات والملمات لا يبقى للإنسان المحبَط إلا الماضي الجميل، يتحسر عليه اليائس المسكين، ويتجرع من ينبوعه الذي لا ينضب مَن يؤمن بأنّ النصر لله ولرسوله وللمؤمنين.
في مثل هذه الأيام ـ عباد الله ـ التقت فئتان: فئة مؤمنة بالله ورسوله وفئة كافرة خرجت من ديارها بطرا ورئاء الناس، فئة تنصر الإسلام وتعادي أعداءه وفئة تنصر الشرك والكفر وتعادي الإسلام وأهله. لقد أراد النبي أن يأخذ قافلة لقريش قوامها ألف بعير محملة بالغالي والنفيس، وليس معها إلا أربعون مشركا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)) ، فخرج النبي ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، مسلّحين بالسيوف والأسلحة الفردية فقط، ومعهم فرَسان وسبعون ناقة، إلا أن أبا سفيان أحسّ بالخطر، فبعث يستنجد بقريش، وحاد هو بالقافلة تجاه الساحل، فخرجت قريش بفخرها وعزّها وجبروتها وقد أعلنوا التعبئة العامة بما يزيد على ألف من صناديد قريش، خرجت معهم القيان يضرِبن بالدفوف ويغنّين بهجاء المسلمين؛ ليجعلوا هزيمة المسلمين عبرة للعرب أجمعين.
ولقد كره بعض المؤمنين مواصلة الخروج بعد أن فاتتهم القافلة، لا كرها في الموت ولكن لعدم تفطنهم للحكمة في ملاقاة العدو بغتة وبلا استعداد كافٍ، كما قال تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، ولكنهم ما لبثوا أن ساروا مع النبي وقد زال عنهم تردّدهم، وعسكر فريق المؤمنين ليلة الجمعة ببدر، ومشاعر الرهبة تعتري الجميع إلا رسول الله الواثق بنصر الله تعالى، ومع ذلك فإنهم ناموا وما نام، قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، فاطمأنت نفوس المؤمنين بهذا النعاس وغمرت الثقةُ قلوبهم، وأما رسول الله فقد ذهب إلى عريشه، حيث كان يحتفظ فيه بأعظم الأسلحة، كان يحتفظ بسهام الليل التي لا تخطئ أبدا، أخذ يُكثر من التضرع والابتهال إلى الله ويقول: ((اللهم إن تَهْلَك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض بعدها، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدتني)) ، وأبو بكر معه يخفّف عليه ويقول له: يا نبيّ الله، كفاك مناشدتك لربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فاستجاب الله دعاءه ونصره بألف من الملائكة.
وهكذا التقى الجمعان كما قال تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ، فأنتم من ناحية المدينة وهم من ناحية مكة، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال:42] أي: بناحية الساحل وهي قافلة أبي سفيان، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]، وذلك ليتشجع المؤمنون ويستهين المشركون بعدد المؤمنين القليل، ولكن لما التقى الجمعان كَثَّر الله أعداد المؤمنين في أعين الكافرين كما قال تعالى: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13].
فلما اصطفّ الفريقان للقتال قال نبينا : ((قُومُوا إلَىَ جَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ)) ، فقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ، جَنّةٌ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) ، قَالَ: بَخ بَخ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخ بَخ)) ، قَالَ: لاَ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ، إلاّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: ((فَإنّكَ مِنْ أَهْلِهَا)) ، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنّ ثُمّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إنّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التّمْرِ، ثُمّ قَاتَلَهُمْ حَتّىَ قُتِل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: لقد كانت معركة بدر بين إسلام وكفر، بين إيمان وعقيدة وبين خذلان وجحود.
إن من أبرز سمات معركة بدر أنه تلاشت فيها العصبيات والقبليات وعبية الجاهلية، فلم يكن المسلمون ينتصرون لقبيلة أو لون أو جنسية، بل كانوا ينصرون الإسلام وأهله ويواجهون المشركين أعداء الله بغض النظر عما بينهم من خلافات إن وُجد بينهم خلافات، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76]. وهذا هو حال المسلم في كل مكان وزمان، ينصر إخوانه المسلمين ولو اختلفت ألسنتهم وألوانهم؛ لأنه بذلك ينصر الدين والعقيدة والملة، فالمسلمون يوم بدر قاتل الأخ أخاه والابن أباه، فلا مجال للمساومات؛ إذ العقيدة لا تقبل المساومات ولا التنازلات. ولقد استشار النبي الصحابة في أسرى بدر، فقال عمر له: أرى أن تمكّنّا فنضرب أعناقهم، فتمكِّن عليًّا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكّنّي من فلان نسيبي فأضرب عنقه، وأشار أبو بكر على الرسول أن يقبل الفدية ففعل، فأنزل الله تعالى قوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67].
ثم إن من السمات البارزة أيضا أن الشباب كان لهم دورهم في معركة بدر وفي كل معركة، يروي الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أخبِرت أنه يسبّ رسول الله ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجّبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفهما، فضرباه حتى قتلاه.
عباد الله، أين أبناؤنا وشبابنا من أولئكم؟! لو أحب شبابنا الله الحب الحقيقي ولو رغبوا في الجنة لما فرطوا في صلاة المسجد وصلاة التراويح، ولما وجدناهم ـ والناس يصلون ـ في الأسواق والشوارع يتسكّعون بلا هدف ولا مأوى، ولما رأيناهم متشبهين بأعداء الله في لباسهم وعاداتهم وأشكالهم.
فاتقوا الله يا معشر الشباب، وكونوا أولياء الله ولا تكونوا أولياء الشيطان، عسى الله أن يرزقنا وإياكم صحبة النبي.
اللهم يا من نصرتَ النبي محمدا وجنده وهم قِلّة انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/4840)
إن شانئك هو الأبتر
قضايا في الاعتقاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, معجزات وكرامات
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
27/12/1426
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة الرسل. 2- مثل النبي بين الأنبياء. 3- من معجزات النبي. 4- عداء الكفار للنبي. 5- استهزاء الغرب الكافر بالنبي. 6- رسالة للمنهزمين أتباع الغرب. 7- من فوائد الحدث. 8- خسران المستهزئين بالرسل وهلاكهم. 9- واجبنا تجاه الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بَعدُ: فأُوصِيكُم ـ أيها الناسُ ـ ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجعَل لَّكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أيها المسلمون، ومِن فَضلِ اللهِ جل وعلا ورحمتِهِ بِعِبادِهِ أَنْ بَعَثَ إِلَيهِم رُسُلَهُ يخُرجِونهم مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. وكان تمام هذِهِ النِّعمَةِ وكَمَالها وتَاجهَا وَوِسَام فَخرِها خَاتمَ الأَنبِيَاءِ وَأَشرَفَ المُرسَلِينَ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مِنَ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ نَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا محمدًا ، الذي امتنَّ اللهُ عَلَينَا بِبِعثَتِهِ، وَأَنعَمَ عَلَينَا بِرِسَالَتِهِ، قال سبحانَه: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِم يَتْلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءكُم رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، وقال : ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنبِيَاءِ مِن قَبلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بنى بَيتًا فَأَحسَنَهُ وَأَجمَلَهُ إِلا مَوضِعَ لَبِنَةٍ مِن زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطوفُونَ بِهِ وَيَعجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وَضَعْتَ هذِهِ اللَّبِنَةَ)) ، قال: ((فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنا خَاتمُ النَّبِيِّينَ)).
نَعَمْ أيها المسلمون، لقد بَعَثَ اللهُ محمدًا والناسُ في جاهليةٍ جَهلاءَ، يَتِيهُونَ في الضَّلالِ وَالشَّقَاءِ، يَعبُدُونَ الأَصنَامَ ويَستَقسِمُونَ بِالأَزلامِ، قَدِ استَحَلُّوا المَيسِرَ وَالرِّبا، وَعَاقَرُوا الخَمرَ وَالزِّنا، يَئِدُونَ البَنَاتَ وَلا يُوَرِّثُونَ الزَّوجَاتِ، فَفَتَحَ اللهُ بِبِعثَتِهِ أَعينًا عُميًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلفًا، وَهَدَى بِهِ مِنَ العَمَى وَبَصَّرَ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، فَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنُورِ رَبِّها وَصَلَحَت حَالُها، وَعَرَفَ النَّبيَّ وَاتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ مَن أَنَارَ اللهُ بَصِيرَتَهُ وَوَفَّقَهُ وَشَرَحَ صَدرَهُ، بل حتى البَهَائِمُ وَالعَجمَاوَاتُ وَالجَمَادَاتُ أَقَرَّت بِخَيرِ البرِيَّةِ واعترفت بأزكى البَشَرِيَّةِ، فَهَابَتْهُ وَوَقَّرَتْهُ وَتَأَدَّبَتْ لَه، وَسَلَّمَتْ عَلَيهِ وَحَنَّتْ إِلَيهِ، وَخَضَعَتْ لَه وَبَكَتْ بَينَ يَدَيهِ، وَانقَادَت لَه وَأَطَاعَت أَمرَهُ، فَعَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قال: أَقبَلْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ حتى دَفَعْنَا إلى حائِطٍ في بني النَّجَّارِ، فَإِذَا فِيهِ جملٌ لا يَدخُلُ الحائِطَ أَحَدٌ إِلا شَدَّ عَلَيهِ، فَذَكَرُوا ذلك للنبيِّ فَأَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَجَاءَ وَاضِعًا مِشفَرَهُ عَلَى الأَرضِ حتى بَرَكَ بَينَ يَدَيهِ، فقال: ((هاتُوا خِطَامًا)) ، فَخَطَمَهُ وَدَفَعَهُ إلى صَاحبِهِ، ثم التَفَتَ فقال: ((ما بَينَ السَّمَاءِ إِلى الأَرضِ أَحَدٌ إِلا يَعلَمُ أَني رَسولُ اللهِ إِلا عاصِي الجِنِّ وَالإِنسِ)) ، وعن عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ رضي اللهُ عنه قال: أَردَفَني رَسولُ اللهِ خَلفَهُ ذَاتَ يَومٍ، فَأَسَرَّ إِليَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحدًا مِنَ النَّاسِ، وَكانَ أَحَبُّ ما استَتَرَ بِهِ رَسولُ اللهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَو حَائِشَ نخلٍ، قال: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنصَارِ، فَإِذَا جملٌ، فَلَمَّا رَأَى النبيَّ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَينَاهُ، فَأَتَاهُ النبيُّ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتْ، فقال: ((مَن رَبُّ هذا الجمَلِ؟ لِمَن هذا الجملُ؟)) فجاء فتى مِنَ الأَنصَارِ فقال: لي يا رَسولَ اللهِ، فقال: ((أَفلا تَتَّقِي اللهَ في هذِهِ البَهِيمَةِ التي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِليَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))، وعن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت: كان لآلِ رَسولِ اللهِ وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسولُ اللهِ لَعِبَ وَاشتَدَّ وَأَقبَلَ وَأَدبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسولِ اللهِ قَد دَخَلَ رَبَضَ، فَلَم يَتَرَمْرَمْ مَا دَامَ رَسولُ اللهِ في البيتِ كَرَاهِيَةَ أَن يُؤْذِيَهُ. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قال: سِرْنا مَعَ رَسولِ اللهِ حتى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفيَحَ، فَذَهَبَ رَسولُ اللهِ يَقضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِأَدَاوَةٍ مِن مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسولُ اللهِ فَلَم يَرَ شَيئًا يَستَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الوَادِي، فَانطَلَقَ رَسولُ اللهِ إِلى إِحدَاهما فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِها فقال: ((انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) ، فَانقَادَت مَعَهُ كَالبَعِيرِ المَخشُوشِ الذي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حتى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِها فقال: ((انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) ، فَانقَادَت مَعَهُ كذلك، حتى إِذَا كان بِالمَنصَفِ ممَّا بَينَهُمَا لأَمَ بَينَهُمَا ـ يَعني جمعَهُمَا ـ فقال: ((اِلتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) فَالتَأَمَتَا. قال جابرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ ـ أَيْ: أَعدُو وَأَسعَى سَعيًا شَدِيدًا ـ مَخَافَةَ أَن يُحِسَّ رَسولُ اللهِ بِقُربي فَيَبتَعِدَ، فَجَلَستُ أُحَدِّثُ نَفسِي، فَحَانَت مِنِّي لَفتَةٌ، فَإِذَا أَنا بِرَسولِ اللهِ مُقبِلا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افتَرَقَتَا، فَقَامَت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا عَلَى سَاقٍ. وعنه رضي اللهُ عنه قال: كان النبيُّ يَقُومُ إلى جِذْعٍ قَبلَ أَن يُجعَلَ لَهُ المِنبَرُ، فَلَمَّا جُعِلَ المِنبَرُ حَنَّ الجِذعُ حتى سَمِعْنَا حَنِينَهُ، فَمَسَحَ رَسولُ اللهِ يَدَهُ عَلَيهِ فَسَكَنَ. وعن جابرِ بنِ سَمُرَةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ : ((إِنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كان يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبلَ أَن أُبعَثَ، إِنِّي لأَعرِفُهُ الآنَ)). وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه قال: كُنتُ مَعَ النبيِّ بمكةَ، فَخَرَجْنَا في بَعضِ نَوَاحِيها، فَمَا استَقبَلَهُ جَبَلٌ ولا شَجَرٌ إلا هو يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيكَ يَا رَسولَ اللهِ.
ولمَّا هَاجَرَ إلى المدينةِ، وكانت مِن أَوبَأِ أَرضِ اللهِ، فَصَحَّحَهَا اللهُ بِبَرَكَةِ حُلُولِهِ بها وَدُعائِهِ لأَهلِهَا، حَيثُ دَعَا عليه السلامُ رَبَّهُ أَن يُذهِبَ حُمَّاهَا إِلى الجُحفَةِ، فَاستَجَابَ اللهُ له ذلك. وعن أنسٍ رضي اللهُ عنه قال: لمَّا كان اليَومُ الذي دَخَلَ النبيُّ فِيهِ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، فَلَمَّا كان اليَومُ الذي مَاتَ فِيهِ أَظلَمَ منها كُلُّ شَيءٍ.
اللهُ أَكبرُ أيها المسلمون، كُلُّ شَيءٍ يَعرِفُ رَسُولَ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ وَيُحِبُّهُ، كُلُّ شَيءٍ يُؤمِنُ بِنُبُوَّتِهِ وَيُقِرُّ بِرِسالتِهِ، إِلا مَن أَرَادَ اللهُ ضَلالَتَهُم مِن أَشقِيَاءِ بَني الإِنسانِ، فَلَم يَزَالُوا مُنذُ مَبعَثِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ ضَائِقَةً بِهِ صُدُورُهُم، غَاصَّةً بِهِ نُحُورُهُم، يَكِيدُونَ لَهُ وَيَمكُرونَ بِهِ، وَيُدَبِّرُونَ المُؤَامَرَاتِ ضِدَّهُ وَيُؤذُونَهُ، سَخِرُوا مِنهُ وَاستَهزَؤُوا بما جاء به، واتَّهَمُوهُ بِالجُنُونِ والكَهَانَةِ، وَقَالُوا عَنه: إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ، وَوَضَعُوا سَلا الجَزُورِ على ظَهرِهِ وهو سَاجِدٌ يُصَلِّي، وَرَمَوهُ بِالحِجارَةِ حَتى أَدمَوا عَقِبَيهِ، وَحَاصَرُوهُ في الشِّعبِ وَتَآمَرُوا لِقَتلِهِ، بَل لم يَزَالُوا به حتى أَخرجُوهُ مِن أَحَبِّ البِقَاعِ إِلَيهِ وَأَبعَدُوهُ عنها، وَمَنَعُوهُ مِن دُخُولِها لِعِبادَةِ رَبِّهِ وَزَيَارَةِ بَيتِهِ، ثم جَيَّشُوا الجُيُوشَ لِحَربِهِ وَجَابَهُوهُ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وجنَتَهُ وَأَدمَوا وَجهَهُ، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
وَتِلكَ سُنَّةُ اللهِ في إِخوانِهِ الذين خَلَوا مِن قَبلِهِ مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالمُرسَلِينَ، وَلَن تجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلا، وَلَن تجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تحويلا، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفتَرُونَ ، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
واليَومَ وفي ظِلِّ حَضَارَةِ الغَرْبِ النَّصرَانيِّ المُتَطَرِّفِ، والذي تَتَغَنَّى بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّمَدُّنِ عَوَاصِمُهُ، وَيَتَشَدَّقُ بِالمَعَاني الإِنسَانِيَّةِ مُثَقَّفُوهُ، وَيَدَّعِي الحُرِّيَّةَ وَالتَّسَامُحَ كُبَرَاؤُهُ، تَأَبى الحَقَائِقُ إِلا أَن تَتَكَشَّفَ يَومًا بَعدَ يَومٍ، لِتُظهِرَ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُ أولئك القَومِ مِن كُرهٍ وَبَغضَاءَ، وَتُظهِرُ مَا يَنطَوُونَ عَلَيهِ مِن حِقدٍ وَشَحنَاءَ، فَتَتَمَادَى وَسَائِلُ إِعلامِهِم وَيَتَنَاوَبُ مِنهُم أَشخَاصٌ مَوتُورُونَ على الاستِهزَاءِ بِرَسولِ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ، وَتَتَكَرَّرُ مِنهُم محاولاتُ الإِسَاءَةِ إِلَيهِ بِأَلفَاظٍ نَابِيَةٍ وَرُسُومٍ بَغِيضَةٍ كَاذِبَةٍ، مُعلِنِينَ ذلك على المَلأِ في صُحُفِهِم وَوَسَائِلِ إِعلامِهِم، ضَارِبِينَ بِعُرضِ الحَائِطِ مَشَاعِرَ أَكثَرَ مِن أَلفِ مِليونِ مُسلِمٍ هُم أَتبَاعُهُ وَأَحبَابُهُ، وَلَئِنْ سَاءَ المُسلِمِينَ وَقَطَّعَ قُلُوبَهُم وَأَغَاظَهُم وَقَرَّحَ أَكبَادَهُم ما نُشِرَ في تِلكَ الصُّحُفِ خِلالَ الأَشهُرِ الماضِيَةِ، فَإِنَّ مِن عَقِيدَةِ أَهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ أَنَّ اللهَ لم يَخْلُقْ شَرًّا مَحْضًا، بل كما قال سبحانَه: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فقد تَضَمَّنَ ذلك الشَّرُّ خَيرًا، وَأَظهَرَ ذلك السُّوءُ حُسنًا، وَلَو لم يَكُنْ إِلا أَنِ انكَشَفَتِ الحقِيقَةُ عَن وَجهِ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ زَيفُ مَا تَتَشَدَّقُ بِهِ مِن حُبٍّ لِلسَّلامِ وَبَانَت عَدَاوَةُ النَّصَارَى وَكَذِبُهُم فِيمَا يَزعُمُونَ مِن صَدَاقَةٍ وَمَوَدَّةٍ لِلمُسلِمِينَ وَاتَّضَحَ أَنَّ مَن يَطلُبُ رِضَاهُم وَيَنشُدُ وُدَّهُم مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذوَةَ نَارٍ، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. فَمَاذَا عَسَى المُغتَرُّونَ مِن قَومِنَا يَقُولُونَ؟! مَاذَا عَسَى أُغَيْلِمَةُ الصَّحَافَةِ وَسُفَهَاءُ الإِعلامِ يَكتُبُونَ؟! أَينَ الذين كانوا يُلمِّعُونَ الغَرْبَ تحتَ شِعَارِ "الآخَرِ" سَتْرًا لِلكَافِرِ؟!
ألا إِنَّ الحقِيقَةَ قَد تجلَّتْ وَانكَشَفَتْ، فَلْيَصمُتْ مَن كانوا يُنَادُونَ بِاحتِرَامِ "الآخَرِ"، وَلْيَلْقَمْ حَجَرًا مَن كَانوا يَوَدُّونَ لَو صَمَتَ دُعَاةُ الإِسلامِ، مُنادِينَ بِـ"حُرِّيَّةِ الفِكرِ" بَل "حُرِّيَّةِ الكُفْرِ". إِذَا تَكَلَّمَ صَادِقٌ نَصَبُوا لَهُ العِدَاءَ، وَإِنْ تَبَجَّحَ كَافِرٌ سَكَتُوا وَكَأَنَّ الأَمرَ لا يَعنِيهِم. هَا هُو الكَافِرُ الذي سمَّوهُ "الآخَرَ" في مُحاوَلَةٍ لِتَميِيعِ المُصطَلَحَاتِ الشَّرعِيَّةِ وَإِضعَافِ عقيدة البَرَاءِ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ. هَا هُوَ ذلكم "الآخَرُ" يَتَطَاوَلُ على دِينِ اللهِ وَيَستَهزِئُ بِرَسولِ اللهِ ، فماذا عَسَاهُم فَاعِلِينَ؟! إِنَّ هذا "الآخَرَ" الذي تَوَدَّدَ لَهُ بَعضُ سُفَهَاءِ المُسلِمِينَ وَطَلَبُوا رِضَاهُ لم يَقبَلْهُم مِن قَبلُ، وَلَن يَقبَلَهُم بَعدُ، لَن يُحِبَّهُم وَلَن يُقَدِّرَهُم، وَلَن يَذهَبَ ما في صَدرِهِ عَلَيهِم حتى يجتَمِعَ الماءُ والنَّارُ، وَحتى يَلتَقِيَ الضَّبُّ وَالحُوتُ، ولا يُقَالُ هذا رَجمًا بِالغَيبِ وَلا ادِّعَاءً كَاذِبًا، بل هُوَ مَا أَخبرَ اللهُ بِهِ في مُحكَمِ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ سبحانَه: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إنها عَدَاوَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ وَإِحَنٌ مُنعَقِدَةٌ، لا يُذهِبُها زَمَانٌ ولا يُعالِجُها دَوَاءٌ، وَلا تَهدَأُ مَهمَا قَدَّمَ المسلمون مِن تَنَازُلاتٍ عَن دِينِهِم أَو مَيَّعُوا أَحكَامَ عَقِيدَتِهِم.
وَممَّا يُستَفَادُ مِن هَذِهِ الأَحدَاثِ ـ أيها المسلمون ـ تميُّزُ الطَّيِّبِ مِنَ الخَبِيثِ وَظُهُورُ الصَّادِقِ مِنَ الكَاذِبِ، قال سبحانَه: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. ثم إِنَّ في الغَربِ مُنصِفِينَ، فَقَد تُثِيرُهُم تِلكَ الحَملاتُ الشَّعوَاءُ وَتَحمِلُهُم على طَلَبِ الحَقَائِقِ، فَيَهدِي اللهُ مِنهُم رِجالاً وَنِسَاءً، فَيَحمِلُونَ الإِسلامَ في بِلادِهِم، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ، وَمَا قِصَّةُ إِسلامِ حمزَةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رضي اللهُ عنه عنَّا بِبَعِيدٍ، فقد كان سَبَبُ إِسلامِهِ استِخفَافَ أبي جَهلٍ بِرَسُولِ اللهِ ؛ إِذْ مَرَّ بِرَسولٍ اللهِ يَومًا عِندَ الصَّفَا فَآذَاهُ وَنَالَ مِنهُ وَرَسولُ اللهِ سَاكِتٌ وَلا يُكَلِّمُهُ، ثم ضَرَبَهُ أَبُو جَهلٍ بِحَجَرٍ في رَأسِهِ فَشَجَّهُ حتى نَزَفَ مِنهُ الدَّمُ، ثم انصَرَفَ عنه إلى نادِي قُرَيشٍ عِندَ الكَعبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُم، وَكَانَت مَولاةٌ لِعَبدِ اللهِ بنِ جدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفَا تَرَى ذلك، وَأَقبَلَ حمزَةُ مِنَ القَنصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَهُ، فَأخَبرتْهُ المَولاةُ بما رَأَت مِن أَبي جَهلٍ، فَغَضِبَ وَخَرَجَ يَسعَى، لم يَقِفْ لأَحَدٍ حتى دَخَلَ المَسجِدَ وَفِيهِ أَبو جَهلٍ، فَقَامَ على رَأسِهِ، وقال له: يَا مُصفِرَ استِهِ، تَشتُمُ ابنَ أَخِي وَأَنَا على دِينِهِ؟! ثم ضَرَبَهُ بِالقَوسِ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنكَرَةً، فَثَارَ رِجَالٌ مِن بني مخزُومٍ، وَثَارَ بَنُو هاشِمٍ، فَقَالَ أَبو جَهلٍ: دَعُوا أَبَا عِمَارَةَ، فَإِني سَبَبْتُ ابنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا. ثم شَرَحَ اللهُ صَدرَ حمزَةَ للإِسلامِ، فَاستَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى، واعتَزَّ بِهِ المسلمون أَيَّمَا اعتِزَازٍ، وكان إِسلامُهُ نَصرًا عَظِيمًا للإِسلامِ، وَكَانَت تِلكَ المَسَبَّةُ وذلك الاستخفافُ مِن أبي جَهلٍ سَبَبًا في النَّكبَةِ وَالخِزيِ وَالذُّلِّ لِلطُّغَاةِ المُعتَدِينَ. وَإِنَّا لَنَرَى أَنَّ هذا الاستِخفَافَ وَالاستِهزَاءَ مِن هؤلاءِ الطُّغَاةِ في صُحُفِهِم وَوَسَائِلِ إِعلامِهِم لَبِدَايَةُ نَصرٍ لِلإِسلامِ وَالمُسلِمِينَ، وَإِنَّ بَشَائِرَ النَّصرِ لَتَلُوحُ في الأُفُقِ.
بَشَائِرُ النَّصرِ هَبَّت فِي سَنَا القَمَرِ تَزهُو بِسَيفٍ عَلَيهِ وَصمَةُ الظَّفَرِ
بَشَائِرُ النَّصرِ في الآفَاقِ سَاطِعَةٌ لاحَت بِدَايَتُها مِن صَفحَةِ القَذَرِ
بُشرَاكُمُ أُمَّتِي فَالنَّصرُ يَصحَبُكُم وَالخِزيُ وَالذّلُّ لِلمُستَهزِئِ الأَشِرِ
إِنَّ مَا يُقالُ أَو يُثَارُ ضِدَّ الإِسلامِ أَو ضِدَّ نَبيِّهِ لَيَسُوءُ كُلَّ مُسلِمٍ وَيُحزِنُهُ ويُغضِبُهُ، إِلا أَنَّ هذَا الشَّرَّ لا يَخلُو مِن خَيرٍ، هُم يُريدُون أَمرًا وَالله يُرِيدُ أَمرًا، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ. لَقَد دَبَّرَ أَسلافُهُم مِن قَبلِهِم وَمَكرُوا، وَأعمَلُوا أَفكَارَهُم وَخَطَّطُوا، وَأَجَالُوا آرَاءَهُم وَتَآمَرُوا، وَابتَغَوُا الفِتنَةَ وَقَلَّبُوا الأُمُورَ، وَاستَهزَؤُوا وَخَاضُوا، فَأَبْطَلَ اللهُ سَعيَهُم، وَرَدَّ كَيدَهُم في نحُورِهِم، وحَاقَ بهم مَكرُهُم، وَنَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَه، قال سبحانَه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ، وقال تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ تعالى وأطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ ولا تَعصُوهُ.
أيها المسلمون، إِنَّهُ وَإِنِ استَهزَأَت صُحُفٌ غَربِيَّةٌ بِالحَبِيبِ وَسَخِرَت مِنهُ فَإِنَّ ذلك لَحَسرَةٌ عَلَيهِم مَا بَعدَهَا حَسرَةٌ، وَبُؤسٌ لهم مَا بَعدَهُ بُؤسٌ، إِنَّهُ لَمُؤذِنٌ بِخَرَابِ دِيَارِهِم وَتَمَزُّقِ مُلكِهِم وَذَهَابِ دَولَتِهِم، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولَ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون.
لَقَد بَعَثَ رَسولُ اللهِ رَسَائِلَ إلى كِسرَى مَلِكِ الفُرسِ وَإِلى قَيصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَكِلاهما لم يُسْلِمْ ولم يَتَّبِعِ الهُدَى، لَكِنَّ قَيصَرَ أَكرَمَ كِتَابَ رَسولِ اللهِ وَأكرَمَ رَسولَهُ، فَثَبَتََ مُلكُهُ وَاستَمَرَّ في الأَجيَالِ اللاحِقَةِ، وَأَمَّا كِسرَى فَمَزَّقَ كِتَابَ رَسولِ اللهِ واستَهزَأَ بِهِ، فَقَتَلَهُ اللهُ بَعدَ قَلِيلٍ، وَمَزَّقَ مُلكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، ولم يَبقَ للأَكَاسِرَةِ مُلكٌ ولم تَقُمْ لهم قَائِمَةٌ.
فَأَبشِرُوا ـ أيها المسلمون ـ وَتَفَاءَلُوا، ولا تَيأَسُوا مِن نَصرِ اللهِ وَلا تَقنَطُوا، فَإِنها قَضِيَّةُ وَقتٍ لا أَقَلَّ وَلا أَكثَرَ، يَقُولُ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه اللهُ: "إِنَّ اللهَ مُنتَقِمٌ لِرَسولِهِ ممَّن طَعَنَ عَلَيهِ وَسَبَّهُ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكَاذِبِ، إِذَا لم يُمكِنِ النَّاسَ أَن يُقِيمُوا عَلَيهِ الحَدَّ، وَنَظِيرُ هذا ما حَدَّثَنَاهُ أَعدَادٌ مِنَ المُسلِمِينَ العُدُولِ أَهلِ الفِقهِ وَالخِبرَةِ عَمَّا جَرَّبُوهُ مَرَّاتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحُصُونِ وَالمَدَائِنِ التي بِالسَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، لمَّا حَصَرَ المسلمون فيها بَني الأَصفَرِ في زَمانِنا، قالوا: كُنَّا نحنُ نَحْصُرُ الحِصْنَ أَوِ المدينةَ الشَّهرَ أَو أَكثَرَ مِنَ الشَّهرِ وَهُو ممتَنِعٌ عَلَينَا، حتى نَكَادُ نَيأَسُ مِنهُ، حتى إِذَا تَعَرَّضَ أَهلُهُ لِسَبِّ رَسولِ اللهِ وَالوَقِيعَةِ في عِرضِهِ تَعَجَّلْنَا فَتحَهُ وَتيَسَّرَ، وَلم يَكَدْ يَتَأَخَّرُ إِلا يَومًا أَو يَومَينِ أَو نحوَ ذَلك، ثم يُفتَحُ المَكانُ عُنوَةً، ويَكُونُ فِيهِم مَلحَمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالوا: حتى إِنْ كُنَّا لَنَتَبَاشَرُ بتَِعجِيلِ الفَتحِ إِذَا سَمِعنَاهُم يَقَعُونَ فيه، مَعَ امتِلاءِ القُلُوبِ غَيظًا عَلَيهِم بما قَالوا فِيهِ" انتهى كلامُهُ. وفي الصحيحِ عنِ النبيِّ قال: ((يَقُولُ اللهُ تعالى: مَن عَادَى لي وَليًّا، فَقَد آذنتُهُ بِالحَربِ)) ، فَكيفَ بِمَن عَادَى سَيِّدَ الأَولِيَاءِ؟! كَيفَ بِمَن استهزأَ بسَيِّد الأَنبِيَاء الذي أَمَرَ اللهُ تعالى بِتَعظِيمِهِ وَتَوقِيرِهِ، وَعَلَّقَ الفَلاحَ على نُصرتِهِ، وَأخبرَ أَنَّ مَن لم يَنصُرْهُ فَلَيس مِنَ المُفلِحِينَ، وَأَنَّ مَن آذَاهُ وَشَاقَّهُ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ سبحانَه كافِيهِ وَنَاصِرُهُ وَعَاصِمُهُ؟! فقال تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ، وقال سبحانَه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ، وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ، وقال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، وقال تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ.
عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: بَينَمَا النبيُّ يُصلِّي عِندَ البَيتِ وأبو جهلٍ وأصحابٌ لَهُ جُلُوسٌ إذ قال بعضُهُم لِبَعضٍ: أَيُّكُم يجِيءُ بِسَلا جَزُورِ بني فُلانٍ فَيَضَعَهُ على ظَهرِ محمدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانبَعَثَ أَشقَى القومِ فجاء به، فَنَظَرَ حتى سَجَدَ النبيُّ وَوَضَعَهُ على ظَهرِهِ بَينَ كَتِفَيهِ وَأَنَا أَنظُرُ لا أُغَيِّرُ شَيئًا، لَو كَان لي مَنَعَةٌ، قال: فَجَعَلُوا يَضحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعضُهُم على بَعضٍ وَرَسولُ اللهِ ساجدٌ لا يَرفَعُ رَأسَهُ، حتى جاءته فَاطِمَةُ فَطَرَحَت عَن ظَهرِهِ، فَرَفَعَ رَأسَهُ ثم قال: ((اللهم عَلَيكَ بِقُريشٍ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيهِم إِذْ دَعَا عَلَيهِم، قال: وكانوا يَرونَ أَنَّ الدَّعوَةَ في ذلك البَلَدِ مُستَجَابَةٌ، ثم سمَّى: ((اللهم عليك بأبي جهلٍ، وعليك بِعُتبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَشَيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بنِ عُتبَةَ، وَأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَعُقبَةَ بنِ أَبي مُعَيطٍ)) ، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَم نحفَظْهُ، قال: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَقَد رَأَيتُ الذين عَدَّ رَسُولُ اللهِ صَرعَى في القَلِيبِ قَلِيبِ بَدرٍ.
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قال: كان رَجُلٌ نَصرَانيٌّ فَأَسلَمَ وَقَرَأَ البَقَرَةَ وآلَ عِمرَانَ، وكان يَكتُبُ لِلنَّبيِّ فَعَادَ نَصرَانِيًّا، وكان يَقُولُ: لا يَدرِي محمدٌ إلا ما كَتَبتُ له، فَأَمَاتَهُ اللهُ فَدَفنُوهُ، فَأَصبَحَ وَقَد لَفَظَتْهُ الأَرضُ، فقالوا: هذا فِعلُ محمدٍ وأَصحابِهِ لمَّا هَرَبَ مِنهُم، نَبَشُوا عن صاحبِنا فَأَلقَوهُ، فَحَفَرُوا له فَأَعمَقُوا له في الأَرضِ ما استَطَاعُوا، فَأَصبَحُوا وَقَد لَفَظَتْهُ الأَرضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلقَوه.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أيها المسلمون، وانصُرُوا رَسولَكُم وَذُبُّوا عَن عِرضِهِ بما تَستَطِيعُون، هُبُّوا للانتِقَامِ لَهُ كُلٌّ بِحَسَبِ قُدرَتِهِ وَاستِطَاعَتِهِ، اِقرَؤُوا سَيرَتَهُ، وَانشُرُوها مِن خِلالِ الوَسَائِلِ المُتَاحَةِ، بِالمَقَالَةِ وَالمَطوِيَّةِ، وَالنَّشرَةِ وَالكِتَابِ، وَالبَرَامِجِ المَرئِيَّةِ وَالمَسمُوعَةِ، مِن خِلالِ المَدَارِسِ وَالمَسَاجِدِ، في البُيُوتِ وَالمَحَافِلِ، قِفُوا على تَفَاصِيلِ سَيرتِهِ، وَتَأَمَّلُوا دَقَائِقَ سُنَّتِهِ، فَهُوَ أَعظَمُ رَجُلٍ في التاريخِ، وَهُوَ مِنَّا وَنحنُ مِنهُ، وَقَد فُزنَا بِهِ وَشَرُفنَا بِالنَّسبَةِ إِلَيهِ، فَلا يَلِيقُ بِنَا أَن نجهَلَ تَاريخَهُ وَسِيرتَهُ وَسُنَّتَهُ، ثم عَلَيكُم بِتَفعِيلِ سِلاحِ المُقَاطَعَةِ لِمُنتَجَاتِ هذِهِ الدُّوَلِ التي سُبَّ فِيهَا وَاستُهزِئَ بِهِ في صُحُفِها، فَذَلِكَ مِن أَقَلِّ مَا يجِبُ نحوَهُ عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ، وَارفَعُوا إِلى اللهِ أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ أَن يُعِزَّ دِينَهُ وَيُعلِيَ كَلِمَتَهُ، وَأَن يُذِلَّ الكُفرَ وَيَمحَقَ الكَافِرِينَ، وَأَجزِلُوا الدُّعَاءَ وَأَخلِصُوهُ لِوُلاةِ أَمرِنا حَيثُ سَحَبُوا سَفِيرَهُم مِن تِلكَ البِلادَ احتجاجًا منهم ـ وفقهم اللهُ ـ على استِهزَاءِ أَولئك بِرَسولِ اللهِ، فَادعُوا لهم ولمن قَاطَعَ سِلَعَ أَولئك مِن تُجَّارِنَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِم، وَادعَمُوا ذلك وَاحتَسِبُوا الأَجرَ مِن رَبَّكُم.
(1/4841)
أسباب انقطاع المطر
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقطاع المطر بلاء وكرب. 2- بشؤم معصية ابن آدم ينقطع المطر. 3- المطر رحمة من الله وعد به الأمم حال إيمانها. 4- شكر النعم يستلزم دوامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17], وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
أما بعد: أيها المسلمون، من حديث المجالس في كثير من المجالس والقرى التي تعتمد على الأمطار في زروعهم ومواشيهم تأخُّرُ نزول المطر, تأخر نزول الغيث من سنوات عدة, بعد أن كانت الأودية فيها العيون النابضة بالماء, وفيها مجاري المياه, يشكون جدب الأرض بعد أن كانت الأرض مخضرة, يشكون ذلك, وحُق لهم أن يشكوا من ذلك؛ لأن الماء نعمة من نعم الله تعالى, قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30].
من الذي ينزل الماء من السماء؟ إنه الله رب العالمين، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا أي: يجعله قطعًا، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي: فترى الودق يخرج من خلاله، فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم:48].
ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا من كان يعتمد على الأمطار, والعرب كانوا كذلك, فيصف الله عز وجل لنا حالهم: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي: لقانطين، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، انظر إلى آثار رحمة الله في النفوس القانطة وفي الأرض الهامدة التي خشعت والتي أنبتت النبات, فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:49، 50].
ما سبب عدم نزول الأمطار؟ ما سبب القحط؟ ما سبب جدب الأرض؟ أخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا, ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمَطروا)) ، يقول مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنن تقول: من شؤم معصية بني آدم"، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه : (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم). ثم يقول : ((ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل وينظروا فيه إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
أمران بهما يمنع القطر من السماء, بهما يحصل الجدب والقحط:
أولهما: ((لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين)) , والأخذ بالسنين من البلاء، والأخذ بالسنين من العذاب, قال تعالى عن عذاب آل فرعون في الدنيا: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، فالأخذ بالسنين من العذاب.
ما نقص المكيال والميزان؟ نقص المكيال والميزان أن يغش الناس في معاملاتهم، فإذا ذهبت إلى السوق حرص البائع على غبن المشتري، فيجعل السلعة الرديئة تحت وبعض السلعة الحسنة أعلى, يحرص على أن يطفف في المكيال والميزان, إن كان الأمر له بخس صاحبه, وإن كان الأمر لغيره اكتال عليه.
وهذا من أسباب شدة المؤنة إذ قال : ((إلا أخذوا بالسنين وشدّة المؤنة وجَوْر السلطان)). ولا يقف قول النبي : ((نقصوا المكيال والميزان)) عند هذا الحد, بل يتعدى إلى ما يحصل في زماننا من السرقات، من سرقات أموال المسلمين, من التزوير, من الاختلاس وغير ذلك, كل ذلك من نقص المكيال والميزان, وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [هود:85]، قالها شعيب عليه السلام لقومه.
((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان)) , أعمالكم ـ أيها المؤمنون ـ عُمالكم, أصلحوا, إذا صلح الناس صلح الولاة عليهم بإذن الله رب العالمين, إنه على كل شيء قدير. ((وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان)).
ثم قال : ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم)) ، هذا هو السبب الثاني لتأخر نزول الغيث من السماء، ((إلا مُنعوا القطر من السماء)) ، يكنزون الذهب والفضة, يكنزون أموالهم ولا يخرجون منها شيئًا, وإن أخرجوا أخرجوا دون ما أمر الله به في النصاب, ترى بعضهم أمواله بالملايين ويخرج بضعة آلاف، ظنًا منه أن هذه تغني عن الزكاة ولا يتحرى في زكاة ماله, ووالله الذي لا إله إلا هو لتبلغ زكاة ماله في السنة الواحدة الملايين ولا يخرج منها إلا بضعة آلاف, يقول: أخرجت زكاة مالي، لم يا عبد الله؟ لم هذا البخل؟! لم هذا الكنز للمال؟! أما سمعت قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]؟! أتريد أن تنال هذا العذاب الأليم؟! أتعرف ما هذا العذاب الأليم؟! يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].
وإذا نزلت قطرات من المطر, وإذا نزل غيث من السماء ما كان ذلك إلا للبهائم, ((ولولا البهائم لم يمطروا)) , أي: ولولا البهائم موجودة لم يقطروا, فإذًا المطر الذي ينزل قليلاً ليس لهؤلاء العصاة المصرين على معاصيهم, الذين لا يقلعون عنها, الذين لا ينفون أسباب القحط وعدم نزول المطر, إنما الرحمة بالبهائم, إنما الرحمة بالعجماوات, ((ولولا البهائم لم يمطروا)) , هكذا بين لنا الصادق المصدوق.
فليس سبب تأخر الأمطار رياح تأتي من الشمال أو الجنوب أو تغير في الأحوال المناخية, لا، سبب تأخر الأمطار هو هذا, هو ما ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام, وإذا ما أقلع الناس عن هذه الأمور رجوا من الله تعالى الرحمة ونزول الغيث, قال سبحانه وتعالى عن هود عليه السلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ماذا؟ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]. يا قوم، استغفروا الله وتوبوا إليه من المعاصي كلها من الشرك والبدع وما يتعلق بهما, ليس الاستغفار باللّسان, إنما الاستغفار بالفعال, توبوا إليه, أقلعوا عن المعصية, ومع الإقلاع استغفروا الله عز وجل, عندها يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم, وإن لم تفعلوا فسيبقى الحال على ما ترون، لا تنتظروا إن لم تقلعوا عن معاصيكم وتستغفروا ربكم أن ينزل عليكم المطر بمجرد: اللهم اسقنا, لا, لا يكون ذلك بهذا فقط, وإنما يكون قبل ذلك بالإقلاع عن الذنب.
ويقول تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13].
إذًا إخوة الإيمان، من أسباب نزول الغيث من السماء أن نستغفر الله سبحانه وتعالى وأن نتوب إليه, فذلك هو المخرج, وأن نتضرع إليه أفرادًا وجماعات إذ هو القائل تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42، 43].
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستغفار والتوبة، إنه على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغُرّ الميامين محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولنا أنه قال: ((بينما رجل ـ أي: فيما كان قبلكم ـ بفلاة من الأرض إذ سمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان ـ أي: سمع صوتًا في السحاب يقول: أيها السحاب، اسق حديقة فلان ـ قال: فانقطعت قطعة من السحاب حتى إذا أتت على حَرّة فإذا شرجة من تلك الشراج فاستوعبت الماء كله، فتتبع الماء فرأى الماء يأتي إلى رجل في حديقته يدير الماء بمسحاته، فقال الرجل: يا عبد الله, ما اسمك؟ قال: اسمي فلان للاسم الذي سمع في السحاب, فقال: يا عبد الله، ـ أي: الرجل الذي يدير الماء بمسحاته ـ لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان، فماذا تفعل؟! قال الرجل: أما إذا قلت هذا فإني آخذ ما يخرج منها ـ أي: ما يخرج من هذه الأرض ـ فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثه وأرجع ثلثًا إلى الأرض)).
انظروا إلى من يشكر نعمة الله عليه, فيخصه الله عز وجل بالكرامة, الرجل يقسم الرزق الذي يُرزقه إلى ثلاثة أثلاث: ثلت يتصدق به, وثلث يأكله هو وعياله, وثلث يرجعه إلى الأرض, ما يضر العباد إن فعلوا مثل ذلك الرجل؟ ما يضرنا إذا أخرجنا من أموالنا شيئًا في كل شهر أو كل يوم, وإن كان قليلاً نتصدق به على من يحتاجه؟! أليس ذلك من موجبات رحمة الله تعالى؟! أليس ذلك من موجبات نزول الغيث من السماء؟! إن الله تعالى لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
اللهم إنا نسألك أن تسقينا غيثًا هنيئًا مريئًا غدقًا, نعمة لنا لا نقمةً علينا, اللهم إنا نسألك أن تسقي العباد والبلاد, اللهم اكشف الضر عنا, اللهم اكشف الضر عنّا, اللهم اكشف الضُر عنّا, اللهم إنا نسألك أن تسقينا غيثًا هنيئًا, مريئًا, غدقًا مجللاً, اللهم إنا نسألك أن تغير أحوالنا إلى أحسن حال، اللهم إنا ضعفاء فقوّنا, أقوياء بك فأعزّنا, اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا, اللهم إنّا نسألك التقى والعفاف والغنى, اللهم إنّا نسألك أن ترفع عنّا الزنا والربا وسوء الأخلاق, اللهم إنّا نسألك أن ترفع عنّا المعاصي كلها, إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/4842)
أسباب حسن الخاتمة وسوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/4/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الله تعالى. 2- فضل الأعمال الصالحة. 3- ذم الأعمال السيئة. 4- الحرص على حسن الخاتمة. 5- عناية الصالحين بحسن الخاتمة. 6- أسباب التوفيق لحسن الخاتمة. 7- خوف السلف من سوء الخاتمة. 8- صور لسوء الخاتمة. 9- أسباب سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ حقَّ تقواه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقد فَاز وسَعدَ من أقبل على مولاَه، وخابَ وخسِر مَن اتَّبع هَواه وأعرَض عن أُخراه.
عبادَ الله، إنَّ ربَّكم غَنيٌّ عَنكم، لا تضرّه مَعصيةُ من عَصاه، ولا تَنفعُه طاعةُ من أطاعَه، كما قال الله تعالى في الحديثِ القدسيّ: ((يا عِبادِي، إنّكم لن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغُوا نفعِي فتنفَعوني)) رواه مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه [1] ، وكما قالَ الله تعالى: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176].
فالأعمالُ الصّالحاتُ سبَبُ كلِّ خيرٍ في الدّنيا والآخِرة، وأعظَمُ الأعمال وأفضلُها أعمالُ القلوب كالإيمانِ والتوكُّل والخوفِ والرَّجاء والرَّغبة والرَّهبةِ وحبِّ ما يحبُّ الله وبُغضِ ما يبغض الله وتَعلُّق القلبِ بالله وحدَه في جلبِ كلِّ نفع ودفع كلِّ ضرّ كما قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].
وأعمالُ الجوارِحِ الصّالحة تابعةٌ لأعمالِ القلوب، كما قال الرّسول : ((إنما الأعمَالُ بالنّياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى)) رواه البخاريّ ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه [2].
والأعمالُ السيِّئة الشرِّيرَة سببٌ لكلِّ شرّ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
والعبدُ مأمورٌ بالطّاعات ومنهِيّ عن المحرَّمات في جميعِ الأوقات، ولكنّه يتأكَّد الأمرُ بالعمَلِ الصالح في آخِرِ العُمر وفي آخرِ ساعةٍ من الأجل، ويتأكَّد النهيُ عن الذنوب في آخرِ العمر وفي آخر ساعةٍ من الأجَل؛ لقول النبيِّ : ((إنما الأعمال بالخواتيمِ)) رواه البخاريّ من حديث سهل بن سعدٍ رضي الله عنه [3].
فمن وفَّقه الله تعالى للعمل الصالحِ في آخر عمره وفي آخرِ ساعةٍ من الأجَل فقد كتب الله له حسنَ الخاتمة، ومن خذَله الله فختَم ساعةَ أجلِه بعمل شرّ وذنبٍ يغضِب الربَّ فقد ختِمَ له بخاتمةِ سوءٍ والعياذ بالله.
وقد حثَّنا الله تبارك وتعالى وأمَرنا بالحِرص على نيلِ الخاتمة الحسَنة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
والسّعيُ لحُسنِ الخاتمة غايةُ الصّالحين وهِمّة العِباد المتَّقين ورَجاء الأبرار الخائفين، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وقال تعالى في وصفِ أُولي الألباب: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، وقال تعالى عن التائبين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين [الأعراف:126]، وعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنّ قلوبَ بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابعِ الرحمن كقَلبٍ واحد يصرِّفُه حيثُ يشاء)) ، ثم قال رسول الله : ((اللّهمّ مصرِّفَ القلوب، صرّف قلوبَنا على طاعتك)) رواه مسلم [4].
فمن وفَّقه الله لحسنِ الخاتمة فقد سعِد سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ولا كربَ عليه بعد ذلك التوفيقِ، ومن خُتِم له بسوء خاتمةٍ فقد خسِر في دنياه وأخراه.
والصّالحون تعظُم عنايَتهم بالأعمالِ الصالحة السّوابِق للخاتمة، كما أنهم يجتهِدون في طلب التوفيقِ للخاتمة الحسنَةِ، فيحسنون الأعمالَ، ويحسنون الرجاءَ والظنَّ بالله تعالى، ويسيئون الظنَّ بأنفسهم، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218].
ومَن صدَق اللهَ في نيّته وعمل بسنّةِ رسول الله واتَّبع هديَ أصحابه البررةِ فقد جَرَت سنّةُ الله تعالى أن يختِم له بخيرٍ، وأن يجعل عواقبَ أموره إلى خير، قال تعالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].
وأسبابُ التوفيق إلى حسنِ الخاتمةِ النيةُ الصالحة والإخلاصُ لله؛ لأنَّ النيةَ والإخلاص شرطان للأعمالِ المقبولة.
ومِن أسباب الخاتمة الحسنةِ المحافظةُ على الصلواتِ جماعةً، ففي الحديث: ((من صلّى البردَين دخل الجنة)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه [5]. والبردان هما الفجر والعصر، ومن داوم عليهما وصلاَّهما فهو بالقِيامِ بِغيرهما من الصّلوات أولى.
ومن أسباب التوفيقِ لحسنِ الخاتمة الإيمان والإصلاح، الإصلاح للنفس، والإصلاح للغير، كما قال تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [الأنعام:48].
ومِن أسباب توفيق الله لحسن الخاتمة تقوَى الله في السرِّ والعلن بامتثالِ أمرِه واجتنابِ نهيِه والدوامِ على ذلك، كما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
ومِن أسبابِ التّوفيقِ لحُسنِ الخاتمة اجتنابُ الكبائر وعظائمِ الذّنوب، قال الله تبارك وتعالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31].
ومن أسبابِ التّوفيق لحسنِ الخاتمة لزومُ هديِ النبيِّ واتباعُ طريقِ المهاجرين والأنصار والتابعينَ لهم رضي الله تعالى عنهم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
ومِن أسباب التوفيقِ لحسن الخاتمة البعدُ عن ظلم الناسِ وعدَمُ البغي والعدوان عليهم في نفسٍ أو مال أو عِرض، قال : ((المسلِمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويده، والمهاجِر من هجَر ما حرَّم الله)) [6] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حِجاب)) رواه البخاري وغيره [7] ، وفي الحديثِ: ((ما من ذَنبٍ أسرَع من أن يعجّل الله عقوبتَه من البغي وقطيعة الرحم)) [8].
ومِن أسباب التوفيق لحسن الخاتمةِ الإحسانُ إلى الخلقِ وكفّ الشرّ عنهم، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
وصِفةُ السّخاء وسماحةُ النفس مع الإسلامِ سَببٌ للتوفيق لحسنِ الخاتمة، قال : ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء)) [9].
ومِن أسبابِ حُسن الخاتمة العافيةُ مِنَ البدع، فإنَّ ضررَها كبير وفسادَها خطير، والبِدعُ هي التي تفسِدُ القلوبَ وتهدِم الدّين وتنقُضُ الإسلام عُروةً عروةً، قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وهؤلاء المنعَمُ عليهم مبرَّؤونَ من البدَع كلِّها.
ومن أسباب حسنِ الخاتمة الدعاءُ بذلك للنفسِ، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وفي الحديثِ: ((لا ينجي حذَرٌ مِن قدَر، والدّعاء ينفع مما نزَلَ ومما لم ينزِل)) [10]. ودُعاء المسلم لأخيه المسلِم بحسنِ الخاتمة مستجابٌ بظهر الغيب، وفي الحديث: ((ما مِن مسلمٍ يدعو لأخيه بالغيب إلاَّ قال الملك: آمين، ولك بمثله)) [11].
فاسعَوا ـ رحمكم الله ـ إلى تحصيل أسبابِ حسنِ الخاتمة ليوفِّقَكم الله إلى ذلك، واحذَروا أسبابَ سوءِ الخاتمة فإنَّ الخاتمة السيِّئة هي المصيبةُ العظمى والداهيَة الكبرى والكَسر الذي لا ينجَبِر والخسران المبين، والعياذ بالله من ذلك.
فقد كان السَّلف الصالح رضي الله عنهم يخافون مِن سوءِ الخاتمة أشدَّ الخوف، قال البخاري في صحيحه: "قال ابن أبي ملَيكة: أدركتُ ثلاثين من الصّحابة كلُّهم يخاف النّفاقَ على نفسه" [12] ، وقال ابن رجب: "وكان سفيان الثوريّ يشتدّ قلقُه وخوفُه منَ السّوابِقِ والخواتم، فكان يبكي ويقولُ: أخاف أن أكونَ في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أن أُسلَبَ الإيمانَ عند الموت" [13] ، وقال بعضُ السلَف: "ما أبكى العيونَ ما أبكاها الكتابُ السابق"، وقد قيل: "إنَّ قلوبَ الأبرار معلّقَةٌ بالخواتيم يقولون: بماذا يختَم لنا؟ وقلوبُ المقرَّبين معلّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبَق لنا؟"، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقوم ليلَه ويقول: "يا ربِّ، قد علمتَ ساكنَ الجنة والنار، ففي أيِّ منزلٍ مالك؟" [14]. وكلام السّلَف في الخوف من سوءِ الخاتمة كثير.
ومَن وقَف على أخبارِ المحتَضَرين عندَ الموتِ وشاهدَ بَعضًا منهم اشتدَّت رغبةُ المسلم في تحصيلِ أسبابِ حُسن الخاتمة؛ ليكونَ مع هؤلاء الموفَّقين لحسنِ الخاتمة، فقد شوهِدَ بعضُهم وهو يقول: مرحَبًا بهذه الوجوهِ التي ليست بوجوهِ إنسٍ ولا جانّ، وشوهِد من المحتضَرينَ من يلهج بذكر الله وبـ"لا إله إلا الله"، ومَن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخلَ الجنة، وشوهِد بعضهم يتلو القرآنَ، وشوهد بعضُ المحتضَرين يقسِّم مسائلَ الفرائض ويتكلَّم في مسائل العلم، وقال بعضهم: لا تخافوا عليَّ فقد بشِّرتُ بالجنّة الساعةَ، قال بعضُ أهل العلم: "الخواتيمُ ميراثُ السّوابق".
فكونوا ـ عبادَ الله ـ مع الموفَّقين، فمن سلك سبيلَهم حشِر معهم، ولا تسلكوا سبُلَ الهالكين المخذولِين الذين خُتِم لهم بخاتمةِ سوءٍ والعياذ بالله، قال عبد العزيز بن أبي روّادٍ: "حضرتُ رجلاً عند الموت يلقَّن: لا إلهَ إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافِرٌ بها، ومات على ذلك، قال: فسألتُ عنه فإذا هو مُدمِن خمرٍ، وقيل لآخر عند الموت: قل: لا إلهَ إلا الله، فقال: عشَرة بأحدَ عشر، وكان يتعامل بالربا، وقيل لآخر: اذكر الله، فقال: رِضا الغلام فلان أحبُّ إليَّ مِن رِضا الله، وكان يميل إلى الفاحِشة، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قائِلةٍ يومًا وقد تَعِبت: أين الطريقُ إلى حمّام منجاب؟
وكان قد خدَع جاريةً تريد حمّام منجاب فأدخَلَها داره؛ لأنها كانت تشبِه ذلك الحمّامَ يريد بها الفاحشةَ، فهام بها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: سيجارة سيجارَة؛ لأنّه كان يشرَب الدّخان.
وأسباب سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ كثيرةٌ:
منها ترك الفرائض من الصلوات وغيرها وارتكاب المحرَّمات وتركُ الجُمَع والجماعات، فإنَّ الذنوبَ ربما غلَبت على الإنسانِ واستَولَت على قلبه بحبِّها، فيأتي الموتُ وهو مصِرّ على المعصية، فيستولي عليه الشيطانُ عند الموت وهو في حالةِ ضَعفٍ ودَهشة وحيرة، فينطِق بما ألِفَه وغلب على حالِه، فيُختَم له بسوء، نعوذ بالله من ذلك.
ومن أسبابِ سوء الخاتمة البِدَع التي لم يشرَعها الرّسول ، فالبِدعة شُؤمٌ وشرّ على صاحبها وعلى الدين، وهي أعظم من الكبائرِ، وفي الحديث عن النبيّ : ((يرِد عليَّ أناسٌ من أمّتي الحوضَ أعرِفهم، فتطردُهم الملائكة وتقول: إنّك لا تدرِي ماذا أحدَثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سحقًا لمن غيّر بعدي)) [15].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمة ظُلم الناس والعدوان عليهم في الدّمِ أو المال والعرض، وظلمُ النفسِ بنوعٍ من أنواع الشرك بالله تعالى، قال عزّ وجلّ: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].
ومِن أسباب سوء الخاتمة الزهدُ في بذلِ المعروف، وعدَمُ نفع المسلمين، والزهد في الدعاءِ فلم يطلُبِ الخير، كما قال تبارك وتعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم [التوبة:67]، وقال تعالى: أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19].
ومن أسباب سوء الخاتمة الركونُ إلى الدنيا وشهواتها وزخرفِها، وعدمُ المبالاة بالآخرة، وتقديم محبّةِ الدنيا على محبة الآخرةِ، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
ومن أسباب سوء الخاتمة أمراضُ القلوب من الكبر والحسَد والحِقد والغلِّ والعُجب واحتقار المسلمين والغدر والخيانة والمكر والخداع والغشّ وبُغض ما يحبّ الله وحبِّ ما يبغض الله تعالى، قال تعالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].
ومن أسباب سوء الخاتمة عقوقُ الوالدين وقطيعة الأرحام.
ومِن أسباب سوء الخاتمة الوصِيّة الظالمةُ المخالِفة للشرع الحنيفِ.
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[2] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (1)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1907).
[3] صحيح البخاري: كتاب القدر (6607).
[4] صحيح مسلم: كتاب القدر (2654).
[5] صحيح البخاري: كتاب الصلاة (574)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (635).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (10) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2448)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (19).
[8] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/124) من طريق الحسن عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795). وفي الباب عن عدد من الصحابة منهم: أبو أمامة ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وأم سلمة رضي الله عنهم. انظر: مسند الشهاب (100، 101، 102)، ومجمع الزوائد (3/155، 8/193-194).
[10] أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201) من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وشاهد ثان من حديث ابن عمر عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخرى في سند كلٍّ منها مقال.
[11] أخرجه مسلم في الذكر (2732) عن أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه.
[12] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[13] جامع العلوم والحكم (ص57).
[14] أخرجه أحمد في الزهد (ص321)، وانظر: صفة الصفوة (3/285)، وجامع العلوم والحكم (ص57).
[15] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6585) ، ومسلم في الفضائل (2291) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذِلِّ من خالف أمره وعصاه، أحمده ربّي وأشكره على ما أسبغ من نعَمِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، لا إلهَ ولا ربَّ سواه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه مولاه، اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بلزوم طاعاته ومجانبة محرَّماته؛ تنجوا من عذابه، وتفوزوا بجنَّاته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، وعَن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، إنَّ أَحدَكم ليعمل بعملِ أهل الجنّة حتى ما يكون بينَه وبينها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخُلها، وإنَّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراع، فيسبِق عليه الكِتاب، فيعمَل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري ومسلم [1].
عبادَ الله، اعملوا الصالحات، وجانبوا المحرّمات، واجتهدوا في تحصيل أسباب حُسن الخاتمة، واحذَروا أسباب سوء الخاتمة، واجتهدوا فيما يرضي ربَّكم، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، وأحسنوا العمل، وأحسنوا الظنَّ بربِّكم، ولا يسِئِ المرء العملَ ويتمنَّى على الله الأماني، وفي الحديث: ((من أكثر من قول: اللّهمّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها وأجرنا من خزي الدنيا وعذابِ الآخرة مات قبل أن يصيبَه البلاء)) [2].
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قَال : ((مَن صلّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأولين وإمامِ المرسَلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب القدر (6594)، صحيح مسلم: كتاب القدر (2643).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (2/33) عن بسر بن أرطاة رضي الله عنه بمعناه، وفي إسناده رجل مجهول.
(1/4843)
كل مصيبة بعدك جلل
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
4/1/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إجماع المسلمين على المقاطعة. 2- وجوب محبة النبي. 3- حب الصحابة للنبي. 4- حب المسلمين للنبي. 5- الحث على الاستمرار في المقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فأُوصيكم ـ أيها الناسُ ـ بتقوى اللهِ عز وجل، والتي لا تحلو الحياةُ إلا بها، ولا يَدخُلُ الجنةَ إلا أهلُها، أَلا إِنَّ أَولِيَاء اللهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ البُشرَى في الحَياةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ لاَ تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ.
أيها المسلمون، ومما أَبهَجَ القُلُوبَ وشَرَحَ الصدورَ وشمخَت به أُنُوفُ المؤمنين وأُرغِمَت أُنُوفُ الكافرين ما أَجمَعَ عليه جمهورُ المسلمين في مَشرقِ هذِهِ البِلادِ وغِربِها، بل في كثيرٍ مِن بِلادِ الإِسلامِ، مِن مُقَاطَعَةٍ لِسِلَعِ الذين استَهزَؤُوا بِرَسولِ اللهِ ، وما كان ذلك بِغَرِيبٍ عَلَيهم ولا مُستَنكَرٍ مِنهم، مَا كان مُستَكثَرًا منهم وما هو بِالكَثِيرِ في حَقِّ نَبِيِّهِم ورَسولِهِم وحَبِيبِهِم الذي بَعَثَهُ اللهُ نجاةً لهم وَرَحمَةً، فَأَخرَجَهُم بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، وَجعلَ بِعثتَهُ هِدايَةً لهم مِنَ الضَّلالَةِ، وَبَصَّرَهُم بِنُورِ ما جاء بِهِ مِنَ العَمَى، وكان عَزِيزًا عليه ما يُعنِتُهُم، حَرِيصًا عليهم، بِالمُؤمِنِين رَؤوفًا رَحيمًا، وَكَيفَ لا يَنتَقِمُ المُسلِمُونَ ولو بِالقَلِيلِ ممَّن استَهزَأَ بِهِ وَسَخِرَ منه؟! كيف لا يَفدُونَهُ بِآبَائِهِم وَأُمَّهاتِهِم وَأَنفُسِهِم بَلْهَ أَموَالِهِم وهو الذي ما وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَمَا قَلاهُ، شَرَحَ صَدرَهُ وَوَضَعَ وِزرَهُ، وَرَفَعَ في العَالمين ذِكرَهُ؟! كيف لا يَتَأَثَّرُونَ مِن أَجلِهِ وَتمتَلِئُ صُدُورُهُم غيظًا على مَن أَساءَ إليه وهو الذي سَخَّرَ اللهُ له مخلوقاتِهِ فَعَرَفَتْهُ وَهَابَتْهُ، فَحَنَّ الجِذعُ بَينَ يَدَيهِ، وَبَكَى الجَمَلُ شَاكِيًا إِلَيهِ، وَسَبَّحَ الحَصَى بَينَ أَنَامِلِهِ، وَسَلَّمَ عَلَيهِ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ، وَنَبَعَ المَاءُ مِن بَينِ أَصَابِعِهِ، وَانقَادَت الشَّجَرَةُ في يَدِهِ؟!
إِنَّ ما حَدَثَ مِنَ المُسلِمِينَ ـ جزاهُمُ اللهُ خَيرًا عن نَبِيِّهِم ـ ما هو إلا تَعبِيرٌ عمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُم مِن محبَّتِهِ، وَإِيضَاحٌ لما تَنطَوِي عَلَيهِ قُلُوبُهُم مِن تَعزِيرِهِ وَتَوقِيرِهِ، وذلك مِن صَرِيحِ الإِيمانِ ودلالاتِ كَمَالِهِ، ولولا أَنَّ المُسلِمَ يُقَدِّمُ ما يُحِبُّهُ رَسُولُهُ على ما تُحِبُّهُ نَفسُهُ وتَشتَهِيهِ، لما آمَنَ بِهِ تمامَ الإِيمانِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمعِينَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ: أَن يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهما، وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ إِذْ أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ)) ، ولمَّا قال عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: يا رَسولَ اللهِ، لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ مِن نَفسِي، قال له : ((لا والذي نَفسِي بِيَدِهِ، حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيكَ مِن نَفسِكَ)) ، فقال عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي، فقال له : ((الآنَ يَا عمرُ)). وجاء رجلٌ إلى النبيِّ فقال: يا رَسولَ اللهِ، متى الساعةُ؟ قال: ((وَيلَكَ، وَمَا أَعدَدتَ لها؟)) قال: ما أَعدَدتُ لها إلا أَني أُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ، قال: ((أَنتَ مَعَ مَن أَحبَبتَ)).
قال ابنُ رَجَبٍ رحمه اللهُ: "محبَّةُ النبيِّ مِن أُصُولِ الإِيمانِ، وهي مُقارِنَةٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ عز وجل، وقد قَرَنها اللهُ بها، وَتَوَعَّدَ مَن قَدَّمَ عَلَيهِما محبَّةَ شَيءٍ مِنَ الأُمُورِ المُحَبَّبَةِ طَبعًا مِنَ الأَقَارِبِ وَالأَموَالِ وَالأَوطانِ وَغَيرِ ذلك، فقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَاؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ ".
وَلمَّا عَلِمَ الصحابةُ بذلك وعاصروا رَسولَ اللهِ وَعَايَشُوهُ وَلامَسُوا نُزُولَ الوَحيِ عَلَيهِ وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَصَحِبُوهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَعَلِمُوا مَن هُوَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدقًا كانت محبَّتُهُم له أَشَدَّ وَأَقوَى، وَتَوقِيرُهُم له أَكمَلَ وَأَوفى، وَتَعزِيرُهُم له أَسمى وَأَعلى، أَحَبُّوهُ حُبًّا فَاقَ كُلَّ حُبٍّ، وَوَدُّوهُ مَوَدَّةً غَلَبَت كُلَّ مَوَدَّةٍ، فَآثَرُوهُ على النَّفسِ وَالوَلَدِ، وَقَدَّمُوهُ على الآباءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَأَرخَصُوا مِن أجلِهِ الزَّوجَاتِ وَالضَّيعَاتِ، وَفَارَقُوا لِصُحبتِهِ العَشَائِرَ وَالأَوطَانَ، وَهَجَرُوا المَسَاكِنَ وَالبُلدَانَ، ووَدُّوا لو لم يُفَارِقُوهُ لحظَةً وَاحِدَةً، وَضَرَبُوا في ذلك مِنَ الأَمثِلَةِ أَروَعَهَا، وَسَجَّلُوا فِيهِ مِنَ المَوَاقِفِ أَصدَقَهَا، وَكَانَت لهم مَعَهُ قِصَصٌ افتَخَرَ التَّأرِيخُ وهو يَروِيها، وَابتَهَجَت كُتُبُ المَغَازِي وَالسِّيَرِ وهي تحكيها، وَقَد كانت محبَّتُهُم له ظاهِرَةً لِلعيانِ، أَدهَشَتِ العُقَلاءِ مِن أَعدَائِهِ، فَشَهِدُوا بها وَأَبدَوُا استِغرَابَهُم منها.
فها هو عُروَةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفِيُّ وَقَد أَوفَدَهُ المُشرِكُونَ لِلتَّفَاوُضِ مَعَ رَسُول اللهِ في صُلحِ الحُدَيبِيَةِ، يَقُولُ وقد عاد إلى أصحابِهِ: أَيْ قَومُ، واللهِ لَقَد وَفَدْتُ على المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيصَرَ وَكِسرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ محمَّدٍ محمَّدًا، واللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم، فَدَلَكَ بها وَجهَهُ وَجِلدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ. رواه البخاريُّ.
وَأَخرجَ الطبرانيُّ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت: جاء رجلٌ إلى النبيِّ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إِنَّكَ لأَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إليَّ مِن وَلَدِي، وَإِني لأَكُونُ في البَيتِ فَأَذكُرُكَ فَمَا أَصبِرُ حتى آتِيَ فَأَنظُرَ إِلَيكَ، وَإِذَا ذَكَرتُ مَوتي وَمَوتَكَ عَرَفتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلتَ الجنةَ رُفِعتَ مَعَ النَّبِيّينَ، وَإِني إِذَا دَخَلتُ الجنةَ خَشِيتُ أَن لا أَرَاكَ، فَلَم يَرُدَّ عليه النبيُّ شَيئًا حتى نَزَلَ جبريلُ عليه السلامُ بهذِهِ الآيةِ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
رَضي اللهُ عن هذا الصحابيِّ، ما أبينَ محبَّتَهُ وَأَوضَحَ مَوَدَّتَهُ، محبَّةٌ يُفَضِّلُ بها رَسولَ اللهِ على كُلِّ غالٍ، وَمَوَدَّةٌ تجعلُهُ يَتَمَلمَلُ في بيتِهِ وبينَ أبنائِهِ، فلا يَرتَاحُ حتى يَرَاهُ، وَلَيسَ هذا وَكَفَى، بَل تَفكِيرٌ يَتَعَدَّى حُدُودَ الدنيا ويَتَجَاوَزُها إلى الآخِرَةِ، يخافُ معَهُ أن يُحرَمَ رؤيتَهُ في الجنةِ، فأيُّ حُبٍّ هذا الذي مَلَكَ عليه دُنيَاهُ وآخرتَهُ؟!
وَمِنَ المَوَاقِفِ التي ظََهَرَ فيها صِدقُ المحبَّةِ وَالمَوَدَّةِ ما رواه ابنُ إسحاقَ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها أنها قالت: كان لا يُخطِئُ رَسولَ اللهِ أَن يَأتيَ بَيتَ أَبي بَكرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النهارِ، إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً، حتى إذا كان اليَومُ الذي أَذِنَ اللهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالهِجرَةِ وَالخُرُوجِ مِن مكةَ مِن بَينِ ظَهرَي قَومِهِ أَتَانَا رَسولُ اللهِ بِالهَاجِرَةِ، في ساعةٍ كان لا يَأتي فِيها. قالت: فَلَمَّا رآه أَبو بكرٍ قال: ما جَاءَ رَسولُ اللهِ في هذِهِ الساعةِ إِلاَّ لأَمرٍ حَدَثَ. قالت: فلمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ له أَبو بكرٍ عن سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسولُ اللهِ، وَلَيسَ عِندَ رَسولِ اللهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَنا وَأُختي أَسماءُ بِنتُ أَبي بكرٍ، فقال رسولُ اللهِ: ((أَخْرِجْ عني مَن عِندَكَ)) ، قال: يا رَسولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمَا ابنَتَايَ، وما ذَاك فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي؟ قال: ((إِنَّ اللهَ قَد أَذِنَ لي في الخُرُوجِ والهِجرَةِ)). قالت: فقال أَبو بكرٍ: الصُّحبَةَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قال: ((الصُّحبَةُ)). قالت: فَوَاللهِ، ما شَعُرتُ قَطُّ قَبلَ ذلك اليَومِ أَنَّ أَحَدًا يَبكِي مِنَ الفَرَحِ حتى رَأَيتُ أَبا بكرٍ يَومَئِذٍ يَبكِي.
اللهُ أكبرُ أيها المسلمون، فَدَى أَبو بَكرٍ رضي اللهُ عنه رسولَ اللهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَرخَصَ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، وَنَسِيَ كُلَّ قَرِيبٍ وَعَزيزٍ، ولم يَتَذَكَّرْ إِلاَّ صُحبَةَ رَسولِ اللهِ. نعم، إِنَّهُ يُرِيدُ شَرَفَ الصُّحبَةِ في الهِجرةِ، يُرِيدُ أَن لاَّ يُفَارِقَ حَبِيبَهُ وَخَلِيلَهُ، يُرِيدُ أَن يَصحَبَهُ مُقِيمًا وَمُسافِرًا، فَلَم يُفَكِّرْ في شَيءٍ إِلاَّ في الصُّحبَةِ، فَسَأَلَهَا رَسولَ اللهِ وَطَلَبِ منه أَن يُشَرِّفَهُ بها، فَلَمَّا وَافَقَ على ذلك الحبيبُ ونال الصِّدِّيقُ وِسَامَ الشَّرَفِ بَكَى رضي اللهُ عنه وَذَرَفَت عَينَاهُ، لماذا؟ فَرَحًا بِصُحبَةِ حبيبِهِ رسولِ اللهِ. فَأَيّ قَلبٍ هذا الذي يَملِكُهُ؟! وَأَيّ فُؤَادٍ يحمِلُ بَينَ أَضلُعِهِ؟! وَأَيّ حُبٍّ يَنطوِي عَلَيهِ؟! إِنَّهُ حُبٌّ لا يُفَكِّرُ مَعَهُ في أَهلٍ ولا وَطَنٍ، إِنَّهُ حُبٌّ يُنسِيهِ أَبنَاءَهُ وَمَا مَلَكَت يَمِينُهُ، فَرَضِيَ اللهُ عنه وَأَرضَاهُ مَا أَقوَى إِيمَانَهُ، وَرَفَعَ دَرَجتَهُ في الجنةِ ما أَصدَقَ حُبَّهُ.
وَلَيس هذا فَحَسبُ، بل تَعالَوا نَسمَعْ مَا بَعدَهُ، فقد روى الحاكمُ في مُستَدرَكِهِ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ رحمه اللهُ قال: ذُكِرَ رِجَالٌ على عَهدِ عمرَ رضي اللهُ عنه فكأنهم فَضَّلُوا عُمَرَ على أَبي بَكرٍ رضي اللهُ عنهما، قال: فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ رضي اللهُ عنه فقال: وَاللهِ، لَلَيلَةٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ، وَلَيَومٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ، لَقَد خَرَجَ رَسولُ اللهِ لِيَنطَلِقَ إلى الغَارِ وَمَعَهُ أَبو بكرٍ، فَجَعَلَ يمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيهِ وَسَاعَةً خَلفَهُ، حتى فَطِنَ له رَسولُ اللهِ فقال: ((يا أَبا بكرٍ، ما لك تمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيَّ وَسَاعَةً خَلفِي؟)) فقال: يا رَسولَ اللهِ، أَذكُرُ الطَّلَبَ فَأَمشِي خَلفَكَ، ثم أَذكُرُ الرَّصَدَ فَأَمشِي بَينَ يَدَيكَ، فقال: ((يا أَبا بكرٍ، لَو كَان شَيءٌ أَحبَبتَ أَن يَكونَ بِكَ دُونِي؟)) قال: نَعَمْ، والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، ما كانت لِتَكونَ مِن مُلِمَّةٍ إِلاَّ أَن تَكونَ بي دُونَكَ. فَلَمَّا انتَهَيَا إلى الغارِ قال أبو بكرٍ: مَكَانَكَ ـ يَا رَسولَ اللهِ ـ حتى أَستَبرِئَ لَكَ الغَارَ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَهُ، حتى إذا كان في أَعلاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لم يَستَبرِئِ الحُجرَةَ، فقال: مَكَانَكَ ـ يَا رَسولَ اللهِ ـ حتى أَستَبرِئَ الحُجرَةَ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَ ثم قال: اِنزِلْ يَا رَسولَ اللهِ، فَنزَلَ. فقال عُمَرُ: والذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَتِلكَ اللَّيلَةُ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ.
فَانظُرُوا كيف فَعَلَتِ المحبَّةُ الصَّادِقَةُ بِأَبي بكرٍ وَأَيَّ شَيءٍ أَدَّى بِهِ الخَوفُ عَلَى النبيِّ مِنَ المُشرِكِينَ، يَتَمَنَّى لَوِ استطاع أَن يَحمِيَهُ مِن خَلفِهِ وَمِن أَمَامِهِ، وَيَوَدُّ لَوِ انقَسَمَ فَصَارَ قِسمٌ مِنهُ بَينَ يَدَيهِ وَآخَرُ مِن خَلفِهِ، فلا يجِدُ وَلا يَستَطِيعُ إِلاَّ أَن يُبَادِلَ المَشيَ مِن هُنا وَمِن هُنا؛ لَعلَّ مَا قد يُرِيدُ الرَّسولَ بأذى أن يَقَعَ لهُ هو دُونَ الحبيبِ. ثم يُكَرِّرُ مَشهَدَ المَوَدَّةِ في الغارِ، فَيَدخُلُهُ قَبلَ الحبيبِ لِيُنَظَِّفَهُ ممَّا قد يَكُونُ فيه مِن هَوَامَّ وَخَشَاشٍ أَو أَشوَاكٍ أَو نحوِها، لِئلا تُؤذِيَ رَسولَ اللهِ أَو تمسَّهُ بما يَكرَهُ.
فَرَضِيَ اللهُ عن صِدِّيقِ الأُمَّةِ وَأَعلَى دَرَجَتَهُ، وَرَضِيَ اللهُ عن أَبي طَلحَةَ وَزَيدِ بنِ الدِّثِنَّةِ وعن سائِرِ الأصحابِ، أَمَّا زَيدُ بنِ الدِّثِنَّةِ رضي اللهُ عنه فإنه لمَّا اجتَمَعَ رَهطٌ مِن قُرَيشٍ لقتلِهِ وقال له أبو سُفيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقتَلَ: أَنشُدُكَ بِاللهِ يَا زَيدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ عِندَنَا مَكَانَكَ نَضرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ في أَهلِكَ؟ قال: واللهِ، ما أُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ في مَكَانِهِ الذي هو فيه تُصِيبُهُ شَوكَةٌ تُؤذِيهِ وَأني جالسٌ في أَهلي، فقال أَبو سُفيَانَ: مَا رَأَيتُ مِنَ الناسِ أَحدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصحَابِ محمدٍ محمدًا، ثم قَتَلُوهُ رضي اللهُ عنه. وَأَمَّا مَوقِفُ أبي طلحةَ فقد رواه البخاريُّ عن أنسٍ رضي اللهُ عنه قال: لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ انهزمَ الناسُ عنِ النبيِّ وأَبو طلحةَ بَينَ يَدَيِ النبيِّ مُجَوِّبٌ عَلَيهِ بِحَجَفَةٍ له ـ أَيْ: مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَهُ ـ، وكان أبو طلحةَ رجلاً رَامِيَا شَدِيدَ القِدِّ ـ أَيْ: أَنَّ وَتَرَ قوسِهِ مَشدُودٌ لِقَوِّتِهِ ـ يَكسِرُ يَومَئِذٍ قَوسَينِ أَو ثَلاثًا، وكان الرجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعبَةُ مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ: انثُرها لأبي طَلحَةَ، فَأَشرَفَ النبيُّ يَنظُرُ إلى القَومِ، فَيَقُولُ أَبو طلحةَ: يَا نبيَّ اللهِ بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي، لا تُشرِفْ يُصبْكَ سَهمٌ مِن سِهَامِ القَومِ، نحري دُونَ نحرِكَ. فَرَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه، ما أَغلَى مَا فَدَى بِهِ رَسولَ اللهِ، فَدَاهُ بِنَحرِهِ وَوَقَاهُ بِصَدرِهِ، وَجَعَلَ نَفسَهُ حَائِطًا يَصُدُّ سِهَامَ القَومِ عَن جَسَدِ الحبيبِ.
أيها المسلمون، ولم يَكُنْ أَمرُ محبَّةِ النبيِّ مَقصورًا على الرِّجالِ مِنَ الصحابةِ دُونَ النِّساءِ، بل لَقَد كان فِيهِنَّ مَن ضَرَبَت في ذلك مثلا، فقد أخرج الطبرانيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قال: لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ حَاصَ أَهلُ المَدِينةِ حَيصَةً وقالوا: قُتِلَ محمدٌ، حتى كَثُرتِ الصَّوارِخُ في نَاحِيَةِ المَدينةِ، فَخَرَجَتِ امرأةٌ مِنَ الأَنصَارِ مُتَحَزِّمَةً، فَاستُقبِلَت بِابنِها وَأَبِيها وَزَوجِها وَأَخِيها، لا أَدرِي أَيَّهُم استُقبِلَت بِهِ أَوَّلاً، فَلَمَّا مَرَّت على آخرِهِم قالت: مَن هذا؟ قالوا: أَبوكِ، أَخوكِ، زَوجُكِ، ابنُكِ، تَقُولُ: ما فَعَلَ رَسولُ اللهِ ؟ يَقُولُونَ: أَمَامَكِ، حتى دُفِعَت إلى رَسولِ اللهِ فَأَخَذَت بِنَاحِيَةِ ثَوبِهِ، ثم قالت: بِأَبي أنت وَأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ، لا أُبَالي إِذَا سَلِمَتَ مِن عَطَبٍ.
وفي السِّيرةِ لابنِ هِشامٍ أنه مَرَّ بِامرأةٍ مِن بَني دِينَارٍ وقد أُصِيبَ زَوجُها وَأَخُوها وَأَبُوها مَعَهُ بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لها قَالَت: فَمَا فَعَلَ رَسولُ اللهِ ؟ قَالُوا: خَيرًا يَا أُمَّ فُلانٍ، هو بِحَمدِ اللهِ كَمَا تُحبِّينَ، قالت: أَرُونِيهِ حتى أَنظُرَ إِلَيهِ، قال: فَأُشِيرَ لها إليه، حتى إذا رَأَتْهُ قالت: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعدَكَ جَلَلٌ، أَيْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ دُونَكَ هَيِّنَةٌ صَغِيرَةٌ.
فَرَضِيَ اللهُ عن صحابةِ رَسولِ اللهِ وأرضاهم، وجزاهم خيرًا عن نَبِيِّهِم وَدِينِهِم، فقد آمنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَقَّ الإِيمانِ، وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وَنَافَحُوا عن رَسولِ اللهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ، وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، وتمَسَّكوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروةِ الوُثقى، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا.
أيها المسلمون، وَإِذَا كان ما سَبَقَ مِن مَوَاقِفَ لِلصَّحَابَةِ الكِرامِ رُضوانُ اللهِ عليهم تَدُلُّ على شَدِيدِ محبَّتِهِم لِنَبِيِّهِم وحبِيبِهِم عليه الصلاةُ والسلامُ فَإِنَّ في أُمَّتِهِ الآنَ مَن يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، يَوَدُّ مَعَهُ لَو رَآهُ وَأَنَّهُ لم يَرَ مَالاً وَلا أَهْلاً، روى مُسلِمٌ عنه أنه قال: ((مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُم لَو رَآني بِأَهلِهِ وَمَالِهِ)). وَإِذَا كان الصحابةُ قد فَدَوا رَسولَ اللهِ بِأَروَاحِهِم وَمَا يملِكُونَ، فَإِنَّهُ لا يُعجِزُ أَحدَنَا ـ أيها المسلمون أَن يَستَمِرَّ في مُقَاطَعَتِهِ لِمَنِ استَهزَؤُوا بِهِ ، فَوَاللهِ مَا قَامَت حَيَاةُ أَحدِنا على زُبدَةٍ وَلا جُبنَةٍ وَلا على حَلِيبٍ أَو لَبنٍ يَصنَعُهُ هؤلاءِ أَو يُنتِجُونَه، ثم يُسَوِّقُونَهُ لَدَينا مُمتَصِّينَ أَموَالَنَا، ثم يُحَارِبُونَنَا بها وَيَستَهزِئُونَ بِرَسُولِنَا وحَبيبِنا، ألا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً استَمَرَّ في مُقاطَعتِهِ أعداءَ الله ورسولِهِ سُخْطَةً لِلحَبِيبِ، فَلَعَلَّهُ بِذَلك أَن يَنَالَ مِنَ الفَلاح نَصِيبًا، يَقُولُ سبحانَه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ. ولا تهولَنَّكُم ـ أيها المسلمون ـ خِطَّةُ هؤلاءِ الكَفَرَةِ مِن دُوَلِ أَورُوبا، حَيثُ عَمِلُوا على تَوسِيعِ دَائِرَةِ السُّخرِيَةِ وَالاستِهزَاءِ، مُرِيدِينَ بِذَلكَ أَن تَتَّسِعَ دَائِرَةُ المُقَاطَعَةِ فَنَعجِزَ عنها أَو نَكَلَّ أَو نَمَلَّ. أَلا فَلْنَثْبُتْ على مُقَاطَعَتِنا لِمَن نَستَطِيعُ مُقَاطَعَتَهُ مِن هَذِهِ الدُّوَلِ، وَإِلاَّ فَلا أَقَلَّ مِن مُقَاطَعَةِ الدولةِ التي تَوَلَّت كِبرَ هذِهِ المُحَارَبَةِ لِنَبِيِّنا وَبَدَأَت بِالسُّخرِيَةِ منه، أَعني الدنماركَ، فاتقوا اللهَ ما استطعتم.
(1/4844)
تورعوا تورعوا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الزهد والورع, الفتن, قضايا فقهية معاصرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار مسرحية المساهمات. 2- اختلاف العلماء في المساهمات البنكية. 3- الحلال بين والحرام بين. 4- اتقاء الشبهات. 5- حقيقة الورع وفائدته. 6- البر والإثم. 7- ضرورة إصلاح القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، وَمَا زَالَت مَسرَحِيَّةُ المُسَاهمَاتِ قَائِمَةً على قَدَمٍ وَسَاقٍ، وَمَا زَالَت فُصُولُها تَتَتابَعُ حِينًا بعدَ حِينٍ، ما يَكَادُ السِّتَارُ يُسدَلُ على فَصلٍ منها حتى يُفتَحَ على آخَرَ، وما يَكَادُ المُسَاهمون يَصحُونَ من نَكبَةٍ حتى يَرتَكِسُون في أُخرَى، مُسَاهمَةٌ تِلوَ مُسَاهمَةٍ، واكتِتَابٌ في إِثرِ اكتِتَابٍ، ويَنجَرِفُ فِئامٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ تَردُّدٍ أو تخَوُّفٍ، وَيَنزَلِقُ مُتَهَوِّرُونَ دُونَ تَثَبُّتٍ أَو تَأَكُّدٍ، وَتَبقَى فِئَةٌ مَا زَالَ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِن دِينٍ وَحَيَاءٍ تَنتَظِرُ فَتَاوَى المَشَايِخِ وَآرَاءَ العُلَمَاءِ؛ لِتَستَنِيرَ بها وَتَستَبِينَ الطَّرِيقَ، فتُفَاجَأُ بِأَنَّها لا تجِدُ رَأيًا مُجمَعًا عَلَيهِ وَلا فَتوَى مُوَحَّدَةً، فَمِن مُجِيزٍ مُشَجِّعٍ، إلى مُحَرِّمٍ مُخَوِّفٍ، إلى مُتَوَقِّفٍ مُتَرَدِّدٍ. وَيَجتَهِدُ بَعضُ العُلَمَاءِ النَّاصِحِينَ في إصدَارِ قَوَائِمَ بِمَا يُسَمَّى بِالصَّنَادِيقِ النَّقِيَّةِ، يَزِيدُ فِيهَا حِينًا ويَنقُصُ مِنها، ويُضِيفُ إِلَيهَا شَرِكَاتٍ وَيَحذِفُ أُخرَى. وَايمُ اللهِ، إِنَّ نَظرَةً فِيمَا غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الاقتِصَادِ المُعَاصِرِ مِن مُعَامَلاتٍ رِبَوِيَّةٍ صَرِيحَةٍ وَأُخرَى غَامِضَةٍ مَشبُوهَةٍ مُلتَوِيَةٍ إِضَافَةً إلى تَشَابُكِ المُعَامَلاتِ وَتَشَابُهِهِا وَكَثرَةِ صُوَرِهَا وما يجِدُّ فِيهَا بَينَ يَومٍ وَآخَرَ وَمَا يتَّصِفُ به كِبَارُ التُّجَّارِ مِن طَمَعٍ وَجَشَعٍ وَمَا يَسلُكُونَهُ مِن طُرُقٍ مَاكِرَةٍ وَحِيَلٍ خَادِعَةٍ، أَقُولُ: إِنَّ نَظرَةً مُنصِفَةً في كُلِّ هذا الوَاقِعِ لَتَجعَلُنَا نَلتَمِسُ لِعُلَمَائِنَا العُذرَ في اختِلافِهِم في الفَتوَى وَتَرَدُّدِهِم بَينَ مُجِيزٍ وَمَانِعٍ وَتَوَقُّفِ مَن تَوَقَّفَ مِنهُم وتَنَصُّلِهِ مِنَ الفَتوَى. غَيرَ أَنَّ هُنَاكَ مَسلَكًا وَاضِحًا وَطَرِيقًا آمِنًا يَرَى كُلُّ مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَصَحَ لِنَفسِهِ ولأُمَّتِهِ أَنَّ مِنَ الخَيرِ وَالأَسلَمِ لِلأُمَّةِ في ظِلِّ هذِهِ المُتَشَابِهَاتِ وَالشُّبُهَاتِ أَنْ تَأخُذَ بِهِ وَتَسلُكَهُ حِفظًا لِدِينِها الذي هو رَأسُ مَالِها وَمُنتَهَى رِبحِها وَاستِبرَاءً لِعِرضِها وَحِمَايةً لِجَانِبِها، ذَلِكُم هو مَسلَكُ الوَرَعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ حِينَ يَشتَبِهُ الحلالُ بِالحَرَامِ وَيَختَلِطُ الصَّافي بِالكَدَرِ وَلا يُعرَفُ النَّقِيُّ مِنَ الغَشَشِ، عَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ رضي اللهُ عنهما قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ يَقُولُ: ((إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبِهَاتٌ لا يَعلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ استَبرَأ لِدِينِهِ وعِرضِهِ، وَمَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَرتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ)).
أيها المسلمون، لَقَد أَنزَلَ اللهُ تعالى على نَبِيِّهِ الكِتَابَ مُحكَمَ البَيَانِ ظَاهِرَ البُرهَانِ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلأُمَّةِ مَا تحتَاجُ إِلَيهِ مِن حَلالٍ وَحَرَامٍ، لِتَكونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن أَمرِها وَلا تَضِلَّ السَّبِيلَ، قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ، وقال تعالى في آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ التي بَيَّنَ فِيهَا كَثِيرًا مِن أَحكَامِ الأَموَالِ وَالأَبضَاعِ: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وقال تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالمُعْتَدِينَ ، وقال سُبحانَهُ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ. وَقَد وَكَّلَ جل وعلا بَيَانَ مَا أَشكَلَ مِنَ التَّنزِيلِ إِلى الرَّسُولِ كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلم يُقبَضْ رَسُولُ اللهِ حتى أُكمِلَ لَهُ وَلأُمَّتِهِ الدِّينُ، قال سبحانَه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ، وقال : ((وَايمُ اللهِ، لَقَد تَركتُكُم على مِثلِ البَيضَاءِ لَيلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ)) ، وقال أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيهِ في السَّمَاءِ إِلاَّ وَقَد ذَكَرَ لَنَا مِنهُ عِلمًا. وَلمَّا شَكَّ نَاسٌ في مَوتِهِ قال عَمُّهُ العَبَّاسُ رضي اللهُ عنه: وَاللهِ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ حتى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهجًا وَاضِحًا، وَأَحَلَّ الحَلالَ وَحَرَّمَ الحَرَامَ، وَنَكَحَ وَطَلَّقَ، وَحَارَبَ وَسَالَمَ.
وفي الجُملَةِ أيها المسلمون، فَمَا تَرَكَ اللهُ وَرَسُولُهُ حَلالاً إِلاَّ مُبَيَّنًا، وَلا حَرَامًا إِلاَّ مُوَضَّحًا، فَهَدَى اللهُ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ أَهلَ العِلمِ وَاليَقِينِ، فَأَخَذُوا بِالحَلالِ وَاكتَفَوا بِهِ، وَاجتَنَبُوا الحَرَامَ وَابتَعَدُوا عَنهُ، لَكِنَّهَا بَقِيَتْ أُمُورٌ مُشتَبِهَاتٌ، لا يَجرُؤُ أَحَدٌ عَلَى تَحرِيمِها بِتِلكَ السُّهُولَةِ وَاليُسرِ، وَالقَائِلُ بِحِلِّهَا قَلِيلٌ، وَقَد يَكُونُ مُتَرَدِّدًا، فَكَانَ سَبِيلُ المُؤمِنِ الخَائِفِ عَلَى دِينِهِ الذي يَخشَى الهَلاكَ بِالوُقُوعِ في الحَرَامِ، كان سَبِيلُهُ التَّوَرُّعَ عَنهَا وَاجتِنَابَهَا وَتَركَهَا وَالزُّهدَ فِيهَا، وَقَد كان إِمَامًا في ذلك وَقُدوَةً، كَمَا هُو في غَيرِهِ قُدوَةٌ وَإِمَامٌ، عن أنسٍ رضي اللهُ عنه أن النبيَّ وَجَدَ تَمرَةً في الطَّرِيقِ فَقَالَ: ((لولا أَني أَخَافُ أَن تَكونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكلتُها)) ، وهو الذي قال : ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ)).
وَهَكَذَا كان أَصحَابُهُ رُضوَانُ اللهِ عَلَيهِم، لا يُدخِلُونَ بُطُونَهُم إِلاَّ الحَلالَ النَّقِيَّ، وَهَذَا مِثالٌ لأَعظَمِهِم إِيمَانًا وَأَثقَلِهِم مِيزَانًا، إِنَّهُ أَبُو بَكرٍ الصَّدِيقُ، فَعَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَت: كان لأَبي بَكرٍ رضي اللهُ عنه غُلامٌ يُخرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، فَكَانَ أَبُو بَكرٍ يَأكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَومًا بِشَيءٍ فَأَكَلَ مِنهُ أَبُو بَكرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنتُ تَكَهَّنْتُ لإِنسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحسِنُ الكَهَانَةَ إِلاَّ أَني خَدَعتُهُ، فَلَقِيَني فَأَعطَاني بِذَلكَ، فَهَذَا الذي أَكَلتَ مِنهُ. قَالَت: فَأَدخَلَ أَبُو بَكرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيءٍ في بَطنِهِ. فَرَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا أَتقَاهُ وَأَورَعَهُ، رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا أَحرَصَهُ عَلَى أَكلِ الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ، لم يَقُلْ: هَذَا مَالٌ عَلَى الغُلامِ غُرمُهُ وَلي غُنمُهُ، لم يَقُلْ: عَلَيهِ كَدَرَهُ وَلي صَافِيهِ، بَل أَدخَلَ يَدَهُ وَقَاءَ مَا في جَوفِهِ، فَأَينَ مِنهُ مَن يَأتي الشُّبُهَاتِ مَعَ اشتِبَاهِهَا عَلَيهِ؟! أَينَ مِنهُ مَن يُسَاهِمُ في شَرِكَاتٍ وَصَنَادِيقَ وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ فِيهَا نِسبَةً مِنَ الرِّبَا وَالمُعَامَلاتِ المُحَرَّمَةِ، وَكُلُّ حُجَّتِهِ أَنَّهَا نِسبَةٌ ضَئِيلَةٌ لا تَكَادُ تُذكَرُ، وَأَنَّهُ سَوفَ يَتَخَلَّصُ مِنهَا بَعدَ انتِهَاءِ المُسَاهَمَةِ؟! لَقَد أَخبَرَ أَنَّ مَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ فَقَد وَقَعَ في الحَرَامِ، فَأَينَ تَذهَبُونَ؟! أَينَ تَذهَبُونَ أَيُّها المُتَسَاهِلُونَ؟! وَلَقَد فَسَّرَ العُلَمَاءَ ذَلِكَ بِمَعنَيَينِ: أَحدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ارتِكَابُهُ لِلشُّبهَةِ مَعَ اعتِقَادِهِ أَنَّهَا شُبهَةٌ ذَرِيعَةً إِلى ارتِكَابِهِ الحَرَامَ الذي يَعتَقِدُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّسَامُحِ، وَالثَّاني: أَنَّ مَن أَقدَمَ عَلَى مَا هُوَ مُشتَبِهٌ عِندَهُ لا يَدرِي أَهُوَ حَلالٌ أَو حَرَامٌ فَإِنَّهُ لا يَأْمَنُ أَنْ يَكونَ حَرَامًا في نَفسِ الأَمرِ، فَيُصَادِفَ الحَرَامَ وَهُوَ لا يَدرِي أَنَّهُ حَرَامٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ يَنبَغِي لِلمُؤمِنِ التَّبَاعُدُ عَنِ المُحَرَّمَاتِ وَالتَّجَافي عَنهَا، وَأَنْ يجعَلَ بَينَهُ وَبَينَهَا حَاجِزًا قَوِيًّا وَسَدًّا مَنِيعًا، سَالِكًا مَسلَكَ الوَرَعِ وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَالرِّيَبِ، رُوِيَ عنهُ وحسَّنهُ بعضُهُم أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَبلُغُ العَبدُ أَنْ يَكونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتى يَدَعَ مَا لا بَأسَ بِهِ حَذرًا ممَّا بِهِ بَأسٌ)) ، وقال : ((كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفسِكَ تَكُنْ مُؤمِنًا، وَأَحسِنْ مُجَاوَرَةَ مَن جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثرَةَ الضَّحِكَ تُمِيتُ القَلبَ)) ، وقال : ((فَضلُ العِلمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن فَضلِ العِبَادَةِ، وَخُيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ)) ، وقال أَبُو الدَّردَاءِ رَضِيَ اللهُ عنه: (تَمَامُ التَّقوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ العَبدُ حتى يَتَّقِيَهُ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتى يَترُكَ بَعضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلالٌ خَشيَةَ أَنْ يَكونَ حَرَامًا، حِجَابًا بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ)، وَقَالَ الحَسَنُ رحمه اللهُ: "مَا زَالَتِ التَّقوَى بِالمُتَّقِينَ حَتى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الحَلالِ مَخَافَةَ الحَرَامِ"، وَقَالَ سُفيَانُ الثَّورِيُّ رحمه اللهُ: "إِنَّمَا سُمُّوا المُتَّقِينَ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا مَا لا يُتَّقَى"، وَقَالَ مَيمُونُ بنُ مِهرَانَ رحمه اللهُ: "لا يَسلَمُ لِلرَّجُلِ الحَلالُ حتى يَجعَلَ بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلالِ"، وَقَالَ سُفيَانُ بنُ عُيَينَةَ رحمه اللهُ: "لا يُصِيبُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حتى يَجعَلَ بَينَهُ وَبَينَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلالِ، وَحتى يَدَعَ الإِثمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنهُ"، وَقَالَ الفُضَيلُ رحمه اللهُ: "يَزعُمُ النَّاسُ أَنَّ الوَرَعَ شَدِيدٌ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمرَانِ إِلاَّ أَخَذْتُ بِأَشَدِّهِمَا، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ"، وَقَالَ حَسَّانُ بنُ أَبي سِنَانَ: "مَا شَيءٌ أَهوَنَ مِنَ الوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيءٌ فَدَعْهُ".
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ قَلبَ المُؤمِنِ الطَّاهِرَ مِنَ آفَاتِ الهَوَى وَحُبِّ الدُّنيَا لَيَأكُلُهُ مِن بَعضِ المُسَاهَمَاتِ الحَالِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ المُعَامَلاتِ المُعَاصِرَةِ، وَإِنَّ هَذَا وَحدَهُ لَكَافٍ لَهُ لِيَترُكَهَا وَيَجتَنِبَهَا وَإِنْ أَفتى مُفتُونَ بِحِلِّهَا وَرَأَوا جَوَازَهَا، وَهَذَا أَصلٌ مِن أُصُولِ الوَرَعِ التي جَاءَت بها الأَحَادِيثُ عَن سَيِّدِ المُتَّقِينَ المُتَوَرِّعينَ عليه الصلاةُ والسلامُ، فَتَعَالَوا لِنَقِفَ عَلَى طَرَفٍ مِنهَا، قال : ((البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في صَدرِكَ وَكَرِهتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ)) ، وَعَن وَابِصَةَ بَنِ مَعبَدٍ رضي اللهُ عنه قال: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ وَأَنَا أُرِيدُ أَن لاَّ أَدَعَ شَيئًا مِنَ البَرِّ وَالإِثمِ إِلاَّ سَأَلتُ عَنهُ، فَقَالَ لي: ((اُدنُ يَا وَابِصَةُ)) ، فَدَنَوتُ مِنهُ حتى مَسَّت رُكبتي رُكبَتَهُ، فَقَالَ لي: ((يَا وَابِصَةُ، أُخبِرُكَ عَمَّا جِئتَ تَسأَلُ عَنهُ؟)) قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخبِرني، قَال: ((جِئتَ تَسأَلُ عَنِ البِرِّ وَالإِثمِ)) ، قُلتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَصابِعَهُ الثَّلاثَ فَجَعَلَ يَنكُتُ بها في صَدرِي وَيَقُولُ: ((يَا وَابِصَةُ، اِستَفتِ قَلبَكَ، وَالبِرُّ مَا اطمَأَنَّتْ إِلَيهِ النَّفسُ وَاطمَأَنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في القَلبِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدرِ، وَإِنْ أَفتَاكَ النَّاسُ وَأَفتَوكَ)) ، وَعَن أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخبِرْني مَا يَحِلُّ لي وَيَحرُمُ عَلَيَّ، قَالَ: ((البِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيهِ النَّفسُ وَاطمَأَنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَالإِثمُ مَا لم تَسكُنْ إِلَيهِ النَّفسُ وَلم يَطمَئِنَّ إِلَيهِ القَلبُ، وَإِنْ أَفتَاكَ المُفتُونَ)) ، وَسَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ : ما الإِثمُ؟ قال: ((إِذَا حَاكَ في نَفسِكَ شَيءٌ فَدَعْهُ)) ، قال: فَمَا الإِيمانُ؟ قال: ((إِذَا سَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ وَسَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ فَأَنتَ مُؤمِنٌ)).
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المُسلِمُونَ، وَخُذُوا بِهَذَا الأَصلِ تَسلَمُوا، وَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا وَزَخَارِفُها وَأَموالُها، فَتَخرِمُوا هَذَا الأَصلَ استِجَابَةً لِمُغرِيَاتِهَا وَنُزُولاً عِندَ أَطمَاعِهَا، فَقَد قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ رحمه اللهُ: "لَو أَنَّ رَجُلاً أَبقَى مِائَةَ شَيءٍ وَلم يُبْقِ شَيئًا وَاحِدًا لم يَكُنْ مِنَ المُتَّقِينَ، وَلَو تَوَرَّعَ عَن مِائَةِ شَيءٍ وَلم يَتَوَرَّعْ عَن شَيءٍ وَاحِدٍ لم يَكُنْ وَرِعًا، وَمَن كان فِيهِ خَلَّةٌ مِنَ الجَهلِ كَانَ مِنَ الجَاهِلِينَ، أَمَا سمعتَ اللهَ تعالى قال لِنُوحٍ عليه السَّلامُ لمَّا قال: إِنَّ ابني مِن أَهلِي، فَقَال اللهُ تعالى: إِنَّي أَعِظُكَ أَن تَكونَ مِنَ الجاهِلِينَ ".
اللهُمَّ اجعَلْنا مِن عِبَادِكَ المُتَّقِينَ المُتَوَرِّعِينَ، وَجَنِّبْنَا مَسَالِكَ الجَاهِلِينَ وَالفَاسِقِينَ، واكفِنا اللهُمَّ بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ، اللهُمَّ وَهَبْ لَنَا صِحَّةً لا تُنسِينَا، وَغِنًى لا يُطغِينَا، وَأَغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن أَغنَيتَهُ عَنَّا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالحةِ لِيَومِ لِقَاهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، لِنَتَأَمَّلْ قَولَهُ : ((أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلبُ)) ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً بَلِيغَةً قَوِيَّةً إِلى أَنَّ صَلاحَ حَرَكَاتِ العَبدِ وَجَوَارِحِهِ وَاجتِنَابَهُ المُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَاءَهُ لِلشُّبُهَاتِ كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ صَلاحِ حَرَكَةِ قَلبِهِ، فَإِذَا كَانَ قَلبُهُ سَلِيمًا لَيسَ فِيهِ إِلاَّ مَحَبَّةُ اللهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَخَشيَةُ الوُقُوعِ فِيمَا يَكرَهُهُ صَلَحَت حَرَكَاتُ الجَوَارِحِ كُلِّها، وَنَشَأَ عَن ذَلِكَ اجتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ كُلِّها، وَتَوَقِّي الشُّبُهاتِ حَذَرًا مِنَ الوُقُوعِ في المُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَ القَلبُ فَاسِدًا قَدِ استَولى عَلَيهِ اتِّبَاعُ الهَوَى وَطَلَبُ ما يُحِبُّهُ ولو كَرِهَهُ اللهُ فَسَدَت حَرَكَاتُ الجَوَارِحِ كُلِّها، وَانبَعَثَت إِلى كُلِّ المَعَاصِي وَالمُشتَبِهَاتِ، بِحَسَبِ اتِّبَاعِ هَوَى القَلبِ، ولهذا كان يَقُولُ في دُعائِهِ: ((اللهُمَّ إِني أَسألُكَ قَلبًا سَلِيمًا)) ، والقَلبُ السَّلِيمُ هو السَّالمُ مِنَ الآفاتِ والمَكرُوهَاتِ كُلِّها، وَهُوَ القَلبُ الذي لَيسَ فِيهِ سِوَى محبَّةِ اللهِ وخَشيَتِهِ وَخَشيَةِ ما يُبَاعِدُ مِنهُ.
أَلا فَاحرِصُوا ـ رحمكم اللهُ ـ على سَلامةِ قُلُوبِكم واستِقَامَتِها يَستَقِمْ إيمانُكُم، واعلَمُوا أَنَّ أَكلَ الحلالِ وَتَحَرِّيَهُ وَطَلَبَهُ مِن أَعظَمِ ما يُصلِحُ القُلُوبَ، وَأَنَّ التَّهَاوُنَ بِالشُّبُهَاتِ طَرِيقٌ لِلوُقُوعِ في المُحَرَّمَاتِ، وَمِن ثَمَّ يَكُونُ فَسَادُ القُلُوبِ وَانتِكَاسُها بل وَمَوتُها، فَالحَذرَ الحَذرَ تَسلَمُوا، فَالسَّلامَةُ لا يَعدِلُها شَيءٌ.
(1/4845)
العين حق
الإيمان, فقه
الجن والشياطين, المرضى والطب
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
30/3/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطور الطب في العصر الحاضر. 2- عجز الأطباء أمام العين. 3- إثبات العين. 4- مدى تأثير العين. 5- أهمية التبريك عند رؤية ما يعجب. 6- مشروعية الإنكار على العائن. 7- وقوع العين من غير حسد. 8- الوقاية من العين وعلاجها. 9- التحذير من علاج العين عند السحرة والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَيَا أَيُّها المسلمون، وَنحنُ في هذا الوَقتِ الذي تَقَدَّمَ فِيهِ الطِّبُّ تَقَدُّمًا هَائِلاً، وَتَوَفَّرَت أَدوِيَةٌ وَلقَاحَاتٌ وَتحصِينَاتٌ قُضِيَ بها عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَمرَاضِ المُعدِيَةِ وَالطَّوَاعِينِ المُفزِعَةِ، فَصَارَت بِأَمرِ اللهِ جُزءًا مِنَ التَّارِيخِ الغَابِرِ، وَصَارَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ وَخُبرَاؤُهُ على جَانِبٍ كَبيرٍ مِنَ المَهَارَةِ وَالدِّرَايَةِ أَهَّلَتْهُم لإِجرَاءِ أَدَقِّ العَمَلِيَّاتِ وَأَصعَبِها، فَفَتَحُوا الرُّؤُوسَ والصُّدُورَ، وَشَقُّوا البُطُونَ والقُلُوبَ، وَفَصَلُوا التَّوَائِمَ وَتَعَامَلُوا مَعَ الأَجِنَّةِ، وَأَظهَرُوا مَهَارَاتٍ فَائِقَةً وَحَقَّقُوا نجاحَاتٍ كَبِيرَةً، إلا أنَّهُ وَمَعَ كُلِّ هَذَا التَّقَدُّمِ وَذَاكَ التَّطَوُّرِ ظَلَّ كَثيرٌ مِنَ الناسِ يَشتَكِي أَمرَاضًا مُزمِنَةً وَأَعرَاضًا مُقلِقَةً، لم يَعرِفْ لها الأَطِبَّاءُ أَسبَابًا ولم يجِدُوا لها عِلاجًا، فَكَانَ لا بُدَّ مِنَ الوُقُوفِ مَعَ حدِيثٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ نَابِعٍ مِن مِشكَاةِ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ العَظِيمِ؛ لِنَتَبَيَّنَ سَبَبًا مِن أَسبَابِ كثِيرٍ مِنَ الأَوجاعِ المُضنِيَةِ وَالآلامِ المُبَرِّحَةِ التي أَقَضَّت مَضَاجِعَ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ وَمَنَعَتهُمُ الرُّقَادَ، وَحَرَمَت أَقوَامًا مِنَ التَّمَتُّعِ بحياتِهِم وَنَغَّصَتْ عَلَيهِم عِيشَتَهُم، تِلكُم هِيَ العَينُ أَو الحَسَدُ.
في مُسندِ الإمامِ أحمدَ عن أبي أُمامةَ بنِ سَهلِ بنِ حنيفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نحوَ مَكةَ، حتى إِذَا كانوا بِشِعبِ الخَرَّارِ مِنَ الجُحفَةِ اغتَسَلَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ، وكان رجلاً أَبيضَ حَسَنَ الجِسمِ وَالجِلدِ، فَنَظَرَ إِلَيهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ أَخُو بني عَدِيِّ بنِ كَعبٍ وهو يَغتَسِلُ فقال: ما رَأَيتُ كَاليَومِ وَلا جِلدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهلٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسولَ اللهِ، هل لك في سَهلٍ؟ وَاللهِ مَا يَرفَعُ رَأسَهُ وَمَا يُفِيقُ، قال: ((هَل تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِن أَحَدٍ؟)) قالوا: نَظَرَ إِلَيهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيهِ وقَالَ: ((عَلامَ يَقتُلُ أَحدُكُم أَخَاهُ؟!)) ثم قال له: ((اغتَسِلْ لَهُ)) ، فَغَسَلَ وَجهَهُ وَيَدَيهِ وَمِرفَقَيهِ وَرُكبَتَيهِ وَأَطرَافَ رِجلَيهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ في قَدَحٍ، ثم صُبَّ ذلك الماءُ عَلَيهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ على رَأسِهِ وَظَهرِهِ مِن خَلفِهِ، ثم يُكفِئُ القَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفُعِلَ بِهِ ذلك، فَرَاحَ سَهلٌ مَعَ النَّاسِ لَيسَ بِهِ بَأسٌ.
الوقفةُ الأُولى: في هذا الحديثِ إِثبَاتُ مَا يُنكِرُهُ بَعضُ الأَطِبَّاءُ، وَخَاصَّةً ممَّن لا يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ أَو ضَعُفَ عِندَهُم التَّصدِيقُ بِهِ، حَيثُ لا يُصَدِّقُونَ إِلاَّ ما يُشاهِدُونَهُ ويُحِسُّونَ بِهِ، وَمِن هُنا فلا يُقِرُّونَ لِلعَينِ بِأَثَرٍ وَلا يَعتَرِفُونَ لها بِتَأثِيرٍ، لكنَّ وَاقِعَهُم في بَعضِ الأَحيَانِ قَد يُكَذِّبُهُم، حِينَ يَقِفُونَ عِندَ بَعضَ الأَمرَاضِ حَائِرِينَ، لا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهتَدُونَ سَبِيلا، فَيُظهِرُ بَعضُهُم تَوَقُّفَهُ وَعَجزَهُ، وَيُعلِنُ قُنُوطَهُ ويَأسَهُ، وُيكَابِرُ بَعضُهُم وَيَصرِفُ لِلمَرِيضِ أَدوِيَةً قد لا تَزِيدُهُ إلا وَهنًا، وَلَو أَنَّهُ صَبَرَ وَأَمَرَ مَرِيضَهُ بِتَدَبُّرِ حَالِهِ وَالذَّهَابِ لأَهلِ الخِبرَةِ وَالتَّجرِبَةِ لكان خَيرًا له ولِمَرِيضِهِ الذي قد يَكُونُ مُصابًا بِالعَينِ وهو لا يَشعُرُ، فَيَكُونُ عِلاجُهُ عِندَ الرُّقَاةِ لا عِندَ الأَطِبَّاءِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((العَينُ حَقٌّ)).
الوقفةُ الثانيةُ: في الحديثِ بَيَانُ قُوَّةِ تَأثِيرِ العَينِ وَبَالِغِ ضَرَرِها، حَيثُ تجعَلُ السَّلِيمَ سَقِيمًا وَالصَّحِيحَ مَرِيضًا، وَتُحِيلُ القَوِيَّ ضَعِيفًا وَالشَّدِيد وَاهِنًا في لحَظَاتٍ، وَيُبتَلَى المُعَافى بها دُونَ أَسبَابٍ مَعرُوفَةٍ ولا مُقَدِّمَاتٍ طَبِيعِيَّةٍ، وهذا ما حَدَثَ لِسَهلٍ حِينَ عَانَهُ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ رضي اللهُ عنهما، فَمَا كَادَ عامِرُ يُكمِلُ جملةَ كلامِهِ حتى وَقَعَ سَهلٌ صَرِيعًا طَرِيحًا، ما يَرفَعُ رَأسَهُ وَمَا يُفيقُ، بَل إِنها قَد تَبلُغُ في خَطَرِها إلى أَن تَصرَعَ وَتَقتُلَ وَتُورِدَ الرَّجُلَ حِيَاضَ المَنِيَّةِ بِإِذنِ اللهِ، قال : ((العَينُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ القَبرَ، وَتُدْخِلُ الجَمَلَ القِدرَ)).
وَتَأَمَّلُوا هذا الحديثَ الصَّحِيحَ؛ لِتَعلَمُوا كَم هي خَطِيرَةٌ تِلكُمُ العَينُ وَذَلكُمُ الحَسَدُ، بَلْ لِتَعلَمُوا أنَّهَا السَّبَبُ الغَالِبُ لِكَثِيرٍ مِن أَمرَاضِ النَّاسِ دُونَ استِثنَاءٍ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَكثَرُ مَن يموتُ مِن أُمَّتي بَعدَ قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ بِالعَينِ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِنَّ العَينَ لَتُولَعُ بِالرَّجُلِ بِإِذنِ اللهِ تعالى حتى يَصعَدَ حَالِقًا ثم يَتَرَدَّى منه)).
وَلِقُوَّةِ هذا التَّأثِيرِ وَعِظَمِ ذَلِكُمُ الأَثَرِ أَمَرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بِالتَّعَوُّذِ مِنَ العَينِ فقال: ((استَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ العَينِ، فَإِنَّ العَينَ حَقٌّ)). ولكنَّ أَمرَ العَينِ ـ أيها المسلمون ـ مَعَ عِظَمِهِ وَقُوَّةِ خَطَرِهِ وَشِدَّةِ تَأثِيرِهِ لا يَتَجَاوَزُ القَدَر بحالٍ مِنَ الأَحوَالِ وَلا يَسبِقُهُ، بَل كَمَا قال سُبحَانَهُ: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلا في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، وقال عليه الصلاة والسلامُ: ((العَينُ حَقٌّ، ولو كان شَيءٌ سَابِقَ القَدَرِ سَبَقَتْهُ العَينُ)). وَإِذَا كان الأمرُ كذلك فَإِنَّ على المَرءِ أَن لاَّ يَكونَ رِعدِيدًا هَيَّابًا مُتَوَجِّسًا، وَأَن لاَّ تَصِلَ بِهِ الحَالُ إلى حَدِّ الوسواسِ أَو كُرهِ النَّاسِ أَوِ اتهامِهِم مَعَ كُلِّ نَكبَةٍ تَحُلُّ بِهِ أَو مُصِيبَةٍ يَقَعُ فِيهَا دُونَ دَلِيلٍ أَو بُرهَانٍ، بَل عَلَيهِ بَذلُ الأَسبَابِ وَالاجتِهَادُ في التَّحَصُّنِ، وَمِن ثَمَّ التَّوَكُّلُ على اللهِ وَتَفوِيضُ الأَمرِ إِلَيهِ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
الوَقفةُ الثالثةُ: في الحدِيثِ مَا يَدُلُّ على أَنَّ في طِبَاعِ البَشَرِ الإِعجَابَ بِالشَّيءِ الحَسَنِ وَالحَسَدَ عَلَيهِ، وهذا لا يملِكُهُ المَرءُ مِن نَفسِهِ، وَقَد لا يَقوَى عَلَى دَفعِهِ وَلا رَدِّهِ، وَلِذَلِكَ لم يُعَاتِبْ عليه الصلاة والسلامُ عَامِرًا على ذلك، وإنما عَاتَبَهُ على تَركِ التَّبرِيكِ الذي كان في وُسعِهِ وَطَاقتِهِ، وَيَقدِرُ عَلَيهِ بِيُسرٍ وَسُهُولَةٍ. وَمِن هُنَا ـ أيها المسلمون ـ فَلْيَعلَمِ المُسلِمُ أَنَّ نَفسَهُ قَد تَتُوقُ إِلى شَيءٍ وَيُعجَبُ بِهِ، فََيَقَعُ مِنهُ الحَسَدُ وَالنَّظرَةُ، فَيَضُرُّ مُسلِمًا في نَفسِهِ أَو في مَالِهِ، بَلْ قَد يَضُرُّ نَفسَهُ أَو وَلدَهُ وَهُوَ لا يَعلَمُ، فَكَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيهِ أَن يجعَلَ ذِكرَ اللهِ على لِسَانِهِ دَائِمًا وَأَبَدًا؛ لِئَلاَّ يحصُلَ مِنهُ أَذًى لمسلمٍ فَيَخسَرَ وَهُوَ يَشعُرُ أَو لا يَشعُرُ، قال سُبحَانَهُ: وَلَولا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ ، وقال عليه الصلاة والسلامُ: ((إِذَا رَأَى أَحدُكُم مِن نَفسِهِ أَو مَالِهِ أَو مِن أَخِيهِ مَا يُعجِبُهُ فَلْيَدعُ لَهُ بِالبَرَكَةِ؛ فَإِنَّ العَينَ حَقٌّ)) ، وفي حَدِيثِ عَامِرٍ المُتَقَدِّمِ قال له عليه الصلاة والسلامُ: ((هَلاَّ إِذَا رَأَيتَ مَا يُعجِبُكَ بَرَّكْتَ!)) , وفي هذا دَلِيلٌ على أَنَّ المَرءَ إِذَا بَرَّكَ لم تَضُرَّ العَينُ مِنهُ بِأَمرِ اللهِ. وفي الجانِبِ الآخَرِ ـ أَيُّها الإِخوةُ ـ فَإِنَّ مِنَ المَشرُوعِ أَن يَستُرَ الناسُ مَا يخافُونَ عَلَيهِ العَينَ وَيخشَون أَن يحسُدَهُمُ الآخرونَ بِسَبَبِهِ، فَقَد قال تعالى حِكَايَةً عَن يَعقُوبَ عَلَيهِ السلامُ أَنَّهُ قال لمَّا أَرسَلَ أَبنَاءَهُ لِمِصْرَ: يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ. وَقَد ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أَنَّ ذَلِكَ كان خَشيَةً مِنهُ أَن تُصِيبَهُمُ العَينُ؛ لأنهم كانوا ذَوِي جَمَالٍ وَهَيئَةٍ حَسَنَةٍ وَمَنظَرٍ وَبَهَاءٍ. وَذَكَرَ البَغَوِيُّ في كِتابِ شَرحِ السُّنَّةِ أَنَّ عُثمَانَ رَضِيَ اللهُ عنه رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ: (دَسِّمُوا نُونَتَهُ لِئَلا تُصِيبَهُ العَينُ)، وَمَعنى (دَسِّمًوا نُونَتَهُ) أَيْ: سَوِّدُوا نُونَتَهُ، وَالنُّونَةُ هِيَ النُّقرَةُ التي تَكُونُ في ذَقَنِ الصَّبي الصَّغِيرِ.
الوقفةُ الرابعةُ: مَشرُوعِيَّةُ الإِنكارِ على مَن يَقَعُ في هذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ وَالخَصلَةِ القَبِيحَةِ، فيُوَجِّهُ سِهَامَ عَينَيهِ للآخَرِينَ ويَشتَغِلُ بِوَصفِهِم، فَقَد تَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلامُ وَغَضِبَ مِن عَامِرٍ حِينَ عَانَ سَهلاً رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا؛ ممَّا يَدُلُّ على أَنَّ مِنَ المَشرُوعِ أَن يَتَنَاهَى النَّاسُ عَن أَن يُلحِقَ بَعضُهُمُ الضَّرَرَ بِبَعضٍ، وَأَن يُذَكَّرُوا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِحُرمَةِ أَذِيَّةِ المُسلِمِ أَو إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِ، وَعِظَمِ إِثمِ مَن آذى المُؤمنينَ بِغَيرِ وَجهِ حَقٍّ، وَأَنَّهُ لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لهم مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ، قال سُبحانَهُ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُّبِينًا ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)) ، وقال: ((وَالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ مِنَ الخَيرِ)).
الوقفةُ الخامسةُ: في وُقُوعِ العَينِ مِن عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مِن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ الذين هُم أَكمَلُ النَّاسِ إِيمانًا وَأَطهَرُهُم قُلُوبًا وَأَطيَبُهُم نُفُوسًا دَلِيلٌ على أَنَّ العَينَ تَكُونُ مَعَ الإِعجَابِ وَلَو بِغَيرِ حَسَدٍ، وَأنها تَقَعُ وَلَو مِنَ الرَّجُلِ المُحِبِّ أَو مِنَ الرَّجُلِ الصَّالحِ، ممَّا يُوجِبُ عَدَمَ التَّهَاوَنِ مِن أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِأَمرِها، مُدَّعِيًا أَنَّهُ يمزَحُ بها، أَو أَنَّ قَلبَهُ طَيِّبٌ طَاهِرٌ، أَو أَنَّهُ لا يَقصِدُ إِيقَاعَ الضَّرَرِ بِغَيرِهِ، بَلْ إِنَّ التَّرَفُّعَ عَن ذَلِكَ خُلُقٌ نَبِيلٌ، وَتَركَهُ زَكَاءُ دِينٍ وَرَجَاحَةُ عَقلٍ، وَفِيهِ الحِرصُ على حِفظِ العِرضِ وَتَألِيفِ القُلُوبِ، وَهُما مَطلَبانِ جَلِيلانِ مِن مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، وَمَقصِدَانِ عَظِيمَانِ مِن مَقَاصِدِها، فَإِنَّهُ قَد جَرَتِ العَادَةُ أَن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ في عِرضِ مَن دَيدَنُهُ إِلقَاءُ عَينِهِ عَلَيهِم، وَقَد يحدُثُ مِنَ الشَّحنَاءِ والبَغضَاءِ بَينَ النَّاسِ مِن ذَلِكَ مَا هُم عَنهُ في أَتمِّ الغِنى لَو حَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ لِسَانَهُ وَأَكثَرَ مِن ذِكرِ رَبِّهِ.
الوقفةُ السادسةُ: كَيفَ تُتَّقَى العَينُ قَبلَ وُقُوعِهَا؟ وَبِمَ تُعَالَجُ إِذَا وَقَعَتْ؟ أَمَّا قَبلَ وُقُوعِها فَإِنَّ خَيرَ ما تُتَّقَى بِهِ وَيُستَدفَعُ بِهِ شَرُّها الاستِعَاذَةُ بِاللهِ مِنها وَالمُحَافَظَةُ على الأَورَادِ وَاستِدَامَةُ تِلاوَةِ أَذكَارِ الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ وَقِرَاءَةُ آيَةِ الكُرسِيِّ عِندَ النَّومِ، ففي حديثِ أبي هُريرةَ رضي اللهُ عنه مَعَ الشَّيطَانِ الذي جاءَه وهو يحرُسُ تمرَ الصَّدَقَةِ في صُورَةِ إِنسانٍ ثَلاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ، ثم عَلَّمَهُ في اللَّيلَةِ الثَّالِثَةِ ما يحفَظُ بِهِ نَفسَهُ وَيَتَّقِي بِهِ شَرَّ الشَّيَاطِينِ وَغَيرِها، قال: إِذَا أَوَيتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرسِيِّ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ حتى تختمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَن يَزَالَ عَلَيكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلا يَقَرَبُكَ شَيطَانٌ حتى تُصبِحَ، قال عليه الصلاة والسلامُ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ)). وممَّا يحفَظُ بِهِ الإِنسَانُ نَفسَهُ ما وَرَدَ في الحدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلامُ قال: ((مَن قَرَأَ الآيَتَينِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيلَةٍ كَفَتَاهُ)) ، وقال عليه الصلاة والسلامُ: ((مَا مِن عَبدٍ يَقُولُ في صَبَاحِ كُلِّ يَومٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيلَةٍ: بِاسمِ اللهِ الذي لا يَضُرُّ مَعَ اسمِهِ شَيءٌ في الأَرضِ ولا في السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لم يَضُرَّهُ شَيءٌ)) ، وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ خُبَيبٍ رضي اللهُ عنه أنه قال: خَرَجْنَا في لَيلَةِ مَطَرٍ وَظُلمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطلُبُ رَسُولَ اللهِ لِيُصَلِّيَ بِنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ: ((قُلْ)) ، فَلَم أَقُلْ شَيئًا، ثم قال: ((قُلْ)) ، فَلَم أَقُلْ شَيئًا، ثم قال: ((قُلْ)) ، قُلتُ: يَا رَسولَ اللهِ، ما أَقُولُ؟ قال: ((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَالمُعَوِّذَتَينِ حِينَ تُصبِحُ وَحِينَ تُمسِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكفِيكَ مِن كُلِّ شَيءٍ)).
وَكَمَا يُحَصِّنُ المَرءُ نَفسَهُ فَإِنَّهُ يُسَنُّ لهُ أَن يُحَصِّنَ أَبنَاءَهُ ويُعَوِّذَهُم، وَخَيرُ ذلك ما رَوَاهُ البُخَارِيُّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: كان النبيُّ يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَينَ وَيَقُولُ: ((إنَّ أباكما كان يُعَوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِن كُلِّ شَيطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِن كُلِّ عَينٍ لامَّةٍ)). وَممَّا تُتَّقَى بِهِ العَينُ قَبلَ وُقُوعِها وَهُوَ مِن قَبِيلِ العَائِنِ مَا أَشرْنا إِلَيهِ سَابِقًا مِنَ التَّبرِيكِ وَقَولِ: مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
وَأَمَّا إِذَا أَصَابَتِ العَينُ وَوَقَعَتْ فَإِنَّ مِن عِلاجِها إِذَا عُرِفَ العَائِنُ أَن يُؤمَرَ بِالاغتِسَالِ لِلمَعِينِ وَيُصَبَّ عَلَيهِ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ عَامِرًا أَن يَغتَسِلَ لِسَهلٍ، وَكَمَا صَحَّ عنه أَنَّهُ كان يَأْمُرُ العَائِنَ فَيَتَوَضَّأُ ثم يَغتَسِلُ مِنهُ المَعِينُ. وَمِن عِلاجِ العَينِ بَعدَ وُقُوعِها الرُّقيَةُ الشَّرعِيَّةُ بِالآيَاتِ القُرآنِيَّةِ وَالأَدعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها أَنَّهُ كان يَأْمُرُ أَن نَستَرقِيَ مِنَ العَينِ، وفي المُسنَدِ عَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قالت: دَخَلَ النبيُّ فَسَمِعَ صَوتَ صَبيٍّ يَبكِي فقال: ((مَا لِصَبِيِّكم هذا يَبكِي؟ فَهَلاَّ استَرقَيتُم لَهُ مِنَ العَينِ؟)) ، وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها أنَّ النبيَّ رَأَى في بَيتِها جَارِيَةً في وَجهِها سَفعَةٌ فقال: ((استَرقُوا لها؛ فَإِنَّ بها النَّظرَةَ)) ، وَعَن أَنَسٍ رضي اللهُ عنه قال: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ في الرُّقيَةِ مِنَ العَينِ وَالحُمَةِ وَالنَّملَةِ، وَعَن أَسمَاءَ بِنتِ عُمَيسٍ قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ وَلَدَ جَعفَرٍ تُسرِعُ إِلَيهِمُ العَينُ، أَفَأَستَرقِي لهم؟ قال: ((نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ شَيءٌ سَابِقَ القَدَرِ لَسَبَقتَهُ العَينُ)). وَمِن الرُّقَى الوَارِدَةِ رُقيَةُ جِبرِيلَ عليه السلامُ لِلنَّبيِّ التي رواها مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ، حَيثُ كان يَرقِيهِ بِقَولِهِ: بِاسمِ اللهِ أَرقِيكَ، مِن كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نَفسٍ أَو عَينِ حَاسِدٍ اللهُ يَشفِيكَ، بِاسمِ اللهِ أَرقِيكَ. وَمِنَ الرُّقى الواردةِ ما صَحَّ عنه في رُقيةِ المَعِينِ: ((اللهُمَّ أَذهِبْ عَنهُ حَرَّهَا وَبَرْدَها وَوَصَبَهَا)).
اللهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ أَن تَشفِيَ مَرضَانَا، وَأَن تَكفِيَنَا شَرَّ النَّفَاثَاتِ في العُقَدِ وَشَرَّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَتُوبُوا إِلَيهِ، وَفَوِّضُوا أُمُورَكُم إِلَيهِ وَاعتَمِدُوا عَلَيهِ، وَالجَؤُوا إِلَيهِ وَلُوذُوا بِجَنَابِهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ وَاعتَصِمُوا بِهِ، وَمَن يَعتَصِم بِاللهِ فَقَد هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ.
أيُّها المسلمون، إِنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الإِصَابَةُ بِالعَينِ مُصِيبَةً قَد تَحُلُّ بِالإِنسانِ فَتُنَغِّصُ عَلَيهِ حَيَاتَهُ وَمُشكِلَةً قَد لا يَجِدُ لها عِندَ الأَطِبَّاءِ حَلاًّ وَلا عِلاجًا وَقَد يُبتَلَى فَيَستَرقِي وَلا يُشفَى، إِلاَّ أَنَّ كُلَّ هَذَا بِتَقدِيرِ اللهِ وَلِحِكمَةٍ يَعلَمُها، وشِدَّتُهُ لا تُبَرِّرُ لَهُ أَن يَتَجَاوَزَ المَشرُوعَ مِنَ العِلاجِ أَو يَلجَأَ إِلى الكُهَّانِ أَوِ المُشَعوِذِينَ أَوِ العَرَّافِينَ الذين قَد يَدَّعُونَ العِلمَ بِالعَائِنِ أَو يَصِفُونَ لِلمَعِينِ شَيئًا مِنَ التَّمَائِمِ وَالحُرُوزِ، فَيُوقِعُونَهُ في مُصِيبَةٍ أَعظَمَ مِن مُصِيبَتِهِ أَلا وَهِيَ الشِّركُ بِاللهِ الذي هُوَ أَعظَمُ ذَنبٍ عُصِيَ بِهِ اللهِ، فَعَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ الأَشجَعِيِّ رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا نَرقِي في الجَاهِلِيَّةِ فَقُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ تَرَى في ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ((اِعرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأسَ بِالرُّقَى مَا لم يَكُنْ فِيهِ شِركٌ)) ، وقال عليه الصلاة والسلامُ: ((مَن عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَد أَشرَكَ)) ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلامُ: ((مَن أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَن شَيءٍ لم تُقبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَربَعِينَ يَومًا)) ، وقال عليه الصلاة والسلامُ: ((مَن أَتَى عَرَّافًا أَو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بما يَقُولُ فَقَد كَفَرَ بما أُنزِلَ على محمدٍ)).
فاتقوا اللهَ تعالى وَكُونُوا مَعَهُ يَكُنْ مَعَكُم، وَأَلِحُّوا عَلَيهِ بِالدُّعَاءِ وَلا تَستَبطِئُوا الإِجَابَةَ، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، يُجِيبُ دَعوَةَ مَن دَعَاهُ مُخلِصًا مُوقِنًا، ويُجِيبُ المُضطَرَّ وَيَكشِفُ السُّوءَ، قال سبحانه: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ ، وقال جل وعلا: أَمَّن يُجِيبُ المُضطَّرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاء الأَرضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ، وقال تعالى: فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
(1/4846)
مساهمة رمضان وسارقو الأرباح
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, الإعلام
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
7/9/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بلوغ رمضان. 2- التحذير من الغفلة عن موسم الخيرات. 3- حرص الناس على الأرباح الدنيوية. 4- داء التسويف. 5- التحذير من خطوات الشيطان. 6- وجوب المسارعة إلى الخيرات. 7- التحذير من سراق رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ. اِتَّقُوا اللهَ يَتَقَبَّلْ مِنكُم أَعمَالَكُم وَطَاعَاتِكُم، وَيَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم وَيُكَفِّرْ سَيِّئَاتِكُم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ ، يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، وَفي الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ كُنتُم في شَعبَانَ، وَهَا أَنتُم قَد مُدَّ لَكُم في آجَالِكُم وبُلِّغتُم رَمَضَانَ، مِنَّةً مِنَ اللهِ وَتَفَضُّلاً، وَرَحمَةً مِنهُ جَلَّ وَعَلا وَتَكَرُّمًا، وَهَا هِيَ أَيَّامُ الشَّهرِ المُبَارَكَةُ تَسِيرُ، وَهَا هِيَ لَيَالِيهِ الفَاضِلَةُ تَتَصَرَّمُ، وَتَمضِي سَبعُ لَيَالٍ كَلَمحِ البَصَرِ، وَهَذَا اليَومُ السَّابِعُ قَدِ انتَصَفَ، فَمَاذَا فَعَلتُم فِيمَا مَضَى؟! وَمَاذَا قَدَّمتُم؟! وَمَا أَنتُم فَاعِلُونَ فِيمَا سَيَأتي؟ وَأَيَّ شَيءٍ سَتُقَدِّمُونَ؟ وَعَلامَ أَنتُم عَازِمُونَ؟ وَمَاذَا تَنوُونَ؟
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ بُلُوغَ رَمَضَانَ لَنِعمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنحَةٌ جَسِيمَةٌ، لا يَقْدُرُهَا حَقَّ قَدرِهَا إِلاَّ المُوَفَّقُونَ، فَأَللهَ أَللهَ، وَشَمِّرُوا عَن سَوَاعِدِ الجِدِّ وَالاجتِهَادِ، فَإِنَّمَا تُقَدِّمُونَ لأَنفُسِكُم لا لِغَيرِكُم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاء فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلعَبِيدِ ، مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ ، قَد جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَبِّكُم فَمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِهِ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ ، وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِن تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِوَكِيلٍ.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخوَةُ، لا يَعمَلُ عَامِلٌ إِلاَّ لِنَفسِهِ لا لِغَيرِهِ، ولا يُقَدِّمُ مُقَدِّمٌ إِلاَّ لِنَجَاتِهِ دُونَ سِوَاهُ، وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، قَالَ سُبحَانَهُ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((يَا عِبادِي، إِنما هِيَ أَعمَالُكُم أُحصِيهَا لَكُم ثم أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا، فَمَن وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحمَدِ اللهَ، وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، كَم مَرَّ عَلَينَا مِنَّا مِن رَمَضَانَ! وَكَم بَلَغْنَا مِن مَوَاسِمِ الرَّحمَةِ وَالغُفرَانِ! لَكِنَّهَا عَلَى أَكثَرِنَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، لا قَدرَ لها عِندَهُ ولا حِسَابَ، فَإِلى مَتى الغَفلَةُ عَن أَيَّامِ اللهِ؟! وَإِلى مَتى الإِعرَاضُ وعَدَمُ التَّعرُّضِ لِنَفَحَاتِ اللهِ؟! لماذَا يَحرِمُ المَرءُ نَفسَهُ مِنَ الأَجرِ؟! لماذَا لا يَطلُبُ الغَنِيمَةَ وَيَلتَمِسُ الثَّوَابَ؟! هَل هُوَ عَن رَبِّهِ وَخَالِقِهِ في غِنى؟! أَم هَل عِندَهُ يَقِينٌ أَنَّهُ بَلَغَ عِندَهُ مَرتَبَةَ الرِّضَا؟! كيف يَرضَى العَبدُ أَن يَسِيرَ الناسُ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ؟! كيف يَرضَى لِنَفسِهِ الضِّعَةَ وهو مِن أُمَّةِ الرِّفعَةِ؟!
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ، مَا بَينَ آوِنَةٍ وَأُخرَى يُعلَنُ عَن مُسَاهمَةٍ في شَرَكَةٍ أَو طَرحِ أَسهُمِ ثَانِيَةٍ لِلتَّدَاوُلِ، فَتَرَى النَّاسَ إِلَيهَا يُوفِضُونَ، مُتَسَابِقِينَ نحوَهَا كَالمجانِينِ، لا يَمنَعُهُم عَنهَا حَرٌّ ولا يَثنِيهِم بَردٌ، ولا يَقِفُ بَينَهُم وَبَينَهَا بُعدُ مَكَانٍ أَو طُولُ انتِظَارٍ، وَرُبَّمَا سَافَرَ بَعضُهُم لِدُوَلٍ مُجَاوِرَةٍ، وَتَحَمَّلَ وَعْثَاءَ السَّفَرِ وَكَآبَةَ المَنظَرِ وَعَنَاءَ الطَّرِيقِ، كُلُّ ذَلِكَ لإِدرَاكِ مُسَاهمَةٍ دُنيَوِيَّةٍ، لا يَدرِي لَعَلَّهُ لا يَكُونُ لَهُ مِنهَا فَائِدَةٌ وَلا نَصِيبٌ إِلاَّ التَّحَسُّرَ على ما بَذَلَ مِن جُهدِهِ وَخَسَارَةَ مَا دَفَعَ مِن مَالِهِ، كَمَا حَصَلَ وَمَا يَزَالُ يَحصُلُ في كثيرٍ من المُسَاهماتِ والمُضَارَبَاتِ.
وَاليَومَ نحنُ ـ أيها الإخوةُ ـ في مُسَاهمَةٍ في ضِمنِها مُسَاهمَاتٌ رَابِحَةٌ، وَتَمُرُّ بِنَا فُرصَةٌ تحتَهَا فُرَصٌ وَاسِعَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى المُسَاهمِينَ فِيها قَلِيلِينَ، وَالرَّاغِبِينَ عَنها كَثِيرِينَ. لماذَا يَا أُمَّةَ الإِسلامِ؟! أَهُوَ جَهلٌ بِفَضلٍ أَو عَجزٌ عَن عَمَلٍ؟! أَمَّا الفَضلُ وَالأَجرُ فَلا نَظُنُّ أَحدًا يَجهَلُهُ، وَأَمَّا القُدرَةُ فلا شَكَّ أَنها مُتَوَفِّرَةٌ لدى الأَعَمِّ الأَغلَبِ، فَمَا سَبَبُ الإِعرَاضِ وَالإِدبَارِ إِذًا؟! إِنَّهُ التَّسوِيفُ وَالتَّأجِيلُ، إِنَّهُ التَّكَاسُلُ وَالتَّبَاطُؤُ، إِنَّهُ التَّأخِيرُ وَالتَّلَكُّؤُ، يَنوِي الإنسانُ الخَيرَ وَيَطوِي عَلَيهِ نَفسَهُ، وَيَعقِدُ على استِغلالِ الشَّهرِ قَلبَهُ، فَيَأتِيهِ الشَّيطَانُ يَومًا بَعدَ يَومٍ، وَيَأخُذُ بِهِ عَن طَرِيقِ الخَيرِ خطوةً خطوةً، فَيُقعِدُهُ عَنِ التَّزَوُّدِ بِرَكعَةٍ أَو رَكعَتَينِ، وَيُثَبِّطُهُ عَنِ التَّصَدُّقِ بِمِائَةٍ أَو مِائَتَينِ، وَيُضعِفُ عَزمَهُ عَنِ القِيَامِ مَعَ الإِمَامِ في صلاةِ التَّرَاوِيحِ حتى يَنصَرِفَ، وَمَرَّةً يُنِيمُهُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ، وفي أُخرى يُفَوِّتُ عَلَيهِ تَكبِيرَةَ الإِحرامِ مَعَ الإِمامِ، وفي سَاعَةٍ يَشغَلُهُ عَن قِراءَةِ جُزءٍ مِن كِتابِ اللهِ، وهكذا يُضَيِّعُ عَلَيهِ شَهرَهُ، وَيُفَوِّتُ عَلَيهِ خَيراتٍ كَثِيرَةً، وَيَصرِفُهُ عن نَيلِ أَربَاحِ عَالِيَةٍ، فَمَا يَشعُرُ إِلاَّ وَالشَّهرُ قَدِ انتَهَى، وما يَتَيَقَّظُ إِلاَّ وَالمَوسِمُ قَدِ انقَضَى، وَإِذَا بِالجَادِّينَ قَد رَبِحُوا في تَعَامُلِهِم مَعَ اللهِ، وَإِذَا بِهِ قَد تَعَامَلَ مَعَ الشيطانِ فَخَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا.
وَإِنَّ اللهَ عز وجل مِن رَحمتِهِ بِنَا وَلُطفِهِ قَد حَذَّرَنَا مِنَ الشَّيطَانِ وَبَيَّنَ لَنَا عَدَاوَتَهُ، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وقال سبحانَه: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا. وَأَمَّا الخَسَارَةُ العَظِيمَةُ وَالغَبنُ الوَاضِحُ فَذَاكَ مَا جَلاَّهُ اللهُ في كِتابِهِ تحذِيرًا لنا، حَيثُ قال مُبَيِّنًا حَالَ أَهلِ النَّارِ إِذَا دَخَلُوهَا ثم قَامَ الشَّيطَانُ فِيهِم خَطِيبًا يَتَبَرَّأ مِنهُم وَيُبَيِّنُ لهم أَنَّهُ لا يَستَطِيعُ أَن يُنقِذَهُم وَلا هُم كَذَلِكَ، قال سُبحانَهُ: وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُم فَأَخلَفتُكُم وَمَا كَانَ ليَ عَلَيكُم مِن سُلطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلاَ تَلُومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَا أَنَا بِمُصرِخِكُم وَمَا أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنِّي كَفَرتُ بِمَا أَشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد تَوَافَرَتِ النُّصُوصُ وَتَظَاهَرَت على وُجُوبِ المُسَارَعَةِ إلى الخيراتِ وَالمُسَابَقَةِ إليها والمُبَادَرَةِ إلى الطاعاتِ قَبلَ الفَوَاتِ وَأَخذِ أُمُورِ الآخِرَةِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ وَاجتِهَادٍ، قال سُبحَانَهُ في حَقِّ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ: وَكَتَبنَا لَهُ في الأَلوَاحِ مِن كُلِّ شَيءٍ مَّوعِظَةً وَتَفصِيلاً لِكُلِّ شَيءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأمُرْ قَومَكَ يَأخُذُوا بِأَحسَنِهَا سَأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ ، وقال سُبحَانَهُ لِقَومِ مُوسَى: وَإِذْ أَخَذنَا مِيثَاقَكُم وَرَفَعنَا فَوقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَينَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ، وقال تعالى لِنَبِيِّهِ يحيى عليه السَّلامُ: يَا يَحيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا ، وقال جل وعلا آمرًا عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ: وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ ، وقال سُبحَانَهُ: سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاء وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ ، وقال جل وعلا: وَلِكُلٍّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ أَينَ مَا تَكُونُوا يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، وقال جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لاَّ بَيعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وقال سُبحَانَهُ: استَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُم مِن مَّلجَأٍ يَومَئِذٍ وَمَا لَكُم مِن نَّكِيرٍ ، وقال جل وعلا: وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ ، ولقد كان يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ العَجرِ وَالكَسَلِ، وَدَعَا عليه الصلاةُ والسلامُ إلى أَخذِ الأُمُورِ بِقُوَّةٍ وَعَزمٍ وَمُبَادَرَةٍ، وَلا سِيَّمَا أُمُورَ العِبَادَةِ وَالآخِرَةِ، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ، اِحرِصْ على مَا يَنفعُكَ وَاستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعجَزْ)) ، وقال : ((التُّؤَدَةُ في كُلِّ شَيءٍ خَيرٌ إِلاَّ في عَملِ الآخِرَةِ)).
إِذَا عُلِمَ هَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَعُلِمَ أَنَّ اللهَ وَصَفَ أَيَّامَ رَمضَانَ بِأنها أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ، إِشَارَةً إِلى سُرعَةِ انقِضَائِها وَعَجَلَةِ زَوَالِهَا، فَإِنَّهُ يجِبُ على المُؤمِنِ أَن لاَّ يَضعُفَ عَن عَمَلِ الآخِرَةِ وَلا يَتَكَاسَلَ عَنِ التَّقرُّبِ إِلى اللهِ في هذِهِ الأَيَّامِ المُبارَكَةِ وَاللَّيالي الفَاضِلَةِ، وَأَن يَكُونَ بِوَقتِهِ أَشَحَّ مِنَ البَخِيلِ بِمَالِهِ، فَيَحرِصَ على أَن لاَّ يُضِيعَهُ فِيمَا لا يُقرِّبُهُ مِنَ اللهِ وَلا يَنفَعُهُ عِندَهُ، فَإِنَّ بَعضَ الناسِ وَلِشِدَّةِ خَسَارَتِهِ لا يَكتَفِي بِتَركِ العَمَلِ الصالحِ وَعَدَمِ التَّزَوُّدِ مِن زَادِ الآخِرَةِ، حتى يُضِيفَ إلى ذلك تَضيِيعَ وَقتِ شَهرِهِ وَإِذهَابَ سَاعَاتِهِ الثَّمِينَةِ فِيمَا لا يُرضِي اللهَ، مِن مُشَاهَدَةِ قَنَوَاتِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ، وَمُتَابَعَةِ مَشَاهِدِ السُّخرِيَةِ وَالاستِهزَاءِ الطَّائِشَةَ، عَدَا النَّومِ عَنِ الصَّلاةِ وَالتَّكَاسُلِ عَنِ الجَمَاعَةِ، وَهِجرَانِ المَسَاجِدِ وَالقُرآنِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَمَن كان مِنكم مُحسِنًا فَلْيَزدَدْ، وَمَن كَانَ مُسِيئًا فَلْيَتُبْ، مَن بَادَرَ الشهرَ بِعَمَلِ الآخِرَةِ مِن أَوَّلِهِ فَلْيَستَمِرَّ، وَلْيَصبِرْ وَليُصَابِرْ وَلْيُرَابِطْ، وَمَن تَكَاسَلَ فِيمَا مَضَى وَسَوَّفَ وَتَأَخَّرَ فَلْيَستَدرِكْ مَا بَقِيَ وَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّ اللهَ جَوَادٌ كَرِيمٌ، لا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً، وَلا يَرُدُّ مَن أَتَاهُ تَائِبًا مُنكَسِرًا، قال تعالى في الحدِيثِ القُدسِيِّ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إلى ممَّا افترضتُهُ عليه، وما يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سمعَهُ الذي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبطِشُ بها، وَرِجلَهُ التي يمشِي بها، وَإِنْ سَأَلني لأُعطِيَنَّهُ، وَإِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ)) ، وقال في حَدِيثٍ آخَرَ: ((إِذَا تَقَرَّبَ إِليَّ العَبدُ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِليه ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ مِنه بَاعًا، وَإِذَا أَتَاني مَشيًا أَتيتُهُ هَروَلَةً)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالحةِ لِيَومِ لِقَاهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرٍ كَرِيمٍ وَمَوسِمٍ عَظِيمٍ، وَأَنَّ بَينَ أَيدِيكُم مَوَانِعَ وَقَوَاطِع وَمُحبِطَاتٍ لِلعَمَلِ وَمُنقِصَات لِلثَّوَابِ، وَمِن حَولِكُم لُصُوصٌ وَسُرَّاقٌ وَمُجرِمُونَ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ هذِهِ القَنَوَاتُ بِبرامِجِها الغُثَائِيَّةِ وَسَهَرَاتِها الغِنَائِيَّةِ لَكَفَى بِمُتَابَعَتِها خُسرَانًا وَخُذلانًا وَضَيَاعًا، فَكَيفَ بما يُنشَرُ في بَعضِها مِنِ استِهزَاءٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَنَقُّصٍ لأَحكامِ الشَّرعِ وَحَطٍّ مِن شَعَائِرِ الدِّينِ وَتَعرِيضٍ بِالصَّالحينَ والآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ؟!
أَلا فَإِنَّ اللهَ مُبتَلِيكُم بِهَؤلاءِ الفَجَرَةِ الفَسَقَةِ، وَالامتِحَان عَسِيرٌ وَالنَّجَاحُ صَعبٌ، فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى. إِنَّهُ لا أَشَدَّ مِن مُوَاطَأةِ مَن كان للهِ عَدُوًّا وَلِشَرعِهِ كَارِهًا، وَبِشَعَائِرِ دِينِهِ مُستَهزِئًا وَلِلعَامِلِينَ بها مُتَنَقِّصًا، قال الشيخُ محمدُ بنُ صالحٍ بنُ عُثَيمِينَ رحمه اللهُ: الاستِهزَاءُ بِالمُلتَزِمِينَ بِأَوَامِرِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِكَونِهِمُ التَزَمُوا بِذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَخَطِيرٌ جِدًّا على المَرءِ؛ لأَنَّهُ يُخشَى أَن تَكُونَ كَرَاهَتُهُ لهم لِكَرَاهَةِ مَا هُم عَلَيهِ مِنَ الاستقامةِ على دِينِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ استِهزَاؤُهُ بهمُ استِهزَاءً بِطَرِيقِهِمُ الذي هُم عَلَيهِ، فَيُشبِهُونَ مَن قَال اللهُ عَنهُم: وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنما كُنَّا نخوضُ وَنَلعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِئُونَ لا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمانِكم ، فَإِنها نَزَلَت في قَومٍ مِنَ المُنَافِقِينَ قَالوا: مَا رَأَينَا مِثلَ قُرَّائِنَا هؤلاءِ ـ يَعنُونَ رَسُولَ اللهِ وَأَصحَابَهُ ـ أَرغَبَ بُطُونًا وَلا أَكذَبَ أَلسُنًا وَلا أَجبَنَ عِندَ اللِّقَاءِ، فَأَنزَلَ اللهُ فِيهِم هذِهِ الآيَةَ، فَلْيَحذَرِ الذين يَسخَرُونَ مِن أَهلِ الحَقِّ لِكَونِهِم مِن أَهلِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللهَ سُبَحانَه وتعالى يَقُولَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِم يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلى أَهلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوهُم قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرسِلُوا عَلَيهِم حَافِظِينَ فَاليَومَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَل ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ. وَقَالَ أَبُو الوَفَاءِ ابنُ عَقِيلٍ رحمه اللهُ: إِذَا أَرَدتَ أَنْ تَعلَمَ مَحَلَّ الإِسلامِ مِن أَهلِ الزَّمَانِ فَلا تَنظُرْ إِلى زِحَامِهِم في أَبوَابِ الجَوَامِعِ، وَلا ضَجِيجِهِم في المَوقِفِ بِلَبَّيكَ، وَإِنما انظُرْ إِلى مَوَاطَأَتِهِم أَعدَاءَ الشَّرِيعَةِ. عَاشَ ابنُ الرَّاوَندِيِّ وَالمَعَرِّيُّ عَلَيهِمَا لَعَائِنُ اللهِ يَنظُمُونَ وَيَنثُرُونَ كُفرًا، وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَت قُبُورُهُم وَاشتُرِيَت تَصَانِيفُهُم، وَهَذَا يَدُلُّ على بُرُودَةِ الدِّينِ في القَلبِ. انتَهى كلامُهُ رحمه اللهُ.
ونحنُ قِيَاسًا عَلَيهِ نَقُولُ: عَاشَت قَنَوَاتُ الشَّرِّ في بُيُوتِنا وَبَينَ أَظهُرِنَا سِنِينَ عَدَدًا، تُلَقِّنُ أَطفَالَنَا أُمُورًا مُخَالِفَةً لِلعَقِيدَةِ، وَتَعرِضُ عَلَى نِسَائِنَا مَشَاهِدَ الرَّذِيلَةِ، وَعَاشَ المُسَلْسَلُ الطَّائِشُ في بَعضِ قَنَوَاتِنا، يُستَهزَأُ فِيهِ بِبَعضِ شَعَائِرِ دِينِنا، وَيُسخَرُ في حَلَقَاتِهِ بِدُعَاتِنَا وَرِجَالِ الحِسبَةِ مِنَّا، وَتَسَمَّرنَا أَمَامَهُ نَنقُضُ مَا فَتَلْنَاهُ طِوَالَ نَهَارِنَا مِن طَاعَةِ رَبِّنَا، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مَا أَبرَدَ الدِّينَ في قُلُوبِنَا!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاحفَظُوا صِيَامَكُم عَمَّا يُبطِلُهُ أَو يُنقِصُ أَجرَهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمَالَكُم.
(1/4847)
رد عدوان العلمانيين على العلماء الربانيين
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, العلم الشرعي, مذاهب فكرية معاصرة, نواقض الإيمان
عصام بن عبد الله السناني
عنيزة
8/8/1427
جامع قرطبة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير باليوم الآخر. 2- المطرودون من حوض النبي. 3- المعتزلة الجدد. 4- هجوم الليبيراليين على ثوابت البلاد. 5- رد الشيخ صالح الفوزان عليهم. 6- السياسة الفرعونية. 7- إرهاب العلمانيين وإثارتهم للإرهاب. 8- طعن العلمانيين في العلماء والمؤسسات الشرعية. 9- فضل العلماء. 10- جهاد الحجة والبيان. 11- وجوب نصرة العلماء والدفاع عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالةٍ فِي الَّنارِ.
أيها المسلمون، إن الله جل وعلا سيحشرُ الناسَ جميعًا من قبورِهم بعدَ البعثِ إلى الموقفِ حفاةً عراةً غرلاً، كما بدأَ أولَ خلقٍ يعيدُه، وَحَشَرْنَـ?هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. يجمع الناسَ في عرصاتِ القيامةِ أولهَم وآخرَهم على صعيدٍ واحدٍ، فيموجُ بعضُهم في بعضٍ، وتدنو الشمسُ منهم حتى تكونَ كمقدارِ ميلٍ، فيبلغُ الناسُ من الكربِ والغمِ ما لا يطيقونَ ولا يحتملونَ، فمنهم من يبلغُ به العرقُ إلى كعبيه، ومنهم من إلى ركبتيه، ومنهم من إلى حَقْوَيْه، ومنهم من يلجمُه العرقُ إلجامًا، فالناسُ حينئذ أحوجَ ما يكونونَ إلى ما يروونَ به عطشهم في هذا المحشرِ المهولِ؛ ولذا يتطلعون إلى ورودِ حوضِ نبيِهم كما روى مسلم قالَ رسولُ اللهِ : ((أنزلتْ علي آنفًا سورةٌ)) فقرأَ: بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [سورة الكوثر]، ثم قالَ: ((أتدرونَ ما الكوثرُ؟ إنه نهرٌ وعدنيه ربي عز وجل، عليه خيرٌ كثيرٌ وحوضٌ تردُ عليه أمتي يومَ القيامةِ، آنيتُه عددَ النجومِ)) ، وفي لفظ آخر: ((يشخبُ فيه ميزابانِ من الجنةِ، من شربَ منه لمْ يظمأْ، عرضُه مثلُ طولِه: ما بَينَ عُمَان إِلى أَيْلَةَ، ماؤُه أشدُ بياضًا منْ اللبنِ وأحلى من العسلِ)).
إن هذَا الحوضَ المورودَ لَنْ يهنأَ بِهِ إلاَّ الثَّابتونَ عَلى دينهمْ عقيدةً وعملاً، القابضونَ على الجمرِ لأجلِه، العاضّون عليه بنواجذهم فِي أوقاتِ الفتنِ، وهمْ يسألونَ اللهَ فِي كلِّ وقتٍ الثّباتَ لعلمِهم أن هناكَ أمرا مهولا يقضُ مضاجعهمْ خوفًا من أن يكونوا في عدادِ الواقعينَ فيه، ألا وهو ما يحصلُ لأناسٍ يومَ القيامةِ حين يبدو لهم من اللهِ ما لم يكونوا يحتسبونَ، إنهم أناسٌ ـ أعاذني اللهُ وإياكم من حالِهم ـ يطمعونَ في ورود حوض نبيهِم، فإذا هم يذادونَ عنه ويُحرمونَ الشربَ من هذا الحوضِ في أشدِّ وقتٍ يحتاجونَ إليه، ففي البخاريِّ أن رسولَ اللهِ قَالَ: ((إني على الحوضِ، حتى أنظرَ من يردُ عليَّ منكم، وسيؤخذُ ناسٌ دوني، فأقولُ: يا ربِّ، مني ومن أمتي، فيقالُ: هل شعرتَ ما عملوا بعدَك؟ واللهِ ما برحوا يرجعونَ على أعقابِهم)) ، وكانَ ابنُ أبي مليكةَ راوي الحديثِ يقولُ: اللهم إنا نعوذُ بكَ أنْ نرجعَ على أعقابِنا أو نفتنَ في ديِننا. قال ابن عبد البر في التمهيد: "وكلُ من أحدثَ في الدينِ ما لا يرضاه اللهُ ولم يأذنْ به اللهُ فهو من المطرودينَ عنْ الحوضِ المبعدينَ عنه، واللهُ أعلم. وأشدُّهم طردًا من خالفَ جماعةَ المسلمينَ وفارقَ سبيلَهم مثلُ الخوارجِ على اختلافِ فرقِها والروافضِ على تباينِ ضلالِها والمعتزلةِ على أصنافِ أهوائِها، فهؤلاء كلُهم يبدلونَ، وكذلكَ الظلمةُ المسرفونَ في الجورِ والظلمِ وتطميسِ الحقِ وقتلِ أهلِه وإذلالهِم، والمعلنونَ بالكبائرِ المستخفّونَ بالمعاصي، وجميعِ أهلِ الزيغِ والأهواءِ والبدعِ، كلُ هؤلاءِ يُخافُ عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبرِ" اهـ.
عباد الله، هل عقل هذا المصيرَ بعضُ المعتزلةِ الجددِ منْ أَصحابِ الأقلامِ الصحفيةِ في مثلِ هذه الأيامِ والتي تدّعي الحرصَ على الوطنِ وهي تهدمُ الأُسسَ الراسخةَ التي قامَ عليها هذا الوطنُ والتي جاهد في سبيلها الآباء وقبلهم الأجداد حتى ماتوا، ونشأ عليها الأبناء وبعدهم الأحفاد، إنها فتنةُ بعضِ الأقلامِ التي اندلعتْ نارُها وارتفعَ أُوارُها، ما فتئتْ تسخرُ وتتلاعبُ بثوابتِ الدينِ والحكمِ وخيارِ الأمةِ كما يتلاعبُ الصبيانُ بالكرةِ، أأمةٌ يَرسمُ لها أراذلُها وجهالهُا ما ينبغي أن تفعلَ بعدَ هذه القرونِ المتطاولةِ التي نَعِمَ فيها أهلُ هذه البلادِ بصفاءِ العقيدةِ ووحدةِ المنهجِ وائتلافِ القلوبِ مع الأخذِ بما ينفعُ من مظاهرِ الحياةِ المدنيةِ؟!
ومن يكن الغرابُ له دليلاً يمرُ به على جيفِ الكلابِ
إن هؤلاء الذين تأثروا بأفكارَ غريبةٍ شاذةٍ يظهرونَها بمظهرِ النصحِ يزعمونَ أن هذه البلادَ وما كَانَ عليه ملوكُهَا وعلماؤُها منذ قرونٍ من تحكيمٍ للشريعةِ في كلِّ الأمورِ تشددٌ ورجعيةٌ، فلا بدَّ أن تتخلى البلادُ عن مرجعيتِها العلميةِ لأنه لا قداسةَ عندَهم لأحدٍ، والدينُ كلأٌ مباحٌ للجميعِ؛ فلا فرقَ في الحوارِ والرأيِ عندَهم بين عالمٍ وجاهلٍ، ولا بينَ فضيلةٍ ورذيلةٍ، بلْ ولاَ بينَ ديانةٍ وزندقةٍ، فيجبُ أن تتخلى البلادُ عن محاكمِها وهيئاتهِا وحجابِ نسائِها ليتحققَ الإصلاحُ الذي يريدونَ. إنهم يسفّهونَ ويجهَلونَ ملوكَنا وعلماءَنا السابقينَ الذين وضعوا ثوابتَ هذه البلادِ المستمدةَ من الشريعةِ، وبعضُنا يرددُ عباراتِهم ببلاهةٍ فيسمونها بغيرِ اسمِها: "الإصلاحُ"، أي إصلاحٍ فيمن يهدمُ أسسَ المجتمعِ وثوابتَه وعقيدتَه؟!
إن حالَ هؤلاء الفويسقاتِ قد وصفَه شيخُنا العالمُ الربانيُ الصابرُ على جهادِهم صالحٌ الفوزان ـ حفظه اللهُ ـ في مقالٍ له بعنوانِ: (سيظهرُ الإسلامُ وتموتُ المبادئُ الهدامةُ): "وقد سنحتْ الفرصةُ للمنافقينَ والذينَ في قلوبِهم مرضٌ بترديدِ مقالةِ الكفارِ باتهامِ الإسلامِ بالتطرفِ والإرهابِ، واتهامِ مصادرِه وعلمائِه بذلك، والمناداةِ بحريةِ المرأةِ ومساواتِها بالرجلِ، وخلعِها للحجابِ وتوليِها أعمالَ الرجالِ، ومناداتهم بإزالةِ الفوارقِ بينَ المسلمينَ والكفارِ باسمِ حريةِ الرأي وحريةِ الديانة، وعدم كره الآخرِ، وتركِ بابِ الولاءِ والبراءِ وحذفِه من الكتبِ والمقرراتِ الدراسيةِ، وعدمِ تكفيرِ من كفرَّه اللهُ ورسولُه ولو ارتكبَ نواقضَ الإسلامِ كلِّها، كلُّ ذلكَ تحتَ مبدأِ التسامحِ وحريةِ الرأيِ وقبولِ رأيِ الآخرِ. وكلُّ من خالفَ هذه المبادئ الخبيثةَ عندَهم والتزمَ بالإسلامِ وأصولِه وأحكامِه فهو متشددٌ ومتطرفٌ وتكفيريٌ، حتى تناولوا بهذه الاتهاماتِ أئمةَ الإسلامِ ومجدديِه كشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ وشيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِ الوهاب حتى نادى بعضُهم بإعادةِ النظرِ في كتبِ العقيدةِ وإخلائِها من كلِ ما يتعارضُ مع مبادئِهم ورغباتِهم. ونقولُ لهؤلاءِ وهؤلاءِ ما قالَه اللهُ لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، وسيبقى الإسلامُ وتموتُ المبادئ الهدامةُ وأهلُها، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]" اهـ. حفظَ اللهُ شيخَنا وأطالَ في عمرِه غُصَّةً في حلوقِ المارقينَ والفاسدينَ.
عباد الله، إن هؤلاء الذين يفسدونَ ولا يصلحونَ ويهدمونَ ولا يبنونَ حالُهم كحالِ فرعونَ حينَ قالَ عنْ موسى عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ. أذكر لكمْ مثالاً على صدقِ هذا الصورةِ الفرعونيةِ لهؤلاءِ الكتابِ في ردِ بعضِ السفهاءِ المتطاولينَ على شيخِنَا في هذا الأسبوعِ حين ادّعى أنه ومن كان على مذهبِه الإفساديِّ هم الذينَ وقفوا ضدَّ الإرهابِ، أرأيتمْ ـ عبادَ الله ـ كيفَ تَلبَسُ الثعالبُ ثيابَ الواعظينَا، لكنْ الشيخَ أفحَمه حينَ قال: "لو أنكم وقفتمْ عندَ حربِ الإرهابِ لشكرَنا لكم ذلك، لكنكم أفسدتم هذا بمهاجمتِكم للعلماءِ والقائمينَ على الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر وإنكارِكم لعقيدةِ الولاءِ والبراءِ في الإسلامِ، وغير ذلك مما في كتاباتِكم، فأنتم تبنونَ من جانبٍ وتهدمونَ من جانبٍ، وربما يكونُ عملُكم هذا أخطرُ من عملِ الإرهابيين" اهـ.
وإني أقول: صدق الشيخُ واللهِ، فهؤلاءِ الإرهابيونَ ردَّ اللهُ كيدَهم في نحورِهم، يقتلونَ ويفجّرونَ، ويا هولَ ما صنعوا، لكن بعدَها تجتمعُ الكلمةُ على حربِهم ثم يقطعُ اللهُ دابرَهم ويبقى البلدُ شامخًا بدينِه معتزًا بعلمائِهِ وولاةِ أمرِه كمَا حصلَ فِي فتنةِ الغُلاَةِ فِي عهدِ المؤسسِ رحمه اللهُ، أما الذين يبطنونَ ما لا يُظهرونَ وحالهُم كما قالَ تعالى: وإنْ يقُولُوا تسمَعْ لِقَوْلِهم فهم يحرّفونَ دينًا ويفسدونَ عقيدةً ويدمرونَ بلدًا ويغتالونَ أمةً، واللهُ يقول عن أمثالِهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، ويقولُ عن نشاطِهم الذي يخططُ له قومٌ لا تعلمونَهم اللهُ يعلمُهم: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ، يقول القرطبيُّ رحمه اللهُ في تفسيرِ الآية: "أي: الفتنةُ التي حملوكم عليها وراموا رجوعَكم بها إلى الكفرِ أشدُّ من القتلِ" اهـ.
ثم أمرٌ آخرُ: هلَ حاربَ هؤلاء الإرهابَ حقًا؟ إذًا لماذا لم يخترْ ولاةُ الأمرِ صحفيًا واحدًا من هؤلاءِ لمناصحةِ المنحرفينَ؟! إن كلَّ من شاركَ من طلبةِ العلمِ ـ وأنا واحد منهم ـ في مناصحةِ هؤلاءِ الشبابِ في السجونِ يعرفُ جيدًا أن من أسبابِ الغلوِ لديهم ما يقرؤُه هؤلاءِ الشبابُ بأقلامِ هؤلاءِ الصحفيينَ الذينَ يمشونَ في جنازةِ مَن قتلوه ليتاجروا في جثتهِ، فباللهِ عليكم هل يطيقُ مسلمٌ أن يطعنَ كاتبٌ بحديث نبيِهِ عنْ المرأةِ فيسميه ثقافةَ التشدّدِ، أو يقترحَ آخرُ بدلَ تغسيلِ وتكفينِ الميتِ المسلمِ أن يوضعَ في كيسٍ ويرمى كما ترمى الزّبائلُ، أو يدعوَ ثالثٌ المجتمعَ للتخلّصِ من قلبِهِ الذي يحيا به ورئتِهِ التي يتنفسُ بها وكرامتِهِ التي يطاولُ بها السحابِ حين يدعو للتخلي عن السلفيةِ أو الوهابيةِ التقليديةِ كما يلمزونَ لأنها سببُ مشاكلِ البلدِ عندَهمْ؟! مع أننا في هذه البقعةِ في العصورِ المتأخرةِ لم نشعرْ بكرامةٍ ولم يكنْ لنَا شأنٌ إلا بهذِهِ الدعوةِ وبهذا الكيانِ، واقرؤوا التأريخَ المعاصرَ لو كنتم تعقلونَ.
ومع هذا الإفسادِ والغثاءِ الهابطِ الذّي لَهُ يتقيؤونَ وَأَمثالُهُ كثيرٌ يرفعُ أحدُهم عقيرتَه فيقولُ: نحن حاربنَا الإرهابَ. إنّ الذي حاربَ الإرهابَ حقًا همْ منْ تلمزونَهم بالوهابيةِ، همْ العلماءُ الصادقونَ الذينَ وقفوا مع ولاةِ أمرِهمْ ضدَّ المفسدينَ في فتنةِ الإخوانِ في عهد المؤسّس رحمه الله، ثمَّ في فتنةِ غلاةِ الحرمِ في عهدِ الملك خالدٍ رحمه الله، ثم في فتنةِ صدامٍ في عهدِ الملك فهد رحمه الله، وأخيرًا في فتنةِ التكفيرِ ثم التفجيرِ. وها هم يقفون ضدَّكم في فتنتِكم في عهدِ الملكِ عبدِ اللهِ حفظه الله ورزقَه البطانةَ الصالحةَ؛ لأنكم لستم من يحاربُ الإرهابَ بل أنتم من غذّى الإرهابَ حين طعنتم في دينِ الأمةِ وعقيدةِ الأمةِ ورموزِ الأمةِ، وأيّ حياةٍ للأمةِ إذا طُعنَ في دينِها وعقيدتِها ورموزِها؟!
لقد أَثَرتم الغيرةَ والحقدَ والغضبَ عند هؤلاء الشبابِ فسهّلتم صيدَهم من قبلِ منظّري الفكرِ الضالِ، وإني فيمَا أعتقدُ لو كانَ الملكُ عبدُ العزيزِ رحمه اللهُ حيًا لوضَعكم في السجنِ المقابلِ لهؤلاءِ المنحرفينَ لمناصحتِكم وردِّكم عما أنتمْ عليه من انحرافٍ وضلالٍ، كيف لا وهو القائلُ رحمه اللهُ كما في كتابِ الملك الراشد (ص362) لعبد المنعم الغلامي: "أنا عندي أمرانِ لا أتهاونُ في شيءٍ منهما ولا أتوانى في القضاءِ على من يحاولُ النيلَ منهما ولو بشعرةٍ، الأول: كلمة التوحيدِ لا إله إلا الله محمد رسول اللهِ اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، إني واللهِ وباللهِ وتاللهِ أقدّمُ دمي ودمَ أولادي وكلِّ آلِ سعودٍ فداءً لهذه الكلمةِ لا أضنُّ به" اهـ، وهو القائل رحمه الله (ص369): "يسموننا بالوهابيّينَ ويسمونَ مذهبَنا بالوهابي باعتبارِ أنه مذهبٌ خاصٌ، وهذا خطأٌ فاحشٌ نشأَ عن الدعاياتِ الكاذبةِ التي كان يبثُّها أهلُ الأغراضِ. نحن لسنا أصحاب مذهب جديدٍ وعقيدةٍ جديدِةٍ، فعقيدتُنا هي عقيدةُ السلفِ الصالحِ، هذه هي العقيدةُ التي قامَ شيخُ الإسلامِ محمدُ بنُ عبد الوهابِ يدعو إليها، وهذه هي عقيدتُنا، وهي عقيدةٌ مبنيةٌ على توحيدِ اللهِ عز وجل خالصةٌ من كلّ شائبةٍ منزّهةٌ عن كل بدعةٍ" اهـ.
ولقد قلتُ ذاتَ مرةٍ لأحدِ المسؤولينَ وفقه اللهُ مشيرًا لهؤلاءِ الكُتابِ: إنكم تُدخلونَ طلبةَ العلمِ على هؤلاء الموقوفينَ ليرجعوهم لجادّةِ الصواب، وهذا أمر واجبٌ ومن الدعوةِ إلى الله، ولكنَّ ما يكتُبه كاتبٌ في عمودٍ أو يظهرُه مصورٌ في مشهدٍ يُسخر فيه بالدينِ وأهلِه ليفسدُ ما يبنيه هؤلاء الناصحونَ في سنواتٍ، إنه يبني أسورًا من الحقدِ،والنصيحةُ لها طرقُها المعروفةُ.
متى يبلغ البناءُ تمامَه إذا أنتَ تبني وغيرُك يهدمُ
يا عبادَ الله، ثم يأتي هذا السفيه الوقحُ فيردُ على عالمِ البلدِ فيسفهُه ويقولُ: إنه محسوبٌ على هيئةِ كبارِ العلماءِ، لقد طفحَ الزبدُ والغثاءُ، أَقزامٌ لا يحسنُ أحدهم يقرأ آيةً أو يحفظَ حديثًا، بل ربما لا يحسنُ كيفَ يصلي، يناطحونَ علماءَ الأمةِ وجبالَ العلمِ.
لقدْ هزلتْ حتى بدا من هزالِها كُلاَها وحتى سامَها كلُّ مفلسِ
ما كنَا نظنُ واللهِ أننا سنَرى في هذِه البلادِ التي قامتْ على المنهجِ السلفيِ واستمدتْ شرعيتَها السياسيةَ والتاريخيةَ منه مصداقَ ما أخبرَ به النبيُّ حينَ قالَ: ((سيأتي على الناسِ سنواتُ خداعاتُ، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويكذَّبُ فيها الصادقُ، ويؤتمنُ فيها الخائنُ، ويخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطقُ فيها الرويبضةُ)) ، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: ((الرجلُ التافهُ يتكلمُ في أمرِ العامةِ)) ، إي وربِّ السمواتِ والأرضِ، لقد خوّنّا العلماءَ الصادقينَ، وائتمَّنَّا الخونةَ لدينِهم ووطنِهم وولاةِ أمرِهم حينَما رضوا بأنفِسهِم أن يكونوا طابورًا خامسًا وأبواقًا مأجورةً لأعداءِ هذه البلادِ ودينِها، وأينَ؟ على صفحاتِ جرائِدِنا التي أصبحت في الآونة الأخيرة لا تنطلقُ من قريبٍ أو بعيدٍ من عقيدةِ هذا المجتمعِ المسلمِ، ولا تعبّرُ عن نبضِه في هذه البلادِ أو عن توجهاتِه، بل المجتمعُ في وادٍ وهؤلاءِ الشرذمةُ القليلون فِي وادِ آخر. أينَ العدلُ إن كانت المسألةُ بالرأي والحريةِ التي لها يقدسونَ؟! فلماذا تُفرضُ سفاهتُهم على رأي الأكثريةِ دونَ مراعاةٍ لمشاعرِهم؟! وإن كانتْ بالحقِ والدليلِ فما هؤلاء أهلُ حقٍ ودليلٍ، بل همْ رويبضةُ الفتنِ، الجهلُ شعارُهم والهوى دثارُهم.
أيها المسلمونَ، واللهِ وبالله وتالله لا خيرَ في بلادٍ يطعنُ في كبارِ علمائها الصادقينَ ويقودُهُا أراذلُها المارقون، سبحانَ اللهِ! أتستغفرُ الحيتانُ في البحرِ وكلُّ شيءٍ للعلماءِ وفي بلدِنا يسَبّونَ ويسفَّهونَ؟! أيرفعُ اللهُ قدرَهم درجاتٍ وفي بلادِنا يوضعونَ ويؤخرونَ؟! أيصبرُ العلماءُ من أجلِنا على العلمِ والتعليمِ حياتهَم وينافحونَ عن دينِنا وعقيدتِنا شبابهم حتى إذا شابتْ لحاهُم وتقوّستْ ظهورُهم أسلمنَاهم لنابتةِ السّوءِ ودعاةِ الضلالةِ يسفهونَهمْ ويحتقرونهم ملءَ أَبصارِنا وأسماعِنا ونحنُ ساكتونَ؟! إذًا لاَ خَيْرَ فينَا، إذًا لاَ خَيْرَ فيكم، إذًا لاَ خَيْرَ في هذا المجتمع.
إن العلماءَ الربانيينَ في الأمةِ نجومٌ تُزيّنُ سماءَها تهدي السالكينَ وتهوي على الشياطينِ، إنهم أنقى صفحاتِ تاريخِ هذِه الأمةِ، إنهم صمامُ الأمانِ أمامَ شبهاتِ المرجفينَ وزيغِ الضالينَ كما وصف الإمام أحمد في أول كتابه الرد على الزنادقة والجهمية حين قال: "الحمدُ للهِ الذي جعلَ في كلِ زمانِ فترةٍ من الرسلِ بقايا من أهلِ العلمِ يدعونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرونَ منهم على الأذى، يحيونَ بكتابِ اللهِ الموتى، ويبصّرونَ بنورِ اللهِ أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرَهم على الناسِ وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم، ينفونَ عن كتابِ اللهِ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ، الذين عقدوا ألويةَ البدعةِ، وأطلقوا عقالَ الفتنةِ، فهم مُختَلفونَ في الكتابِ، مُخالِفونَ للكتابِ، مجمعونَ على مفارقةِ الكتابِ، يقولونَ على اللهِ وفي اللهِ وفي كتابِ اللهِ بغيرِ علمٍ، يتكلمونَ بالمتشابه من الكلامِ ويخدعونَ جهالَ الناسِ بما يشبّهونَ عليهم، فنعوذُ باللهِ من فتنِ المضلينَ" اهـ.
نعم عباد الله، هكذا همُ العلماءُ، وهكذَا كانتْ مكانتُهم في هذه الدولةِ؛ مكانةٌ لا يطالها سفاهةُ السفهاءِ، ولا جهالةُ الجهلاءِ، تحوطهم عنايةُ الربِّ ثم تعظيمُ ولاةِ الأمورِ شأنَهم في النفوسِ وحفظُ حرمتِهم وكرامتِهم والصدورُ عن رأيهِم ونصحهِم، منذ اجتمعَ الإمامانِ محمدُ بنُ سعودٍ ومحمدُ بنُ عبدِ الوهاب عليهما رحماتُ اللهِ المتتاليةِ إلى يومِ الدين، وحتى جاءَ مؤسسُ هذه البلادِ في العصرِ الحديثِ وباني نهضتِها قدَسَ اللهُ روحَه، فأكدَّ هذه المكانةَ في حياتِه كما هو مشهورٌ من سيرتِه، بل ها هو رحمه اللهُ يبينُ الأساسَ الذي قامَ عليه حكمُه وحكمُ آبائِه، والذي يجبُ أَن يكونَ عليه حكمُ أبنائِه منْ بعدِه حينَما أوصى وليَّ عهدِه حينَ تسميتِهِ فقالَ: "أوصيك بعلماءِ المسلمينَ خيرًا، احرصْ على توقيرِهم ومجالستِهم وأخذِ نصيحتِهم، واحرصْ على تعليمِ العلمِ؛ لأن الناسَ ليسوا بشيءٍ إلا باللهِ ثم بالعلمِ ومعرفةِ هذه العقيدةِ، احفظ اللهَ يحفظك".
فاللهمْ وفق ولاتنَا للعملِ بذلكِ، وأدمْ علينا نعمةَ اجتماعِ سيفٍ حملَه أمراؤُنا، وقرآنٍ حملَه عُلماءُنَا؛ لتجتمعَ القلوبُ على الحقِ والإيمانِ، فينخذل أهلُ العلمنةِ والليبرالية والإلحادِ كَما وقيتنَا بهمَا سبحانكَ فِي فتنةِ الإِخوانِ ثمَ فِي فتنةِ جهيمانِ ثم في فتنة صدامٍ ثم في فتنةِ الخوارجِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعدُ: عبادَ اللهِ، إنَّ العلماءَ الربانيينَ همُ الذينَ جعلَهم اللهُ ورثةَ رسولِه ومقامَ أنبيائِه حينَ أمرَ عامةَ المسلمينَ بسؤالهِم عنْ مرادِه سبحانَه فيمَا أنْزَلهُ فقالَ تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ، وهم الثقاتُ العدولُ الذين استشهدَ اللهُ بهم على أعظمِ مشهودٍ وهو توحيدُه جلَ وعلا حين قالَ تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ؛ ولذا فذهابُ العلماءِ ذهابُ العلمِ وإقبالُ الجهلِ وفسادُ الأرضِ، ففي الصحيحينِ قالَ رسولُ الله : ((إنَّ من أشراطِ الساعةِ أنْ يرفعَ العلمُ، ويُبث الجهلُ، وتشرب الخمرُ، ويظهر الزنا)) ، وفيهما قال النبيُّ : ((إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه منْ العبادِ، ولكنْ يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذَ الناسُ رؤساءَ جهّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ علمٍ، فضلوا وأضلوا)) رواه الشيخان. فما أحسنَ أثرَهم على الناسِ، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهمْ.
أيها المسلمونَ، إن ما يقومُ به شيخُنا الصالحُ صالح بقية السلف في الردِ على دعاةِ التغريبِ في هذه البلادِ لهو من أفضلِ الجهادِ؛ لأنه دفاعٌ عن حوزةِ العقيدةِ والدينِ، فمطالب هؤلاءِ لنْ تقف عندِ حدٍّ حتى ننسلخَ عن استقامتِنا ونغوصَ فِي أوحالِ الفكر الغربِي العَفنِ الذي يحلمونَ أن يروه سائدًا بلادنَا. والجهادُ بالحجةِ والبيانِ هو جهادُ ورثةِ الأنبياءِ، وهو أعظمُ منفعةٍ من الجهادِ باليدِ واللسانِ لشدةِ مؤنتِهِ وكثرةِ العدوِ فيهِ معَ قلةِ النَّاصرِ، قال تعالى: فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا. يقولُ العلامةُ ابنُ القيمِ رحمه الله: "ولهذا كان الجهادُ نوعينِ: جهادُ باليدِ والسنانِ، وهذا المشاركُ فيه كثيرٌ. والثاني الجهادُ بالحجةِ والبيانِ، وهذا جهادُ الخاصةِ من أتباعِ الرسلِ، وهو جهادُ الأئمةِ، وهو أفضلُ الجهادينِ لعظمِ منفعتِه وشدةِ مؤنتِهِ وكثرةِ أعدائِه، قالَ تعالى في سورةِ الفرقانِ وهي مكيةٌ: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ، فهذا جهادٌ لهم بالقرآنِ، وهو أكبرُ الجهادينِ، وهو جهادُ المنافقينَ أيضًا؛ فإنَّ المنافقينَ لم يكونوا يقاتلونَ المسلمينَ، بل كانوا معهم في الظاهرِ، وربما كانوا يقاتلونَ عدوَّهم معهم، ومع هذا فقدْ قالَ تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، ومعلومٌ أنَّ جهادَ المنافقينَ بالحجةِ والقرآنِ" اهـ.
فالزموا ـ عباد الله ـ الحقَ الذي أنتم عليه، وانصروا ربَّكم فإن اللهَ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ. وإن من نصرةِ اللهِ عز وجل نصر دينِه بلزومِ كتابِه وسنةِ نبيِه اللّذينِ يأمرانِ بالسمعِ والطاعةِ لولاةِ أمرِكم على منشطِكم ومكرهِكم وأثرةٍ عليكم، ولزوم جماعتِكم جماعةِ الحقِ أهلِ السنةِ والجماعةِ بالتمسكِ بغرزِ من بقي من علمائِكم، فأظهروا الحفاوةَ بهم وأعلنوها، أنزلوهم منازَلهم، ذُبُّوا عن أعراضَهم، احفظوا غيباتِهم، فإن من نالَ منهم فإنما ينالُ من حملةِ الدينِ ويثلمُ في بنيانِه، إنما يريدونَ أن يجرحوا شهودَنا ليبطلوا الكتابَ والسنةَ، والجرحُ بهم أولى.
إننا اليومَ ـ أيها المؤمنون ـ أحوج ما نكونُ إلى توحيدِ الصفوفِ خلفَهم، فالفرقةُ شرّ والجماعةُ رحمةٌ، فبذلكَ لا ندعُ علينَا سبيلاً للمفسدينَ الذين يظنونَ أن الفرصةَ قد تهيأتْ لهم لإسقاطِ هذا الدينِ ورموزِه ومؤسساتِهِ في هذا البلدِ، فصاروا يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ، فجاهدوهم يعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ، ولن يكونَ ذلك إلا باجتماعِ الكلمةِ على الحقِ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
(1/4848)
فتنة الدجال (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
1/1/1423
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم فتنة الدجال. 2- فضل الذكر في زمن الدجال. 3- أعظم أسباب الرزق. 4- أتباع الدجال. 5- زمان خروجه ومكثه في الأرض. 6- أهمية الصلاة. 7- وجوب الفرار من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال النبي : ((إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظمَ فتنة من الدجال)).
عباد الله، إن فتنة الدجال هي أعظم فتنة كما قال نبينا ، والدجال كما أخبرنا النبي رجل أعور، يدعي النبوة وبعد ذلك الألوهية، يُظهر الله تعالى على يديه الخوارق فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من منافقهم، وهو موجود منذ عهد النبي في جزيرة ما، حيث رآه بعض الصحابة مكبَّلا بالقيود والسلاسل وتكلّم معه، ينتظر الإذن له بالخروج، ويسبق خروجه ثلاثة أعوام من القحط والجفاف والمجاعة تعمّ الأرض، وأشدُّه العام الثالث حيث يأمر الله تعالى السماء فلا تمطر قطرة، والأرض فلا تنبت خضراء، فتهلك الدواب كما أخبر بذلك نبينا إلا ما شاء الله، فقيل له: فما يُعيش الناس في ذلك الزمان؟! فقال: ((التهليل والتكبير والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام)).
إنها أيام عصيبة ولا شك، ولكن ما زال في الناس بقية إيمان، فهم يذكرون الله تعالى، فيقوم ذكر الله مقام الطعام والشراب، وما ذلك إلا لفضل الله تعالى ولبركة الذكر. ونحن في أيامنا هذه في أمس الحاجة إلى ذكر الله، فالناس قد شغلتهم المدنية وجمع الأموال من حرام وحلال، حتى أصبحت الكرامات والمعجزات ضربا من الخيال ومرادفا للمحال، وأصبح عامة الناس من عبدة الدينار والدرهم، وأعرضوا عن قول الله تعالى: وَمَن يَّتَقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. إن بركة الإيمان والاعتصام بحبل الله تعالى والتوكل عليه لهي من أعظم أسباب الرزق التي يغفل عنها أكثر المسلمين، ولقد ثبت عن ابن القيم أنه مرض مرضا شديدا في حجه حتى شارف على الهلاك ولم ينفعه دواء، فلجأ إلى الله تعالى ولم يكن له من طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، فشفاه الله ورجعت إليه صحته وعافيته. وأعظم من ذلك ـ عباد الله ـ قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، ذلك أن أبا ذر دخل مكة ذات يوم وسأل بعض أهلها عن مكان الصابئ، فأوسعوه ضربا بالعظام والحجارة حتى سقط مغشيا عليه وهم يعدونه في الأموات، يقول أبو ذر: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنّي الدّمَاءَ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ ـ يَا ابْنَ أَخِي ثَلاَثِينَ ـ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلاّ مَاءَ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتّى تَكَسّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعٍ. سبحان الله! ثلاثون يوما لا يدخل جوفه شيء سوى زمزم، ومع ذلك ظهر عليه السِمَنُ حتى أن بطنه انثنت وانطوت من بركة زمزم. فالتهليل والتكبير والتحميد يجزئ عن الطعام عند فقدانه؛ لأن الله تعالى هو الذي يبارك فيه، ومن اعتصم بأوامر الله وكان مع الله فإن الله تعالى لا يضيعه.
عباد الله، إن الدجال يخرج من المشرق من منبع الفتن، وأكثر أتباعه من اليهود والنساء، فيتبعه سبعون ألف من يهود أصبهان، ويتبعه النساء، وذلك لأنهن عاطفيات وأرق قلوبا من الرجال، فيسهل خداعهن والتلبيس عليهن، ولذا نرى في أيامنا هذه وقبل خروج الدجال كيف أن النساء يتأثرن بالشبهات التي يلقيها أعداء الله على مسامعهن من على صفحات الجرائد والمجلات ومن على شاشات التلفاز، ونرى سرعة افتتانهن بالأفلام والأغاني، ونرى نبذ نسبةٍ لا يُستهان بها للحجاب والحشمة والعفاف ما أن يغادرن حدود هذه البلاد، ومنهن من خلع لباس التقوى هنا في بلاد الإسلام بمباركة من أب فاجر أو زوج ديوث، فكيف يكون حال تلك النسوة إذا خرج فيهن الدجال؟! نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
أقول قولي وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن الدجال يخرج بعد وقوع الملحمة الكبرى التي أخبر عنها نبينا ، حيث يقاتل المسلمون الروم، ويحصل فيها قتل عظيم، وتكون الغلبة فيه لدين الله تعالى، ولقد أخبرنا نبينا أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوما، إلا أنه قال عن هذه الأيام: ((يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم)) ، فقالوا: فذاك اليوم كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟! قال: ((لا، اقدروا له قدره)) ، مما يدل على أن اليوم الذي كسنة يطول حقيقة فلا تغرب الشمس فيه إلا بعد مرور سنة.
عباد الله، لقد كان نبينا يحدّث أصحابه عن فتن عظيمة يُظهرها الله على يد الدجال، ومع ذلك ما شغل بالهم أمرٌ أكثر من الصلاة لعلمهم بأنها عماد الإسلام، وأنه لا حظ في الإسلام لمن لا يصلي الفروض الخمسة، وأين المسلمون اليوم من الصلاة؟! وكيف هي المساجد في صلاة الفجر والعصر؟! إن تاركي الصلاة هم أكثر الناس غفلة وأقسى الناس قلبا، وهم أعظم الناس هما وغما وحيرة وقلقا، وأسهل الناس وقوعا في الموبقات وأسرعهم استجابة للشبهات، وأعظم من ذلك كله هم أبعد الناس عن رب الأرض والسموات، ولا شك أنهم أول من يستجيب للدجال إذا خرج ـ والعياذ بالله ـ لضعف إيمانهم وقلة يقينهم.
عباد الله، إن فتنة الدجال عظيمة، ولشدة فتنته أمر النبي المسلمين أن يبتعدوا عنه، يقول النبي : ((من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)). والفرار من الفتن خوفا على الدين أمر واجب ومحمود أمر به النبي ، ومع ذلك يصر أكثرنا على مواجهة الفتن ظنا منهم أنهم قادرون عليها، فكم من المسلمين الصالحين اليوم أدخلوا جهاز التلفاز وتوابعه بيوتهم بحجة أن عندهم القدرة على السيطرة عليه والتحكم بما يعرض فيه، فعرضوا أنفسهم للفتنة وأصبحوا هم وأهليهم عبيدا له، يملي عليهم أخلاقهم وعاداتهم وأزياءهم، ويملأ عليهم أوقاتهم، فلا يستطيعون الحياة بدونه، وما علموا أنما هو فتنة كالدجال، يجب على المسلم الحريص على دينه ودين أهله أن يبتعد عنه.
عباد الله، إن موضوع الدجال موضوع عظيم لا تكفيه خطبة واحدة، فلعل الله تعالى أن ييسر خطبة أخرى للحديث عن فتنة الدجال.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال.
(1/4849)
فتنة الدجال (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
8/1/1423
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المسلمين وقت خروج الدجال. 2- القتال بين المسلمين والنصارى. 3- ضريبة النصر. 4- فضل صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال النبي : ((إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظمَ فتنة من الدجال)).
عباد الله، لقد أخبرنا نبينا عن حال المسلمين وقت خروج الدجال، وأنهم يكونون في قوة وعزة ومنعة، وإن من قوتهم أنهم يتصالحون مع النصارى ويقاتلون معا عدوا مشتركا فينتصرون عليه، يقول النبي : ((ستصالحون الروم صلحا آمنا، ثم تغزون أنتم وهم عدوا فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية صليبا فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة)) ، وفي رواية: ((فيثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)).
عباد الله، إن النصارى ينصبون صليبهم افتخارا بما صنعوا واعتقادا منهم أنهم ما انتصروا إلا بفضل الصليب، وهم ما أعلنوا ذلك إلا لينقضوا حلفهم مع المسلمين، أو ليغيظوا المسلمين على أقل تقدير، والمسلمون في ذلك الزمان أقل عددا من النصارى كما أخبر بذلك نبينا ، إلا أن المسلمين على قلتهم أعزة على الكافرين، فما كان من ذلك العبد الصالح إلا أن قام فكسر الصليب؛ لأن سكوته وسكوت من معه ذل للإسلام والمسلمين وقبول بوضع الصليب في أعناقهم، وهكذا في كل زمان يُعرض المسلمون فيه عن الافتخار بدينهم وإظهار العزة، لأن المسلم إذا تخاذل وخنع وخضع ركب اليهود والنصارى ظهره واتخذوه دابة من دوابهم، ومن لم يكن معهم فهو ضدهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]؛ لذا كان لزاما على ذلك العبد الصالح أن يدق الصليب ولو كان في ذلك هلاكه.
ولعزة الإسلام في ذلك الزمان قام المسلمون الذين كانوا معه غيرة وحمية للدين وانتصارا لأخيهم الذي استشهد، فقاتلوا حتى أكرمهم الله تعالى بالشهادة، والملاحظ أن أحدا لم يصف هذا المؤمن بالإرهاب والتطرف والتشدد لكسره الصليب، لقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه، وجاء في الصحيحين أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) ، فالصليب وثن كما قال ذلك نبينا لعدي بن حاتم رضي الله عنه إذ قال له: ((اطرح هذا الوثن من عنقك)) ، فإزالة الأوثان والأصنام والتصاليب كل ذلك من واجبات المسلم بحسب مكانته وقدرته؛ لذا بعد أن قتل الصليبيون ذلك المسلم لكسره صليبهم لم يطالب المسلمون بالسلام والمعاهدات، بل هبوا جميعا لأسلحتهم وقتال الصليبيين الذين غدروا بالمسلمين كما أخبرنا نبينا ، وآنذاك تقوم الملحمة الكبرى بين الصليبيين والمسلمين، حيث يكون في صفوف المسلمين عدد كبير من النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم، ولقد أخبرنا نبينا أنهم يأتون ويجتمعون تحت ثمانين غاية، مع كل غاية عشرة آلاف مقاتل، جاء في صحيح مسلم أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج لهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، يقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللّهِ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشّهَدَاءِ عِنْدَ اللّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثّلُثُ لاَ يُفْتَنُونَ أَبَدا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطُنْطِينيّةَ)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن سنة الله تعالى أن فوز المسلمين وانتصارهم لا يكون بلا ثمن وتضحية وفداء، وكذا الحال في قتال المسلمين للنصارى الصليبيين، فإن النصر لم يكن مجانا، بل كان الثمن فادحا ولكن كل شيء يهون في سبيل دين الله تعالى، فإن المسلمين يقاتلون ثلاثة أيام، ويفتح الله عليهم في اليوم الرابع بعد أن هلك معظمهم، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا، والله أعلم بسبب موته، أهو من الإشعاعات الذرية أم من الغازات الكيمائية، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة، فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)). وهذه هي حال المسلم من فتنة إلى أخرى ومن اختبار إلى آخر، حتى يلقى الله عز وجل، فما أن فرغوا من قتال العدو المشترك حتى شرعوا في قتال الصليبيين، وما أن فرغوا منهم حتى خرج عليهم الدجال بفتنه المختلفة والمتعددة التي أسأل الله تعالى أن ييسر لنا خطبة نتذاكر فيها شيئا منها، نسأل الله تعالى أن يجيرنا وإياكم والمسلمين من فتنته.
ولا يفوتني أن أذكركم بفضل صوم عاشوراء الذي أخبر نبينا أن صومه يكفر سنة ماضية، والأسلم في حق المسلم أن يصوم السبت والأحد، فلو كان شهر ذي الحجة ناقصا فإن المسلم يكون قد صام العاشر والحادي عشر، وإن كان الشهر كاملا فإنه يكون قد أدرك التاسع والعاشر، وما ينبغي للمسلم العاقل أن يفرط في هذا الأجر العظيم بحجة عمل أو دراسة، فما هي إلا ساعات معدودة ويفطر المسلم على تمرات حامدا الله تعالى على تيسير هذه الطاعة، بينما يتحسر ذلك الذي ما صام وهو يرى الناس حوله وقد وفقهم الله لطاعته وخذله هو من بين الناس، فاستعينوا بالله ـ عباد الله ـ في صيام هذين اليومين، استعدادا لعطش يوم القيامة وحره، أجارنا الله وإياكم منه.
(1/4850)
شمس الرسالة المحمدية
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
29/8/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النعمة العظمى. 2- الرحمة المهداة. 3- أثر الإسلام في البشرية. 4- المدنية الإسلامية. 5- أساس الدعوة إلى الله تعالى. 6- حرية الدعوة لعقيدة الإسلام. 7- التحذير من ردود الأفعال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، لئن تتابعت النعم وترادفت المنن وتكاثرت الآلاء فكانت غيثًا مدرارًا لا ينقطع هطوله وفيضًا غامرا لا يتوقف تدفّقه، عطاءً كريمًا من ربنا الكريم الرحمن الرحيم، وتفضُّلا منه على عباده بغير استحقاق، وإحسانًا منه بغير استكراه؛ إذ لا مكرهَ له سبحانه، فإن النعمة الكبرى التي لا تعدلها نعمةٌ والمنّة العظمى التي لا تفضلها منة بعثة هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس برسالته من الظلمات إلى النور، ويهديهم به سبل السلام، ويضع عنهم الآصار والأغلال، وليسمو بهم إلى ذُرى الخير والفضيلة، وينأى بهم عن مهابط الشرّ والرذيلة، وليسلك بهم كلّ سبيل يبلّغهم أسبابَ السعادة في العاجلة والآجلة؛ ولذا كانت بعثته صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق كافةً ونعمة على البشر قاطبةً كما أخبر بذلك سبحانه في أصدق الحديث بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فكانت رسالته صلوات الله وسلامه عليه رحمةً للخلق جميعا، عربيِّهم وأعجميِّهم، أسودِهم وأبيضهم، ذكرهم وأنثاهم، إنسِهم وجانِّهم؛ إذ جاءهم ـ كما قال بعض أهل العلم ـ بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبويّ المتقن بهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيّته الفذّة وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلَق جِدّته، فبعث عليه الصلاة والسلام بالإنسانية المحتضرة حياةً جديدة حين عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداسٌ من المواد الخام لا يعرف أحدٌ غناءها ولا يُعرف محلُّها، وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض، فأوجد فيها ـ بإذن الله ـ الإيمان والعقيدة، وبثَّ فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها، ثم وضع كلَّ واحد في محلّه، فكأنّما خُلق له، كأنما كان جمادًا فتحوّل جسمًا ناميًا وإنسانًا متصرِّفًا، وكأنما كان ميتًا لا يتحرّك فعاد حيًّا يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائدًا بصيرا يقود الأمم، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122]. عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره ويشتدّ عليه وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة ولا يتبوّأ منها المكانةَ العليا ولا يحسب له أقرانه حسابًا كبيرًا، إذا به يفجأ العالمَ بعبقريَّته وعصامِيَّته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما، ويؤسِّس دولة إسلامية تجمع بين ممتلكاتهما، وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام، فضلا عن الورع والتقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثلَ السائر. وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش الشبان، انحصرت كفاءته الحربية في نطاق محلِّيٍّ ضيِّق، يستعين به رؤساء قريش في المعارك القبلية، فينال ثقتهم وثناءهم، ولم يحرز الشهرة الفائقة في نواحي الجزيرة، إذ به يلمع سيفًا إلهيًّا لا يقوم له شيء إلا حصده، وينزل كصاعقة على الروم، ويترك ذكرًا خالدا في التاريخ. وهذا بلال الحبشي يبلغ فضله وصلاحه مبلغًا يلقّبه فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالسيِّد. وهذا سالم مولى أبي حذيفة يرى فيه عمر موضعًا للخلافة فيقول: (لو كان سالم حيًّا لاستخلفته). وهذا علي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن العباس ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم قد أصبحوا في أحضان النبي الأمي من علماء العالم، يتفجّر العلم من جوانبهم، وتنطق الحكمة على لسانهم، أبرُّ الناس قلوبًا وأعمقهم علمًا وأقلُّهم تكلّفًا، يتكلّمون فينصت الزمان، ويخطبون فيسجّل قلم التاريخ.
ثم لا يلبث العالَم المتمدّن أن يرى من هذه الموادّ الخامّ المبعثرة التي استهانت بقيمتها الأمم المعاصرة وسخرت منها البلاد المجاورة، لم يلبث أن يرى منها كتلة لم يشاهد التاريخ البشريُّ أحسن منها اتِّزانًا، كأنها حلقة مفرغة لا يُعرف طرفها، أو كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره. إنها كتلة فيها الكفاية التامة من كل ناحية من نواحي الإنسانية، كانت بفضل التربية الدينية المستمرة وبفضل الدعوة الإسلامية التي لا تزال سائرة مادةً لا تنقطع ومعينًا لا ينضب، لا تزال تسند الحكومةَ برجالٍ يرجّحون جانبَ الهداية على جانب الجباية، ولا يزالون يجمعون بين الصلاح والكفاية، وهنا ظهرت المدنيّة الإسلامية بمظهرها الصحيح، وتجلّت الحياة الدينية بخصائصها التي لم تتوفّر لعهد من عهود التاريخ البشري. لقد وضع محمد مفتاح النبوة على قُفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب، أصاب الجاهلية في مقتلها وصميمها، فأَصمى رمِيَّتَه وأرغم العالَم العنيد بحول الله على أن ينحوَ نحوًا جديدًا ويفتتح عهدًا سعيدًا، ذلك هو العهد الإسلاميّ الذي لا يزال غرّة في جبين التاريخ. انتهى كلامه.
عباد الله، لقد كان التوفيق العظيم والنجاح الباهر حليفَ النبي في بناء المجتمع المسلم وإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك الأمر في إرسائه قواعد العلاقات مع غير المسلمين وفي منهج التعامل معهم في كافّة الأحوال، فمع كون الإسلام رسالة عالمية ودعوة ربانيّة للبشريّة قاطِبة لا تختصّ بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان ولا بقوم دون آخرين كما قال عز اسمه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، فإن الدعوة إليه قائمة على الحب والاختيار والاقتناع الناشئ عن الحجة والبرهان والبلاغ المبين، بعيدًا عن القهر والإكراه والتخويف؛ ولذا كان قوله عز من قائل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ [البقرة:256] كان من أظهر أسُس الدعوة وأعظمها دلالة على ذلك. وقد جاءت هذه القاعدة القرآنية العظيمة في صيغة نفي يراد به النهي، فهو نفي لجنس الإكراه للدلالة على استبعاده بالكلية، ولبيان أنه لا يستقيم أبدًا ولا يصحّ وجوده في دين الله الإسلام، فجمعت الآية الكريمة بهذا بين النفي لجنس الإكراه وبين النهي عن مزاولته والعمل به، وذلك أبلغ في البيان وآكد في الدلالة وأدعى إلى كمال الامتثال، وفي هذا من صيانة حرية الاعتقاد ما لا مزيد عليه، قال العلامة الحافظ ابن كثير في التعليق على هذه الآية وبسط مدلولها: "أي: لا تكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّنٌ واضح جليّ، ودلائلُه وبراهينه لا تحتاج إلى أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام وشرَح صدرَه ونوَّر بصيرته دخَل فيه علي بيِّنة، ومن أعمى الله قلبَه وختَم على سمعه وبصرِه فإنه لا يفيده الدخولُ في الدين مُكرَهًا مقسورا"، وقال بعض أهل العلم بالتفسير في قوله سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] قال: "أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل وبنى أمر الإيمان على الاختيار".
وكما أن حرية الاعتقاد حق مشروع في الإسلام لا يجوز سلبه ولا التعدي على حماه فكذلك حرية الدعوة للعقيدة، وكذلك الأمن من الأذى والفتنة في الدين حقّ آخر يجب مراعاته وعدم الإخلال به، وإلا أضحت هذه الحرية اسمًا لا مدلول له في واقع الحياة؛ ولذا شرع الجهاد في سبيل الله حماية لحقّ حرية الدعوة وإزالة الحواجز من أمامها، ولم يشرع أبدًا لظلم الناس أو إكراههم على اعتناق الإسلام، بل إن المسلمين لم يقع منهم استغلال لفقر الناس وحاجتهم لدعوتهم إلى الإسلام لقاءَ تقديم العون لهم ومسح البؤس عن جبينهم، فلم يميّزوا على مدى تاريخهم بين مسلم وغيره في مجال تقديم العون ورفع كابوس المحن عن كواهل من نزلت به، أفيصحّ القول إذًا بأن الإسلام انتشر في أرجاء العالم بالعنف والإكراه بحدّ السيف؟! إنها مقولة متهافتة، بل باطلة بيِّنة البطلان، لا سند لها من نصوص وقواعد الدين ولا من تاريخه المشرق الوضاء، فكم من أمم دخل أبناؤها في دين الله طوعًا وتأثّرًا بمن نزل بلادهم من خيار المسلمين للتجارة وغيرها، وهؤلاء الذين يدخلون اليوم في دين الله أفواجًا في مشارق الأرض ومغاربها في مختلف البلاد أفَيَحملهم على ذلك سيف أو إكراه؟! وهل تستقيم هذه المقولة الجائرة وأمثالها مع مبادئ وثقافة الحوار والتعايش السلمي واحترام الآخر، أم أنها تصبّ على النار وقودًا جديدًا؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، والزموا جانب العدل في كل أقوالكم وأفعالكم، واستجيبوا لله الذي أمركم بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبِسنّةِ نبيِّه ، أَقولُ قولي هَذَا، وَأستَغفِر اللهَ العظيمَ الجَليلَ لي ولَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ للهِ الولي الحميد، الفعال لما يريد، أحمدُه سبحانَه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه المبدئ المعيد، وأَشهَد أنّ سيِّدَنا ونَبيَّنا محمّدًا عَبد الله ورَسولُه، اللَّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولك محمّد وعلى آلهِ وصَحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن حسن التصرف في الأمور وقوة الثبات للنوائب وكفَّ النفس عن مقابلة الظلم بمثله وتقديم المشورة بين يدي كل عمل لا سيما ما تعظم أهميته وتتسع أبعاده وتخشى عاقبته، وإن الرجوع إلى أهل العلم لاستيضاح ما يشكل مع حسن ظنٍّ بهم وكمال تقدير لهم، وإن الوقوف صفًّا واحدا مع ولي الأمر المسلم بالطاعة له في المعروف والنصيحة والمعاونة له على كل خير، إن كلّ أولئك من جميل شمائل المؤمن وكريم خصاله وشريف صفاته التي طاب غراسها وأينعت ثمارها في رياض دينٍ حقٍّ هو الإسلام الذي يجب على أهله كافة ويتعين على أبنائه ومحبيه قاطبةً الحذر من الانسياق وراء سَورة الغضب التي تفضي إلى التردّي في أعمال متعجّلة متهوّرة، وإلى التورّط في سلوكيات خاطئة محرمة، كالقتل أو التخريب أو الحرق أو غير ذلك من ضروب الفساد الذي حرمه الله ورسوله، ويكون سببًا وفرصة يهتبلها المغرضون لإلصاق مزيد تهمٍ بالإسلام وأهله، ولإقامة البرهان على صحة ما يزعمون من دعاوى باطلة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على الذود عن دينكم والذبّ عن قرآنكم ونبيكم بحكمة وروية وعلم وإخلاص لله ومتابعة لرسول الله.
واذكروا على الدَّوامِ أنّ الله تعالى قَد أمَرَكم بالصلاةِ والسَّلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4851)
الحث على التراحم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, مكارم الأخلاق
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
7/9/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على شكر الله تعالى. 2- عزة الأمة في تمسكها بدينها. 3- الرحمة بين المسلمين. 4- مظاهر سلبية تنتشر في رمضان. 5- نصائح للمرأة المسلمة. 6- الحث على التوبة والدعاء. 7- الله أكبر من كل شيء. 8- الحرب الصليبية الجديدة. 9- تطاول الأعداء على الإسلام والمسلمين. 10- تفرق المسلمين. 11- القضية الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه التي لا تحصى، وتذكروا أنكم في يوم مبارك، في يوم من أيام الله، في يوم من أيام شهر رمضان، وفي مسجد تشد إليه الرحال، في مسجد شرفه الله وفضله، أنتم مرابطون فيه إلى يوم القيامة، فاشكروا الله على هذه النعم واذكروه، وكبروه على ما هداكم، فكونوا أنتم الأوفياء والحراس المخلصين والسدنة المرابطين، أخلصوا نيتكم لله عز وجل يكفكم ما أهمكم، أخلصوا أعمالكم تفوزوا برضوان الله وعفوه ورضاه.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
عباد الله، تذكّروا جيدا أنه لا سعادة للبشرية إلا في ظل الإسلام وتطبيق أحكامه. إن التمسك به يكفل السعادة والسيادة والعز والتمكين والنصر المبين، يكفل الرفعة والكرامة.
عباد الله، لما انحرفت أكثر القيادات عن حقيقة الإسلام وعن المنهج السوي والهدي النبوي أصبح واقع المسلمين مؤلما جدّا بسبب إعراضهم عن حقيقة دينهم، ونتج عن هذا التفكّكُ التفرق والاختلاف والعداوة والبغضاء، كما جاء في الخبر: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا يجعل الله بأسهم بينهم)). ومن هنا يجب على قادة الأمة وزعمائها أن يحكموا منهج الله في شؤون الحياة، وبغير ذلك فلن يفلحوا أبدا.
أيها المسلمون، إسلامنا وديننا والحمد لله أعطى كلّ ذي حق حقه، أوصانا الله تعالى بأن نكون رحماء في جميع جوانب حياتنا؛ لنفوز برحمة الله جل وعلا.
أيها المسلم، ارحم نفسك وأشفق عليها من المعاصي التي ترتكبها فتوقعك في أشد الهلاك، ورحمتُها تكون بفعل الطاعات وعمل الصالحات. ارحم زوجتك فلا تكلّفها ما لا تطيق، أعطها حقوقها، لا تسهر طوال الليل خارج بيتك مع أصدقائك ثم تعود آخر الليل، تضيع حقوق زوجتك وأولادك عليك. ارحم من يعمل عندك فلا تكلفه ما لا يطيق. ارحموا المساكين والمحتاجين في هذا الشهر الكريم، فرحمة الله وسعت كل شيء. ارحموا أنفسكم واحقنوا دماءكم من الاعتداء والقتل وسفك الدماء وزهق الأرواح لأبسط الأسباب، ومن الغريب أن تكثر حالات النزاعات في شهر رمضان. فاتقوا الله في أنفسكم، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، كفوا عن الأذى والسرقة والاحتيال.
عباد الله، من المظاهر السلبية التي تسيء إلى حرمة هذا الشهر الفضيل إطلاق المفرقعات، ولا سيما عند أبواب المسجد الأقصى وفي أماكن ازدحام الناس وأمام المدارس بين أرجل الناس. فاتقوا الله يا من تروجون وتبيعون هذه المفرقعات، وأنتم ـ أيها الآباء ـ حافظوا على تربية أولادكم، واحرصوا على مراقبتهم وعدم وقوعهم في هذه الأمور السيئة.
وأنت أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله، وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك، وحافظي على أمانتك وما استرعاك الله عليه من حقوق الزوج، عوّدي أولادك على طاعة الله وأداء الصلاة، عوديهم على الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، حذريهم من الكذب والخداع والسرقة، اتّقي الله في جيرانك، كفي أذاهم وأحسني إليهم، تفقدي أحوال الأرامل والأيتام، ابتعدي عن الفحش واحذري من الوقوع في أعراض المحصنات الغافلات المؤمنات، لا تخرجي إلى الأسواق متبرجة متطيّبة، لا تزاحمي الرجال، لا تسرفي في حفلات الزواج، لا تكلفي زوجك ما لا يطيق من النفقة. اسمعي ـ أيتها المسلمة ـ قول رسول الله عز وجل: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)).
عباد الله، لقد كان سلفنا الصالح من أرحم الناس وأشفقهم، فعلى المسلم أن يقتدي بالذين من قبله، فقد مدح الله تعالى أصحاب رسول الله بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29]. كانوا رحماء فيما بينهم، كانوا يرحمون أهل الذمة، فكيف بالمسلمين؟! كان الواحد منهم إذا رأى عاصيا دعا له بالمغفرة ورجا له الرحمة كما كان يفعل أنبياء الله، إن الله أرسل الرسل لنجاة الناس، بينما الشيطان لعنه الله يضل الناس.
عباد الله، لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع ولا عار، ولا مغبون ولا مهضوم.
أيها المسلم، ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها سوى صبية صغار ودموع غزار. ارحم والديك الكبار وادعو لهما بالرحمة كما ربياك صغيرا. وأحسنوا إلى الفقراء وامسحوا دموع الضعفاء وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
أيها المسلم، صفِّ نفسك وجوارحك في هذا الشهر الكريم، لا تمسّ حراما، حاول أن تتطهر من الذنوب والآثام، علينا أن نحسن الصيام والقيام: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
عباد الله، هذا هو شهر رمضان، فاجعلوه خالصا لله تبارك وتعالى، اقرعوا باب الله تائبين منيبين راجين خائفين، فهذا أوان الرجعة، هذا هو موسم التوبة. ما أحوجنا ـ عباد الله ـ أن ندعو الله بقلوب خاشعة ضارعة وأيد ممدودة إليه مبتهلة أن ينجينا مما نحن فيه، أن يكشف عنا غُمّتنا ويفرج كربتنا، ما أحوجنا إلى أن ندعو، وللصائم دعوة ما ترد عنه فطره، كما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله قال: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)). ما أحوجنا إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس وتهيأنا للإفطار أن نمد أيدينا إلى الله داعين لأنفسنا وأهلينا والمسلمين في كل مكان بالمغفرة والرحمة، وللمظلومين والمعذّبين بالفتح والنصرة والنجاة.
عباد الله، تذكروا دائما أن الله أكبر من كل قوة في هذا الوجود، الله أكبر من طغيان الطاغين ومن استكبار المستكبرين، الله أكبر من كلّ من يطغيه المال أو يطغيه السلطان.
أيها المسلم، إذا رأيت الدنيا برقت أمامك وسال لها لعابك فاذكر أن الله أكبر، إذا رأيت طاغية من الطغاة أو الظلمة وأردت أو خطر ببالك أن تطأطئ له الرأس أو تحني له الظهر فاذكر أن الله أكبر، الله أكبر من كل شيء.
أيها المسلم، كن مع الله ولا تبال، كن مع الله في رمضان وغير رمضان، الله رب رمضان ورب الشهور، تواصل في عباداتك وطاعاتك، لا تكن رمضانيّا فقط، كان السلف يقولون: "بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان"، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم وليلة مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل مثله أو أكثر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
تواجه الأمة الإسلامية حاليا حربا صليبيّة ضروسا، تأخذ أشكالا وأنماطا متعدّدة الأساليب، والهدف واحد هو استئصال الإسلام من الصدور والحضور.
فمن الغزو العسكري لكثير من البلاد الإسلامية، وآخرها أفغانستان والعِراق والحرب على لبنان واستمرار الاحتلال الإسرائيلي البغيض لأرض فلسطين، وتضيف بعض الدول الإسلامية كما حدث في إقليم تيمور في أندونيسيا وجنوب السودان، واستمرار المحاولات لسلخ إقليم دارفور. إلى الغزو الثقافي الذي يتمثّل بتغير المناهج التعليمية في كثير من البلدان الإسلامية بما يتماشى وسياسة العولمة، وتجاهل دراسة التاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية، وعدم تدريس آيات الجهاد والقتال التي وردت في القرآن الكريم، وإهمال اللغة العربية لأنها لغة القرآن ودستور الأمة. إلى الغزو الاقتصادي عن طريق سياسة الانفتاح والاستثمار والأسواق الحرة وإغراق البلدان الإسلامية بالبضائع المستوردة للإبقاء عليها في ركب التخلف والحاجة والعوز. ثم حملات التشكيك والإساءة والتطاول على الدين الإسلامي وعلى سيد الخلق أجمعين سيدنا ونبينا وقائدنا محمد.
وليس من باب الصدفة أن تصدر حملات التشكيك ضدّ الإسلام والمسلمين وضد رسولنا الكريم، فالمتتبع لهذه الحملات يرى أنها تتزامن مع كل نجاحات يحقّقها المسلمون سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، فبعد نجاح الحركات الإسلامية في فلسطين ومصر من خلال الانتخابات التشريعية صدرت الصور الكريكاتورية المسيئة للنبي محمد ، وبعد الانتصار الذي حققه حزب الله في جنوب لبنان خرج علينا الرئيس الأمريكي باتهام المسلمين بالفاشست أي: الإرهاب، وتبعه بابا الفاتيكان بتفوُّهات وترّهات تنال العقيدة الإسلامية وتسيء إلى النبي الكريم.
فالتطاول على الإسلام والمسلمين يهدف إلى زعزعة ثقة المسلمين بإيمانهم وعقيدتهم ونبيهم الكريم في زمن التخاذل والتشرذم التي تعيشها الأمة، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120].
فعذرا يا حبيبي يا رسول الله، عذرا يا نبي الأمة، في قائدنا وقدوتنا فلم يرقَ الزعماء إلى الرد المناسب على كل المتطاولين على الإسلام دينا ودستورا وعقيدة ورسولا.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، أيها المرابطون، من الغريب أن يتّحد الغرب الكافر متعدِّدَ الأديان والمذاهب والجنسيات كما هو في الاتحاد الأوروبي، في حين يتفرّق عالمنا الإسلامي الذي تجمعه وحدة الدين واللغة والعقيدة شيعا وأحزابا وطوائف.
انظروا إلى شهر رمضان الكريم، دول متجاورة لا تفصل بينها حدود متباعدة، بعضها صام يوم السبت وأخرى صامت يوم الأحد وأخرى صامت يوم الاثنين، فأين وحدة المطالع؟! أليس من المفروض أن يكون للمسلمين رأي واحد وقرار واحد؟! فاسمعوها جيدا: لا عزة للمسلمين ولا وحدة لهم بدون دولة الإسلام، دولة عزيزة الجانب قوية الإرادة، موحدة فكرا وعقيدة ورأيا وعملا، دولة توحد القلوب قبل أن توحد الصفوف.
أيها المرابطون، وتبقى قضيتنا الفلسطينية شغلنا الشاغل في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على البشر والحجر والشجر؛ اغتيالات متواصلة واعتقالات مستمرة وتدمير للمنازل واقتلاع للأشجار وتجميد للأموال واستمرار للحصار. ونحن في مأزق تشكيل حكومة جديدة لإحياء عملية ما يسمّى السلام بعد أن أمر الجميع بموتها، الجميع يتباكى على السلام المذبوح، والجميع يطالب الحكومة الفلسطينية الحالية أو الجديدة الالتزام بالاتفاقيات المعقودة مع إسرائيل.
فهل سأل سائل: هل التزمت إسرائيل بالاتفاقيات المتعدّدة مع الجانب الفلسطيني؟! منذ أوسلو عام 1990م خمسة عشر عاما ماذا قدمت إسرائيل للفلسطينيين؟! هل أوقفت إقامة المستوطنات وتوسيعها؟! هل أوفقت مصادرة الأراضي؟! هل انسحبت من الأراضي العربية المحتلة؟! هل أوقفت عزل وحصار وتهويد القدس؟! هل أوقفت بناء جدار الفصل العنصري؟! حتى نحمل الحكومة الفلسطينية سبب معاناة وجوع شعبنا الفلسطيني!
أيها المصلون، كلمة حق لا بد من قولها من على هذا المنبر الشريف: إن التخلي عن السلطة والزعامة في سبيل مرضاة الله والحفاظ على الثوابت الإيمانية والتمسك بها وحقن الدم الفلسطيني أن يراق على أرض فلسطين الطهور أفضل وأشرف بكثير من التنازع على السلطة أو البقاء فيها مرضاة لأعداء الله؛ حتى يدرك الفلسطينيون أن أي تنازل عن الحقوق والثوابت الإيمانية تعطي الأعداء من الابتزاز والتنازلات على حساب الأرض والإنسان.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:149، 150].
(1/4852)
موسم الزاد
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
14/9/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان غرة العام. 2- اغتنام السلف لرمضان. 3- فضل النفقة في هذا الشهر الكريم. 4- الزكاة من أركان الإسلام. 5- العاصم من فتنة الشبهات. 6- المرأة في رمضان. 7- التحذير من الاستهزاء بالإسلام. 8- الحث على المحافظة على الإعمال الصالحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيّها المسلمون، جعل الله شهرَ رمضانَ غُرّةَ العام، وفضَّل أوقاته على سائرِ الأوقات، وخصَّه بمزيدِ الفضل والإكرام، نهارُه صيامٌ وليلُه قيام، آياتُ الكتاب فيه تُقرَأ وتُتلى، تغلَّق فيه أبواب النيران وتُفتَّح فيه أبواب الجنان، فيه تضاعَف الأعمال وتكفَّر الخطايا والأوزار، قال عليه الصلاة والسلام: ((الصلواتُ الخمس والجمعة إلى الجمعةِ ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهما إذا اجتُنِبَت الكبائر)) رواه مسلم. قال ابن رجبٍ رحمه الله: "المغفِرة والعِتق كلٌّ منهما مرتَّب على صيامِ رمضان وقيامه".
هو شهرُ الخيرات ومضاعَفة الحسنات، شهرُ إقالة العثَرات، صيامُه وقيامه سببٌ لمغفرة الذّنوب، أجورُ تلاوته مضاعَفَة، فاغتَنَم السلف زمانَه بالتلاوة والقيام، فكان الأسود رحمه الله يختِم القرآن في كلّ ليلتين، قال عثمان : (لو طهرَت قلوبُكم ما شبِعتم من كلام ربِّكم).
التجارةُ فيه رابحة مضاعَفة، المنفِق موعودٌ بالغفران والغِنى، قال عزّ وجلّ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268]، بل إنّ النفقةَ مُخلَفَة، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]. وكان النبيّ أعظمَ الناس صدقةً، وكان لا يستكثِر شيئًا أعطاه ولا يردّ سائلاً، وكان العطاء والصدقةُ أحبَّ شيءٍ إليه، وكان سروره بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخذِ بما يأخذه.
والزكاةُ مِن قوائم هذا الدين، لا يقوم الإسلام إلاّ بها، تطهِّر المال وتنمِّيه وتزكِّيه، فطِب بها نفسًا، وابذُل بها كفًّا، ووَاسِ بها محرومًا، وأخلِص بها قلبًا، واحذَر لها تسويفًا، فالوعيد شديدٌ على من يبخَل بها.
والمسلم تتكَالب عليه فتن الأهواء والشبهات، والتوجه إلى الله بالتعبد في خير ليالي الدهر من أسباب درئها عن الفؤاد، فالعبد كلّما قرب من الله خنَس الشيطان منه، قال سبحانه عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]. قال ابن القيِّم رحمه الله: "ما استعان أحدٌ على تقوى الله وحفظِ حدوده واجتنابِ محارمه بمثلِ الصوم".
فحقيقٌ بالمسلم أن يكثرَ من تلاوة كتاب الله العظيم، وأن لا يَنصرفَ في ليلته إلاّ مع إمامه طمَعًا في حطِّ أوزاره وخطاياه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه)) متفق عليه.
وفي اعتكاف القلب والبدن في لياليه العشر في بيوتِ الله بالتبَتُّل والتضرُّع تزكيةٌ للقلوب وسلامَة من الوقوع في الزّلَل والعصيان.
والمرأة مأمورة بما يؤمَر به الرجال من التلاوة والتعبُّد وقيام الليل، إلاّ أنَّ صلاتها في دارها خيرٌ لها من صلاتها في مسجدها، قال : ((وبيوتهن خيرٌ لهنّ)) رواه أبو داود. وعليها أن تحافظَ على تعبُّدها بالسِّتر والعفاف وكمالِ الحجاب، ولْتحافظْ على اغتنام لحظاتِ الشهر بما يقرِّبها إلى الله.
أيّها المسلمون، دين الله متينٌ، وشرعه قويٌّ قويم، تكفَّل الله بنصرته ونشرِه في الآفاق، قال عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28]. وفي هذا الشهرِ الكريم قاتَلت الملائكة لإعزاز الدين مع نبيِّ الله وصحبه في أعظم وأوّلِ غزوة كانت هي الفرقان بين الحقِّ والباطل، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
وإنَّ السخريةَ بالدين في زمن نُصرة الله له وفي ليالي تنزيلِ القرآن العظيم من الخُذلان المبين ومن المحادَّة لربِّ العالمين، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة:20]. ومن سخر بالدين سخِر الله منه وأذلَّه وتوعَّده، قال سبحانه: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50، 51].
وفرضٌ على كلِّ عبد الانقيادُ لهذا الدين والتذلُّل له وتعظيمُ شعائره وشرعِه والابتعاد عن الطعن فيه أو السخريةِ به أو الاستهزاء بأحكامه. وحرامٌ على المسلم النظرُ إلى ما فيه طعنٌ بشعائر الإسلام، قال جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]. ومن بُلِي بمثل تلك العظائمِ فعليه بالتوبةِ الصادقة والحذر من استدراج الله له، فكيدُ الله متين وبطشُه شديد وأبواب رمضان مفتَّحة لعباده الآيِبين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفَعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلى إحسانِه، والشّكر لَه عَلَى توفيقهِ وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شَريك له، وأشهَد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه.
أمّا بعد: أيّها المسلِمون، القلوبُ أوعية متنوِّعةٌ، وخيرُها أوعاها، وتصفيةُ العمل من الآفاتِ أشدُّ من العمل، ورمضان موسِم البدار للأعمال الصالحة، وقد أفلح من أخلَصَ فيه لربِّه، وكلُّ ما لا يُبتَغَى به وجه الله يضمحلّ، وكِتمان الحسنات من الإخلاص، والرياء من مفسدات الأعمال، فتزوَّد لآخرتِك وتجافَ عن دُنياك، واستعِدَّ للموت وبادِرِ الفوت، وأكثر من الطاعات، وانْأَ بنفسِك عن الذنوبِ والأوزار، فالدنيا أولها عناء، وآخرها فناء، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التنزيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد...
(1/4853)
القصص القرآني
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
14/9/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الناس للقصص. 2- ميزة القصص القرآني. 3- ضرورة تدبر القصص القرآني. 4- مفاهيم ضالة حول القصص القرآني. 5- القصص القرآني نبأ حق وخبر صدق. 6- أثر القصص القرآني على النفوس. 7- أهداف القصص القرآني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، إنَّ أحسنَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بِدعة، وكلَّ بدعة ضلالة. من يُطعِ الله ورسوله فقد رشد، ومَن يعصِ الله ورسولَه فقد غوَى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
عبادَ الله، للنّاسِ في حياتهم ولَعٌ بالِغ بالقصَّةِ وحبٌّ لصيق متمكِّن من قلوبهم وعواطفهم؛ لأنَّ المعاني تتناسَق من خلالِ القصة تناسقًا مقترنًا بالأحداث والوقائِع، في سلسلةٍ متتابعةٍ من الأخبارِ والأحوال، حتى تصيرَ مثلَ صورةٍ محسوسة داعِيةً النفسَ إلى حبِّ الاستطلاع لمعرفَتِها وتتبُّع أحداثِها حتى ترسَخَ في النفس، فتكون بِذلك أبلغَ من الأسلوب الخطابيّ والسَّردِ الكلاميّ؛ لأنها أسلوبٌ رفيع يُصغي إليه السَّامع، وترسُخُ عِبَرها في النّفس بشَغَف، وتنفذ إلى المشاعرِ بسهولةٍ لا تحمل معها كلَلاً ولا مللاً، فيحصل من خلالها التعليمُ والخبر في آنٍ واحد.
ولقَد صار للقصةِ في عصرنا الحاضر أدبٌ وفنّ ولغةٌ خاصّة بها، غير أن الوحيَ الإلهيّ قد تفرَّد بالقصص الحقّ، فأنزل الله للناس أحسنَ القصَص الذي يخبر الله به عن أحوالِ الأمم والنبوَّات السالفَة، ويظهر ما تتضمَّنه من حقائقَ وعِبر بقصد إعلامِ الناس ودفعهم إلى التفكّر والتأمُّل فيها. وإنه ما مِن قصّةٍ في القرآن الكريم إلاّ وهي مسوقةٌ لتأكيد مبدَأ نبيلٍ أو أصلٍ شرعيٍّ أو لهما معًا، وفي المقابلِ تأتي لإبطالِ خلُقٍ [دنيء] وأصل فاسِد ونهج مقبوح. والقصَصُ القرآني برمَّته وسيلةٌ عظمى من وسائلِ التربية وتوثيقِ الإيمان في النفوس ومصدرٌ دائم للفردِ والجماعةِ على حدٍّ سواء لتذكُّر أيّام الله التي يداولها بين الناس.
ثمّ إن المسلمينَ المتأمِّلين حينما يتلون القصصَ القرآنيّ فإنهم يخالجهم شعور حاضرٌ مع القصّة، حتى كأنما نفِخَت الحياة في القرون الهامدة، فأصبحوا يشاهِدونها كِفاحًا؛ ليرِيَهم الله من سبَقهم من الأمَم في فرحهم وتَرَحهم وجِدِّهم وهزلهم وتصديقِهم للرسل وتكذيبهم وإيمانهم وكفرِهم وسُخرِيتِهم وتسليمهم.
إنَّ الأمة الإسلاميّةَ بحاجَةٍ ماسّة إلى أن تعمِّق فهمَها وإدراكها للقصصِ القرآني؛ لتنهل منه أساليبَ العِراك مع الحياةِ والطرقَ الموصلة إلى خلافة الله في أرضِه مِن خلال إقامة دينِه والثباتِ عليه والوقوفِ بعزمٍ وحزمٍ أمام الدعواتِ المناوِئة له والزَّوابِع المستهزِئة به أو بشيءٍ من أصوله وآدابه النَّبيلة. نعم، إنَّ الأمةَ التي استطاعَت أن ترَى ما فوقَ القمر ليجِب عليها أن لا تعمَى عن إِبطال القصصِ الحقّ في كتابِ رَبها، وأن لا تبحَثَ عن النور في أيِّ ظلمةٍ وقَبَس القرآن بين يَدَيها، وأن لا تكون كالعِيس في البيداء يقتُلُها الظمأ والماءُ محمولٌ فوق ظهورها. إنّه القصص القرآنيّ الحق الذي لا مجالَ فيه للخيال أو الرِّيبة.
وإن تعجبوا ـ عبادَ الله ـ فعجبٌ أن يكونَ من أمّة هذا الكتاب العظيم من ينحرِف في فهمِه للقصَص القرآني، فلا يراه إلاَّ نوعًا من الفنِّ التصويريّ القصصيّ الذي لا يقتضي صحَّةَ الوقوع، بل يرونَه نوعًا من التخيِيل الداعي إلى التشويقِ المراد منه التّمثيلُ لا الحقيقة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. كيف لا والله جل وعلا يقول: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عِمران:62]، ويقولُ سبحانَه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، ويَقول جلَّ شَأنه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]؟! نعَم، إنّه أحسنُ القصَصِ وأصدقُ القَصَص وأبلَغُ القَصَص، إنّه داعية الاعتبار والادِّكار، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
وإنّ مما يزيد هذا القصَص جلالاً أنه حقٌّ وواقِع دون أدنى شكٍّ فيه، قصَص ربانيّ وكلام إلهيّ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]. لم يختَرِع تلك القصَصَ خَيالُ قصّاصٍ يفتري الحديثَ لتلهيَةِ الناس وشغلِهم بالشهوات والشبهات من خلالِ أطروحات وروائيّات مبتذَلَة، يروَّج لها على أنها دِعامة في تربية جماهير القراءِ على التمرّدِ على الحقائق والقِيَم والمثُل والمصداقية في العَرض والنقل والنقد، مُضمّنَةً مهيِّجات للغرائز ومثِيرات للشهوات ومسوِّغات للاستعصَاء على آداب الشريعة ومُثُلها العليا. كلاّ، إن القصص القرآني أسمى مصدرا وأصدَق حديثا وأكرم غايةً من ذلكم. إنّه القصَص الذي يزَلزِل الفؤادَ ويشيب بالنَّاصية ويأخذ بلُبِّ اللبيب كلَّ مأخَذ، إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوةً، وإنّه الحقّ وما هوَ بالهزل، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
ومَن أراد أن يدرِكَ أثرَ القصص على النفسِ فليُبصر حالَ المصطفى حينَما أسفَر لَه صُبح المشيب وقد ألمّ الشيبُ بلحيته، ترى فيه هيبتَه ووقارَه، يسأله أبو بكرٍ فيقول له: يا رسولَ الله، ما شيَّبَك؟ قال: ((شيَّبتني هودٌ والواقعة وعمَّ يتساءلون وإذا الشَّمسُ كوِّرت)) رواه الترمذي والحاكِم وأبو يَعلى. ويا لله العجب حينما نرَى في الحديثِ تصديرَ سورةِ هود وهي السورَةُ المليئة بالقصَص.
إنَّ على قلوبِ الكثيرين رانًا غيَّبهم عَن إدراكِ حقيقةِ القَصَص القرآنيّ؛ حيث يمرّون به فلا يستوقفوه ملِيًّا، ليعلموا بوضوحٍ وجلاءٍ كيفَ شيَّبَت مفارقَ إمامِهم وقدوَتهم ، يَقول عبد الرَّحمن بن أبي لَيلَى رحمَه الله: دخَلَت عليَّ امرأة وأنَا أقرأ سورةَ هود فقالَت: يا عبدَ الرحمن، هَكَذا تقرأ سورةَ هود؟! والله، إني فيهَا منذ سِتَة أشهر وما فَرغتُ من قراءتها.
وبعد يا رَعاكم الله، فإنَّ تتبُّع القصص القرآني وتأمّلَه والوقوفَ عند آحاده والاتِّعاظ به وتدبّرَ أحوال الأمَمِ السالِفَة، كيف قامت، وكيف فنَت، كيف كانَت ذا عزٍّ يطاوِل الثريَّا، وكيف انحدَرَت إلى الهاوية انحدارَ جلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ. نعم إنَّ التّطوافَ المتمحِّصَة لِلقصص القرآنيّ هنا وهناك ليعود بِثروةٍ طائلة من العِبَر والعظاتِ، تزيد العبدَ معرفة بربه ويقينًا بقدرته وعظمَتِه، وأن من يعِش يكبر، ومن يكبر يمُت، والمنايا لا تبالي ما أتَت، وأن كلَّ اجتماعٍ فإلى افتراق، وأن الدهرَ ذو فتحٍ وذو إغلاق، وكم من أمّةٍ سوف يكون غيرُها، وسوف يفنى شرُّها وخيرها، وأنَّ مردَّ الجميع إلى الله، وأنَّ المسرفين هم أصحاب النار، وإلاّ فأين ثمودُ الذين جابوا الصخرَ بالواد؟! وأين فرعونُ ذو الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثَروا فيها الفسادَ؟! وأين عادٌ إرم ذات العماد التي لم يخلَق مثلها في البلاد؟! أينَ أبرهةُ غازي الكعبَة؟! أين قارون صاحبُ الكنوز؟! أين الساخِرون بنوحٍ عليه السلام؟! أين المستهزِئون بشعيب ومحمّد عليهما الصلاة والسلام؟! أين الأكاسِرة؟! أين القياصِرة؟! لقد طوَتهم الأرض بعد حين، فافتَرَشوا التراب، والتحَفوا الثرَى، وأصبحوا خبرًا بعد عين، وأثرًا بعد ذات، ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:100-103].
بَارَكَ الله لي ولَكم في القُرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صَوابًا فمِن الله، وإن خَطأً فمن نَفسِي والشَّيطان، وأَستغفِر الله إنّه هو كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بَعدَه.
وبَعدُ: فيا أيّها النَّاس، إنَّ القصصَ القرآنيَّ لم يكن يومًا ما حديثًا يُفتَرَى ولا فُتونًا يتردَّد، وإنما هو عَرضٌ لوقائِعَ موصِلةٍ إلى غاياتٍ عظمَى يمكن إدراكُها بالتفكُّر والتأمّل والعِظة، كما قالَ تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].
وإنّه ليمكن لنا أن نجمِل باقتضابٍ بعضَ تلكم الغايات العظيمة، ومنها الاستدلالُ بالقصص على وحدانيّة الله تعالى كما في قصَصِ إبراهيم ونوح وموسَى وعيسى وغيرِهم من الأنبياء والرسلِ عليهم الصلاة والسلام.
ومن ذلكم أيضًا تثبيتُ الرسول والمؤمنين على الدِّين الذي يدعونَ إليه في خضَمِّ ما يلاقونَه من أعدائهم من شِدّةٍ وعناد وصدٍّ عن سبيل الله واستهزاءٍ به وبشِرعتِه وثوابته؛ يبغونها عوَجًا، كما قال تعالى: وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، وكَمَا قَالَ تَعالى: وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنبياء:41]. ولَيس أَنبَل ولا أسلَى من قصّةٍ تثبِّت فؤاد داعيةٍ إلى الله جلّ وعلا على بَصيرة، وتكون عِظَة وذكرَى للمؤمنين المستضعفين، تبعَث في نفوسهم الأملَ واليقين بأنَّ الله غالبٌ على الأمر، وأنّ الفرجَ يعقب الشدَّةَ، وأنَّ مع العسر يسرًا، إنَّ مع العسر يُسرًا، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:110، 111].
ومِن ذلكم ـ عباد الله ـ أنّ القصص القرآنيَّ حكم فضل في مواضِع الاختلاف والتَّضارب في قصص التوراة والإنجيل المحرَّفَة، كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76، 77].
ومِن ذلكم ـ عبادَ الله ـ أنَّ القصص القرآنيَّ وما فيهِ مِن دقَّةٍ وإتقان لهو البرهانُ القاطع على صِدق رسالةِ محمّد وصِدق ما جاء به، وأنّه أتى بالدِّين الكامل الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه، لا سيَّما وقد كانَ النبيّ أمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد قال الله جلَّ وعلا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عِمران:44]، ويَقول سبحانَه: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، ويَقول أيضًا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ [يوسف:3].
ومِن ذَلكم ـ عبادَ الله ـ العِظةُ والاعتِبار بالأمم السابِقة ومواقِفِهم مع دِينِ الله وأنبيائِه ورُسُله، وهذِه العِظَة قد تكون من بابِ قِياس الطَّرد أو قياس العكس فيما يؤول بالمشركِين ومعاندي الرّسُل، وأنه جزاءُ كلِّ من جاء بمثلِ فعلهم، وأما مَن جاء بعكس فعلهم فلَه عَكس جزائهم، ولذلك جاءَ في قصص القرآن عن قومِ صالح ما يدلّ على الترهيب من جزاء من يفعَل السيِّئات ويستكبر عن الدِّين مثلهم، والترغيب في ثوابِ مَن آمن واتَّقَى وصدق بالحسنى مِنهم، فقال جلّ وعلا: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:51-53].
هذا وَصَلّوا ـ رَحمكم الله ـ على خَيرِ البريّة وأزكَى البَشريّة محَمّد بن عبدِ الله صَاحِبِ الحوضِ والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسِه، وثَنَّى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعَلاَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد...
(1/4854)
موعظة العشر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, مواعظ عامة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
21/9/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحاجة إلى الموعظة والذكرى. 2- اغتنام مواسم الفضل والخيرات. 3- من أفضل الأعمال في هذه الأيام المباركة. 4- جماع الأمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رَحمكم الله، فمَن أحبَّ صلاحَ الحال فليصلِحِ الأعمال، ومن سرَّه أن تدومَ عافيتُه فليتَّقِ الله ربَّه، ولا يعرِفُ الزيادةَ مِنَ النقصان إلاَّ من حاسبَ نفسَه، قال بعض السلف: "إذا رأيتَ تكديرًا في الحال فاذكر نعمةً ما شُكِرت أو زلَّةً قد فعِلَت، واحذَر من نَفادِ النِّعَم ومفاجأةِ النِّقَم، فمن صفا صُفِّيَ له، ومن كدَّر كُدِّر عليه، اقرؤوا إن شئتم: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]".
أيّها المسلمون، مع متغيِّرات الزّمَن وتقلّبات الأحوال ومُثيرات الشَّهَوات وفِتَن الشّبهات ثمّ مع حلولِ مواسمِ الخيرات وفُرَص النَّفَحات كَم قلوبُ العباد بحاجةٍ لذكرى وعِظات، تلين لها قلوب المخبِتين، وتَرِقّ لها أفئدة الخاشعين، وتنقشع بها غيوم الغفلة عن الغافلين، وترتفع بها سَواتِر الحجُب عن اللاّهين والسادِرين. أين يفِرّ الفارّون من الله وكلُّهم في قَبضَتِه؟! وكيف يُشكَر غَيرُ الله وما بِالخلائق من نِعمةٍ فمن جودِه وكَرَمِه؟! وإلى مَن يلجَأ الخائفون وكلُّهم محفوظٌ بعنايتِه ورحمته؟! لو علم القاعدون مَاذا أَضاعوا وكَم أضاعوا، كَم من قريبٍ أبعدَه التباعُدُ، ولا يَزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخِّرَهم الله.
يا عبدَ الله، لن تجِدَ طعمَ العافية حتى تكونَ على الطاعةِ مقيمًا ولِذِكر الله مُديمًا، فعالِج مرضَ المخالفة بالتوبة، وداوِ داءَ الغفلة بالإنابَة. لا يؤنِس في وحشةِ القبر إلا العمل الصالح، ولا يقِي من عذاب النار بإذنِ الله إلا نورُ الإيمان، ولا تثبُتُ القدم على الصراطِ إلا بالاستقامة على الهدى. من سَلك سبيل أهلِ السلامة سلِم، ومن لم يَقبل نُصحَ الناصحين ندِم. الكرامةُ كرامةُ التقوى، والعِزّ عِزُّ الطاعة، والأُنسُ أنسُ الإحسان، والوحشةُ وَحشة الإساءَة، ومن أحسن الظنَّ أحسن العمَل.
أيّها المسلمون، استعيذوا بالله أن تمرَّ بكم مواسم الخيرات وساعاتُ النفحات ثم لا تَزدادون هدًى ولا ترتَدِعون عن ردى، وحذارِ ثم حذارِ أن يكون المرءُ ممّن طبَع الله على قلبه وعلى سمعِه وجعل على بصرِه غِشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟!
معاشرَ الأحبّة، جعَل الله لبعضِ الأيّام فضلاً ولبعضِ الشّهور منزلة، وأقسم بالعشر، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألفِ شَهر، وما مِن مَوسمٍ مِن هذه المواسم الفضيلةِ إلاّ ولله فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِه ولطيفةٌ من لطائف نفحاتِه، يصيب بها من يمنّ عليه بفضله ورحمتِه، والسعيدُ ـ وربِّكم ـ مَن اغتنم مواسمَ الفضل وأيّام البركات ونافَس في الطاعات، فعسى أن يصيبَ نفحةً وبركة يكتُب الله له بها سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا. فأحيوا ـ أسعدكم الله ـ هذه اللياليَ الدّاجية بقلوبٍ خائِفَة راجية وعيون باكِيَة وآذانٍ واعية، واطلُبُوا بهمّةٍ عاليَة سِلعة الله الغالية، فالغنائمَ الغنائمَ قبلَ الفوات، والعزائمَ العزائمَ قبل الندَم والحسَرات. شهرُكم هذا شهر عِمارة المحراب وتلاوةُ الكتاب، تُعمَر فيه المساجد، ويُغبَط فيه الراكعُ والساجد، والحسرةُ للكسول القاعد. أيّامُ خير وفضلٍ وتعبُّد، ترقّ فيها القلوب، وتغفَر فيها الذنوب، وتتجافى المضاجع والجنوب. ألاَ فجدّوا في العمل رحمكم الله، وأَروا الله من أنفسِكم خيرًا، فإنَّ شهركم قد أخذَ في النقص والانصِرام، فمن أحسن فعليه بالتَّمام، ومَن فرَّط فليختِم بالحسنى فإنَّ العملَ بالختام.
وإنَّ مِن أفضل الأعمال أداءَ ما افترضَ الله والورعَ عمّا حرَّم الله وصِدقَ النية في الله، وفي الحديثِ القدسيّ: ((ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ممّا افترضته عليه)). ومِن بعد الفرائِض يكون التقرُّب بالنوافل والبعدُ عن المكروهَات بعدَ المحرمات، وفي الحديث: ((لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه)). ومن أحبَّه الله أعانَه على طاعتِه والاشتغال بذِكره، فحصَل له القربى منه والزّلفَى لَديه والحظوَةُ عنده.
ومِن أعظم ما يُتَقرَّب به الصّلاة، فهي الصّلةُ بين العبدِ وربِّه، وأقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد، والمصلّي يناجي ربَّه، والمولى عزّ شأنه ينصِب وجهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتَفِت.
ومِن أعظم ما يتقرَّب به في هذه الأيام المباركة وفي هذه العشرِ الأخيرة كثرةُ تلاوةِ كتاب الله وسماعِه والتفكّر فيه وتدبّره وتفهّمه، يقول خبّاب بن الأرتّ: (تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنّك لن تتقرَّب إلى الله بشيءٍ هو أحبّ إلى الله من كلامِه)، ويقول عثمان: (لو طهُرت قلوبُكم ما شبِعتُم من كلام ربِّكم)، ويقول ابن مَسعود : (مَن أحبَّ القرآنَ فهو يحبُّ الله ورسولَه).
وذِكر الله عزّ وجلّ يَتواطأ على ذلك القلب واللسان مِن أفضل ما يتقرّب به العبد في هذه الأيام المباركة، وفي الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منه)) متّفَق عليه، وفي التنزيل العزيز: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. فيا لسعادةَ من لاَ يزال لسانه رطبًا من ذكرِ الله.
وتقرّبوا ـ رحمكم الله ـ بقيامِ الله، فإنَّ من قام رمضان إيمانا واحتِسابًا غفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه.
وعَليكم بكثرة الإحسان والصدقة، فقد كان نبيّكم محمّد أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. أخرجه مسلم. ويقول الإمام الشافعيُّ رحمَه الله: "أحِبّ للرّجل الزيادةَ بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله ؛ لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"، و((من فطَّر صائما كان له مثل أجره، غيرَ أنه لا يُنقِص من أجر الصائم شيئا)) أخرجه أحمد.
أما الاعتكاف ـ رحمكم الله ـ فيكاد أن يكونَ من خصائص هذه العشر المباركة، فقد كان نبيكم محمد يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ويقول الإمام الزهريّ: "عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ مع أنَّ النبيّ ما تركه منذ قدِم المدينةَ حتى قبضه الله عز وجل".
عبادَ الله، ومما يجمع لكم ذلك كلَّه طهارةُ القلب وسلامة الصدر؛ مما يورث محبة الله ومحبة عباده؛ فإنك ترى أقوامًا طُهرًا بريئةً أيديهم طاهرة قلوبهم يتحابّون بجلال الله، ينيبون إلى ذكرِه، ويغضبون لمحارمه، ويتلطَّفون مع عباده، تمتلئ قلوبهم بمعرفةِ ربهم وخشيتِه وعبادتِه ومحبته وتعظيمه ومهابته وإجلالِه والأنس به والشَّوق إليه، قال بعض السلف: "تعوَّدوا حبَّ الله وطاعته؛ فإنَّ المتقين ألِفوا الطاعة فانصرفت جوارحهم عن غيرها". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وهذا هو سرُّ التّوحيد ومعنى لا إلهَ إلاَّ الله، فلا يُؤَلَّه غيرُ الله حبًّا ورجاءً وخوفًا وطاعَة، فإذا تحقَّق القلبُ بالتّوحيد التامّ لم يبقَ فيه محبّةٌ لغير ما يحبه الله، ولا كراهةٌ لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس ومشتهاها على محبة الله وخشيته، وذلك يقدح في كمال التّوحيد الواجب، فيقع العبد بسبَب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات" انتهى كلامه رحمه الله.
ألا فاتقوا اللهَ رحمكم الله، فشهركم هذا نفيس، لا قيمةَ له فيباع، ولا يستدرَك منه ما ضاع، لقد جدَّ الجادّون، فلا ترضَوا لأنفسكم بالدون. اعملوا وجِدّوا وشمّروا حسبَ الطاقة والاستطاعة، فمن عجز بالليل كان له بالنهار مُستَعتَب، ومن عجز بالنهار كان له بالليل مستَعتَب. والمؤمن العاقل المحاسبُ نفسَه قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل، ولقد جاء رجل إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال له: لا أستطيع قيام الليل، قال: فلا تعجَز بالنهار. والمغبون من غُبِن خيرَ الليل وخير النهار.
فاستودِعوا أيَّامَكم هذه الصالحات، فإن العمرَ منتَقَص وزائِل، ولا تفوتكم الفرَص، فيا ويلَ الغافل، متى يُغفَر لمن لم يغفر له في رمضان؟! ومتى يشفَى قلب من لم تُشفِه آيات القرآن؟! ومن أنفَعِ أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يدرِك آخره، وحقيقة الزهدِ قِصَر الأمل، والموت معقودٌ بالنواصي، والدنيَا تطوَى من ورائكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبِهديِ محمّد ، وأقول قولِي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جَعَل الليل والنهار مواقيتَ للأعمال ومقاديرَ للأعمار، أسبَل ذيلَ الليل وجعَلَه للسّكون والاستِتار، وأنارَ مَنار النهار فأضاء عن العمَل والانتشار، أحمده سبحانه على فضله المِدرار ونِعَمه الغِزار، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ صدق وتحقيقٍ ويقين وإِقرار، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالحنيفيَّة السَّمحة فوضَع الأغلالَ والآصار، صلى الله وسلّم وبارَكَ عليه، وعلى آله المكرَّمين الأطهار، وأَصحابِه الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، والتّابعينَ ومَن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، من تفكَّر في عواقب الدنيا أخَذ بالحذر، ومن أيقن طولَ الطريق تأهَّب للسفر، وأعجَبُ العجب السرورُ بالغرور والسهر باللهو، يغترّ بالصحة وينسى السّقَم، والعاقِل من يُريهِ مصرَعُ غيره مصرَعَه، ويكشِف له مضجعُ سِواه مضجعَه، ومن قارب الفتنَ بَعُدت عنه السلامةُ، وأعظم العقوبةِ أن لا تحسَّ بالعقوبة، وأشدّ من ذلك السرورُ بالعقوبة عياذًا بالله، كمن يفرح بالمال الحرامِ ويُسَرّ بالتمكّن من الذنوب، يقول ابن الجوزيّ رحمه الله: "وإني تدبَّرتُ في أحوالِ كثيرٍ فرأيتهم في عقوباتٍ لا يحسّون بها، فهذا عالم يغضَب أن رُدَّ عليه خطؤُه، وهذا واعِظٌ متصنِّع في وعظه، وهذا متزهِّدٌ مُراءٍ، وأوّلُ العقوبات الإعراضُ عن الحقّ اشتغالاً بالخلق، ومن خفِيِّ العقوبات سلبُ لذّة المناجاة، وأعظم الخلقِ اغترارًا أن يأتيَ ما يكرهه الله ثم يطلب منه ما يحبّه، وفي الحديث: ((والعاجزُ من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) "، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إلى ربِّكم وأنيبوا إليه وأسلِموا له، فأيّامكم هذه أيّام فاضلة، بل إنها من أفضلِ أيام العامِ ولياليه، فأَروا الله من أنفسِكم خيرًا، وتحرَّوا ليلةَ القدر فقد كان نبيّكم محمّد يخصّ هذه الأيام بمزيد عملٍ وعبادة، فقد كان إذا دخَل العشر أحيا ليلَه وأيقظَ أهله وشدَّ المئزر، ومن استقَام باطنه استقامَت أمورُه، ومن رأى الأجَلَ وسَيره أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن كانت الأيام مطاياه سارَت به وإن لم يسِر.
هذا وصلّوا وسلّموا على الرحمة المسداة والنعمة المهداة نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمَرَكم بذلك المولى جلّ في علاه، فقال عزّ قائلاً عليمًا في محكم تنزيله قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد النبيّ الأميّ المصطفى الهادي الأمين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4855)
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
13/6/1425
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الإسلام للضروريات الخمس. 2- نعمة الأمن. 3- مقومات الأمن. 4- حال المجتمعات الكافرة. 5- ثمار نعمة الأمن. 6- تحريم كل ما يخل بالأمن. 7- العابثون بالأمن. 8- واجب المسلمين تجاه الأعمال التخريبية. 9- جريمة ترويع الآمنين. 10- التحذير من تلبيس الإعلام الغربي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، ورَاقِبُوُهُ في السِّرِّ والنَّجْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِي السِّيَاجُ المَتِينُ والحِصْنُ الحَصِينُ والدِّرْعُ الوَاقِي الأَمِينُ مِنَ الفِتَنِ والمِحَنِ والبَلاَيَا، فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، لَقَدْ جَاءَ اِلإسْلاَمُ وَهُوَ الدِّينُ القَوِيمُ وَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ بِنِظَامٍ شَامِلٍ وَنَهْجٍ كَامِلٍ صَالِحٍ لِكُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، حَقَّقَ مِنْ خِلاَلِهِ الحَيَاةَ الهَادِئَةَ التي يَطْمَحُ إِلَيْهَا الناسُ في مُجْتَمَعَاتِهِم، ومِنْ أَعْظَمِ الأَوَامِرِ التي جَاءَ بِهَا حِفْظُ الضَّرُورَاتِ الخَمْسِ المُهِمَّةِ التي أَجْمَعَ الرُّسُلُ والأنبِيَاءُ قَاطِبَةً على حِفْظِهَا وَأَهَمِيَّتِهَا وَرِعَايَتِهَا والمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ وهي حِفْظُ الدِّينِ والنَّفْس وَالعَقْلِ والمَالِ والعِرْضِ. فهَذِهِ الأُمورُ هي قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ، بِحِفْظِهَا صَلاَحُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وبِالتَّفْرِيطِ فِيهَا وإِهْمَالِهَا فَسَادُ الكَوْنِ واضْطِرَابُ الأُمورِ وفُشُوَُّ القَلَقِ والفَوْضَى والانْحِلاَلِ.
وَكَانَ حِفْظُهُ لَهَا مُزْدَوجًا مِنْ جَانِبَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِقَامَةُ أَرْكَانِهَا وتَثْبِيتُ دَعَائِمِهَا وَإِرْسَاءُ قَواعِدِهَا، وثَانِيهِمَا: حِمَايَتُهَا وَدَرْءُ الخَلَِل الوَاقِعِ أو المُتَوَقَّعِ عَلَيْهَا. ولِذَلِكَ فقَدْ أَقَامَ الإِسْلاَمُ كُلَّ الضَّمَانَاتِ اللاَّزِمَةِ والسُّبلِ المُخْتَلِفَةِ التي تَحْفَظُ هذِهِ الضَّرُورَاتِ، ورَتَّبَ الجَزَاءَ الرَّادِعَ وَالوَعِيدَ الشَّدِيدَ والعِقَابَ الأَلِيمَ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا في ضَيَاعِ أَو فُقْدَانِ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ أو التَّفْرِيطِ فيهِ، وجَعَلَ مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الوَسَائِلِ وتِلْكَ الضَّمَانَاتِ الزَّاجِرَةِ عَنِ الإِخْلاَلِ بِأَيٍّ مِنْ هَذِهِ المَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ التي يَتَحَقَّقُ بِهَا حِفْظُ مَصَالِحِ العِبَادِ وقِيَامُ الحَيَاةِ الكَرِيمَةِ تَوَفُّرُ الأَمْنِ والأَمَانِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ والإِيمَانِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الأَمْنَ في الأَوْطَانِ والسَّلاَمَةَ في الأَبْدَانِ أَكْبَرُ نِعْمَةٍ وأَعْظَمُ طِلْبَةٍ تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِهَا الأُمَمُ والشُّعُوبُ، ويَطْمَحُ إِلَيْهَا الأفْرَادُ والمُجْتَمَعَاتُ على مَرِّ العُصُورِ، وَيَخْطِبُ وُدَّهَا الصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ، وَيَأوِي إِلَيْهَا وَيَأْنَسُ بِهَا كُلُّ مَنْ يَنْشُدُ الرَّاحَةَ وَالاطْمِئْنَانَ وَكُلُّ مَنْ فَقَدَ الأُنْسَ وَتَجَرَّعَ الأَحْزَانَ، لاَ يَهْنَأُ للنَّاسِ عَيْشٌ بِدُونِهَا، وَلاَ يَقِرُّ لَهُم قَرَارٌ عِنْدَ فَقْدِهَا، لاَ أَجَلّ مِنْهَا وَلاَ أَعْظَم إِلاَّ نِعْمَةُ الإِسْلاَمِ، فَالأَمْنُ هُو سَبِيلُ الدَّعَةِ والطُّمَأْنِينَةِ، وطَرِيقُ الرَّخَاءِ والاسْتِقْرَارِ وَرَغَدِ العَيْشِ، في ظِلِّهِ تَحْلُو العِبَادَةُ، وَتَصْفُو الحَيَاةُ، وَتَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، وَتَهْدَأُ القُلُوبُ، وَتَعُمُّ البَرَكَاتُ، وتَصْلُحُ الأَحْوَالُ، وَيَهْنَأُ النَّوْمُ وَالطَّعَامُ والشَّرَابُ، ويَعِيشُ النَّاسُ رَاحَةَ البَالٍ، وَنَعِيمَ الآمِنِينَ. يَقُولُ المُصْطَفَى : ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) رواه الترمذيُّ وابن ماجه. وَقَدِيمًا قَالَتِ العَرَبُ في أَمْثَالِهَا وَحِكَمِهَا: "الأَمْنُ نِصْفُ العَيْشِ، وَلاَ عَيْشَ لِخَائِفٍ".
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ العُظْمَى إِنَّمَا تَقُومُ وَتَتَحَقَّقُ عَلَى رَكَائِزَ وَأُسُسٍ مُهِمَّةٍ، يَأْتِي في مُقَدّمتِهَا الإِيمَانُ باللهِ تعَالَى وإِفْرَادُهُ بالتَّوْحِيدِ والاسْتِقَامَةُ على العمَلِ الصَّالِحِ، فَـ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
فَالإِيمَانُ باللهِ وحْدَهُ وَالبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ يَحْمِلُ كُلَّ فَرْدٍ في المُجْتَمَعِ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا سَاهِرَةً وَيَدًا حَافِظَةً أَمِينَةً، ونَفْسًا رَحِيمَةً مُشْفِقَةً، سَاعِيَةً في اجْتِنَابِ كُلِّ مَا مِنْ شأَنْهِ أَنْ يُؤْذِي المُسْلِمِينَ، أَوْ يُسَبِّب لَهُم الخَوْفَ في أَنْفُسِهِم أَوْ أَمْوالِهِم أو أَعْراضِهِم، فَضْلاً عَنِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا وَإِزْهَاقِهَا؛ فَالمُسْلِمُ الصَّادِقُ في إِيمَانِهِ مَأْمُونُ الجَانِبِ، لاَ يَقَعُ في الآثَامِ وَالذُّنُوبِ فَضلاً عَنِ الجَرِيمَةِ وَالاعْتِدَاءِ؛ لأَنَّ خَوْفَهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ عَذَابِهِ يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِِيمَانَهُ باللهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الوُقُوعِ في الجَرَائِمِ أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا؛ قَدْ قَالَهَا هَابِيلُ لأَخِيهِ قَابِيلَ منْذُ فَجْرِ التَّأْرِيخِ عِنْدَمَا أَرَادَ قَتْلَهُ: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة: 28، 29].
وَإِنَّ الكُفْرَ باللهِ سُبْحَانَهُ وَالشِّرْكَ بهِ والبُعْدَ عَنْهُ وَعَنْ شَرْعِهِ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ المُبَاشِرَةِ لِتَقْوِيضِ الأَمْنِ في المُجْتَمَعَاتِ وَزَعْزَعَةِ مُقَوِّمَاتِهِ في النُّفُوسِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلى الوُقُوعِ في المَعَاصِي وَالجَرَائِمِ وَزَرْعِ الخَوْفِ وَالهَلَعِ في النُّفُوسِ وضَيَاعِ الأَمْنِ مِنَ القُلُوبِ قَبْلَ المُجْتَمَعَاتِ ولَو تَبَجَّحَ المُتَبَجِّحُونَ مِنَ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ وَأَتْبَاعِهِم بالأَمْنِ والأَمَانِ؛ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
وَإِنَّ أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَىَ هَذَا الجَاهِلِيَّةُ المَاضِيَةُ التي أَدْرَكَهَا الإِسْلاَمُ فَأَزَالَهَا؛ مِن خِلاَلِ حَيَاةِ الفَوْضَى والاضْطِرَابِ التي كَانَتْ تُخَيِّمُ على مُجَتَمَعَاتِهِم، والمُتَمَثِّلَةُ في الغَارَاتِ والحُرُوبِ القَبَلِيَّةِ التي تَقُومُ بَيْنَ القَبَائِلِ ثَأْرًا لأَتْفهِ الأُمُورِ، فَتَمْكُثُ الأَعْوَامَ العَدِيدَةَ لاَ تَخْمُدُ نَارُهَا وَلاَ تَنْدَمِلُ آثَارُهَا، أَو بِقَصْدِ السَّلْبِ والنَّهْبِ والقَتْلِ بِدُونِ ضَابِطٍ أَو زَاجِرٍ، ولاَ أَمْنٍ وَلاَ أَمَانٍ، ولاَ رَاحَةٍ ولاَ اطْمِئْنَانٍ.
فَكَانَتِ القَبِيلَةُ تَعِيشُ في قَلَقٍ مُسْتَمِرٍّ وخَوْفٍ دَائِمٍ مِنَ القَبَائِلِ الأُخْرَى المُجَاوِرَةِ، ووَقَعَتْ حُرُوبٌ مُدَمِّرَةٌ وصِرَاعَاتٌ طَاحِنَةٌ سَجَّلَهَا التَّأْرِيخُ في صَفَحَاتِهِ السَّوْدَاءِ بِمِدَادٍ مِنَ الدَّمِ، اسْتَمَرَّ بَعْضُهَا عُقُودًا مِنَ الزَّمَنِ؛ كَحَرْبِ دَاحِسَ والغَبْرَاءِ وغَيْرِهَا مِنَ الحُرُوبِ الطَّاحِنَةِ ذَاتِ الأَسْبَابِ التَّافِهَةِ التي أُرْخِصَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ وسُلِبَتْ فِيهَا الأَمْوَالُ وانْتُهِكَتْ فِيهَا الأَعْرَاضُ.
إِلَى أَنْ جَاءَ الإِسْلاَمُ بأَمْنِهِ وإِيمَانِهِ، فَأَمِنَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْوَاحِهِم ومُمْتَلَكَاتِهِم، وبَشَرهُم المُصْطَفَى إِنْ هُمُ اسْتَقَامُوا عَلَى دِعَامَتِي الأَمْنِ: الإِيمَانِ باللهِ تعَالَى والعَمَلِ الصَّالِحِ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُم الأَمْنُ المُنْقَطِعُ النَّظِيرِ في دُنْيَا الوَاقِعِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُم اللهُ خُلَفَاءَ الأَرْضِ، وَأَنْ يُبَدِّلَهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْنًا، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمُوتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ كما صَّحَّ عَنِ رَسُولِ الهُدَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
عِبَادَ اللهِ، وفي المُجْتَمَعَاتِ الكَافِرَةِ المُعَاصِرَةِ أَو التي فَرَّطَتْ في إِسْلاَمِهَا وَأَضَاعَتْ أَوَامِرَ رِبِّهَا وَقَصَّرَتْ في دِينِهَا مِنَ البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ تَرَى العَجَبَ العُجَابَ؛ مِنْ ضَيَاعِ الأَمْنِ وانْعِدَامِ الأَمَانِ وكَثْرَةِ الإجْرَامِ والاغْتِصَابِ والسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ والاعْتِدَاءِ عَلَى الأَنْفُسِ والأَعْرَاضِ والمُمْتَلَكَاتِ، وغَيْرِ ذلكَ مِنَ الجَرَائِمِ البَشَعَةِ التي صَارَ البَشَرُ مَعَهَا كالبَهَائِمِ الضَّعِيفَةِ التي تَتَهَدَّدُهَا الذِّئَابُ المُفْتَرِسَةُ والوُحُوشُ الضَّارِيَةُ في الغَابَاتِ المُوحِشَةِ، لاَ حُرْمَةَ لِدِمَائِهِم، ولاَ عِصْمَةَ لِنُفُوسِهِم، ولاَ كَرَامَةَ لأَعْرَاضِهِم، ولاَ صِيَانَةَ لأَمْوَالِهِم، وتِلْكَ عَاقِبَةُ الأُمَمِ حِينَ تَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ، وتَكْفُرُهُ وتُشْرِكُ بِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ الأَمْنِ وَدَعَائِمِ اسْتِتْبَابِهِ الأَمْرُ بالمَعْرُوُفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ وَالنُّصْحُ للهِ تَعَالَى وَلِكِتَابِهِ وِلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ صِمَامُ الأَمَانِ للمُجْتَمَعِ وَعِمَادُ الدِّينِ الذِي فُضِّلَتْ بِهِ أُمَّةُ الإِسْلاَمِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ، تَتْكَاتَفُ بِهِ الجُهُودُ، وَيُلَمُّ بِهِ الشَّعَثُ، وَيُرْأَبُ الصَّدْعُ، وَتُسْتَصْلَحُ بِهِ أَحْوَالُ المُجْرِمِينَ وَالمُفْسِدِينَ، وَتُتَّقَى بِهِ أَسْبَابُ الهَلاَكِ، وَتُدْفَعُ البَلاَيَا عَنِ المُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمَةِ؛ فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116، 117].
كَمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ الكَلِمَةِ وَوَحْدَةَ الصَّفِّ وتَرْكَ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ وَتَحْقِيقَ الأُخُوَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى المَحَبَّةِ وَالتَّرَابُطِ وَالتَّكَاتُفِ وَالالْتِفَافَ حَوْلَ القَادَةِ المُخْلِصِينَ وَالبُنَاةِ المُصْلِحِينَ وَاحْتِرَامَ الدُّعَاةِ وَالعُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ وَالآمِرِينَ بالمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ وَالصُّدُورَ عَنْ رَأْئِهِم وَتَرْكَ الرَّغَائِبَ وَالشَّهَوَاتِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الأَمْنِ وَالاطْمِئْنَانِ وَالقُوَّةِ التي تَدْفَعُ عَنِ الأُمَّةِ العَدُوَّ المُتَرَبِّصَ وَالخَصْمَ المُتَجَهِّزَ للانْقِضَاضِ عَلَيْهَا وَالنَّيْلِ مِنْهَا في مَرَاحِلِ ضَعْفِهَا وَتَنَازُعِهَا؛ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ حَرِصَ المُصْطَفَى عَلَى إِقَامَةِ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ في المَدِينَةِ عَلَى الأُخُوَّةِ والتَّآلُفِ وَنَبْذِ أَسْبَابِ الفُرْقَةِ وَالتَّنَازُعِ، فَأَلَّفَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ الذِينَ تَحَارَبُوا وَتَقَاطَعُوا أَعْوَامًا وَقُرُونًا، ثُمَّ آخَى بَيْنَهُم وَبَيْنَ المُهَاجِرِينَ؛ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم في مُحْكَمِ كِتَابِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
إِنَّ الأَمْنَ ـ عبادَ اللهِ ـ لاَ يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ؛ لِمَا يَغْرِسُهُ في النُّفُوسِ من اطْمِئْنَانٍ وسَعَادَةٍ؛ وَلِمَا يَجْلِبُهُ لِحَيَاةِ النَّاسِ مِنْ رَخَاءٍ واسْتقْرَارٍ وَرَغَدِ عَيْشٍ، وفي هَذَا كُلِّهِ ضَمَانَةٌ للأُمَّةِ مِنْ نِقْمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: الخَوْفِ وَالجُوعِ، اللَّتَيْنِ يُسَلِّطُهُمَا اللهُ تعالى على الكَافِرِينَ الجَاحِدِينَ لِشَرْعِهِ المُتَكَبِّرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَإِنَّ اسْتِتْبَابَ الأَمْنِ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ لِنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَاجٌ جَلِيلٌ عَلَى رُؤُوسِ الآمِنِينَ لاَ يَعْرِفُ قَدْرَهَا وَقِيمَتَهَا إِلاَّ مَنِ اصْطَلَى بِنِيرَانِ الحُرُوبِ وَالفِتَنِ وَعَاشَ حَيَاةَ الفَوْضَى وَالاضْطِرَابِ، فَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الأَشْيَاءُ.
وَلِذَلِكَ قَرَّر الإِسْلاَمُ مَا يَحْفَظُ الأَمْنَ ويُدِيمُهُ على المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا يُنَاقِضُهُ؛ فَحَرَّمَ الاعْتِدَاءَ على النُّفُوسِ والأَعْرَاضِ والأَمْوالِ وإِزْهَاقَهَا وإِيذَاءَهَا، وَجَعَلَ عُقُوبَةَ مَنْ يُزْهِقُهَا النَّارَ في الآخِرَةِ؛ تَكْرِيمًا وصِيَانَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ المُسْلِمَةِ، وَجَعلَ قَتْلَهَا بِدُونِ سَبَبٍ يُبِيحُ ذَلكَ كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمْ اللهُ فِي النَّارِ)) رواه الترمذيُّ وهو صحيحٌ؛ وصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) رواه النسائيُّ والترمذيُّ. وَوَقَفَ وَهُوَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ في المَجْمَعِ العَظِيمِ يَوْمِ عَرَفَةَ قَائِلاً: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟)) قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: ((فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)) قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: ((فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟)) قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)) ، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ: ((لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا؛ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) رواه البخاريُّ ومسلم.
وَلَقَدْ أَرَادَ الإِسْلاَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْقِيقَ الحَيَاةِ الآمِنَةِ الكَرِيمَةِ المُسْتَقِرَّةِ الهَادِئَةِ لأَتْبَاعِهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعَاتٍ، التي لاَ يُعَكِّرُهَا سُلُوكُ العَابِثِينَ والمُنْحَرِفِينَ والمُجْرِمِينَ؛ وَلِذَلكَ شَرَعَ الحُدُودَ والتَّعْزِيرَاتِ الزَّاجِرَةَ لِكُلِّ مَنْ يُحَاوِلُ العَبَثَ أَوِ الإِخْلاَلَ بأَمْنِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، وجَعَلَ سُبحَانَهُ وتعَالَى عُقُوبَةَ المُفْسِدِينَ في الأَرْضِ المُحَارِبِينَ للهِ ورَسُولِهِ وجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، جَعَلَ عِقَابَهُم شَدِيدًا لِمَا يُسَبِّبُونَهُ مِنْ تَرْوِيع للآمِنِينَ وإِخَافَةٍ للمُسلِمِينَ والمُسْتَأْمَنِينَ ونَشْرٍ للفَسَادِ في الأَرْضِ؛ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33].
وقَرَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِوَلِيِّ الأَمْرِ في حَالاَتٍ أُخْرَى مِنَ الجَرَائِمِ والاعْتِدَاءَاتِ المُخِلَّةِ بأَمْنِ المُجْتَمَعِ والأَفْرَادِ حَقًّا فِيمَا يُسَمّيهِ الفُقَهَاءُ بالتَّعْزِيرِ المَبْنِي على تَحْقِيقِ المَصْلَحَةِ العَامَّةِ، والذي لاَ حَدَّ لأَكْثَرِهِ شَرْعًا كَمَا قَرَّرَ المُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، بَلْ يَخْضَعُ لِتَقْدِيرِ الأَئِمَّةِ والقُضَاةِ بنَاءً عَلَى الأَحْوَالِ والحَوَادِثِ؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَرْدَعُهُ النَّظْرَةُ، ومِنْهُم مَنْ تَرْدَعُهُ الكَلِمَةُ، وِمْنهُم مَنْ تَرْدَعُهُ الصَّفْعَةُ، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَرْدَعُهُ إِلاَّ اسْتِئْصَالُ شَأفَتِهِ مِنَ الأَرْضِ وإِرَاحَةُ العِبَادِ والبِلاَدِ مِنْ شَرِّهِ وفَسَادِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ، لَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ النَّاسِ في الدِّمَاءِ المَعْصُومَةِ، واجْتَرَؤوا عَلَى هَتْكِ هَذَا السِّتْرِ المَنِيعِ، وَهِيَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمَةٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ النبيُّ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنُهمَا قَالَ: ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) ، وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: (مَِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ التي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكُ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)، وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟!)) رواه الترمذيُّ وأحمدُ والنسائيُّ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)) رواه البخاريُّ وغيرُهُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، وَلقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ مَهْبِطِ الوَحْيِ ومَنْبَعِ الرِّسَالاَتِ وَقِبْلَةِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا بالأَمْنِ والأَمَانِ؛ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ البَاهِرَةِ الوَاضِحَةِ، ونِعْمَةً مِنْ نِعْمَهِ العَظِيمَةِ، ثُمَّ بفَضْلِ جُهُودِ المُخْلِصِينَ مِنْ وُلاَةِ أَمْرِ هَذَا البَلَدِ وأَبْنَائِهِ والعَامِلِينَ فِيهِ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، وقَوْلِهِ سبحانَهُ وتعاَلى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67]. ثُمَّ بِفَضْلِ مَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بهِ عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ مِنْ إقَامَةِ شَرْعِ اللهِ وَتَطْبِيقِ الحُدُودِ عَلَى المُجْرِمِينَ، والتِي هِي كَفِيلَةٌ بإِذْنِ اللهِ للتَّقْلِيلِ مِنَ الجَرِيمَةِ، ورَدْعِ أَصْحَابِ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ التِي لاَ يَزْجُرُهَا زَاجِرٌ مِنْ ضَمِيرٍ أَوْ دِينٍ أَوْ رَحْمَةٍ عَنْ تَنْفِيذِ نَوَايَاهَا السَّيِّئَةِ وجَرَائِمِهَا البَشِعَةِ.
وَكُلُّنَا يَلْمَسُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَا نَعِيشُهُ في هَذِهِ البِلاَدِ المُقَدَّسَةِ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى مِنْ أَمْنٍ ورَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ؛ حَيْثُ أَمِنَ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِم ومُمْتَلَكَاتِهِم وأَعْرَاضِهِم؛ نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ المَحَلاَّتِ التِّجَارِيَّةِ في الأَسْوَاقِ أَحْيَانًا أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ لا يُغْلِقُونَهَا، بَلْ يَتْرُكُونَهَا مَفْتُوحَةً لاسْتِتْبَابِ الأَمْنِ وقَرَارَتِهِ في نُفُوسِهِم وعِلْمِهِم أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا بِسُوءٍ؛ لأَنَّهُ سَيَنَالُ العِقَابَ الرَّادِعَ وَالجَزَاءَ الزَّاجِرِ، هَذَا فَضْلاً عَنِ الأَمْنِ عَلَى الأَرْوَاحِ والأَعْرَاضِ والمَنَازِلِ المُنْقَطِعِ النَّظِيرِ في بِلاَدٍ شَتَّى مِنَ العَالَمِ.
لَكِنَّ الأَعْدَاءَ شَرِقُوا بِهَذَا الأَمْنِ، وَغَصُّوا مِنْ هَذَا الاطْمِئْنَانِ الذي تَعِيشُهُ بِلاَدُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَرَاحُوا يُدَبِّرُونَ الخُطَطَ والمُؤَامَرَاتِ للإِخْلاَلِ بأَمْنِهَا ونَشْرِ الجَرِيمَةِ فِيهَا وتَعْوِيدِ النَّاسِ عَلَى الاعْتِدَاءِ وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ والقَتْلِ وتَرْوِيعِ الآمِنِينَ؛ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89].
وَكَانَ أَنْ وَجَدُوا ضِعَافَ دِينٍ وَقَلِيلِي مُرُوءَةٍ وَعَدِيمِي بَصِيرَةٍ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا، اسْتَطَاعُوا مِنْ خِلاَلِهِم تَنْفِيذَ جُزْءٍ مِنْ خُطَطِهِم ومُؤَامَرَاتِهِم التي تَهْدِفُ أَوَّلاً وآخِرًا إِلَى إقْصَاءِ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى عَنِ المُجْتَمَعِ وَتَرْوِيعِ الآمِنِينَ في بِلاَدِ الأَمْنِ والأَمَانِ. يُرِيدُونَ قَاتَلَهُم اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، يُرِيدُونَ مِنْ هَذِهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ الآمِنَةِ أَنْ تَكُونَ فَوْضَى واضْطِرَابَاتٍ، تُهَدِّدُهَا عِصَابَاتُ الإِجْرَامِ والإِفْسَادِ بَيْنَ الحِينِ والآخَرِ؛ لاَ يَأْمَنُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، ولاَ يَهْدَأُ عَلَى عِرْضِهِ، ولاَ يَسْلَمُ لَهُ مَالُهُ.
نَعَمْ عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِمَّا يَنْدَى لَهُ جَبِينُ كُلِّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ عَلَى دِينِهِ وأُمَّتِهِ حَرِيصٍ عَلَى أَمْنِ مُجْتَمَعِهِ وَبِلاَدِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ الآمِنُونَ في هَذِهِ البِلاَدِ مِنْ مُسْلِمِينَ ومُسْتَأْمَنِينَ وَفِي مُقَدَّمَتِهِم رِجَالُ الأَمْنِ وَحُرَّاسُهُ لِقَضَايَا التَفْجِيرِ والإِحْرَاقِ والقَتْلِ والإِهْلاَكِ وَالتَّرْوِيعِ، على أَيْدِي هَؤُلاَءِ الجَهَلَةِ الأَغْرَارِ الذِينَ اتَّخَذَهُم الأَعْدَاءُ وَسِيلَةً لِتَنْفِيذِ خُطَطِهِم وَمَآرِبِهِم، في الوَقْتِ الذِي يُقَتَّلُ فِيهِ المُسْلِمُونَ في بِلاَدٍ مَنْكُوبَةٍ مِنَ العَالَمِ عَلَى أَيْدِي عَبَدَةِ البَقَرِ والصَّلِيبِ؛ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى والمَجُوسِ والذِينَ أَشْرَكُوا.
إِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُزَعْزِعُونَ للأَمْنِ مِنْ تَرْوِيعِ الآمِنِينَ وقَتْلِ الأَنْفُسِ البَرِيئَةِ المَعْصُومَةِ وَالاعْتِدَاءِ عَلَى رِجَالِ الأَمْنِ وتَدْمِيرِ المُمْتَلَكَاتِ وَتَهْدِيمِ العِمْرَانِ لَهُوَ فَاجِعَةٌ عَظِيمَةٌ، تُؤْذِنُ بِفَتْحِ بَابٍ خَطِيرٍ عَلَى الأُمَّةِ مِنْ قِبَلِ ضِِعَافِ النُّفُوسِ والمُجْرِمِينَ الذين لَيْسَ لَهُم وَازِعٌ دِينِيٌّ يَرْدَعُهُم، ولاَ ضَمَائِرُ تَحْجُزُهُم عَمَّا يَجُولُ في نُفُوسِهِم مِنْ شُرُورِ وآثَامٍ.
وَإِنَّ المسلمِينَ جَمِيعًا مَسْئُولُونَ عَنْ حِمَايَةِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تُؤْتَى مِنْ قِبَلِهِم، وَتَحْقِيقِ الأَمْنِ في مُجْتَمَعَاتِهِم؛ وَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُوَاطِنٍ صَالِحٍ يُؤْمِنُ باللهِ تَعَالَى أن لاَّ يَرْضَى أَبَدًا بالمُزَايَدَةِ عَلَى أَمْنِ أُمَّتِهِ وَدَوْلَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ، لأَنَّهُ أَوَّلُ المُسْتَفِيدِينَ مِنْ تَحَقُّقِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ. إِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُوَاطِنٍ وَسَاكِنٍ في هَذهِ البِلاَدِ المُبَارَكَةِ المُقَدَّسَةِ رَجُلاً كَانَ أو امْرَأَةً أَنْ يَكُونَ رَجُلَ أَمْنٍ؛ عَيْنًا سَاهِرَةً عَلَى أَمْنِ مُجْتَمَعِهِ، يُحَارِبُ الفَسَادَ والإِجْرَامَ، وَيأَمْرُ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ.
يَجِبُ أَنْ تَتَضافَرَ جُهُودُنَا وَتَتَلاَحَمَ صُفُوُفُنَا وَتَتَّحِدَ أَصْوَاتُنَا جَمِيعًا للوُقُوفِ في وَجْهِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الخَطِيرَةِ عَلَى أَمْنِنَا وأُمَّتِنَا وبِلاَدِنَا، وَأَنْ نُحَافِظَ على أَمْنِ بِلاَدِنَا؛ فبالأَمْنِ تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، ويَسْكُنُ البَرِيء، ويأْنَسُ الضَّعِيفُ، ويَطْمَئِنُّ الخَائِفُ، وتَعْلُو الهِمَمُ، وتَرْقَى الأُمَمُ؛ فإِنَّه لَيْسَ لِخَائِفٍ رَاحَةٌ، ولاَ لِحَاذِرٍ طُمَأَنِينَةٌ.
يَجِبُ عَلَيْنَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنْ نُقَدِّرَ نِعْمَةَ الأَمْنِ الذِي نَعِيشُهُ، وَأَنْ نَشْكُرَ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَأَنْ نَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِ الدُّوَلِ المُجَاوِرَةِ لَنَا، وَأَنْ نَعْرِفَ لأَهْلِ الفَضْلِ ـ مِنْ وُلاَةٍ وَحُرَّاسِ أَمْنٍ وَآمِرِينَ بالمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ ـ فَضْلَهُم ونَشْكُرَ لَهُم جُهُودَهَم، وَأَنْ نَسْعَى جَاهِدِينَ للتَّعَاوُنِ مَعَهُم لاسْتِتْبَابِ الأَمْنِ وثَبَاتِ العَقِيدَةِ ومُحَارَبَةِ المُجْرِمِينَ المُفْسِدِينَ العَابِثِينَ بأَمْنِ هَذا البَلَدِ ومُقَدَّرَاتِهِ؛ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ عَلَى إِحْسَانهِِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِِهِ وَامْتِنَانِِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ الدَّاعِِي إِلَى رِضْوَانِهِِِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِِ وَعَلَى آلهِِِ وَأَصْحَابهِِ وَإِخْوَانِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَانٍٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ تَرْوِيعَ الآمِنِينَ مِنْ أَعْظَمِ الجَرَائِمِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنَ الإفْسَادِ في الأَرْضِ الذِي حَرَّمَهُ اللهُ ونَهَى عَنْهُ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ والتَّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)). فَكَيْفَ إِذَا انْضمَّ إِلَى هَذَا التَّرْوِيعِ القَتْلُ والإَزْهَاقُ للأَرْوَاحِ والتَّدْمِيرُ والإِهْلاَكُ للمُمْتَلَكَاتِ؟! لاَ شَكَّ أَنَّ الوِزْرَ أَعْظَمُ وَالإِثْمَ أَشَدُّ وَالعِقَابَ أَنْكَى.
رَوَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا ـ أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ ـ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ)) رواه البخاريُّ؛ وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ قَالَ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا)) متفق عليه؛ وعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النبيَّ قَالَ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) متفق عليه؛ وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)) متفق عليه.
وَِمِنْ خِلاَلِ هَذِهِ النُّصُوصِ الشَرْعِيَّةِ ـ عِبَادَ اللهِ ـ نُدْرِكُ شَنَاعَةَ هَذِهِ الأَعْمَالِ الإِجْرَامِيَّةِ في مِيزَانِ الإِسْلاَمِ، وَأَنَّها مُحَرَّمَةٌ أَشَدَّ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ المُسْلِمَ الحَقَّ المُنْتَسِبَ إِلَى الإِسْلاَمِ بِصِدْقٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِعْوَلَ هَدْمٍ وقَتْلٍ وإِفْسَادٍ وتَرْوِيعٍ للآمِنِينَ، وَأَنَّ الإِسْلاَمَ بَرِيء كُلَّ البَرَاءَةِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُزَعْزِعُونَ للأَمْنِ وَإِنِ ادَّعُوا الإِسْلاَمَ وَتَلبَّسُوا بِهِ، فَمَا كَانَ مَقْصِدُ الإِسْلاَمِ يَوْمًا مَا إِزْهَاقَ الأَرْوَاحِ أَو إِهْدَارَ الأَمْوَالِ أَو تَرْوِيعَ الآمِنِينَ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِهِ تَكْرِيمَ الإِنْسَانِ وَصِيَانَةَ دَمِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ وَعَقْلِهِ وَضَمَانَ الحُرِيَّةِ الكَامِلَةِ لَهُ وَفْقَ ضَوَابِطِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ.
إِنَّ هَؤُلاَءِ المُخِلِّينَ بالأَمْنِ وَالمُزَعْزِعِينَ لَهُ لاَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَةِ الأَمْنِ وَعَظَمَتِهَا؛ إِمَّا لأَنَّهُم حَاقِدُونَ عَلَى هَذِهِ البِلاَدِ وَأَهْلِهَا يُرِيدُونَ لَهَا الدَّمَارَ وَالخَرَابَ، وَإِمَّا لأَنَّهُم أَلِفُوا نِعْمَةَ الأَمْنِ حَتَّى نَسُوا فَضْلَهَا وَمَعْنَاهَا، وَتَقَلَّبُوا في أَفْيَائِهَا حَتَّى غَفَلُوا عَنْ ضِدِّهَا، فَلَمْ يَعْرِفُوا لَهَا مَكَانَةً وَلاَ فَضْلاً، وَلَمْ يُقِيمُوا لَهَا وَزْنًا وَلاَ قَدْرًا، وَلاَ رَيْبَ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ النِّعْمَةِ مَنْ فَقَدَهَا، ولاَ يَعْرِفُ الإِسْلاَمَ مَنْ لاَ يَعْرِفُ الجَاهِلِيَّةَ.
أَلاَ فَلْيَعْلَمْ هَؤُلاءِ أَنَّهُم في الحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُزَعْزِعُونَ أَمْنَ أَنْفُسِهِم وَوَالِدِيهِم وَأُسَرِهِم قَبْلَ أَنْ يُزَعْزِعُوا أَمْنَ غَيْرِهِم مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ أَفْعَالِهِم تِلْكَ إِلاَّ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ وَالمُتَرَبِّصُونَ بِهَا الحَاقِدُونَ عَلَيْهَا.
كَمَا يَجِبُ عليْنَا ـ مَعَاشِرَ الإِخْوَةِ ـ أَنْ نَحْذَرَ مِنَ التَّرْوِيجِ لِمَا يَبُثُّهُ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ وأَذْنَابُهُم مِنَ العَلْمَانِيِّينَ والمَُنَافِقِينَ مِنْ إِلْصَاقِ التُّهَمِ بالمُلْتَزِمِينَ بِشَرْعِ اللهِ تعَالَى المُطَبِّقِينَ لِسُنَّةِ المُصْطَفَى ، وَوَصْفِهِم بالإِرْهَابِ، أَو رَمْي الجِهَادِ الإِسْلاَمِيِّ المَشْرُوعِ المَضْبُوطِ بِضَوَابِطِهِ الذِي هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلاَمِ بالإِرْهَابِ، فَإِنَّ الجِهَادَ في الإِسْلاَمِ إِنَّمَا شُرِعَ لأَسْبَابٍ وَجِيهَةٍ وَأَهْدَافٍ نَبِيلَةٍ سَامِيَةٍ وَحَالاَتٍ مَحْصُورَةٍ في رَدِّ عُدْوَانِ المُعْتَدِينَ والدِّفَاعِ عَنِ الأَرْضِ والنَّفْسِ وَالعِرْضِ وَمُعَاقَبَةِ مَنْ نَكَثَ العُهُودَ وَالمَواثِيقَ وَمُقَاتَلَةِ مَنْ مَنَعَ وَصُولَ دَعْوَةِ اللهِ إِلَى النَّاسِ وَنُصْرَةِ المَظْلُومِينَ المُسْتَضْعَفِينَ المُحَارَبِينَ في دِينِهِم. وَيَا سُبْحَانَ اللهِ! أَيَكُونُ الاعْتِدَاءُ عَلَى الشُّعُوبِ المُسْلِمَةِ واحْتِلاَلُهَا وَتَدْمِيرُهَا وَتَشْرِيدُ أَهْلِهَا وَإِبَادَتُهِم والاعْتِدَاءُ عَلَى أَعْرَاضِهِم وَأَمْوَالِهِم وَالزَّجُّ بِهِم في المُعْتَقَلاَتِ والسُّجُونِ مُقَاوَمَةً للإِرْهَابِ وَعَدْلاً مَشْرُوعًا، وجِهَادُ هَؤُلاءِ المُسْتَضْعَفِينَ وَدِفَاعُهُم عَنْ بِلاَدِهِم وأَنْفُسِهِم وأَعْرَاضِهِم وَمُمْتَلَكَاتِهِم وَوُقُوفُهُم في وَجْهِ المُعْتَدِي الغَاصِبِ إِرْهَابًا وَظُلْمًا مُحَرَّمًا؟! أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
يَقُوُلُ بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ الأَسْلَمِيُّ رضي اللهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَو سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ في سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدُرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا)) ، ثُمَّ يَأْمُرَهُ إِذَا لَقِيَ العَدُو أَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ ثَلاَثٍ؛ إِمَّا الإِسْلاَمُ، وَإِمَّا الجِزْيَةُ، وَإِمَّا المُقَاتَلَةُ. رواه مسلمٌ.
وَلَمَّا أَنْفَذَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْثَ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رضي اللهُ عنهما إِلَى الرُّومِ قَالَ: (إنِِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلاَ صَبِيًّا، وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا، وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلاَ تَعْقُرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأْكلَةٍ، وَلاَ تُغَرِقَنَّ نَخْلاً وَلاَ تُحَرِقنَّهُ، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَجْبُنُوا، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُم في الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُم وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُم لَهُ). رواه البيهقيُّ.
فَمَا كَانَ أَتْبَاعُ الإِسْلاَمِ الحَقِّ يَوْمًا مَا مُفْسِدِينَ في الأَرْضِ أَو مُرْهِبِينَ لإِخْوَانِهِم المُسْلِمِينَ أَو المُسَالِمِينَ لَهُم أَو مُرَوّعِينَ للآمِنِينَ، خَابُوا وَكَذَبُوا واللهِ، إِنَّمَا الإِرْهَابُ الحَقِيقِيُّ مَا صَنَعُوهُ هُمْ ونَظَّمُوهُ وَقَامُوا بِهِ ضِدَّ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ في فِلَسْطِينَ وفي الشِّيشَانِ وفي أَفْغَانِسْتَانَ وفي العِرَاقِ وفي غَيْرِهَا مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ وَدِيَارِ الإِسْلاَمِ المَنْكُوبَةِ. وَمَا هَذِهِ الحَوَادِثُ التي تَقَعُ في بِلاَدِ المُسْلِمِينَ في المَمْلَكَةِ وغَيْرِهَا إِلاَّ مِنْ صُنْعِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ وَأَتْبَاعِهِم وتَدْبِيرِهِم وتَخْطِيطِهِم وإِنْ أَلْصَقُوهَا بالمُسْلِمِينَ وَوَصَمُوهُم بِهَا وادَّعَوا كَذِبًا وزُورًا وَبُهْتَانًا أَنَّهَا مِنْ فِعْلِ المُسْلِمِينَ:
فََمَا إِرْهَابُ هَذَا العَصْرِ مِنَّا وَلاَ فِينَا وَ لاَ هُوَ مِنْ هُدَانَا
دَعَاوَى مِنْ عَدُّو اللَّهِ يَرْمِي بأَسْهُمِهَا لِيُوقِفَ مُرْتَقَانَا
وَكَمْ مِنْ وَاهِنٍ في الأَرْضِ يَحْبُو ويَحْسَب أَنَّهُ بَلَغَ العَنَانَا
أَمَا عَلِمَ الْمُكَابِرُ أَنَّ فِينَا كِتَابَ اللهِ يَمْنَحُنَا البَيَانَا
واعْلَمُوا ـ رَعَاكُم اللهُ ـ أَنَّ هَذِهِ البِلاَدَ المُبَارَكَةَ قَامَتْ عَلَى التَّلاَحُمِ بَيْنَ الوُلاَةِ والدُعَاةِ بِدَعْوَةِ الإِمَامَيْنِ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَهَّابِ عَلَيْهِمَا رَحْمَةُ اللهِ، واتَّخَذَتْ مِنْ مَنْهَجِ التَّوْحِيدِ والإِسْلاَمِ دُسْتُورًا لَهَا، ولَعَلَّ هَذَا هُوَ سِرُّ تَقَدُّمِهَا ورُقِيِّهَا وأَمْنِهَا وأَمَانِهَا بإِذِْن اللهِ تَعَالَى، وَلَنْ يَصْلُحَ أَمْرُ آخِرِ هَذِهِ البِلاَدِ أَبَدًا إِلاَّ بِمَا صَلَحَ بِهِ أَمْرُ أَوَّلِهَا.
فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، والْزَمُوا صِرَاطَهُ المُسْتَقِيمَ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّةِ رَسُولهِِ الكَرِيمِ، تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ...
(1/4856)
الثبات على دين الله تعالى: فضله وأسبابه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
5/4/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الثبات على دين الله تعالى. 2- هدي النبي ديمة. 3- عزة الثبات على دين الله. 4- مدار الثبات على دين الله. 5- وسائل الثبات على الدين. 6- الثبات على الدين هو حقيقة الإسلام. 7- أهمية الثبات في العصر الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أَيُّهَا النَّاسُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى أَنْ هَدَاكُمْ للإِسْلاَمِ، وَجَعَلَكُمْ مِنْ أُمَّةِ خَيرِ الأَنَامِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى وَمُلاَزَمَةَ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ وَالمُدَاوَمَةَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالحَذَرَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ دَلِيلُ صِدْقِ الإِيمَانِ وَثَمَرَةُ الهِدَايَةِ وَسَبَبُ حُصُولِ الخَيرَاتِ وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ وَالوُصُولِ إِلَى أَعْلَى المقَامَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَتَحْقِيقِ الكَرَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ وَمَرْضَاةُ رَبِّ العَالَمِينَ، وَيَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ وَرَاحَةَ البَالِ وَبَرْدَ اليَقِينِ؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]، أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].
إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الرُّجُولَةُ الحَقَّةُ وَالانْتِصَارُ العَظِيمُ فِي مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَهُوَ الضَّمَانُ بِإِذْنِ اللهِ للحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، وَتُعْلِنَ وَقُوفَهَا إِلَى جَانِبِهِم في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30-32]. قَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : (لَمْ يُشْرِكُوا باللهِ شَيئًا، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيرِهِ، ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللهَ رَبُّهُم)، وَقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ واجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ".
مَا أَجْمَلَ الطَّاعَة إِذَا أُتْبِعَتْ بِالطَّاعَةِ، وَمَا أَعْظَمَ الحَسَنَة وَهِي تَنْضمُّ إِلَى الحَسَنَةِ لِتُكَوِّنَ سِلْسِلَةً مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي تَرْفَعُ العَبْدَ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلَى، وَتُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ، وَمَا أَتْعَسَ المَرْء وَأَقَلَّ حَظّهِ مِنَ الإِسْلاَمِ أَنْ يَهْدِمَ مَا بَنَى، وَيُفْسِدَ مَا أَصْلَحَ، وَيَرْتَدَّ إِلَى حَمْأَةِ المَعْصِيَةِ وَظُلْمَةِ الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّةَ الإِيمَانِ وَحَلاَوَةَ الطَّاعَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ المُصْطَفَى فِي صَلاَتِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ)) رواه النسائيُ وَأحمدُ والترمذيُّ وسندُهُ قويٌّ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ المُدَاوَمَةُ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَو كَانَتْ قَلِيلَةً؛ سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيئًا؟ قَالَتْ: لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يُطِيقُ؟! متفقٌ عليه. وَيَقُولُ : ((أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)) متفقٌ عليه.
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "أَبَى قَومٌ المُدَاوَمَةَ، واللهِ مَا المُؤْمِنُ بالذِي يَعْمَلُ الشَّهْرَ أو الشَّهْرَينِ، أو عَامًا أَو عَامَينِ، لاَ وَاللهِ مَا جُعِلَ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلٌ دُونَ المَوتِ"، ثُمَّ قَرأَ قَولَ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
وَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الطَّاعَةِ وَلُزُومَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَظِيمٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ المُغْرِيَاتِ وَتَتَابُعِ الشَّهَوَاتِ وَكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَضَعْفِ المُعِينِ وَكَثْرَةِ الفِتَنِ التِي أَخْبَرَ عَنْهَا المُصْطَفَى بِقَولِهِ: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)) رواه مسلم.
وَالنَّفْسُ الثَّابِتَةُ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى تَحْتَاجُ إِلَى المُرَاقَبَةِ التَّامَّةِ وَالمُلاَحَظَةِ الدَّائِمَةِ وَالأَطْرِ عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ وَالبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الهَوَى وَالمُجَاوَزَةِ وَالطُّغْيَانِ؛ وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ أَرْشَدَ النبيُّ الكَرِيمُ أُمَّتَهُ بِقَولِهِ: ((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا)) رواه مسلم، وَبِقَولِهِ : ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا)) متفق عليه، وَالسَّدَادُ هُوَ حَقِيقَةُ الاسْتِقَامَةِ وَالثََّبَاتِ، وهُوَ الإِصَابَةُ في جَمِيعِ الأَقْوَالِ والأَعْمَالِ والمَقَاصِدِ. وأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وأَجَلُّ قَولُ الحَقِّ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6]. وَهُوَ تَوجِيهٌ إِلَهِيٌّ كَرِيمٌ لِجَبْرِ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ وقُصُورٍ إِنْسَانِيٍّ.
وَمَدَارُ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ، هُمَا حِفْظُ القَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ وحَرَكَاتِهِ وسَكَنَاتِهِ، ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا. وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ قَالَ: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) ، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النبيَّ قَالَ: ((لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)) ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَأَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: ((لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلاَبًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا)).
وَإِنَّ للثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِهِ أَسْبَابًا وَأَخْلاَقًا، مَتَى مَا أَخَذَ بِهَا المُسْلِمُ وَتَخَلَّقَ بِهَا وَحَرِصَ عَلَيهَا ثَبَّتَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى دِينِهِ، وَعَصَمَهُ مِنَ الحَورِ بَعْدَ الكَورِ وَالضَّلاَلِ بَعْدَ الهُدَى.
فَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَسْبَابِ الإِيمَانُ الصَّادِقُ باللهِ تَعَالَى وَالاعْتِصَامُ بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِمَا عِلْمًا وَعَمَلاً، فَإِنَّهُمَا النُّورُ وَالضِّيَاءُ اللَّذَينِ يُهْتَدَى بِهِمَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُرْجَعُ إِلَيهِمَا عِنْدَ المُلمَّاتِ، وَيُعْتَصَمُ بِهِمَا وَقْتَ الفِتَنِ مِصْدَاق مَا كَانَ النَّبِيُّ يُذَكِّرُ أُمَّتَهُ بِهِ قَائِلاً: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَينِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)) رواه مالكٌ والحاكمُ بسندٍ حسنٍ.
وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الحِكَمِ العَظِيمَةِ التِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللهِ التَّثْبِيتُ عَلَى الحَقِّ؛ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان: 32]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102].
فَالاعْتِصَامُ بالقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَحِفْظُهُ وَمُدَارَسَتُهُ وَالقِيَامُ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ وَزِيَادَةِ الإِيمَانِ؛ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وَمُعَالَجَتِهِ لأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء: 82]، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى القَصَصِ الحَقِّ الذِي يُسَلِّي المُؤْمِنِينَ وَيُبَشِّرُهُم بالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ وَيُبَيِّنُ عَاقِبَةَ المُجْرِمِينَ المُكَذِّبِينَ المُحَارِبِينَ للهِ وَرُسُلِهِ وَالمُؤْمِنِينَ عَبْرَ التَّأْرِيخِ؛ وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى كَثْرَةُ العِبَادَةِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَو قَلَّتْ وَالاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ وَالحَذَرُ مِنَ المَعَاصِي وَالمُبْتَدَعَاتِ وَالاسْتِجَابَةُ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَالانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ وَالعَمَلُ بِمَا يُوعَظُ بِهِ المَرْءُ مِنْ خِلاَلِ آيَاتِ القُرْآنِ وَنُصُوصِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِمَّا يُقَوِّي اللهُ تَعَالَى بِهَا قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ، لِتُصْبِحَ ثَابِتَةً رَاسِخَةً، لاَ يُزَعْزِعُهَا إِرْجَافُ المُرْجِفِينَ وَلاَ تَهْوِيلُ المُبْطِلِينَ؛ وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وَلَو أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66]، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:17]. عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ، فَذَلِكَ قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )) رواه مسلمٌ والبخاريُّ مختصرًا. وَقَالَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَمَّا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيُثَبِّتُهُم بِالخَيرِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِي الآخِرَةِ فِي القَبْرِ.
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَالاطْمِئْنَانُ إِلَى خِيرَتِهِ للعَبْدِ، وَأَنَّ الخَيرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ، وَالشَّرَّ فِيمَا صَرَفَهُ عَنْهُ؛ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]، وَالثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ لِعِبَادِهِ؛ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء: 122]، وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بالبَاطِلِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ وَشَوكَتِهِم فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا تَحْتَ قَهْرِ اللهِ وَقُوَّتِهِ؛ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ، وَمَعْرِفَةُ زَيفِ البَاطِلِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ مَهْمَا عَلاَ وَارْتَفَعَ، فَلاَ يَسْتَوِي مَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَولاَهُ وَنَاصِرَهُ مَعَ مَنْ كَانَ إِبْلِيسُ مَولاَهُ وَقَائِدَهُ.
وَبِمِثْلِ هَذَا كَانَ المُصْطَفَى يُثَبِّتُ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ فِي أَشَدِّ الظُّرُوفِ وَأَصْعَبِ المَواقِفِ، فَالصَّحَابَةُ يُعَذَّبُونَ أَشَدَّ العَذَابِ وَهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ مُطَارَدُونَ مُشَرَّدُونَ، قِلَّة يُنَكِّلُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ القُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ يُبَشِّرُ المُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ وَهَزِيمَةِ المُشْرِكِينَ؛ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45، 46]، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173].
وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الدُّعَاءُ وَالإِلْحَاحُ عَلَى اللهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ حَتَّى المَمَاتِ؛ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ، وَمَا كَانَ قَولَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 147، 148]. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) ، فَقَالَتْ لَهُ زَوجُهُ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ((يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ)) رواه الترمذيُّ وأحمدُ وسندُهُ حسنٌ.
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ المُدَاوَمَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ الصِّلَةُ العُظْمَى بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَمَعَهُ الفِئَةُ التِي لاَ تُغْلَبُ وَالحَارِسُ الذِي لاَ يَنَامُ وَالهَادِي الذِي لاَ يَضِلُّ. وَتَأَمَّلْ ـ أَخِي المُسْلِمُ ـ كَيفَ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الذِّكْرَ بِالثَّبَاتِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي مَوقِفٍ مِنْ أَشَدِّ المَواقِفِ وَأَخْطَرِهَا؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45].
وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَلُزُومِ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ الذِي لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينَ يَدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ سُلُوكُ سَبِيلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَأَتْبَاعِ الدَّلِيلِ وَالأَثَرِ، وَالاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِم عِلْمًا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا، فَإِنَّ الحَيَّ لاَ تُؤْمَنُ عَلَيهِ الفِتْنَةُ، وَإِنَّ أَهْلَ البِدَعِ وَالخَارِجِينَ عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا فِي الحَيَاةِ وَعِنْدَ المَمَاتِ.
وَعَلَى المُسْلِمِ البَاحِثِ عَنِ الثَّبَاتِ وأَسْبَابِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مُرَافَقَةِ الصَّالِحِينَ وَالالْتِفَافِ حَولَ العُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ العَامِلِينَ وَالدُّعَاةِ الصَّادِقِينَ الذِينَ يُثَبِّتُونَ النَّاسَ عِنْدَ الفِتَنِ وَيُؤَمِّنُونَهُم فِي أَزْمِنَةِ الخَوفِ وَالرَّهْبَةِ، وَيُكْثِرَ مِنْ مُجَالَسَتِهِم، فَإِنَّ مُلاَزَمَتَهُم وَمُجَالَسَتَهُم تَزِيدُ الإِيمَانَ وتُثَبِّتُ الأَقْدَامَ عَلَى طَرِيقِ الرِّحْمَنِ.
وَهَا هُوَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ النَّبِيِّ الأَيدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه وأحمدُ وسندُهُ صحيحٌ. وَلاَ يُنْسَى مَوقِفُ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ حِينَ ثَبَتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُذَكِّرًا النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى الذِي أَخْبَرَ عَنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ، وَحِينَ ثَبَتَ عَلَى الحَقِّ فِي وَجْهِ المُرْتَدِّينَ وَحَارَبَهُم، حتَّى نَصَرَ اللهُ بِهِ الدِّينَ وَقَمَعَ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ الذِينَ آمَنُوا فِي الفِتَنِ وَشَدِّ أَزْرِهِم عِنْدَ المِحَنِ مَا وَقَعَ للإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الذِي نَصَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ فِي فِتْنَةِ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمَّا صَارَ إِلَى رَحْبَةِ طَوقٍ بِالشَّامِ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلاَ تَكُنْ شُؤْمًا عَلَيهِم، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ اليَومَ فَإِيَّاكَ أَنْ تُجِيبَهُم إِلَى مَا يَدْعُونَكَ إِلَيهِ، فَيُجِيبُوا فَتَحْمِلَ أَوزَارَهُم يَومَ القِيَامَةِ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا بَينَكَ وَبَينَ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ تُقْتَلَ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ كَلاَمُهُ مِمَّا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذِي يَدْعُونَنِي إِلَيهِ.
وَقَالَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوحٍ الذِي صَحِبَهُ فِي السِّجْنِ وَصَمَدَ مَعَهُ فِي الفِتْنَةِ: مَا رَأَيتُ أَحَدًا عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَقَدْرِ عِلْمِهِ أَقْوَمَ بِأَمْرِ اللهِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ نُوحٍ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خُتِمَ لَهُ بِخَيرٍ، قَالَ لِي ذَاتَ يَومٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اللهَ اللهَ إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي، أَنْتَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الخَلْقُ أَعْنَاقَهُم إِلَيكَ لِمَا يَكُونُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهِ وَاثْبُتْ لأَمْرِ اللهِ.
فَكَانَ لِمِثْلِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي ثَبَاتِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى قَولَةِ الحَقِّ: إِنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخْلُوقٍ، حَتَّى ظَهَرَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانَ يُرَوِّجُ لَهُ أَهْلُ البِدَعِ مِنَ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَانْقَمَعَتِ الفِتْنَةُ، وَخَرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ السِّجْنِ شَامِخًا عَزِيزًا مُهَابًا مُكْرَمًا، مَذْكُورًا بِهَذَا المَوقِفِ العَظِيمُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ وَاصِفًا شَيخَهُ شَيخَ الإِسْلاَمِ ابْنَ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى: "وَعَلِمَ اللهُ مَا رَأَيتُ أَحَدًا أَطْيَبَ عَيشًا مِنْهُ قَطُّ، مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ العَيشِ وَخِلاَفِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ ضِدّهَا، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالإِرْهَاقِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيشًا، وَأَشْرَحِهِم صَدْرًا، وَأَقْوَاهُم قَلْبًا، وَأَسَرِّهِم نَفْسًا، تَلُوحُ نَضْرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ، وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الخَوفُ وَسَاءَتْ بِنَا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ أَتَينَاهُ، فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعُ كَلاَمَهُ فَيَذْهَبُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبُ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً".
وَهَكَذَا يَكُونُ دَورُ الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الفِتَنِ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِم وَنُفُوسِهِم عِنْدَ المِحَنِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اقْتَفَى.
أَمَّا بَعْدُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَعَاكُمُ اللهُ ـ أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى هُوَ حَقِيقَةُ الإِسْلاَمِ؛ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ فِي حَقِيقَتِهِ إِيمَانٌ باللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتِقَامَةٌ وَثَبَاتٌ عَلَيهِ حَتَّى المَمَاتِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَرَبَاطَةِ الجَأْشِ وَالتَّأَسِّي بِأَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيهِمِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، الذِينَ ضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ وَأَصْدَقَهَا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الدِينِ وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِ اللهِ تَعَالَى، رُغْمَ مَا نَالَهُم مِنَ الأَذَى وَمَا لَحِقَهُم مِنَ العَذَابِ وَالضَّرَرِ، مِمَّا سَطَّرَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى قُرْآنًا يُتْلَى إِلَى يَومِ القِيَامَةِ فِي صَبْرِ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَثَبَاتِهِم عَلَى دِينِ اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِهِ.
وَإِنَّ عَلَى المُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الثَّبَاتِ سِيَّمَا فِي هِذَا العَصْرِ؛ عَصْرِ التَّحَدِّيَاتِ وَالفِتَنِ وَالمُغْرِيَاتِ، فَبِالثَّبَاتِ يَعِيشُ المُسْلِمُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ ثَابِتَ الأَرْكَانِ، عَظِيمَ القِيَمِ، مُحَقِّقًا أَسْمَى غَايَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلاَقِ الثَّابِتِينَ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الصَّبْرُ، فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى التَّحَصُّنِ بِالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّهُ يَجْلُو العَمَى، وَيُبَدِّدُ الشُّبُهَاتِ، وَيَقُودُ صَاحِبَهُ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ الذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلاَ الْتِبَاسَ، وَأَنْ يَتَأَسَّى بِمَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ مَعَ شِدَّةِ العَذَابِ الذِي لَحِقَهُمُ.
حَدَّثَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لَمَّا كَانَتْ اللَّيلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ وَأَولاَدِهَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَينَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَونَ ذَاتَ يَومٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى ـ يَعْنِي المِشْطُ ـ مِنْ يَدَيهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَونَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لاََ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيرِي؟! قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَولاَدُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَينَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَولاَدِهَا فَأُلْقُوا بَينَ يَدَيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ)) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيهِ السَّلاَمُ وَصَاحِبُ جُرَيجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ. رواه أحمدُ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ إِيمَانِ هَذِهِ المَرْأَةِ، وَمَا أَشَدَّ ثَبَاتِهَا، لَقَدْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي قَصْرِ المَلِكِ مُكَرَّمَةً مُعَزَّزَةً، فَأَخْرَجَهَا الإِيمَانُ، وَمَلَكَ عَلَيهَا أَمْرَهَا، وَفِي سَبِيلِ اللهِ يَسْتَرْوِحُ المُؤْمِنُونَ العَذَابَ، وَيُوَاجِهُوَن الطُّغَاةَ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَلْطُفُ بِهِم، وَيُثَبِّتُهُم عَلَى الحَقِّ بِالكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ العَادَاتِ، وَيُكْرِمُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]. وَلَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى لأَصْحَابِهِ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَينِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَو عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ)) رواه البخاريُّ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ...
(1/4857)
مرض قسوة القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
16/6/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة القلب. 2- صحة القلب وسقمه. 3- مرض القسوة. 4- مظاهر قسوة القلب. 5- قسوة القلب عقوبة ربانية. 6- فضل اللين والرحمة. 7- ذم الله تعالى القساة قلوبهم. 8- علاج قسوة القلب. 9- سعة الرحمة في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، أوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِِ عَزَّ وَجَلَّ؛ اتَّقُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلاَمِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَزِنُوا أَعْمَالَكُم، وتَزَيَّنُوا للعَرْضِ الأَكْبَرِ عَلَى اللهِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُم خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، العَاقِلُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، القَلْبُ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الإِنْسَانِ، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى وِعَاءً للخَيرِ وَالرَّشَادِ، ذَاكِرًا للهِ عَامِلاً لَهُ، سَاعِيًا إِلَيهِ، قَائِدًا للجَوَارِحِ وَالأَرْكَانِ، أَوْ وعَاءً للشَّرِّ وَالفَسَادِ، غَافِلاً عَنِ اللهِ، عَامِلاً للشَّيطَانِ، سَاعِيًا إِِلَيهِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِ دُعَاءِ النبيِّ : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) رواه الترمذيُّ وحسَّنه وأحمدُ.
وَللقُلُوبِ ـ عباد الله ـ حَيَاةٌ كَحَيَاةِ الجَسَدِ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَجْمَلُ، وَلَهَا أَمْرَاضٌ كَأَمْرَاضِ الجسَدِ، بَلْ أَعْتَى مِنْهَا وَأَقْسَى، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاةِ القَلْبِ تَكُونُ حَيَاةُ الجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَتَصْلُحُ الأَعْمَالُ، وَتُنَالُ الدَّرَجَاتُ، وَتُغْفَرُ الخَطِيئَاتُ، وَبِقَدْرِ فَسَادِ القَلْبِ وَاسْتِحْكَامِ أَمْرَاضِهِِ تَكُونُ عَاهَةُ الجَسَدِ وَفَسَادُ الرُّوحِ وَطَلاَحُ الأَعْمَالِ وَالعَبُّ مِنَ السَّيِّئَاتِ.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِِ عَنْ حُذَيفَة بنِ اليَمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَينِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)).
عِبَادَ اللهِ، وَأَخْطَرُ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَعْتَاهَا عَلَى ابْنِ آدَمَ مَرَضُ القَسْوَةِ الذِي يَنْتَظِمُ عَدَدًا مِنَ الأَخْلاَقِ القَبِيحَةِ وَالأَدْوَاءِ الرَّذِيلَةِ المُتَمَثِّلَةِ في العُنْفِ والغِلْظَةِ والفَضَاضَةِ والإِعْرَاضِ عَنِ الحَقِّ وَعَدَمِ الخُشُوعِ للهِ وعَدَمِ الإحْسَاسِ بِآهَاتِ المُسْلِمِينَ وَآلاَمِ الضُّعَفَاءِ وَالمَسَاكِينَ، وَتِلْكَ جَمِيعًا وَيلاَتٌ وَمِحَنٌ وَبَلاَيَا عَلَى الأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ، تُزِيلُ النِّعَمَ، وتَجْلِبُ النِّقَمَ، وَتَقُودُ إِلَى الزَّوَالِ وَالفَنَاءِ، ثُمَّ الجَحِيمِ والسَّعِيرِ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ وَمَآلِهِم. قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ : (أَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ العَينِ، وَقَسَاوَةُ القَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا).
القَسْوَةُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ مُنَاقَضَةٌ صَرِيحَةٌ للرَّحْمَةِ وَاللِّينِ والعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، تَتَفَاوَتُ في القُلُوبِ وَالنُّفُوسِ ارْتِقَاءً وهُبُوطًا وَقِلَّةً وكَثْرَةً؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ صَارَ قَلْبُهُ أَقْسَى مِنَ الصَّخْرِ الصَّلْدِ، لاَ يَحِنُّ لِمُسْتَصْرِخٍ، وَلاَ يَعْطِفُ عَلَى مُتَأَلِّمٍ، وَلاَ يَلِينُ لِمُتَوَجِّعٍ، يَقَعُ أَمَامَهُ مِنَ المَوَاقِفِ العَظِيمَةِ التِي تَنْهَدُّ لِمِثْلِهَا الجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وتَتَفَطَّرُ لَهَا الأَفْئِدَةُ السَّلِيمَةُ، فَلاَ يُحَرِّكُ سَاكِنًا، قَدِ انْعَدَمَتْ في نَفْسِهِ عَاطِفَةُ الإحْسَاسِ بآلام الآخَرِينَ وَحَاجَاتِهِم حَتَّى أَوْرَثَتْهُ جَفَافًا نَفْسِيًّا، يَنْعَدِمُ مَعَهُ الشُّعورُ بالوَاجِبِ الإِنْسَانِيِّ الفِطْرِيِّ نَحْوَ الخَلْقِ أَجمَعِينَ. أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]. قَالَ أبُو هُرَيرَةَ : شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: ((إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِم الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ)) رواه أحمدُ.
وَالقَسْوَةُ في القَلْبِ هِي غِلْظَتُهُ ونَبْوَتُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهُ، وَهِي عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَصُبُّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى المُعْرِضِينَ عَنْ شَرْعِهِ المُبْتَعِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ وَدِينِهِ؛ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [المائدة: 13]. قَالَ مَالِكُ بنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللهُ: (مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بعُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، ومَا غَضِبَ اللهُ عَلَى قَوْمٍ إِلاَّ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِم).
فَالقَسْوَةُ إِذًا هِي ذَهَابُ الرَّحمَةِ واللِّينِ والخُشُوعِ مِنَ القَلْبِ، إِذِ اللِّينُ هُوَ سُهُولَةُ الانْقِيَادِ والتَّلَطُّفُ مَعَ النَّاسِ مُعَامَلَةً وتَحَدُّثًا، وَرِفْقًا بِهِمْ وَالْتِمَاسًا للعُذْرِ لَهُم والبُعْدِ عَنْ تَعْنِيفِهِم؛ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159].
وَاللِّينُ مِنْ صِفَاتِ القُلُوبِ المُؤْمِنَةِ البَرَّةِ الرَّحِيمَةِ، يُورِثُ الدَّرَجَاتِ العُلاَ، ويَحُطُّ الخَطَايَا، ويُوجِبُ الجَنَّةَ؛ قَالَ : ((حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ)) رواه أحمدُ والترمذيُّ وإسنادُهُ صحيحٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ وقُوَّةِ الإِسْلاَمِ، يَعْطِفُ قُلُوبَ النَّاسِ وَيَجْمَعُهُم حَوْلَ مَنْ يُلِينُ لَهُم جَانِبَهُ، وهُو أَدْعَى للإِجَابَةِ والقَبُولِ وَالسَّمَاحَةِ والمَوَدَّةِ، وَتِلْكَ كُلُّهَا خِلاَلٌ عَظِيمَةٌ، تَسْتَدْعِي رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا يَرَْحُمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ. عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ؛ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لاَ يُفِيئُهَا شَيءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً)) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلمِ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23]. قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ: "هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بأَنَّهُ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُم، وَتَبْكِي أَعْيُنُهُم، وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم إِلَى ذِكْرِ اللهِ، ولَمْ يَنْعَتْهُم بِذَهَابِ عُقُولِهِم، والغَشَيَانِ عَلَيهِم، إِنَّمَا هَذِهِ في أَهْلِ البِدَعِ".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، لَقَدْ ذَمَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَحَذَّرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَطُولَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ في المَعَاصِي وَالغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهُم؛: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]. قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ : (مَا كَانَ بَينَ إِسْلاَمِنَا وَبَينَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ) رواه مسلم.
نَعَمْ عِبَادَ اللهِ، إِنَّهَا السُّنَنُ اِلإلَهِيَّةُ الكَوْنِيَّةُ التِي تَجْرِي في قُلُوبِ العِبَادِ ونُفُوسِهِم؛ وَهِي أَنَّ مَنِ اسْتَغْرَقَ في المَعَاصِي وَالآثَامِ ونَقَضَ مَوَاثِيقَهُ مَعَ اللهِ طَرَدَهُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ التَّقْوَى، وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَهَابِطِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ ويَعْلُوهُ الرَّانُ والظُّلْمَةُ.
إِنَّ أَيَّةَ أُمَّةٍ يَطُولُ عَلَيهَا العَهْدُ وَهِي تَتَقَلَّبُ في بحْبُوحَةِ النِّعَمِ عَلَى فِسْقٍ وَمَعْصِيَةٍ وَنِسْيَانٍ لِرَبِّهَا وَابْتِعَادٍ عَنْ دِينِهَا لاَ تَلْبَثُ أَنْ تعْتَرِيَهَا أَمْرَاضُ النُّفُوسِ وَأَدْوَاءُ القُلُوبِ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهَا، فَلاَ تَخْشَعُ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].
إِنَّهَا ثَلاَثُ حَالاَتٍ مَفْقُودَةٌ في القَاسِيَةِ قُلُوبُهُم، صَوَّرَتْهَا ثَلاَثُ حَالاَتٍ للصُّخُورِ القَاسِيَاتِ؛ فَمِنَ الحِجَارَةِ القَاسِيَةِ مَا تَتَفَجَّرُ مِنْهُ يَنَابِيعُ المَاءِ الثَّرَةِ بالأَنْهَارِ التِي تَنْفَعُ النَّاسَ وَتَجْرِي في الأَرْضِ، وَمِنْهَا مَا يَتَشَقَّقُ فيَخْرُجُ مِنْهُ مَاءٌ غَيرُ ثَارٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَِمِنْهَا مَا يَهْبِطُ بِتَأْثِيرِ هَزَّاتٍ وعَوَارِضَ إِلَى مَواطِنِ التَّواضُعِ والخُشُوعِ للهِ. أَمَّا القَاسِيَةُ قُلُوبُهُم فَلاَ تَسْتَجِيبُ لأَيِّ مُؤَثِّرٍ يَسْتَثِيرُ الرَّحْمَةَ، بَلْ تَظَلُّ في قَسْوَتِهَا وَاسْتِكْبَارِهَا، فَلاَ تَذِلُّ وَلاَ تَخْضَعُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَلاَ تَعْرِفُ للرَّحْمَةِ واللِّينِ طَرِيقًا. قَالَتْ عَائِشَةُ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟! فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟!)) رواه البخاري ومسلم، وَقَالَ : ((إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)) رواه البخاريُّ.
إِنَّهَا الرَّحْمَةُ التِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عبادِهِ الرُّحَمَاءَ؛ قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ : سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمِ يَقُولُ: ((لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ)) رواه الترمذيُّ وحسَّنه وأحمدُ وأبو داود. وَقَالَ جَرِيرُ بنُ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيُّ : قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لاَ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ)) رواه البخاري ومسلم.
اللَّهُمَّ وفِقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا في رِضَاكَ، واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الرُّحَمَاءِ، وارْحَمْنَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَيكَ، وَلاَ تَجْعَلْ فِينَا وَلاَ مَعَنَا شَقِيًّا وَلاَ مَحْرُومًا، يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ؛ إِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ عَلَى إِحْسَانهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِِهِ وَامْتِنَانِِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ الدَّاعِِي إِلَى رِضْوَانِهِِِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِِ وَعَلَى آلهِِِ وَأَصْحَابهِِ وَإِخْوَانِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَانٍٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، فَإِنَّ تَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَبَبُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ قَسْوَةَ القَلْبِ إِنَّمَا تُلَيَّنُ بالإِيمَانِ باللهِ تَعَالَى، فَبِذِكْرِ اللهِ تَرِقُّ الأفْئِدَةُ، وَبِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَخْشَعُ النُّفُوسُ لِخَالِقِهَا، وَتَلِينُ القُلُوبُ أَمَامَ بَارِئِهَا؛ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد: 28، 29]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2-4].
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ العَزِيزِ لَهُوَ خَيرُ مَا تَرِقُّ بِهِ الأَفْئِدَةُ وتَخْشَعُ لَهُ القُلُوبُ؛ وَقَدْ قَالَ : ((لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيرِ ذِكْرِ اللهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي)) رواه الترمذيُّ ومالكٌ.
عِبَادَ اللهِ، لقَدْ تَسَامَتْ رَحْمَةُ الإِسْلاَمِ حَتَّى شَمِلَتِ الحَيَوَانَاتِ في غَابِهَا وَالطَّيرَ في أَعْشَاشِهَا وَسَائِرَ الكَائِنَاتِ في وَكْرِهَا، أَفَيَكُونُ الإِنْسَانُ أَبْعَدَ شَيءٍ عَنْهَا؟! قَالَ عَبْدُ اللهُ بنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَينَا حُمَرَةً ـ وهي طَائِرٌ صغِيرٌ ـ مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ فَقَالَ: ((مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيهَا)). وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: ((مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟)) قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: ((إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ)) رواه أبو داود. وَقَالَ أبُو هُرَيرَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بالرَّحْمَةِ مِنْكَ ـ أَخِي المُسْلِمَ ـ وَالِدَاكَ اللَّذَانِ رَبَّيَاكَ صَغِيرًا، سَهِرَا وَتَعِبَا مِنْ أَجْلِكَ، فَاتَّقِ اللهَ فيهِمَا، ارْحَمْهُمَا إِنْ كَانَا عَلَى قَيدِ الحَيَاةِ، لاَ تُؤَاخِذْهُمَا، وَلاَ تُهِنْهُمَا، وَأَكْرِمْهُمَا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
وَكَذَا الأَوْلاَدُ وَالزَّوجَةُ وَسَائِرُ أَهْلِكَ وَإِخْوَانِكِ وَأَقْرِبَائِكَ، فَهُمْ أَوْلَى مِنْكَ بِالرَّحْمَةِ وَأَحْوَج إِلَيهَا؛ فَقَدْ قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ : مَا رَأَيتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَينًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ. رواه مسلم.
وَكَذَا مَنْ تَحْتَ يَدِكَ أَوْ قَلَّدَكَ اللهُ أَمْرَهُ؛ مِنْ خَدَمٍ وَعَامِلٍ ومُوَظَّفٍ وَرَعِيَّةٍ، فَهَؤُلاَءِ جَمِيعًا هُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ مِنْكَ، فَلاَ تَكُنْ قَاسِيًا فَضًّا غَلِيظًا فَتَكْسِرُ، وَلاَ ضَعِيفًا خَوَّارًا جَبَانًا فَتُكْسَرُ، فَالإِسْلاَمُ دِينُ العَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالوَسَطِ، وَقَدْ قَالَ : ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)) رواه مسلم.
فَتَحَلّوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ بِالرَّحْمَةِ وَالعَطْفِ، تَراحَمُوا فِيمَا بَينَكُمْ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَخَلْقِهِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيهِ في قَوْله عَزَّ مِنْ قَائلٍ عَلِيمٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقَالَ : ((مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ...
(1/4858)
الكلمة الطيبة صدقة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
16/10/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الكلام وخطورته. 2- منزلة اللسان. 3- تهاون الناس بجارحة اللسان. 4- شروط استقامة الكلام وسلامته. 5- من آداب الكلام. 6- مجالات الكلام الطيب. 7- فضل الكلمة الطيبة. 8- مجالات الكلام الخبيث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفْسِيِ بِتَقْوَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَهِي وَصِيَّةُ الغَنِيِّ القَهَّارِ العَزِيزِ الجَبَّارِ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ الأَبْرَارِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيُّها الناس، للألفاظِ والكلماتِ دلائلُها ومعانيها التي تحملُ في طيَّاتها الخير فيُجازى عليها الإنسانُ بالإحسان إحسانًا، أو تحملُ في طيَّاتها الشرَّ والفُحْشَ والبذاءَ فيُجازى عليها بالسيئات المضَاعَفَةِ إلى يوم المعاد.
وإنَّ أعظمَ مثلٍ توضيحيٍّ لذلك ما ضَرَبه اللهُ تعالى في كتابه الكريم في قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24-27].
عباد الله، إنَّ جارحةَ اللسانِ لها أعظمُ الأثرِ في حياةِ المسلمِ دينًا ودنيا، ربطَ اللهُ عليها الفلاحَ، وعلَّقَ عليها السعادةَ أو الشقاوةَ في العاجلِ والآجلِ، ورتَّبَ عليها الجزاءَ والعقابَ. بلكمةٍ واحدةٍ يدخلُ العبدُ في الدين والملَّة؛ ألا وهي كلمةُ التوحيدِ الخالصِ: "لا إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله"، وبكلمةٍ واحدةٍ يتبوّأُ العبدُ في الجنة غُرفًا من فوقها غُرفٌ مبنيّةٌ تجري من تحتها الأنهار، وبكلمةٍ أُخرى يزلُّ العبدُ في النار أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب، ولرُبَّ كلمةٍ أوردت صاحبَها المواردَ، فندمَ عليها ولاتَ ساعةَ مندم.
إِنَّ الكلمات ـ عباد الله ـ هي التُرجمانُ المعبِّرُ عن مستودعات الضمائر، والكاشفُ عن مكنوناتِ السرائرِ، فإِذا أردت أن تستدل على ما في قلب الإنسان فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنَّها الدليل على ما يكنُّه في قلبه من خير أو شرٍّ، شاء أم أبى، قال الإمام يحيى بن معاذٍ التَّابعيُّ: "القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مصارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلَّم، فإنَّ لسانه يغترف لك مما في قلبه".
وإنَّ من الأمور المقرَّرة المشاهدة في حياة الناس وواقعهم ما ذكره العلاَّمةُ ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله من أنَّ الإنسان يهون عليه التحفُّظُ والاحتراز عن كثيرٍ من أفعال الحرام، من الظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه؛ حتَّى إنَّك لترى الرجل يُشار إليه بالدين والعبادة والزهد ونحوها من صفات الخير ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ويتقلَّبُ في المحرمَّات، لا يبالي بما يقول، يتكلَّم بالكلمات من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً، يهوي بالكلمة الواحدة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، والله المستعان.
قال بعضُ السلف: "لا تجدُ شيئًا من البرِّ يتبعُه البرُّ كلُّه غيرَ اللسان؛ فإنَّكَ تجدُ الرجلَ يصومُ النهارَ ويُفطرُ على الحرامِ، ويقومُ الليلَ ويشهدُ الزورَ بالنهار، ولكنَّكَ لا تجدُه لا يتكلَّمَ إلاَّ بحقٍّ فيُخالفُ ذلك عملُه أبدًا"، ولأجل هذا ـ أيُّها الناسُ ـ كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظُ لسانه إلاّ من الخير وإحسان كلامه وإطابتُهُ وحفظُهُ عَنْ قَوْلِ الشَّرِّ، قال المصطفى : ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باِللهِ وَاليَومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ)) متفقٌ عليه.
إِنَّ اللسانُ هو الميزانُ الذي يُوزنُ به الناسُ، والمعيارُ الذي تُعرفُ به أقدارُهُم، حتى قال بعضُ السلف: "إنّي لأرى الرجلَ فيُعجبُني، فإذا تكلَّمَ سقطَ من عيني". وكان أبو بكرٍ الصِّديقُ يضع حصاةً في فِيهِ يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد). وكان ابنُ مسعودٍ يقول: (يا لسانُ، قُلْ خيرًا تغنمْ، واسكتْ عن شرٍّ تسلمْ قبل أن تندمَ، والله الذي لا إله إلاّ هو ما شيء أحوج إلى طول سجنٍ من اللسان).
وإذا أنعم اللهُ سبحانه وتعالى على العبد بصدق اللهجة وطيب الحديث وجمال المنطق شَرُفَ قدرُهُ، وحُمِدت سيرتُهُ، وحَسُنَت عاقبتُهُ، فملكَ قلوبَ الناس، وأمنوه على أقوالِهم ووصاياهم وأماناتِهم. من صَلحَ منطقُ لسانه وطاب ظهرَ ذلك على سائرِ عملهِ، فأكسبَه حُسْنًا وأجرًا وقبولاً، ومن فسَد منطقُهُ وخَبُثَ انعكس أثرُه على سائر عمله.
الكلامُ هو حصادُ اللسان، ولذا كان لِزَامًا على المرءِ العاقل أن يكون كلامُه فيما يعودُ عليه بالنفع ويُجنّبه الضّررَ، وأن يحترسَ من زَلَلهِ، وأن يحذرَ من فضولِه بالإمساكِ عن كثيرِه والإقلالِ منه إلاَّ ما كان في طاعة الله سبحانه من تهليلٍ وتحميدٍ وذكرٍ وتسبيحٍ ودعاءٍ واستغفارٍ؛ فإنَّ الإكثارَ منه هو النجاةُ. جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ فقال: دُلَّني على عَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ، قَالَ: ((أَطْعِمِ الجَائعَ، وَاسْقِ الظَمآنَ، وأمُر بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ)) رواه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيّدٍ. وعند الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ أنَّه قَالَ: ((إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّرُ اللِّسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
قال عطاءُ بن أبي رباحٍ رحمه الله: "فضولُ الكلام: ما عدا تلاوةَ القرآن، والقولَ بالسنّة عند الحاجة، والأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر، وأن تنطقَ في أمرٍ لا بُدَّ لك منه في معيشتكَ، أمَا يستحي أحدُكم لو نُشرت عليه صحيفتُه التي أملاها صدرَ نهارهِ أن يرى أكثرَ ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟!"، ثمّ تلا قولَه تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
عباد الله، ولقد ذكرَ أهلُ العلم أنَّ للكلامِ شروطًا، ووضعوا له ضوابط لا يسلمُ المتكلّمُ من الزَلَل في حديثه إلاّ بالحفاظ عليها ومراعاتها، ولا يَعْرَى كلامُه من النقصِ ويَسْلَمَ من الخَلَلِ إلاَّ بعدَ أن يستوفيَها ويتأدَّبَ بها في كلامه:
أولُها: أن يكون الكلامُ لداعٍ يدعو إليه؛ إمّا في جلب نفعٍ أو في دفع ضَررٍ، فالمسلمُ الحقُّ هو من يسألُ نفسَه قبلَ الكلامِ عن الداعي له، فإن وجدَ داعيًا للكلامِ تكلَّمَ، وإلاَّ فالصمتُ أولى به من منطقٍ في غيرِ حينهِ؛ لأنَّ الإكثارَ من الكلامِ في غيرِ ذكرِ اللهِ وعبادتِه أو مصلحَةِ النفسِ والآخرين سببٌ للوقوع في السَقَط وزيادةِ الهَذَيَانِ الذي يذهبُ معه الرُّشدُ وتستجلبُ الفضائح، فيكونُ القولُ مرذولاً، والرأيُ معلولاً، ولرُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني. قال : ((اُخْزُنْ لِسَانَكَ إلاَّ مِن خَيْرٍ؛ فَإنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ)) رواه الطبرانيُّ وابنُ حبّان بنحوه.
قال عمرُ بن عبد العزيز : "من لم يَعُدَّ كلامَه من عمله كثُرت خطاياه"، وفي الأثر: "لسانُ العاقل من وراء قلبهِ، فإذا أرادَ الكلامَ رجعَ إلى قلبه، فإن كان له تكلَّمَ، وإن كان عليه أمسكَ، وقلبُ الجاهلِ من وراءِ لسانِه، يتكلَّمُ بكلِّ ما عَرَضَ له"، وفي منثور الحِكَم: "اعْقل لسَانَكَ إلاَّ عن حقٍّ توضِّحُه، أو باطلٍ تدحضُه، أو حكمةٍ تنشرُها، أو نعمةٍ تذكرُها، وما عقَلَ دِينَهُ من لم يحفظ لسانه، وكثرة الكلام تذهب الوقار"، وَمِمّا ينسب لنبيِّ الله سليمان بن داود عليهما السلام قوله: ((إِذَا كان الكلام من فضَّةٍ، فالسكوتُ من ذهبٍ)).
إِنَّما العاقل من أَلْجَمَ فاهُ بلجامْ لُذْ بداء الصَّمْتِ خيرٌ لك من داء الكلام
وثاني شروط الكلام عباد الله: أن يكون في موضِعه ووقتِه وفِيما يعني الإنسان؛ فإنَّ الكلامَ في غيرِ حينِه من القبائحِ التي تضُرُّ ولا تنفعُ، والكلام فيما لا يعني مخالف لحسن الإسلام، فمن عَلِمَ متى يحسُنُ له الكلامُ أدركَ نجاة نفسه ونفعها.
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: (خمسٌ لَهُنَّ أحبُّ إليَّ من الدُّهْم الموقوفة ـ يعني: جياد الخيل والإبل ـ: لا تتكلَّم فيما لا يعنيك؛ فإنَّه فضلٌ، ولا آمن عليك الوِزْرَ، ولا تتكلَّم فيما يعنيك حتَّى تجد له موضعًا؛ فإنَّه رُبَّ مُتكلِّم في أمرٍ يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعَنِتَ، ولا تُمار حليمًا ولا سفيهًا؛ فإنَّ الحليمَ يَقْلِيكَ والسَّفيه يؤذِيكَ، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبُّ أن يذكرك به، وأعفه مما تُحِبُّ أن يُعْفِيك منه، وعامل أخاك بما تُحِبُّ أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنَّه مجازى بالإحسان مأخوذٌ بالاحترام).
وثالثُها: أن يكون الكلامُ على قدر الحاجة؛ فإنَّه إذا زادَ عنها كان هَذَرًا، وإذا نقصَ كان عِيًّا وحَصَرًا، وكلاهُما شَيْنٌ يجبُ على المرء الحذرُ منه؛ فإنَّ مقتلَ المرء بين فكيه، وَإِنَّما يُبدي عيوبَ ذوي العيوبِ المنطقُ، ولقد قال رسولُ ربِّ العالمينَ لمعاذِ بن جبلٍ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلى وجوهِهم إلاَّ حَصَائِدُ ألسنتِهم؟!)) رواه الترمذيُّ وهو صحيحٌ.
وإِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليكره الانْبِعَاقَ في الكلام؛ وهو التوّسعُ فيه والتكثُّر منه دون فائدةٍ تُرجى أو شرٍّ يُدفع، وَإِنَّ من الخصائص العظيمة لكتاب الله تعالى التي تحدَّى بها العرب إنسهم وجنَّهم بلاغته وإيجازه وفصاحته وقصر آياته وكلماته، فنضّر اللهُ وجه امرئٍ أوجز في كلامه فاقتصر على قدر حاجته، وسَلِمَ من الزَّلَل والخطأ لسانُه. قال الإمامُ مالكُ بن أنسٍ رحمه الله: "لا خيرَ في كثرة الكلام ـ يعني في غير ذكر الله وعبادته ـ، واعتبرْ ذلك بالنساء والصبيان، إنّما هم أبدًا يتكلّمونَ لا يصمتون". ولقد قال المصطفى : ((إِنَّ مِن البَيَانِ لَسِحْرًا)) متفقٌ على صحّته.
عباد الله، ورابعُ شروط الكلام التي ذكرها أهل العلم: اختيارُ الكلمات والألفاظ التي يتكلَّمُ بها المرءُ من أطايبِ الكَلاَمِ وأنفسِهِ، والبُعْد عن البَذَاءَةِ والفُحْشِ في القولِ والمنطقِ؛ فأحقُّ ما طهَّر الإنسانُ لسانه، لأنَّ اللسانَ عنوانُ صاحبِه، يُترجمُ عن مجهوله، ويُبرهنُ عن محصوله، فهو وزيرُه الذي يُستدلُّ به على رجحان عقله وفصاحة لسانه، حتى لقد قال بعضُ السلف: "ما الإنسانُ لولا اللسانُ؟! هل كان إلاّ بهيمةً مهملةً أو صورةً مُمثّلةً؟!".
وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكن له حَصَاةٌ على عَوراتِه لدليلُ
وإنَّ عُظَمَاءَ الخلقِ لهم الذين يَزِنُونَ ألفاظهم، ويتخيَّرون أطايب الكلام وأحسنه في عباراتهم، ويلتزمون في أحوالهم جميعًا أن لاّ تبدُرَ منهم كلمةٌ قبيحةٌ أو لفظةٌ سائبةٌ مغلوطةٌ أو مكذوبةٌ، فيكونون بها سفهاءَ أو متطاولين على غيرهم؛ لأنَّ الكلمةَ يملكها الإنسان ما لم يتكلَّم بها، فإذا خرجت من فمه ملكته.
وإنَّ من الناس ـ عباد الله ـ من يعيشُ صفيقَ الوجِه، شَرِسَ الطبع، مُنْتِنَ الفَمِ، خبيثَ اللسانِ، لا يحجُزُه عن كلامِ السوءِ حاجزٌ، ولا يعرفُ للحُسْنِ سبيلاً، لسانُه مِهْذارٌ، وفمُه ثَرْثَارٌ، تَعوَّدَ على السِّبَابِ والشَّتْمِ واللَّعْنِ والفُحْشِ والبَذَاءِ، لا يسلمُ منه قريب ولا بعيد، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ، حتى إنَّ الكلمةَ الحَسَنَة لو صَدرت منه لعُدَّت من الغريبِ النادرِ في حياته. ولقد قال رسولُ الله : ((المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِه وَيَدِه)) رواه مسلم، وفي الأثر: "ما أُوتيَ رجلٌ شرًّا من فضلٍ في لسانٍ". قالت عائشةُ رضي الله عنها: استأذنَ رجلٌ على رسول الله فقال: ((بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ هُو)) ، فلَّما دخلَ انبسطَ إليه وألاَنَ له القولَ، فلّما خرجَ قلتُ: يا رسولَ الله، حينَ سمعتَ الرجلَ قلتَ كذا وكذا، ثم انطلقتَ في وجهه وانبسطتَ إليه! فقال: ((يَا عَائشَةُ، مَتَى عَهِدتِني فَاحِشًا؟! إنَّ مِن شَرِّ الناسِ عِنْدَ اللهِ تعالى منزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهَ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ)) رواه البخاري.
عباد الله، ومن آدابِ الكلامِ التي يجبُ على العاقل أن يَزمَّ بها لسانَه الاعتدال في المدح والذمِّ، فلا يتجاوزُ في المدح قدرَه، ولا يُسرف في الذَّمِ عن حدِّه، ولا يذكرُ كلمةً يُرضي بها بشرًا، ويُسخطُ بها ربَّ البشرِ سبحانه وتعالى. قال عبدُ الله بن مسعودٍ : (إنَّ الرَّجُلَ ليدخُلَ عَلى السُّلطانِ ومعَهُ دينُهُ، فيخرُجُ وَليْسَ معَه)، قيلَ: وكيفَ ذَلِكَ؟! قال: (يُرضيِه بِما يُسخِطُ اللهَ عزَّ وجلَّ). قال : ((إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكلَمُ باِلكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللهِ، مَا يَظُنُّ أنَّها تَبْلُغُ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ بِهَا سَخَطَه إلى يَومِ القِيَامةِ)) رواه الترمذيُّ وهو صحيح. ولقد قال لرجلٍ مدحَ رجلاً آخرَ عنده: ((وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ)) قالها مرارًا، ثمَّ قال: ((إنْ كَانَ أحَدُكُمْ لا بُدَّ مَادِحًا أخَاهُ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلاَنًا وَلاَ أُزَكِّي عَلى اللهِ أحَدًا)) رواه البخاري ومسلم.
ومن أعظم آداب الكلام في الإسلام أن يُصَّدِّقَه الفعلُ؛ لأنَّ مخالفةَ القولِ للفعل نفاقٌ، واتِّفاقَهما إيمانٌ صادقٌ، واللهُ عزَّ وجلَّ يقول لعباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصفّ:2، 3]. فإيَّاكَ إِيَّاكَ ـ أَخِي المسلم ـ أن تقول ما لا تفعل، أو تخالف الناس إلى ما تنهاهم عنه وتأمرهم به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفورُ الرحيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنَّكم ملاقوه.
ثمَّ اعلموا ـ رعاكم الله ـ أنَّ طِيبَ الكلامِ مجالٌ واسعٌ ومفهومٌ عظيمٌ يشملُ مجالات الخيرِ كلِّها؛ من أمر بمعروفٍ ونهي عن منكر وقراءة للقرآن وذكرٍ وتسبيح واستغفار ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولقد أمرَ اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بطيب الكلام والقول الحسن في غير ما آيةٍ من كتابه الكريم؛ من مثل قول الله تبارك وتعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [البقرة:83]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
قال العلاّمةُ القرطبيُّ رحمه الله: "ينبغي للإنسان أن يكونَ قولُه للناس ليّنًا، ووجهُه منبسطًا مع البَرِّ والفاجرِ، من غير مُدَاهَنةٍ؛ لأنّ الله تعالى قال لموسى وهارون: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]؛ يعني: لفرعون، فالقائلُ ليس بأفضلَ من موسى وهارون، والفاجرُ ليس بأخبثَ من فرعون، وقد أمرَهما ربُّهما باللين معه".
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف أُمرَ النبيّان الكريمان موسى وهارون عليهما السلام أن يتلطّفا في القول مع فرعون الذي ادّعى الألوهيةَ من دون الله تعالى، وقال للناس: ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري، أنا ربُّكم الأعلى، فأمر اللهُ رسوليه إليه أن تكونَ دعوتُهما له بكلامٍ رفيقٍ ليّنٍ سهلٍ رقيقٍ؛ ليكونَ أوقعَ في نفسِه، وأبلغَ في قيام الحُجَّةِ عليه، وأدعى لقبولهِ لدعوتهِما. وكم يحتاجُ ذلك كلُّ مسلمٍ لتربية ودعوة من تحت يده من أهلٍ وزوجةٍ وأولادٍ وطلاب وموظّفينَ، فهم أولى بالرِّفق واللِّينِ من فرعونَ الطاغيةِ.
قال : ((وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)) رواه مسلم، وقال : ((عَلىَ كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقةٌ)) ، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقَ)) ، قالوا: فإن لم يستطعْ أو لم يفعل؟ قال: ((فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفِ)) ، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فَلْيَأمُرْ باِلمَعْروفِ)) ، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فَليُمْسِكْ عَن الشَرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)) رواه البخاري.
الكلمةُ الطيّبةُ ـ عباد الله ـ تحفظُ المودّةَ، وتستديمُ الصحبةَ، وتمنعُ كيدَ الشيطان أن يُوهِيَ بينَ الأصدقاءِ والإخوان من المسلمين الحبالَ ويفسدَ ذاتَ بينِهم؛ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]. بل إنَّ طيبَ الكلام حتى مع الأعداءِ مطلوبٌ؛ لأنَّه سببٌ في إطفاء الخصومة وإخماد الغضبِ؛ مِمَّا يُقرِّبُ القلوبَ ويُذهبُ غيظَ الصدورِ، وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت:34].
قال طلحةُ بن عمرَ التابعيُّ لعطاءَ بن أبي رباحٍ: إنّك رجلٌ يجتمعُ عندك ناسٌ ذوو أهواءَ مختلفةٍ، وأنا رجلٌ فيَّ حِدّةٌ، فأقولُ لهم بعضَ القول الغليظ. فقال: لا تفعل؛ فإنّ اللهَ تعالى يقول: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ، قال عطاءٌ: فدخلَ في هذا اليهودُ والنصارى، فكيف بالحنيفيِّ؟! يعني: المسلم.
الكلمةُ الطيّبةُ ـ عباد الله ـ تغسلُ الضغائنَ المستكينةَ في الجوارح، وتجمعُ الأفئدةَ، وتجلبُ المودّةَ، ولكم في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ؛ فقد قال: ((لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَو أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِقٍ)) رواه مسلم. قال عمرُ بن الخطاب : (البرُّ شيءٌ هيّنٌ؛ وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ ليّنٌ).
فكلُّ كلمةٍ ـ أخي المسلم ـ لا تضرُّ في الدين ولا تُسخطُ الربَّ الكريمَ وتُرضي الجليسَ فلا تبخلْ بها على أخيكَ المسلمِ، يأجُرُكَ الله عليها، وتكون حِجَابًا لكَ من النار. قال : ((اتَّقوا النارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) متفقٌ عليه، وعن أبي المقدامِ عن أبيه عن جدّه قال: قلتُ للنبيِّ : أخبرني بشيءٍ يوجبُ الجنةَ، قال: ((عَليكَ بِحُسْنِ الكَلاَمِ وَبَذْلِ الطَّعَامِ)) رواه البخاري.
ثمَّ اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنَّه كما أنَّ مجالَ الكلمة الطيّبةِ واسعٌ فإنَّ مجالَ الكلمة الخبيثة أوسعُ؛ أعظمُه الإشراكُ بالله تعالى، والقولُ على الله بغير علمٍ، وشهادةُ الزورِ، والسحرُ، والقذفُ، والشتمُ والسّبابُ، والغيبةُ والنميمةُ، والكذبُ، والمراءُ والجدالُ بالباطل، وتزكية النفوسِ، والخصوماتُ، والغناءُ المحرّم، والسُّخريةُ والهمزُ والاستهزاءُ بالمسلمين وبدينهم، كلُّ هذه من أُمّهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.
فاتّقوا اللهَ رحمكم الله، واحفظوا ألسنتَكم، وطهّروها من الخُبْثِ والخبائث، واجعلوها رطبةً بذكر الله تعالى وطاعته، واعلموا أنّكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم، ولكن يسعُهم منكم بسطُ الوجه وكفُّ الأذى وحسنُ الخُلُقِ وطيبُ الكلام.
هذا صلُّوا وسلِّموا على من أمرَكم اللهُ تعالى بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليه في قوله عزَّ من قائلٍ: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم.
اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، وارضَ اللهُّم عن أصحاب نبيّك أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين...
(1/4859)
إن الله رفيق يحب الرفق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
17/11/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الإسلام على الرفق واللين. 2- يسر الإسلام ووسطيته. 3- أهمية الرفق في التعامل مع الناس وفي الدعوة إلى الله تعالى. 4- رفق النبي ورحمته. 5- ذم العنف والغلظة. 6- أولى الناس بالرفق. 7- مفاهيم خاطئة للرفق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيها المسلمون ـ وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ، فَمَجْزِيُّونَ عَلَى إِحْسَانِكُمْ، وَمُحَاسَبُونَ عَلَى تَفْرِيطِكُمْ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، اللِّينُ والرِّفقُ واليُسْرُ وَالسَّمَاحَةُ مِنَ الخِصَالِ الحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ التي جاءَ الإِسْلاَمُ بالحَثِّ عَلَيْهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّحَلِّي بِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهَا وَالقَائِمِينَ بِهَا، إِنَّهَا أَساسُ المَحَبَّةِ والتَّعَاطُفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَالِبَةُ السَّمَاحَةِ وَالمَودَّةِ فِي التَّعَامُلاَتِ، وَدَلِيلُ كَمَالِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ الإِسْلاَمِ، وَعُنْوَانُ فَلاَحِ العَبْدِ وَسَعَادَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَصَلاَحِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ مَعَ الآخَرِينَ، وَسَبَبٌ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى للعِبَادِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.
وَالإسلامُ ـ عباد الله ـ هُوَ دينُ اليُسرِ والرِّفقِ والِّينِ والرَّحمةِ، شريعةُ اللهِ الخالدةُ، وشِرْعَتُه الخاتمةُ، وفطرتُه السابقةُ، وملَّتُه الناسخةُ التي لا يقبلُ من أحدٍ سواها.
جمعَ اللهُ تعالى في هذه الشريعةِ الإسلاميةِ بين كونها حنيفيَّةً خالصةً وبين كونِها سمحةً سهلةً؛ فهي حنيفيَّةٌ في التوحيدِ والقصدِ، سمحةٌ في العملِ والعبادةِ. قال اللهُ عزَّ وجلَّ في صفةِ نبيِّ الأمَّةِ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
فهذه الآيةُ الكريمةُ من أقوى الأدلَّةِ على أنَّ شريعةَ المصطفى أسهلُ الشرائع، وأنَّه وضعَ عن أمَّتِه كلَّ ثقيلٍ كان في الأمَمِ السابقةِ، فكانت هذه الأمَّةُ أمَّةً وسَطًا، أُريدَ بها اليُسرُ. قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "إنَّ النبيَّ جاءَ بالتيسيرِ والسماحةِ والرِّفقِ، وقد كانت الأممُ التي قبلنا في شرائعِهم ضيقٌ عليهم، فوسَّعَ اللهُ على هذه الأمَّةِ أمورَها وسهَّلَها لهم". كلُّ ذلك ـ عباد الله ـ رِفقٌ بالمسلمين ورحمةٌ بهم، يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
إِنَّ التيسيرَ والرِّفقَ في الإسلامِ سمَةٌ عَظِيمَةٌ ظاهرةٌ، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بينَ أمرينِ إلاَّ اختارَ أيسرَهما ما لم يكن إثمًا. وَعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ : ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) رواه البخاريُّ. والمعنى ـ عباد الله ـ النَّهيُ عن التشديدِ في الدينِ بأن يُحمِّلَ الإنسانُ نفسَه من العبادةِ ما لا يحتملُهُ إلاَّ بكُلْفَةٍ شديدةٍ، فالدينُ لا يؤخذُ بالمُغَالبَةِ، وقد قال المصطفى : ((دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) متفقٌ عليه. وروى عبدُ اللهِ بنُ عمرو بن العاصِ مرفوعًا: ((إنَّ هذا الدينَ متينٌ، فأوْغِلْ فيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبغِّضْ إلى نفسكِ عبادةَ اللهِ، فإنَّ المُنْبَتَّ لا سفَرًا قطعَ وَلا ظهرًا أبقى)) رواه ابنُ المباركِ في الزهدِ والبيهقيُّ. والمُنبَتُّ هو المنقطعُ في سفرِه قبلَ وصولِه.
الإسلامُ ـ عباد الله ـ شريعةٌ وَسَطٌ وحنيفيَّةٌ سهلةٌ، مبناها على التيسيرِ ورفعِ الحرَجِ والبُعدِ عن المشقَّةِ والتكلُّفِ والتَّنَطُعِ والتَّشدُّدِ والتَّعَمُّقِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ المُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ ـ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ـ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولاً أَوْ بَعَثَ بَعْثًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ أَوْصَاهُمْ بِقَوْلِهِ: ((بَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا، وَسَكِّنُوا ـ أَوْ قَالَ: يَسِّرُوا ـ وَلاَ تُعَسِّرُوا؛ فَإِنَّمَا بُعُثْتُمْ مُيُسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).
والتيسيرُ ورفعُ الحَرَجِ في الإٍسلام مبناهُ على الرِّفقِ بالخلقِ والرَّحمَةِ بهم وعدمِ العُنْفِ والمشقَّةِ معهم؛ فالرِّفقُ هو التوسُّطُ والتَّلَطُّفُ في الأمرِ كلِّه؛ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ البَرَرَةِ وَخِصَالِ المُتَّقِينَ العَظِيمَةِ التي تُبَاعِدُهُم عَنِ النَّارِ وَتُورِثُهُم الدَّرَجَاتِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ وَتَعْطِفُ قُلُوبَ النَّاسِ وَتَجْمَعُهُم حَوْلَهُمْ.
نعم عباد الله، إنَّ الرِّفقَ واللِّينَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ والأنَاةَ والتُؤَدَةَ فِي جَمِيعِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ من الصفاتِ المحمودةِ في حياةِ البشرِ؛ تَدُلُّ عَلَى الفَهْمِ والفِقْهِ، وَتَنُمُّ عَنِ الإِيمَانِ وَالسَّمَاحَةِ وَالقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قال: ((التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ)).
وَالقَوْلُ اللَّيِّنُ وَالتَّصَرُّفُ الرَّفِيقُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَأَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ المَطْلُوبِ، وَأَدْعَى إِلَى الإِجَابَةِ وَالقَبُولِ، سِيَّمَا فِي مَجَالِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ البَارِي جَلَّ وَعَلاَ لِنَبِيَّيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ حِِينَمَا بَعَثَهُمَا إِلَى طَاغِيَةِ الأَرْضِ فِرْعَوْنَ: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. وَأَوْصَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْنًا. وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).
إِنَّ الرِّفْقَ ـ عباد الله ـ سببٌ للخيرِ كُلِّهِ؛ إذْ يتأتَّى معه من الأمورِ ما لا يتأتَّى مع غيرِه، ويُثيبُ اللهُ تعالى عليه ما لا يُثيبُ على ما سواه، وهو من أقوى الأسبابِ الموصلَةِ إلى محبَّةِ اللهِ سبحانه وتعالى ومرضاتِه، وسببٌ عظيمٌ للنجاةِ وَالفَلاَحِ في الدُّنيا والآخرةِ. عن عائشةَ قالت: قال رسولُ اللهِ : ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)) رواه مسلمٌ. وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بن عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ)) رواه مسلم.
ولقد كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ العَظِيمَةِ والشَّمَائِلِ الكَرِيمَةِ التي امتنَّ اللهُ تعالى على رَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ أَنْ جَعَلَهُ رَقيقًا رحيمًا بالعبادِ رَفِيقًا هَيِّنًا سَهْلاً لَيِّنًا قريبًا مِنَ النَّاسِ حَرِيصًا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بَعِيدًا عَنِ التَّكَلُّفِ مَعَهُمْ وَالفَظَاظَةِ بِهِمْ، وَيَكْفِيهِ نَعْتُ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ بِقَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. قال قتادةُ: "إي واللهِ، طهَّرَه اللهُ من الفظاظَةِ والغِلْظَةِ، وجعلَه قريبًا رحيمًا رؤوفًا بالمؤمنين". وَصَدَقَ اللهُ العَزِيزُ حِينَ قَالَ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
عن عائشةَ رضي اللهُ عنها أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ ـ يعني: الموتُ عليكم ـ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللهُ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: ((مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ)) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ: ((أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ)) رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وعن أبي هريرة أنَّ رجلاً أتى النبيَّ يتقاضاه، فأغلَظَ، فهمَّ به أصحابُه، فقال رسولُ اللهِ : ((دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً)) ، ثُمَّ قَالَ: ((أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِلاَّ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: ((أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً)) رواه البخاريُّ.
لقد تمثَّلَ خُلُقُ الرِّفقِ واللينِ في المصطفى صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه حَتَّى بلغَ مبلغًا عظيمًا مُنقطعَ النظيرِ، وكان يُعالجُ به أمَّتَه وسائرَ خلقِ اللهِ تعالى حتَّى ملكَ نواصيَهم، واجتمعَت قلوبُهم على محبَّتِه وتقديمِه على النَّفسِ والمالِ والأهلِ والولدِ، وَأَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ وَالمُؤْمِنُ وَالكَافِرُ.
فالرِّفقُ ـ عباد الله ـ في الأمورِ كلِّها والرِّفقُ مع الناسِ واللِّينُ مَعَهُمْ والتيسيرُ عليهم من أعظمِ أبوابِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، بل من أَعْظَمِ صفاتِ الكمالِ التي يسودُ بها العُظَماءُ من البشرِ، يُحبُّها اللهُ سبحانه وتعالى، ويُعطي عليها من الأجرِ والثوابِ ما لا يُعطي على غيرِها، وصاحبُ الرِّفقِ قريبٌ من الناسِ هيِّنٌ سهلٌ رقيقٌ رحيمٌ مُحرَّمٌ على النارِ، قال : ((حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ)) رواه أحمدُ وسندُه صحيحٌ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ)).
وعلى الضدِّ من ذلك ـ أيها المسلمون ـ من خلتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَأَقْوَالُهُ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ، واتَّصفَ بالغِلْظَةِ وَالعُنْفِ في قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، بَعُدَ عنه الناسُ، ونفروا منه؛ فالعُنْفُ ظاهرةٌ خُلُقيَّةٌ قَبِيحَةٌ، يُبغضُها اللهُ سبحانه ويمقتُها، وهي سببٌ للهلاكِ في الدُّنيا والعذابِ في الآخرةِ، تنبئ عن سوءِ النيَّةِ وخُبثِ الطويَّةِ، مع ما فيها من القسوةِ وَالجَفْوَةِ وَمُجَانَبَةِ الإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنَّ الرِّفْقَ وَاللِّينَ ـ عباد الله ـ مِنَ المَطَالِبِ الحَيَاتِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ التِي لاَ تَسْتَقِيمُ الحَيَاةُ السَّوِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، يَتَأَلَّفُ بِهِ المَرْءُ القُلُوبَ، وَتَنْقَادُ لَهُ النُّفُوسُ، وَيَمْلكُ المودَّةَ والمَحَبَّةَ وَالإِجْلاَلَ، ولاَ غِنَى للمَرْءِ أَبَدًا مِنَ التَّحَلِّي بِهِ فِي مَعَامَلَةِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؛ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ)) رواه أحمدُ.
نَعَمْ عباد الله، إِنَّ العُنْفَ وَالفَظَاظَةَ مَا فَشَتَا فِي مُجْتَمَعٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ أَوْ أُسْرَةٍ مِنَ الأُسَرِ إلاَّ تقطَّعتْ بَيْنَهُمْ حبالُ الصِّلَةِ، وفسدتْ علائقُ المحبَّةِ والأُخوَّةِ، وَسَادَتِ البَغْضَاءُ وَالوَحْشَةُ؛ فَالرِّفقُ بالمسلمين لا سيَّما الجاهلُ ومن في حُكْمِه بابٌ عظيمٌ من أبوابٍ التأليفِ بين القلوبِ في الإسلامِ؛ رَوَى أَبُو هريرةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ : ((دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ـ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ـ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)) متفقٌ عليه.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ في القُرْآنِ العَظِيمِ، ونَفَعَنَا بِمَا فِيه مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَبِهَدْي سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ والتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ الرِّفقَ واللِّينَ والتيسيرَ في الإسلامِ من أجلِّ ما دعا إليهِ الشرعُ الحنيفُ، وأمرَ به اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُه ، وإنَّ أولى الناسِ بالرِّفقِ الدُّعاةُ إلى اللهِ تعالى والمعلِّمون والمربونَ؛ فإنَّ هؤلاءِ جميعًا لا يملكونَ التأثيرَ في الناسِ ما لم يتحلَّوا بخُلُقِ الرِّفقِ الذي يستولي على القلوبِ ويملكُها، فمتى كان الداعيَةُ إلى الله تعالى والمعلِّمُ والمربي ـ أبًا كان أو غيرَه ـ متى كان رفيقًا في تعاملِه حليمًا في تصرُّفاتِه ليِّنًا مَعَ مَنْ حَوْلَهُ سهلاً فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُمْ ذا أناةٍ وحكمةٍ ملكَ القلوبَ وانقادت له النفوسُ وتأثَّرت به في أخلاقِها وأفكارِها، ومتى فقد ذلك وكان على الضدِّ منه نفرت عنه النفوسُ واستوحشت منه القلوبُ وكره الناسُ ما هو عليه ومَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
ورفقُ الولاةِ والمسئولين بمن تحت أيديِهم والشفَقَةُ عليهم حكمةٌ رفيعةٌ من السياسةِ الناجحةِ، وسببٌ للامتثالِ والطاعَةِ؛ فإنَّ العُنْفَ من هؤلاءِ يورثُ الكراهيَةَ والتذمُّرَ والتضجُّرَ والخروجَ عن الطاعةِ وفسادَ أمرِ الجماعةِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ أمرَهُمُ المصطفى بالرِّفقِ بمَنْ مَعَهُمْ، وحذَّرَهُمْ من العُنفِ وَالغِلْظَةِ والتشديدِ على من تحتَ أيديِهم، وكان يبتهلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ كما روت عائشةُ رضي اللهُ عنها فيقول: ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)) رواه مسلمٌ، وعن عائذِ بن عمروٍ أنَّه دخلَ على عُبيدِ اللهِ بن زيادٍ فقال: أيْ بُنيَّ، إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: ((إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ)) ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. رواه مسلمٌ وأحمدُ. والرِّعاءُ: جمعُ الراعي، والحُطَمَةُ: هو الذي يشتدُّ على رعيَّتِه؛ فيسوقُها سوقًا عنيفًا بلا رحمةٍ ولا حكمة، بل بالعسفِ والضربِ، حتَّى يحطِمَ بعضُها بعضًا، ويقتلَ بعضُها بعضًا.
وهذا الحديثُ العظيمُ مثَلٌ بَلِيغٌ من جوامعِ كَلِمِ المصطفى ، ضرَبَه لكلِّ راعٍ عنيفٍ قاسٍ على رعيَّتِه، شديدٍ لا رحمةَ في قلبِه بِهِمْ، ولا شفقَةَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، سواءٌ أكان وليَّ أُسرَةٍ أو صاحبَ منصبٍ أو ذا سلطانٍ؛ صَغُرت دائرتُه أم كَبُرَت. وهذا الدُّعاءُ منه مُستجابٌ، وهو تأكيدٌ لسنَّةِ اللهِ في عبادِه القاضيَةِ بأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ. فَمَا أَحْسَنَ الإِيمَانَ يَزِينُهُ العِلْمُ، وَمَا أَحْسَنَ العِلْمَ يَزِينُهُ العَمَلُ، وَمَا أَحْسَنَ العَمَلَ يَزِينُهُ الرِّفْقُ.
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَعَاكُمُ اللهُ ـ أَنَّهُ لَيْسَ المرادُ من الرِّفقِ وَاللِّينِ الذي نادى به الإسلامُ وحثَّ على التَّمَسُّكِ بِهِ الشرعُ الحنيفُ السُّكُوتَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَالرِّضَا بِالمَعَاصِي وَالذُّلّ وَالهَوَان، فَإِنَّ هَذَا ضَعْفٌ وَجُبْنٌ وَخَوَرٌ يَنْهَى عَنْهُ الإِسْلاَمُ بِكُلِّ شِدَّةٍ، وَيُحَذِّرُ مِنْهُ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وليسَ المرادُ به كذلك اللِّينَ في المواقِفِ كلِّها التي قد يتطلَّبُ بعضُها من الشدَّةِ والقسوةِ ما يُحقِّقُ المصالحَ وتُحفَظُ به الكرامةُ والدِّيانَةُ والشريعةُ.
وَإِنَّمَا الرِّفْقُ الحَقِيقيُّ هُوَ وَضْعُ الأُمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا التي تَتَطَلَّبُهَا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ وَرِعَايَةٍ؛ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفيانَ : (إنَّ بيني وبينَ الناسِ خيطًا، إن أمهلوه شددتُ، وإن شدُّوه أمهلتُ).
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلاَ مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
ولَقَدْ كَانَ المُصْطَفَى صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه من أرفقِ الناسِ وأليَنِهم وأرحمِهم بِعِبَادِ اللهِ، لكنَّه كَانَ إذا انتُهِكَتْ حُرماتُ اللهِ أو اعتُدِيَ عليها لم يَقُمْ لغَضَبه قائمةٌ، كما صحَّ بذلك الحديثُ عن عائشةَ رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
عِبَادَ اللهِ، صَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى المَبْعُوثِ رَحْمَةً للعَالَمِينَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ...
(1/4860)
الاستقامة على الطاعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
20/12/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الاستقامة. 2- حقيقة الاستقامة. 3- أصلا الاستقامة. 4- ثمار الاستقامة. 5- أمر الله تعالى رسوله بالاستقامة. 6- التحذير من السبل. 7- بشارة المستقيمين. 8- مدار الاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ، فَمَجْزِيُّونَ عَلَى إِحْسَانِكُمْ، وَمُحَاسَبُونَ عَلَى تَفْرِيطِكُمْ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانِ بنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَولاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيرَكَ، قالَ : ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
الاسْتِقَامَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، تَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَتَحَقَّقُ بِهَا مَعَالِي الأُمُورِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَالأُجُورِ، وَبِهَا يَكْمُلُ الإِيمَانُ، وَيُضْمَنُ الأَمْنُ يَومَ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَتَعُمُّ الخَيرَاتُ وَالبَرَكَاتُ، ويَسْعَدُ الأَفْرَادُ وَالمُجْتَمَعَاتُ، إِنَّهَا خَصْلَةٌ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ السَّائِرِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَجَلِّ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ بَينَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يَنَالُ المَرْءُ بِهَا الكَرَامَاتِ، ويَصِلُ إِلَى أَعْلَى المَقَامَاتِ، وَيَعِيشُ بَرْدَ اليَقِينِ، وَيَحُوزُ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّ العَالَمِينَ.
إِنَّهَا اتِّبَاعُ الدِّينِ القَوِيمِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ المُحَرَّمَاتِ، ولُزُومُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ بِرِعَايَةِ حَدِّ الوَسَطِ في كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الحيَاةِ، وَالقِيَامُ بَينَ يَدَي اللهِ بِمَا أَمَرَ، والاَلتِزَامُ بالصِّدْقِ في القَولِ والعَمَلِ، وَالوَفَاءُ بِكُلِّ المَواثِيقِ والعُهُودِ، فَالإِسْلاَمُ إِيمَانٌ باللهِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، ثُمَّ اسْتِقَامَةٌ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ وشَرْعِهِ مِنْ غَيرِ تَغْيِيرٍ أَو تَبْدِيلٍ أَو تَقْصِيرٍ؛ عَلَى حَدِّ قَولِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 13-14]. قَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : (لَمْ يُشْرِكُوا باللهِ شَيئًا، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيرِهِ، ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللهَ رَبَّهُم)، وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمه الله: "اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ، فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ واجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ"، وَيَقُولُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ : (الاسْتِقَامَةُ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الأَمْرِ والنَّهْي وَلاَ تَرُوغَ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ). يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ المُسْتَقِيمِينَ يَلْتَزِمُونَ بالاسْتِقَامَةِ دَائِمًا في جَمِيعِ أَحْوَالِهِم وَأَوقَاتِهِم وَلَيسَ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ؛ وَلِذَا قَالَ شَيخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله: "أَعْظَمُ الكَرَامَةِ لُزُومُ الاسْتِقَامَةِ".
وَأَصْحَابُ الاِسْتِقَامَةِ ـ عباد الله ـ جَمَعُوا بَينَ أَصْلَي الكَمَالِ في الإِسْلاَمِ: الإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالاِسْتِقَامَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَالإِيمَانُ كَمَالٌ في القَلْبِ بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ وَالسَّيرِ عَلَيهِ؛ مَعْرِفَةٌ بِمَقَامِ الرُّبُوبِيَّةُ وَالأُلُوهِيَّةِ، مَعْرِفَةٌ باللهِ تَعَالَى رَبًّا حَكِيمًا وإِلهًا مُدَبِّرًا، مُعَظَّمًا في أَمْرِهِ ونَهْيِهِ، قَدْ عُمِرَتْ قلوبُهُم بِخَوفِهِ ومُرَاقَبَتِهِ، وامْتَلأَتْ نُفُوسُهُمْ خَشْيَةً وإِجْلاَلاً ومَهَابَةً ومَحَبَّةً وتَوَكُّلاً ورَجَاءً وإِنَابَةً ودُعَاءً، أَخْلَصُوا للهِ في القَصْدِ والإِرَادَةِ، ونَبَذُوا الشِّرْكَ كُلَّهُ، وَتَبَرَّؤُوا مِنَ التَّعَلُّقِ بغَيرِ اللهِ رَبِّهِم، ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ، دُونَ تَفْرِيطٍ أَو إِفْرَاطٍ، فَإِذَا تَمَكَّنَ ذَلِكَ مِنَ العَبْدِ ظَهَرَ في سُلُوكِهِ طُمَأْنِينَةٌ في النَّفْسِ وَرِقَّة في القَلْبِ وقُرْب مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
سُئِلَ الصِّدِّيقُ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ فَقَالَ: (أَن لاَّ تُشْرِِكَ باللهِ شَيئًا)، يُرِيدُ الاسْتِقَامَةَ عَلَى مَحْضِ التَّوحِيدِ والإيمَانِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بأَمْرٍ إِلاَّ وَللشَّيطَانِ فِيهِ نَزْعَتَانِ: إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ، وإِمَّا إِلَى مُجَاوَزَةٍ وَهِي الإفْرَاطُ، وَلاَ يُبَالِي بأيِّهِمَا ظَفِرَ زِيَادَةٍ أَو نُقْصَانٍ".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، بالاسْتِقَامَةِ يَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ وَطُمَأْنِينَةَ القَلْبِ وَرَاحَةَ النَّفْسِ وَالبَالِ؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]، أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].
وَمَا أَجْمَلَ الاسْتِقَامَةَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوبَةِ وَالإِنِابَةِ وَالازْدِيَادِ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا أَعْظَمَهَا حِينَ تَكُونُ بَعْدَ الطَّاعَةِ؛ فَهَذِهِ حَالُ المُؤْمِنِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ، الذِي لاَ يَغْتَرُّ بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ، وَلاَ يَرْكَنُ إِلاَّ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ؛ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي جَنْبِ مَعَاصِيهِ وَغَفْلَتِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى قَلِيلٌ، وَأَنَّهُ مَهْمَا عَمِلَ فِي جَنْبِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسِتْرِهِ فَلَنْ يُوَفِّيَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنَ المُتَّقِينَ؛ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57-61].
وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ)) ، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: ((وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)) ؛ وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ أَرْشَدَ النبيُّ الكَرِيمُ أُمَّتَهُ بِقَولِهِ: ((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا)) رواه مسلم، وَبِقَولِهِ : ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا)) متفق عليه. وَالسَّدَادُ هُوَ حَقِيقَةُ الاسْتِقَامَةِ، وهُوَ الإِصَابَةُ في جَمِيعِ الأَقْوَالِ والأَعْمَالِ والمَقَاصِدِ. وأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وأَجَلُّ قَولُ الحَقِّ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6]. وَهُوَ تَوجِيهٌ إِلَهِيٌّ كَرِيمٌ لِجَبْرِ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ وقُصُورٍ إِنْسَانِيٍّ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَأَصْحَابَهُ الكِرَامَ رضي الله عنهم بِالاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ صَفْوَةُ الخَلْقِ وَهُمْ أَفْضَلُ الأُمَّةِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَولِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود: 112، 113]. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (مَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في جَمِيعِ القُرْآنِ آيَةٌ كَانَتْ أَشَدَّ وَلاَ أَشَقَّ عَلَيهِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ)، وعَنِ الحَسَنِ قَالَ: "لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شَمَّرَ رسُولُ اللهِ للعِبَادَةِ، فَمَا رُئيَ ضَاحِكًا، وقَالَ لأَصحَابِهِ حِينَ أَسْرَعَ إِلَيهِ الشَّيبُ: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأَخَوَاتُهَا)) ، يَعْنِي قولَهُ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ".
وَلَقَدْ كانَ المُصْطَفَى قُرْآنًا يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ رضي الله عنها حِينَ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ القُرْآنَ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]؟! رواه أحمدُ. وَكَانَ أَكثَرُ دُعَائِهِ : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) رواه أحمدُ والترمذيُّ وحسَّنَهُ.
رَوَى عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ)) ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ ـ مُتَفَرِّقَةٌ ـ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيطَانٌ يَدْعُو إِلَيهِ)) ، ثُمَّ قَرَأَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. رواه أحمدُ والدَّارِمِيُّ والحاكِمُ بإسنادٍ صحيحٍ.
وَهَذِهِ السُّبُلُ التِي وَصَفَهَا رَسُولُ اللهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَيطَانٌ يَدْعُو إِلَيهِ مِنْ شيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ، وَمَا أَكَثَرَهُم في هَذَا الزَّمَانِ لاَ كَثَّرَهُم اللهُ، الذِين يَدْعُونَ إِلَى مُخَالَفَةِ صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ بكُلِّ وَسِيلَةٍ، ويُزَيِّنُونَ الابْتِعَادَ عَنْهُ بِكُلِّ طَرِيقَةٍ، يَدْعُونَ إِلَى الطُّرُقِ المُنْحَرِفَةِ والسُّبُلِ المُلْتَوِيَةِ؛ وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُم دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُم قَذَفُوهُ فِيهَا، واَلنَّارُ حُفَّتْ بالشَّهَوَاتِ، ومَا أَكَثَر مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُم مِنْ ضِعَافِ الإِيمَانِ.
لَكِنَّ المُسْلِمَ المُسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى لاَ يَأْبَهُ بِهِم، ولاَ يَرْكَنُ إِلَيهِم، وَلاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، بَلْ يَتَّبِعُ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيُحَكِّمُهُمَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيَتَمَسَّكُ بكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَيَعَضُّ عَلَيهِمَا بالنَّوَاجِذِ في زَمَنِ الشَّهَوَاتِ والشُّبُهَاتِ، فَيَصْلُحُ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ، ويُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ الناسُ، ويَقْبِضُ عَلَى الجَمْرِ حِينَ يَتَذَرَّعُ النَّاسُ بالشَّهَوَاتِ والمُغْرِيَاتِ؛ حِينَهَا تَعْظُمُ الاسْتِقَامَةُ أَجْرًا وتَسْمُو قَدْرًا. وَقَدْ صَحَّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النبيَّ قَالَ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ)) ، وَرَوَى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ ثَوبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)) ، وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَو بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاَّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ)) رواه أحمدُ.
إِنَّ الاسْتِقَامَةَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى ثَبَاتٌ ورُجُولَةٌ، وانْتِصَارٌ وفَوزٌ في مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الذِينَ اسْتَقَامُوا أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، وَيُعْلِنُوا وَقُوفَهُم إِلَى جَانِبِهِم في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30-32].
فَاسْتَقِيمُوا ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ عَلَى شَرْعِ اللهِ كَمَا أُمِرْتُمْ، اسْتِقِيمُوا وَلاَ تَطْغَوا، اسْتَقِيمُوا وَلاَ تَتَّبِعُوا سَبِيلَ الذينَ لا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وتُوبُوا إِلَيهِ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِِهِ وَامْتِنَانِِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ الدَّاعِِي إِلَى رِضْوَانِهِِِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِِ وَعَلَى آلهِِِ وَأَصْحَابهِِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، فَإِنَّ تَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَبَبُ الفَلاَحِ والسَّعَادَةِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ الاسْتِقَامَةَ مَنْزِلَةٌ شَاقَّةٌ تَحْتَاجُ النَّفْسُ مَعَهَا إِلَى المُرَاقَبَةِ والمُلاَحَظَةِ وَالأَطْرِ عَلَى الحَقِّ والعَدْلِ والبُعْدِ عَنِ الهَوَى والمُجَاوَزَةِ والطُّغْيَانِ، فَالكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَّنَى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ.
وَمَدَارُ الاسْتِقَامَةِ في الدِّينِ ـ عباد الله ـ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ هُمَا: حِفْظُ القَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ، وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ وحَرَكَاتِهِ وسَكَنَاتِهِ، ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا، وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ قَالَ: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) ، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النبيَّ قَالَ: ((لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلاَ يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
إِنَّ الاسْتِقَامَةَ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ لَيسَتْ أَمْرًا مُحَالاً وَلاَ أُمْنِيَةً وَادِّعَاءً وَلاَ رَهْبَانِيَّةً مُبْتَدَعَةً كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، ولَكِنَّهَا اسْتِقَامَةٌ عَلَى الأَمْرِ بالامْتِثَالِ وَعَلَى النَّهْي بالاجْتِنَابِ، فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: ((تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ)) ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا)).
إِنَّ الاسْتِقَامَةَ الحَقَّةَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ هِي سُلُوكُ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، طَرِيقِ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ والفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، أَهْلِ العَقِيدَةِ الصَّافِيَةِ والمَنْهَجِ السَّلِيمِ، أَتْبَاعِ السُّنَّةِ والدَّلِيلِ، والتَّمَيُّزُ عَنْ أَعْدَاءِ اللهِ، ومُفَارَقَةُ أَهْلِ البَاطِلِ، ومُجَانَبَةُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ والبِدَعِ والشَّهَوَاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَينِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً)) ، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي)).
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيهِ في قَوله عَزَّ مِنْ قَائلٍ عَلِيمٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ...
(1/4861)
عيد الفطر 1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
محمد بن سليمان الحماد
الرياض
1/10/1426
جامع التركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوم الجائزة. 2- الفرح بالعيد. 3- الفرح المذموم. 4- مظاهر منكرة في العيد. 5- الثبات على الطاعة. 6- شعائر الإسلام. 7- نصائح للنساء. 8- عظمة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، بارك الله لكم في عيدكم، ونسأله تعالى أن يعيده علينا جميعًا ونحن في صحة وعافية قد زادنا مالاً وبنينًا وإيمانًا ويقينًا.
وقبل أن أدلف إلى خطبتي أزفّ لكم هذه البشارة كي تجلسوا مطمئنّين مسرورين، فروي عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق ينادون: اغدوا ـ يا معشر المسلمين ـ إلى ربّ كريم، يمنّ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربّكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى منادي: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني، وفي رواية: ((فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا، أن توفّيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم))، فأبشروا وأمّلوا خيرًا من ربكم.
إنّ يومكم هذا يوم أكل وشرب وشكرٍ لله وذكر، يوم فرح وسرور للمؤمنين الصائمين القائمين المتطهرين بزكاة الفطر. نعم، يومٌ نفرح فيه، وتعلو قلوبنا فيه البهجة والسرور، وتغمرنا فيه السعادة والحبور، نفرح ونُسر حين أتممنا شهر رمضان وأتممنا صيام أيامه وقيام لياليه الثلاثين، نفرح لأن الله أمهلنا وأمدّ بأعمارنا حتى أدركنا هذه الساعة الجميلة ونحن نرى الموت يتخطّف الناس من حولنا، فكم قريبٍ فقدناه، وكم صديقٍ فارقناه، وكم جارٍ دفناه في هذا الشهر فقط، 250 جنازة في مغسلة الراجحي، ومثلها في مغسلة الدريهمية، فيهم الشباب والأطفال والرجال والنساء، فحقيق بنا أن نفرح بفضل الله ورحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
ولكن حذار حذار ـ عباد الله ـ أن نفرح فرحَ قارون فيخسف الله بنا، ففرحه أورثه الكبر والأشر والغطرسة والإفساد في الأرض، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ أي: الصالحون من قومه لاَ تفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الفرح الحقيقيّ المشروع يكون بالتواضع لله الحق وللخلق، يكون بإدخال السرور على المحاويج والأقارب والمسلمين، نفرح بمسح رأس اليتيم، نفرح بتصفية النفوس من أضغانها وتطهّرِ القلوب من أمراضها من الحسد والحقد والغش، نفرح بالعفو عن كلّ من ظلمنا من إخواننا المسلمين أو أخطأ علينا، الفرح يكون بصلة الأرحام والتزاور بين الأقارب والجيران، نفرح باللعب المباح والنزهة الطيبة السليمة، هذا هو الفرح الذي يبقى وتظهر آثاره.
إن الفرح السرور والسعادة والحبور هبة من الله ومنَّة، فمن أرادها فليقبل على الله الشكور، فهو ربها ورب القلوب القوالب لتلك المشاعر، فأتمروا بأمره تَسعدوا، واجتنبوا نهيه تفلحوا، وتمسّكوا بشرعه وهدي نبيّه تُسرُّوا وتطمئنوا، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. وعليه فليس الفرح في ذات المسرحيّات ولا في ذات المهرجانات ولا في ذات الألعاب النارية، فهذه مجرّد أسباب تُفلح في إحداث الفرح وقد تخيب، إنما الفرح في الأمن والشّبع ورغد العيش، وإلا فلو كنّا في خوف لأرهبتنا هذه المفرقعات بأصواتها ولأفزعتنا. هي على أصحابها ترة وحسرة إن لم تكن محوطة بشرع الله وهدي نبيّه خالية من المفاسد والآثام كالاختلاط والمعازف وإضاعة الصلوات والإسراف والتبذير ونحوها.
أيها الأحبة، ثمةَ حقيقةٌ يجب الإقرار بها، وهي أن العيد لله كما أن رمضان لله، بل الحياةُ كلها لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فلا ينبغي أن نفرح بما يُسخط الله فنكون كمن قال الله عنهم ذامًا لهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].
ومن صوَر ما يُسخط الله الإسراف والتبذير في المآكل والاحتفالات والملابس، يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، فنهانا الله عن الإسراف في الثلاثة سواء، فإن كنتم تحبون الله فإنه لا يحبّ المسرفين. ومنها التبرج والسفور من أخواتنا الكريمات المسلمات وإظهارهن لزينتهن ومفاتنهن. ومنها غشيان أماكن اللهو والغفلة وأماكن الشر والفتنة.
أيها الأحبة، إن انتهى ميدان السباق الجماعي فإنه قد بدأ ميدان السباق الفردي، فالصوم لم ينته مع رمضان، بل قد رغبنا الله في صيام الست من شوال وأنها مع صيام رمضان تعدل صيام السنة كلها، فلا يتركها ـ والله ـ إلا محروم. وكذا القيام، فإنه إن توقف جماعةً فلا نتركه فرادى ولو ركعة واحدة بعد العشاء مباشرة أو قبل النوم، فيكتبنا الله من القائمين. وتعاهدوا كتاب ربكم، واقسموا له من أيامكم وردًا لا تتركوه، فإن في ذلك سلامة من الفتنة والجهل. وإياكم أن تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا أي: غزلت لها صوفًا فلما لم يبق منه إلا القليل تركته وأهملته أو عادت عليه بالنقض، ومثلها من بنى بيتًا ثم لم يكمله فتركه حتى أفنته الرياح. واعملوا أنكم في شهركم قد غرستم غرسًا شيّدتم قصورًا، فتعاهدوها ولا تهملوها.
يا أهل العيد والمحفل، إن يوم العيد يوم من أيام الله، تظهر فيه شعيرة عظيمة من شعائر دينه، فكان لزامًا التذكير بشيء من مظاهر الإسلام وشعائره العظام؛ حتى نُعلنها ونظهرها ونتصف بها في حياتنا كلها.
فأعظم شعيرة هي تلك الصلاة المكتوبة المفروضة جماعة على الرجال في المساجد وعلى النساء في بيوتهن، وهي ـ والله ـ الصلة بين العبد وربه، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وبدونها لا يكون المرء مسلمًا، ومن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يوم القيامة كما جاء في الحديث. الصلاة ـ ورب الكعبة ـ أنسٌ وراحة ونزهة للقلب وسعادة، وما حُرمها إلا محروم، وهي ترتيب للأوقات، ومن فرط فيها كان فوضويًا عابثًا بالحياة، وقد ذكر الله لنا حال أهل النار وأظهر لنا في كتابه شيئًا من مناقشته لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، وقد أمرنا الله بالمحافظة عليها بقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ.
ومن شعائر الإسلام ومظاهره العظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌ بحسب طاقته وقدرته، ولا يعذر أحد بتركه كلّية، ففلاح الأمة في الدعوة والحسبة، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، بل إن خيرية هذه الأمة بين الأمم مقرونة بهذه الشعيرة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. فيجب أن نعلنها وأن نظهرها خفاقة، فنأمر ونعِظ ونذكّر وننهى ونمنع ونمسك على يد السفيه. وللنهي عن المنكر ثلاث مراتب يعذرنا الله بحسبها: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده)) ، وهذا لا يكون إلا لرب الأسرة مع أهله وللرئيس مع مرؤوسيه وللأمراء والحكام ومن تولى ولايةً كأهل الحسبة، ((فإن لم يستطع فبلسانه)) أي: بالوعظ والتذكير والتخويف من الله، ويدخل فيها الكتابة لمن يقدر من المسؤولين وأولياء الأمور وفقهم الله وسددهم، ومن منا لا يستطيع ذلك؟! ((ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ؛ بأن تكره المعصية وتتمنى زوالها ولا تبقى عندها إلا لعذر. وإن عطلنا هذه الشعيرة وأهملناها وخَوَّفْنا أنفسنا وخَوّفَنا الشيطان بأوليائه شاع الفساد في الأرض وحلت عقوبة الله تعالى، فعن حذيفة بن اليمان عن النبي : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
ومن مظاهر الإسلام الولاء للمؤمنين أينما كانوا والبراءة من الكفار والمشركين أينما كانوا، والعيد من أعظم المناسبات التي لا بد من إبراز الولاء فيها للمؤمنين، فيجب التراحم وإفشاء السلام والتواد والمحبة بين المسلمين والمشاركة في الأفراح والأحزان والمناصرة للمظلومين ولو بالدعاء، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]. فلا بد مع هذا أن تبغض وتعادي الكفار كلهم والمحاربين منهم خاصة، ونبغض عباداتهم ومعبوداتهم، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
وبغضها للكفار ـ أيها الكرام ـ ليس من أجل ذواتهم أو من أجل جنسياتهم، لا، بل من أجل بغض الله لهم ومن أجل عداء الله لهم، مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة:98].
ومن مظاهر هذا الدين الإلهي العظيم الزواج، فلا يتم الاتصال بين الجنسين ولا يكون التكاثر في الأرض إلا بالزواج الشرعي المكتملة شروطه وأركانه، وشروطه الولي وشاهدا الحال، ولا بد من إعلانه وإظهاره.
فيا معشر الشباب، عليكم بالزواج؛ فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر وأكمل للدين وأجمع للقلب، وقد وعد الله بإعانة من نكح يريد العفاف: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، كما أخبر الرسول بقوله: ((ثلاثة حق على الله عونهم)) ، وذكر منهم: ((وشاب نكح يريد العفاف)) ، ومن أصدق من الله قيلاً وحديثًا؟! ومن أوفى منه تعالى عهدًا؟!
ويا معشر الأولياء آباءً وأمهاتٍ، اتقوا الله في فتياتكم وفي الشباب، فيسروا ولا تعسروا، وأقلوا ولا تكثروا، فرحم الله من عال جارتين فأدبهما وأحسن تأديبهما ثم زوجَهما بكفأين صالحين، بل سيكونان له حجابًا من النار، واقتدوا بأولئك الرجال الأخيار الذين يسارعون لتزويج أولادهم بنين وبنات إعفافًا لهم وبرًا بهم وخوفًا من الفساد، وحثوا أولادكم على الزواج وأعينوهم فإنَّ في ترك الزواج وتأخيره شرًا عظيمًا وفسادًا عريضًا.
أسأل الله أن يديم علينا نعمه وأن يلهمنا شكر آلائه، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أخواتي المسلمات، لقد خصكن النبي بحديثه في خطبة العيد، وعلى هذا سار من بعده.
فيا أخت الإسلام، إليك أنت ومن تكونين أنت؟! أنت الأم الرؤوم والزوجة الحنون والبنت البارّة والأخت الناصحة، أنت البيت والسكن، وأنت الراحة والاستقرار. إليكن تهفو قلوب الأزواج، وبمكركنَّ أسَرتُنّ الألباب، فإن الرجال وإن بَلغوا من القوة والشدة والحنكة والدهاء لا يحتملون طرفَ عينٍ واحدةٍ منكنّ كما قال النبي : ((ما رأيت أذهب لذي اللب الحازم من إحداكن)). فاتقين الله في الرجال، واحذرن أن تَفْتِنَّهم، وكنَّ لأزواجكنّ وأولادكن خير معين على طاعة الله، ولقد استغلّ الكفار وأذنابهم من المنافقين والمغرَّر بهم من أبنائنا هذه الجاذبية التي حباك الله إياها فركَّزوا ضرباتهم عليك، يؤزّونك تارة باسم التحرير وتارة باسم استيفاء الحقوق، وهذه ـ والله ـ شعارات يتلمّع بها أولئك الضّلاَّل ليخدعوك، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. وقد ساعدهم في ذلك وأصغى إليهم كثير من بنات جنسك، وأرجو أن لا تكوني واحدة منهنّ، إنهم في الحقيقة يريدون جسمك ليعلبوا به كيف شاؤوا، كما فعلوا بالبنات فيما حولك من الأمصار والدول، يريدون أن يقطّعوا نياط قلبك الغضّ الضعيف بتحمّل المشاقّ، ويريدون أن يُزعجوا روحك بهمِّ المعاش وغمّ الوظائف، ينادون بكشف وجهك وقيادتك للسيارة ولن يقفوا عند هذا الحدّ، وقد صفق معهم أخواتهم من الحمقاوات المسترجلات. والغيورون من المسلمين لم يقفوا ضدّ هذه الدعاوى إلا حماية لك وانتصارًا لك، فأنت إن سقت السيارة مثلاً فسيرفع الرجل عنك يدَه، فانظري إلى حالِك وزوجك مع فاتورة الجوال مثالاً، فستضطرين إلى اكتساب المال لتصرفي على نفسك وعلى سيارتك، ولربما يومًا ستضطرين إلى إصلاحها فسيضطرّ المجتمع إلى إحداث ورش نسائية صيانةً لك، وهكذا دواليك حتى تنقلِب الدنيا رأسًا على عقب.
أيتها المسلمة، حجابك حجابَك، لقد أكرمك الله ففرض عليك الحجاب فصرت إن ارتديت الحجاب الشرعي الساتر غير الفاتن محتسبة، فأنت في عبادة حتى تنزعيه، كأنما لهج لسانك بذكر الله أو خرجت صائمة. وهذه الشعيرة فرضها الله لحكمة عظيمة، أنت المستفيدة منها أولاً، وذلك حتى تُعرفي بسترك وعفتك، فلا يتجرأ أحد لخدش كرامتك ولا لإهانتك، قال تعالى: يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
وليكن لك موعظة وعبرة بمن تخلّين عن الحجاب الشرعي وارتدين حجابًا كاذبًا فاتنًا قد تزيّنّ به فصار كالعلامة على ضعف دينهن وحقارتهن فتجرأ عليهن الفسقة من الرجال، فأهانوهن ونهشوا كرامتهن سواء عليهن راضيات أم ساخطات. فاحترمي هذه الشعيرة، وتعبّدي لله بها، والتزمي أمر ربك، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. احرصي أن لا تفتني أحدًا وأن لا تُفتَني تكوني من الفائزات، كما قالت عائشة لما سئلت: ما خير للمرأة؟ قالت: أن لا يراها الرجال ولا تراهم.
أخيرًا أوصيكن بكثرة الاستغفار والصدقة، فقد اطّلع رسول الله على النار فرأى أكثر أهلها النساء، فأوصى النساء بالصّدقة وكثرة الاستغفار. وإليك هذه الوصفة المحمّدية تدلّك على طريق الجنة السهلة، فعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال النبي : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)). ولقد اصطفاكن الله بهذا الفضل دون الرجال.
يا أمة محمد ، إن من معاني التكبير في أيام العيد تعظيم الله جل وعلا في النفوس، فبتعظيمه تعظم عندنا أوامره ونواهيه، فلعلي أعرج بكم إلى كلام الله ونسبح في بعض آيات كتابه التي وصف الله فيها نفسه، يقول تعالى: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ، ويقول: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ـ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/4862)
عيد الفطر 1427هـ: تباشير تلوح في الأفق
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
وليد بن وصل المغامسي
جدة
1/10/1427
مسجد الإمام أبي حنيفة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة حال المسلمين في غزوة الأحزاب. 2- حقد المنافقين. 3- البشارة العظيمة. 4- سر تهجم الغرب على الإسلام والمسلمين. 5- روح التفاؤل. 6- كلمات للمرأة المسلمة. 7- قصة تبرج المرأة في تركيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر الإخوة الكرام، إننا نخطب، فمن شاء فليبق، ومن شاء فلينصرف ولا تثريب عليه؛ فقد كان رسولنا إذا انتهى من صلاة العيد يقول: ((إننا نخطب، فمن أحب أن يستمع الخطبة فليستمع، ومن أحب أن ينصرف فلينصرف)).
أيها الإخوة الفضلاء، أقلب معكم صفحات تاريخنا المجيد، وأذهب بكم إلى العام الرابع لهجرة النبي إلى المدينة النبوية، المدينة محاصرة من جميع أطرافها، الجيوش العربية المعتبرة تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، وكأن العرب رمتها عن قوس واحدة، واليهود من داخل المدينة نكثوا عهودهم وغدروا بالمسلمين، المنافقون وجدوها فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم، وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة، وقد أزاحوا عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، أي: أن الجبهة الداخلية في وضع خطير، والمسلمون في حال كرب وضيق وخوف شديد، حتى اضطربت مشاعرهم، واختلجت قلوبهم، وذهبت حالتهم المعنوية كلّ مذهب. ولا شك أن الأمر مرعِب والخطب جلل والكرب مزلزل، يصوره لنا كتاب ربنا في هذه الآيات القصيرة المعبرة: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11].
وفي هذه الساعات الرهيبة والرسول مع أصحابه في الخندق حتى إنهم لم يكونوا يأمنون أن ينقضّ عليهم المشركون من قبل الخندق أو أن تميل عليهم يهود في أية لحظة، وهم قلة بين هذه الجموع التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة، وبهم من الخوف والجوع ما الله به عليم، ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف. في تلك الساعات العصيبة واللحظات اللهيبة كان النبي يستشرف النصر من بعيد ويراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول التي حفرت الخندق، ويبث النبي في تلك القلوب التي خالط بشاشتها الإيمان واهتدت بنوره الثقة واليقين، ويحدثهم حديث الواثق المطمئنّ عن المستقبل الرائع لهذا الدين وعن الغد المشرق للإسلام والمسلمين، يحدثهم عن فتح بلاد كسرى وبلاد قيصر وبلاد اليمن، حديث المتفائل الموقن بموعد الله، حديثا أثار أرباب النفاق وهم دائما كذلك يغيظهم ويحرق قلوبهم الحديث عن مستقبل هذا الدين، فقال أحدهم في ضيق وحنق مصوّرًا حالة المنافقين جميعًا: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
نعم، إنه سم الحقد والتشاؤم الذي تلفظه قلوبهم السوداء المنتنة في كل مكان وزمان لإفساد كل عمل يقوم به المنتمون لهذا الدين العظيم، ولكن ترياقه بإذن الله هو بثّ اليقين بمعية الله تعالى وتوفيقه للمتوكلين الصادقين، وتعميق الإحساس بقدرة الله تعالى وعظمته، وبنصره الذي يلوح في الأفق.
نعم أيها الإخوة المؤمنون، بشارة عظيمة وتفاؤل كبير في أحلك الظروف وأقسى الأزمات، وكما بشرهم صلوات ربي وسلامه عليه بأبي هو وأمي بفتح بلاد قيصر وكسرى وقد كان يبشرنا نبينا بفتح آخر، يبشرنا نبينا بأن هذا الدين سوف يضيء نوره كل بقعة وكل زاوية في هذه الأرض بعزّ عزيز أو بذل ذليل، فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزًا يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ به الكفر)).
نعم أيها الإخوة في الله، سيعمّ هذا الدين أرجاء الأرض كلها، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، سهولها وجبالها، صحاريها وتلولها، سيدخل كل بلد وكل مدينة وكل قرية وكل بيت حتى وإن كان من مدر ووبر بعز عزيز أو بذل ذليل.
ولا شك ولا ريب أن موعود رسول ربنا بدأت تباشيره تلوح في الأفق، وأنواره تسطع من بعيد؛ لأنه دين الفطرة، وسمتُه البارزة وعلامته المسجّلة نشرُ الحق وهداية الخلق. انظروا إليه وهو ينساب رقراقا في جنبات الأرض، انظروا إليه وهو يحتضِن كلَّ يوم ثلّة من الضالين وجمعا ممن كانوا بالأمس أعداء للدين، انظروا إليه وهو يحيي بنوره قلوب قوم كانوا من قبله قوما كافرين، انظروا إليه وهو يشعل جذوة من همم أبنائه الغافلين، وإلا فما سرّ تهجّم الغرب على ديننا؟! ما سرّ تهجم أحبارهم ورهبانهم على نبينا ؟! ما سرّ الاستهزاء بنبيّنا وديننا في الصحف النرويجية والفرنسية والدنمركية وغيرها؟! ما سرّ تشويه مبادئ الإسلام في دولهم؟! ما سرّ الحرب الشعواء على الإسلام والمسلمين في كل مكان تحت ما يسمّى بحرب الإرهاب والإسلام الفاشي؟! ما سرّ الإيعاز لأربابهم ومستولدِيهم من المنافقين في بلادنا بتشويه مفاهيم الإسلام والاستهزاء بأهله وإسقاط علمائه ودعاته؟! وما سر الهجمة الجبانة على الحجاب في فرنسا وبريطانيا؟! وما سر الإسلام الجديد المفصَّل على الطريقة الأمريكية الذي يراد لنا أن نلبسه؟! ما سرّ الهجمة الشرسة على الشرفاء من أبناء فلسطين الذين جاؤوا عبر صناديق الاقتراع التي هي بضاعة الغرب وواحدة من صادراتهم ومحلّ الثقة والتقدير لمن يفوز عبر بوابتها؟! إلا أنّهم يكفرون بالحرّيّة والديمقراطيّة إذا طارت أسهمها للمسلمين, وينكرون العدل والمساواة إذا اتجهت رياحها نحو المسلمين، ما سر كل هذا؟! إنه العودة الصادقة من المسلمين إلى دينهم وكتاب ربهم، إنه الإسلام الذي بدأ يغزوهم في ديارهم ويعتنقه بنو جنسهم.
نعم أيها الإخوة، ما فتئت مراكز الأبحاث والدراسات عندهم تحذر من سرعة انتشار الإسلام في مجتمعاتهم، وما كلّ مفكريهم من دقّ نواقيس الخطر من اجتياح الإسلام لدولهم، ونياحهم بأن القارة الأوروبية ستصبح خلال عدة عقود قارة إسلامية، ووالله إن ذلك خير لهم في دنياهم وأخراهم، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة النبلاء، ما أحوجنا ونحن في عيد من أعياد هذه الأمّة لبثّ روح الأمل في نفوسنا، وما أجمل أن تتعانق فرحتنا بالعيد مع إيماننا بوعد الله ورسوله لتحرق أنوار اليقين في قلوبنا كل ظلام نسجه اليأس أو صبغه الشيطان في قلوب المسلمين، وما أروع أن نتذكر بفرحتنا بالعيد فرحتنا بعزّ هذا الدين وظهور أهله وانتصار أوليائه، ما أجمل أن نتذكّر بفرحتنا بالعيد فرحتنا بصَغار أعداء الدين وذلهم، ما أجمل أن نجعل من تلك الجراح النازفة ثغورًا تبتسم بالعز والتمكين في القريب العاجل، وأن نجعل من هذه الدماء التي تراق في كل مكان ينبوعا يسقي شجرة الإسلام لتورق وتزهر من جديد، ما أجمل أن تكون هذه الأيام قنطرة عبور لنا نحو التفاؤل الإيجابي المقرون بالجد والعمل والمثابرة؛ التفاؤل الإيجابي الذي يجعلنا نبذل الغالي والرخيص لنشر هذا الدين؛ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا كعمير بن الحُمام يلقي التّمرات من يديه ويسارع إلى جنّة عرضها كعرض السموات والأرض ويغمس نفسه في العدو؛ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا كسعد بن معاذ يهتزّ لموته عرش الرحمن؛ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا كأبي أيوب الأنصاري قد تجاوز التسعين من عمره ينفر في سبيل الله مستشهدا بقول الله: انفِرُوا خِفَافًا وَّثِقَالاً ويدفن على أسوار القسطنطينية؛ التفاؤل الإيجابي الذي جعل صحابيا أعرج كعمرو بن الجموح يقاتل في أحد ويقول: والله، إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة؛ التفاؤل الإيجابي الذي جعل نبينا يشيد أعظم حضارة عرفها التاريخ وأعظم أمة بسطت العدل والقسط في جنبات الأرض، التفاؤل الإيجابي الذي يجعلنا نوقف أنفسنا في سبيل الله عز وجل ونتمثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيتها الأخوات الفاضلات، اقتداء بنبينا وحبيبنا الذي كان يختصّ النساء بكلمات في خطبة العيد أخصكن بهذه الدقائق.
إنني لا أريد فيها أن أذكّركنّ بسيرة خديجة رضي الله عنها وأرضاها التي ألقى الله عليها سلامه من فوق سبع سموات وبشرها ببيت في الجنة، ولا أريد أن أذكّركنّ بسيرة مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها وصدقت بكلمات ربها وكتبه، ولا أريد أن أذكركنّ بامرأة فرعون التي قالت: رب ابني لي عندك بيتا في الجنة، إنما أريد أن أذكرك أيتها الأبية بأنك حجر الزاوية في المجتمع، وأنكِ قبس في البيت مضيء وجوهرة تتلألأ، أنت مربية الليوث القادمة والحصن المنيع ضدّ تيارات التغريب والفساد وتيار الرذيلة، يعلم ذلك جيدا؛ لذلك هم يشنّون عليك حربًا ضروسًا لا هوادة فيها، يشنون حربا على دينك وعلى أفكارك وعلى مبادئك وعلى حجابك وعلى عفافك.
أيتها الأخت المؤمنة، قلبي صفحات التاريخ الموثقة فهي أصدق من ينبئك عن أهداف هؤلاء المجرمين والمستقبل المظلم لمن تمشي في ركابهم، أتعلمين ـ أيتها الأخت العفيفة ـ أن المرأة التركية كانت إلى أواخر الخلافة العثمانية ملتزمة بدينها وحجابها؛ حتى إن المرأة التي ترتدي العباءة المطرّزة أو النقاب الشفاف مستهجنة ومخالفة لقانون الدولة، وإن شئت فارجعي إلى الفرمان الصادر عام 1895م الذي يؤكد على منع العباءات المطرزة والنقاب الخفيف والشفاف، ويؤكد على التزام الحجاب الشرعي، وذلك بعد ظهور بعض النساء الماجنات المفتونات بالغرب. وتمر الأيام ويسيطر يهود الدونمة وأربابهم من المنافقين على إعلام الدولة ومؤسساتها الثقافية ويعيثون فيها فسادا وانحلالا؛ أجلبوا بخيلهم ورجلهم على المجتمع المسلم الذي لم يقف سدا منيعا أمام فسادهم وخبثهم، حتى استطاعوا أن يغيروا ملامح الدولة التركية المسلمة إلى دولة مفتتنة بالغرب وحياته البائسة، إلى أن توّجوا انتصارهم في عام 1923م عندما دعت الصحف التركية المشهورة النساء التركيات المسلمات للمشاركة في مسابقة ملكات جمال العالم، مستخدمة كل أساليب الدعاية والإغراء في ذلك، حتى تقدمت أشقاهن وشاركت في تلك المسابقة وبطريقة أو أخرى فازت هذه الفتاة التركية المسلمة بلقب ملكة جمال العالم وسط حفاوة غربية عجيبة ومستغربة. أتعلمين ـ يا أختاه ـ ماذا حصل بعد ذلك؟ صعدت هذه الشقية إلى المسرح وهي ترتدي المايوه، وحضر رئيس اللجنة الأوربية وألقى خطبة أدعوك للتأمل والتدبر فيها. كان مما قاله في خطبته: "أيها السادة، أعضاء اللجنة، إن أوروبا كلها تحتفل اليوم بانتصار النصرانية، لقد انتهى الإسلام الذي ظل يسيطر على العالم منذ 1400 سنة، إن كريمان خالص ملكة جمال تركيا تمثل أمامنا المرأة المسلمة، ها هي كريمان خالص حفيدة المرأة المسلمة المحافظة تخرج الآن أمامنا بالمايوه، ولا بد لنا من الاعتراف أن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا". ثم أخذ يستطرد في الحديث فقال: "ذات يوم من أيام التاريخ انزعج السلطان العثماني سليمان القانوني من فنّ الرقص الذي ظهر في فرنسا عندما جاورت الدولة العثمانية حدود فرنسا، فتدخّل لإيقافه خشية أن يسري في بلاده، ها هي حفيدة السلطان المسلم تقف بيننا ولا ترتدي غير المايوه، وتطلب منا أن نعجب بها، ونحن نعلن لها بالتالي: إننا أعجبنا بها مع كل تمنياتنا بأن يكون مستقبل الفتيات المسلمات يسير حسب ما نريد، فلترفع الأقداح تكريمًا لانتصار أوربا".
أرأيت ـ أختاه ـ نهاية الطريق الذي يريدك هؤلاء أن تسيري فيه وقعر المستنقع الآسن الذي يسعون لإغراقك فيه؟!
أيتها الأخت الأبية، إنني أدعوك للاقتداء بسير المؤمنات الصالحات اللاتي سطرنا سيرا يشرف التاريخ بحملها ويتبختر الزمان بروايتها، كسيرة الصحابية أم شريك التي آمنت وعذبت وجوعت وألقيت في الحر وهي في شبه إغماء من الجوع والعطش، ولما حاولوا ردها إلى الكفر قالت: اقتلوني ولن أعود للكفر أبدا، وبينما هي في حالة إغماء أحست بشيء رطب على فمها وهي مقيدة ومربوطة في الشمس، فنظرت فإذا دلو من السماء نازل لكي تشرب منه؛ سقاها الله كرامة لها، ولما عرف قومها الحقيقة عرفوا أنها على الحق وأنهم على الباطل، ففكوا وثاقها وحبالها وقالوا لها: فلننطلق إلى رسول الله لنعلن إسلامنا. وسيرة تلك المرأة التي استوقفت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فوقف لها فقالت له: يا عمر، كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع لكلامها، فقيل له في ذلك فقال: والله، لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تحركت من مكاني، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! وغيره من السير العطرة التي ملأت الدنيا عبقا وعطرا.
أسأل الله عز وجل أن يحفظك من كل سوء ومكروه، وأن يجعلك سدّا منيعا في وجه كل مفسد وجبلا ثابتا شامخا في وجه رياح الفتن والتغريب.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
(1/4863)
أحكام زكاة الفطر
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
25/9/1418
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- من أحكام زكاة الفطر. 3- سنة التكبير في العيد. 4- الحث على صلاة العيد. 5- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وفكروا في أمركم ماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف كريم قارب الزوال والانتهاء والارتحال، وسيكون شاهدًا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا ـ أيها المسلمون ـ ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة والاستغفار؛ لعل ذلك يجبر ما حصل من تفريط وإهمال.
لقد كانت أيام هذا الشهر معمورة بالصيام والذكر والقرآن، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام، وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر وتلك الليالي الدرر كساعة من نهار، فيا أسفًا على تلك الليالي والأيام، لقد مضت أوقات شهرنا بالعفو والغفران والقبول والعتق من النار وبلوغ المأمول، وسأله تعالى أن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان.
أيها المسلمون، لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة، يزداد بها إيماننا وتكمل بها عباداتنا وتتم بها علينا نعمة ربنا، شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد.
فأما زكاة الفطر فهي صاع من البر أو الأرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من طعام.
وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء فهو أفضل وأعظم أجرًا، فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا ممّا تحبون. وهي والحمد لله قدر بسيط لا يجِب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه أفضل عند الله وأكثر أجرًا؟!
ويجوز للإنسان أن يوزع الفطرة الواحدة على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين فأكثر؛ لأن النبي قدر الفطرة بصاع ولم يبين قدر من يعطى، فدلّ على أن الأمر واسع، وعلى هذا لو كال أهل البيت فطرتهم وجمعوها في كيس واحد وصاروا يأخذون منها للتوزيع من غير كيل فلا بأس، لكن إذا لم يكيلوها عند التوزيع فليخبروا الفقير بأنهم لا يعلمون كيلها خوفًا من أن يدفعها عن نفسه وهي أقل من الصاع.
وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين، على الصغير والكبير والذكر والأنثى، فأخرجوها عن أنفسكم وعمّن تنفقون عليه من الزوجات والأقارب. ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير.
أما وقتها فالأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ولا تجزئ بعد صلاة العيد إلا إذا كان الإنسان جاهلاً لا يدري، مثل أن يأتي العيد بغتة ولا يتمكّن من أدائها قبل الصلاة، أو يظن أنه لا بأس بتأخيرها عن الصلاة، فهذا تجزئه بعد الصلاة.
ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة، والواجب أن تصلَ إلى الفقير أو كيله في وقتها، ويجوز للفقير أن يوكّل شخصًا في قبض ما يدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل فكأنها وصلت إلى يد موكّله، فإذا كنت تُحبّ أن تدفع فطرتك لشخص وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها فمره أن يوكّل أحدًا يقبضها منك أو يوكّلك أنت في القبض له من نفسك، فإذا جاء وقت دفعها فخذها له في كيس أو غيره وأبقها أمانة عندك حتى يأتي.
وأما التكبير فهو من السنن التي قد ضيِّعت والقرب التي أهمِلت، ولقد أمر الله تعالى به في كتابه فقال: وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ أي: على ما وفّقكم له من الصيام والقيام وغيرهما من الطاعات في هذا الشهر.
فكبروا ـ أيها المسلمون ـ من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة، قولوا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.قولوا ذلك جهرًا في المساجد والأسواق والبيوت، إلا النساء فإنهن يكبرن سرًا لا جهرًا. وحذار أن يأخذ أحدنا في ترك ما شرع أو فعل ما لم يشرع الحياءُ.
وأما الصلاة فقد أمر بها رسول الله ، حتى النساء، فاخرجوا ـ رحمكم الله ـ إلى الصلاة رجالاً ونساءً كبارًا وصغارًا. ولتخرج النساء غير متجملات ولا متطيبات، وتعتزل الحائض المصلى؛ لأن مصلى العيد مسجد. أما الرجال فالسنة أن يخرجوا متطيبين لابسين أحسن ثيابهم بعد الاغتسال والتنظيف.
والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو نحوها من الوتر. وسمعت أن بعض النساء يخرجن بالتمر معهن إلى مصلى العيد يفطرن منه، وهذا بدعة لا أصل له. وبعضهن يفعل ذلك إذا جاء خبر العيد بعد الفجر، يقلن ما نفطر إلا بالمصلى، وهذا أيضًا لا أصل له، بل الواجب أن ينوي الإنسان الفطر حين يثبت العيد؛ لأن إمساك يوم العيد حرام.
عباد الله، مضى شهرنا الكريم، فليله معمور بالقيام، ونهاره مصون بالصيام، فكيف لا نحزن على فراق شهرنا ونحن لا نعلم أنحن من المقبولين أم من المطرودين الخائبين؟! كيف لا نحزن ونحن لا ندري أندرك غيره أم هذا آخر شهر نصوم؟!
أيها الصائمون القائمون، تذكروا وأنتم تودّعون شهركم سرعة الأيام، ففي مرورها وسرعتها عظة وعبرة، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]. بالأمس القريب استقبلناه، واليوم نودعه، اليوم نعيش آخر أيامه. فيا أيها الصائمون، قصروا الآمال، وأصلحوا الأعمال، وتذكروا العرضَ والبعث والنشور، تذكروا وأنتم تودّعون شهركم الموت وشدّته وكربته وعظته.
تذكر ظلام القبر إن كنت تعقل فعما قليل للمقابر تنقل
إن خير ما يتم به هذا الشهر هو التوبة لله والعزم على الاستقامة، وإن مما يلاحظ على كثير من الناس هو النكوص على الأعقاب بعد رمضان، فمن كان يصلى في رمضان يتركها بعده، ومن كان يقرأ القرآن في رمضان فيتركه أو يهمله بعده، وهكذا، وما هذا وربي إلا الحرمان من الخير والإحسان.
عباد الله، إذا كنا أيقنا بالموت وأنه حق فلم الغفلة والتفريط؟! فإن الأمر جدّ خطير، فالبدار البدار بالتوبة وحسن الختام. وعلينا بزاد التقوى إنه خير زاد، علينا ـ معاشر المؤمنين ـ أن نختم شهرنا بتوبة نصوح صادقه لا نعود فيها إلى الذنوب إصرارًا أو تهاونًا. فإن كنا تبنا من الكذب والغيبة والحسد والغناء والتهاون بالصلوات فلا نرجع إليها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
هذا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة محمد بن عبد الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4864)