الإخلاص والعمل الصالح (1)
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شتان بين آمال طلاب الدنيا وطلاب الآخرة. 2- الإخلاص ركن القبول في كل عمل. 3- أصناف الناس باعتبار الإخلاص وموافقة العمل لسنة النبي. 4- النصوص تدعو لإخلاص العمل لله وتحذر من الرياء. 5- الشيطان ودوره في إفساد النيات. 6- الإخلاص ينجي من الشدائد في الدنيا. 7- عاجل بشرى المؤمن. 8- من أقوال السلف في الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لكم يومًا تُرجعون فيه إليه، يفصل فيه بينكم، والله بما تعلمون بصير، لقد انقضى عام وأقبل آخر، والأمة الإسلامية بين آمالها وآلامها، أما الآمال فالكل يأمل ولكن شتان بين آمال وآمال، فأصحاب القلوب الحية الموصولة بالله يسألون الله تعالى أن يرزق هذه الأمة الإخلاص والتوفيق والهداية لاتباع سنة النبي محمد ، وأصحاب القلوب التي أمرضها عكوفهم على شهواتهم وحظوظهم العاجلة يسألون طول العمر وزيادة المال كما قال رسول الله في الصحيحين عن أبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهما: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب الدنيا وطول الأمل)).
هذه هي الآمال، وأما الآلام فهي كثيرة متعدّدة، نشأت لما غاب الإخلاص وتوبع غير النبي ، وهذان أكبر مرضين وأخطر أمرين على الإطلاق، نشأ عنهما كل أمل أوجع هذه الأمة وأثر فيها أعظم التأثير، لأجل ذلك أردت أن أذكر نفسي وإياكم بركني العمل المقبول الذي لا يقبل الله غيره، وهو العمل الذي يكون خالصًا، ماذا نقول في أمر الإخلاص؟
إن الإخلاص ركن عظيم، لو تخلف أصبح الإنسان بدونه مشركًا، والشرك درجات؛ إما شركٌ جلي يظهر العبد معه غير ما يُبطن، ويعتقد خلاف ما يُبطن، فيكون والعياذ بالله ممن قال الله فيهم في سورة النساء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
ومعنى الشرك الخفي الذي هو الرياء أن يعمل العامل ولا يريد إلا وجه الناس ومدحهم وهربًا من ذمهم.
أيها الإخوة الكرام، قال الله تعالى في العمل الخالص والصواب في آخر سورة الكهف: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، عَمَلاً صَالِحًا أي: صوابًا يتابع فيه النبي ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا أي: عليه أن يخلص لله تبارك وتعالى ولا يبتغي إلا وجهه.
والناس في الإخلاص والمتابعة أربعة أصناف:
فالصنف الأول منهم: هم أهل الإخلاص والمتابعة، لم يريدوا بعملهم إلا وجه الله تبارك وتعالى، لم يريدوا ثناء الناس ولا طلب المنزلة والمحمدة في قلوبهم ولا الهرب من ذمهم، إنما كل أعمالهم لله تبارك وتعالى، أعمالهم وأقوالهم وحبهم وبغضهم وعطاؤهم ومنعهم لله رب العالمين، فعملهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكورًا.
والصنف الثاني: لا إخلاص لهم ولا متابعة، وهم أمقت الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وهم شرهم عنده؛ إذ لم يريدوا بعملهم وجه الله ولم يتابعوا رسول الله ، فتزينوا للناس بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى، فيا ويلهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والصنف الثالث: هم الذين أخلصوا ولم يتابعوا رسول الله ، وذلك مشهود ملحوظ ملموس في جُهّال العباد الذين أخلصوا الله تبارك وتعالى، ولكن أفسد الشيطان عليهم فجعلهم يعملون بالنية الحسنة أعمالاً غير مشروعة، فيصومون يوم فطر الناس، ويعتقدون أن الخلوة والتخلف في بيوت معتزلين فيها أفضل من الجُمَع والجماعات إلى غير ذلك مما يعتقده المنتسبون للطرق.
والصنف الأخير: هم أهل المتابعة الظاهرة الذين لا يصدق ظاهرهم باطنهم، فأتوا بأعمال تابعوا فيها رسول الله ، لكن لم يكن من ورائها إخلاص، فحبطت وزالت وراحت كأنها لم تكن.
هذه هي الأصناف الأربعة في أمر الإخلاص والمتابعة، ويقول الله تبارك وتعالى مُرغبًا في الإخلاص ومحذرًا من الرياء، يقول في الإخلاص في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
واعلم ـ أيها الأخ المسلم ـ أنه لا بد لكل عمل من نية كما قال رسول الله في حديث عمر الصحيح الذي أخرجه الجماعة: ((إنما الأعمال بالنيات))، ولا بد للنية من الإخلاص لله تعالى كما قال لنبيه في سورة الزمر: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3].
وقال النبي فيما أمره به ربه في نفس السورة: قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، فقال للناس: أنا أعبد الله مخلصًا له الدين، فاعبدوا ما شئتم من دونه.
وقال في سورة النساء: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، من أحسن من هذا الذي أخلص في الباطن وتابع في الظاهر، تابع ملة إبراهيم حنيفًا؟! حَنِيفًا أي: مائلاً عن الشرك مبتغيًا وجه الله تعالى، ولهذا قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً لأنه ما أمره الله تبارك وتعالى بشيء إلا امتثله، قال الله تعالى في سورة الزمر: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
وحذر النبي من الرياء تحذيرًا شديدًا فقال فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجلٌ استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، بل قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، بل تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل ثالث وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت، بل فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)). هذا في حق الذين عملوا أعمالاً تابعوا فيها النبي ولكنهم أرادوا بها وجه الناس وثناءهم ومدحهم، هذا جزاؤهم يوم القيامة.
روى مُسلم كذلك عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((يقول الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) ، وروى أبو داود بسند صحيح عن النبي قال: ((من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) أي: ريحها يوم القيامة.
أيها الإخوة الكرام، وإنما يفسد على الناس نياتهم وإخلاصهم وأعمالهم وأقوالهم الشيطان، قال الله عنه في سورة فاطر: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وقال في سورة البقرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، وقال في سورة يوسف: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5]، وقال في سورة النور: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]. هكذا يأتي الشيطان إلى من سلمت نيته فيحاول أن يفسد عليه عمله، فإن سلم عمله حاول أن يفسد عليه قوله مع الناس ليوقع بينه وبينهم العداوة والبغضاء، فإياكم وإياه، إنه حريص على عداوتكم، فاتخذوه عدوًا كما أمركم ربكم تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه.
أما بعد: وأما فضل الإخلاص فإنه لا يفوتني أن أنبّه عليه فإنه عظيم، فيتوسل به العامل إلى الله تبارك وتعالى لتفريج الهموم وتنفيس الكربات وتيسير المخرج من الضيق، وفي ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي في قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى الغار من شدة المطر، فانطبقت عليهم صخرة فسدت الغار عليهم، فتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى بخالص عملهم قالوا: إنه لن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن يدعو كل منكم ربه بأخلص عمله، فدعا الأول وتوسل إلى ربه بإخلاصه في بر والديه، ودعا الثاني وتوسل إلى ربه بإخلاصه لربه لما تعفف عن الزنا بابنة عمه وكانت أحب الناس إليه، ولما تمكن منها وقالت له: يا عبد الله اتق الله، فقام عنها وأعطاها الدراهم من غير مقابل، وتوسل الثالث بوفائه بحق أجيره لما عمل العمل وذهب ولم يأخذ أجره، ثم عاد فذّكره بالأجر فقال: انطلق فخذ هذه البقر والإبل والرقيق فإن ذلك كله لك، فقال: يا عبد الله اتق الله ولا تهزأ بي، وذلك أن الرجل كان قد ثمّر له ماله واستثمره له، لم يوفه حقه فحسب بل ثمّره له، أين ذلك مما فيه اليوم أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال؟! لا يوفون الناس أجورهم أيامًا بل شهورًا، والرجل قد وفّى أجيره حقه، ليس ذلك فحسب بل ثمّره له، واستثمره له، حتى صار إبلاً وبقرًا ورقيقًا، توسل إلى الله بخالص عمله، فلما توسل الثلاثة انفرجت الصخرة عنهم بإذن الله تبارك وتعالى.
ألا يوجد اليوم بين المسلمين من لهم أعمال خالصة يتوجهون بها إلى الله لتفريج الهموم وتنفيس الكربات وتيسير المخرج من الضيق؟! عزّ الإخلاص، وعزّ وغلا سعره، وعقمت أرحام النساء أن تلد المخلصين في هذه الأيام.
وأما قصة يوسف ففيها العبرة العظيمة إذ توفرت الدواعي والإغراءات على الإيقاع بهذا النبي الكريم في فاحشة الزنا، فاعتصم بالله تبارك وتعالى ولم تغب عنه رقابته ورؤيته فتعفف، قال الله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، هذا فضل الإخلاص، أما لكم ـ يا معشر الفتيان ـ في قصته معتبر؟! أما لكن ـ يا معشر الفتيات ـ في قصته معتبر؟! هذا فضل الإخلاص.
والحوادث والوقائع كثيرة للاستدلال بها على هذا الفضل العظيم، فقد يعمل العبد عملاً يظن أن فيه رياءً لكنه بخلاف ذلك، ووضّح ذلك حديث أبي ذر عند مسلم رحمه الله، قال أبو ذر: قيل لرسول الله : أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟! قال: ((تلك عاجل بُشرى المؤمن)) ، عمل عملاً لم يُرد به إلا الله، ولكن الناس حمدوه على ذلك العمل، أيكون بذلك مرائيًا؟ قال: ((تلك عاجل بُشرى المؤمن)) ، لا، بل هذه البشرى التي تنتظره في الآخرة عجّلها الله تعالى له في الدنيا ليعرف أنه بذلك على خير، شريطة أن يكون أولاً وآخرًا غابت عنه رؤيا الناس لأعماله.
وأختم هذا الكلام بأقوال بعض السلف الكرام عن الإخلاص:
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: "إذا كنت في صلاتك وجاءك الشيطان فقال: إنك مراء فزدها طولاً". نعم، إذا جاءك الشيطان ليقول لك: أنت مراء بهذه الصلاة، أخلِف ظنه وكِده، وقابل كيده بما هو أعظم من هذا الكيد الضعيف الحقير، زد الصلاة طولاً ولا تلتفت إليه؛ لأن ترك العمل من أجل الناس رياء، كما أن العمل لهم ولأجلهم شرك.
وقال يعقوب المكفوف: "المخلص من كتم حسناته كما يكتم سيئاته". نعم، فكما تحرص ـ أيها المؤمن ـ على أن لا يطالع أحد سيئاتك وأعمالك غير الصالحة إذا خلوت، فاكتم الحسنات والأعمال الصالحة واجعلها بينك وبين ربك.
وقال أيوب السختياني ابن أبي تميمة رحمه الله الذي قال عنه الإمام مالك رحمه الله: رأيته لما حج عند زمزم لا يحدّث عن النبي إلا بكى بكاءً شديدًا حتى إني لأرحمه، أيوب يقول: "تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال. نعم، كما قال بعضهم: ما جاهدت نفسي ما جاهدتها على الإخلاص، الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة ومعالجة بسبب تسرب الشيطان وتسلله إلى النفوس ومحاولته إفساد النوايا التي قُصد به وجه الله تبارك وتعالى وحده.
وقال يحيى بن معاذ: "الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم". نعم، قال الله في سورة النحل: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا خَالِصًا : خلصناه من بين الدم والفرث، لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66]، والإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم.
وقال السوسي: "مراد الله من عمل الخلق الإخلاص فقط".
وقال الجنيد: "إن لله عبادًا عقلوًا، فلما عقلوا علموا، فلما علموا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع ـ قادهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع ـ؛ إذ المخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له".
وقال أبو عثمان: "الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق"، فانسَ أن الناس ينظرون إليك، وانسَ ذلك تمامًا، وداوم النظر وراقب واستشعر من هو قريب منك مطلع عليك، ربك تبارك وتعالى، لا تغيب أبدًا عن نظره تبارك سمعه وبصره.
وقال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق الله من أحب الشهرة". نعم، ويصدقه من أعمال السلف ما رواه ابن الجوزي عن رجل أنه كان مع عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول: فأتينا على سقاية والناس يشربون، فدنا منها ابن المبارك ليشرب فزاحمه الناس ودفعوه لأنهم لم يعرفوه، فلما خرج قال لي: هكذا فليكن العيش، يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.
وأختم هذه الأقوال بمقولة مطرف بن عبد الله رحمه الله قال: "لأن أبيت نائمًا وأصبح نادِما خير وأحب إليّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا"، يعني: لأن أبيت نائمًا لم أصلِ صلاة الليل وأصبح نادمًا على فوات القيام أحب إليّ من أن أبيت قائمًا ثم أصبح مختالاً معجبًا لأني قمت الليل.
هكذا ـ أيها الإخوة الكرام ـ قد انقضى عام من عمركم، وأقبل آخر، فاستغفروا الله مما مضى، واستقبلوا الذي نزل بساحتكم بعزم أكيد على الاستقامة والعمل الخالص الصواب لله تبارك وتعالى وحده.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وانصر المجاهدين المسلمين الموحدين في كل مكان على أعدائك الكفرة الملحدين يا رب العالمين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا...
(1/4674)
أين الأخوة الإيمانية؟!
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا المجتمع
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
7/4/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المفهوم الصحيح للأخوة الإسلامية. 2- وقفات مع حديث النبي : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) 3- وصية لملاك المنازل ومستأجريها. 4- وقفات مع الشأن والواقع الفلسطيني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول رسولنا الأكرم محمد في حديث مطول: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)).
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ليست الأخوة في الإسلام شعارات استهلاكية، ولا نظريات خيالية، ولا عبارات كلامية، وإنما هي أخوة إسلامية تقوم على الإيمان والعمل، فتكون الأخوة صادقةً وعميقة وصافية بمقدار صدق الإيمان وعمقه وصفائه، وتنتفي هذه الأخوة أو تضعف بانتفاء الإيمان أو ضعفه، كما أن الأخوة تقوم على العمل.
إن تطبيق هذه الأخوة يتبلور بالتعامل فيما بين الناس، وبخاصة حين الشدائد والأزمات، كما هو الوضع الحالي لشعبنا الفلسطيني المرابط، والذي يحاصَر الآن من قبل أعداء الإسلام والمسلمين. فأين المسلمون في أركان المعمورة؟! وأين المصارف والبنوك العربية والمحليّة والتي تزعم أنها تساهم في دعم الاقتصاد الوطني؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الشدائد والأزمات تكشف المعادن وتفضح المستور، وتميز الطيب من الخبيث والصادق من الكاذب. أين الذين يرجحون المصالح العامة على المصالح الخاصة؟! ما بال الأحزاب والفصائل لا تتكلم إزاء محاصرة أمريكا وأوروبا وإسرائيل للشعب الفلسطيني؟! ثم هل يجوز للمسلم أن يشتم أخاه المسلم؟! الله سبحانه وتعالى يقول: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13]. فالإيمان هو الضابط لخشية الله، وهذا يعني أن الذي يخشى الدول الكبرى أو يرضخ لمطالبهم الظالمة التعسّفية أو يكون مسرورا لهذه المطالب ولا يخشى الله عز وجل لا يكون مؤمنا حقا. وحينما نذكر الأخوة إنما نعني الأخوة الإيمانية أي: التي تقوم على الإيمان.
أيها المسلمون، يا أهل الإيمان في كل مكان، في هذا الحديث النبوي الشريف يعلن فيه رسولنا الأكرم محمد دون لبس أو غموض بأن المسلم أخو المسلم أحبَّ أم كره، وجاء النص عامًّا لتشمل الأخوة جميع المسلمين في جميع أرجاء المعمورة، وفي جميع الأوقات حتى قيام الساعة. وأشار الحديث النبوي الشريف بأن من مستلزمات الأخوة أن لا يحصل بينهم ظلم ولا خذلان ولا تحقير، فنهى عليه الصلاة والسلام عن هذه الأمور.
((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) ، فظلم المسلم لأخيه المسلم لا يجوز شرعا بأي حال من الأحوال، وهذا هو الأصل، كما أن خذلان المسلم لأخيه المسلم لا يجوز شرعًا بأي حال من الأحوال. فكيف يتخلى المسلم عن نصرة أخيه؟! فهل يكون مسلما؟! كما أن تحقير المسلم لأخيه المسلم لا يجوز شرعا بأي حال من الأحوال.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ماذا نرى في مجتمعنا؟ نرى صورا وأشكالا لظلم بعضنا بعضًا، بالإضافة إلى ظلم الاحتلال لنا، ورحم الله الشاعر بقوله:
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سِنانا
أي: يزيد ظلما على ظلم وعدوانا على عدوان.
وأكتفي هنا بالتعرض إلى صورة واحدة فقط بشأن إيجارات البيوت والعلاقة بين المستأجر والمؤجر، والتي هي الآن علاقات متوترة واستفزازية وابتزازية؛ بحجة وجود أزمة في البيوت، أو لتزايد عدد المواطنين، ولعودة معظمهم من ضواحي القدس للسكن في حدود مدينة القدس، ولعدم منح رخص بناء من قبل سلطات الاحتلال، كل ذلك أدى إلى ارتفاع في أجرة البيوت، ثم إن صاحب البيت يرفض أن يؤجر عائلة فيها أولاد، وإنما يشترط على المستأجر أن يكون عريسا دون أولاد، كما يشترط دفع الأجرة المالية بالدولار، هذه الأجرة التي توازي راتب الموظف الغلبان أو تزيد عن راتبه أحيانا، فكيف يعيش هذا الإنسان؟! ومن أين يؤمّن قوت عياله ومعالجة أطفاله؟! وحينما يخرجه صاحب البيت أين سيذهب؟! إنه لا يجد أحدا يؤجر له؛ لأن المستأجر الذي كان عريسا أصبح له أولاد، ومعنى هذا أنه سيقذف به وعائلته وأطفاله إلى الشارع. أليس هذا عين الظلم يا مسلمون؟! فأين الرحمة؟! وأين التكاتف؟! وأين التكافل؟! وأين التضامن الذي دعا إليه ديننا الإسلامي العظيم؟! ألم تسمع ـ أيها المالك ـ بقول رسولنا الأكرم محمد : ((ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة)) ؟! معنى هذا أن من يفضح أخاه المسلم زورا وبهتانا فإن الله يفضحه في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، لا بد من الإشارة إلى أن الإجارات القديمة للبيوت والدكاكين هي زهيدة جدا، وأن المالك مظلوم فيها من قبل المستأجر، فكما أننا نطالب المالك في الإجارات الجديدة أن يرحم المستأجر، فإننا نطالب المستأجر أن يرحم المالك في الإجارات القديمة، والراحمون يرحمهم الرحمن.
لا يجوز أن يقع الظلم فيما بيننا، سواء من المالك أو من المستأجر. وإن الغرفة التجارية في القدس قد شكلت لجنة للنظر في أي إشكال يمكن أن يقع بين المؤجر والمستأجر؛ ليكون الحل بالتراضي والمحبة دون اللجوء إلى المحاكم. وتحية إكبار واحترام للمالكين الذين يبدون تعاطفا وتراحما مع المستأجرين، وجزاهم الله خيرا.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ألقي على مسامعكم آيات كريمة تثني على المهاجرين والأنصار، فيقول عز وجل في سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]. نعم، إن المهاجرين والأنصار هم المؤمنون حقا. ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:8، 9]. فقد وصف الله عز وجل في هاتين الآيتين المهاجرين بالصدق، ووصف سبحانه الأنصار بالفلاحة في الدنيا والآخرة، فأين نحن من إيمان المهاجرين والأنصار؟! وأين نحن من أخلاقهم السامية والرفيعة؟!
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها الشعب الفلسطيني المرابط، أيها الشعب الفلسطيني خارج وطنه، من على منبر المسجد الأقصى المبارك أوجه لكم ندائي هذا بأن تحافظوا على إيمانكم، وأن تتمسكوا بوحدتكم التي عهدناها فيكم، وأن تشدّوا على البطون لتتحدوا الحصار ولتكسروه، فالنصر صبر ساعة، ولتثبتوا للقاصي والداني وللعالم أجمع أنكم شعب له كرامته وعزته، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]. وإنكم ـ يا إخوتي ـ مرابطون، لا ركوع إلا لله العزيز القهار، ولا استسلام إلا لحكم الله رب العالمين العالي المتعال، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]. صدق الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، خلال هذا الأسبوع أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي أمرا بإغلاق جميع المنافذ حول مدينة القدس بالأسلاك الشائكة ريثما يتم استكمال بناء الجدار العنصري حول هذه المدينة التي يطلقون عليها مدينة السلام؛ بحيث تعزل مدينة القدس عن سائر المناطق وتحاصر اقتصاديًا وصحيًا وعلميًا واجتماعيًا وعائليًا وإنسانيًا.
أيها المسلمون، مما لا يخفى أن هذه الإجراءات التعسفية تهدف إلى تهويد المدينة من حيث محاصرتها وعزلها، بالإضافة إلى التخطيط من الناحية السكانية الديمغرافية بزيادة عدد اليهود في مدينة القدس، وبالمقابل تقليل عدد العرب فيها، ثم بعد ذلك يرفعون شعار السلام لخداع العالم! وأي سلام بعد تمزيق البلاد وتشتيت العباد؟! وأي سلام حينما لا تعود مدينة القدس إلى أصحابها الشرعيين؟!
إن الهدف من هذه الإجراءات هو فرض تسويات ظالمة والاستسلام للأمر الواقع المرير، ثم على أي شيء سيتم التفاوض؟! وأين ذهبت ما تسمى خارطة الطريق وقد تاهت فيها الطريق؟! فهل بقيت أراض في الضفة الغربية حتى تجري بشأنها المفاوضات؟! لقد نهبت واغتصبت مئات الآلاف من الدونمات من أجل إقامة المستعمرات وشق الطرق الالتفافية وبناء الجدار العنصري العازل عليها.
أيها المسلمون، علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ولا نسير خلف سراب خادع، علينا أن نفهم حقيقة الأمور ولا نضيع أوقاتنا بالتمنيات وبالأوهام وبالمماطلات، فلا بد من التأكيد للمرة تلو المرة على أن الإجراءات الإسرائيلية على مدينة القدس المحتلة وسائر الناطق المحتلة الأخرى هي إجراءات غير شرعية، تمت قسرًا وجبرًا عن أهل فلسطين، دون رضاهم ودون موافقتهم، بالإضافة إلى أن هذه الإجراءات مخالفة أيضا للقوانين الدولية.
أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، نذكركم بالبشارة التي زفها لكم رسولنا الأكرم محمد بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ولا من أصابهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)). فكونوا عند حسن ظن رسول الله بكم، فأنتم المرابطون، وأنتم أصحاب الحق الشرعيون، فحافظوا على أراضيكم وبيوتكم وعقاراتكم، وينبغي عليكم إشغالها وعدم هجرها.
واعلموا أن الدنيا خلقت لكم، ولكنكم أنتم خلقتم للآخرة، ولم يعطيها لكم لتركنوا إليها. واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم تحاسبون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4675)
أهمية القيم في بناء الأفراد والأمم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
7/4/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف القِيَم. 2- أعظم القيم. 3- فضل الثبات على القيم. 4- فوائد القيم. 5- نماذج من القيم الإسلامية. 6- غرس الإسلام للقيم والمبادئ الفاضلة. 7- انهيار الحضارات المادية. 8- أهمية إبراز القدوات الصالحة في غرس القيم. 9- مفسدات القيم. 10- عملية بناء القيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
تَرِد القِيمُ مُفردًا مَصدرًا، ومِنه: دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [الأنعام:161]، وكذلك ورَدَ في قولِه تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا في قراءة نافع، أي: بها تقومُ أموركم.
الشيء القيِّم الذي له قيمةٌ عظيمة، وتبعًا لهذا فإنَّ القِيَم هي تلك المبادئ الخلُقِيّة التي تُمتَدَح وتُستَحسَن، وتُذَمّ مخالفتها وتُستَهجَن.
أعظم القِيَم وأساسُها الإيمان بالله تعالى، منهُ تنشأ، وبه تقوَى، وحين يتمكَّن الإيمان في القلبِ يجعل المسلِم يسمو فيتطلَّع إلى قيَمٍ عُليا، وهذا ما حدَث لسحرة فرعون؛ فإنهم كانوا يسخِّرون إمكاناتهم وخِبراتهم لأغراضٍ دنيئة، وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الأعراف:113]، فلما أكرمهم الله بالإيمانِ انقَلَبت موازينُهم وسمَت قيمهم، هدّدَهم فرعون فأجابوا بقولهم: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
الثَّباتُ على القِيَم حَصانةٌ للمجتمع من الذَوبَان، وتُفيضُ عليه طمأنينةً، وتجعل حياتَه وحركتَه إلى الأمام، ثابتةَ الخطى، ممتدّةً منَ الأمس إلى اليوم؛ لأنها في إطارِ العقيدة وسياجِ الدِّين.
للقيَم فوائد جمّة، فهي التي تشكّل شخصيةَ المسلم المتّزنة، وتوحِّد ذاتَه، وتقوّي إرادته، والذي لا تهذِّبه القيم متذَبذبُ الأخلاق مشتَّت النفس، ينتابه الكثيرُ من الصراعات، قال تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22].
القِيَم تحفظ الأمنَ، وتقِي من الشرورِ في المجتمع؛ لأنَّ تأثيرَها أعظم من تأثيرِ القوانين والعقوباتِ، فالقيَم المتأصِّلة في النفس تكون أكثرَ قدرةً على منع الأخطاءِ مِن العقوبة والقانون.
أصحابُ القيَم يؤدّون أعمَالهم بفعاليّة وإتقان، وسوء سلوكِ القائمين على العمَل راجعٌ إلى افتقادهم لقِيَم الإيمان والإخلاصِ والشعور بالواجِب والمسؤوليّة.
القيَم تجعل للإنسانِ قيمةً ومنزلة، ولحياته طعمًا، وتزداد ثقةُ الناسِ به، قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28].
عندما تنشأُ القيَم مع الفردِ مِن إيمانِه وعقيدتِه وخشيته لله ينمو مع نموِّ جسده فكرٌ نقيّ وخلق قويم وسلوكٌ سويّ، وتغدو القيَم ثابتةً في نفسه، راسخةً في فؤاده، لا تتبدّل بتبدُّل المصالح والأهواء كما هو في المجتمعاتِ المادّيّة، ويصغُر ما عداها من القيَم الأرضية الدنيويّة، قال تعالى: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71].
موضوعُ القِيَم ممتدٌّ في حياة المسلمين، فلا يقوم مجتمَعٌ مسلم تقيّ نقيّ حتى تحتلَّ فيه القيَم منزلتها الرفيعة في سلوكِ الفرد والأمّة والمجتمع.
من القيَم بر الوالدين، الإنفاق، الصِّدق، الوفاء، إِعمار الأرض، استثمارُ الوقت، إتقانُ العمل، الإنصاف، الشعور بالمسؤوليّة، أداءُ الفرائض، الامتناع عن المحرمّات. مِن قيَم الإسلام الخالدَة الصبر، حبُّ الخير، جهادُ النفس والهوى والشّهوة. من القيَم الحياء، العِفّة، الاستقامة، الفضيلةُ، الحجاب.
لقد كانت هذه القيَمُ وغيرها مغروسةً في أجيال السلَف الصالح قولا حكيمًا وفعلا ممارسًا من حياته التي كانت مصابيحَ تربويّة في ليلِه ونهاره وصبحِه ومسائه. أضاءَت سيرتُه الطريقَ لأجيال الصحابة، فتشرَّبوا القيمَ الخالدة، حتى غدت نفوسهم زكيّةً وعقولهم نيّرة، وغيَّروا بذلك الدنيا وأصلحوا الحياة. لم يعرفِ الخلقُ منذ النشأةِ الأولى مجتمعًا تجلّت فيه القيَمُ بأسمى معانيها مثل المجتمعاتِ الإسلامية.
الدعوةُ الإسلامية رسَّخت القيَم، انتشرت بالقيم، تغلغلت في النفوس بما تحمِل من قيم، شملت مختلفَ جوانب الحياة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، منظومةً متكاملة لا يمكن فصلُها.
إخوةَ الإسلام، إنَّ لدينا من الفضائل والقيَم ما لو أحسنّا عرضَها للآخرين وامتثلناها في حياتنا لكان لنا السموُّ والرِّيادة، وأسهمنا في نشر الإسلام قِيَمًا ومُثُلا مشرِقة.
تظهر الأيّامُ عظمةَ القيم في الإسلام، فهذه الأمَم اليومَ تترنّح ويتوالى الانهيار منذ فجرِ التأريخ، تنهار الأمَمُ لِضمور المبادئ وهشاشَة القيَم التي أقيمَت عليها، وتقِف أمة الإسلام شامخةً بإسلامها، قويَّةً بإيمانها، عزيزةً بمبادئها؛ لأنها أمّة القيم والمثُل والأخلاق. انهيارُ الأمم والحضارات المادية دليلٌ على أن قيَمَها ومثُلها ضعيفة نفعيّة، بل هي مفلِسة في عالم القيم، كيف لا وهي من صُنع البشر؟! كم مِن القتلى! كم منَ الجرحى! كم من التدميرِ يمارَس اليوم باسمِ الحريّة والحفاظ على المصالح!
القيَم تدفع المسلمَ وإن كان في ضائقة ماليّة إلى إغاثة الملهوف وإطعامِ الجائع، وتجد المسلمَ المؤمن يمتنِع عن الرشوةِ والسرقة، والمرأةَ تحافِظ على كرامَتِها وتصون عِفَّتَها وتنأى بنفسِها عن مواطن الفتنةِ والشبهة ولا تستجيب للدّعاوَى المغرِضة والمضلِّلة؛ ذلك أن الإيمانَ هو النبعُ الفيّاض الذي يرسِّخ القِيَم وتُبنى به المجتمعات ويوفِّر لها الصلاح والفلاحَ والأمن والتنمية.
أيُّ عملٍ اجتماعيّ أو اقتصاديّ لحلّ مشكلات المجتمع يهتمُّ بالقيَم المادية ويتجاهل القيَم الإيمانيّة فإنه يسلك طريقَ الضَّعف ويقذف بالجيل إلى حياةِ الفوضى والعبث، ويقتلُ فيه روحَ المسؤولية والفضيلة. وما أصاب المسلمين اليومَ مِن قصورٍ ليس مرجعُه قيَمَ الإسلام ومبادِئَه ومقاصدَه وغاياته، وإنما سببُه الفرقُ بين العِلم والعمل والفصلُ بين العقيدة والمبادئ والقِيَم، واللّحاقُ بركب الحضارة لا يكون على حساب الثوابت، إنَّ ثوابتَنا وقِيَمنا نحن المسلمين هي سبَبُ عزِّنا وهي سبَبُ تقدُّمنا، ويجب أن يعرفَ كلُّ فردٍ في الأمّة التي تريد النهوضَ إلى المجد أنَّ العقيدة هي التي تبني القوى وتبعثُ العزائمَ وتضيء الطريقَ للسالكين. إنَّ الحفاظَ على قِيَم الحياء والحِشمة والعفافِ والبُعدَ عن الاختلاط وعدَم ابتذالِ المرأةِ تَظلّ أحدَ أكبر صمّامات الأمان للمجتمع إزاءَ الكوارث الخلُقيّة التي أصابت العالَمَ اليومَ في مقتَل.
لقد تعرَّضت القيَم الإيمانية على امتدادِ التأريخ لموجاتٍ متتالية من العبَث وتيّارٍ جارف من الانهيار، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
إخوةَ الإسلام، يتقوّى المجتمع بتَحصينِ القِيَم من ضررٍ يصيبها أو تيّارٍ جارف يهدِمها، وذلك بتَأسيسِ الجيل منذ نشأتِه على القِيَم وإبرازِ القدواتِ الصالحة للأجيال المؤمنة، والله تعالى يبيِّن لنا نماذجَ من القدوة الصالحةِ التي يجِب أن تقدَّم للأجيال حتى يتخلَّقوا بأخلاقها ويسيروا على نهجِها، أجلُّ القدوات رسولُنا : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]. ولم يحفَل تأريخٌ بخيرةِ الناس وعظمائِهم الذين زكَّى الله نفوسَهم وطهَّر قلوبهم مثلَما حفَل به تأريخُنا الإسلاميّ، فلِمَ تعمى الأبصار عنهم؟! أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
أخطر ما يهدِّد القيَم ويزعزِع بنيَانَها القدواتُ السيّئة المزيّنَة بالألقاب من الوضيعِين والوضيعَات، الذين يفتَقِد الواحد منهم إلى التحلّي بأبجديّات الآداب والأخلاق الإسلاميّة، هذه القدواتُ السيّئة تعمل على خَلخَلة القِيَم وتشكّلُ نفوسًا فارغة من القِيَم سابحةً في الضِّيق، كما تروِّج له القنواتُ الفضائيّة مِن عريٍ فاضح وسلوكٍ منحط وتحلّل خاطئ يحطِّم القِيَم ويدمّر الأخلاقَ، ودَعوةُ صريحة لنبذِ الفضيلة، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25].
إخوةَ الإسلام، تذبُل القيم وتتوارَى في المجتمع إذا ضعُف التديُّن في الفرد والمجتمع، فعقوقُ الوالدين، الكذِب، الغشّ، تضييع الأوقات، الاختلاطُ، خروج المرأة عن سياجِ الحِشمة والعفاف، الانكباب على الدنيا، وغيرُ ذلك أثرُ ضعفِ التديّن ووَهن علاقةِ الناس بربهم؛ لأنهم يفقِدون الطاقة الإيمانيّةَ والشعور بالجزاء الأخرويّ، فأزمَةُ الأمّة اليوم أزمةُ قيَمٍ إيمانية، لا قيَم مادية، وقد سجَّلت الأمّةُ في فتراتِ رسوخ الدّين وعلوِّ الإسلام مبادَراتٍ مِنَ الأعمال الخيِّرة والسّلوك الرشيد أثارتِ الإعجابَ وأدهشتِ المنصفين، قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ لَه على توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الداعي إلى رضوانه، وأشهَد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه، وسلَّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ.
المزرعَة الأولى لبناءِ القيم أسرةُ يقودها أبوان صالحان، يتعلَّم الولد في البيت والمدرسةِ القيَم ويمتثِلها، يمارس الفضيلة وينأى بنفسِه عن الرذيلة.
وعمليّة بناء القيَم عملية دائِمة مستمرَّة لا تتوقَّف، وهي أساسُ التربية في البيت والمدرسة والأسواقِ وكافّة نواحِي الحياة، كما يجب التحذيرُ من المفاهيمِ التربويّة المستورَدَة التي تتعارَض مع قيَم الإسلام، ولا سيّما في ظلِّ العولمة، وإزالَة كلِّ ما يخدِش الحياءَ ويحطّم القيَم، كما نطالب المجتمعَ بكل أفراده وجميعِ مؤسَّساته العامّة والخاصّة أن يتعاونوا في نشرِ القيم وتثبيتها في النفوس، ثم متابَعَتها حتى تصبِح جزءا أصيلا في سلوكِ الناس وتعامُلِهم. غرسُ القيَم بالقدوة والسلوك أكبرُ أثرًا وأعظم استجابةً وأسرعُ قبولا، ومن أجلِ ذلك قدّم ربُّ العزة وحيَه وجعل الدعوةَ على أيدي الرسلِ ليكونوا قدوةً لأمَمِهم، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى ومعلّم البشرية محمد بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4676)
همّ الخاتمة – عمل المرأة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
المرأة, الموت والحشر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
30/3/1427
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله تعالى بالعمل. 2- العمل الصالح المقبول. 3- خوف الصالحين من حبوط العمل. 4- سؤال الله تعالى الثبات. 5- من علامات التوفيق. 6- الخوف من سوء الخاتمة. 6- أسباب حسن الخاتمة. 7- علامات الخاتمة الحسنة. 8- الاستعداد للقاء الله. 9- تحذير المرأة المسلمة من المنادين بخروجها للعمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله وهو أصدق القائلين: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
أخِي المسلم، لنتدبَّر هذه الآية؛ أمرنا الله بالعمَل، فإنّا ما خُلِقنا عبثًا، خلِقنا لنعبدَ الله، خلِقنا لننفِّذَ أوامرَ الله، خلِقنا لنقومَ بما أوجب الله علينا. تُعُبِّدنا بهذه الشّريعة؛ لنقومَ بحقيقَتِها عِلمًا وعمَلا، ظاهرًا وباطنًا؛ لنكونَ مؤمنين حقًّا: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ، والله عالمٌ ما العِباد عامِلون، ولكنّه جلّ وعلا لا يعاقِب العبد حتى تظهَر مخالفتُه وعصيانُه وتقومَ الحجة عليه، فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
إنَّ مردَّكم إلى الله عالم الغيبِ والشهادة، استوَى في علمه ما خفيَ وما أُعلِن، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:29].
أيّها المسلم، عَملُك لا يكون عملاً حقّ، حتى يكون عملاً تواطَأَ عليه القلب واللسانُ والجوارح، عَمَل ظاهرٌ مع خلوِّ القلب منَ الاعتقادِ واليقين لا ينفع، اعتقادٌ لا يترجمُه عملٌ ظاهر لا ينفَع، فلا بد في العمَل من أن يكونَ الظاهر والباطن سواءً، ففي الباطنِ إخلاصٌ لله وقيامٌ بما أوجب الله وتعبُّدُ القلب لله ذِلّة واستكانة، وفي الظاهر القيامُ بالواجبات مع تركِ المحرّمات، هكذا العمل النافع، وهكذا العمَل المفيد، وهكذا ينبَغِي أن يكونَ المؤمِن عليه في حياته، فيقضِي عُمره وهو في خَير تعبُّدًا لله بكلّ جوارحه، ظاهرًا وباطنا.
أيّها المسلم، إنما الخوفُ على العبدِ أن يظهِرَ الخيرَ وهو مبطِن لضدِّه، وأن يظهِرَ التمسّك والصلاح وهو في قلبه على خلافِ ذلك، أعمالٌ صالحة مشوبَة بالرّياءِ والسّمعة، لغيرِ الله صلَّى، ولغيرِ الله أطاع، ولغيرِ الله تنسّك، ولغيرِ الله تعبَّد، فتلك الأمورُ لا بدَّ أن تخونَ صاحبَها أحوجَ ما يكون [إليها]؛ لِذاَ اشتدَّ خوفُ صالحي هذه الأمّة على أنفسهم، وخافوا على أعمالهم، فجَمَعوا بين الخوفِ من اللهِ وحسنِ العمل، إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:57-60].
هؤلاءِ الصُّلَحاء خافوا على أعمالهم أن يعرضَ لها رياءٌ يبطِلها، أو يعرض لها ـ والعياذ بالله ـ شكوكٌ وارتيابٌ فتحبط الأعمال، خافوا على أعمالهم، ولم يثقوا بأنفسِهم، بل عظُم التجاؤُهم إلى الله، وقوِيَت الرغبةُ في الاضطرار بين يدَي ربهم، فهم دائمًا يقولون: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، ويتذكرون قول الله لنبيه : وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74، 75].
إن المؤمنَ يعمل، ولكن نصبَ عينيه خاتمةُ الأعمال، لا يدري ما يختَم له بِه، يخاف من تحوُّل منَ الإيمان إلى الكفر، ومن استقامةٍ إلى انحراف، ومن لزومِ الطريق إلى البُعد عنه، يرَى أناسًا اختلفت أهواؤهم، وتغيَّرت أفكارهم، وتنوَّعت آراؤهم، فهم يومًا دعاةٌ إلى الخير والصلاح، ويومًا ينقضونَ ما بنَوا ويبدِّلون ما قالوا بسوءٍ وأعمالٍ سيّئة. إذًا فهو يخاف على نفسِه أن يخدعَه الشيطانُ فيستولي عليه، فينسِيه ذكرَ الله، ويُصدّه عن سبيل الله المستقيم، فيختَم له بسوء، فيلقى الله على غيرِ هدًى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك؛ ولذا قال الله لعباده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، الزَموا الإسلام، واثبتوا عليه، واستقيموا عليه، حتى يوافيَكم الموتُ وأنتم على الإسلامِ ملازِمين، غيرَ مبدِّلين ولا مغيِّرين.
واسمع ما قال الله عن نبيِّه يعقوبَ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، الزَموا الإسلام علمًا وعملا، واعمروا في الباطنَ والظاهر، وسَلوا الله الثباتَ على الحق؛ فإنّ الله بيده قلوبُ العباد يقلِّبها كيف يَشاء، وسيِّدُ ولد آدم سيّد الأولين والآخرين وإمامُ الأنبياء والمرسلين يقول دائما: ((اللّهمّ مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)) ، تسأله عائشة: هل تخاف يا رسول الله؟! فيجيبها قائلا: ((إنَّ قلوبَ العباد بين أصبعين من أصابِع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، إذا أراد أن يقلِبَ قلبَ عبدٍ قلَبَه)).
أيّها المسلم، فمِن علامةِ توفيقِ الله لك ومِن علامة خاتمةِ الخير لك أن توَفَّقَ في بقيّةِ عمرِك لأعمالٍ صالحة، تستقيم عليهَا، تثبُت عليها، تمضي بقيّةَ عمرك عليها، يقول أنس رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمَله)) ، قالوا: كيف يستعمِلُه يا رسولَ الله؟! قال: ((يوفِّقُه لعملٍ صالحٍ قبل الموت)) ، فيتداركه الله بتوبةٍ نصوح، فيبدّل سيئاته حسنات، ويتحلَّل من مظالم العباد، ويتوب إلى اللهِ مِن سيئاتِ الأقوال والأعمالِ، حتى إذا حضره الموتُ ودنا انتقالُ الروح من الجسد فإذا هو ثابتٌ على الحق، ثابتٌ على الهدَى، تُزَفّ له البشارة وهو على فراشه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]. هكذا أولياء الله الصادقون الذين أخلصوا لله أعمالهم، وصدقوا مع الله في تعامُلِهم، فلم يكن رياء ولا سمعة، ولا محبة للشهرة، ولا إرادة العلوّ في الأرض، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أيها المسلم، إنَّ المسلمَ ينبغي دائما له أن يسألَ الله حسنَ الخاتمة، يسأل اللهَ أن يختمَ عمرَه بخير، وأن يجعلَ بقيّةَ عمرِه خيرا من ماضِيه، فهو دائما يقول: اللّهمّ اجعل خير أعمارِنا أواخرَها، وخير أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامنا يومًا نلقاك فيه.
أيّها المسلم، حُسن الخاتمة أقضَّ مضاجعَ الصالحين، وكدّر عليهم صفوَ حياتهم، لا والله، [ليس] سوء ظنٍّ بربّ العالمين، فحاشا ذلك، لكن اشتدّ خوفهم من أنفسهم أن يؤتَوا من قبَل أنفسهم من أعمال سيئةٍ استبطنوها ومعاصٍ واصلوها، يخافون أن لا يمَكَّنُوا مِن توبة، وأن تَستمِرّ بهم الشهواتُ والملذّات، فتنقضي الأعمارُ بلا فائدةٍ، فهم يخافون على أنفسهم، ويعلمون قولَ الله: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقولَه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
فاسألِ الله خاتمةَ خير، واسألِ الله أن تلقاه وأنت على الإسلام لم تبدِّل ولم تغيِّر، بل أنتَ مستقيمٌ على هذا الهدَى.
أيّها المسلم، أسبابُ الخاتمة الحميدةِ أمورٌ كثيرة، فأعظمها تقوَى الله في السرِّ والعلانِية، ((اتَّق الله حيثما كنت)) ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، تقوى حقيقيّة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
الإخلاصُ لله في القولِ والعمل، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
الاستقامة على الهدى ولزوم الطريقِ المستقيم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، قال لرجل سأله، قال: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)).
يا أخي، تذكّر الموت وما بعدَه، فعَسى أن يكونَ في التذكُّر عبرة وعِظة. تذكَّروا الجنة ونعيمَها والنار وآلامها أغلالها.
وأمرٌ آخر: استشعارُ قلبِك بكمال علمِ الله بك وكمالِ اطلاعِه على سرك وعلانيتك، وأنَّ الله لا يخفَى عليه شيء من أمرك، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس:61].
الإكثارُ من ذكرِ الله والالتجاءُ إليه دائمًا وأبدا؛ فإنَّ الله من فضله أنّه لا يخيِّب رجاءَ من رجاه، فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7]، ولكن الخوف من معاصٍ أصرَرتَ عليها، أخفيتَها عن الناسِ والله مطَّلِع عليها، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].
أيّها المسلم، ومن أسبابِ [حسن] الخاتمة الإكثارُ من تلاوة القرآن والمحافظة على فرائض الإسلام بإخلاص ويقين، وربُّك لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملا.
ولِلخاتمةِ الحسنةِ علامات، فمنها أن يوفَّق العبدُ لأن تكون كلمةُ الإخلاصِ آخرَ ما يقول، فإنَّ من ختِم له بهذه الكلمة نال الفضلَ العظيم، وفي الحديث: ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخلَ الجنة)) ، وفي حديث عِتبان: ((فإنَّ الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)). وعند الاحتضار يوفِّق الله أهلَ الإيمان، فعندما يأتي ملكُ الموت لقبض تلك الروح التي طالما عمر بها الجسَد يكون آخر كلام العبد: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله"، فيا لها من كلمةٍ إذا وفِّق لها في تلك الحالة العصيبة، إنها كلمةٌ تنجيه من النارِ، وتؤمِّنه من الخلودِ في النار، فيختَم له بخَير. إنَّ العبدَ عند الاحتضار تضعف قواه، وتقِلّ حيلته، ويجلب الشيطان عليه برَجله وجندِه؛ عسى أن يظفرَ منه بخاتمةِ سوء، يحسِّن له الباطل، ويدعوه إلى مِلَل الكفر، والعبدُ في شدَّة ضعفٍ وأعظَمِ بلاء، يعالجُ مِن خروجِ الروح من جسده ما الله به عليم، ولكنَّا لا نعلَم ذلك والله يقول: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَ تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].
فالمؤمن يثبته الله على الحق، عمرٌ طالما عمِر في طاعةِ الله، قلبٌ طالما أخلَص لله العملَ، فيوفَّق عند الاحتضار، فينطِق بكلمة التَّوحيد، فيختَم له بها عملُه، فتلك النّعمةُ الكبرى والفضل العظيم، يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أيّها المسلم، ومِن علامات حسنِ الخاتمة ما جاء عنه : ((إنَّ المؤمِن يموت في عرقِ جبينه)) ، فيعرَق جبينُه عند احتضارِه، وهذه من علاماتِ الخير.
ومنها ما أخبر النبيّ بأنّ تلك الميتَة شهادة، فأخبر أنّ الميتَ بالطّاعون شهيد، والميت بالغَرَق والهدمِ شهيد، والميّت بداءِ البطن شهيد، كلّ تلك علاماتُ خير للمسلم بتوفيق الله له.
فاسأل الله خاتمةَ الخير، واحذَر أن تخونَك أعمالك في تلكَ اللّحظات، فيظهر على فَلَتات لسانك ما كنتَ تضمِره من سوءِ الاعتقاد، أو ما كنتَ تضمِره من محبّة المعاصي، أو ما كنتَ تضمِره من الظلمِ والعدوان، أو ما كنتَ تضمره من قلّةِ الإخلاص والرّياء، فيظهر ذلك على لسانِك عندَ الموت، فتلقى الله على غير هدى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ عواقب الذنوب، واستقِيموا على طاعةِ علاّم الغيوب.
أسأل الله أن يثبِّتني وإياكم على صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يحيِيَنا مسلمين ويميتَنا مسلمين ويلحِقَنا بالصالحين، غيرَ خزايا ولا مفتونين، إنّه أرحمُ الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وتخلَّقوا بصالحِ العمل، واعلَموا أنَّ من شبّ على شيءٍ شابَ عليه، ومن شابَ على شيءٍ ماتَ عليه، ومن مات على شيءٍ بُعِث عليه.
يا أيّها المسلم، ليس للموتِ مَرضٌ معلوم، وليس للمَرض سِنّ معلوم، وليس للموتِ وقتٌ معلوم، ولكنها آجالٌ بيَدِ الله، إذا حضَر الأجل فلا رادّ له، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]. فلنستعدَّ للقاء الله، ولنستعدَّ للأعمالِ الصالحة، ولنخلِص لله أقوالَنا وأعمالَنا، ولنسألِ الله الثباتَ على الحق والاستقامةَ عليه إلى أن نلقاه، ولنكثِر: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فإنَّ الله إذا أرادَ أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
أيّها المسلم، أيّتُها المرأةُ المسلمة، أيّتها المرأة العفيفة، أيّتها المرأةُ ذات الدّين والخلُق والقِيَم، أيّتها المرأة المسلمة، تربَّيتِ بين أبوَين مسلمين، ونشأتِ على فطرة الإسلام، وتعلَّمتِ على هديِ الإسلام، ونشأتِ على هذا الخلُق الكريم؛ العفّة والصيانة والحشمة والبُعد عن كلّ ما يخالف شرع الله، هكذا أراد الإسلام لك أيتها المسلمة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33].
هكذا المأمولُ من فتياتِ الإسلام اللواتي تربَّينَ على الهدَى والأخلاق الكريمة والبعدِ عن مواطنِ الريبةِ والشرّ والفساد، هذا الخلُق القيِّم والحشمة والعفّة أغاظَت أعداءَ الإسلام، وأغاظت أعداءَ الشريعة، أغاظت من يريدون بهذه الأمةِ كيدًا ومصيبة، ومَن يريدون بهذا الدّين الأذَى والبلاء، من يكيدونَ للإسلامِ وأهلِه، مَن لا يريدون للأمّة أن تبقى على خيرها وسماتها وكرامَتِها، فدَعَوها إلى العملِ بجانب الرجال، وهيّئُوا لها الفُرَص، وادّعوا بذلك أنهم ساهمُوا في سَعَودةِ الأمّة، وأنهم وأنهم... إلى آخر ما يقولون وما يعتَذِرون.
وإنها لخطواتٌ سيّئة غير موفَّقة، وإنَّ الواجبَ على المرأة المسلمة أن لا يكونَ خلُقُها ثمنًا لدنيا تأخذه، بل يكون خلُقُها وسترها وعَفافها فوق هذا كلِّه، فهي خلِقَت لعبادةِ ربها، وخلِقَت لتبنيَ الأجيالَ المسلمة، وخلِقَت لتكونَ مساهمة في إصلاحِ مجتمعها وأفرادِ أسرتها؛ لتقدِّم للأمّة فتياتٍ وأبناء صالحين مستقيمين، خلِقَت لتكونَ راعيةً على أهل بيتها، لم تخلَق لتمَازِجَ الرّجالَ، ولم تخلَق لتجعَلَ الدنيا عِوَضا لعرضِها وكرامتها.
إنّك ـ أيتها المرأة المسلمة ـ لا تظُنّي تلك الدعاياتِ من مصلحتك أبدًا، ولا أنَّ قصدهم بهذا إكرامك ورفع منزلتِك، ولا أن الهدفَ من هذا إبراز شخصيّتك، ولا أنَّ الغايةَ من هذا إكرامك، ولكن الغاية ـ يعلم الله ـ ما وراءَ أولئك من مكيدةٍ للإسلام وأهلِه، وحَرب على القيَم والفضائل التي تميَّز بها المجتمع المسلم، فلا يرضي أعداءَ الشريعة إلا أن يجرِّدوا هذه المرأةَ المسلمة من قِيَمها وأخلاقها، فلا تخدعنَّك هذه الدعايةُ، ولا يغرَّنَّك هذه المكاسب المادّيّة، ففيك من الأخلاق والقِيَم ما هو فوق كل هذه المادّة كلِّها، فاستقيمي على الخير، والزَمِي البيتَ والوظائفَ اللائقةَ بك المهيَّأَة لك، دون الاختلاط مع الرجال، بأيّ ذريعةٍ كانت، فإنها طريق مشوبٌ بالشرّ، وطريق مفضٍ إلى الفساد، وطريقٌ سائِر بالفتاة المسلِمة لأن تحاكيَ المرأةَ الغربيّة في قِيَمها وأخلاقها، فتفقد الأمّة كرامَتَها، وتفقد الأمّة سمعتَها، وتَفقد الأمّة ما تميَّزت به من أخلاقٍ وقِيَم وفضائل.
فيا أيّها المنادون لهذه البرامِج السيئة، خافوا اللهَ في مجتمعِ المسلمين، واعلموا أنَّ سعيَكم ضلال، وأنَّ خطواتكم خطواتٌ إلى الفجورِ والنار، وأنَّ هذا المجتمعَ المسلم أمانة في أعناقِ المسلمين، محافَظة على أخلاقه، ومحافَظة على كرامته، ومحافظةٌ على مبادئِه وقِيَمه.
إنَّ المرأة المسلمة هيِئَت لتربِّيَ الأجيال، وتعمرَ البيت، وتساهِم في الخير، لا أن يُزجَّ بها كلّ النهار وأوَّل الليل فيما يسمَّى بعَمَلها، وفيما يسمَّى بأنَّها تبيعُ للنّساء، وفيما يقول ويقول أولئِك، والله يشهَد إنهم لكاذِبون، والله يعلم أنَّ مقاصدَهم سيِّئَة.
فلنَتُب إلى الله، ولا يَغرَّنَّكِ ـ أختي المسلمة ـ ما يقول هؤلاء وما ينمِّقون، وما يكتُبه الكاتبون وبعضُ المنحرفين في كتابَتِهم، الذين يكتبون بما تمليه قلوبُهم من الحِقدِ على الدين وأهله، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
أقلامٌ جائِرة، وألسنةٌ كاذبة، ومقالاتٌ خاطئة، سَطَّرت بأقلامها كلَّ ما يحارب العقيدةَ والقيَم والأخلاق، فاتَّقي الله أيتها المسلمة، ولا تنقادي لتلك الدِّعاية، ففيها هدمٌ لكرامتك وأخلاقِك، ونسخٌ لفضيلتك، وزجّ بك في التّرّهات التي لا نهايةَ لها سِوى الانحلال من القِيَم.
أسأل الله أن يحفظَ مجتمعَ المسلمين عامّةً من كل سوء، وأن يصلِحَ الأقوال والأعمال، وأن يعيذَنا من زوالِ نعمتِه ومن تحوُّل عافيته ومن فُجاءَةِ نقمتِه ومن سائر سخطه، وأنه من أراد الإسلامَ وأهله بسوء أن يكبتَه الله في نفسِه، وأن لا يمكِّنَه مِن مراده، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسَن الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمّة المهديين: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوِك وكرمِك وجودك وإحسانِك يا أرحمَ الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادَك الموحّدين...
(1/4677)
آداب العين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
إبراهيم بن علي الحدادي
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1-كثرة نعم الله تعالى. 2- من أعظم نعم الله تعالى. 3- تشريف الله تعالى لحاسة البصر. 4- واجبنا تجاه نعمة البصر: شكر الله تعالى، استعمالها في الطاعة وغضها عن المحارم، عدم الأذية بها، الصبر عند فقدها، الدعاء بحفظها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فإن في تقواه السعادةَ في الدُنيا والفلاحَ في الأخرى، فاتقوا الله تعالى في أنفسكم وأهليكم، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أما بعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ، وقال تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، فنِعَم الله على العباد كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وإن من أعظمها هو خلقك ـ أيها الإنسان ـ في أكمل صورة، فقد خلق أباك آدم بيده الكريمة، وأودَع فيك من النِّعم الشيء الكثير، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].
وإن أعظم نعمة في جسمك ـ أيها الإنسان ـ العينان، نعم العينان اللتان تبصر بهما الأشياء، فقد امتن الله على العباد بهذه النعمة وخصّها بمزيد عناية، وذكرها في كتابه في أكثر من موضع فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك:23]. قال ابن سعدي رحمه الله: "خصّ هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها، ولأنها مفتاح لكل علم، فلا يصل للعبد علم إلا من هذه الأبواب الثلاثة".
عباد الله، ولعظم هذه النعمة فقد أحاطها الله تعالى بمزيد عناية، فقد جعلها تعالى في أعلى الرأس، فهي كالمصابيح فوق المنارة لتتمكّن من مطالعة الأشياء، ولم تجعل في الأعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للآفات بمباشرة الأعمال والحركات، ولا جعلها في الأعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفّت والاطلاع على الأشياء، فلم يكن لها موضع يليق بها إلا الرأس.
وخصّها تعالى بالذكر من بين سائر الأعضاء وقرنها مع أعظم النعم فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78]، وقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:9].
وهذه النعمة من جملة النعم التي أخبر تعالى عنها أنها مما يسأل عنه العبد أمام ربه تعالى يوم البعث والنشور والوقوف للحساب، وخصها بالذكر فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. ولعظمها أيضًا فقد رتّبت الشريعة على الاعتداء عليهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
إذًا فهي من أعظم النعم وأكبرها وأكثرها قدرًا، فيا تُرى ما واجبنا تجاه هذه النعمة؟
إن الواجب عليك ـ أيها العبد ـ تجاه هذه النعمة ما يلي:
أولا: الشكر لمسديها تعالى، فبالشكر يبارك لك فيها، ولتعلم أنك لو عبدتَ الله تعالى طيلة عمرك بلا معصية فإن ذلك لا يوازي هذه النعمة.
ثانيًا: أن تُستَعمَل في طاعة الله تعالى، كالنظر في المفيد والتفكر في ملكوته تعالى وعظيم خلقه في الكون وفي الإنسان ذاته، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [لأعراف:185]. ولتحذر من النظر في متاع الدنيا وما متع الله به غيرك، لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، قال ابن سعدي في تفسيره: "لا تمدن عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتَّعين بها". فلا تستعملها في معصية الله تعالى، فليس هذا والله جزاء المنعم، ولا شكر المُنعم به، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "فتفهّم ـ يا أخي ـ ما أوصيك به، إنما بصرك نعمة من الله عليك؛ فلا تعصه بنعمه، وعامله بغضّه عن الحرام تربَح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة، وكل زمن الجهاد في الغض لحظة؛ فإن فعلت فعلت الخير الجزيل، وسلمت من الشر الطويل" اهـ.
فعلى المسلم غضّ بصره عن الحرام وعدم الاسترسال في مشاهدته، فقد أمر تعالى عباده المؤمنين بذلك حيث قال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وأمر المؤمنات بقوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]. يقول شيخ الإسلام قدس الله روحه: "النظر داعية إلى فساد القلب، وقال بعض السلف: والنظر سهم إلى القلب، فلهذا أمر الله تعالى بحفظ الفروج، كما أمر بغض الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك"، وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ : "هذا أمر من الله تعالى لعباده أن يغضوا من أبصارهم عمّا حرم عليهم، فلا ينظروا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرّم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري. أخرجه مسلم. وقال شجاع بن شاة رحمه الله: من عمّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكفّ نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال لم تخطئ له فراسة. وقال بعضهم: قال عيسى ابن مريم: إياك والنظرة؛ فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة. ويقول الشاعر:
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته يوم النِّزال ونار الحرب تشتعل
لكن من غض طرفًا أو ثنى بصرًا عن الحرام فذاك الفارس البطل
ولتعلم أخي أن لغض البصر فوائد، من أهمّها تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
وكنتَ متى أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك الْمناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم، فإن لم تقتل جرحت، وهي بمنزلة الشرارة من النار في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كلّه أحرقت بعضه كما قيل:
كل الْحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وغض البصر من أجلّ الأدوية لعلاج القلب، وفيه حسم لمادتها، وبامتثال المؤمن لغض البصر وحفظ الفرج يسلم من حبائل الشيطان وهواجس النفس وبلبلة الفكر وضياع دينه ودنياه، ويسلم المجتمع من إشاعة الفواحش والفوضى الجنسية بين أفراده.
ومن فوئد غض البصر أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، ويورث القلب سرورًا وفرحة وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهرِه عدوَّه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.
ومن فوائده أن يورث محبة الله، يقول مجاهد رحمه الله: "غض البصر عن محارم الله يورث حب الله".
أيها المؤمنون، وغضّ البصر في الشريعة على نوعين، قال ابن تيمية: "والله سبحانه قد أمر في كتابه بغضّ البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضه عن محلّ الشهوة، فالأول كغضّ الرجل بصره عن عورة غيره... وأما النوع الثاني من النّظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبيّة، فهذا أشدّ من الأول كما أن الخمر أشدّ من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلاّ لها كان عليه التّعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر" اهـ. مجموع الفتاوى (15/414).
وليحذر المؤمن كذلك من إطلاق النظر إلى بيوت الناس؛ فهو من النظر الحرام، قال ابن القيم: "ومن النظر الحرام النظر إلى العورات وهي قسمان: عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب" اهـ. مدارج السالكين (1/117). وقال ابن تيمية: "وكما يتناول غضّ البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات فإنه يتناول الغضّ عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أنّ البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين فى قوله تعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81]، فكل منهما وقاية من الأذى الذي يكون سموما مؤذيًا كالحرّ والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك" اهـ مجموع الفتاوى (15/379)، وقال أيضًا: "وكذلك المرأة مع المرأة، وكذلك محارم المرأة مثل ابن زوجها وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها عند من يجعله محرَما متى كان يخاف عليه الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب... ـ وقال: ـ والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذّذ بالنظر، فلو نظر إلى أمّه وأخته وابنته يتلذّذ بالنظر إليها كما يتلذّذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبيّة كان معلومًا لكل أحد أن هذا حرام، فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة". مجموع الفتاوى (15/377، 21/246).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وحشرني وإياكم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والخليل المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، وإن من واجبنا تجاه هذه النعمة ـ ثالثًا ـ أن تحاط بمزيد العناية والتقدير من الإنسان، فلا يعرضها للآفات والأخطار، ويجب عليه أن يبادر لإزالة الضرر والأذى عنها، فما هي إلا أمانة استودعك الله فلا تفرط في حفظها ورعايتها.
رابعًا: ومن أهم الواجبات أن لا يجعل العبد عينه أداة للقتل والإيذاء، فالعين حقّ كما أخبر بذلك المصطفى، قال : ((العين حق)) رواه البخاري ومسلم.
وللعين حقيقة وتأثير بإذن الله الكوني القدري، وهي حقّ ثابت شرعًا وحسًا، قال الله تعالى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]. قال أهل العلم في تفسيرها: أي: يعيّنوك بأبصارهم.
إن خطر العين عظيم، ولك أن تنظر هنا وهناك لترى كيف تزهق الأنفس وتدمّر البيوت وتنفق الممتلكات وتزول النعم بسبب نظرة من عين لم يبارك صاحبها ولم يخَف ربه تعالى، ولن أضرب لك هنا الأمثال من واقعنا المعاصر، فهي كثيرة، ولعلك تعرف ما لا أعرف وترى ما لا أرى، فما من بيت إلا ونال من شرّها واكتوى بنارها إلا ما رحم ربك، ولكني أكتفي هنا بما ورد في سنة النبي من قصة فيها بيان خطر العين، وأنها حقيقة ومؤثرة، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي سَهلُ بن حنيف رضي الله عنه بالحزار ـ من أودية المدينة ـ، فنزع جبّة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبّأة عذارء، فوعك سهل مكانه واشتدَّ وعكه، فأخبر النبيّ بوعكه، فقيل له: ما يرفع رأسَه، فقال: ((هل تتّهِمون أحدا؟)) قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله فتغيّظ عليه، فقال: ((عَلامَ يَقتُل أَحدكُم أَخاه؟! أَلا بَركتَ! اغتَسِل لَه)) ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخِلة إزاره في قدح، ثم صبّ عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته. رواه أحمد وهو في صحيح الجامع (3908).
نعم، علام يقتل المسلم أخاه بسببٍ ليس له فيه اختيار؟! فالله هو الذي أعطاه ومنعَك، ورزقه وقدَر عليك رزقَك ووسع له، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]. إذا رأيت ـ أخي ـ ما يسرّ فبارك عليه، ولا تؤذي غيرك بهذه النعمة.
عباد الله، وخطر العين عظيم وشرها مستطير، فكم من أنفس أزهقت وبيوت هدمت وممتلكات أتلفت بسبب نظرة عائن وحَسَد حاسد ولا حول ولا قوّة إلا بالله، فعلى المسلم الحذَر وتوخّي الأسباب والتي من أهمها تجديد الإيمان بالله والإخلاص له والتوكل عليه وكثرة ذكره، والإكثار من قراءة القرآن الكريم عموما، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، والتحصن بما فيه من سور وآيات، ومن ذلك سورة الفاتحة والبقرة والمعوذات وآية الكرسي، والالتزام بسنة خير البرية ، والمحافظة على الصلاة في وقتها، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وعدم إظهار المحاسن عند من يخشَى منه ذلك، قال سبحانه عن يعقوب عليه السلام: وَقَالَ يبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَىْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، قال ابن عباس وغيره: (إنه خشي عليهم العين)، والصدقة والإحسان فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء والعين وشرّ الحاسد.
وإذا أصيب المرء بالعين فعليه أن يبحث عمّن عانه ويطلب منه أن يغتسل له، قال عليه الصلاة والسلام: ((عَلامَ يَقتُل أَحدكُم أَخاه؟! أَلا بَركتَ! اغتَسِل لَه)) ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه من ورائه فبرأ سهل من ساعته. قال ابن باز رحمه الله: "وقد جربنا أن غسلَ الوجه والمضمضة وغسل اليدين وحدَه يكفي في إزالة العين إذا اتَّهم إنسانًا معينًا، ولو لم يغتسل".
فيجب على المسلم إذا أصاب شخصًا بعينه أن يغتسل له، ولا يتكبر وينفر وتأخذه العزة بالإثم ويقول: "لست أنا السبب، أنتم تبالغون، أنتم تتهمونني" إلى غير ذلك من الكلام والعبارات.
ثم لتعلم أن شربَ ماء زمزم والاغتسال به له تأثير عجيب، ففي الحديث: ((إِنَها مُبارَكة، هِي طَعامُ طُعمٍ وشِفَاء سُقم)) صحيح الجامع (2435)، وفي الحديث الآخر: ((مَاءُ زَمزمَ لما شُرب لَه)) صحيح الجامع (5502)، وكذلك الحبة السوداء، في الحديث: ((فِيْ الحَبَّة السَّودَاء شِفَاء مِن كُل دَاء إلا السَّام)) متفق عليه، والسام الموت.
ولا يجوز الذهاب للسحرة والمشعوذين، لا للعلاج ولا غيره، قال : ((مَنْ أَتى عَرافًا فَسأله عَن شَيء لم تُقبَل لَه صَلاةٌ أَربعينَ لَيلة)) رواه مسلم، وقال : ((مَن أَتى كَاهنًا أو عَرافًا فَصدقَهُ بما يَقولُ فَقد كَفرَ بِما أُنزلَ عَلى محمد)) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (5939).
ولا ينبغي التوهّم وكلما حصل للمرء مكروه ظنه من العين أو نحوها، إلا ما بان وظهرت علاماته أنه عين.
وأعظم الأسباب في دفع البلايا والأمراض هو الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع بين يديه بأن يدفع عنك شرّ الأشرار ويكشف ما بك.
والواجب على المسلم إذا رأى شيئًا فأعجَبه أن يبرّك عليه، بمعنى أن يدعو بالبركة، سواء كان هذا الشيء له أو لغيره، فالدعاء بالبركة له يمنع تأثير العين بإذن الله، قال : ((إِذَا رَأى أَحدُكُم مِنْ نَفسِه أَو مَالِه أو أَخِيه مَا يحب فَليُبرك فِإنَّ العينَ حَقٌ)) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.
خامسًا: من الآداب مع هذه النعمة نعمة البصر أن من فقد هذه النعمة أو جزءًا منها فليتحلَّ بالصبر، ففي الحديث القدسي: أن النبي قال فيما يريه عن ربه: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه. رواه البخاري.
سادسًا: الدعاء بأن يديمها الله عليك، وأن يمتعك بها، فقد كان من دعاءه : ((اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
(1/4678)
الحيل
فقه
البيوع
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
16/3/1425
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شر البقاع. 2- ضرورة الكسب. 3- تعريف الحيلة ومرادفاتها. 4- الحيل المشروعة. 5- الحيل الممنوعة. 6- وعيد المحتالين. 7- التورية والتعريض. 8- التحذير مما يقع من التحايل في المشارع التجارية والاستثمارية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول المصطفى : ((يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة)) أخرجه الترمذي، ويقول : ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته)) رواه مسلم.
لا بد للناس من مساس الحياة المادية، وكسب اليد درع يقي الابتذال، ولولا الكفاف أو الاستعفاف لتمندل قوم بآخرين. فهل يكون المال مطلوبًا لغيره أم لذاته؟ ومن عاش حاش، ومن خبر ظفر، وليس المقياس تعداد النقود، ولكن هي سُلَّم لصعود القيَم لمن فهم. وما أكثر الطرق وليست كلّها تؤدي إلى مكّة، ومن اقتفَى الحِيَل عايَن الفقر.
عباد الله، والحيلة هي الحذق في تدبير الأمور وتقليب الفكر؛ ليهتدي إلى المقصود، وأكثر استعمالها في تعاطي الخُبْث، وقد تستعمل في الحكمة، ويستعملها الفقهاء في العمل الذي يتحوّل به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب استعمالها عرفًا على سلوك الطرق الخفيّة التي يتوصّل بها إلى حصول الغرض، بحيث لا يُتَفطَّن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة. قاله ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (5/188). وقال الشاطبي رحمه الله: "فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع".
ومن الألفاظ ذات الصلة بها: الخداع والغرر والكيد والمكر، فالخداع وأصله إخفاء الشيء أو الفساد بإظهار مما يبطن خلافه جلبًا لنفع أو دفعًا لضر، ويفارق الحيلة في أنه لا يحتاج إلى نظَر وفكر. كذلك الغرر، وهو إيهام الإنسان على فعلِ ما يضرُّه. والكيد، وهو إيقاع المكروه بالغير على وجه المَكر والخديعة. والمكر، وهو صرف الغير عما يقصده بحيلة، ومنه المحمود والمذموم، وهو أخصُّ من الحيلة.
عباد الله، والحيل منها ما هو مشروع، ومنها ما هو محرم، فالحيل المشروعة هي التي تُتّخذ للتخلص من المآثم للتوصل إلى الحلال، أو إلى الحقوق، أو إلى دفع الباطل، هي الحيل التي لا تهدم أصلاً مشروعًا، ولا تناقض مصلحة شرعية، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء:98]، إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. والحيل المحرمة هي التي يُتوصَّل بها إلى محرّم، أو إبطال الحقوق، أو لتمويه الباطل وإدخال الشبه فيه، وهي الحيل التي تهدِم أصلا شرعيًا، أو تناقض مصلحة شرعية. فالحيل المحرمة تقوم على المخادعة والتلبيس والتدليس، وعلى اتخاذ الوسائل غير المشروعة للوصول إلى الحرام.
وقد لعن رسول الله المحلّل والمحلَّل له؛ لأن فيه استحلال الزنا باسم النكاح، وقال : ((قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)). وعاقب الله أصحاب السبت أن مسخهم قردة خاسئين بسبب تحايلهم وعدوانهم، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:65، 66]. وما أخبر به سبحانه عن أهل الجنة الذين ذكر قصتَهم في سورة القلم، وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم، إذا جذّوا نهارًا جاء المساكين ليلتقطوا ما يتساقط من الثمر، فأرادوا أن يقطعوا في الليل حتى يسقط حقّ المساكين، فعاقبهم الله بأن أرسل على جنتهم آفة سماوية، فأصبحت كالصريم هشيمًا يبسًا، فحُرِموا خير جنَّتهم لما تحايلوا على إسقاط حقّ المساكين، فكان ذلك عبرة لكل محتال يريد إبطال حق من حقوق الله أو حقوق عباده.
عباد الله، وهناك فرق بين الحيلة والتورية؛ إذ التورية والتعريض أن تطلقَ لفظا ظاهرًا في معنى وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ؛ لكنه خلاف ظاهره. ولا يتوسّع فيها، بل لا تجوز حتى يكون اللفظ محتملاً لها، وأن لا تستعمل في الظلم.
أيها الناس، التحايل المحرّم صفة مذمومة ممقوتة، ولها أثر سلبي في لبس الحقائق وتضليل الناس وخلق النزاعات، تورث سخطهم ومقتهم، وتدلّ على دناءة النفس، وتَحرِم بركة المال والعمر، كما تَحرِم إجابة الدعاء، وفي الحديث: ((المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم)) أخرجه الترمذي وأبو داود وحسنه الألباني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن من الحيل المذمومة الحيل لكسب السمعة واستغلال أسماءِ الناس وأصواتهم، والحيل لترويج سلعة معيّنة بأسلوب إعلامي مزوَّر، أو تمرير مشروع إفساديّ بطريقة التغرير بالسفهاء والدهماء والمراهقين.
ومن الناس من يستنزل همتَه ليستخدم المؤثرات على الآخرين، كاستغلال ثقتهم بالمتديِّنين للتسويق والتوثيق والتلميع، اعتمادًا على حسن الظنّ بهم أو رغبة في تشويه سمعتهم، أو بأصحاب الخبرة أو العلاقات أو النجاحات الوهمية، فيجعل ذلك فرصة لجمع الأموال والعمل بها تحت غطاء لا يظهره لأصحاب المال، ولربما لم يتورّع عن طرق الكسب المشبوهة المختلف في حكمها، ولو علم الناس لاعترضوا، كلُّ ذلك تحت غطاء عفوية الناس في التعامل مع بعض الأمور، أو بكارة المشروع، أو الطمع بالربح السريع. ثم هو يطرق معهم أبواب الحيل الممنوعة شرعًا إذا ما وقع في خسارة أو مصيبة التهمت حقوقهم احتيالا للصيد واحتيالا للتخلص، وبذلك تضيع الحقوق، وتكثر النزاعات، وتُتقاذف التهم، والله تعالى يقول: وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
عباد الله، هناك فرق بين الثقة والأمانة وبين فهم قانون العمل، سواء التجاري أو السياسي أو الاجتماعي. فأحيانًا يقع الناس دون تمحيص بسبب طمعهم، ثم إذا وقعت الفاجعة رجعوا يلومون من استغلَّ طمعهم أو غفلتهم. ومثل ذلك الإسقاط على الفتوى حين يدخل الناس في عقود ومبايعات من غير سؤال، فإذا حدث خلاف المتوقّع لديهم بحثوا عن المخارج من خلال القدح في المفتي أو عدم وجود مرجعية أو رقابة نظامية أو غيرها، كمشجب يعلّقون عليها أخطاءهم، وماذا عن مقولة: "القانون لا يحمي المغفلين"؟! فمن يحمي حقهم إذن؟!
بهذه العبارة البارِدة درج البعض على التعامل بسلبية مع كل من وقع عليه غَبن أو غشّ أو تدليس في إحدى معاملاته المالية، بحيث أصبحت عرفًا يخذل من حاول الشكوى أو اللجوء إلى القضاء، واستمرأها السوقةُ والأكلةُ حِكمة مسلَّمة، استغلّتها بدهاء شركات الربح السريع ومهرة التسويق، ومن ذلك مع الأسف بعض الشركات العقارية، فكان نتيجة ذلك مساهمات عقارية معلّقة منذ سنين طوال، وذريعة لبقاء أموال المساهمين تحت سمع وبصر القانون.
إن هذه العبارة المتداولة في عرف الناس ليس لها أصل في الشرع، بل دلّ على خلافها تمامًا، حيث ورد في الحديث الشريف أن منقذ بن عمرو وكان رجلاً قد أصابته آمة في رأسه، فكسرت لسانه، وكان يتّجر فيغبن، فأتى النبي فذكر له ذلك، فقال : ((إذا أنت بايعتَ فقل : لا خلابة، ثم أنت في كلّ سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، فإن رضيتَ فأمسك، وإن سخطتَ فارددها على صاحبها)) أخرجه ابن ماجه والحاكم وغيرهما.
ولقد سبق فقهاء المسلمين العالم بأسره في تأكيد الضمانات التي تحمي حقوقَ الطرفين، حتى وإن صدرت من أحدهما علامات الغفلة وأمارات الجهل بالتعاقد، ومن هذه الضمانات خيار المجلس والشرط وبيع المسترسل، وهو المشتري الجاهل يتعاقد مع من يشتهر بالسوق أنه صاحِب دِين وأمانة، فيطمئن له ويتعاقد معه، وهو جاهل بسعر السلعة، فيعلم البائع بذلك فيستغلّه، ويرفع عليه القيمة فوق سعرها الحقيقيّ في السوق، أو أن يستغلّ البائع ضعفَ المشتري الذي لا يحسن المماكسة في أمور البيع والشراء فيغبنه.
لقد تضمنت الشريعة الإسلامية الرحمة مقرونَة بالحكمة، وهي تقف مع الحق أينما وجد، فكيف بمن ظهر ضعفه وبان خلله؟! من باب أولى أن تقف نصوص الشرع ومن يطبقها من الفقهاء والقانونيين بجانب هؤلاء الذين لا يحسنون البيع والشراء، ولا يعرفون كيف يحمون أموالهم من أصحاب النفوس الضعيفة. إذا كان هؤلاء قد داخلتهم بعض الغفلة أيكون للمتلاعبين الحق في أكل ما يريدون من أموال بلا حسيب ولا رقيب؟! وهل تقوم الغرف التجارية بدورها في تدريب الناس فقه التعامل وآدابه وتشرف على العقود؟! وهل يكون للمحامين سبق في إعداد نشرات توعوية تردم هوّة الانفتاح التجاري بلا وعي وتخفّف معاناة القضاة وتدرأ الشماتة وتحفظ الحقوق؟!
وصلوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.
اللهم ارزقنا اتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه، واجمعنا به في جنات النعيم، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين...
(1/4679)
من أحكام البيوع
فقه
البيوع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
14/4/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب معرفة أحكام الله تعالى في المعاملات. 2- حكم بيع الثمار قبل بدو صلاحها. 3- صور النجش وحكمه. 4- حكم بيع المضطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، خيرُ وصيَّة وأفضلها وأوجبُها تقوَى ربِّنا وطاعتُه واجتنابُ نهيِه، فيا فلاحَ مَن اتَّقاه، ويا خيبةَ من عصاه.
معاشرَ المسلمين، مِنَ الواجب على المسلمِ أن يعلَمَ حكمَ الله في كلِّ تصرُّف يقدِم عليه، وفي كلِّ شأن يكون فيه. وإنَّ مما تعمّ به البلوَى بعضَ البيوع التي يتعامَل بها الناس، وتكثُر في أوساطِهم خاصّةً في مثل هذه المواسم، وهاتان مسألتَان مهِمَّتان لا بدَّ من معرفةِ حكمِهما وكيفيَّة التعاملِ الشرعيِّ فيهما:
المسألة الأولى: حكمُ بيع الثِّمارِ قبل بدوِّ صلاحها.
المسألة الثّانية: النجَش وحكمه الشرعيّ.
فأمّا المسألة الأولى فإنّ من المقرَّر شرعًا أنّه لا يجوز بيعُ الثمارِ على رؤوس الأشجار قبلَ بُدُوِّ صلاحِها، فلا يجوز بيعُ النخل في رؤوسِه حتى يبدُوَ صلاحُه بأن يتغيَّر لونُه فتظهَر فيه الحمرةُ فيما تظهَر فيه الحُمرة، أو الصفرة فيما يصفَرّ، ولا يجوز بيعُ العِنَب حتى يتَمَوّه أي: يبدُوَ فيه الماءُ الحلو ويلين ويصلُح للأكل، ولا يجوزُ بيع بقيَّة الثمارِ فيما لا يتلَوَّن كالرُّمّان مثلاً حتى يَبدوَ فيه النضجُ ويحلو ويطِيبَ [ويؤكل ما به]، وهكذا بالنِّسبة للزَّرع الأخضر، لا يجوز بيعُه في سُنبله إلا إذا اشتدَّ الحب وطاب، وعلى هذا دلالةُ السنّة الصحيحةِ في أكثر مِن حديثٍ، ومنها ما جاءَ عَن ابنِ عمر رضي الله عنهما قالَ: نهَى النبيُّ عن بيعِ الثّمَرةِ حتى يبدوَ صلاحُها، وكان إذا سئِل عن صلاحِها قال: ((حتى تَذهَب عاهتُه)) متفق عليه، وعند مسلمٍ من حديث ابنِ عمر رض الله عنهما قال: نهى النبيُّ عن بيعِ النخل حتى يزهوَ، وعن بيع السنبُل حتى يبيضَّ ويأمَن العاهةَ، نهى البائع والمشتري.
ولكن عباد الله، متى باع الإنسان مزرعةً أرضًا وبناء شجرًا وغرسا دخلتِ الثمرة حينئذ ودخَل الحبّ تبعًا ولو لم يبدُ صلاحه كما قرر ذلك الفقهاء، مع مراعاةِ أن الثمرة للبائع إذا أبِّرت إلاّ أن يشتَرِطَها المبتاع.
إخوةَ الإسلام، ومما هو جديرٌ بالتفصيل ما يتعلَّق بالنخيل لكثرة التعامل فيه بين المسلِمين، فبيعُ ثمرةِ النخلِ على ثلاثةِ أقسام:
أن يبيعَ ثمرةَ نخلِة بمُفرَدِها، فمتى تلوّنَت ولو في ثمرَة واحدَة جازَ بَيعها، وإلا وجَبَ الانتظار، وهذا بِلا خِلاف بين العلماءِ أنَّ بدوَّ الصلاحِ في بعضِ ثمَرة النّخلةِ أو الشّجرة صلاحٌ لجميعِها.
القِسم الثاني: أن يبيعَ ثمرةَ نوعٍ معيَّن منَ النَّخل، مثل أن يَبيع ثمرةَ جميعِ السُّكَّريِّ مثلا أو العَجوَة مثلاً التي في البُستان ببَيعة واحدةِ، فيكفي أن يتَلوَّن مِن هذا النوعِ بعضُه ولو في نخلةٍ واحدةٍ على الرّاجِح من قولَي العلماء.
القسم الثالث: أن يبيعَ ثمرة نخلِ البستان كلّه بجميع أنواعه المتعدِّدَة في البستانِ، فلا بدَّ أن يكونَ كلُّ نوعٍ قد بدا فيه الصلاحُ ولو في نخلةٍ واحِدَة مِن كلِّ نوعٍ على الأظهَرِ مِن أقوال العلماء، فإذا وُجِد في البستان ثلاثَةُ أنواعٍ مثلاً: برحيّ وسكّريّ وعجوة، وكل نوعٍ من هذه الأنواع الثلاثة قد تلوَّن بعضُه، كفى ذلك، ولكن إذا لم يتلَوَّن شيءٌ مِن النوعِ الواحد كأن لم يَتَلوّن شيءٌ منَ العجوة بعدُ فلا يجوز بَيعُ هذا النوع من العَجوَة حتى يتلوَّنَ ولو في بعضِه.
أما المسألةُ الثانية ـ عبادَ الله ـ فهي مسألة النَّجش، وما أكثرَها في التعاملات.
النجشُ صورتُه الغالبة أن يزيدَ أحدٌ في ثمنِ السِّلعَةِ وليس له غرضٌ في شرائِها، وإنما غرضُه زيادَةِ الثمَن على المشتَرِي؛ بأن يَغتَرّ غيره بسَومِه فيزِيد على هذا السَّومِ الصُّوريّ، إمّا لأجل مصلحَةِ البائع، أو لأجلِ مضرّة المشتري، أو لأجلِ الأمرين معًا.
ومِن صُوَرِه أيضا أن يمدَحَ سلعةَ غيره لتُباع، أو أن يذمّها لئَلاّ تنفق عنه.
ومِن صُوَرِه أيضا ـ كما ذكرَه ابن عبد البرّ عن الشافعي وغيره ـ أن يفعَلَ البائع طريقةً يعطِي فيها سلعتَه ثمنًا أكثَر من ثمنِها ليغُرَّ الناس بذلك وهم لا يعرِفون فعلها، كما يحصُل ذلك الآن في سوقِ الأسهُم مثلا.
إخوةَ الإسلام، ومِن صوَرِ النجش أن يحضُرَ المزايدةَ عِدّة أشخاص يتَّفِقون فيما بينهم على عدَمِ المزايَدَة حتى يشتَروا البِضاعة بسعرٍ قليل، ثم بعدَ انتهاء المزايَدَة ورسُوِّهِ على أحدِهم يبيعون السِّلعَة ويشتَرِكون في ربحِها، ويقبُح هذا الفعل ويعظُم ضرَرُه حينَما يكون في مزادٍ في سلعة لبيتِ مال المسلمين.
وإنَّ مما ينبغي فهمُه أنَّ الدلاَّل الذي يقوم بالحَراج على السلعة لا يجوز لَه أن يَبدَأ سعرَها أو أن يزيدَ فيها هو بنَفسِه وهو لا يريد شراءَها، فهذا منَ النجش المحرَّم، بل لا يَبدَأ ذكر سِعرٍ لهذه السِّلعة حتى يَبدَأ الحاضِرون المريدون للشِّراء.
والنّجش بصوَرِه ـ عبادَ الله ـ حكمه التحريم، وفاعِلُه عاصٍ وخدَّاع، ومتى حصَل النجش بأيِّ صورةٍ منَ الصّوَر المذكورةِ فلِلمشترِي الخيارُ حينئذٍ إذا حصَل غَبنٌ لم تجرِ العادةُ بمثلِه، الخيار بين الفسخِ والإمضاءِ على الراجِحِ من أقوال أهلِ العلم.
عن عبدِ الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبيُّ عن النجش، وقال عبدُ الله بنُ أبي أوفى رضي الله عنه: النَّاجِشُ آكل رِبا خائِن، وهو خِداع باطِلٌ لا يحلّ. أخرجه البخاري تعليقًا وأخرجه البيهقيّ في السنن الكبرى.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونَفَعَنا بما فيهِ منَ الهَديِ والبيان، أقول هَذا القَولَ، وأستَغفِر الله لي ولَكم ولِسائر المسلِمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى إحسانه، والشكرُ لَه على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونَبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسوله الدَّاعي إلى رِضوانه، اللّهمّ صَلّ وسلِّم وبارك عَليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله عَزّ وجلّ؛ فهِي وصيَّةُ خالقِنا وربِّنا للأولين والآخرين.
إخوةَ الإسلام، دينُ الإسلامِ دينُ المحبَّة والأخوَّة، دينُ الرحمة والرِّفق، دين السماحةِ والتيسير والتَّسهيل ورفعِ الحرج. وممَّا تُبتلَى به بعضُ المؤسَّسات الماليّة الجشَع الشَّديد وتقمُّص الفُرَص للإضرارِ بالآخَرين، ورسولنا يقول: ((رَحِم الله عبدًا سَمحًا إذا باع، سَمحًا إذا اشتَرَى، سَمحًا إذا اقتَضَى)) رواه البخاري.
وممّا أرشدَت إليه قواعدُ الشَّرع عدمُ استغلال حاجةِ المحتاج إلى البَيعِ لدَينٍ ركِبَه أو مؤنةٍ أرهَقَته، وأن لا يَجعَل المسلم حاجةَ أخيه فُرصةً لهَون قِيمَة سلعتِه وبخسِها عن ثمن مِثلِها، فهذه خصلةٌ لا تتَّفِق مع أخلاق المسلمين ولا مع مسالِكِ المؤمنين، وقد أخرج ابن أبي شيبةَ عن ابن عمَر رضي الله عنهما أنه قال: (لا يُباع مِن مضطرّ)، كما أخرج عن شُريحٍ أنه كان لا يجيز بيعَةَ الضَّغطَة أي: اضطرار، ومثل هذا النهي عن غير واحد من السلف رضي الله عنهم. وكلُّ ذلك محمولٌ على أنَّ المسلمَ ينبغي له أن يتَّقيَ الله جل وعلا في إخوانِه، وأن لا يبخَسَهم قيمةَ سِلَعهم بسبَبِ ظروفهم الحرِجَة وحاجاتهم النازلة، وعلى النهيِ عَن بيع المضطرّ توارَدَت نصوص الفقهاءِ لأدلّةٍ نقليّة ومصلحيّة مذكورة في مواضِعِها مبسوطَة في مواطنها، بل وقد نَصّ بَعضهم كفقهاء الحنفيّة والشّوكاني من المحقِّقين [على] أنّ بيع المضطرِّ وشراءَه فاسد.
فالحذرَ الحذرَ ـ أيها المسلمون ـ من مسالِكِ الجشعين وطمَع الطامعين.
ثم إنَّ الله جلَّ وعَلا أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهوَ الصّلاة والسلام على النَّبيِّ الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّدنا ونبيِّنا وقدوتِنا محمّد بن عبد الله، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/4680)
دعوة لإطفاء الفتنة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
14/4/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكرى النكبة والوضع الفلسطيني. 2- التحذير من فتنة الاقتتال. 3- وجوب إطفاء نار الفتنة. 4- الإشادة بالمبادرات الخيرة في الوقوف مع الشعب الفلسطيني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، من المؤلم والمؤسف أن تأتي الذكرى الثامنة والخمسون لنكبة فلسطين وقد سُفِكت دماء زكيّة على ثرى هذه الأرض الطاهرة بيد الإخوة أبناء الوطن والدّين والمصير الواحد، فهل أراد هؤلاء أن يزيدوا آلام النكبة آلاما أخرى، ويضيفوا إلى فصولها المأساوية فصلا جديدا آخر، يقود ـ لا سمح الله ـ إذا قدر له أن ينفَّذ إلى إنهاء القضية وإغلاق ملفّها بكارثة يضعها أبناء القضية الذين حلّت بهم النكبة وقدّموا الكثير من التضحيات لإزالة بعض جوانبها والتخفيف بين أبناء الوطن. لهي النكبة الحقيقية، لا بل الكارثة التي ألمت بالأمة والأرض والشعب وبكل مقدّراته ومقدساته، وهي تجاوز لكل أواصر الدين والعقيدة والأخوة والمواطنة الصالحة والصادقة، وهي اعتداء صارخ على أرواح الشهداء ودمائهم الزكية وانحراف جارف عن طريق العزّة والكرامة والفداء والعطاء، كما أن فتنة الاقتتال الداخليّ سهم قاتل موجّه إلى صدر الشعب وآماله في الحريّة والحياة الكريمة فوق ثرى وطنه الطهور، وهي خذلان لآمال وتضحيات الأسرى القابعين خلفَ القضبان ينتظرون يوم الحرية بكل صبر وثبات وعزة وإباء. ومع هذا كلّه فإن هذه الفتنة لا يوجد فيها رابح وخاسر من أبناء الشعب، بل هي خسارة للجميع، والمستفيد الوحيد منها هو المحتلّ الرابض على صدر الأمة، والذي يعمل كلَّ يوم على ابتلاع المزيد من الأرض وتكثيف مستوطناته وتسمينها وفرض الأمر الواقع من خلال ما يراه من مشاريع التوسّع والاستيطان ورسم الحدود وفقَ هواه بما يكفل أمنه بجدران الفصل العنصري التي تبتَلع ما تبقّى من أرض فلسطين بعد النكسة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إننا من على هذا المنبر الشريف منبر المسجد الأقصى المبارك نناشد كلّ الشرفاء من حمَلَة السلاح فوق تراب هذا الوطن أن يحقنوا دماء إخوانهم، وأن لا يوجّهوا سلاحهم إلى بعضهم بعضا، وأن يكونوا صفّا واحدا ضدّ من تسوّل له نفسه إثارة الفتن، فالله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، والرسول يقول: ((من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)). ومعنى الصرف التوبة، والعَدل الفدية. وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن وأد الفتنة في مهدها واجب على كل أبناء الشعب، ويقع العبء الأكبر على القوى والفصائل العامِلة في الساحة الفلسطينية وعلى مؤسّسات الحكم في الرئاسة والحكومة، ويكفي الشعب ما يعانية من ممارسات ظالمة وإجراءات تعسّفية التي يفرضها الاحتلال ويعاونه كثير من دول العالم بإحكام الحصار على أبناء شعبنا وحرمانه من لقمة عيشه للوصول به إلى الاستسلام وقبول مخطّطات الذلّ والهوان التي يمارسها الاحتلال وتدعمه في ذلك قوى الاستعمار والاستكبار. جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ـ ، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، في ظل الحصار الخانق على أبناء شعبنا تأتي المبادرات الخيّرة والطيّبة من أبناء الأمة ومن أبناء هذا الشعب لتخفيف وطأة هذا الحصار الذي حرم أبناء شعبنا من أدنى مقوّمات الحياة ومن أبسط حقوق الإنسان التي نادت بها كل الشرائع الإلهية والأنظمة والقوانين الوضعية.
ومن هذه المبادرات ما يجري من مسيرات ومظاهرات في بعض أقطار المسلمين تطالب حكام الأمة وشعوبها بالعمل على نصرة شعبنا الفلسطيني وفكّ الحصار عنه بكل الوسائل الممكنة وفتح باب التبرّعات بالمال وغيره من المساعدات العينيّة لسدّ حاجة شعبنا من الدواء والغذاء. وإن إقدام رجلين من رجال الأعمال من أبناء شعبنا الفلسطيني بالتبرع بخمسة ملايين دولار لهو عطاء يشير بوضوح إلى مدى الإحساس بالمسؤوليّة وتحمّل الأعباء تجاه أبناء شعبهم في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها أبناء شعبنا جميعا، وهي بادرة خير وأسوة حسنة تدعو القادرين من أبناء شعبنا ـ وهم كثر ـ إلى اتباعها ومدّ يد العون والمساعدة لاستمرار صمود هذا الشعب، وإن الموسرين من أبناء شعبنا لهم الأولى ببذل أموالهم في تعزيز صمود هذا الشعب وتشبّثه بأرضه ووطنه من أولئك الغرباء عن هذه الأرض الذين يبذلون القناطير المقنطرة من الذهب والدولارات لإقامة المستوطنات وجلب المستوطنين إليها من أصقاع الدنيا والعالم. وهذا الذي عملوا عليه قبل حلول النكبة عام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين، واستمروا به بعد النكسة عام ألف وتسعمائة وسبع وستين، وصولا إلى جدار الفصل العنصري الذي يقتطع أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية، والذي يحوز اسم النكبة الثالثة بامتياز.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن الفعاليات التي يقيمها أبناء شعبنا في ذكرى النكبة يجب أن لا يغيب عنها التحذير من أضرار هذا الجدار ومتابعة العمل على جميع الصُّعد لإزالته، في الوقت الذي ندعو فيه أبناء شعبنا إلى التمسك بأرضهم وحقوقهم، وبخاصة حق العودة للاَّجئين إلى ديارهم التي أخرجوا منها.
ومن المبادرات الخيرة والتي يجب على كلّ القوى الفاعلة في ساحتنا الفلسطينية العمل على إنجاحها مبادرة الدعوة إلى الحوار الوطني للخروج بموقف واحدٍ موحّد يحفظ شعبنا من الانزلاق إلى مواطن الردّى والفرقة، ويرتفع به إلى مستوى المسؤولية التي تليق بشعب طالما جاهد وناضل للوصول إلى حريّته واستقلاله فوق تراب وطنه الطهور، فلا يجوز الخلاف على وطن ما زال يرزح تحت وطأة الاحتلال، كما لا يجوز الاقتتال على سلطة ما زالت لا تملك من أمر هذا الوطن شيئا.
فاعملوا ـ أيها الإخوة من أبناء الوطن ـ على جمع حقّكم وتوحيد موقفكم؛ حتى تكونوا على مستوى التحدّيات التي تواجه الوطن والشعب وتكاد تعصف بهما، فلا عذر لمفرّط أو متهاون بحقوق الأمّة أمام الله والشعب والتاريخ، واعلموا أن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ أم ضيع؟
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلّ مكان، ومن المبادرات الخيرة لدعم الشعب الفلسطيني انعقاد مؤتمر العلماء المسلمين في قطَر، والذي دعا إلى مناصرة شعبنا الذي يعاني الحصار، وأهاب بالأمة شعوبا وحكومات وأفرادا إلى مد يد العون لإخوانهم في هذه الأرض المباركة، كما دفع هذا المؤتمر علماء الأمة إلى واجهة الأحداث في الدعوة والتأثير وأخذ دورهم الريادي في توجيه الأمة إلى خيرها وتوحيد كلمتها إزاء كل القضايا التي تخصّ الأمة، وفي مقدّمتها قضية فلسطين أرض الرباط وموطن الإسراء والمعراج وحاضنة المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تشدّ إليه الرحال.
والله نسأل أن يوفق كلّ المخلصين والعاملين على حماية هذا الشعب ونصرة قضيته من أبناء الأمة إلى ما فيه خير أمتنا وشعوبها، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو ولي ذلك والقادر عليه.
(1/4681)
وسط الاختبارات
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار ابتلاء واختبار. 2- رسالة إلى الطلاب والطالبات بمناسبة الامتحانات. 3- رسالة إلى المعلمين والمعلمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، هذه الدار دار الدنيا هي دار امتحان واختبار وابتلاء، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. وهذا الاختبار نهايته تكون بالموت، ونتيجته يوم القيامة، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
ونحن في هذا الاختبار مراقَبون، وكل حركاتنا مرصودة، قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]. وكل قول نتلفظ به فإنه مسجل علينا، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
أيها المسلمون، هذه الدنيا دار ابتلاء، فلنحذر أن تلهينا عما خلِقنا له، فمَثَل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلّما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله. وقيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كلّ زينة، فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكم مات عنك أم كلّهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى عليه السلام: بؤسًا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟! كيف تهلكينهم واحدًا بعد واحد ولا يكونون منك على حذر؟! وقال عليه الصلاة والسلام كما جاء في البخاري: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع)).
أيها المسلمون، ها هم أبناؤنا في هذه الأيام يعيشون همّ الاختبارات، ومن هنا فإني أوجه بعض الرسائل للطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات.
أيها الطلاب والطالبات، العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه، فقال: "إني أرى أن الله قد ألقى في قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية"، وقال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتاه عاصي
فترك الصلاة أو جمعها أو تأخيرها بالنوم عنها بحجّة الإرهاق والتعب مع الاختبارات أو التخلف عنها في الجماعة، كل ذلك من الآثام والمعاصي التي تطفئ نور العلم الذي في قلبك.
أيها الطلاب والطالبات، حافظوا على الصلوات الخمس في أوقاتها، وستجدون العون والتوفيق من الله تعالى.
أيضًا في هذه الأيام نلاحظ أن بعضًا من أبنائنا قد انشغل بتناول المنبهات والمسكرات، والتي ينشط مروِّجوها في هذه الأيام في صفوف البنين والبنات، فهذه معصية حذّر الشرع منها وعاقب عليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. والخمر وإن سميت بغير اسمها فهي أم الخبائث، ومن شربها لا تقبل صلاته أربعين يومًا، وإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية كما جاء في الحديث الصحيح، وقال النبي : ((ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)) وهي صديد أهل النار. فاحذروا معصية المسكر والمخدّر؛ لأنها تطفئ نور العلم وتفسد الجسم وتمرضه.
أيها الطلاب، في أيام الاختبارات تكثر التجمعات الطلابية خارج المدارس، وتزداد جلسات الأنس على الأرصفة والمطاعم الشعبيّة والبوفيات وعلى شاطئ البحر وغير ذلك، وهذه فرصة ثمينة يستغلها ضعفاء النفوس للتغرير بأبنائنا ودعوتهم إلى سيئ الأخلاق، ودعوتهم إلى التعرف على بعض أصدقاء السوء، ودعوتهم على تعاطي الدخان وغيره، بل هذه فرصة أيضًا لاستعراض المهارات والعضلات من خلال التفحيط والعبث بالسيارات، أو التجوال حول مدارس البنات. ورجال الهيئة ورجال الأمن ـ وفقهم الله ـ يشتكون من كثرة المصائب والحوادث والمعاصي في هذه الأيام القليلة، بل إني قرأت في إحدى الصحف المحلّية أن الطالبات كذلك يجدن الفرصة في هذه الأيام للتجوّل في الأسواق والأماكن العامة.
فيا أيها الطلاب والطالبات، احذروا رفقاء السوء، وعليكم بالعودة للبيوت والخلود للراحة، ولا تطفئوا نور العلم بهذه المعاصي.
أيها الطلاب والطالبات، إنّ حرص المسلم على مستقبله أمر مهم، والمؤمن كيس فطن، والمؤمن يحرص على ما ينفعه ويترك ما يضره. ولعلكم تلاحظون جميعًا في هذه الأيام ومع الاختبارات تعرض المباريات التي تشغل أبناءنا عن دراستهم، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، والملاحظ أن درجات الطلاب ومستوياتهم متدنية بشكل واضح وكبير، وبالذات لطلاب الثانوية العامة الذين سيتخرجون في هذا العام بإذن الله، ولن يلاحظ هذا إلا من كان مشاركًا في لجان التصحيح للثانوية العامة، ولعل لهذه المباريات دورا في تدني المستوى.
فيا أيها الأبناء، احرصوا على مستقبلكم، أنتم الآن في وضع يتطلب منكم الجد والاجتهاد، فلا تفرح وتأنس بدقائق يتبعها الندم والحسرة بقية العمر.
أيها المسلمون، في هذه الأيام تظهر معصية محرمة، ألا وهي ظاهرة الغش من الطلاب والطالبات، ومباركة بعض الآباء والأمهات، أو من قبل فزعة بعض المعلمين والمعلمات، وذلك بإتاحة الفرصة للطلاب والطالبات أثناء الاختبارات بمزاولة الغش وغض الطرف عنهم، والرسول قال: ((من غشنا فليس منا)). والغش له نتائج سيئة على المجتمع؛ فتخيل طبيبًا نجح بالغش فكيف سيكون ناصحًا للمرضى؟! ولماذا في هذه الأيام نسمع كثيرًا عن الأخطاء الطبية حتى ذهبت أنفس بريئة؟! لعله من الأسباب ظهور بعض الأطباء وبعض المهندسين وبعض الإداريين وبعض الفنيين وبعض المختصين الذين درسوا وتخرجوا ولكنهم بالغش، فغضّ المجتمع بأكمله حتى وجدنا النتيجة فيما نقرؤه في الصحف وفيما نسمعه في الإذاعات، وصدق رسول الله : ((من غشنا فليس منا)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: كلمة أخيرة أقدمها للمعلمين والمعلمات:
أيها المعلمون والمعلمات، اتقوا الله تعالى واحذروا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا دعوة المظلوم، وإياكم والانتقام للنفس والتشفي لها وتصفية الحسابات مع من أساء إليكم، اعفوا واصفحوا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]. وارحموا هؤلاء الطلاب؛ فالراحمون يرحمهم الله. ثم اغتنموا ساعات الملاحظة بذكر الله تعالى والاستغفار والصلاة على النبي ، وفي الحديث: ((ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) ، وتدبر في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
عباد الله، صلوا وسلموا على نبيكم محمد...
(1/4682)
محبة النبي
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد المجيد بن غيث الغيث
الرياض
جامع الدرعية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر حب الصحابة للنبي. 2- فداء الصحابة للنبي. 3- حب الجماد للنبي. 4- وجوب حب النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ إذ بها النجاة يوم يبعثون، وبها الفوز يوم التغابن، وبها تنصرون وترزقون، وكل نبي قال لقومه: فَاتَّقُوَا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإن للذين اتقوا عند ربهم جنّات وعيونا.
أيها المسلمون، منظرٌ عجيب وتصرفٌ فريد، لا يمكن أن يحدّد كنهه، هو صورةٌ مرسومةٌ في خيال المؤمن فحسب، فلنتأمل كيف كان أصحاب محمد رضي الله عنهم يحسبون محمدًا.
أيها المحبون لنبيهم، في حديث طويل عند البخاري في صحيحه في قصة الحديبية: قال: ثم إنّ عروة بن مسعود جعل يرمق أصحاب النبي فقال: فوالله، ما تنخّم محمد نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدَلك بها وجهته وجِلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمدٍ محمدًا... الحديث.
الله أكبر، محبة تترجمها الأفعال قبل أن تُقال، ووالله لقد صدق عروة؛ فما أحد في الدنيا قد أحبّه أصحابه مثل هذا الحبّ، حتى الأم مع رحمتها وحبها لوليدها وعطفها عليه فإنها أبدا لا تدلك جسدها بنخامَته ولا تحتفظ بشعره. ولم نرَ محبّا أو عاشقا في سجلّ التاريخ قد دلك نخامة حبيبه على جسده، أو بادر إلى فضلة ما اغتسل به فاغتسل به أو شربه.
أيها المؤمنون، هذه صور من صور محبة أصحاب نبينا له، كأنها الأساطير، وهي والله حق اليقين، لكنها فاقت في حقيقتها واسع الخيال، ولا عجب؛ فإن جبلاً أصم أحبه بأبي هو وأمي ، ففي الصحيحين من حديث أنس أن الرسول بدا له أحد فقال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) ، فلا غرو إن أحبه الحصى أن تُحِبَه القلوب المتدفّقة دما وروحا.
ويوم أحد بأبي هو وأمي ، فقد اشتدّ العراك بين يديه، واشتد الحصار عليه، ولم يكن حوله إلا تسعة نفر، فناداهم: ((هلموا إليَّ أنا رسول الله)) ، فسمع المشركون صوته، فكرّوا إليه وهاجموه، ومالوا عليه بثقلهم، فجرت بينهم وبين النفر التسعة ما أظهَر نادرَ الحب وعظيم التفاني.
روى مسلم في صحيحه أنه انفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: ((من يردّهم عنا هو رفيقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فما زال هكذا حتى قتِل السبعة، فقال الرسول لصاحبيه أي: القرشيين: ((ما أنصفنا أصحابنا)). والقرشيان هم طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، فقد قاتلا مع رسول الله وهما اثنان، فلم يستطع أحدٌ من المشركين مع كثرتهم الوصول للرسول ، فقد شلّت يد طلحة وهو يقِي النبي ، وقال الرسول عنه: ((من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)).
ولما علم الصحابة بعدَم وفاة النبي في أُحُد وسمعوا صوتَه فاؤوا وأسرعوا إليه، وأقاموا السياج حوله بأجسادهم، وفي مقدمهم صاحبه في الغار، ولقد رُمي حتى غابت حلقتان من حِلَق المغفر في وجنته، قال أبو بكر: فذهبت لأنزعهما عن النبيّ ، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فأخذ بفيه فأخذ ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله. ثم استلّ السهم بفيه حتى ندرت ثنيةُ أبي عبيدة، ثم نزع أبو عبيدة الحلقة الأخرى التي كانت في وجنة النبي حتى ندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.
وممن اجتمع عليه يوم أحد عمر وعلي وحاطب بن أبي بلتعة ومالك بن سنان وأبو دجانة. كما أن أبا دجانة قام فترّس على النبي بظهره، والنبل يقع عليه فلا يتحرّك. وقاتلت دونه حتى النساء مثل نسيبة بنت كعب المشهورة بأم عمارة.
وامتصّ مالك بن سنان والدُ أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، امتص الدّم من وجنة الرسول ، فقال له الرسول : ((مُجّه)) ، فقال: والله لا أمُجّه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي : ((من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))، فقتل شهيدا رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المحبون لرسول الله ، ومن صور الحب له أن بكى أبو طلحة بكاءً شديدًا من شدة الفرح حين أعطاه رسول الله نصف شعره بعد أن حلقه.
وللنساء أيضا موقفهن للتعبير عن عظم المحبة له ، فإن رسول الله لما فرغ من غزوة أحد ودَفن الشهداء ورجع إلى المدينة لقيته امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها في المعركة، فلما نعوا إليها ما صرخت ولا بكت ولا ذرفت الدمع من عينيها بل قالت: ما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليه حتى رأته، ثم هدأت وسكنت ثم قالت: كل مصيبة بعدك جلل. فلم تبكِ زوجا ولا أبا ولا أخا، فكلهم عندها فداء للحبيب.
وأما الصديق رضي الله عنه فلقد كانت محبّته له عجبا، وما قصة الغار عن أذهاننا ببعيدة، ولا بكاؤه يوم الهجرة، ولا مواقفه العظام كذلك.
ولما غدر المشركون بخُبيب وبإخوانه من القراء فأسروه ثم أعطي لأهل مكة ليقتلوه، ووضعوه على الخشبة وقالوا له: أتحب أن محمدا مكانك؟ فقال: والله، ما أحب أن محمدا في مكانه وتصيبه شوكة وأنا جالسٌ في أهلي.
وفي صلح الحديبية بعث الرسول عثمانَ بن عفان رسولاً إلى قريش ليفاوضهم، قال المسلمون: هنيئا لعثمان لعلّه طاف بالكعبة، فلما رجع عثمان قال: والله، ما كنت لأقدم على ذلك قبل أن يطوف رسول الله.
وكان الرسول يقيل ببيت أم أنس بن مالك رضي الله عنهما، فَعَرِقَ فجاءت بقارورة فجعلت تأخذ العرق فيها، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام فقال: ((يا أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟)) قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو أطيب عندنا من الطيب.
أيها الناس، وإن المسلم وإن عجز عن أن يستوعِب حبّ الصحب لنبيّهم حتى إن نخامته لا تقع على الأرض كما مرّ بنا فإن أعجب من هذا قد حصل، فإن صنيعهم هذا لم يكن بأعجب من صنيع الجذع وهو جماد إذ بكى الجذع الذي كان يخطب عليه قبل أن يتخذ المنبر، فلما تركه واتخذ المنبر سمع للجذع حنينٌ وبكاء، وما سكت حتى أتاه النبي ، فضمه فسكت الجذع وسكن، قال جابر راوي الحديث: فصاحت النخلة صياح الصبيّ، ثم نزل النبي فضمّها إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكَّن. والحديث في البخاري. وكان الحسن البصري رضي الله عنه إذا حدث بهذا الحديث قال: "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه".
اللهم إنا قد حرمنا رؤياه في الدنيا فلا تحرمنا رؤياه في الجنة، اللهم واسقنا يوم القيامة من حوضه، وأدخلنا في شفاعته، واحشرنا في زمرته.
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، وفي هذا حضّ وتنبيه ودلالة على وجوب محبة النبي.
وثبت عنه أنه قال: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجاه من حديث أنس، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث، وعند البخاري من حديث عمر: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه)) ، قال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب، لأنت أحب إليّ من نفسي التي بين جنبيّ، فقال الرسول : ((الآن يا عمر)).
أيها المسلمون، جاء رجلٌ إلى النبي فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال له : ((ماذا أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له النبي : ((أنت مع من أحببت)).
فأبشروا وأمّلوا، فإن المحبة من أكبر دوافع العمل والترك، ودليل المحبة الاتباع، كما امتحن الله المدعين لها بذلك فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فمن أحب الرسول كان من أتباعه له مقياسا لهذه المحبة، وإعراضه عن أمره دليلاً قاطعا على نقصها أو انعدامها.
فلنكن كأصحاب المصطفى رضي الله عنهم الذين إذا نيل من النبي نيلاً زادهم ذلك يقينا به وحبا ونصرة له باتباع هديه عليه الصلاة والسلام.
وما يفعل الأعداء ذلك إلا لزعزعة الدين في قلوب المسلمين، فلنزدهم غيظا، لا بسبهم ولا بشتمهم، إنما نزيدهم غيظا وخنقا بالتثبّت بسنة رسول الهدى وهدي سيد الخلق والورى، ونزيدهم غيظا بالصلاة والسلام عليه امتثالاً لأمره سبحانه وحبا له : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم...
(1/4683)
الأم رمز الرحمة والحنان
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
23/3/1427
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب فضل أويس القرني. 2- فضل الأم ومعاناتها. 3- الأمر ببر الأم. 4- صور من بر السلف الصالح بأمهاتهم. 5- إحسان الأم لا يكافأ. 6- من قصص العقوق في العصر الحاضر. 7- حق الأم على ولدها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى والسعادة الكبرى والنجاةُ العظمى في الآخرة والأولى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، وصف لنا النبي رجلاً بأدق وصف؛ بل ذكر علامةً تميزه عن غيره، وقبيلته التي يُنْسَبُ إليها، وأخبر عن علو منزلته عند الله وعند ورسوله ، حتى أنه أمر البررةَ الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها؛ لأنه إذا أقسم على الله أبره.
وأما عملُ هذا الرجل وآيَتُه العظيمةُ التي أهلته لهذه المنزلة ما حدث به رسولنا أصحابَه بقوله: ((يأتي عليكُم أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ معَ أمْدادِ أهلِ اليمن مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كان به بَرَصٌ فَبَرِأَ مِنْهُ إلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له والدةٌ هو بها بارٌ، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ، فإِنِ اسْتَطَعْتَ ـ أي: يا عمر ـ أنْ يَسْتَغْفِرَ لك فافْعَلْ)) رواه مسلم، فكان عمر إذا أتى عليه أمدادُ أهلِ اليمن يسألهم عنه: أفيكم أويس بن عام؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مُرَادٍ ثُمَّ من قَرَنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فَبَرأتَ مِنْهُ إلا موضِعَ دِرْهَمٍ؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول.. وذكر الحديثَ السابقَ، وطلب منه أن يستغفر لهُ، فاسْتَغْفَرَ لَهُ.
إنه أويس بن عامر القَرَنِي الذي منعه بِرُّه بأمِّه قدومَهُ على النبي ليراه ويسمعَ منه.
عباد الله، البرّ بالأم علامةُ كمالِ الإيمان وحُسْنِ الإسْلام؛ لأنها صاحبةُ القلب الرحيم والصدر الحنون، التي سرت الرحمةُ في جسدها كسريان الدم بالعروق، ونفْسُها الطيبة وَسِعَتْ ما لم تسعه ملاينُ النفوس. تُحِبُّ وإنْ لم تُحَبّ، وتصفح وتسامح من يَجْهَلُ عليها، تَحْزَنُ ليفرح غيرُها، وتشقى ليرتاح غيرها، تقدِّم وتضحي، وتُعطي ولا تطلب.
جاء رجلٌ إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
أُمُّكَ ـ يا عبد الله ـ التي حملتك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كُرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى. وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر وَتتصبّر, وعندما أبصرتك بجانبها وضمّتك إلى صدرها واستنشقت ريحَك نسيت آلامَها وتناست أوجاعها، رأتك فعلّقت فيك آمالها، ورأت فيك تحقيق أحلامَها، ولسانُ حالِها يقول:
يا حبذا ريحُ الولد ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد أم لم يلد مثلي أحد
ولا ينتهي العناء والتعب عند ولادتك، بل حتى بعد الولادة؛ حيث تنشغِلُ في خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتقوّيك بضعفها، طعامك درّها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، وتجوع لتشبع، وتسهر لتنام، تخاف عليك رقّةَ النسيم وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة.
على الأكتاف تحمل والأيادي وحبك في الضلوع وفي الفؤاد
فأي بشائر حلت علينا كما حل الربيع على البوادي
لك البسمات ساحرة تغنِّي وتنسينِي مرارات البعاد
فنم ولدي بِمهدك فِي هناء وداعب طيف أحلام الرقاد
وإن حل الظلام بِجناحيه وأرخى ظله فِي كل واد
ونام الخلق في أمنٍ جميعا فقلبي ساهر عند المهاد
ويا ليتَ العناء ينتهي عند هذا، بل يستمرّ ويستمر عند بدايتِك بالمشي، فتُحِيطك بعنايتها، وتُتَابِعُك نظراتُها، وتسعى وراءك خوفًا عليك، حتَّى إذا أخذت منك السنين أخذ منها الشوق والحنين، فصورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، وصوتك أنْدى على مسمعها من صوت البلابل وتغريد الأطيار، وريحُك أروع عندها من الأطياب والأزهار، وسعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، وحياتُك عندها أغلى من نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بنِ جاهمة السّلَمِي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((وَيْحَكَ، أحَيَّةٌ أُمُّكَ؟)) قلت: نعم، قال: ((ارْجِعْ فَبرَّهَا)) ، ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فَبَرَّهَا)) ، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ)). إنها الجنة وربّ الكعبة، ((الزم رجلها فثمّ الجنة)). والحديث صححه الألباني رحمه الله.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرّع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا ابن مسعود رضي الله عنه طلبت أمه أن يسقيها ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح. وهذا حَيوَةُ بنُ شريح وهو أحد أئمة المسلمين يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حَيوَةَ ـ فأطعمِ الدجاج، فيقوم ويترك التعليم. ويقول محمد بن سيرين: بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمّه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلةَ قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها. وعبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمّه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمّه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بُكاها.
فأين هذا النماذج ـ عباد الله ـ من شابّ عاق أودع أمّه دار العجزة ولم يزرها حتى تردّت حالتها فطلبت من مسؤول الدار أن يتّصل بوَلدها لتراه وتقبِّله قبل موتها، فسبقتها دموعها قبل أن تسمع جواب ولدها بالرّفض والاعتذار بضيق الوقت وكثرة الأعمال والأشغال، فلما توفّيت الأم اتصلوا بذلك الابن لإخباره فقال: أكملوا إجراءاتكم الرسمية وادفنوها في قبرها. نعوذ بالله من الحرمان ومن سخط الملك الديان.
قال أبو موسى الأشعري : شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إنِّي لَها بعيرها المذلَّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من زفراتِها؛ ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان.
وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطيّة لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءَك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
عباد الله، شابّ تخلّص من أمّه المعاقة برميها عند باب أحد المستشفيات، وآخرُ أودعها دارَ العجزة بحجة ترميم شقته، وآخر يُسمِعُها كلماتِ السبّ والشتائم إذا تكلمت في زوجته وعصت أمرها.
وذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق، يقول: دخل عليّ رجل ومعه زوجته ومعهم عجوز تحمل ابنهم الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات تشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتم فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريال؟! قال: لهذه المرأة قد أخذَت خاتمًا، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلَقت إلى السيارة تبكي من عقوقِ ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة، لماذا أغضبت أمك؟ فمن يحمِل ولدنا بعد اليوم؟! ذهب الابن إلى أمه وعرض عليها الخاتم فقالت: والله، ما ألبس الذهب حتى أموت.
فآهًا لذي عقل ويتّبع الهوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
نعم عباد الله، يدخل الزوج وهو يعيش مع أمه أو هي تعيش عنده، يدخل البيت عبوسَ الوجه مُكْفَهِرّ الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأمّ الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، وربما دخل ومعه هديّة لزوجته، فيعطي زوجته ويدَع أمه.
فلا تطع زوجةً فِي قطع والدة عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أمًّا ثقلَك احتملت وقد تَمرغت فِي أحشائها عسرا
وعالَجت بك أوجاع النفاس وكم سُرَّتْ لَمّا ولدت مولودها ذكرا
وأرضعتك إلى الحولين مُكْمَلَةً في حجرها تستقي من ثديها الدررا
ومنك ينجسها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتنا ولا قذرا
و(قل هو الله) بالآلاف تقرؤها خوفًا عليك وترخي دونك السُتُرا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تفضّل عليها زوجة أبدًا ولا تدع قلبها بالقهر منكسرًا
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج، وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهةٍ مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك وامرأة عجوز جالسة على بساط صغير كأنها تنتظر أحدًا، قال: فمكثنا طويلاً حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخِّرة من الليل سألتُ العجوز فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالَة؟! فقالت: إنَّ ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له وسوف يأتي، فقلت لها: لكن ـ يا خالة ـ الساعة متأخِّرة، ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة، قالت: دعني وشأني، وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرّك ورقة في يدها، قال: فقلت لها: يا خالَة، هل تسمحين لي بهذه الورقَة؟ يقول في نفسه: علِّي أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا ـ يا إخوان ـ ما وجد فيها! وجد فيها ما تدمع لأجله العيون وتتفطّر لهوله القلوب، عبارة يا لها من عبارة كُتِبت بأنامل ابنها العاق: "إلى مَن يعثر على هذه العجوز، نرجو تسليمَها لدار العجزة عاجلاً".
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعِبت وتألَّمت وأرضعت هذا جزاؤها!! مَن يعثر على هذه العجوز فليسلّمها إلى دار العجزة عاجلاً. هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلبًا يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً بنقوده كيما يَحيق به الضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجرًا في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعته هوَى فتدحرج القلب المعفّر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفّر: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرَر
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه خِصام أو خلاف أن يصلحَ ما بينه وبينهم، ومن كان مقصّرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في برّ والديكم، ومن كان برًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميِّتَين فيتصدّق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت ـ أيها العاق ـ فاعلم أنك مجزيّ بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخَّر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق؛ فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعْدُ: أخي الحبيبُ، إن حق الأم عليك عظيم، وشأنها كبير، فمن حقوقها أن لا تدعوَها باسمها، بل نادِها بما تحبّ من اسمٍ أو كنية، ولا تجلس قبلها، ولا تمش أمامها.
قابلها بوجه طَلْقٍ، وقبّل رأسها، والثَم يدها، وإذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة، وأجِب دعوتها إذا دعتك من دون ضجَر أو كراهية، تكلّم معها باللين، أطعمها واكسُها وأهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كن خادمًا مطيعًا لها، أطعها في غير معصية، لا تسبقها بأكل أو شرب، الهج بالدعاء لها آناء الليل وأطرافَ النهار، وغضَّ الطرفَ عن أخطائها وزلاتها، وقِّرها واحترمها، ولا تتكبّر عليها، فقد كنت في أحشائها وبين يديها.
أدخل السرور عليها، وصاحبها بالمعروف، واطلب السماح والصفحَ والدعاءَ منها فإنها جنتك.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربُّكم بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة...
اللهمّ أعنا على برّ والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما وأعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، واجمعنا بهم في دار كرامتك يا رب العالمين...
(1/4684)
قضية الامتحانات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, التوبة, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
22/8/1419
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الطلاب وقت الامتحانات. 2- رسالة إلى الآباء والأمهات لتعظيم امتحانات الآخرة في قلوب الأبناء. 3- رسالة إلى الطلاب في مواصلة الجد والاجتهاد بعد الامتحانات. 4- العناية والاهتمام بالفوز الحقيقي في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها الناس، في هذه الأيام ينتبه العقل ويحسُنُ الوعي، ويحيا الجد ويقل اللعب، ويرقى مستوى الفكر، وتسلك النفس الطريق الأقوم والنهج الأسلم؛ لأن الناس يواجهون ما يسمى بـ(كابوس الامتحانات)، إذ يرتفع مستوى الضغط والقلق والعناء لدى كثير منهم، فتعلو الهمم وتلتهب العزائم وتعظم الجهود، وتُستفرغ الطاقات إلى حال يسرّ الناظر ويبهج الطالع ويغري العاطل والجاهل. لقد استنفر الجميع للامتحانات الكبار والصغار والرجال والنساء.
وايم الله، إنها لصورة مذهلة، همم أولئك الطلاب الذين يكرّسون جهودهم للمقررات فيفلُّونها فلاًّ، ويسهرون لها ليلاً، ويتركون لأجلها لهوًا ولعبًا. كم سمعنا ورأينا طالبًا قرأ في ليلة مائة صفحة، وآخر لم ينم إلى الفجر، وآخر مكث بضع عشرة ساعة يذاكر، وآخر قد تغير وجهه من طول المذاكرة والقراءة. همم كبيرة ونفوس عظيمة، هي ذريعة التفوق والبروز والنجاح، بها نفخر ونتشرف ونعتز ونشيد.
ذي المعالي فلَيعلوَنَّ من تعالَى هكذا هكذا وإلاّ فلا لا
شرَفٌ ينطِحُ النجوم برُقيِّه وعِزٌ يقَلقِل الأجبالا
من أطاق التماسَ شيء غِلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا
كلُّ غادٍ لحاجة يتمنى أنْ يكونَ الغضنفرَ الرئبالا
أيها الآباء الكرام، حَسنٌ فيكم اهتمامكم بأبنائكم، وبصيرتكم بمستقبلهم، وحرصكم على حياتهم، إذ الامتحانات فيها ثمرة العلم ويقظة الوعي وتربية الجد والمثابرة والصبر، وعند ذكرها يلوح للبصراء قضايا مهمة هي أجلّ وأعظم، ومسائل مهمة هي أهمّ وأحكم، ربما خفيت على كثير منا، فلقد وددنا ـ كما سعى هؤلاء الآباء والأولياء في تعظيم وطأة الامتحانات وتذكير الأبناء بها ـ أن يسعوا في تعظيم طاعة الله في قلوبهم، ويحضوهم على صالحات الأعمال والمبادرة إليها، فإنها هي التجارة الرابحة والكنوز المضاعفة والنجاح التام، كالصلاة وأعمال الخير والبر، فهؤلاء الآباء يوقظون أبناءهم للامتحان، ويحذرونهم مغبة التأخر والإهمال والإخفاق، ويلهبون في نفوسهم مسألة التفوق والظهور والنجاح، وبعض هؤلاء الآباء لا يوصي ابنه بالصلاة والمواظبة عليها إلا في الامتحانات، ويعلّق عليها التوفيق والفتح من الله تعالى، وإذا انقضى الامتحان نسي النصح والتذكير، وسار الابن ضائعا بلا واعظ أو نذير.
أيها الأب الواعي، إنا لنعجب بعظم إيمانك بالامتحانات وإعدادك الأبناء لها، وبضعف إيمانك بالجنة والنار، فأنت تبني أبناء للدنيا؛ لمنصب أو وظيفة، وتنسى بناءهم للآخرة؛ يضيعون الصلاة فلا تحاسبهم، ويتيهون في براثن اللهو والضياع ولا تسألهم، يقصرون في سلوك طرق الخير ولا تبالي، ويسارعون في طرق الشر ولا تعظهم أو تحذرهم.
إنا لنعجب كيف قلَّ فقهك عندما أصلحت وضع ابنك الاجتماعي ولم تصلح أوضاعه الدينية؛ يهمل الفرائض، ويقارف المحرمات، ويصاحب الأراذل، وتفسد الأخلاق، وأنت تغذيه وتسمنه، ظانًا أنك اتقيت الله فيه ورعيته أحسن الرعاية وصنته أجمل الصيانة، قال : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أيها الأب المؤمن، إن وثيقة الدراسة ليست وثيقة هداية ورشد وصلاح، وهي لا تعني النجاح في الآخرة، ولا تعني السلامة من النار. هل غاب عنك أن زهرات الدنيا متع زائفة قليلة، ليست هي الغاية المطلوبة ولا النجاة المرغوبة؟!
واترك الدنيا فمن عاداتها تَخفض العالي وتعلي من سفََلْ
واتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصلْ
ليس من يقطع طرقًا بطلاً إنما من يتقي الله البطلْ
هل تأملتم ـ أيها الآباء ـ في أناس حصلوا الشهادات ثم رحلوا إلى الله؟! هل فكرتم في أقوام كدحوا في نيل المناصب وحيازة الأموال حتى إذا وصلوا أفناهم هادم اللذات، فلا شهادة نفعت، ولا منصب شفع، ولا مال آزر وأغنى؟!
فالمهم هنا أن نصلح أبناءنا لما هو أهم وأعظم، وأن تكون نظرتنا للامتحانات نظرة متّزنة معتدلة، فوالله لصلاح ابنك وهدايته خير من لذائذ الدنيا وزهراتها لو تأملت وفكرت قوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ [آل عمران:185].
إخواني الطلاب، إنَّ الوعي والجدّ اللَّذَين تَمَّا لكم في الامتحانات تاج فوق رؤوسكم، ومفخرة عظمى لآبائكم ومجتمعكم، لكننا نطمع في ديمومة تلك الهمم العالية وذلك الاجتهاد المنقطع بعد الامتحان، وليس بعسير عليكم أن تبذلوا تلك الهمم في تلاوة القرآن وحفظه وقراءة كتب السنة والتفسير أو مطالعة السيرة النبوية؛ لكي تصح عقولكم وتنشرح صدوركم وتسمو هممكم.
إخوتي الطلاب، قبيح ـ والله ـ أن تبقي تلك الهمم مختزنة، وإذا أُخرجت أُخرجت في أمور مهينة وأمور عاقبتها وخيمة. يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله: "لو أن همم أبنائنا في القراءة كهمهم في الامتحانات لأخرجنا علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين.
أما بعد: فإنه لحري لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعد للامتحان الأكبر، ويجمع للامتحان الخطير، فإنه بحق هو الامتحان والاختبار، وفيه الربح والخسارة، وفيه النجاح والفشل.
واعلموا أن الفوز هناك فوز دائم، والإخفاق إخفاق دائم، فأعدوا لذلك الامتحان عُدته، وخذوا له أُهبته، وإنه لمن الغفلة بمكان أن يُرى الإنسان عاملا للدنيا غافلا عن الآخرة، ومصيبة عظمى أن يسعى الآباء والأولياء في تعظيم امتحانات الدنيا في قلوب أبنائهم ويغفلون عن امتحان الآخرة، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
إن وقاية الأبناء ليست بشهادات الدنيا، وليس بالتفوق فيها، إن الوقاية الحقة أن تفتح لهم دروب الحق والهدى والنور، أن تُقرب لهم الهداية وأن يجنبوا الغواية. فما الفائدة أن يحوز الأبناء الشهادة والتقادير العالية وهم عاقون لآبائهم وأمهاتهم ومضيعون حقوق ربهم، بل ـ والعياذ بالله ـ هم نواب إبليس في الشر والضلالة؟!
فاتقوا الله أيها الآباء، وتفكروا في الامتحان الخطير، وزوّدوا أنفسكم وأبناءكم بزاد كريم، لكي يحصل الفوز ويحق النجاح، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
(1/4685)
تأملات في الامتحانات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا المجتمع
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
2/3/1422
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الناس وقت الامتحانات. 2- من فوائد الامتحانات. 3- الفوز الحقيقي يكون في الآخرة. 4- العناية بربط الطلاب بالتوكل والاعتماد واللجوء إلى الله. 4- رسالة إلى العقلاء من العلماء والمفكرين والباحثين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها الناس، في هذه الأيام تشتعل العزائم وتتوقد الهمم وتتضافر الجهود؛ استعدادًا لما يسمى بالامتحانات. تتهيأ المدارس والمؤسسات العلمية بجميع مرافقها وأعضائها، ويهتم الآباء بتوجيه أبنائهم وتشجيعهم، وينشط الطلاب للمذاكرة سهرًا وجدًا واجتهادًا.
العقول الخاوية تصبح بالامتحانات واعية، والنفوس الباردة تصير بالامتحانات جادة، والهمم الفاترة تتحول لتكون عالية صامدة. إن الامتحانات تحدث نقلة في حياة الناس عجيبة؛ فتجد أكثر الناس مهتمين بها، معظمين لها، حريصين عليها.
لماذا كل هذا الاهتمام بالامتحانات؟! لقد آمن الجميع أنه اجتياز طريقٍ للمستقبل، أو ضمان الوظيفة، أو نافذة للرزق، أو كسب السمعة وحسن الصيت، لذلك فإن تحطيم أستار الكسل والضعف والبرود في الامتحانات لم يعد غريبا في حياة الناس، بل قل: حتى في حياة الكسالى والباردين.
أيها الإخوة الكرام، لقد باتت النظرة التربوية للامتحانات مفرطة عندما بالغت في الاهتمام بها وحشد الطلاب لها، حتى صار الشغل الشاغل هو الامتحانات، وغدا المتفوق والمهمل والجاد والكسول يدركون شدة وطأة الامتحانات وعظيم الخيبة عند إهمالها أو عدم الاستعداد لها.
فأصبحت الامتحانات حينئذ قضية كبرى وغاية منشودة، أربت على الرسالة التربوية الجادة من إصلاح الجيل وبناء العقول وتوثيق عُرى الدين ومكارم الأخلاق.
فيجب علينا كمسلمين ـ متعنا الله بالعقول والبصائر ـ أن نعتدل في نظرتنا للامتحانات، ونوصي أبناءنا والتلاميذ بالجد والاجتهاد فيها، دون إغفال جوانب الإصلاح والتربية، التي هي مقصود المدارس والمؤسسات التعليمية.
نحن لا نريد أن ترتفع المعدلات والدرجات مع انخفاض التديّن والأخلاق في حياة هؤلاء الناجحين. ولربَّ حائزٍٍ على تقدير عالٍ ويوضع في لوحة الشرف وهو لا يمتّ للخير والخلق بصلة.
في الامتحانات يدخل طلابٌ المساجد، لم يكونوا يعرفونها من قبل، مظهرين النسك والخير والضراعة لله، ابتغاء النجاح والتفوق، وهذه فرصة مهمة للمعلمين والمربين وأئمة المساجد، أن يزيدوا في إيمان هؤلاء ويحرصوا على تعليقهم بالله، وربط مستقبلهم بتوفيق الله ورعايته وتأييده، وأنهم فقراء إليه، محتاجين لفضله وإنعامه.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهادهُ
وفي ظلّ انفِتاح هذا العصر تتناءى طوائف غير قليلة عن المساجد، ولا تبالي بأهمية التوكّل على الله وسؤاله التوفيق والنجاح.
وهؤلاء هم في أمسّ الحاجة إلى النصح والتذكير، وحين نذكر قبيل الامتحان بأهمية الامتحان وضرورة التهيؤ له نذكر بأهمية الصلاة واللجوء إلى الله، فمنه يُستمد النجاح والتفوق والتميز، فهو أهل الفضل والمن تبارك وتعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
أيها الإخوة، إن المتأمّل لمسألة الامتحانات يدرك لها فوائد كثيرة غير النجاح والشهادة، والتحرر من الدراسة ورهق المذاكرة، فمن فوائدها: إقبال التلاميذ على المساجد، ودعاؤهم الله كثيرا بالنجاح والتوفيق، وفي ذلك تربية إيمانية لا تخفى، جدير بنا أن نستثمرها وننميها.
ومن فوائدها: استيقاظ الهمم والعقول، وتحولها إلى منابع تفيض بالجد والاهتمام والاستبصار.
ومنها: تفجر الطاقات عن مظاهر من العمل والنبوغ والصمود؛ من أجل نيل رمز النجاح ووسام التفوق.
ومن فوائدها: العزوف عن اللعب واللهو، فتقلّ العناية بالكرة على سبيل المثال عند كثيرين أيام الامتحان.
ومن فوائدها: استطعام الحياة الجادة، وترك حياة الكسل والنوم والبطالة، وفي ذلك تربية للإنسان على الدأبَ والصبر ومقاومة شدائد الحياة.
ومنها: إيقان الجميع بأن لكل ثمرة ولذة نصَبًا وجهدًا، وأن الأمنيات لا تنال بالأحلام والتخيلات، وإنما بالهمم العالية والنفوس الدائبة.
وما نيلُ المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
فمن استطاب الراحة واستلذَّ بالنوم وارتاح للفراغ فهذا لا يصعد عَلما ولا يحقّق أملا. يقول أحد الأدباء الفضلاء: "لو أن همم أبنائنا للعلم كهمهم في الامتحانات لأخرجت الأمة علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
أيها المسلمون، إن قضية الامتحانات لا تعدو أن تكون قضية دنيوية، فما ينبغي إعطاؤها أكثر من حجمها، أو التهويل من شأنها على حساب قضايا جليلة في حياة الناس، ولا يليق بمؤمن بالله واليوم الآخر أن تنسيه الدنيا الدارَ الآخرة وفيها الفوز والفشل والنجاح والخسارة، وقد كان من دعاء النبي المأثور: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)). وكم من ممتحن لم يدخل الامتحان حتى وافاه الأجل، وكم من ناجح متفوّق حُرِم لذة التفوّق ولم يرَ الشهادة. فينبغي علينا كمسلمين أن نعطي الأمور حجمها، وأن لا تنسينا دنيانا أخرانا، فإن النجاح الحقيقي هو النجاح في امتحان يوم القيامة، حينما تسودّ وجوه وتبيض وجوه، وتعلو أنفس وتسقط أنفس، فهنالك الحياة الحقيقية والفرح الدائم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين بجنات عدن، الناجين من النار، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء، ومن فوائد الامتحانات: أن أهلها يعظمون الوقت فيها، ويحرصون على حفظه وعدم إضاعته، فيسابقونه ويتقلّلون من الطعام والزيارة والخروج من أجله، فليت هؤلاء الشباب يحفظون الأوقات دائما كحفظهم لها في الامتحانات. فالوقت هو عمر الإنسان، وفيه شقاوته وسعادته، وسوف يسأل عنه يوم القيامة، وقد ذمّ الله تعالى أقواما بتضييعهم الوقت وعدم الانتفاع به، فقال تعالى: أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
أيها الإخوة، لا يزال الترهيب من الامتحانات يورث صورًا من الخوف والقلق وتغيرا في النفس وشحوبا في الوجه وتدهورا في الصحة، فيجب علينا تعميق النفوس بالإيمان، وزرع الثقة في الطمأنينة فيها، والاستعداد للامتحان دون مبالغة وتهويل وتخويف، وتربية الأبناء على التوكل على الله وسؤاله الفتح والتوفيق والنجاح، فإنه المنعم المتفضل سبحانه وتعالى، بيده مفاتيح الفرج ومنابع اليسر والرزق والتوفيق. فما يذكَر تعالى في عسر إلا يسَّره، ولا كربة إلا فرَّجها، ولا مخافة إلا أمنها، ولا صعب إلا هونه تبارك وتعالى، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر:2]
وكان كثير من الأئمة إذا تعسّرت عليه الأمور أو أشكلت عليه المسائل يكثر الدعاء والذكر والاستغفار إلى من هو على كل شيء قدير، الذي لا تعجزه الحاجات، ولا تشق عليه الملمات، فما هو إلا وقت يسير فينحل الإشكال وتزول الملمة وينقشع الهم. وبقدر صدق العبد وإخلاصه وكثرة توجهه تنزل عليه البركات وتغشاه الرحمات، ويلازمه التوفيق والنجاح في كل شؤونه وأموره.
إخواني الكرام، لا تزال كلمة العقلاء من العلماء والمفكرين والباحثين تتفق أن النجاح في الحياة وتحقيق الأماني مرهون بالهمة العالية والكفاح الدائب، ومن شروطه ترك الكسل ومجانبة البطالين وهجر الراحة والرفاهية، قال الإمام يحيى بن أبي كثير رحمه الله: "لا يُستطاع العلم براحة الجسد".
خرج أحد العلماء وهو القفَّال الشافعي يطلب العلم وعمره أربعون سنة، بينما هو في الطريق جاءته نفسه فقالت له: كيف تطلب العلم وأنت في هذا السن؟! متى تحفظ؟! ومتى تعلّم الناس؟! فرجع، فمرّ بصاحب ساقية يسقي على البقر، وكان الرّشاء ـ أي: الحبل ـ يقطع الصخر من كثرة ما مرّ، فقال: أطلبه وأتضجّر من طلبه!
اطلبْ ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول الْمدى على صليب الصخر قد أثَّرا
وكان هذا الموقف عظةً له، واصل من خلاله طلب العلم، وجدَّ واجتهد، حتى بلغ المنزل، وصار من أئمة الشافعية ومن العلماء الكبار رحمه الله.
فهنيئا لمن أخذ بأسباب علو الهمة وكبر النفس، فرُزق نفسًا تواقة، تطلب العلا وتأنف من الأقذاء، وتتجرأ على الصعاب والمضايق، إنها لقمّة الفرح والسعادة وقد قيل: "بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنَّى".
اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4686)
حال المرأة المسلمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
21/4/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المرأة في بناء الأجيال. 2- مخاطر انحراف المرأة. 3- حال النساء اليوم. 4- نماذج من الصالحات. 5- القضية الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لنلقي وإياكم نظرة على حال المرأة في مجتمعنا اليوم، وكلنا يعلم أن للمرأة دورا كبيرا في تربية الأجيال، والمرأة إذا استقامت على منهج الله ربّت وأنجبت رجالا لقيادة الأمم، وإذا اختل توازنها اختل كيان المجتمع، وإذا دخلت المرأة أبواب الفساد وابتعدت عن جادّة الصواب انتشر البلاء وعمّ وملأ البلاد طولا وعرضا. ومن هنا أمرنا الإسلام بالمحافظة على المرأة، وقد أوصانا بها رسولنا الأكرم فقال: ((استوصوا بالنساء خيرا)).
عباد الله، إن سبب انحطاط الأخلاق في البلاد تبرّج النساء وإظهار الزينة وزخرفة الثياب والمساحيق المستعملة اليوم من تبييض الوجه وتحمير الشفتين وتوريد الخدّين وترقيق الحاجبين وتسويد الأهداب وتقصير الثياب وتعرّي بعض الجسم من الظهر وتحت العنق ولبس الضيق وغير ذلك، كل هذه الأنواع وغيرها هي شباك الفتنة وحبال الشيطان، وتجرّ إلى مهاوي الانحطاط والانحلال الخلقي الذي حرمه الإسلام، وهو يهوي إلى هدم كيان الأسرة والمجتمع.
عباد الله، بعض النساء والفتيات يخرجن في الطرقات والأسواق وهنّ على مظهر غير مقبول، فالمرأة المسلمة امرأة محتشِمة وملتزمة، تلتزم أدب الإسلام في زيّها ولباسها، في مشيها وحركاتها، في كلامها إذا تكلمت، في نظرتها إذا نظرت، في حركاتها إذا تحركت. هذه المرأة لا يمكن أن يطمع فيها أحد من الناس، ومن هنا يقول المولى عز وجل: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32، 33]. فالخضوع بالقول هو التكسّر والتمييع وتعمّد الإغراء للرجل بطريقة الكلام، والخضوع بالفعل أن تمشي مشية متكسّرة، ومثله الإغراء باللباس والزيّ أو الملابس الرقيقة الشفافة أو الملابس المحدِّدة لمفاتن الجسم، وأن تتعمد إظهار شيء مما يجِب ستره من جسمها. كل هذا إغراء لأولئك المفسدين، وقد قال الله عز وجل: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]. إنها حركة بالأرجل للَفت الأنظار وجذب الانتباه، وهذا لا يجوز من امرأة مسلمة تخشى الله تعالى.
تعلّمن ـ أيتها النساء ـ من ابنة الرجل الصالح الذي ذكره الله تعالى في سورة القصص حيث وصف الله تعالى مشيتها بقوله: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، مشيتها على استحياء، وكلامها على استحياء، فقد كلّفها أبوها المشي إلى رجل أجنبي، فكلُّها حياء في حياء، كيف وقد تربت في بيت الصلاح والعفاف والطهارة؟! ومن هنا أمر الله تعالى المؤمنات أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يحدِث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمِع للسامع، وأن يكون قولهن معروفا.
عباد الله، ومن المفاسِد التي نراها في هذه الأيام ذهاب النساء إلى مصفّف الشعر وعمل التسريحة، وقد يكون المصفّف من الرجال، وهذا كله من الأمور المحرّمة شرعا، فإذا كان النظر قد نهانا الله تعالى عنه فما بالكم ـ يا عباد الله ـ بلمس شعرها وظهور مفاتنها؟! ما بالكم بلمس وجهها؟! أين الحياء؟! أين العفة والشرف؟!
يا نساء المسلمين، جمال الخلاَّق أجمل وأعظم من جمال الحلاق.
يا نساء المسلمين، إن وضع الأصباغ على الأظافر يمنع من وصول الماء إلى الجسم، ومتى كان ذلك كذلك فالوضوء باطل، اسمعن قول رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) ، والواصلة التي تصل شعرها بشعر غيرها تريد بذلك أن يظنّ بها طول الشعر، أو يكون شعرها أصهب فتصِله بشعر أسود، فهذا من باب الزور والكذب. والواشمة من الوشم في اليد، وكانت المرأة تغرز مِعصم يدها بإبرة حتى تدميه ثم تحشوه بالكحل ليخضرّ. والمستوشمة هي التي تسأله وتطلب أن يفعَل ذلك بها. وفي رواية أخرى يقول رسول الله : ((والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيِّرات خلق الله)) ، وفي رواية: ((النامصة والمتنمصة)) ، والنامصة التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمّصة هي التي تَفعل ذلك بنفسها، وبنفس الوقت تقوم المرأة بترفيع الحاجبين أو إزالتهما ثم تضَع بدلهما خطّين بالقلم. وفي رواية: ((لعن الله الواشرة والمؤتشرة)) ، والوشر أن تحدّد المرأة أسنانها وترققها، والمؤتشرة التي تأمر من يفعل بها ذلك.
عباد الله، نريد المرأة الصالحة التي تبني المجتمع، نريد المرأة العابدة القارئة لكتاب الله تعالى، نريد المرأة الفاعلة في تربية الأجيال.
انظروا ـ أيها المؤمنون ـ واستمعوا بآذان صاغية لهذا المشهد الذي أصبح عرضيا في هذه الأيام، يقول ابن العربي المالكي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن عند هذه الآية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ما نصه: "ولقد دخلت ضيفا على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعفّ نساء من نساء نابلس، فإني أقمت فيها شهرا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة؛ فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهنّ، فإذا قضِيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى ترَى نساءها متبرجات بزينة وغفلة، متفرقات في كل فتنة، وقد رأيت في المسجد الأقصى عفائف ما خرجنَ مِن معتكفهنّ حتى استشهدن فيه". فكيف حالنا اليوم يا عباد الله؟! كيف لو زارنا هذا الإمام في هذه الأيام، ماذا سيكتب عن نساء بيت المقدس؟! ماذا سيكتب عن نساء فلسطين؟! أين ذهب الحياء؟! أين المروءة؟! وصدق الشاعر بقوله:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا
عباد الله، نريد المرأة القانتة العابدة الصالحة التي يستجيب الله دعاءها.
انظروا إلى هذا المشهد الحي، مشهد صادق يملؤه الإيمان والمحبة لله تعالى ولرسوله ، تعلموا ـ يا عباد الله ـ من هذه المرأة المسلمة، إنها أم الإمام البخاري العالم الذي نشر علم الحديث الشريف في بقاع الأرض، ما من عالم إلا ويقول: روى الإمام البخاري في صحيحه كذا وكذا.
اسمعوا أيها المؤمنون: ولد الإمام البخاري ضريرا فاقدَ البصر، وقد حزنت أمه أشدّ الحزن، ونامت أمه وهي حزينة، نامت داعيةً الله تعالى متوجّهةً بالقلب المنكسر الخاشع إلى رافع السماء بلا عمد، وإذا بها ترى رسول الله في منامها ويقول لها: أبشري يا أم محمد، أبشري فإن الله سيرد له بصره. وقامت من المنام يتطاير قلبها من السرور، ورفعت اللثام عن وجه ابنها فرأته قد ردّ الله عليه بصره. إنه الإيمان، إنه الصدق، إنها الصلة القويّة بالله تعالى. لم تذهب إلى المشعوذين والدجالين، لم تذهب إلى من يدّعون علم الغيب، لم تذهب إلى الفتّاحين والسحرة ومن يجعلون أيديهم مصانع الشّفاء، وإنما توجهت إلى الله، رفعت يديها إلى السماء وقالت: يا رب، رد بصرَه عليه، وصعدت دعوتها إلى عنان السماء، دعوة الأم لولدها مستجابة إذا خرجت من قلب صادق سليم. فهلاّ تعلمن نساء اليوم من هذه المرأة الصالحة، من هذه المرأة القانتة العابدة؟! نريد المرأة القوية التي تقول كلمة الحق ولا تخشى في الحق لومة لائم.
عباد الله، جاءت الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وتكلمت معه وقد أطالت الوقوف وأغلظت في القول وقالت: هيه يا عمر، عهِدتك وأنت تسمَّى عُمَيرا حتى صِرت عمر، ثم لم تذهب الأيام إلا وسميتَ أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أن من خالف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفَوت، فقيل لها: قد أكثرت ـ أيتها المرأة ـ على أمير المؤمنين، فقال: دعوها، أفلا يسمعها ابن الخطاب وقد سمع الله مجادلتها للرسول من فوق سبع سماوات؟!
عباد الله، إن المسؤولية خطيرة، وإن الأمر خطير، وإن أجهزة الإعلام لا تنام عن بثّ الفساد، أولادنا وبناتنا في الامتحانات وفي الشهر القادم امتحان الثانوية العامة، فكيف يكون حالهم؟! إعلام يخرب، وإغراءات تدمر، وكتاب الله مهجور، وفساد في البيوت، انحلال في الأخلاق والتربية، فاعملوا ـ يا عباد الله ـ على تربية الشباب التربية الإسلامية الصحيحة، اتقوا الله في نسائنا، اتقوا الله في أطفالنا، علّموهم في المساجد، فهي تربي رجالا أطهارا، لا يسرقون، ولا يختلسون، فأياديهم متوضّئة نظيفة، لا تعرف التخريب والتدمير والإلحاد، وإنما يعرفون الله وحده.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا صبر اصطفاه، فإذا رضي اجتباه. تذكّروا دائما أن ما عند الله ما يطلَب بمعصية الله، إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد تحولت حياتنا اليوم إلى مآس ومصاعب، أصبحنا نعيش كما تعيش الغنم الشريدة في الليلة الشاتية، فنحن مجرّدون من كل شيء، ليس لنا حول ولا قوة، والناس من حولنا يقولون: قلوبنا معكم شدّوا حيلكم، يرحم الله أيام الخلافة الإسلامية، أيّام المعتصم حين حرّك جيشه وحرّر الفتاة المسلمة.
عباد الله، وتبقى قضيّتنا الفلسطينية هي أكثر القضايا التي تستحوذ اهتمام العالم أجمع، سيما وقد مضى على اغتصاب فلسطين ثمانية وخمسون عاما، ذاق خلالها شعبنا شتى أصناف العذاب والاضطهاد والمعاناة والتشرّد والتهجير، ولا يزال حتى اليوم يقدّم قوافل الشهداء دون كلل أو ملل، ويدفع ضريبة الرباط بدماء أبنائه، ولا يزال عشرات الآلاف من خيرة أبنائنا يقبعون خلف قضبان الاحتلال الظالم. ورغم كل ذلك لا تزال الآمال معقودة وأنّ الحق سوف يعود لأصحابه مهما طال الزمن، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ولن يضيع حق وراءه مطالب.
عباد الله، إذا كان الصّراع على الحق قد اختَلّت موازينه وتبدّلت معاييره فيمكن للأمة المسلمة وللشعب المرابط أن يتجاوز هذه الموازين والمعايير بالإيمان الراسخ والثبات على العقيدة والصبر والمصابرة والعمل المتواصل والجدّ والاجتهاد والبعد عن مواطن الضعف والفساد والعمل بما أنزل الله تعالى وتقوية الروابط الإيمانية بين أبناء شعبنا، وأن نكون قوة متوحّدة تنبذ كل أشكال الفرقة والشجار والخصام، ونتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، عند ذلك سوف يتحقّق الهدف المنشود، وستزول الغمة وتذهب الآلام وتعود البسمة على وجوه الجميع.
صحيح أننا في هذه الأيام نعيش سنوات عجافا، نعيش أياما صعبة، ولكن في المقابل لا يجوز لنا الاستسلام، فالأيام بين الناس دول؛ يوم لنا ويوم علينا، وإذا كنا مع الله فلن يخذلنا، لن يتخلى عنا، وتذكروا قول الله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
فتوكلوا على الله يا عباد الله، واعملوا جاهدين لنيل رضاه، واحذروا كل الحذر من أن تكونوا عونا للشيطان على أنفسكم، وإياكم ثم إياكم من اليأس والقنوط من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وإياكم والاقتتال؛ فالخاسر نحن، والرابح هو العدو، فالوحدة الوحدة، والاعتصام الاعتصام، والحذر كلّ الحذر من الفتنة، فهي لا تبقي ولا تذر.
أيها المسلمون، اتحاد الجمعيات الخيرية في بيت المقدس الشريف يقوم بجمع التبرعات للمرضى والفقراء الذين ضاقت عليهم السبُل، والذين لا يجدون المال من أجل الدواء، فمدوا لهم يدَ العون والمساعدة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ساعدوهم رحمكم الله.
(1/4687)
توبوا إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
28/4/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخطأ من طبيعة البشر. 2- التحسّر على المعاصي. 3- أركان التوبة وشروطها. 4- حقيقة التوبة. 5- فضل التوبة والاستغفار. 6- سعة رحمة الله تعالى وعفوه ومغفرته. 7- أوان التوبة والمبادرة إليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ أيها المسلمونَ ـ في الموارِدِ والمصادِر، فتقوَاه خيرُ ما أعِدَّ لليومِ الآخِر، والمتّقِي هوَ المنتصِر والظَّافِر، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيّها المسلِمونَ، المؤمِنُ ليسَ مَعصومًا من الخطيئةِ، ولَيسَ في منأى عنِ الهَفوة، وليس في مَعزِلٍ عن الوقوعِ في الذنبِ، فعن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال: قال رسول الهدى : ((والّذِي نفسِي بيَدِهِ، لَو لم تذنِبُوا لذَهَب الله بكم، ولَجَاءَ بقومٍ يذنِبون، فيستغفِرون اللهَ فيغفِر لهم)) أخرجه مسلم [1] ، وعَن أنسٍ رضيَ الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((كلُّ بَني آدَمَ خطّاء، وخَيرُ الخطّائينَ التَّوَّابون)) أخرجه أحمد والترمذيّ وابن ماجه [2]. وكم مِن مُذنبٍ طالَ أَرَقُه واشتَدَّ قَلَقُه وعَظُم كمَده واكتَوَى كَبِدُه، يَلفُّه قَتارُ المعصِيَة، وتعتَصِره كآبَة الخطيئَة، يلتمِس نَسيمَ رجاءٍ، ويَبحَث عَن إشراقةِ أمَل، ويَتَطلَّع إلى صُبحٍ قريبٍ يُشرِق بنورِ التّوبةِ والاستقامةِ والهِدايةِ والإنابةِ؛ ليذهَبَ معها اليأسُ والقُنوط، وتنجلِي بها سحائِبُ التّعاسَة والخوفِ والهلَع والتشرُّد والضَّياع. وإنَّ الشعورَ بِوَطأةِ الخطيئةِ والإحساسَ بآلامِ الجريرةِ والتوجُّع للعَثرةِ والنّدمَ على سالِف المعصيةِ والتأسُّفَ على التفريط والاعترافَ بالذّنبِ هو سبيلُ التصحيحِ والمراجعةِ وطريقُ العودَة والأوبَة.
وأمّا رُكنُ التوبةِ الأعظَم وشَرطُها المقدَّم فهو الإِقلاعُ عن المعصيةِ والنّزوعُ عن الخَطيئةِ، ولا توبةَ إلا بفِعلِ المأمورِ واجتِناب المحظور والتخلُّصِ من المظالم وإِبراءِ الذمّةِ مِن حقوق الآخَرين. ومَن شاء لنفسِه الخَيرَ العَظيم فَليُدلِف إلى بابِ التوبَةِ وطريقِ الإيمان، وليتَخلَّص من كلِّ غَدرَة، وليُقلِع عن كلِّ فَجرَة، فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ [التوبة:74]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
يَستوجِبُ العفوَ الفتى إذا اعترَف ثم انتهَى عمّا أتاه واقترَف
لقولِه سبحانه في المعتَرِف: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].
أيّها المسلمون، التّوبةُ خضوعٌ وانكِسَار وتذلُّل واستِغفارٌ واستِقَالَة واعتِذارٌ وابتِعَاد عن دواعِي المعصيَةِ ونوازِع الشرِّ ومجَالس الفِتنة وسُبُل الفسادِ وأصحابِ السّوءِ وقرَناء الهوَى ومُثيراتِ الشرِّ في النفوس. التَّوبةُ صفحةٌ بيضاءُ وصفاءٌ ونقَاء وخشيَة وإشفاقٌ وبُكاء وتَضرُّع ونداء وسؤالٌ ودُعاء وخَوفٌ وحَياء. التوبةُ خَجَل ووَجل ورُجوع ونُزوع وإِنابةٌ وتَدارُك، نجاةٌ مِن كلّ غَمّ، وجُنَّةٌ من كلّ مَعرَّةٍ وهمّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوبٍ، وسلامةٌ من كلّ مَرهوب، بابُها مفتوحٌ وخَيرُها ممنوح مَا لم تغرغِرِ الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الهدى : ((لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماءَ ثم تُبتُم لتابَ الله عَليكم)) أخرجه ابن ماجه [3] ، وعَن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسولِ الله : ((قالَ الله تعالى: يا عبادِي، إنكم تخطِئون باللَّيل والنّهار وأنا أغفِر الذّنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفِر لكم)) أخرجه مسلم [4] ، وعَن أنَس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسولَ الله يقول: ((قال الله تعالى: يَا ابنَ آدَم، إنّك ما دَعوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لكَ عَلَى مَا كَان مِنك ولا أُبالي. يَا ابنَ آدَم، لو بلغَت ذنوبُك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، إنَّك لو أتَيتَني بقرابِ الأرض خطايَا ثم لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مَغفرةً)) أخرجه الترمذيّ [5] ، وعند مسلم: ((مَن تقرَّبَ منّي شِبرًا تقرّبتُ مِنه ذِراعًا، ومَن تقرَّب منّي ذِراعًا تقرَّبتُ منه بَاعًا، ومن أتاني يمشِي أتيتُه هَروَلةً، ومَن لقيَني بقُرابِ الأرضِ خَطيئةً لا يُشرِك بي شيئًا لقِيتُه بمثلِها مغفرة)) [6].
فيا له من فضلٍ عظيمٍ وعطاء جَسيم من ربٍّ كريم وخَالقٍ رَحيم، أكرَمَنا بعفوِه، وغَشَّانا بحِلمِه ومَغفِرتِه، وجلَّلنا بسِترِه، وفَتَح لنا بابَ توبَته. يعفو ويصفَح ويتلطَّف ويسمَح وبتوبةِ عبدِه يفرَح، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3]، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، ((يَبسُط يدَه باللَّيلِ لِيتوبَ مُسيءُ النّهارِ، ويَبسُط يدَه بالنّهار ليَتوبَ مسيء اللّيلِ، حتى تَطلعَ الشّمسُ من مغربها)) [7].
فأكثِروا منَ التوبةِ والاستغفار، فقَد كانَ رسولُ الله يُكثِر من التّوبةِ والاستِغفَار، قال أبو هريرةَ رضي الله عنه: ما رَأَيتُ أكثرَ استِغفارًا من رسولِ الله [8] ، يقولُ ـ بأبي هوَ وأمّي ـ صلواتُ الله وسلامه عليه: ((واللهِ، إني لأستغفِر اللهَ وأتوب إليه في اليومِ أكثَرَ من سبعينَ مرّة)) أخرجه البخاريّ [9] ، وعَن الأغرّ بن يسارٍ المزني رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((يا أيّها النّاس، توبوا إلى اللهِ واستغفِروه، فإني أتوبُ في اليَومِ مائةَ مرّةٍ)) أخرجه مسلم [10].
أيّها المسلِمون، هذِه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحَلَّ زمانها وإِبّانها ونزَل أوانُها، فاقطَعوا حبائلَ التَّسويف، وهُبّوا مِن نَومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، وحاذِرُوا غوائلَ الشيطانِ، ولا تغترّوا بعيشٍ ناعِم خضِلٍ لا يدوم، وبصِّروا أنفسَكم بفواجِعِ الدّنيا ودَوَاهِمِ الدَّهر وهَوازِمه ودالِهَاتِه وتقلُّب ليالِيهِ وأيّامه، وتوبوا إلى الله عَزّ وجلّ من فاحِشاتِ المحارِم وفادِحات الجرائم ووَرطةِ الإصرار، توبوا على الفَورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقَعَت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرَت، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ يقول: ((إنَّ عبدًا أصَابَ ذنبًا فقال: ربِّ، أذنَبتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال ربُّه: أعلِمَ عبدي أنّ لَه ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ بهِ؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكَثَ ما شاء الله، ثم أصَاب ذنبًا فقالَ: ربِّ، أذنبتُ آخرَ فاغفِره، فقال: أعلِم عبدِي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ بهِ؟ غفرتُ لعبدِي، ثم مَكثَ ما شاءَ الله، ثم أذنبَ ذنبًا فقال: ربِّ، أَذنبتُ آخرَ فاغفِره لي، فقال: أَعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ بِه؟ غفرتُ لعبدي)) متفق عليه [11] ، وعن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((مَا مِن عبدٍ يذنِب ذنبًا ثمّ يتوَضّأ ثم يصلّي ركعتين ثم يستَغفِر اللهَ لذلك الذنبِ إلاَّ غفَر الله له)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي [12].
يَا عبدَ الله، لا تَكن ممّن قال: أَستغفِر الله بلِسانِه وقلبُه مُصِرٌّ على المعصيةِ وهو دائبٌ على المخالَفة، ليُقارِن الاستغفارَ باللّسان موافقةُ الجَنان وإصلاحُ الجوارِحِ والأركَان، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
أيّها المسلِمون، توبوا من قَريبٍ، وبادِروا ما دُمتُم في زمنِ الإنظَار، وسارِعوا قبلَ أن لاَ تُقالَ العِثار، فالعُمر مُنهدِم والدَّهر مُنصرِم، وكلُّ حيّ غايتُه الفَوتُ، وكلّ نَفسٍ ذائقةُ المَوت، ومَن حضَره الموتُ وصَارَ في حينِ اليأسِ وحالِ المعاينةِ والسَّوقِ وغَمرَةِ النَّزعِ والشّرَق والغُصَص والسّكَرات لم تُقبَل منهُ توبةٌ ولم تنفَعه أَوبة، وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]، وعَن عبدِ الله بن عمَر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ اللهَ عزّ وجَلّ يقبَل توبة العبدِ مَا لم يغرغِر)) أخرجه الترمذي [13].
فيا عبدَ الله،
قدِّم لنفسِك توبةً مرجوَّة قبلَ المماتِ وقبل حَبسِ الألسُن
بادِر بها غَلقَ النّفوس فإنَّها ذُخرٌ وغُنم للمُنيب المحسِنِ [14]
أيّها المسلمون، إلى مَن يلجَأ المذنِبون؟! وعَلى مَن يعوِّل المقَصِّرون؟! وإلى أيِّ مَهرَب يهربون؟! والمرجِع إلى الله يومَ المعَادِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. فأقبِلوا على الله بِتوبةٍ نَصوح وإنابةٍ صادقة وقُلوبٍ منكَسِرة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
أقول ما تَسمعون، وأَستغفِر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2749).
[2] مسند أحمد (3/198)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2499)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة (4251) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه ، وأخرجه أيضا الدارمي في الرقاق (2727)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[3] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر التوبة (4248)، حسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (4/246)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/199)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3426).
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[5] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540)، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[6] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2687) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[7] رواه مسلم في كتاب التوبة (2759) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[8] رواه أحمد في الزهد (ص50) من طريق مكحول عن رجل عن أبي هريرة. وانظر: تفسير القرطبي (4/210).
[9] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6307) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] رواه مسلم في كتاب الذكر (2702).
[11] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7507)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2758).
[12] مسند أحمد (1/2، 8، 10)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1521)، سنن الترمذي: كتاب الصلاة (406)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في إقامة الصلاة (1395)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن حبان (623)، وهو في صحيح الترغيب (680، 1621).
[13] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3537)، وأخرجه أيضا أحمد (2/153)، وابن ماجه في الزهد (4253)، وأبو يعلى (5609)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3143).
[14] هذان البيتان للشاعر العباسي محمود بن حسن الوراق (220هـ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إِحسانِه، والشّكرُ له على توفيقِه وامتِنانِهِ، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشأنِه، وأَشهَد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمَّدًا عبده ورسولُه الداعِي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأَصحابه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيَا أيّها المسلِمون، اتّقوا اللهَ وراقِبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلِمون، ليكن يومكم بدايةَ مولدكم وانطلاقةَ رجوعكم إشراقَ صبحكم وتباشير فجركم وأساسَ توبتكم، ومن لم يتب الآن فمتى يتوب؟! ومن لم يرجعِ اليوم فمتى يؤوب؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
اللهم أعتقنا من رقِّ الذنوب، وخلِّصنا من أَشَر النفوس، وباعد بيننا وبين الخطايا، وأجرنا من الشيطان الرجيم، اللهم طيِّبنا للقائك، وأدخلنا في حزب أوليائك، وارزقنا الرضا بقضائك والصبر على بلائك، وقنِّعنا بعطائك، واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمّن سواك، وتوفنا مسلمين يا ربَّ العالمين...
(1/4688)
صفات المؤمنين في سورة الأنفال (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات المؤمنين. 2- حقيقة الوجل من الله تعالى فضله. 3- تفسيرات خاطئة لبعض الآيات القرآنية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فإن من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمنًا لزم ذلك من غير قصد منه ولا تعمد له، وإذا لم يوجد لم يحصل الإيمان الواجب في القلب. يوضح ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال على سبيل المثال لا الحصر: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]. فقد وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآيات بخمس صفات، وأكد أن المؤمن الحق هو الذي يأتي بها, ووعد من أتى بها أن له درجات ومغفرة ورزقا كريما, وعلى هذا فمن لم يَوجَل قلبه إذا ذكر الله لم يكن آتيًا بالإيمان الواجب, ومن لم يقِم الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا لم يكن آتيًا بالإيمان الواجب، ومن لم يكن منفقًا من المال والمنافع لم يكن آتيًا بالإيمان الواجب.
والكلام في هذه الخطبة على الصفة الأولى من هذه الصفات فحسب، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، والوجل عند ذكر الله تعالى يقتضي خشيته والخوف منه؛ لأن الوجل في اللغة هو الخوف كما يقال: "حمرة الخجل وصفرة الوجل", ومنه قوله تعالى في سورة المؤمنون: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وفي تفسير الآية حديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي وهو صحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله, هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)).
وقال السُديّ في قوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال: "هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنه", وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، وكقوله تعالى في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، قال مجاهد وغيره من المفسرين: "هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله فيتركها خوفًا من الله". وإذا كان وجل القلب عند ذكر الله يتضمن خشيته ومخافته فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور, فالخائف الوجل حقًا هو الذي يدعوه خوفه ووجله إلى العمل, لا من يدعي ذلك كلامًا بلسانه فحسب.
فالأمر كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان, والعلم الذي على اللسان هو حجة الله على خلقه", وقال: "لكل قول حقيقة تصدقه أو تكذبه", وقال سهل بن عبد الله: "ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، وليس طريق إليه أقرب من الافتقار", أي: ليس بين العبد وبين الله حجاب يحجزه ويمنعه من قبول أعماله أغلظ من أن يدّعي أنه على خير وعلى فضل وأنه يفعل كذا وكذا ويخاف ويوجل، ولكن الافتقار إلى الله تبارك وتعالى هو أقرب طريق موصل إلى المقصود. وقال أيضًا: "أصل كل خير في الدنيا والآخرة هو الخوف من الله".
ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]، فأخبر تعالى أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله, وهم المتقون المؤمنون، أهل الفلاح المذكورون في بداية سورة البقرة في قوله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:1-5]، وهم الموصوفون في آخر آية البر من سورة البقرة أيضًا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، وهم المتبعون للكتاب قال تعالى في سورة طه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، فإذا لم يضل فهو متبع مهتدي, وإذا لم يشقَ فهو مرحوم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين؛ لأن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالين, فتبين أن أهل رهبة الله هم أهل الخوف من الله والرجاء له سبحانه, وهم أهل العلم الذين مدحهم الله في سورة فاطر في قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28], فالعالم هو من يخشى الله, والجاهل هو من لا يخشاه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلاً).
والخشية أبدًا تتضمن الرجاء, ولولا ذلك لكانت قنوطًا, والرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا. فالذين يعلمون بالله العلم الحقّ هم الذين يخشونه, ولذلك يقال لمن لا يعمل بعلمه: إنه جاهل، وقيل له: جاهل ليس لأنه لا يميّز الحق من الباطل، بل لأنه لا يعمل بعلمه, وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة؛ طعمها طيب وريحها طيب, ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة؛ طعمها طيب ولا ريح لها, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمها مر, ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة؛ طعمها مرّ ولا ريح لها)).
والمنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصوّر معانيه، وقد يصدِّق أنه كلام الله وأن الرسول حقّ ولا يكون مؤمنًا, كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما، لكن من كان كذلك أي: يقرأ القرآن ويتصور المعاني بل يحفظ القرآن ولا يعمل بما دل عليه هذا الكتاب العزيز, من كان كذلك لم يحصل له العلم التام والمعرفة التامة، فإن ذلك يستلزم العمل لا محالة، ولذلك صار يقال للجاهل الذي لا يعمل بعلمه: إنه جاهل كما تقدم، وليس ذلك لأنه لا يميّز، بل لأنه لا يعمل بعلمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فلما كان كثير من الناس يقرأ القرآن بغير فهم ولا تدبر لكلام الله تعالى لم يحصل لهم العلم بالله الذي يورث خشيته, ولم توجل قلوبهم إذا ذكر الله؛ لأنهم لم يستحضروا قربه واطلاعه وعظمته.
وفي ظل الجهل بالله وعدم الخشية والوجل وعدم استحضار قربه تعالى واطلاعه وعظمته ظلم الكثيرون أنفسهم، فاشتغلوا بحظوظهم العاجلة، ونقصوا أنفسهم حظها من الفلاح والفوز, واستدل بعض هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم للباطل الذين هم عليه وليشوّشوا على تابعيهم, بل ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم, استدلوا بآيات من كتاب الله وبأحاديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وما من دليل استدلّ به لباطل إلا وهو عند النظر لما استدلّ به مردود منقوض, معارض بأدلة أقوى وأوضح, ولكن المؤسف كلّ الأسف والمحزن كل الحزن أن بعض هؤلاء ذهبوا في استدلالهم لعبثهم ولهوهم وباطلهم وتضييعهم لأوقاتهم مذهبًا بعيدًا، وبلغوا مبلغًا عجيبًا وغريبًا, لما استدلوا لما هم عليه من الباطل بآيات من كتاب الله تعالى إن كان أولها ظاهرا فيما استدلوا به فآخر نفس الآية مبين لأولها وللمراد من هذا الحكم الذي حكم الله به في أول الآية.
هذا الغريب والعجيب أنّ بعض الناس يستدلّ لجواز الاستغراق في العبث واللهو وتضييع الأوقات وغير ذلك من الباطل بقوله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت:64], وهذا من الغرائب والعجائب حقًا. هذا أعجب من استدلالات المشوّشين على تابعيهم في أمور العقائد بآيات وأحاديث قد لا يحسن التابعون فهم مرادها ويتصورون أن مجرد ذكرها والاستدلال بها كافٍ لصحة ما هم عليه، بل ويغريهم متبوعوهم بأن هذه الآية والأحاديث إن لم تكن ظاهرة في استحباب هذه الأمور فهي على الأقل ظاهرة في جوازها، لكن هؤلاء الذين يستدلون للباطل وللمجون والعبث وتضييع الأوقات بقوله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ لم يستحوا من الله حق الحياء. نعم، وصف الله تعالى الحياة الدنيا بهذا الوصف في أربعة آيات من كتابه: في سورة الأنعام, وفي سورة العنكبوت, وفي سورة محمد, وفي سورة الحديد:
قال تعالى في سورة الأنعام: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، وقال في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، وقال في سورة محمد: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وقال في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
فالمراد بأن الحياة الدنيا لعب ولهو, كل ما يختص بدار الدنيا من التصرفات غير المتعلقة بالطاعات وما لم يقصد فاعلوها بها التقرب إلى الله عز وجل, أما إذا قصد الفاعلون بأفعالهم طلب الثواب واحتسبوا بها الأجر عند الله تعالى فليس ذلك منهم لعبًا ولا لهوًا, ولو كان أكلاً أو شرابًا أو نومًا أو جِماعًا أو لعبًا على وجه مأذون فيه شرعًا, فلو فعلوها محتسبين قاصدين فيها رضا الله طالبين ثوابه لأثابهم الله عليها كما يثيبهم على العبادات. نعم، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته.
فهل بقي لهؤلاء في هذه الآيات حجة على سوء فهمهم وفساد مقاصدهم وإرادتهم أن الله تعالى وصف الحياة الدنيا في هذه الآيات الأربع بأنها لعب ولهو؟! وقال في آخر الآية مبينًا هوان الدنيا وانحطاط قدرها وفضل الآخرة وفضل مؤثرها على الدنيا والعاملين لها، قال: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، أفلا تُعمِلون عقولكم في الموازنة بين هذه الدنيا التي هي نفس واحد من أنفاس الدنيا وبين الآخرة التي أعد الله فيها للطائعين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟! أفلا تعمِلون عقولكم في فهم ذلك فتعمَلون لما هو خير لكم وأبقى؟!
وكذلك قال في سورة العنكبوت: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ، إن كانت الدنيا لهوًا ولعبًا فالحياة الحقيقية هي التي في الدار الآخرة، ثم ختم بقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، لو كان عندهم علم يؤدي بهم إلى العمل لفهموا ذلك. وقال في سورة محمد إشارة لا صراحة: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ أي: وإن تشتغلوا بأعمال البر والإيمان والتقى يؤتكم الله أجوركم، ويؤدي ذلك بكم إلى مغفرة الله ونعيمه ورضوانه, وهذا إشارة إلى فضل الآخرة أيضًا وموازنة بين الدنيا وبين الآخرة.
وأما في سورة الحديد فالأمر ظاهر كما في سورتي العنكبوت والأنعام، فبعد أن ذكر الدنيا بما هي أهل له قال: وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ أي: لمن اشتغل بالدنيا وآثرها على الآخرة، وقال: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ، وهذا بيان لأجر الذين لا يقضون الحياة الدنيا لاهين لاعبين عابثين, بل يعملون بما شرعه الله لهم من أعمال الإيمان والبر، فيؤدي ذلك بهم إلى الفوز بمغفرة الله ورضوانه، وأكد حقارة الدنيا وهوانها مرة أخرى في نهاية الآية فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ، ولو تعلم الناس كتاب الله وسنة رسوله لأدى ذلك العلم إلى كل خير وفضل وفضيلة.
ومن أعظم الخيرات والفضائل التي يؤديهم العلم إليها أنهم يخافون الله وتوجل قلوبهم إذا ذكروا الله تعالى، وذلك يستلزم طاعته سبحانه وتعالى, فالخائف الوجل من الله هو الممتثِل لأوامره المجتنب لنواهيه، ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة الأعلى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:9-13]، فأخبر سبحانه أن من يخشى الله حق الخشية يتذكر، وتذكره مستلزم لعبادته، وقال المفسرون لقوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ، سيتعظ بالقرآن من يخشى الله, وقال تعالى في سورة غافر: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ [غافر:13]، قال المفسرون في قوله: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ : إنما يتعظ من يرجع إلى الطاعة، وذلك لأن التذكر التام يستلزم التأثر بما تذكّره، فإن تذكر محبوبًا طلبه، وإن تذكر مرهوبًا هرب منه, فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دل على أنه لم يتصوّر المحبوب والمرهوب تصورًا تامًا، أي: لم يتصور الجنة والنار تصورًا يؤدي به إلى طلب المحبوب والهرب به من المرهوب.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر...
(1/4689)
الأم
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن حمد الخميس
الدمام
23/1/1426
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل منزلة الأم. 2- رسالة من أم تشكو هجر ولدها لها. 3- نماذج رائعة لسلف الأمة في برهم لأمهاتهم. 4- كيف يبرُ الرجل أمه؟
_________
الخطبة الأولى
_________
فعلى البسيطة من هذا الكون مخلوقةٌ ضعيفةٌ في خِلقتها، قويةٌ في تحمّلها، رقيقة في مشاعرها، مرهفة في حسّها، تتملك الرحمةُ والعطفُ كلَّ تصرفاتها، هي جنديّة حيث لا جندَ ولا قتال، حارسةٌ ساهرةٌ حيث لا ثغورَ، خادمة حيث لا خدم، ساهرة تراقب بلا أجر، مخلِصة في عملها ولا يخلص في البشر مثلُها أحد.
حديثنا اليوم عن هذه البطلَة الصامدة المخلصة المجاهدة، حديثنا اليوم عن نبع الحنان والشفقة ووعاء الرحمة والرأفة، حديثنا اليوم عن أصدق محب وأوفى صديق وأنصح رفيق، حديثنا عن التي اهتم الشرع الحنيف بها وحثّنا على حسن معاملتها والإخلاص في برها، حديثنا عن الأم.
روى الإمام البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ أي: مَن مِن الناس يتأكّد علي حقه في التقدير والتوقير والاحترام؟ مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في مراعاة مشاعره وأحاسيسه، مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في رعايته وخدمته والاستجابة لطلباته وتنفيذ رغباته؟ مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في الشفقة عليه والإحسان له؟ من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك)).
حُسن الصحبة بالأم لا يقل مع مرور الزمن بل يزداد، الأخلاق مع الأم لا تتغير مع تغير الأحوال، المعاملة مع الأم لا تتبدل مهما طال بها العمر، البر بالأم لا يذبل بعد عجزها وضعفها، بل يزداد نضارة.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أَبرُّ؟ قال: ((أمك)) ، قال: من أبرُّ؟ قال: ((أمك)) ، قال: من أبر؟ قال: ((أمك)) ، قال: من أبر؟ قال: ((أباك ثم الأقرب فالأقرب)).
هذه هي وصية الحبيب في الأم، فهي أحق الناس بالصحبة، وأولى الناس بالبر، وأجدر الناس بالشفقة والإحسان.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: قتلت نفسًا فهل لي من توبة؟ فقال له ابن عباس: أمّك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله وتقرّب إليه ما استطعت، قال عطاء: فسألت ابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟ قال ابن عباس: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة.
هكذا علمنا ديننا، وهذه هي وصية ربنا لنا: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فهل يجوز للأبناء إذا استوى عودهم واشتدّ ساعدهم أن يقابلوا الإحسان بالإساءة والرحمة بالقسوة والعناية بالإهمال؟! هل يجوز للأبناء أن ينسوا معروف الأم ولا يذكروا جميل صنعها ولا يكافئوا عظيم إحسانها؟! هل يجوز للأبناء أن يقلبوا ظهر المجن على أمهاتهم بتأثير من زوجاتهم أو جريًا خلف دنياهم أو سعيًا على شهواتهم وأهوائهم؟!
وصلتني رسالة من إحدى الأمهات تشكو عقوق ولدها، تقول مع التصرف بعباراتها: "حملته وهنًا على وهن، لم أنم فيها ولم يغمض لي جفن، نالني من الألم ما لا يصفه قلم ولا يتحدث عنه لسان، رأيت بأمّ عيني الموت مرات عديدة حتى خرج إلى الدنيا، فامتزجت دموع صُراخه بدموع فرحي، مرّت سنوات من عمره، وأنا أحمله في قلبي، أسهرت ليلي لينام، وتعبت نهاري ليسعد، وبعد أن اشتدّ عوده واستقام شبابه ودخل حياته الزوجية الجديدة تقطع قلبي حزنًا على فراقه، فقد تغيّر ابني وما عاد الذي أعرفه، اختفت ابتسامته، وغاب صوته، وعبس محياه، لقد أنكرني وتناسى حقي، ولم يعد يأنس حتى بزيارتي، تمر الأيام أراقب طلعته وأنتظر بلهف سماع صوته، ولكن الهجر طال، وها هي الليالي قد أظلمت والأيام تطاولت، فلا أراه ولا أسمع صوته، علما أني لا أطلب منه إلا القليل، أريد منه أن يجعلني في منزلة أطرف أصدقائه عنده، أريد منه أن يجعلني إحدى محطات حياته الأسبوعية أو الشهرية لأراه فيها ولو لدقائق". إلى آخر الرسالة التي قالت فيها: "يا شيخ، اقرأ رسالتي لعله يسمعها، فتهفو نفسه إلي، ويحن قلبه علي. فو الله، إني أخاف عليه من عقوبة العقوق في الدنيا قبل الآخرة". التوقيع: أم مكلومة بولدها.
هذه الأم المسكينة يصدق عليها قول أمية بن أبي الصلت حينما تنكّر له ولده بعد هرَمه وشيخوخته، فقال له:
غَذَوتُك مولودًا وعلتُك يافعا تُعلّ بِما أجني عليك وتَنهلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسقم لم أبِت لسُقمك إلا ساهرًا أتَململ
كأنِّي أنا المطروقُ دونك بالذي طُرقتَ به دونِي فعيناي تَهملُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت حتمٌ مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمّل
جعلت جزائي غلظةً وفظاظة كأنك أنت الْمنعم المتفضل
أمٌّ أخرى اكتوت بنار عقوق ولدها، اتّصلت عليّ بالهاتف، لم أفهم منها شيئًا، فبكاؤها يسبق كلماتها، ودموعها تحكي معاناتها مع فلذة كبدها وريحانة فؤادها، حرارة نحيبها تنبئك بفداحة سوء معاملة ولدها لها، وبعد عناء وإذا بي أسمع منها ما يهتزّ له الوجدان وتقشعر له الأبدان، تقول: إن ابني لا يعقّني فقط، ولا يسبّني فقط، ولا يهينني فقط، تقول بالحرف الواحد: أنه يضرِبني بالنعال.
قيل: هذا إذا أصر على فعلته النكراء يحسن بجيرانه وأصحابه هجر المكان بل البلاد التي هو فيها خوفًا من نزول البلاء.
روِي في سنن الترمذي أن النبي قال: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء)) ، وذكر منها: ((وأطاع الرجل زوجته وعق أمه)).
أين هذا وأمثاله من حديث جريج العابد الذي عاقبه الله تعالى لانشغاله عن أمه بعبادة ربه؟! روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال : ((كان في بني إسرائيل رجل يقال: له جريج، كان يصلي ـ أي: في صومعته ـ وكانت تأتيه أمه فتناديه، فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يومًا وهو في صلاته فنادته فقالت: أي جريج أشرف عليّ أكلمك، أنا أمّك، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فنادته، ثم أتته في الثالثة فنادته، فقالت: اللهم لا تمِته حتى تريَه وجوه المومسات)) ، فأجيبت دعوتها وتحقّقت. الله عز وجل عاقب جريجًا لانشغاله عن أمه بطاعة ربه وبالوقوف بين يديه، فما بالكم بمن ينشغل عن أمه بزوجته أو تجارته ودنياه؟! فما بالكم بمن ينشغل عن أمه بمعصيته وهواه؟!
قال الإمام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري: "لو كان جريج فقيها لعلم أن إجابة أمّه أولى من عبادة ربه"، وقال الإمام النووي: "صلاة النفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرّها واجب، وعقوقها حرام".
لهذا وضّح العلماء ما يفعله المسلم إذا تعارض برّ الوالدين مع عبادة الله تعالى، فإن كانت هذه العبادة فريضة خفّفها وأسرع في طاعة والديه، وإن كانت نافلة قطعها وأجاب أمّه أو أباه. لهذا فقه السلف الصالح الموازنة بين برّ الوالدين ـ ولا سيما الأم ـ إذا تعارضت مع طاعةٍ لله.
فهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين وفقهائهم، كان رحمه الله يجلس في حلقته ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ أعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
وهذا أويس بن عامر القرني الذي أخبر الرسول عن علوّ منزلته عند الله، وأمر صحابته الأخيار بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه. روى الإمام مسلم في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذا أتى أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال عمر: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل)) ، قال عمر: استغفر لي، فاستغفر له.
وعن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسًا أن يقدم على النبي برّه بأمه. فأويس القرني تابعي وليس صحابيًا، مع أنه عاش في زمن النبي ؛ لأنه لم يرَه، وما منعه من مجيئه للرسول إلا بره بأمه، فقدم برّه بأمه على طلبه الصحبةَ مع عظيم فضلها وأجرها، وما ذاك إلا لأن البر بالوالدة أكثر منها أجرًا، فجزاه الله عز وجل بما سمعتم من الحديث.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي : أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها)). وقوله : ((فإن الجنة تحت رجليها)) يوحي لنا بضرورة التذلّل والتضرع والتمسكن بين يدي الأم مهما بلغ الواحد منا من منزلة أو منصب أو جاه أو مال في هذه الدنيا، فهذا محمد بن سيرين التابعي الجليل والفقيه والمحدث كان إذا كلّم أمه كان يتضرع, قال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمّه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. هذا البر وأكثر منه لا يساوي فضل الأم ولا يجازي صنيعها، فلا يعجبن أحد ببره بأمه أو يتعاظم ما يسديه لها.
روى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر شهد رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، ويقول:
إني لها بعيرُها المذلّلُ إن أذعرت ركابُها لم أذعرِ
الله أكبر، ذو الجلال الأكبرِ، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا، ولا بزفرة من زفراتها.
هذه هي الأم، وهذا فضلها، وهذا هو البر ومكانته.
أيها الأخ الحبيب، أيها الأخ المؤمن، لا شك أنك ما جئت إلى هذا المكان إلا استجابة لأمر مولاك وطلبًا لرضاه، فاعلم أن رضا الله في رضا الوالدة، وسخط الله في سخطها. فإذا كانت والدتك صحيحة نشيطة فعليك باحترامها وتقديرها وطاعتها والاستجابة لأمرها وتنفيذ كلامها قبل أن يرتدّ إليها طرفها، ولا تتهاون أو تتكاسل فتكون عاقًا فتمسك النار.
وإذا كانت والدتك كبيرة مريضة عاجزة ليس أمامك إلا الصبر عليها وخدمتها، والإحسان إليها والتذلّل لها والتضرع بين يديها، ولا تتأفّف أو تضجر من وجودها، واحرص على أن تفارق الدنيا وهي راضية عنك، فإنها أوسع الأبواب المؤدّية إلى الجنة، ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)) رواه مسلم.
وإذا كانت أمك ميتة فعليك ببرها؛ وذلك بإنفاذ عهدها والدعاء لها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4690)
التوكل على الله في الأزمات
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد بن حمد الخميس
الدمام
18/3/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمار التوكل على الله. 2- نماذج من توكل الأنبياء على الله تعالى. 3- المستقبل للإسلام وأهله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، حديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن التوكل على الله في الأزمات.
أحبتي في الله، نسمع من الفتن والنوازل المتلاحقة في ديار المسلمين ما تكاد تطير لها القلوب هلعًا وجزعًا، وتنفطر لها الأكباد هما وغمًا، فهي فتن تجعل الحليم حيران كما أخبر النبي.
هذه الفتن والنوازل تحتاج منا إلى نظرات وتأملات، فإن الله لا يبتلي صفوة عباده إلا لحكمة يعلمها وغاية هو بالغها ومنزلة سيبلغهم إياها، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].
إذا علم المؤمن هذه الحقيقة فإنه لا تتغير ثوابته لمحنة مزلزلة أو حادثة مدوية، بل يحسن الظن بالله ويتوكل عليه، فإن الله ناصر عبده ومتول أمر دينه ومتم نوره ولو كره الكافرون، فعباده الصادقون هم الذين يتوكلون عليه في هذه الأزمات، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، فلا تروعهم الخطوب وإن عظمت، ولا تزعزعهم المصائب وإن جلت، فيعملون بطاعته وهم يعلمون أن الله لا يضيع أجر المحسنين.
إن حسن التوكل على الله في الأزمات يجعل العبد يتدبّر الآيات ويتبحر في المواقف والملمات، فلا يفرح بما أوتي ولا ييأس على ما فات، فهو يعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. قال القرطبي رحمه الله: "لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلَرُبّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرُبّ أمر تحبّه فيه عطبك".
إنّ التوكّل من أجلّ صفات المؤمنين وأرفع درجات السالكين وأعلى مقامات الموحدين، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكان مقدمة هؤلاء المؤمنين حقًا والمتوكلين صدقا الأنبياءُ والرسل الذين قالوا جميعًا: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]".
إن من فضل الله على عباده أن جعل الأنبياء عليهم السلام بشرًا، يشعرون بما نشعر، ويتألمون كما نتألم، وجعل في حياتهم من الأزمات والبلاءات التي يرفع بها قدرَهم ويعلو شأنهم، وذلك بالتوكل عليه وعدم الركون إلى غيره سبحانه.
فهذا إبراهيم عليه السلام حبيب الله وخليله وصفوته من خلقه تمر عليه الأزمات تلو الأزمات، فيحسن توكله على الله، فيحسن الله خلاصه، دعا قومه إلى الله فأعرضوا عنه، وأعدوا العدة لإحراقه في النار، انقطعت به أسباب النجاة من الأرض، ولكن أسباب النجاة من السماء لم تنقطع، جاءه جبريل عليه السلام فقال له: هل لك من حاجة؟ قال إبراهيم في ذلك الموقف الرهيب: أما لك فلا، وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل.
إن الله قادر على تخليص إبراهيم، ولكنه سبحانه يحبّ توكل عبده عليه وصدق لجوئه إليه، فلما أحسن إبراهيم التوكل على الله في هذه الأزمة تحولت محنته إلى منحة وناره إلى برد وسلام، وتفضل الله عليه بحسن الخلاص في الدنيا والآخرة، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:68، 69].
وهذا نبي الله موسى عليه السلام يخرج ليلاً بقومه المستضعفين فرارًا من فرعون وبطشه، فيتبعهم فرعون بجنوده وخيله ورجله فيدركهم، حتى لا يجد موسى وقومه إلا البحر أمامهم والعدو خلفهم، وتقطعت الأسباب، وضاقت السبل في الدنيا، ولكن من يتوكل على الله فهو حسبه، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62]، أي: سيكفيني، وصدق في توكله على الله، فجاء الأمر من الله بنجاتهم وهلاك عدوهم، وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الشعراء:65، 66].
توكل على الرحمن في كل حاجة أردت فإنَّ الله يقضي ويقدّر
متَى ما يريد ذو العرش أمرًا بعبده يصيبه وما للعبد ما يتخيّر
أما خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين فقد مرت عليه أزمات وشدائد، فأحسن التوكل على الله، فأحسن الله عاقبته. خرج من مكة طريدًا شريدًا، ولى وجهه شطر الطائف لعله يجد من يؤمن به ويسانده، وإذا بهم أغلظ أفئدة وأقسى قلوبًا، فخرج من الطائف ولم يستطع الرجوع إلى مكة لأن حياته معرضة للخطر، وهو من هو ، هو سيد البشر وخير من طلعت عليه الشمس ، ومع ذلك توجه إلى الله، وأسلم أمره لله، فأرسل الله له ملك الجبال لينصره وينتقم ممن آذوه، فعفا ولم ينتقم ، وهيأ الله له دخول مكة تحت حماية المطعم بن عدي وأبنائه.
توكلنا على الله إنا وجدنا الخير للمتوكلينا
ومن لبس التوكل لم تجده يَخاف جرائر المتجبرينا
أما في غزوة الخندق فقد تداعت على المسلمين جموع الكفار، في جيش يزيد عدده على سكان المدينة، واشتدت على المسلمين الأزمة، فقد المنافقون توازنهم، وتزعزعت عقيدتهم، وأساؤوا الظن بربهم سبحانه، فقالوا: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]، وزاد الطين بلّة غدر اليهود بالمسلمين وتحوّلُ سيوفهم مع المشركين، فأحاط الكفر بالمؤمنين من كل جانب، حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:11].
هذه الأزمة لم تفتّ في عضد المؤمنين الصادقين، ولم تضعف إيمانهم، بل زادتهم إيمانًا ويقينًا، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]. استعدّوا للقتال، وتجهزوا للنزال، وتوكّلوا على الله مع أخذهم بالأسباب، فأحسن الله خلاصهم وأنجاهم من عدوهم، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
أحبتي في الله، ما أحوجنا إلى التوكل على الله في الأزمات؛ لتتحوّل محننا إلى منح وبلايانا إلى هبات وعطايا، فقد كانت محنة الخندق على المسلمين عزًا وتمكينًا، حيث قال النبي لأصحابه مبشرًا لهم: ((اليوم نغزوهم ولا يغزوننا)) رواه البخاري، فجعل الله بعد العسر يسرا، وبعد الشدة فتحًا ونصرًا.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بِخيْر فإن الفارج الله
إذا ابتليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه لا تيأسن فإن الكافي الله
اللَّه حسبك مِمَّا عذت منه به وأين أنت ممن حسبه الله
واللَّه ما لك غيْر الله من أحد فحسبك الله فِي كلّ لك الله
أيها الأحبة في الله، اعلموا أن ما يمر بالمسلمين اليوم من أحداث ومحن لن يؤثر على عقيدتنا وثقتنا في وعد الله بالنصر والتمكين والغلبة لهذا الدين، ومن ظن غير ذلك فقد أساء الظن بالله. قال ابن القيم رحمه الله: "من ظن إدالة أهلِ الكفر على أهل الإيمان والإسلام إدالة تامة فقد ظن السوء برب العالمين".
أحيانًا أمة الإسلام تمرض حتى يظن من يراها أنها هالكة، ولكنها لا تموت بإذن الله، فسرعان ما ترجع إليها عافيتها، وتزداد قوتها، وتقهر أعداءها.
فاملؤوا ـ عباد الله ـ قلوبكم بالأمل، وأزيحوا اليأس عن صدوركم، فإنه لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]. وتمسكوا بكتاب الله المبين وبالصراط المستقيم الذي جعله الله مصدرًا لقوتنا، وسبيلاً لرفعتنا ووحدتنا، ومصدر خوف وهلع لأعدائنا، لذلك حرص أعداؤنا على إبعادنا عنه والتفريق بيننا وبينه، لا مكَّنهم الله من ذلك.
فهذا أحد المنصّرين يقول: "متى توارى القرآن ومكّةُ والمدينة عن بلاد المسلمين يمكننا أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة بعيدًا عن محمد وكتابه"، وقال آخر: "ما دام هذا القرآن موجودًا فلن يستطيع الغرب السيطرة على الشرق".
عباد الله، أبشروا، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا.
ولرُبّ ضائقة يضيق بها الفتَى ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها فرِجت وكنت أظنها لا تفرَج
اللهم يا فارج الهم وكاشف الغم وناصر المظلوم، انصر دينك وأعزّ أولياءك وأذلّ أعداءك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعَز فيه أهل طاعتك...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4691)
الله غالب على أمره
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
محمد بن حمد الخميس
الدمام
11/3/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نماذج من صبر الرسول على البلاء. 2- صبر يعقوب عليه السلام على البلاء. 3- صبر يوسف عليه السلام على البلاء. 4- بعض من الفتن العصيبة والحوادث العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية. 5- المستقبل للدين. 5- تربية الأبناء على الولاء والبراء وعلى العزة والإباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والتوكل عليه، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن الله تعالى ابتلى رسوله مرات عديدة، وفي فترة عصيبة من فترات الدعوة؛ وذلك بموت سندين وناصرين له ولدعوته، هما زوجته خديجة رضي الله عنها وعمه أبو طالب في عام واحد، وقد سمي هذا العام بعام الحزن؛ لشدة حزن النبي فيه، حيث لاقى فيه إيذاء من الكفار له وللصحابة الكرام ما لم يلاقه منهم في أعوام ماضيه، وفي هذه الفترة الحرجة أنزل الله تعالى آيات بينات من سورة يوسف للتخفيف عنه مما أصابه ، ولتبشيره والمؤمنين من بعده بالفرج بعد الشدة وبالسعة بعد الضيق وباليسر بعد العسر. من هذه الآيات قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
في هذه السورة العظيمة ذكر الله تعالى مواقف لنبيَّين كريمين حبيبين إليه سبحانه، رفع شأنهما بالبلاء، وعظم قدرهما بالصبر عليه، بالبلاء الذي لا يزيد الإيمان إلا صلابة ولا يزيد اليقين إلا قوة، البلاء الذي يجعل المسلم يتوجه إلى الله ويتوكل عليه ويثق بما عنده. وقد ذكر الله مع قصة هذين النبيين آية محكمة ولم يرد في القرآن غيرها، وهي قوله تعالى: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
حديثنا اليوم ـ أيها الإخوة الكرام ـ حول هذه الآية: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
أيها الأحبة في الله، أنشُكّ في أن أحبّ عباد الله إلى الله هم الأنبياء؟! أنرتاب في أنّ أطوعَ البشر لأوامِر الله هم الأنبياء؟! بالطبع لا مجالَ للشكّ في ذلك. ومع هذا فإن الأنبياء أكثر الناس بلاءً، كما أخبرنا الحبيب محمد بقوله: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء فالأمثل)) رواه البخاري.
فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام ابتلاه الله بفقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام الذي رأى فيه بشائر النبوة، فجاءه أبناؤه بنبأ موته: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]، فصبر على ذلك واحتسب، وأسلم أمره لله، وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]. ثم ابتلاه الله بفقد ولده الثاني، فما كان منه إلا أن خفف البلاء بالصبر، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83]. ثم تجرأ عليه أبناؤه بالسب تارة، وبوصفه بالضلال تارة أخرى، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ [يوسف:85]، قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95]. فصبر على ذلك كلِّه ولم ييأس من رَوح الله، وقال لبنيه: يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]. ذلك لأنّه يفقه جيدًا أنّ الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسبحان ربي! فارِج الهمّ وكاشف الكرب ردَّ إليه بصَره وجمع بينه وبين ولديه، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
أمّا ولده يوسف عليه السلام فقد ابتلاه الله بكيد إخوته وحِقدهم عليه، وابتلاه بمحنة الجب، وابتلاه بمحنة الرق، وابتلاه الله بمحنة امرأة العزيز ثم السجن. كل هذا البلاء ليوسف عليه السلام وهو النبي ابن النبي ابن النبي عليهم السلام جميعًا، فكيف كانت خاتمته؟ جعل الله له ملك مصر، ومكنه من إخوته، ورد إليه أبويه. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
أيها الأحبة في الله، إن الناظر إلى مجريات الأحداث والمطّلع على ما يدور في الساحة اليوم يجد أن الأمر جلل والخطب جسيم والواقع أليم، فالعدو كشر عن أنيابه، وأظهر ما كان يخفيه من أحقاده، تكررت الاغتيالات لرموز الجهاد وقادته، فبالأمس الشيخ أحمد ياسين، ثم عبد العزيز الرنتيسي، ولا ندري من يكون غدًا، وأصبحت المداهمات في فلسطين والعراق أمرًا مألوفًا، محاصرة المدن واقتحامها، هدم المنازل ومصادرة الأراضي وإذلال وقتل الرجال، وترويع الآمنين من الأطفال والنساء والشيوخ، كل ذلك أصبح عملاً روتينيًا للصهاينة في فلسطين، وللغزاة الأمريكان في العراق. إضافة إلى ما يحصل في بلادنا بلاد الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار من أعمال منكرة وإجرام في حق الأمة والوطن.
هذه الحال تبعث في بعض النفوس اليأس، وتبث فيها الشعور بهلاك الأمة، وبدنو أجلها، ولكن الأمر خلاف ذلك، وكفى بالتاريخ شاهدًا؛ فقد مرت على المسلمين فتن أشد ضراوة وأعظم فتكًا وأقسى قوة من فتن هذه الأيام، حتى ظن الناس أنها الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة.
ومن هذه الفتن فتنه القرامطة، قال ابن كثير رحمه الله: "مكث القرامطة عهدا ينشرون مبادئهم وعقيدتهم حتى قويت شوكتهم، فأرسل الخليفة العباسي جيشًا قوامه عشرة آلاف مقاتل، فكانت النتيجة أن قتل الجيش العباسي بأكمله وحرق بالنيران، فازداد القرامطة إفسادًا لم يعرف المسلمون مثله في تاريخهم، فذبحوا الشيوخ والأطفال، واستباحوا الحرمات والأموال، ودخلوا مكة فقتلوا الحجيج في المسجد الحرام، ورموا جثثهم في بئر زمزم، وهدموا قبة البئر، وقلعوا باب الكعبة، ونزعوا كسوتها، وسلبوا الحجر الأسود، فبقي عندهم اثنين وعشرين سنة، وامتنع الناس عن الحج ثمانية أعوام خوفًا من بطش القرامطة"، فترة عصيبة على المسلمين، ولكن الله غالب على أمره، دب الخلاف بينهم وقتل بعضهم بعضا، فأهلكهم الله، وطوى التاريخ ذكرهم ومحا أثرهم، حتى أصبحوا أثرًا بعد عين، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
ومن الفتن العصيبة التي مرت على المسلمين فتنة الصليبيّين ودخولهم بيت المقدس، قال ابن كثير رحمه الله: "دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، فصنعوا به ما تصنع الوحوش بالغابة، وارتكبوا فيه ما لا تفعله الشياطين، فقتلوا في أسبوع ستين ألفًا، منهم العلماء والعباد والأئمة والزهاد، ووضعوا الصلبان على بيت المقدس، وأدخلوا الخنازير، وأبدلوا الأذان بنداء الشرك والكفران". وتباكى الناس، وظن اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس إلى حوزة المسلمين، وأن لا خلاص لأهل الإسلام من هذه الفتنه. ولله در القائل:
كم طوى اليأس نفوسًا لو رأت منبتًا خصبًا لكانت جوهرًا
واستمر الذل بالمسلمين إلى أن قيض الله لهذه الأمة بطلاً حرك دم الجهاد في العروق، وبث روح البطولة في النفوس، وقتل اليأس الذي خيم حول القلوب، فقام صلاح الدين ونادى من أعماق وجدانه: وا إسلاماه. والتف حوله الأبطال من جيش محمد ، حتى التقوا بالصليبيين فقتلوا منهم 30 ألفًا، وفتحوا القدس، وطهروا بيت المقدس من رجس النصارى، وتوالت الانتصارات حتى دفع الصليبيون الجزية عن يد وهم صاغرون، بعد أن كانوا أعزة متمكنين مدة إحدى وتسعين سنة، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
ثم نكبة أخرى ومصيبة عظمى حلت على الأمة الإسلامية، وهي فتنة التتار، حينما حاصر هولاكو عاصمة الخلافة بغداد فك الله أسرها، حاصرها بمائتي ألف مقاتل، وجنود المسلمين لا يتجاوز عددهم العشرة آلاف، وزاد الأمر سوءًا خيانة قام بها الوزيران ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي اللذان خدعا خليفة المسلمين, وزينا لقائد التتار قتله فقتله، ثم ألحقوا به من المسلمين خلقًا كثيرًا، وظلوا يقتلون في المسلمين أربعين يومًا، حتى قيل: إن عدد القتلى بلغ ألفي ألف نسمة، أي: مليونين. فتعطلت المساجد والجماعات شهورًا، وأصبحت بغداد خاوية على عروشها، والقتلى في الطرقات كالتلول، وظن الناس أن لا عودة للإسلام، ولكن الله غالب على أمره؛ هلك هولاكو، وهلك التتار، وعادت راية الإسلام عالية خفاقة تضيء الدنيا بمنهجها القويم، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
أيها الأحبة في الله، إن المسلم لا يعرف اليأس، إذ هو واثق بربه مؤمن بوعده، فإن مرت عليه محن علم أنها دليل حياة وحركة، فإن زادت المحنة شدة كان ذلك علامة على انفراجها بإذن الله.
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واستقرت وأرست في أماكنها الخطوب
ولَم تر لانكشاف الضر وجهًا ولا أغنَى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمنّ به اللطيف المستجيب
وكل الْحادثات إذا تناهت فموصول بِها فرج قريب
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة، المحنه والبلاء لا تزيد المؤمن إلا قوة وصلابة؛ فالحديد والذهب يبتلى بالنار ليذهب خبثه ويبقى طيبه، قال : ((مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل الكافر كالأرزة تظل قائمة حتى يكون انجعافها مرة واحدة)) رواه البخاري.
فالمؤمن الحق موقن بوعد الله بالنصر وإن تأخر، والآيات في هذا الشأن كثيرة تحتاج إلى من يتدبرها ويملأ قلبه يقينًا بها، قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]. والله منجز وعده وناصر أولياءه وخاذل أعداءه، ثم إنه سبحانه ينصر من ينصره ويخذل من يخذله، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
والنبي بشرنا بأن المستقبل لهذا الدين، وأن الرفعة والتمكين لأهله والمتمسكين به، قال : ((لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز أو ذل ذليل)) رواه أحمد بسند صحيح، وقال : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)) رواه مسلم. قال الألباني رحمه الله: "قد يظن الناس أن ذلك قد تحقق في عهد النبوة والخلافة وما بعدها، ولكن الأمر خلاف ذلك، فالذي تحقق جزء من هذا الوعد، ويبقى اكتمال تحققه في الأجيال المعاصرة". وذلك على أيدي الرجال المخلصين والأبطال الصادقين الذين يعدون أنفسهم ليوم قريب ونصر محقَّق أكيد بإذن الله تعالى.
ونحن ـ أيها الأحبة في الله ـ من أجل تحقيق هذا التمكين والمشاركة فيه علينا أن نقف صفًا واحدًا خلف ولاة أمرنا وعلمائنا لاجتثاث كل من تسوّل له نفسه العبث بأمن البلاد واستقرارها. فالبلاد بلادنا، والأمن أمننا، فإذا ما انفرط عِقد الأمن في بلادنا ـ لا قدر الله ـ فالجميع سيخسر، ولن يكون هناك كاسب إلا العدو المتربص بنا الدوائر، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]
ثم إن علينا كذلك أن نقف مع إخواننا في الدين الذين يواجهون اليهود الغاصبين والصليبيين الغزاة الحاقدين، ونقف مع الذين يروون أرض الرباط والجهاد بدمائهم الطاهرة, نقف معهم بأحاسيسنا ومشاعرنا، نقف معهم بقلوبنا وجوارحنا، نقف معهم بإمكاناتنا وقدراتنا، نقف معهم بدعائنا لهم بالنصر القريب والتمكين الأكيد الذي لا شك فيه أنه آت لا محالة، نقف معهم بتربيتنا لأبنائنا على الجدّ والمشاركة الإيجابية الفاعلة، لا على الترف والسلبية القاتلة، نهيئ أبناءنا لملاقاة العدو وتحمل الأذى في سبيل الله، نقرأ لهم التاريخ، نحلله لهم، نعلمهم بأن الأعداء يبطنون لاف ما يظهرونه لنا، نعلمهم بأن أعداءنا الصليبيين متورطون في بلاد الرافدين، وغاصّون في أرض الحضارات التي كانوا يعدون العدة بدفع فاتورة الحرب الآثمة من مقدراتها وثرواتها، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، نعلمهم بأن أعداءنا الصليبيين لو نجحوا ـ لا قدر الله ـ في ابتلاع العراق بالسهولة التي كانوا يظنونها فإن غرورهم وحقدهم وجبروتهم وطغيانهم وعجرفتهم ستجعلهم ينتقلون إلى لقمة ثانية ثم ثالثة ثم رابعة، ولن يقفوا حتى يستعبدوا هذه الأمة ويتمكنوا منها.
علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نربي أبناءنا على العزة والإباء، وعلى رفع الهامة والرأس أمام الأعداء. علينا أن نربيهم على بغض الأعداء وكرههم وعدم موالاتهم والخنوع لهم. فإذا عجزنا نحن عن ملاقاة العدو فقد يخرج من أصلابنا مثل صلاح الدين قاهر الصليبيين، أو سيف الدين قطز داحر التتار، أو محمد الفاتح فاتح القسطنطينية، وليس ذلك على الله بعزيز، فنكون قد عملنا الأسباب، وأبرأنا الذمة، وأدّينا ما علينا من واجب الأمانة تجاه ديننا وأمتنا.
اللهم يا فارج الهم وكاشف الغم، أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك...
(1/4692)
تفريج الكربات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأعمال, محاسن الشريعة
محمد بن حمد الخميس
الدمام
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل تفريج الكربات والسعي في قضاء الحاجات. 2- نماذج مشرقة في الصدقة وتفريج الكربات.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية أوصى الله بها من قبلنا من أصحاب الملل والنحل والديانات، حيث قال في الآيات المحكمات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
وبعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي سيدنا محمد ، وإن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين.
معاشر المسلمين،
كتاب حياة اليائسين فصول عليها حواشٍ للأسَى وذيول
وما العمر إلا دمعة وابتسامةٌ وما زاد عن هذي وتلك فُضولُ
من منا سلم من الهم أو الغم؟! من منا يضمن لنفسه أو لولده السلامة من البلايا والأمراض؟! من منا يضمن بقاء ما أنعم الله عليه من النعم؟! من منا لا يرجو السلامة من كربات يوم القيامة؟! أسئلة تلوح إجابتها للناظرين المعتبرين؛ لذلك سأترك الإجابة لكم.
أتحدث معكم اليوم عن سعادة غامرة ولذة شديدة تجدونها في أنفسكم، وعن فرحة عامرة تدخل عليكم وأنتم في وقت الأزمات، عن أمر تجدون لذته في الحياة، ثم بعد الممات أتدرون عما سأحدثكم.
سأحدثكم اليوم عن التفريج عن أهل الحاجات والتنفيس عن أصحاب الكربات، فمن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه يوم القيامة من الكربات.
نعم، إن الفقر والغنى والسعادة والشقاء والصحة والمرض وكل ما يعتري الإنسان في حياته من خير أو شر بقدر من الله تعالى؛ لكي يخرج منهم عند الخير عبادة الشكر، وعند الشر عبادة الصبر.
قال تعالى عن نفسه: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. فالأمر كله لله، والملك كله لله، والإنسان لا يملك شيئًا على الحقيقة، بل هو مخول فيما آتاه الله ومختبر فيه، والله ينظر إليه حفظ أم ضيع، كما قال النبي : ((إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا)) رواه الترمذي.
فمن عمل بمراد الله تضاعف أجره ونما رزقه، كما قال عن نفسه سبحانه وتعالى: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، وكما قال : ((إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل أحد)) حديث صحيح. والفلو: هو المهر الصغير.
أحبتي في الله، إن الله اختار قومًا ليبتليهم بمرض أو فقر أو يتم أو إعسار، ولله في خلقه شؤون، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]. ومعنى الآية كما ذكر الإمام القرطبي: "أن من شأنه سبحانه أن يحيي ويميت ويعز ويذل ويرزق ويمنع من يشاء ما يشاء".
فإذا كنت من أصحاب البلاء فاحمد الله الذي اختارك لتحقّق عبودية الصبر على الضراء؛ لأن النبي قال: ((إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) حديث حسن. فإن صبرت واحتسبت فاعلم أن أجرك عظيم، بشرك الله به من فوق سبع سماوات حيث قال تعالى: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-156]. كل ذلك إن كنت مطيعًا لله وصابرًا على بلواه.
وإذا كنت ـ أخي الحبيب ـ قد عافاك الله من البلاء وسلمك من الأدواء وأنعم عليك من النعماء فاحمد لله الذي اختارك لتحقّق عبودية السراء بالشكر وبذل النعم لمن ابتلاهم الله بما عافاك منه. وصدق من قال:
هو الدهر لا يبقي على لائذٍ به فمن شاء عيشًا يصطبِر لنوائبه
فمن لم يُصَب في نفسه فمُصابُه بِفقد أمانيه وفَقد حبائبه
فلا تحرم نفسك ـ أخي الحبيب ـ من أن تكون جنديًا من جُند الله، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. تسير في حوائج المسلمين، تسخّر نعَم الله في مرضاةِ الله، وتكون من الذين أنعم الله عليهم بجعل نفسه تعالى وتقدّس في حاجته، كما قال : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) متفق عليه. ما أعظمه من جزاء، وما أجله من عطاء.
انظر ـ أخي الحبيب ـ إلى عظم هذا الجزاء؛ الله يكون في حاجتك، فمن يحول دون قضائها؟! الله يفرج عنك كربة من كرب يوم القيامة، وكفى بذلك التفريج نعمة. نِعَم البشرى ونِعم الجزاء، وفوق ذلك يحفظ عليك نعَمَه ويزيدها لك، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
إن الموفق الذي يختاره الله ليكون صاحب قلب نابض ويد حانية وإحساس مرهف، يشعر ويتألم بأخيه المسلم، ويتمنى أن الله يجري الخير على يديه.
يروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن عبد القادر الجيلاني قال: "لم أجد عملاً أفضل من إطعام الطعام، وأود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، وأود لو أن كفي مثقوبتان لا تمسك شيئًا إلا وأنفقته لله".
إن الموفق هو الذي يشعر بغيره، ويعلم أن الله جعل حوائج الناس إليه لكي يختبره، وإلا تعرضت نعمه للزوال، قال : ((ما من عبد أنعم الله عليه بنعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرم ـ أي تضجر ـ إلا عرض النعمة للزوال)) رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد، وفي رواية عند الطبراني: ((إن لله خلقًا خلقهم الله لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة)).
الله أكبر، خلقهم الله لحوائج الناس، ما أعظم هذه النفوس فهي تتعب من أجل راحة الناس، يفزع إليهم الناس، ثم ماذا؟ هم الآمنون يوم القيامة. كفى بذلك بشرى.
ولكن تُرى لمن ـ أخي المنفق ـ هذا الأجر وهذه المنزلة؟ إنها للذين يستمرون على ذلك، ويمنعون أنفسهم الأمارة بالسوء من الملل والضجر. واسمعوا ـ رعاكم الله ـ الرواية الأخرى عند الطبراني: ((إن لله عند أقوام نعمًا أقرّها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ما لم يملوهم ـ أي: ينفروا منهم ـ، فإذا ملوهم نقلها الله إلى غيرهم)).
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وصنها بطاعة رب العباد فرب العباد شديد النقم
إنّ طريق الإنفاق طريق طويل، سبق فيه العظماء من الموفقين، وعلى رأسهم سيد المرسلين محمد. فها هو ـ كما يروي الترمذي ـ يسارع في حوائج المسلمين ويقول عن نفسه الشريفه: ((لأن أمشي في حاجة امرئ مسلم أحب إلى من أن أعتكف شهرًا في مسجدي هذا)).
وها هو كما روى البخاري أن الأمة من إماء المدينة كانت تأخذ بيد النبي حتى يقضي لها حاجتها. حتى الإماء والعبيد ما كان يتكبّر ولا يتأخّر عن تفريج كرباتهم، فكم قضَى لأصحابه من الفقراء من ديون، وكم خفّف عنهم من آلام، وكم واسَى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودِرعه مرهونة من أجل حَفنة من شعير بأبي هو وأمّي ، وكان ينفق غنمًا بين جبلين.
هو البحر من أيّ النواحي أتيته فلُجَّته المعروف والجود ساحله
صلى الله وسلم وبارك عليه.
ما قال: "لا" قطّ إلا في تشهُّده لولا التشهد كانت لاؤه "نعَمُ"
وها هم أصحاب الرسول الذين ضربوا أروع المثل في عطائهم وتفريجهم كربات المسلمين. أبو بكر قدم ماله كله، وعمر قدم نصف ماله، وعثمان قال عنه أبو هريرة: اشترى عثمان من رسول الله الجنة مرتين: حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة. هل يستطيع أحدنا تجهيز جيش؟!
ولم يتوقف عطاؤه، بل في خلافة أبي بكر يأتي لعثمان ألف بعير محملة بالبر والزيت والدقيق، وساومه التجار بخمسة أضعاف ثمنها، فقال: أخذت من الله عشرة أضعافها، وجعلها صدقة يفرج بها كربات المسلمين.
وهذا ابن عوف يسمع عائشة تحدث أن النبي قال: ((يدخل ابن عوف الجنة حبوًا)) ، وكان قد جاءه 700 بعير تحمل تجارة عظيمة، فقام وتصدّق بها أجمع من أجل أن يسرع في دخول الجنة، وهو من المبشَّرين بالجنة. وباع حديقة بأربعمائة ألف، ووزّعها هدايا على زوجات النبي.
وكان ابن عمر يفرق في المجلس الواحد 30 ألفًا؛ ليدخل السرور على فقراء المسلمين، ثم يمر عليه شهر لا يأكل مزعة لحم.
هل رأيت ـ أخي المنفق ـ كيف تسير في طريق سبق إليها العظماء؟! فإن سرت فيها نلت أعظم الجزاء في الدنيا والآخرة.
روى الشيخ عطية سالم رحمة الله عليه المدرس بالحرم النبوي الشريف في كتابه (ظلال عرش الرحمن) قصة واقعية، قال: "أخبرني الشيخ عبد الحميد عباس وهو رجل فاضل لا يتَّهم على خبَر، قال: وقع لامرأة حادث حيث كانت تسير في طريق بضواحي قباء، فانخسف بها جزء من الأرض، وكان تحته مجرى ماء كبير، فسحبها الماء حتى أمسكت بحجر وجلست عليه، ومكثت تحت الأرض أربعةَ أيام، ومرّ شخص في هذا المكان فسمع صوتَ استغاثة ضعيف، فلما تأكد من مصدر الصوت نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟ فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كل يوم، وكان لهذه المرأة جيران عجائز نسوة كانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها"، ((تعرّف إلى الله يعرفك في الشدة)).
وصدق القائل:
إن للمعروف أهلاً وقليل فاعلوه أهنأ المعروف ما لم تُبتذل فيه الوجوه
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4693)
صدى الإحسان
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
محمد بن حمد الخميس
الدمام
22/4/1424
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمرات الإحسان إلى الناس. 2- الحث على الصدقة والإنفاق وتفريج الكربات. 3- قصص واقعية تدل على أن الجزاء من جنس العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن العبد لا يحصد إلا ما زرع، ولا يجد إلا ما بذل، وكما قيل:
الخير زرع والفتى له حاصد وغاية المزروع أن يحصدا
نزل رجل وولده واديًا، انشغل الرجل بعمل له في الوادي، بينما أخد الولد يلهو بكلمات وأصوات، فوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدًى يعود إليه، فظن أن هناك من يكلمه أو يرد عليه، فتوجه إليه متوجسًا، قال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فرد عليه: أفصح لي عن شخصك؟ فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتخفى عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ به ويسخَر منه، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبّ ويلعن، وكلّما سب أو لعن رجَعت عليه مثلها. جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوّن عليك يا بني، وأراد أن يعلّمه درسًا عمليًا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردّ: أحسن الله إليك، وكلّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله. سأل الولد والده بدهشة واستغراب: لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدّبة ولا يسمعك إلا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سمعته هو صدَى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردّ، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل.
معاشر المؤمنين، حديثي اليوم بعنوان: "صدى الإحسان". فالمسلم كلّما أحسن إلى الآخرين في هذه الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا قبل الآخرة. فالإحسان كاسمه، والمعروف كرَسمه، والخير كوَسمه.
أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.
فإذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.
إن الإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، شَربة ماء من بغيّ لكلب عقور أثمرت دخول جنة عرضها السموات والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفور شكور غنيّ حميد جواد كريم، فلا تحتقر ـ أخي المحسن ـ إحسانك وجودك وعطاءك مهما قل.
ذكر الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه: (وحي القلم) قصة عن الإمام أحمد بن مسكين من علماء القرن الثالث الهجري في البصرة، يقول عن نفسه: "إني امتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، وانحسَمت مادتي وقحط منزلي، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلى رقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة، قال أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، جيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل العظيم بلفافة من القطن، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنه شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عن حجتي وسمعت صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا فوضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وضعت دموع المرأة المسكينة، حيث بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجح، ولا تزال ترجح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا، فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، واتقوا النار ولو بشق تمرة.
من حبة البر اتخِذ مثل الندى يا من قبضت على الندى يمناك
هي حبة أعطتك سبع سنابل لتجود أنت بحبة لسواك
وكأنما الشقّ الذي فِي وسطها لك قال: نصفي يَخص أخاك
فيا باغي الخير، هلم إلى بستان الإحسان، وتشاغل بالمعروف عطاءً وضيافةً ومواساةً وإعانةً وخدمةً، وستجد السعادة طعمًا ولونًا وذوقًا.
أحسن إلَى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وكن على الدهر معوانًا لذي أمل يرجو نداك فإن الحر معوان
من كان للخيْر مناعًا فليس له على الْحقيقة إخوان وأخدان
ومن جاد بالمال مال الناس قاطبة إليه والمال للإنسان فتان
والصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يبين لنا هذه القاعدة في الإحسان إلى الغير بقوله: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم. القاعدة واضحة، والأمر بين، فالجزاء من جنس العمل.
أخي الحبيب، هل تريد أن تنفس كربتك ويزول همك؟ فرج كرباتٍ للمساكين. هل تريد التيسير على نفسك في الدنيا والآخرة؟ يسر على المعسرين مما رزقك الله. هل تريد أن يستر عليك ولا يفتضح أمرك؟ استر عبدًا من عباد الله. هل تريد أن تكسَى يوم تعرَى الخلائق؟ اكس مسلمًا. هل تريد أن تطعم حينما يجوع الناس يوم القيامة؟ أطعم جائعًا. هل تريد أن تسقى يوم أن يظمأ الناس في الموقف العظيم؟ أسق مؤمنًا، فالجزاء من جنس العمل.
واسمع ـ أخي الحبيب ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين قاعدة صدى الإحسان، قال رسول الله : ((أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله تعالى من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله تعالى يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم)) حديث حسنه الألباني. ما أعظمه من حديث، وما أروعها من سنة إلهية وقاعدة ربانية، جزاؤك من جنس عملك.
أخي الكريم، تخيل يوم يقوم الناس لرب العالمين وأنت منهم، وقد دنت الشمس من الرؤوس، وسبح الناس في بحار من العرق، وهم عراة حفاة غرل، وقد غشيهم من الهم والغم والكرب ما الله به عليم، وإذا بك تؤخذ من بين الخلائق، ويكسوك الله من خضر الجنة، فتسأل وتتعجب: لماذا فعل معك هذا؟! فيكون الجواب: لأنك ـ يا عبد الله ـ كسوت مسلمًا ثوبًا على عري في الدنيا، واليوم يوم الجزاء، والجزاء من جنس العمل.
وتخيل الناس في هذا الموقف الرهيب المهيب، وقد طال وقوفهم وبلغ منهم الجهد مبلغه، وانثنت أعناقهم من شدة الجوع، وكاد الظمأ أن يقضي عليهم، فإذا بك ـ أخي الكريم ـ تؤخذ على رؤوس الأشهاد، ويقدم لك الطعام، وأي طعام؟ ثمار الجنة، ويقدم لك الشراب، وأي شراب؟ الرحيق المختوم، فتسأل في دهشة: لماذا هذا؟! فيقال لك: لأنك أطعمت مسلمًا على جوع في الدنيا، ولأنك سقيت مسلمًا على ظمأ في الدنيا، فكان هذا جزاءك، والجزاء من جنس العمل.
يروي الأستاذ مصطفى أمين رحمه الله الكاتب المصري المعروف الذي كافح وناضل ضدّ المد الاشتراكي، يقول: "أدخلت السجن عام 1965م ـ قبل أربعين سنة ـ، وتنوعت وسائل التعذيب هناك، حتى منعت من الطعام والشراب، والحرمان من الطعام مؤلم ولكنه محتمَّل، أما الحرمان من الماء فإنه عذاب لا يحتمَل، ولاسيما في فصل الصيف ولمن هو مصاب بالسكر مثلي، اشتدّ بي العطش وأخذت أدور في الزنزانة كالمجنون، وكنت أهوى إلى الأرض أحيانًا، ألحسها لعلّ الحارس ترك نقطة ماء وهو ينظف البلاط، فاضطررت لشرب البول ـ أجلكم الله ـ حتى ما عاد هناك بول أشربه، وشعرت أني قد أشرفت على الهلاك، بينما أنا كذلك وفي ظلمة الليل وإذا بباب الزنزانة يفتح بهدوء، ويمتدّ إلي كأس ماء من شخص وضع يده على فمي وقال بصوت منخفض: لا تتكلم. لم أصدق ما رأيت، أحسست بسعادة لم أعرفها طول حياتي، إذ إنني رأيت عناية الله، اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة دون أن أعرفه، ولكني تعرفت على بعض ملامحه، وذات يوم رأيته، فقلت له: لماذا أقدمت على هذه المغامرة الخطيرة؟! لو ضبطوك كانوا سيقتلونك، قال: يا سيدي، أنت لا تعرفني، ولكني أعرفك جيدًا، ولن أنسى فضلك في شهر رمضان المبارك، وقبل تسع سنوات أرسل لك رجل فقير خطابًا يقول لك فيه: إنه فلاح بسيط ومكث سبع سنوات يقتصد من قوته وقوت أولاده حتى جمع مالاً واشترى به بقرة، وكانت هذه البقرة سببًا لرزق الأسرة كلها، وبعد أشهر ماتت البقرة، وأوشكَت الأسرة على الهلاك، وإذا رسول منك يطرق الباب ومعه بقرة صدقةً حسنة منكم يا سيدي، سكت الحارس المجهول قليلاً ثم قال: هذا الفلاّح الذي أرسلتم له البقرة هو أبي، وها قد أرسلني الله لك بعد تسع سنوات لأردّ إحسانك"، وصدق الله العظيم: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه". فالجزاء من جنس العمل، والإحسان صداه وأثره يكون للعبد في الدنيا قبل الآخرة.
معاشر المؤمنين، إن الموفَّق هو الذي يختاره الله ليكون صاحب قلب نابض ويد حانية وإحساس مرهف، يشعر بحاجة أخيه، ويفرح بأن الله يجري الخير على يديه، فهذا سيجد جزاء عمله في الدنيا والآخرة.
أورد الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله المدرس بالحرم النبوي الشريف في كتابه (ظلال عرش الرحمن) القصة التالية: "وقع لامرأة حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى كبير للماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، ومرّ رجل في هذا المكان فسمع صوت استغاثة ضعيف، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم، وكان لهذه المرأة جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها". والجزاء من جنس العمل.
((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) ، إن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير، والبحث عن صاحب الحاجة اليوم عزيز، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذب على الصادق. فينبغي للمتصدق أن يتحرّى في صدقته من كان مستترًا مخفيًا حاجته، لا يكثر البث والشكوى مع ما فيه من الجهد والبلاء والفاقة والحاجة، فهم كما وصفهم رب العالمين: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، أي: لا يلحون في السؤال؛ لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم.
إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنيًا وهو مجهود
فثواب صرف الصدقة إلى هؤلاء المتعففين أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال.
ثم إن الذي يلح في السؤال ويجاهر بالطلب ليس بالمسكين الحقيقي كما قال : ((ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان)) ، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟! قال: ((الذي لا يجد من يعينه، ولا يفطَن له فيتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا)) رواه مسلم
قبل أيام خلت أصيب عائِل أسرة بمرض وهو رجل ضعيف الحال، لم يتعوّد على السؤال، ذهب إلى المستشفى فقرّر له الطبيب إجراء عملية سريعة، خرج من المستشفى مهمومًا مغمومًا مكروبًا؛ لأنه لا يجد تكلفة العملية على تواضع مبلغها، إذ إن راتبه لا يتجاوز ألفي ريال شهريًا، علمتُ بحالته وقابلته، ثم بادرته بالسؤال: ماذا أقرّ لك الطبيب؟ سكت قليلاً ثم أجاب إجابة بليغة، لا تحتاج إلى مزيد من نقاش أو تعليق حيث سبقت دموعه كلامه، انهمرت عيناه بالدموع، ولسانه معقود عن الكلام، هزني الموقف وتأثرت منه، وسألت الله أن لا يجعلني مثلَه؛ لأن السؤال من غير الله مذلّة، وأسأل الله بمنّه وكرمه وفضله أن لا يكِلني وإياكم إلى غيره. رحمت سنَّه، واحترمتُ رجولته، وبدأت أسحب منه المعلومات سحبًا، فسألته: هل قرر لك الطبيب عملية؟ أشار برأسه نعم، واللسان معقود عن الكلام، فعلمت أن الرجل وصل درجة من الحياء لا يحسَد عليها، فهوَّنت عليه الأمر، وطلبت منه تسعيرة من المستشفى، وقبل ثلاثة أيام ـ وبفضل من الله ـ أجريت له العملية على حساب مشروع التكافل الاجتماعي من خلال صدقاتكم وإحسانكم.
يا محسنون جزاكم المولى بِما يرجو على مسعاكم المَحمود
كم ردّ فضلكم الحياةَ لِميت جوعًا وكم أبقى على مولود
كم يسّر النومَ الهنِيء لساهر شاكٍ ولطف من أسَى مكمود
كم صان عرضًا طاهرًا من ريبة ونفى الأذى عن عاثر منكود
إن الموفَّق هو الذي أنعم الله عليه بالنعم، وجعل حوائج الناس إليه، فأسرع في قضائها، وإلا تعرضت هذه النعم للزوال، قال : ((ما من عبد أنعم عليه بنعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرم ـ أي: تضجر ـ إلا عرض النعمة للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد، وفي رواية أخرى للطبراني، واسمعوا أيها الموسرون وأيها الأغنياء الفضلاء النبلاء، قال : ((إن لله خلقًا خلقهم الله لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة)).
((خلقهم الله لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس)) ، ما أعظم هذه النفوس وما أعلاها منزلة عند الله، فهي تعيش لغيرها، لا لنفسها ولشهواتها، تتعب من أجل راحة الناس، تبذل المال من أجل سعادة الناس، فما جزاؤهم؟ وما ثوابهم؟ وما مكافأتهم؟ ((هم الآمنون يوم القيامة)). ما أعظمه من جزاء، وما أجزله من عطاء، وما أرفعه من وفاء، يفزع إليهم الناس في الدنيا لتأمين خوفهم، فإذا جزاؤهم الأمن يوم القيامة، أولئك هم الآمنون، فالجزاء من جنس العمل.
وقد يقول قائل ويسأل سائل: أين نجد هؤلاء المحتاجين؟! كيف السبيل إلى الذين لا يسألون الناس إلحافًا؟! فأقول: اجتهد في البحث تجدهم، وإذا حال بينك وبين البحث الجادّ قيود وقيود فسل عنهم، فكم حولنا من يتيم، وكم في مجتمعنا من أرملة أو مطلقة في حجرها صغار لا يجدون من الضروريات من الدواء والغذاء والكساء، أما الإيجار فهو أم المشاكل.
وإليكم هذه القصة المأساوية عن أسرة وقعتُ على حالتها البارحة، أسرة من أم وأطفالها الأربعة، الزوج سجين ولا يبقى من راتبه شيء، إذ تقضي عليه الأقساط والديون، المنزل بالإيجار، وعليهم استحقاق لمدة سنة، وهم مهدّدون بالطرد منه، المسكن متواضع متهالك قديم، مياه المجاري تحيط به منذ فترة، وقبل أشهر بدأ تسريب للمياة في وسط الصالة حتى تشبع الفرش منه، ومنذ أيام بدأ سقف غرفتين من المنزل بخرير ماء ليس ندى أو رطوبة إنما خرير ماء سمعت صوته ورأيت مصدره، تبين أنه من مياه مجاري الدور العلوي، أفسد عليهم الفرش والأثاث، وتسبب في سقوط الجزء الظاهر من السقف حتى ظهر حديد البناء، لم يسلم من البيت إلا المجلس، فأصبح مكانًا للنوم إذ لا أثر لمياه المجاري فيه إلا الرائحة التي تزكم الأنوف، بسبب هذه الظروف غير الصحية أصيبت البنت الكبيرة بجرثومة رقدت على إثرها في المستشفى عدة أيام، بقي أن نعلم أن هذه الأم المسكينة المنكوبة تنحدر من أسرة خارج المنطقة الشرقية مما زاد في محنتها وشدتها، والأطفال تقرأ على وجوههم البؤس والافتقار للأبوّة والحنان، كان الله في عونهم.
أول أوليات هذه الأسرة الخروج إلى منزل مناسب وإعادة تأثيثه مرة أخرى، ثم الطعام والشراب واللباس، هذه الحالة وأمثالها كثير، لو بحثنا عنها لوجدناها ولا يراودني شك في أن المؤسسات الخيرية وعلى رأسها جمعية البر بالمنطقة الشرقية تعمل ما في وسعها لتخفيف هذه الآلام، ولكن الخرق واسع والاحتياج كبير والله المستعان.
معاشر المؤمنين، إن طريق الإنفاق سبقنا إليه العظماء من الموفّقين، وعلى رأسهم سيد المرسلين الذي قال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار)) رواه البخاري. وكان لا يتأخر عن تفريج كربات أصحابه، فكم قضى لهم من ديون، وكم خفف عنهم من آلام، وكم واسى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودرعه مرهونة بأبي هو وأمي ، وكان ينفق غنمًا بين جبلين.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلُجَّتُه المعروف والجود ساحله
صلى الله وسلم وبارك عليه.
ما قال: "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه "نعمُ"
ثم جاء أصحابه رضي الله عنهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء والإحسان والسخاء، فالصديق قدّم ماله كله لله، والفاروق قدم نصف ماله لله، وعثمان اشترى الجنة من الرسول مرتين: مرة حين حفر بئر رومة، ومرة حين جهز جيش العسرة. وفي عهد أبي بكر الصديق جاء لعثمان ألف بعير محملة بالبر والزيت والدقيق، وكان المسلمون في حاجة شديدة وكربة كبيرة، فقال لهم عثمان: بكم تشترون؟ قالوا: بضعفين، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: بثلاثة أضعاف، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: بخمسة أضعاف، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: ما نعلم أحدًا يعطي أكثر من هذا! قال: أعطاني ربي عشرة أضعاف، أشهدكم أنها صدقة للمسلمين.
أيها الأخ الحبيب، لا تبخل على نفسك، وقدم لها ما يسرّك غدًا. واعلم أن السفر طويل، والزاد قليل، والذنب عظيم، والعذاب شديد، والميزان دقيق، والصراط منصوب على متن جهنم، وستمر عليه، فإمّا ناج أو هالك، فأنفق ينفق الله عليك، أحسن يحسن الله لك، فرج يفرج الله عنك، فالجزاء من جنس العمل.
اللهم يا سامع الصوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحمًا بعد الموت، يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك. اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنا، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير...
(1/4694)
فوائد البلاء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الفتن, القضاء والقدر, جرائم وحوادث
محمد بن حمد الخميس
الدمام
22/2/1426
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يقدر الله على المؤمن قضاء إلا وله فيه خير. 2- فوائد الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، مما لا شك فيه أن المحن محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم، وسهم لا يرتد، يكشف عما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، ويفصح ما سترته النفوس. فالبلاء يختفي معه الرياء وتبدو حقيقة المرء بجلاء.
فقد يظن المرء بنفسه التجرّد والكمال والصدق، فإذا وقعت المحنة وتغير الحال تبين من يبكي ممن يتباكى والصادق من الكاذب والصابر من الجزوع، قال تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ِ [آل عمران:154].
أحبتي في الله، اعلموا أن الله لا يقدّر على المؤمن قضاء إلا وله فيه خير، سواء كان الأمر الذي قدره الله من الأمور المحببة إلى النفوس، أو كان المقدور من الأمور التي تكرهها النفوس، وصدق الله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وسبحان الله! ولو أن الله لم يخلق المنغّصات لم يعرف المنعمون قدر النعم، فلولا المرض ما عرفنا العافية، ولولا الخوف ما شعرنا بأثر الأمن، ولولا الفقر ما عرفنا قدر الغنى، وبضدها تتميز الأشياء، وفي كل أمر من هذه الأمور خير للمؤمنين ولكن أكثرهم لا يعلمون، قال : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)) رواه مسلم.
أحبتي في الله، حديثي معكم اليوم عن البلاء، من جانب قليلاً ما نتذكره ونادرًا ما نتدبره. حديثنا عن فوائد البلاء.
أول فائدة للبلاء ـ عافانا الله وإياكم من كل سوء وداء ـ أنه يُقرب العبد من ربه ومولاه؛ فيدعوه ويرجو رحمته، وسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء والتضرع باللأواء، قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]. قال وهب بن منبه: "ينزل الله البلاء ليستخرج به الدعاء". وقال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسامُ بالعللِ
ومن فوائد البلاء أنه يقرب العبد من الله سبحانه وتعالى؛ قال رسول الله : ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!)) رواه مسلم.
سبحان الله! أضاف الله المرض لنفسه تكريمًا للمريض ومواساة له وتخفيفًا عن بلائه، وفوق ذلك هو عنده سبحانه وتعالى، فمن زار مريضًا أو عاد مبتلى فقد وجد الله عنده، وما أعظم هذه المكافأة وما أجمل هذه المنة أن تكون في مكان يتجلى الله سبحانه فيه.
ومن فوائد البلاء أن الله يستخرج به من العبد الشكر على العافية، فإن العبد إذا ابتلي بعد الصحة بالمرض وبعد العافية بالداء تاقت نفسه إلى العافية، فإذا رد الله عليه عافيته لهج بذكره وانطلق لسانه وجوارحه بشكره، وقد أجزل سبحانه للشاكرين العطاء وادّخر لهم عظيم الجزاء، قال سبحانه: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
نعم أيها الأحبة، يستخرج الله من العبادة عبادة الشكر التي ارتضاها لعباده وحثهم عليها، فقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وقال سبحانه: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
ومن فوائد البلاء أن فيه تكفيرًا للذنوب والسيئات ورفعًا للدرجات، قال : ((من يُرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري، وقال : ((ما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) صححه الألباني، وعن أنس عن النبي قال: ((إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) صححه الألباني، وقال : ((إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله، ثم صبّره حتى يبلغ التي سبقت له من الله عز وجل)) رواه الطبراني بسند حسن والبيهقي، وقال : ((إن العبد ليكون له عند الله المنزلة الرفيعة ما ينالها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) حسنه الألباني، وقال رسول الله : ((أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب الله من خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)) صححه الألباني.
ومن فوائد البلاء أن يكتب للعبد أجر عمله الذي كان يعمله وهو صحيح، عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أوحى الله إلى ملائكته: يا ملائكتي، أنا قيّدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه أغفر له، وإن أعافه فجسد مغفور ولا ذنب له)) أخرجه أحمد وإسناده حسن، وعن أبي هريرة قال : ((إذا مرض العبد المسلم نودي صاحب اليمين أن أجرِ على عبدي صالح ما كان يعمل وهو صحيح، ويقال لصاحب الشمال: أقصر عن عبدي ما دام في وثاقي)) رواه البيهقي وإسناده صحيح.
ومن فوائد البلاء إصلاح النفوس وتهذيبها، فلو بسط الله لعباده الرزق والنعمة لبغوا في الأرض، قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]. فهو أعلم سبحانه بخلقه وما يصلحهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. قال ابن القيم رحمه الله: "الله خالق الخلق وعالم بما يصلحهم، فلا يصلحهم إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط".
ومن فوائد البلاء تمحيص المؤمنين وإظهار المنافقين والمدّعين، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]. قال ابن القيم رحمه الله: "فالله يحب أن يرى المؤمن ثابتًا على إيمانه ليزيده إيمانا، يبتليه بعبودية السراء والضراء فيما يحب ويكره، في حال ظفره على عدوه وظفر عدوه عليه، فإن ثبت على الطاعة والعبودية فهو عبده حقًا، وليس ممن يعبد الله على حرف واحدٍ من السراء والنعمة والعافية".
ثم يتخذ الله الشهداء الذين ينالون مغفرة الذنوب والأمن يوم الفزع الأكبر والشفاعة لسبعين من أهل بيتهم ثم الخلود في الجنة، كل ذلك حصل بالبلاء.
أحبتي في الله، إذا كان هذا هو ثواب المبتلى فهل يجوز لنا أن نتمنى البلاء؟!
الجواب: لا؛ فإن النبي نهى عن ذلك، وكان يأمرنا بسؤال الله العافية، كما كان يكثر من سؤال الله العافية. وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله : ((هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله : ((سبحان الله! لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟!)) قال: فدعا الله له، فشفاه.
وعن حارثة بن مضرب قال: أتينا خبابا نعوده فقال: لقد طال سقمي، ولولا أني سمعت رسول الله يقول: ((لا تتمنوا الموت)) لتمنيته. وقال: إن العبد ليؤجر في نفقته كلها إلا التراب.، أو قال: في البناء.
ومن فوائد البلاء أن الله كافأ المبتلين الصابرين بمكافآت عظيمة، فقال: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]. يرفعهم الله بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته. وفي الأثر: إن الله جل جلاله يُعطي يوم القيامة كل ذي حق حقه إلا الصابرين، فإنه يَصبُّ عليهم الثواب صبًّا، مصداقًا لقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. قال الإمام الأوزاعي: "لا يُوزن لهم ولا يُكال، وإنما يُغرف لهم غرفًا".
فاللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين في أجرك وثوابك يوم القيامة، وأنت خير المجيبين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4695)
الضوابط الشرعية للترويح
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة, السياحة والسفر
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
3/5/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول الدين الإسلامي. 2- أهمية الوقت. 3- مشروعية الترويح في الإسلام. 4- ضوابط الترويح في الإسلام. 5- صور من الترويح المحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، إنّ من المسلَّمات عند المسلم أنّ هذا الدين دين شمولي، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، فحياة المسلم كلها مرتبطة بهذا الدين، وليس ثمة أوقات يمكن أن يقول الإنسان: هذه لغير الله تعالى، فكل وقته لله؛ جِدّه وهزله، نومه ويقظته، حياته كلّها لهذا الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ونحن قادمون ومقبلون على أوقاتٍ يفرغ فيها كثير من الناس، وهي أوقات الإجازات، والوقت نفيس، والمسلم مسؤول عن وقته يوم القيامة، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيم علم؟)) رواه الترمذي والبيهقي وحسنه الألباني.
ربما يقول البعض: ما الذي نصنعه في الإجازات وهي في الغالب تكون أوقاتا للترويح والاستجمام بعد عناء التعب والكد والعمل؟! ربما يقول الآخر: هل تريدنا أن نبقى دائمًا في المسجد لا نخرج منه أبدًا؟! هل تريد منا أن نبقى دائمًا في قراءة وتلاوة وذكر؟! لا، ليس هذا هو المطلوب، بل هذا الدين دين شمولي يراعي هذه القضايا كلّها، والنبي يقول لحنظلة رضي الله عنه: ((يا حنظلة، ساعة وساعة)) رواه مسلم والترمذي وأحمد، وعندما مر النبي بالحبشة وهم يلعبون في المسجد قال: ((خذوا ـ يا بني أرفدة ـ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة)) رواه أبو عبيد في الغريب وصححه الألباني في الصحيحة (4/443)، وكان النبي يمازح أصحابة ويمازحونه، وكان الصحابة يتمازحون ويترامَون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. السلسلة الصحيحة (1/797).
هذه هي الحياة الإسلامية المتكاملة التي لا يغلب فيها جانب على حساب جانب آخر، ولا يطغى جانب على جانب آخر، بل الحياة كلها مرتبطة بهذا الدين، بيد أن ثمة ضوابط وضعها هذا الدين حتى يكون هناك تميّز للمسلم، ويتميز ترويحه وهزله عن غيره من غير المسلمين الذين يلعبون ويروّحون على أنفسهم. هناك ضوابط شرعية يراعيها المسلم حتى لا يكون متشبّهًا بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى، فيسير في ركابهم وفي فلكهم، وإن هذه الضوابط ـ أيها الإخوة الكرام ـ ينبغي أن تبقى معلمًا بارزًا لكل مسلم في الترويح عن النفس وفي الاستجمام وفي السياحة وفي الأمور كلّها.
فمن ذلك اختيار جماعة الترويح إذا أراد الإنسان أن يروّح عن نفسه، فلا بد أن يختار من يعينونه على الطاعة، فالمرء على دين جليسه، و((مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)) رواه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة. فلا ينبغي للإنسان أن يختار في الترويح من لا يصلي ومن لا يذكر الله تعالى ومن لا يقدر للدين قدره.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ أن لا يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء في أثناء الترويح، فإن الاختلاط من أكبر الآفات، سيما في الترويح؛ لأن فيه هزلا وضحكا وإسقاطا للتكلف، وقد قال النبي : ((لأن يطعن أحدكم بمخيط حديد في رأسه خير له من أن يمسّ جسد امرأة لا تحلّ له)) رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في صحيح الجامع، ويقول : ((ما تركت بعدي فتنة أشدّ على الرجال من النساء)) رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني. والميل للنساء ميل فطري، لا ينازع فيه أحد إلا من سُلِبت رجولته ومن لا يتأثر بالنساء، فالنساء شقائق الرجال، وميل الرجل للمرأة حتى يستمرّ النسل، فينبغي أن يبتعد في أثناء الترويح عن الاختلاط بالنساء الأجنبيات؛ لأن هذا فيه فتنة وفيه حضور للشيطان ونزغاته.
ومن ذلك عدم التبعية والتقليد لأعداء الإسلام في صوَر ترويحهم المستورَد من العري والتبرج وأفلام العبث والفوضوية، الذي ينبغي أن يترفّع عنها المسلمون الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا ورسولاً.
ومن ذلك اختيار وقت الترويح، عندما يريد الإنسان أن يستجمّ أو أن يروح عن نفسه فلا ينبغي أن يعتدي على الوقت المحرّم: أوقات العبادات، أوقات الذكر، أوقات الصلوات، لا ينبغي أن يكون الترويح فيها، كان النبي كما تقول عائشة رضي الله عنها: يضاحكنا ونضاحِكه، فإذا سمع الأذان فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، ويقول : ((كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام)) رواه مسلم. فلا ينبغي أن يكون العبث واللهو واللعب والترويح في أوقات الصلوات، سيما وأن فريقًا من الناس لا يحلو لهم اللهو واللعب والعبث إلا في أوقات الصلوات المفروضة.
ومن ذلك عدم إهدار أوقات الليل كلّها في السمر وفي العبث وفي الأمور المحرمة، فقد قال النبي : ((لا سمر إلا لمصل أو مسافر)) رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع، ويقول محذرًا من السمر الطويل إلى الفجر في عبث ولهو كما في مسند الإمام أحمد: ((ليبيتن أقوام من أمتي على أكل ولهو وغناء ثم يصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير)) حسنه الألباني. فينبغي أن ينتبّه العبد المسلم من هذه القضايا، سيما في الأفراح التي يمكث بعض الناس فيها إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ويسمعون الأذان: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" وهم في سمرهم وعبثهم وغنائهم ولهوهم وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك أن لا يكون الترويح في أوقات متعلّقة بحقوق العباد كالعمل الرسميّ مثلا أو غيره؛ لأن المؤمن يفي بالعقد، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
ومن ذلك عدم الإفراط في استهلاك الوقت المباح؛ لأنه مسؤول عنه أمام الله يوم القيامة، وقد سبق الحديث الآنف الذكر: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) ، فلا يسرف الإنسان كل وقته في العبث وفي اللهو وفي الترويح، بل كما قال النبي : ((يا حنظلة، ساعة وساعة)).
ومن الضوابط الشرعية ـ يا عباد الله ـ مراعاة اللباس عند الترويح، مراعاة الزي الذي يلبس عند الترويح، فينبغي أن يكون ساترًا، لا ينبغي أن يكون المؤمن عند الترويح متعريًا متشبها بأعداء الإسلام، وقد روي في سنن الترمذي عن النبي قوله: ((إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الجماع وعندما يقضي الرجل حاجته)) رواه الترمذي وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((غطّ فخذك؛ فإن فخذ الرجل من عورته)) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني، وقال: ((لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت)). فعورة الرجل من السرة إلى الركبة، ولا يجوز أن يكشف ما دون السرّة أو ما فوق الركبة، سواء كان في لعب أو غيره. والمرأة المسلمة كلّها عورة عندما تكون أمام الأجانب، وعندما تكون أمام النساء لا يجوز لها أن تظهر ما بين السرّة والركبة كما قال العلماء ذلك. كما لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تتزيَّا بزيّ الكفار في لباسها عند الترويح وعند الاستجمام وعند اللّعب، أن لا تستورد أزياء من الشرق أو الغرب تظهر الإبطين والفخذين والصّدر وغير ذلك من الأمور ـ يا عباد الله ـ التي فيها تشبّه بأعداء الإسلام، ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)) ، والمرء مع من أحب يوم القيامة، والمسؤولية على أولياء الأمور، ينبغي أن يراعوا النساء في لباسهن؛ لأنه برزت في هذه الأعصار ألبسة مستورَدة يراها النساء عبر القنوات وعبر المجلات وعبر اختلاطهن بغيرهن، لا ترضي الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ مراعاة مكان الترويح، إذا أراد الإنسان أن يروح عن نفسه فلا يعتدي على الناس في الطرقات والأماكن العامة، فقد قال النبي : ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)) رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وحذر النبي من أذية الآخرين في الأماكن العامة فقال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا، قال: ((إن أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقّه)) ، قيل: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. فينبغي أن يراعي الإنسان الأماكن العامة، فلا يعتدي عليها، ولا ينظر إلى المحرمات، فالعين تزني وزناها النظر، وأيضًا لا يؤذي الناس بإلحاق الأذى في الأماكن العامة، فقد قال النبي : ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق وتحت ظل الشجر)) رواه أبو داود وحسنه الألباني، فالأماكن التي يرتادها عامة الناس لا ينبغي أن يلحق الإنسان الأذى بها، فينبغي أن يكون المسلم محافظًا على حقوق غيره، وأن يترك المكان أنظف مما كان بالقدر الذي يتمنى أن يراه سابقًا.
ومن ذلك سلوك الترويح من المحافظة على ذكر الله، المحافظة على الصلاة، المحافظة على غض البصر، عدم الاعتداء على الآخرين، عدم انتهاك محارم الله سبحانه وتعالى، مراعاة الأخلاق العامة عند المنافسات؛ فلا غشّ، ولا غصب، ولا أخذ لأموال الناس بالباطل، مراعاة الصحة العامة، وهذه من شمولية هذا الدين، يقول النبي : ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)) رواه أبو داود وصححه الألبانيز
ومن ذلك عدم الإسراف في الإنفاق على الترويح، فإن الإسراف ممقوت، والمبذرين إخوان الشياطين، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، ولا ينبغي أن ينفق الإنسان على المحرمات؛ لأنه مسؤول عن هذا المال يوم القيامة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلّم تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون، هناك صور من الترويح المحرم، ينبغي للمسلم أن يجتنبها وأن يبتعد عنها حتى لا يقع فيما يسخط ربه عز وجل، فإن الجنة حفّت بالمكاره، وإن النار حفت بالشهوات، فينبغي أن يراعي المسلم هذه الأمور، سيما في زمن كثرت فيه المغريات وكثرت فيه الملهيات وكثرت فيه الصوارف عن ذكر الله تعالى وكثرت فيه المراقص والملاهي في أصقاع الدنيا إلا ما رحم ربك.
فمن ذلك ـ يا عباد الله ـ أن يبتعد عن كل ما ورد النصّ بتحريمه من أنواع الملاهي المحرمة كالقمار والميسر الذي قرِن بالخمر، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فلا ينبغي أن يقامر الإنسان أو أن يقع في الميسر، كأن يتفق جماعة على دفع مبلغٍ ما ثم يأخذه المنتصر أو الفائز كما يصنعه بعض الشباب في المسابقات الرياضية، فهذا من الميسر المحرم الذي ينبغي أن يبتعِد عنه المسلم الذي رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً.
ومن ذلك الشطرنج؛ لورود النص فيه، قال النبي : ((من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه)) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني، وسئل القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة عن اللعب بالشطرنج فقال: "كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر".
ومن ذلك الغناء ـ يا عباد الله ـ بالآلات الموسيقية المحرمة، سواء كان من الرجال أو النساء، فهو محرم، سواء كان في الأفراح أو غيرها، فالنبي قال: ((أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدف)) رواه الترمذي وقال: "هذا حديث غريب"، فأجاز الدف فقط في النكاح، وحرم الغناء تحريمًا عامًا فقال سبحانه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6]، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (والذي لا إله غيره، إنه الغناء) رواه في الأدب المفرد، وقال النبي : ((ليستحلنّ أقوام من أمتي الحر والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري، والاستحلال لا يكون إلا لشيء محرّم، فأنواع الغناء المقرونة بالمعازف وأدوات الموسيقى لا يجوز استخدامها في الترويح لورود أكثر من ثمانية أدلة صحيحة في تحريم الغناء.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ الحلال إذا تلبّس بحرام كالسباحة مثلاً فإنها مباحة لكن إذا اقترنت بالعري والاختلاط وكشف العورة فإنها محرّمة، وكالسياحة مثلاً فإنّ الأصل أن السياحة مباحة، لكن إذا اقترنت بمحرّم فإنها محرمة، كأن تكون السياحة للبحث عن المراقص والملاهي وصالات الدعارة والرقص وشرب الخمور وغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى وحرمه رسوله.
ألا فلنتّق الله يا عباد الله، ولنراقب ربنا عز وجل؛ فإن الله تعالى يرانا في كل مكان نذهب إليه، فإن فريقًا من الناس إذا غادر أحدهم سورَ بلده وذهب إلى بلد آخر نسي ربه عز وجل، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. راقب الله سبحانه وتعالى هنا أو هناك، في الداخل أو الخارج، واستشعر أن الله يراك وأن معك من لا يفارقك من الملائكة الكرام الكاتبين الذين يكتبون كل شيء، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4696)
اغتنام الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, القرآن والتفسير
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
2/6/1426
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الفراغ. 2- ضرورة الاستفادة من الفراغ. 3- قراءة القرآن. 4- صلة الأرحام. 5- زيارة الحرمين الشريفين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، الفراغ نعمة من النعم العظيمة التي ينعم بها الله عز وجل على عباده، يقول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) ، ونحن في هذه الأيام يتمتع أكثرنا بنعمة الفراغ، وبعض الناس يفرّط تفريطا عظيما بهذه النعمة، بل بعض الناس يستغل هذه النعمة بما يعود وبالا عليه والعياذ بالله. فمن باب الذكرى إليكم ـ أيها الإخوة ـ بعض المشاريع العظيمة التي يمكن عملها في مثل هذه الإجازة.
أيها الإخوة، هناك أمور كثيرة جدا تجعل المسلم يستفيد من فراغه، تجعل هذا الفراغ وسيلة لجلب الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة بإذن الله تعالى.
من هذه الأمور ـ إخوتي في الله ـ كتاب الله عز وجل، فلا بد أن يكون لكتاب الله ـ أخي المسلم ـ نصيب في جدول أعمالك اليومي، لا بد من تخصيص وقت حتى ولو كان يسيرا لكتاب الله، وخير ما تقضي به الأوقات هو كتاب الله جل جلاله.
بعض الناس يفرغ جزءا من وقته لقراءة مجلّة أو جريده، أو لمشاهدة مسلسل أو مباراة، ولكن لا تجد للقرآن في وقته نصيبا، وهذا من الخطأ العظيم، ومن الهجر لكتاب الله، ويوم القيامة يكون هذا وأمثاله من الذين يشتكيهم النبي كما قال تبارك وتعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. فاجعل ـ أخي المسلم ـ للقرآن من وقتك نصيبا، وخاصة في مثل هذه الإجازة، يقول تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
تأمل هذا الفضل العظيم لتلاوة كتاب الله، يقول قتادة عن هذه الآية: "هذه آية القراء" أي: الذين يقرؤون القرآن. فتلاوة كتاب الله وتفريغ الوقت له لها مكانة عند الله عز وجل، بل هي دليل على صدق الإيمان بهذا القرآن، يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
فاغتنموا أوقاتكم في تلاوة كتاب الله، اقرؤوا القرآن فإن النبي يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما ـ يعني تدافعان عنه الجحيم والزبانية ـ، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)).
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الأمور التي ينبغي للمسلم أن لا تفوتَ عليه في مثل هذه الإجازة صلة الرحم؛ لأن شأن صلة الرحم شأن عظيم، فهي سبب لطول العمر ووسيلة لكثرة الرزق، يقول النبي : ((من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
بل ـ أيها الإخوة ـ صِلة الرحم سبب لصلة الله عز وجل، فالذي يصل رحمه يصله الله، والذي يقطع رحمه يقطعه الله، يقول النبي : ((إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم؛ أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)).
فالله الله؛ صِلوا أرحامكم، واحذروا من القطيعة، فإن لقطيعة الرحم شؤما عظيم، يكفي أنها سبب للعنة الله وعقابه، يقول تبارك وتعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، وفي الحديث يقول : ((لا يدخل الجنة قاطع)) يعني قاطع رحم.
وأعظم القطيعة جرما وأكبرها أثما قطيعة الوالدين، فليس ذنب يلي الشرك إلا القطيعة بالوالدين، قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قال الصحابة: بلى يا رسول الله، قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قال الصحابة: بلى يا رسول الله، قال ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قال الصحابة: بلى يا رسول الله، ثلاث مرات يسألهم، ثم قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين...)) الحديث. فجعل العقوق بعد الشرك مباشره، وعقوق الوالدين يعني قطع برهما والإحسان إليهما.
فالحذر الحذر أيها الإخوة، من كان له والد أو والدة فليبادر إلى البر به، وليسرع في صلته، وليحسن إليه، قبل أن يأتي يوم يتمنى وجوده ولا يجده.
أسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أيها المسلمون، ومن الأمور التي ينبغي للمسلم أن لا تفوتَ عليه في مثل هذه الإجازة شدّ الرحال إلى بيت الله الحرام وإلى مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، عمرة وزيارة، يقول النبي : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) ، وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)). فهي ـ والله ـ فرصة في هذه الإجازة، رحلة مباركة إلى بيت الله الحرام، مرورا بمسجد رسول الله ، يقول جابر بن عبد الله: (وفد الله ثلاثة: الحاج والمعتمر والغازي، أولائك الذين يسألون الله فيعطيهم سؤلهم). فشدّ الرحال ـ أيها المسلم ـ إلى تلك البقعة المباركة الطاهرة، ففي الحديث يقول نبيك : ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ، والمسجد الأقصى)).
ولا تنس ـ أخي ـ فضل الصلاة في المسجد الحرام وفي مسجد النبي ، فإن الصلاة في المسجد الحرام عن مائة ألف صلاة، يعني تصلي فجرا يحسب لك أجر مائة ألف فجر، كل ركعة بمائة ألف ركعة، فضلٌ عظيم، والصلاة في مسجد النبي بالمدينة المنوّرة عن ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا باقي أعماركم، وأشغلوا أنفسكم بمثل هذه العبادات الجليلة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فحسابكم لها اليوم أهون من حسابها غدا، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ.
ألا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال جل من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم واحم حوزة الدين...
(1/4697)
الإجازة الصيفية
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, السياحة والسفر, قضايا المجتمع
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
17/5/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة العناية بمعالجة الظواهر الخاطئة في المجتمع. 2- آفة السهر. 3- قضية السفر. 4- منكرات الأفراح. 5- مشكلة الفراغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، مما يجدر بالداعية والناصح الغيور أن يبيّن للناس ما هم عليه وفيه وقت الحاجة، فهذا نبي الله شعيب قاوم بكل ما أوتي من قوة في مشكلة ظهرت في مجتمعه ألا وهي الغشّ والتطفيف في الميزان، وهذا نبي الله لوط حارب مشكلة اللواط في مجتمعه، وهذا نبينا محمد كان له مع كلّ مشكلة تظهر موقف وبيان وتعليم، والموفَّق من وفّقه الله لسماع القول فيتبع أحسنه.
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ ونحن في أول أيام الإجازة الصيفية وفّق الله الجميع فيها لكل خير ومتعهم فيها متاعًا حسنًا، فحسبي أن أنبّه ـ أيها المسلمون ـ على بعض الأمور المهمّة التي يجدر التذكير بها، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
الأمر الأول ـ أيها المسلمون ـ هو قضية السّهر، فمن المعلوم شرعًا وطبعًا وطبًّا أنّ الله قد خلق الناس وخلق الليل والنهار، فجعل الليل لباسًا وسباتًا، فهو للنوم والهدوء وراحة للأبدان بعد تعب وكدّ النهار، قال تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ:9، 10]، هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، يشذّ عن هذه القاعدة من كانوا في شغل لا بد منه كأصحاب الوظائف الليلية التي لا بد منها.
أما أن يتحول الليل للسّهر غير المبرَّر وإلى وقت للتهريب وفعل الفواحش والتخريب ووقتًا لاقتراف الكبائر والجرائم ومسرَحًا للأعمال الخبيثة والأفعال القبيحة ومجمعًا للرذائل وإيذاء الجار وسهر على مطاعم ومشارب وأفلام خبيثة وخلوات محرّمة ومخدرات مضرّة فكل هذا من السهر المحرم، وإنما معهم الشيطان يؤزّهم أزًّا، يعِدهم الشيطان ويمنيهم بالأنس والانبساط، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
ومما يساعد على السهر في هذه الأيام طول النهار وقصر الليل وتأخّر حفلات الزواج، فحري بالقائمين على حفلات الأعراس أن يتّقوا الله في الناس، ولا يتأخروا في تقديم العشاء لهم، فالناس قد تكلّفوا الحضور إكرامًا للداعين، فحريّ بالداعين أن يخفّفوا على الناس انصرافهم إلى بيوتهم.
كان نبيكم يكره السهر بعد العشاء والحديث بعدها، وكان من هديه النوم في أول الليل، وكان إذا أوى إلى فراشه يجمَع كفيه ويقرأ فيهما: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص] والمعوذتين، فينفث فيهما في كفيه ثم يمسح ما استطاع من جسده، يفعل ذلك ثلاثًا، كان إذا رقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول: ((اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)) ، وكان يقول: ((باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) ، وكان من هديه أن يقوم فيصلّي بالليل كما أمره ربه: قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً [المزمل:2، 3].
أيها الناس، لقد علم من السنة الصحيحة الصريحة الثابتة أن الثلث الأخير من الليل هو أشرف الأوقات ووقت نزول الرحمات واستجابة الدعوات، ذلك لأنه وقت ينزل الله العلي نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وذلك كلَّ ليلة، فينادي عباده وهو الغني عنهم: هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه سؤله.
فينبغي أن يتذكر الساهر في الليل ويتنبه إلى فضيلة هذا الوقت المبارك، بل على بعض الناس أن يستحوا من الله حقّ الحياء، فالله جل وعلا يناديهم وهم على معصية من المعاصي قد اختفوا عن أنظار الناس، ولكن تحت نظر ورقابة من لا يخفي عليه خافية.
أيها المسلمون، والقضية الثانية هي قضية السفر، ويدعو الناس إليها وجود الإجازة وشدّة الحر وتوفّر نعمة المال عند من يسافر، ولست هنا اليوم لأقول للناس: لا تسافروا ولا ترتحلوا، فالسفر كما قيل: فيه سبعة فوائد، ولكن حسبي أن أنبه على أمور في السفر:
ما الوجهة التي يقصدها المسافر والغاية من هذا السفر؟ فالسفر إلى بلاد غير المسلمين أو إلى بلاد مسلمة يظهر فيها العري والخمور ويكثر فيها الزنا، فتلك بلاد لا ينبغي السفر إليها، وللمسافر أماكنُ كثيرة نظيفة غنية عن تلك الأماكن، والغاية من السفر إن كانت للأمور المحرّمة كشرب الخمور والرقص في المراقص الليلية ومعاشرة العاهرات والجلوس على شواطئ التبرّج والعري فذلك سفر ومقصد خبيث.
ألا وإني أنصح وأذكّر كلّ من كان هذا قصده وغايته أن يتّقي الله في نفسه، وليعلم أن تلك الأرض التي سوف يذهب إليها هي من أرض الله وخلق الله، وستأتي يوم القيامة تشهَد لك أو عليك، تلك الخطوات والأميال التي قطعت، كلّها والله ستكتب وسوف يشهد عليك يوم القيامة الشهود، ولن ينفعك والله ما متعت به نفسك من متَع زائلة تزول في وقتها ويبقى عليك رجسها.
والمسافر جرت السنة له بقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين رخصة من الله، وليس هناك تحديد لأيام محددة، بل طالما أنه مسافر عرفًا فيجوز له القصر، يستثنى من ذلك من كانت إقامته طويلة جدًا تقارب أن يكون استيطانًا وليس سفرًا، أما من سافر لقضاء حاجة أو نزهة فالسنة في حقه قصر الرباعية ولو تجاوزت مدة سفره أربعة أيام أو عشرة أيام أو شهر، وهذا القول الذي أفتى به شيخ الإسلام ابن تيميه والشيخ العثيمين رحمهما الله.
كما أنه لا يجوز للمسافر سفر معصية قد عزم الأمر على المعصية والعياذ بالله وأسرّها في نفسه والله مطلع على مكنون صدره وما هو عازم عليه ونيته، فمثل هذا لا يجوز له الترخص برخص السفر، ذلك أن الشريعة أتت للتيسير، فلا يمكن بحال القول بالتيسير على المسافر للمعصية فكأن الشريعة تساعد مثل هذا، هذا أمر صعب ومستبعد، والمسافر للمعصية لا يرخص له برخص السفر التي يتمتع بها المسافر السفر المباح الذي لا معصية فيه.
وأما الجمع بين الصلاتين فإن المسافر يجمع ما بين الظهر والعصر أو المغرب والعشاء، ولا يجوز الجمع في غير ذلك، فلا يجوز جمع الفجر مع الظهر، ولا العصر مع المغرب، ولا العشاء مع الفجر. ويستحب الجمع إذا كان يحتاج إلى ذلك، فإن كان هناك مسجد وجماعة فالأولى المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد.
ومن هدي النبي في السفر أنه كان يودع المسافر ويقول: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)). وكان النبي يكره أن يسافر المسلم لوحده وقال: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان)) ، فالمستحب للمسلم أن يسافر مع رفقة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ونهى النبي عن سفر المرأة بلا محرم.
وكان النبي يحب السفر يوم الخميس، وكان إذا سافر سافر في أول النهار، وكان إذا ابتدأ سفر وركب دابته كبر ثلاثًا ثم قال: ((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)).
وكان يكبر إذا علا أو هبط، وكان يصلي وهو على دابته صلاة التطوع في السفر يومي إيماءً، وكان إذا نزل منزلا استعاذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وأمر النبي بسرعة الرجوع من السفر إذا قضى الإنسان حاجته، وقال: ((السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى مهمته فليرحل إلى أهله)). وكره النبي أن يرجع الرجل إلى داره ليلاً فجأة. وكان من هديه صلاة ركعتين في المسجد قبل أن يبادر إلى بيته.
والنصيحة الثالثة في الصيف هي عن حفلات الزواج في هذه الأيام، نسأل الله أن يبارك لكل عروسين وأن يجمع بينهما خير.
لكن يا عباد الله، حفلات الزفاف في هذه الأيام فيها الكثير مما يغضب الله ولا يرضاه، فقضية الإسراف اليوم هي أم القضايا وأسّها، فلم تعد هناك مشكلة كبيرة في المهور عند أكثر البيوت, ولكن المشكلة في حفلة الزفاف التي أصبحت تحت وطأة مسايرة الناس والمشي على ما مشى عليه الناس، أصبحت تكلف الكثير من المال، ونحن اليوم ـ أيها العقلاء ـ يُستأجر مكان الاحتفال لمدة تقارب ست ساعات ويصرف من أجل هذه الساعات الستمائه ألف ريال أو أكثر ما بين إجار لمكان غالي الثمن وعشاء سببه كثرة المدعوِّين بدون سبَب وجيه واستئجار مغنّية وأشياء أخرى، فهل يعقل أن يصرف الشاب أو أبوه هذا المبلغ الكبير على ست ساعات؟! هذا أمر يصعب جدًا القبول به، وعلى العقلاء من الرجال تدارك هذا السفَه في الاحتفالات.
ومن مخالفات الأفراح عندنا اليوم دخول الأزواج على النساء، وهو مخالفة صريحة للشرع المطهر، وفيه إنقاص من الرّجولة، خاصّة إذا صاحب هذا الدخول رقص وأشياء أخرى يستحى من ذكرها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
والقضية الرابعة في هذه الإجازة هي قضية الفراغ الذي يعاني منه الشباب والفتيات. الفراغ في الأصل نعمة إذا أحسن استغلالها، ولكن هذه النعمة تنقلب إلى نقمة وشرّ إذا ترك المسلم نفسه بلا شيء مفيد يشغله، تكثر في الإجازة التجاوزات والتعدّيات والأخطاء بسبب الفراغ الكبير الذي يعاني منه الشاب.
وعلى الشباب اغتنام هذه الإجازة بقضاء جزء من أوقاتها في ما ينفع ويفيد. وعلى الآباء مساعدة أبنائهم على شغل أوقاتهم بالمفيد من تعلم مهارات ورياضات مفيدة، إلى تطوير المواهب والقدرات في اللغات وعلوم الحاسب أو المهارات المهنية المفيدة.
ألا إن خير ما تصرف فيه الأوقات والقدرات هو تعلّم العلوم الشرعية، فهي خير العلوم وأزكاها وأبهاها وأحلاها وأدومها نفعًا وصلاحًا، وفيها فوز وسعادة وفلاح.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية وهادي البشرية...
(1/4698)
الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
20/2/1420
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الإجازة. 2- أهمية الوقت ونعمة الفراغ. 3- مظاهر إهدار الإجازة الصيفية. 4- وسائل مفيدة لقضاء الإجازة. 5- موعظة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:1، 2].
معاشر المسلمين، في هذه الأيام يهتمّ العقلاء ويفكر البصراء ويخطط النبلاء، إنهم في مستهلّ إجازة لطيفة عظُم وقتها، وحسُن خيرها، وقلّت أشغالها، فماذا ينتظر الأبناء فيها؟ هل سيوردون موارد الخير والانتفاع، أم يُصرفون لمنازل الهلكة والضياع؟
هذه الإجازة الطيبة فرع الوقت الثمين الذي هو عمر الحياة وزمانها وسراؤها وأحزانها. إن الإجازة ينبغي أن تكون طريقًا للعز والذكر والفائدة، وبابًا للرشد والوعي والإنجاز، فليست الإجازة سياحة وزينة وخلاعة، وليست الإجازة طربًا وغناء وبشاعة.
إن الإجازة مظاهر فرح وسرور، تشع بذكر الله ومحبته ورجائه وطاعته، والإجازة منازل سياحة تضيئها الأنوار والهدايات والباقيات الصالحات، وهي فرصة عظمى للزيادة والنماء من الخير، فلقد تحررت النفوس من وطأة العمل وضيق الدراسة وشقاء الأنظمة، وأقبلت إلى فراغ خطير ووقت ثمين، إن لم يُشغل بالنافع المفيد جرَّ إلى الضار الوخيم، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93].
أيها الإخوة الفضلاء، هل فكَّر عقلاؤنا في أمر الإجازة؟ كيف قضاؤها؟ وكيف نفعها وفائدتها؟ وما مستقبل أبنائنا وشبابنا فيها؟ إنها فرصة للبناء والزيادة وتحصيل الخير والإفادة، ونوع من التعويض والإصلاح والإبداع. فالبدار البدار للفوز بمحاسن الإجازة، واحذروا غوائلها ومساوئها، فإنها غراس حياتكم، وسوف تُردّون إلى ربكم وخالقكم.
نُقِل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الصالحين أن رجلاً قال له كلمني، فقال له: "أمسك الشمس".
مضى أمسُك الماضي شهيدًا معدّلاً وأعقبَه يوم عليك جديدُ
فيومك إن أغنيته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعودُ
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي قال: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)).
قال ابن القيم رحمه الله: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانما".
قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]، قال ابن عباس: (العصر هو الزمن)، وقال بعضهم: قال رجل لداود الطائي رحمه الله: أوصني، فدمعت عيناه وقال: "يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدّم كل يوم زادًا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزوّد لنفسك، واقضِ ما أنت قاضٍ، فكأنك بالأمر قد بغتَك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدًا أشدّ تقصيرًا منى"، ثم قام وتركه.
أيها الإخوة الكرام، شابٌّ نابغة نجح بتفوّق بارز، ثم قابل الإجازة، وصرف إلى الدش وليالي الغم والكآبة. وآخر نجح وكانت الدراسة قيودًا لحريته، فجاءت الإجازة فأهلكها نومًا وضياعًا وحسرات. وآخر نجح فحاز مالاً تجاوز به حدود السياحة الداخلية، لتطيب نفسه بمسامرة المومسات ومعانقة المحرمات، والعياذ بالله.
أيها الآباء والأولياء والمربون، إن بيوتنا تكتظّ بآلاف الآلاف من طلبة المدارس في هذه الإجازة لا يدرون كيف يقضون أوقاتهم ولا استثمار إجازتهم، ولا يعون أهمية إصلاح نفوسهم وعقولهم وأخلاقهم وبلادهم. إنه لمن المحزن أن ترى شابًا يافعًا قد أرهق الرصيف بكثرة جلوسه وسهراته، ومن المحزن إدمان كثيرين محبة مقاهي اللهو واللغو والإضاعة، وكم هو مؤسف جلوس الفتيات عند الهاتف أو الدش الزمن الطويل. لقد أهملت ثروات، وسُحقت موارد ومنافع، وكسدت كتب ومعارف بسبب إضاعة الزمان وسوء استهلاكَه وعمارته.
أيها الإخوة، لا يصحّ ولا يعقل أن تكون الإجازة كلها ألوانَ مرح ولعب وسياحة، بل لا بد من الاعتدال ومعرفة قيمة الوقت ومكانته العالية.
والوقت أنفس ما عُنيتَ بِحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي)، وقال الحسن رحمه الله: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".
لا حرج في ممارسة السياحة والتنزّه وفق الضوابط الشرعية من حفظ الوقت والمحافظة على الواجبات واجتناب المحرمات والأمر المعروف والنهى عن المنكر.
أيها الإخوة، إنّ ثمة وسائل كثيرة ومفيدة يمكن استثمار الإجازة بها، منها القراءة طريق لطلب العلم وتعميق للثقافة الشرعية للمسلم. ومنها السفر للعمرة وزيارة الحرمين الشريفين، وإنا لنحمد الله أن كثيرين من المواطنين أدركوا أهمية ذلك، إذ سئموا من صرف الإجازة بطولها للتنزه والرحلات، فطيّبوا أنفسهم بالعمرة والمكث في الحرم الآمن البهيج.
ومن الوسائل تعلّم الحاسوب واكتشاف فوائده، فهو لغة العصر، وقد شملت محاسنه إدخال الكتب العلمية الشرعية، فأصبح المسلم يملك مكتبات ضخمة عن طريق هذا الجهاز المدهش. ومنها المشاركات في دورات تعلم اللغات المهمّة والآلة الكاتبة والكمبيوتر وتحسين الخط. وفي الإجازة فرصة لكسب المعيشة وتعلم بعض المهن لمن يحتاج لذلك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، اعلموا أن "الناس في هذا العالم سفر، وأول منازلهم المهد، وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار، والعمر مسافة السفر، فسِنُونه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطّاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد عن الله مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم، فالغافل في نَفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى، متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمّر الموفَّقون عن ساق الجد، وودّعوا بالكلية ملاذَ النفس، واغتنموا بقايا العمر".
أيها الآباء، فكّروا في واقع أبنائكم ومستقبلهم، ماذا خبأتم لهم في هذه الإجازة؟ هل هو النور والشرف أم السوء والتلف؟! قوموا عليهم بما يهديهم وينفعهم، وإياكم ضرَّهم وفتنتهم، ((فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته)).
وإنني أهديكم هذه النصيحة المثلى التي كتبها الحافظ ابن الجوزي رحمه الله إلى ولده في رسالته الصغيرة النفيسة المسماة: (لفتة الكبد في نصيحة الولد) قال رحمه الله: "اعلم ـ يا بُني ـ أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفَس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوِّدها أشرفَ ما يكون من العمل وأحسنَه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4699)
أهمية الوقت ووجوب المحافظة عليه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, العلم الشرعي
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
15/4/1414
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت في الكتاب والسنة. 2- نماذج رائعة في الاهتمام بالوقت وحفظه. 3- الوصية والحث على اغتنام الأوقات. 4- وفقات مع سورة العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإنّ الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، وهو أسهل شيء يضيع عليه، يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك".
أيها الإخوة، عرَض القرآن الكريم والسنة المطهّرة قيمة الزمن وأهميته وأوجه الانتفاع به وأثر ذلك، وأنه من عظيم نعم الله التي أنعم بها سبحانه؛ ولهذا أقسم الله بأجزاء منه في مطالع سورٍ عديدة؛ فيقسم بالفجر في قوله: وَالْفَجْرِ وَلَيَالْ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ويقسِم باللّيل والنهار في قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1، 2]، ويقسم بالضحى في قوله: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1، 2]. وقَسَمُهُ سبحانه بأجزاء الزمن تلكم كان لفتًا للأنظار نحوَها لعظيم دلالتها عليه، ولجليل ما اشتملت عليه من منافع وآثار. ولفت الأنظار نحو أجزاء الزمن يثمر ويفرز معرفة ويقينًا بأن الله سبحانه الذي شاء خَلقَ الزمان وخَلقَ الفاعلين وأفعالهم وجعلها قسمين خيرًا وشرًا يأبي بحكمته أن يسوَّى بينهم، وأن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسان إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به.
عباد الله، مما جاء في السنة عن أهمية الزمن والوقت حديث معاذ بن جبل الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار في مسنده، وهو صحيح بشواهده، أن النبي قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)). لن تزول قدما العبد في ذلك الموقف حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه يكون لديه أكثر العطاء وأمضاه وآكده وأثمره من طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.
كما أنّ الإنسان يسأل عن علمه ماذا عمل به؟ هل وظَّفه في مرضاة الله تعالى، في الدعوة إليه وإرشاد الناس وتعليمهم دين الله وتوحيدَه، أو وظّفه فقط للحصول على لقمة العيش والتكسب به وصرف الأنظار إليه؟
هاتان الخصلتان ـ أيها الإخوة ـ من تلكم الخصال الأربع التي لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عنها، هاتان الخصلتان موجودة عند كل أحد، بالإضافة إلى بقية الخصال التي يشارككم فيها غيركم، فهل أنتم واعون لذلك ومدركون له وعاملون لأجله؟!
إن الفرصة أمامك اليوم مفتوحة أيها المسلم ويا أيها الشاب ويا طالب العلم، ولكنها غدًا مقفلة، فالشباب يذهب وينتهي بالكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم، هذا إذا لم تُتخطَّف قبل ذلك، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]. فاغتنموا أوقاتكم فيما ينفع، فالعمر أيام وساعات، وما مضى منها لا يعود.
ذكر الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277هـ، أن أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة: ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك، فقلت له: إن عبد الرحمن ابني لحريص، فقال: ومن أشبه أباه فما ظلم. قال الزَّمَّام وهو أحمد بن علي أحد رجال إسناد الخبر: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء ـ أي: في طريقه إلى الخلاء ـ وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه. فكانت ثمرة تلك المحافظة النادرة على الزمن والحرص على طلب العلم نِتاجًا علميًا كبيرًا، منه كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات، وكتاب التفسير في عدة مجلدات، وكتاب المسند في خمس وعشرين ألف صفحة.
ويقول ابن عقيل المتوفى سنة 513هـ صاحب كتاب الفنون ذي الثمانمائة مجلد متحدثًا عن نفسه: "إني لا يحلّ لي أن أُضيّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعه أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا ابن الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين"، ويقول: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سَفَّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبر؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها". فليت الناس وطلبة العلم خاصة يفقهون مثل هذا الكلام، فكم نمضي ونضيع من الأوقات ونحن جالسون على مائدة الأكل.
وقال القاضي إبراهيم بن الجراح الكوفي تلميذ القاضي الإمام أبي يوسف رحمهم الله تعالى، يقول: "مرض أبو يوسف فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟! قال: ولا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو به ناجٍ". ثم مضى في سؤاله وعرض مسألته العلمية الفقهية.
أيها المسلمون، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "الوقت منقضٍ بذاته منصرمٌ بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته وعظم فواته واشتدّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُردُّ الأمس في اليوم الجديد؟! وأنىَّ لهم التناوش من مكان بعيد؟!".
فيا حسراتٍ ما إلى ردِّ مثلها سبيلٌ ولو ردّت لهان التحسّر
هي الشهوات اللاء كانت تَحوّلت إلَى حسرات حين عزّ التصبُّر
فلو أنها رُدَّت بصبر وقوة تحوّلن لذّاتٍ وذو اللب يبصر
ثم اعملوا ـ عباد الله ـ أن التسويف عجز وكسل، وما أكثر الذين يأخذون من التسويف شعارًا لهم، يمكنونه من قلوبهم حتى تقطعت آمال وانقطعت آجال.
إن من يريد أن ينهض في غَدِهِ لا بدّ أن يعمل ليومه كأحسن ما يكون العمل نقاءً وانتقاءً ومضاءً. ثم من الذي يضمن غده؟! وإن كان له غد أيأمن معوقات نوازله؟! يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غدٍ والآخر بعد سنة فلا يستعدّ للذي يقدم بعد سنة، وإنما يستعدّ للذي ينتظر قدومه غدًا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل بالمدَّة ونسي ما وراء المدَّة، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها، ولا يحسب اليوم الذي مضى منها، وذلك يمنعه من المبادرة إلى العمل؛ لأنه يرى لنفسه متَّسعًا دائمًا فيؤخر العمل، ولهذا قال : ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمرّ)) رواه الترمذي في سننه، وقال فيما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). وكل هذه المعاني في الأحاديث السابقة.
أيها الإخوة، احذروا من التسويف، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: "إيّاك والتسويف، فإنه أكبرُ جنود إبليس".
أيها المسلمون، يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ.
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنتَ أيام الشباب
لقد كذَبَتك نفسك ليس ثوبٌ دَريسٌ كالجديد من الثياب
وما شأن هذا الذي يرى التفرّغ من الشواغل في مستقبل الأيام آتٍ إلا كشأن ذلك الرجل الذي قال للإمام ابن سيرين: إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح، فما تفسير هذه الرؤيا؟! فقال له: أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ المرء مفطور على التأثّر والتأثير، فهو ابن بيئته، وهذا ما ألمحت إليه السنة المطهرة فيما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)) أي: أن طبعك يسرق من جلسائك وأنت لا تدري. ومن المعلوم المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظنّ بالنفوس البشرية، وقد قيل: سمِّيَ الإنسان إنسانًا لأنه يأنس بما يراه خيرًا أو شرًا. قال ابن مسعود : (اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله).
أيها المسلمون، إن العقول إذا اكتملت اكتمل اغتنام الزمان، وتمّ إدراك شرفه، وإن من عرف قيمة الزمان لا يكون إلا صاحب قصدٍ واعتدال في أموره كلها، فهو يدري أن التوسع في المطاعم سبب النوم، وأن الشّبَع يعمي القلبَ ويُهزل البدن ويضعفه، فتراه لا يتناول منها إلا حاجته التي تقيم صلبه دون إفراط أو تفريط، ودون تنوع واشتراط يؤدّي إلى أن يكونَ ذلك أكبر مسعاه وغاية مناه ومنتهى أمله. والحريص على الزمن أيضًا لا يعرف فضولاً في زيارة الآخرين، ولا تافهًا من القول ممتدًا، فهو حريص على زمن غيره كحرصه على زمن نفسه، فتراه في زيارته لا يتعدّى مقصدها، وتسمعه في قوله فلا يتجاوَز النافع الخيِّر المحتاج له. فانظر حالك دائمًا أيها المؤمن، وراقب نفسك، وإياك أن تستقلّ خيرًا أو شرًا.
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وكما أن العبد يجب عليه الحذر من تراكم الصغائر فإنه كذلك ينبغي له عدم التهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت يسيرة وقليلة، فلا بدّ من العزيمة الماضية والهمة العالية ومتابعة العمل ودوام العطاء ورصفُ المسألة بجوار المسألة وتقييد الخاطرة تلو الخاطرة ووضع النظير مع النظير وهكذا، مع محاسبة للنفس على دقائق العمر وثوانيه، متوَّجًا ذلك كله بصدق النية وصدق التوكل على الله سبحانه.
اليومَ شيءٌ وغدًا مثلهُ مِنْ نُخب العلم التي تُلتَقَط
يُحصِّل الْمرءُ بها حِكْمةً وإنما السيل اجتماعُ النقط
وفي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله خيرُ بيان وأصدق كلام، يقول : ((عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه وإن قلّ)) رواه البخاري. وتحرّي وتلمُّس الأوقات الفاضِلة هو من الحكمة، ومن يؤتَى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
والمولى سبحانه وتعالى اختصَّ بعض الأزمنة بخواصّ لم يختص بها غيرها، ففضلها على سائرها، عن كعب الأحبار قال: "إن الله تبارك وتعالى اختار ساعات الليل والنهار فجعل منهنّ الصلوات المكتوبة، واختار الأيام فجعل منها الجمعة، واختار منها الشهور فجعل منها رمضان، واختار الليالي فجعل منها ليلة القدر، واختار البقاع فجعل منها المساجد". فتعرضوا ـ عباد الله ـ لنفحات ربّكم جل وعلا، فإنّ له في دهرنا نفحات، والموفّق من تعرّض لها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، فيقول الله تعالى في محكم التنزيل: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
أقسم الله سبحانه بالعصر الذي هو الليل والنهار ومحلُّ أفعال العباد وأعمالهم أنّ كل إنسان خاسر وفاقد لأرباح كثيرة. وكلمة (العصر) مصدر عَصَرتُ، وإذا عُصِرَ الشيء خرج منه عَصير، وكأنّ الإنسان ليس فقط مطالبًا باغتنام الليل والنهار على التساهل والتراخي، بل مطالب بعَصرها والانتفاع بكلّ ما ينتج من العصر، وهو استثمار كلّ دقيقة فيها، وإلا فإنه سيخسره، ومع أنّ الخسارة تتفاوت فأعظمها خسارة الكافر، حيث يخسر خسارةً مطلقة بفَقده الجنة واستحقاقه الخلود في النار، إلا أنّ الجميع أيضًا يخسَرون أشياءً؛ المؤمن والكافر، وكلّما كان العصر أقوى استخرجت عصيرًا أكثر، وكلما قصرت وسوّفت وأجّلت وفرّطت فاتك من العصير بقدره؛ لأنّ الخسارة قد تكون في بعض الوجوه دون بعض، لكن الجميع خاسرون، باستثناء من استثنى الله تعالى في هذه السورة العظيمة، وهم من اتّصفوا بأربع صفات:
أولها: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون عِلم، فهو فرع عنه لا يتمّ إلا به.
ثانيها: العمل الصالح، وهذا شامل لأعمال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلّقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة. وقول الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8] هو داخل في هذا المعنى؛ فكل خير تعمله ربح، وكل شر تأتيه أو خير تقصر فيه فهو مسجل عليك خسارة، فأكثِر إن شئت أو أقلل، واعمل ما شئت فإنك مجزىٌ به.
وثالث صفات الذين ينجون من الخسار: التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه، والله عز وجل يريد من الأمة المسلمة أن تكون واعية، قائمة على حراسة الحق والخير، يشعر كل فرد من أفرادها أن عليه عملا، وله دور تجاه المجتمع، فلا يكتفي أن يعمل هو فقط، بل مطالب أيضًا أن يوصِي غيره بذلك، وهذا يستدعي صبرًا في مودة وغيرةً وإشفاقًا على المسلمين أن ينالهم شرٌ أو يفوتهم خير.
والصفة الرابعة من صفات من استثني من الوقوع في الخسارة: هم المتواصون بالصبر بكلّ أنواعه؛ لأن النهوض بالحق عسير، والمعوقات عنه كثيرة، منها هوى النفس ومنطق المصلحة وأعراف الناس وتقاليدهم وطغيانُ الظالم وجورُ الجائرين، فالتواصي تذكير وتشجيعٌ وإشعارٌ بالقربى ووحدة الهدف والقيام بحق الأخوة. وطبيعة هذا الدين كذلك لا يقوم إلا في حراسة يشترك فيها الجميع، كل بما يستطيع؛ بيده أو لسانه أو قلمه أو جاهه أو ماله، فإن عدِم تلك الأشياء كلها فبدعائه، حيث لا يستطيع أحدٌ أن يقف بينه وبين الدعاء، والدعاء انعكاسٌ لما يكمن في القلب إذا عجزت الحواس الخارجيّة والوسائل المذكورة.
أيها المسلمون، إن هذه السورةَ جليلةُ القدر عظيمة المعنى، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". وروى الطبراني عن عبد الله بن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترّقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلّم أحدهما على الآخر، يعني: إيذانًا بالافتراق.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك بنبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وبقية الصحابة أجمعين، وخصَّ منهم أزواجه أمهات المؤمنين, وآله الطيبين الطاهرين، والعشرة المبشرين...
(1/4700)
وقفات مع حدث حي المباركية – نهاية الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, جرائم وحوادث
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة استباحة دماء المسلمين. 2- وجوب طاعة ولاة الأمور بالمعروف وتحريم الخروج عليهم. 3- مفاسد الأعمال التخريبية. 4- الغاية من الجهاد. 5- المحاسبة بعد الإجازة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة، لقد تابع الجميع أحداث حيّ المباركية التي هزّت مدينتا الآمنة، فهو حدث والله أحزن كلَّ من في قلبه ذرّة إيمان، وأفرح كلّ عدو يتربّص بالإسلام والمسلمين المصائب والشرور، ولنا مع هذا المصاب الجلل عدة وقفات:
الوقفة الأولى: خطورة استباحة دماء المسلمين، فلا أدري كيف يغفل أولئك الشباب عن الوعيد الشديد الذي ورد في الكتاب والسنة وما فيهما من تعظيم جرم الدم الحرام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)) رواه البخاري، وقال عزّ شأنه: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، ويقول عليه الصّلاة والسّلام: ((لزوالُ الدّنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) أخرجه النسائي والترمذي، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي : ((أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء)) رواه البخاري ومسلم.
قال النووي: "فيه تغليظ أمر الدماء، وأنها أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها، وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: ((أول ما يحاسب به العبد صلاته)) ؛ لأنّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى، وأما الحديث الأول فهو فيما بين العباد".
وقال ابن حجر: "وفي الحديث عظم أمر الدّم، فإن البداءة إنما تكون بالأهمّ، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه) رواه البخاري، وقال : ((لا يُشِير أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِغ في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار)) متفق عليه.
وحرَّم على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال النبيّ : ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه مسلم. فإذا كان المزاح بالسلاح يؤدّي إلى ذنب عظيم واستحقاق لعن الملائكة له فما بالك إذا وصل الأمر إلى القتل العمد؟! وبأي دليل يبيح أحد لنفسه أن يقتل رجلَ أمن يساعد على نشر الأمن في هذه البلاد المباركة، وهو رجل موحد مسلم تنطبق عليه كل تلك النصوص الواردة في حرمة المسلم؟! فما بال أولئك الشباب يلقون بأيديهم إلى التهلكة، ويحلون دماء المسلمين من أجل شبهة لا تعارض النصوص الواضحة الصريحة الصحيحة؟! والله المستعان.
الوقفة الثانية: إن طاعة ولاة الأمور بالمعروف وعدم الخروج عليهم هي عبادة نتقرب بها إلى الله، وليست مسألة مزاجية أو اختيارية ترجع لاختيار الشخص أو تنقض بشبهة لا دليل عليها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: "ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي ؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيدفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
ويقول رحمه الله في السياسة الشرعية بعد أن ذكر الأثر: (إن السلطان ظلّ الله في الأرض)، ثم قال: "ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل رحمهما الله وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان... إلى أن قال رحمه الله: فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الخروج على المأمون وهو الذي فرض على الناس بدعة القول بخلق القرآن، وقال لمن استفتاه في الخروج على ولي الأمر: "سبحان الله! الدماء الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، تسفك فيها الدماء"، قال له السائل: والناس اليوم في فتنة يا أبا عبد الله، قال: "وإن كان، فإنما هي فتنة خاصّة، فإذا وقع السيف عمّت الفتنة وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك".
فإذًا ما قام به الشباب من منازعة السلطان ومحاربته والخروج عليه يعتبر مصادمة للنصوص الكثيرة المستفيضة الواردة في طاعة السلطان، وأيضا مصادمة لأقوال وأفعال سلف هذه الأمة المباركة وعلمائهم. وعندما وقعت بعض الأحداث المشابهة في زمن الشيخ ابن باز وابن عثيمين لم نسمع منهم إلا التأكيد الشديد على عدم الخروج على ولي الأمر، فلماذا لا يقتدي أولئك الشباب بمن مات فهو أبعد عن الفتنة إن كانوا لا يثقون بالعلماء الأحياء؟!
الوقفة الثالثة: سلبيات ما قام به أولئك الشباب: إنَّ ما قام به أولئك الشباب لم يستفد منه إلا أعداء الدين والشواهد في هذا كثير جدا، فمن ذلك:
1- تشويه صورة الإسلام والمسلمين، فعندما يرى غير المسلمين مثل هذه الأحداث سينفر من الدين؛ ولهذا الرسول الله امتنع عن قتل رأس الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول خوفا من نفرة الناس عن الإسلام، فما بالكم ـ أيها الإخوة ـ بقتل أناس مسلمين؟! أليس هذا من الصدّ عن سبيل الله وتنفير الناس من الدين؟!
2- إضعاف المسلمين وإضعاف قوتهم ووحدتهم وإثارة البلبلة في صفوفهم وتقطيع الأواصر فيما بينهم، فبدلا من أن نقف صفا واحدا ضد الأعداء يقتل بعضنا بعضا؛ حتى يجلس أعداؤنا مكتوفي الأيدي يتفرجون ويهزؤون بنا عند حدوث مثل ذلك الحدث.
3- اجتراء أعداء الدين على ثوابت الأمة وعقيدتها، فتجدهم يتجرؤون على الثوابت والعقائد استغلالا وانطلاقا من هذه المصائب التي حلّت بنا حتى لا يدعوا شيئا من الدين إلا ويطعنوا فيه.
4- ترويع الآمنين وسفك الدماء المعصومة وسلب الأموال، والله جل وعلا امتن علينا بنعمة الأمن، وأولئك الشباب يجحدون نعمة الله عليهم بأفعالهم، ثم إن الله جعل أموالنا وأعراضنا ودماءنا محرمة علينا، فبأي حجّة يقف أولئك الشباب أمام الله حين يسألهم ربهم عن سبب سفك دماء المسلمين وسلب أموالهم بغير حق؟!
5- إفساح المجال للمؤسسات التنصيرية في العالم كردّ فعل لغلق وتحجيم المؤسسات الإسلامية، والشواهد في هذا كثيرة جدا.
6- تطاول المغرضين على العلماء والدعاة، والذي بسببه تزيد الفجوة بين العلماء وشباب الأمة ليضيع الشباب بين الشبهات والشهوات.
7- إيجاد الذرائع لمزيد من العدوان والتسلط على الإسلام وأهله عموما وعلى هذه البلاد المباركة خصوصا.
8- انتشار البدع والشبهات ومحاربة السنة بحجة محاربة فكر الإرهاب، وخاصة في بلاد المسلمين الأخرى.
الوقفة الرابعة: ما الغاية من الجهاد؟ إن الغاية من الجهاد هي تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم بإذنه تعالى من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم؛ ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى في الدنيا والآخرة. ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، بسبب ما يترتب عليه من المصالح العظيمة وذلك من نشر للتوحيد وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم، فكيف يتحقق التوحيد ويحارب الشرك والكفر بقتل أناس مؤمنين موحدين مثل رجال الأمن؟! نسأل الله العافية والسلامة.
الوقفة الخامسة: إن الجهاد الحقيقي يوحد المسلمين صفا واحدا ويوحّد كلمتهم ولا يفرقهم، حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، ولذلك فلا يحق ولا يصح بأي حال من الأحوال تسمية ما يقع في بلاد الحرمين جهادا، فنحن لم نجن منه إلا الفرقة والتشرذم والتنازع وكيد وشماتة الأعداء بنا.
أسأل الله أن يهدي شباب المسلمين للخير والصلاح، وأن يوفقهم للرفق ونبذ العنف، كما أسأله أن يهدي باقي المطلوبين وأن يجعلهم قرة عين لأسرهم ومجتمعهم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، في هذا اليوم وفي هذه الساعات نودّع إجازة صيفية مضت بكل أحداثها وأفراحها وآلامها، ونستقبل غدا بداية عام دراسي جديد، وإنه من المناسب جدا أن نتأمل ونتدبر في تلك الإجازة التي مرت علينا جميعا، ولنتفكر كيف كان تعاملنا معها، وكيف كان حال أولادنا مع تلك الإجازة.
أيها المسلمون، إنه من المعلوم لدينا جميعا أنه ما من شيء إلا وهو مسجّل علينا أو لنا في صحائف الملائكة الكرام الحافظين الموكلين بنا، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]، فكل شيء مسجّل وحتى الأنين عند سكرات الموت، فما بالكم بإجازة كاملة مضت بكل أيامها وساعاتها ودقائقها وما فعل فيها من خير أو شر؟!
عباد الله، البعض قد استغل تلك الإجازة أحسن استغلال، فكم رأينا في هذا المسجد المبارك من شباب حفظوا كتاب الله جل وعلا أسأل الله أن يجعله لهم نورا في الدنيا والآخرة، وكم من أسر في هذا الحي وغيره قد سافرت لصلة أرحامها وزيارة أقاربها أسأل الله يصلهم كما وصلوا أرحامهم فهم على خير وأجر من بداية مسيرهم حتى رجوعهم إلى بيوتهم والأعمال بالنيات، وكم من أسر ذهبت للسياحة والنزهة في هذه البلاد المباركة ولم يفوّتوا في رحلتهم زيارة مكة للعمرة أو زيارة المسجد النبوي، فهنيئا لهم المتعة والعبادة في بلاد التوحيد.
وفي المقابل كم رأينا وسمعنا من أناس ضيعوا أنفسهم وضاع أولادهم في تلك الإجازة، ما بين سهر على القنوات ومواصلة الليل بالنهار، أو معاكسة بنات المسلمين والتسكّع في الأسواق وتفريط للصلوات، وسفر لبلاد الرذيلة والعهر، ووالله يا حسرتهم على ما فرطوا في جنب الله إن لم يتداركوا أنفسهم بالتوبة العاجلة والرجوع إلى الله فورا دون تواني أو تسويف أو تأجيل.
أيها المسلمون، لا بد أن نقف مع أنفسنا لحظات للمحاسبة ومراجعة الحسابات قبل أن يباغتنا الموت فجأة دون مقدمات، قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، فبعد أن جاءه ملك الموت لقبض روحه طلب من ربه أن يرجعه إلى الدنيا لكي يعمل صالحا ويعوض ما فاته في الدنيا بسبب غفلته وبسبب صحبته للأشرار وبسبب بعده عن الخير ونفرته منه، فلم ولن يجاب إلى طلبه لعودته للدنيا.
وأما الحسرة في الآخرة فهي أضعاف أضعاف الحسرة التي تحدث عند الموت، قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
فلنعلنها توبة ـ عباد الله ـ انطلاقا من هذا اليوم الذي هو في بداية شهر شعبان، وشهر شعبان تشرع فيه العبادة، فقد كان رسول الله يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان، ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان إلا قليلا، وفي رواية النسائي عن عائشة قالت: كان أحبّ الشهور إلى رسول الله أن يصوم شعبان. الحديث.
أسأل الله أن يوفّقنا للتوبة النصوح عاجلا غير آجل.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر...
(1/4701)
والفتنة أشد من القتل
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الفتن, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
28/4/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفتنة أشد من القتل. 2- الأدلة على تحريم الأنفس المعصومة. 3- توبة القاتل. 4- على أي شيء نتقاتل؟! 5- نداء وتحذير للمتقاتلين. 6- نداء لأعضاء مؤتمر الحوار الوطني. 7- الرد على باحث يهودي يزعم بأن القرآن أقر بأن أراضي إسرائيل هي لليهود وأن محمّدا لم يعرَج به من المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول رسولنا الأكرم : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد حرص ديننا الإسلامي العظيم على حفظ الدماء وحرمتها وعدم إزهاق الأرواح، وعدّ الاقتتال الداخلي أشد من القتل وأكثر خطرا وأنها فتنة، فيقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، ويقول عز وجل في السورة نفسها: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]؛ وذلك لما في الاقتتال الداخلي من آثار سلبية وسيئة جدًا، ألا يدري أولئك المتقاتلون الذين يستعملون السلاح لغة التفاهم فيما بينهم، ألا يدرون أنهم يرتكبون آثاما متعددة؟! إنهم يشيعون الفوضى في المجتمع، وإنهم يدبون الذعر فيما بين النساء والأطفال، وإنهم يثيرون الثارات بين الناس، بالإضافة إلى ما يترتب على الاقتتال من ترمل للنساء وتيتم للأطفال.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، ألا يدري القاتل الإثم الذي يلحقه نتيجة ارتكابه هذه الجريمة الكبرى؟! فالله عز وجل في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، ويقول رب العالمين في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]. هذه الآيات وغيرها من الآيات الكريمة تحذر من القتل العمد، وذلك لحفظ الدماء وعدم إزهاق الأرواح. ويقول رسولنا الأكرم : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، ما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) ، ومعنى الموبقات: المهلكات.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هنا سؤال يطرح نفسه: هل للقاتل العمد توبة؟ والجواب: يصف عليه الصلاة والسلام حال القاتل والمقتول بقوله: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة رأسه بإحدى يديه متلبّبا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله تعالى للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار)) ، ومعنى متلببا: ممسكا بعنقه. هذا وقد سئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن المصير الأخروي للقاتل العمد، هل له توبة؟ فتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ثم قال عبد الله بن عباس: (ما نسخت هذه الآية ولا بدّلت، وأنى للقاتل توبة؟!) أي: ليس للقاتل العمد توبة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، وسؤال آخر يتبع السؤال الذي قبله: متى تقبل توبة القاتل العمد؟ والجواب: تقبل توبته في إحدى حالتين، الحالة الأولى: إذا أقيم على القاتل العمد حد القصاص، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، وذلك اعتبارا أن العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر، أما الحالة الثانية: فحين تتمّ مراسم الصلح ويعفو أهل القتيل عن القاتل، أما إذا لم تتحقق إحدى هاتين الحالتين فلا توبة للقاتل العمد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، افتتح أمس الخميس 25/5/2006م مؤتمر الحوار الوطني في كلٍّ من رام الله وغزة؛ من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة بين مختلف الفصائل والأحزاب، وأرى أن القواسم المشتركة كثيرة وكثيرة، ويكفي أن فلسطين المقدسة تجمعنا، ويكفي أن الأقصى المبارك قبلتنا الأولى، ويكفي أن عقيدة المسلمين توحدنا، وأن المؤتمر ينطلق من قوله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]. وحسبنا في نجاح هذا المؤتمر أن الجميع قد فاء إلى أمر الله، وأملنا أن يخرج المؤتمر بقرارات وتوصيات عملية لجمع الشمل ولحقن الدماء ولوأد الفتنة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لنتساءل: على أي شيء يختلف المختلفون؟! وهل بقي لنا شيء يختلف عليه؟! هل نختلف على المستعمرات والمستوطنات السرطانية التي نهبت البلاد وشتت العباد؟! هل نختلف على الطرق الالتفافية التي حاصرت المدن والقرى والمخيمات؟! هل نختلف على الجدار العنصري الذي عزلنا عن بعضنا البعض؟! هل نختلف على الاجتياحات العسكرية الاحتلالية للمدن والقرى والمخيمات؟!
نوصيكم ـ أيها المتصارعون على الأوهام ـ أن تتّقوا الله في شعبكم، أن تتّقوا الله في بلادكم، واحذروا من الطابور الخامس ومن العملاء الذين يثيرون الفتن ويقومون بالاغتيالات حتى يتّهم بعضنا بعضا زورًا وبهتانا. إنّ لغة السلاح لن تكون لغة تفاهم وتحاور فيما بيننا. ولتتَّعظوا بما حلّ بالمسلمين سابقا من الخلافات الدموية، اتّعظوا بما حصل في معركة الجمَل سنة ست وثلاثين للهجرة، وما حصل أيضا في معركة صِفِّين سنة سبع وثلاثين للهجرة، ولا نزال نعاني من النتائج السلبية لهاتين المعركتين.
أيّها المجتمعون في المؤتمر الوطني في رام الله وغزّة، كونوا على قدر المسؤولية، ضَعوا المصلحة العامة فوق الاعتبارات الفصائلية والحزبية والشخصية، وإننا لمنتظرون. وفّقكم الله لما فيه خير البلاد والعباد.
جاء في الحديث الشريف: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أتناول في هذه الخطبة موضوعًا واحدًا للردّ على شخص إسرائيلي يعدّ نفسه بأنه باحث، وأنه موضوعي، وأنه يعتمد على مصادر إسلامية موثوقة حسب زعمه، ولكن المشكلة في هؤلاء الباحثين أنهم لا يتقنون اللغة العربية، وأنهم غير ملمين بالموضوعات الإسلامية التي يقحمون أنفسهم فيها، وهم ليسوا أصحاب اختصاص، إنهم يعبثون لا يبحثون في الموضوعات الإسلامية، بالإضافة إلى الأفكار العدوانية ضد الإسلام. وإن الصحف العبرية قد عرضت بحث هذا الإسرائيلي خلال هذا الأسبوع، ولم تنشر ردنا عليه بشكل واضح، وأتناول في هذه العجالة بعض النقاط بإيجاز، وسننشر ردنا بشكل مستفيض من خلال الصحافة المحلية إن شاء الله.
أولا: يزعم هذا العابث بأن القرآن الكريم قد أقرّ بأن أراضي إسرائيل هي للشعب اليهودي، ونجيب على هذا الادعاء بما ورد في سورة المائدة من الآية الواحدة والعشرين وحتى الآية السادسة والعشرين، فيقول الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ، والأرض المقدّسة هي فلسطين، ومعنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في القرآن تعني: أمر في مجال التكليف، فالعابث الإسرائيلي لا يفهم اللغة العربية، ثم إن سياق الآيات الكريمات في سورة المائدة تشير إلى أن بني إسرائيل قد رفضوا دخول فلسطين، أي: تمردوا على أمر الله عز وجل، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى قد حرمها عليهم بقوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. فأرض الميعاد قد انتهى موضوعها بأن حرّم الله عز وجل فلسطين على بني إسرائيل، فلم يعد لهم حقّ فيها منذ أيّام موسى عليه السلام.
ثانيا: يزعم العابث الإسرائيلي بأن النبي محمدا لم يعرج به من المسجد الأقصى المبارك، لعدَم وجود دليل على ذلك، والجواب: إن معجزة الإسراء والمعراج قد ثبَتت في سورتين من القرآن: سورة الإسراء وسورة النجم، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة والمتواترة، فمنذ عهد الرسول وحتى يومنا هذا وكتب السّيرة النبوية تشرح معجِزة الإسراء والمعراج وتحتفي بها، وهي تمثل جزءا من إيماننا وعقِيدتنا، وإن الهدف من التشكيك هو إضعاف صلتنا وعلاقتنا بهذا المسجد المبارك. ونعلنها من المسجد الأقصى المبارك بأن هذا المسجد هو للمسلمين وحدَهم، وأنه مرتبط بعقيدة وإيمانِ المسلمين في أرجاء المعمورة منذ أن حصلت معجزة الإسراء والمعراج حتى يومنا هذا، وحتى قيام الساعة، ولن نتخلى عن هذا المسجد، وعلينا جميعا أن نحرص عليه وأن نحميه من أطماع الطامِعين وتآمر المتآمرين، ولا نقرّ ولا نعترف بأيّ حقّ لليهود في هذا المسجد، هذا هو الأقصى الذي جثت أمامه عظمة الأجيال، وعنت على مآذنه، وسيبقى عامرا بمشيئة الله وإرادته، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/4702)
الكلمة الطيبة وأثرها على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حسين بن محمد مبارك أشقرا
الدار البيضاء
21/3/1427
مسجد الأمنية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رقي الإسلام بالأفراد والمجتمعات. 2- أثر الكلمة. 3- الكلمة الطيبة. 4- الكلمة الخبيثة. 5- الحث على الصفح والعفو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث وأحسنه كتاب الله، وأفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم أجِرنا من النار.
عباد الله، إنّ الإسلام يسمو بالأمة التي رَضيته دينا ـ أفرادا وجماعات ـ إلى أرقى مدارج الرقي، ويحفّزها لتدرك هذا الرقيّ عن طريق الخلُق الفاضل بانتهاج سبيل المحبة والمودّة وحسن السلوك والمعاملة، والخير الأصيل لا يموت مهما زاحمه الشرّ، والطيّب لا يصير خبيثا مهما زاحمه الخبث، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:25].
أيها المسلمون والمسلمات، إن للكلمة في حياة الناس أثرًا، وينقسم الناس بصدَدها إلى قسمَين: أصحاب الكلمة الطيبة وفي مقدّمتهم الأنبياء والرسل، وأصحاب الكلمة الخبيثة وفي مقدّمتهم إبليس المطرود من رحمة الله، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:24-26]. فكم من شمل ممزَّق جمعت بينه كلمة طيبة، وكم من جماعات فرّقتهم كلمة خبيثة.
وجرح السّنان له التِئَام ولا يلتئم ما جرح اللسان
وقد توعّد الرسول خبيثَ اللسان بأن يكَبّ في النار.
إن الكلمة الطيبة ثابتة مثمِرة، تنفع صاحبها في حياته الدنيا بالذكر الحسن، وتعود عليه بالدعاء الصالح في آخرته، فهي ثابِتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
والخير كلّ الخير أن تحرّك لسانك بتحيّة الإسلام حين تلقَى من تعرف ومن لا تعرف، والخير كلّ الخير أن تردّ التحية بأحسن منها أو مثلها، والخير كل الخير أن تشغل لسانك بذكر خالقك وأن تنصح من استنصحك إن كنت قادرا، وكلمة الخير أن تصلح بين اثنين وأن ترشد الضال التائه، والكلمة الطيبة أن تعلّم جاهلا وأن تصدُق القول فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، والكلمة الطيبة أن تشير بالرأي الحسن إذا طلب منك ذلك.
أما الكلمة الخبيثة فهي كلمة الباطل كشجرة خبيثة، قد يخيَّل لبعض الناس أحيانا أنها أضخم من الشجرة الطيبة، ولكن الخبث هو الخبث، والباطل هو الباطل، وجذور شجرة الخبث ليست عميقة، وما هي إلا فترة ثم تجتثّ من فوق الأرض ما لها من قرار ولا بقاء.
ومن الكلام الخبيث أن تشتمَ غيرك وتسبَّه وتلعنه، ومن الكلام الخبيث أن تشغل لسانك في مجالس اللغو بالخنا وفاحش القول، ومن الكلام الخبيث أن تفسد العلاقة بين اثنين من المؤمنين، ومن الكلام الخبيث أن تفسد العلاقة بين الأزواج والجيران، ومن الكلام الخبيث أن تمنّ على من أحسنتَ إليه وتؤذيه، ومن الكلام الخبيث أن تقول لوالديك: "أف لكما".
عباد الله، إن حسنَ الكلام وطيبَه والبشاشة في وجوه الناس أمر محمود يطلبه منكم نبيّكم محمد بن عبد الله ، أخرج البزار في مسنده أن جابر بن سليم قال: ركبت قَعُودِي ثم أتيت إلى مكة فطلبتُ رسول الله، فدلوني عليه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: ((وعليك السلام)) ، فقلت: إنا معشرَ أهل البادية قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال: ((ادنُ)) ثلاثَ مرات، فدنوت فقال: ((أعد عليّ ما قلتَ)) ، فأعدت عليه فقال: ((اتق الله، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق، وأن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبَّه بما تعلم فيه، فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خوَّل الله لك)) ، قال جابر: فوالّذي نفسي بيده، ماسببت بعده شاة ولا بعيرا.
فاللهم اجعل الإخلاص دأبنا، والعفو خلقنا، والمعروف عادتَنا، واجمع اللهم شملنا، ويغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
إن الحبيب المصطفى يأمر أتباعَه بتقوى القلب وتقوى اللسان وتقوى العمل، فيقول: ((اتقوا الله بشقّ ثمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) ، وإنَّ خبث اللسان مانع من موانع الهداية.
وإذا نطق السفيه فلا تجبه فخير إجابته السكوت
أيها المسلم، أيتها المسلمة، إذا تأذّيتَ بكلام جارح أو بفعل سيّئ فلا تردّ الإساءة بمثلها، وإنما بالإعراض إن كنت لا تقدر على أن تحسن لمن أساء إليك، فالرسول الأكرم عاش بين قوم يفترون عليه الكذب، ويموهون على الناس حقائق الوحي، ويؤذونه بالفعل واللسان، ومع ذلك يعرض عنهم ويدعو لهم بالهداية ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). لقد حلاه الله وزيّنه بالخلق الكريم، ووصفه بالخلق العظيم. فاجتنبوا ـ عباد الله ـ كلام السوء، وعوّدوا ألسنتكم كلاما طيّبا، قد كان عيسى عليه الصلاة والسلام يخاطب حتى الحيوانَ بكلام طيّب، فقيل له: لم يا عيسى؟! فقال: كلٌّ ينفق مما عنده.
واعلمو أنّ الكلام الطيب لن يكلّفكم كثيرا، إنما هو تعوّد وممارسة، فلا تقل إلاّ خيرا لتكون من أهل الخير، ويجمعك الله مع أهل الخير في دار لا تسمَع فيها إلا همسا، لا تسمع فيه إلا قيلا: سلاما سلاما، في جنّة عرضها السموات والأرض أعِدّت للمتقين.
اللهم اجعلنا منهم، اللهم ليّن ألسنتا بذكرك وشكرك، وأصلح قلوبنا بهدايتك، واغفر لنا بحِلمك، وارحمنا بعفوك وفضلك، إنك غفور رحيم...
(1/4703)
اقرأ كتابك
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, مواعظ عامة
حسن بن عبد الغني هدية
كفر الشيخ
جامع إدارة أوقاف فوه
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الخلق. 2- إحصاء أعمال بني آدم وكتابتها. 3- موقف أخذ الكتاب يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فقد غاب عن أذهان الكثير من الناس أن الله تعالى ما خلقهم إلا ليعبدوه ويعمروا هذه الأرض بطاعته، فتمتّعوا بنعمِه وجحدوا فضلَه، أكلوا رزقه ونسوا شكرَه، تقلّبوا في خيراته آناء الليل وأطراف النهار وغفلوا عن ذكر الواحد القهار، ما تذكر الكثير منهم أن أعمالهم خيرا كانت أو شرا تكتَب لهم أو عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أيها المسلم، إن عملك ملازم لك كلزوم القلادة للعنق، ثم إذا كان يوم القيامة وجدت عملك في كتاب مفتوح أمام عينيك، ثم يقال لك: اقرأ كتابك وحاسب نفسك، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، ولن تستطيع التحجّج حينئذ بأنك أمّي لا تعرف القراءة، فالكلّ سيقرأ، يقول الحسن: "الكل سيقرأ، أمّيا كان أو غير أمي".
إنّ بعض النّاس يظنّون أنهم إنما يقولون ما يقولون ويعمَلون ما يعملون دونَ رقيب أو حسيب، وما فطنوا لغفلتهم، ونسوا أن أعمالهم وأقوالهم تحصَى عليهم وتكتب، كالعاص بن وائل الذي كان مدينًا لخباب بن الأرتّ رضي الله عنه، فأتاه يتقاضاه، فقال العاص بن وائل: لا أقضيك حتى تكفر بمحمّد، فقال خباب: لا أكفر حتى تموت وتبعث، فقال العاص: أولستم تزعمون أنّ في الجنة ذهبًا وفضّة وحريرا؟! قال خباب: بلى، فقال ابن وائل: فأخِّرنى حتى أقضِيَك في الجنة؛ يقول هذا استهزاءً بخباب وبدين الإسلام، وما كان الله ليترك قولَه هذا دون إثبات، فأثبته عليه في كتاب يلقاه يوم القيامة منشورا، وأنزل الله تعالى فيه: كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم:79].
انظر ـ رحمني الله وإياك ـ هذه كلمات قالها العاص بن وائل، انظر كيف أثبتها الله تعالى عليه، فالحذر كلَّ الحذر من كلماتٍ تقال وعبارات تقذَف تكتَب علينا في صحائف أعمالنا، ثم لا نحدِث منها توبة أو استغفارا، ثم تكون علينا بعد ذلك وبالاً وخسرانا، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
قال بعض أهل الصلاح: هذا كتاب لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.
إن الله تعالى أخبرنا ووعظنا ببعض أخبار الأمم السابقة التي بغت وظلمت وعتت عتوّا كبيرا؛ حتى إنهم تفوّهوا بكلمات يريدون بها النيلَ من ذات الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فسمع الله قولهم، وكتبها عليهم في صحائف أعمالهم، ونقلت إلينا أخبارهم عظة لنا وزجرا وتهديدا، يروي الله شأنهم فيقول تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:81]. إنهم أهل كتاب، ويعلمون أن الله هو الغني، ولكنهم أرادوا التشكيكَ في القرآن الذي جاء به نبيّنا محمد ، وأرادوا صدّ أقرانهم عن الدخول في الإسلام. إن الكتابة من أقوى أدوات الإثبات، فكتب الله عليهم وعلى من بعدهم الأعمال ليكون أقوى للحجة، فلا يستطيعون إنكار أقوالهم وأفعالهم. وقد يقول قائل: كيف ينكرون وهم أمام جبّار السموات والأرض؟! أقول: إن الإنسان في هذه اللحظات يطلب النجاة بأي صورة ولو بالكذب، انظر إلى قول المشركين وهم أمام رب العالمين: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].
أيها الأحبة، إن الله تعالى يأمر ملائكتَه بكتابة كل الأعمال الصالحة للعبد، ويحفظها لهم في صحائف أعمالهم؛ لتكون لهم بهجَة وفرحة وسرورا يوم يلقونه، يقول تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94]، يقول الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. قيل: إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا أذنب العبد قال له: لا تعجل؛ لعله يستغفر الله.
أيها الأحبة، إن كلّ ما يفعله الإنسان ينسَخ عليه ليكون منه شاهدا عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يقول تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
أيها الأحبة، قدّموا خير الأعمال لأنفسكم، واغرسوا أفضل الأشجار تجنوا أطيب الثمار، نريد أن نسعد بكتابنا وهو يحوي بين صفحاته كريمَ الأخلاق، نريد أن تنشرح صدورنا ونحن نرى صحائف أعمالنا تزيّن بالطاعات.
أيها الإخوة، إن كلّ ما يفعله الإنسان يكتب له أو عليه، حتى الآثار الصالحة أو الطالحة التي يتركها بعد مماته تسطر وتسجل وتدوَّن عليه، يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، يقول الإمام القرطبي: "يحيي الموتى بالبعث للجزاء، ثم توعدهم بذكره كتبَ الآثار وإحصاءَ كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان وآثارهم، أي: خطاهم إلى المساجد تكتب وتسجّل"، ويقول الآلوسي: "وآثارهم التي أبقوها بعدهم من الحسنات؛ كعلم علّموه أو كتاب ألّفوه أو حَبس في سبيل الله وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنَوه وغير ذلك من وجوه البر، وكذلك نكتب ما تركوا من فنون الشرّ التي تركوها وسنّوها بعدهم للمفسدين، قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه، وقال آخر: لا يكتب إلا ما يؤجَر به أو يؤزَر عليه، وقال بعض أهل العلم: يكتب عليه حتى الضّحكة والكحّة والعطسة".
أيها الأحباب، إن أخذ الكتاب من المواضع التي ينسى الإنسان فيها أهله وولده، ولا يذكر إلا نفسه، وذلك لشدّتها، ففي الحديث الذي رواه الحسن أن رسول الله كان رأسه في حجر عائشة فنعس، فذكرت الآخرة فبكت حتى سال دمعها على خدّ رسول الله، فانتبه فقال: ((ما يبكيك يا عائشة؟)) قالت: ذكرت الآخرة، قالت: هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: ((والذي نفسي بيده، في ثلاث مواطن فإن أحدا لا يذكر إلاّ نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخفّ ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ كتابه أو بشماله، وعند الصراط)).
أيها الإخوة، إن المجرمين يشعرون بالشفقة وهم يرون الكتب لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يشعرون بالمرارة؛ على ربهم الذي عصوه، وعلى وقتهم الذي ضيّعوه، وعلى عمرهم الذي خربوه، وعلى مالهم الذي في الحرام أنفقوه، وعلى شبابهم الذي في معصية الله أفنوه، وعلى علمهم الذي في نشر الرذائل استثمروه، يقول تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
كان الفضيل بن عياض يقول حين يقرأ هذه الآية: "يا ويلتاه، ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر"، ويقول قتادة: "إياكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه"، يريد أن ينبّه على الذنوب الصغيرة؛ لأن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
فيا من تضيّع الصلاة، الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. يا من تعصي والِدَيك، الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. يا من تترك نساءك متكشِّفات متبرِّجات، الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. يا من أهملت تربية أولادك على الكتاب والسنة، الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4704)
اغتنام الإجازة الصيفية
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة, السياحة والسفر
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
3/5/1426
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن الإجازة. 2- واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. 3- أصناف الناس تجاه الإجازة. 4- العبودية لله تعالى. 5- محاسبة الإنسان. 6- نماذج مما تقضى به الإجازة. 7- حرص السلف على أوقاتهم. 8- نعمة الفراغ. 9- حكم السفر إلى ديار الكفر. 10- التحذير من القنوات الفضائية. 11- الوصية بالأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، في مثل هذه الأيام يتجاذب كثير من الناس أطراف الحديث عن أمر مهمّ، ألا وهو الحديث عما يُسمّى بالعطل الصيفية أو الإجازات السنوية، والتي أصبحت حقبة من الدّهر لا يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه.
فكم هو مبهج أن يرتاح الإنسان بعد كدّ، وأن يتنفّس بعد عناء، ولكن المؤمن الصادق مع ربّه يعرف كيف يرتاح ومتى يتنفس، المؤمن الحقّ ليس له راحة في هذه الدنيا حتى يطأ بقدميه جنّةً عرضها السماوات والأرض، أمّا ما دام في هذه الدنيا فهو في ابتلاء وامتحان، شعاره: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، اعبده مخلصًا في عبادته، اعبده صادقًا في عبادته، اعبده طالبًا لجنّته، اعبده كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ووالله لو عبدتَ الله ألف سنة ما عصيتَه فيها طرفة عين ما أدّيت شكر نعمة واحدة من نعم الله عليك، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، لكن لا بأس من التزوّد بحلال الدنيا ليساعدَ على التزود للآخرة، وهذه هي نظرة المؤمن لهذه الإجازة، ولذلك فالناس في هذه الأيام منقسمون إلى قسمين:
قسم عرف أنّ هذه إجازة وضِعت بعد عناء فصل دراسيّ وعمل شاقّ، فأخذ أبناءه إلى رحلة لطيفة مباحة بعيدة عن الشبهات والمعاصي، أو أخذ أبناءه إلى بيت الله الحرام، أو إلى مسجد الحبيب محمد ، واغتنمَ إجازته في طاعة الله والتقرب إلى الله، فنعم القوم هم، وبارك الله في ابن تذكّر والده أو والدته فزارها في هذه الإجازة، وفي قريب تذكّر رحِمَه في هذه الأيام فوصَلها، فكسب بذلك الحسنى، ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وقسم آخر عرَف أن هذه إجازة أيام وتنقضي، فنكس حساباته، وأعمى بصيرته، فقضاها في الحرام؛ ضياع ولهو وفجور، وعن ذكر الله سهو، خرجَ إلى حيث الفساد والإفساد وانكشاف محارم الناس، أضاع دنياه وأخراه، وترك فضائلَ الأعمال، فقد عقّ والديه، وقطع رحِمه، وأفسد أهله وعشيرته، فمثل هذا أقول له: اسمع إلى قول ربك: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم ْ [محمد:22، 23]، أصمّهم وأعمى أبصارهم، فيسمعون المواعظ ولا يتعظون، والزواجر فلا ينزجرون، كأن الكلام لا يعنيهم، وكأن الموت لا يأتيهم، تالله ووالله إنهم لفي ظلمات يعمهون، وفي ضلالة يسيرون، كأنما أشربت قلوبهم الدنيا فصارت لهم زادًا وشرابًا، وكأنما نسوا المرجع إلى الله، فكانوا لا يرجون حسابًا، قال : ((من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتِب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)).
جماعة المسلمين، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ مهمة الإنسان في هذه الحياة وسرّ وجوده هي عبوديته لربه عز وجل، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أن يعبد الإنسان ربه حقَّ العبادة، فيوحّده في عبادته ولا يشرك به أحدا، هذا هو سبب خلقك أيها الإنسان، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، أي: لا يؤمَر ولا ينهَى؟ بل أنت في يومك وليلتك مأمور بأوامر يجب عليك فعلها، ومنهيّ عن نواهي يحرم عليك فعلها.
فإذا علمنا هذا فالواجب علينا جميعا أن نغتنم الفراغ الذي نعيشه بشيء ينفعنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ، قال المفسر السّعدي رحمه الله: "أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرّب إليه إما بالخير وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل، بالفضل إن كنت سعيدا، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا "، ويقول : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). فإذا علمنا هذه الأسئلة فهل أعددنا لها جوابا؟ تمضي الأيام والسنون وتنقضي الأعمار والعبد في إعراض عن الله، نسي الله فأنساه نفسه، وغرته الأماني وطول العمر، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
لماذا لا تشغل نفسك في هذه الإجازة بقراءة القرآن وحفظه وتعلم تجويده؟! ((خيركم من تعلّم القرآن وعلمه)). لماذا لا تخصّص لك في اليوم صفحة من القرآن تحفظها أو على الأقل خمس آيات تحفظها فيتحصّل لك في الشهر ثلاثون صفحة أو مائة وخمسون آية ؟! لماذا لا تشغلون أنفسكم بطلب العلم الشرعي والتعلّم وحضور المحاضرات والاستماع لأشرطة أهل العلم من أمثال الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله وصالح الفوزان وغيرهم؟! فمن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة. أعمالٌ كثيرة في الإسلام، نوافل، فرائض، ذكر الله وغيرها كثير، فهل أعطيت من إجازتك للعبادة حظّا منها؟!
كثير من الناس يهوى السفر إلى الخارج، على اختلاف مذاهبهم وآرائهم حول السفر، هل فكرت في زيارة بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي ، أم أن قلبك لا يشتاق إليهما؟! قال : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يقول الله عز وجل: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلى لمحروم)).
عباد الله، لقد عرف السلف الصالح رضوان الله عليهم أهمية حياتهم ووقتهم فاغتنموها خير اغتنام، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي)، ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها"، وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد: فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام".
فاتقوا الله يا عباد الله، واغتنموا أوقاتكم بالعمل الصالح وبالمرح المباح؛ تفلحوا في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
جماعة المسلمين، أيها الآباء، أوصيكم بحسن اغتنام الإجازة في صالح أولادكم وأهليكم، فالفراغ نعمة من الله عز وجل، يقول : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) ، ففي قوله : ((كثير من الناس)) إشارة إلى أن الذي يوفَّق للانتفاع بالصحة والفراغ قليل، وأن غالب الناس في خسارة من اغتنام هذه الصحّة والفراغ في الخير، ولذلك أرشَدنا النبيّ محمد إلى اغتنام الحياة قبل الفوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
أيها الآباء، حثّوا أولادكم على الإكثار من فعل الخير في هذه الإجازة، وعلى مصاحبة الأخيار أصحاب الدين السّليم؛ فخير معين على الطاعة جليس صالح يذكّر ولدَك بالله، وحذّروا أولادكم من جلساء السوء؛ فإن عاقبة مصاحبتهم هلاك، والخلاص منهم غنيمة ورشد، قال : ((مثل الجليس الصالح كمثل العطار؛ إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه)).
ومن أفضل ما تقضَى به الأوقات وتستثمر به الإجازات زيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي، حيث يكون المجال للعبادة أوسع؛ مما يتيح الفرصة لزيادة الإيمان.
وكذلك حافظوا على زيارة الأرحام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) ، ثم قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )).
وجنبوا أنفسكم وأهليكم السفر إلى بلاد الكفر بحجة السياحة، وإن كنت مع زوجك وأولادك، فقد ورد النهي عن الإقامة بين ظهراني المشركين لغير عذر شرعي، قال : ((أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين؛ لا تراءى نارهما)) ، لما في السفر للخارج من ضياع للأخلاق وفساد للدين والعقيدة والإعجاب بالحضارة الغربية المنحلة، وربما وصَل الأمر إلى تعظيم الكفار في نفس المسلم، وقد سئل العلامة ابن باز رحمه الله عن حكم السفر للخارج فقال: "لا ريب أن السفر إلى بلاد الكفار فيه خطر عظيم، لا في وقت الزواج وما يسمى بشهر العسل، ولا في غيره من الأوقات، فالواجب على المؤمن أن يتّقي الله ويحذر أسباب الخطر، فالسفر إلى بلاد المشركين وإلى البلاد التي فيها حرية وعدم إنكار المنكر فيه خطر عظيم على دينه وخلقه وعلى دين زوجته أيضا إذا كانت معه" [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/195) بتصرف].
فمن أراد السفر فعليه بالدول الإسلامية، ففيها والحمد لله ما يغني عن السفر إلى دول الكفر، وعليه أن يتجنب أماكن الفساد فيها.
واحذروا القنوات الفضائية وما تبثه من مسلسلات وأفلام ومقابلات وتحليلات مما يفسد دين المرء ووقته وعمره دون عائد ذي منفعة يعود عليه، حتى وصل الأمر بكثير من الناس إلى السهر على هذه القنوات حتى قريب صلاة الفجر، ثم ينام ولا يستيقظ إلا قريب الظهر، وقد ترك صلاة الفجر متعمدا، بل بعضهم يضبط منبهه على العاشرة صباحا أو ما بعدها ويترك الفجر، قال : ((ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة)).
ثم أنت أيها الأب، كيف تسمح لنفسك ولزوجك وأبنائك بالنظر إلى عورات الآخرين في هذه القنوات؟! هل ماتت الغيرة في قلبك أن تسمح لزوجتك أن تشاهد الرجال شبه عراة في الأفلام قد أظهروا صدورهم وأفخاذهم؟! ثم كيف تسمح الزوجة لزوجها أن يشاهد المغنيات والراقصات وقد أبدين محاسنهن وأجزاء من أجسادهن الرخيصة؟! ثم يعظم البلاء وتكبر المصيبة لمّا يدخل الأب المتطوّر صاحب الفكر الحرّ غير المعقّد ولا المتشدّد القنوات إلى غرف أولاده وبناته الخاصّة؛ ليتابع كل منهم ما تشتهي نفسه وتقرّ بها عينه، ثم تراه إذا ما نصِح يتبجّح بالتربية الصالحة والحسنة التي نشّأ أبناءه عليها، فحالك كحال من قرّب البنزين من النار وهو يرجو أن لا يحترق، قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
(1/4705)
الامتحانات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الموت والحشر, قضايا المجتمع
ماجد بن بلال شربة
الحوية
جامع الأبرار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف حال الآباء وقت الامتحانات. 2- وصايا للطلاب. 3- وصايا للآباء والأمهات. 4- التذكير بالامتحان الأخروي. 5- أهمية الدعاء للأبناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة، في هذه الأيام يستعدّ الطلاب والطالبات ويتهيّؤون لدخول الاختبارات، بعد أن أمضوا شهورًا من العمل والجدّ والاجتهاد، فتجد الكلّ ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدّد مصير صاحبه ومستقبله الدنيوي، فتغمره الفرحة بالنجاح فيسرّ ويبتهج، أو يسودّ وجهه ويعلوه الاكتئاب بالفشل لا قدر الله؛ ولذا فقد أصبحت قلوب الآباء والأولاد وجلة، وأذهانهم قلقة، وقد أُعلنت في كثير من البيوت حالة الطوارئ، فالأب ينتظر بفارغ الصبر نتيجة ولده، وتراه يعِده ويمنِّيه ويتوعّده ويحذّره، وقد بذل من ماله وراحته وجهده من أجل ولده ونجاحه وشهادته.
أيها الطلاب، الوصية بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كلّ هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل العسير يسيرًا، وآتاه خيرًا كثيرًا. خذوا بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، استذكروا واجتهدوا، فإن تعبتم اليوم فغدًا راحة كبيرة عندما يحزن الكسلاء لكسلهم، ويفرح حينها الفائزون بفوزهم، عندها وكأنه لم يكن هناك تعب ولا نصب.
ألا واعلموا أن أفضل أسباب النجاح وأجمعها وأصلحها أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكّل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فلا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم فقط، بل فوّضوا مع ذلك أموركم لله، والتجئوا إليه. واعلموا أن الذكيّ لا غنى له عن ربّه، وأن الذكاء وحده ليس سببًا للنجاح، بل إرادة الله وتوفيقه أولاً. ولكن توكّلوا على الحيّ الذي لا يموت وسبحوا بحمده، ولقد أوصى النبي ابنتَه فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم، بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)). إذا أراد الله بعبده التوفيق جعله مفوِّضًا الأمور إليه، وفقه وسدّده لكي يعتمد على حول الله وقوته، لا على حوله وقوته. وإذا وَكَلَ اللهُ العبدَ إلى نفسه وكلَه إلى الضعف والخور.
يا معاشر الطلاب والطالبات، هذا أَوَانُ الجد والاجتهاد، فاجتهدوا ولكن ارفقوا بأنفسكم، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. لا تحملوا النفوس ما لا تطيق من السهر والتعب؛ فإنه لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، وقال سلمانُ لأبي الدرداء رضي الله عنهما: إن لنفسك عليك حقًا، فقال النبي : ((صدق سلمان)).
يا معاشر الطلاب والطالبات، إياكم والغشّ والتزوير؛ فإنه خيانة وبِئس البطانة، من كانت حياته على الغشّ سَلَبه الله الخير في دنياه وأخراه، عند مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)) ، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله). فمن نجح بالزور والغش والدّلس فإن الله يمكر به ويعاقبه في دنياه قبل أخراه، إلا من تاب فإن الله يتوب عليه.
يا معاشر الطلاب والطالبات، ها هي أيامُ الاختبارات قد أقبلت عليكم، فاستعينوا بالله، وتراحموا وتعاضدوا، وإياكم والشحناء والبغضاء والحسد، ليكن كلّ إنسان كما أمره الله أن يكون، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فتعاونوا وتراحموا وتعاطفوا، فإن احتاج إليك أخوك في حاجة أو في مسألة فأعنه أعانك الله على أمورك، فمن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان أخاه أعانه الله في دنياه وأخراه.
يا معاشر الطلاب والطالبات، إياكم والجلوس على كتب العلم التي فيها كلام الله وكلام رسوله ، وبعض الطلاب ـ هداهم الله ـ تراه بعد الامتحان يقذف بالكتاب عاليا ويرميه ويمزقه، وهذا منكر عظيم، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. فمن امتهن شيئًا من كتاب الله فإن الله يهينه، ولربما ينتقم منه في دينه أو دنياه أو آخرته. فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
يا معاشر الطلاب والطالبات، الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمة من الله، فإن دخلتم ووجدتم بعد الاختبار خيرًا فاحمدوا الله على فضله واشكروه على نعمه، واسألوا المزيد من جوده وكرمه، ولا تقولوا: نجحنا بحولنا ولا بقوتنا ولا ذكائنا، فالله له الفضل كله وله الحمد كله. وإن وجدتَها غير ذلك فقل: الحمد لله على كل حال، فلعل درجة من الدنيا تفوت عنك فيعوضك الله بها درجات الآخرة، وإياك والسب والشتم والغيبة، وإياك وأذية المدرسين؛ فلهم عليك فضل كبير، فهم معلموك ومربوك، فاذكرهم بالجميل، ورد إلى نفسك التقصير، وسل الله أن يجبر لك الكسر.
أيها الطالب النجيب، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، يقول ابن مسعود : (إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت معروف، فيشفعون فيه. فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت غير معروف، فلا يشفعون فيه)، ولا تكن كمن قال الله عنهم: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:22، 23]. فاحذر ـ أخي ـ أن تكون ممن يدعو الله عند شدته وينساه عند رخائه، وكن كما قال الله: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].
ثم إياك ـ أيها الطالب ـ من صاحب السوء، إياك من صاحب السوء، إياك من صاحب السوء.
أيها الطالب، لا يأتي عليك يوم تقول فيه والعياذ بالله: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. صاحب السوء ـ أيها الطالب النبيه ـ في هذه الأيام يجد سوقا مناسبا لترويج المخدرات والعياذ بالله، من حبوب مسهرة وغيرها، يعرضها عليك أيها المجتهد، يقول لك: إذا أردت التفوّق فخذ حبة من هذه، وهي بداية الانجراف إلى الهاوية، ولو كان صادقا لكان هو أول المنتفعين بها. صاحب السوء ـ أيها الطالب النبيه ـ في هذه الأيام يقترح عليك شيئا اسمه المذاكرة الجماعية. احذر ـ أيها الطالب وأيها الأب ـ من شيء يزعمه ابنك يقول: إني أذاكر مع فلان، أو بنتك تقول: إني أذاكر مع فلانة، فلا تعلم ماذا يفعلون، وكم يضيع المهمل على المجتهد فيها من وقت، فيكون مهملا مثله.
وأخيرا أيها الطالب، أوصيك بوصية الحبيب المصطفى ، كما عند الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ)).
أيها الإخوة المؤمنون، وينقسم الآباء في هذه الأيام إلى فريقين: إما أب غير مبال وغير آبه، فلا يدري عن الامتحانات، ولا يهمّه أنجح أبناؤه أم رسبوا، فهؤلاء نقول لهم: الله الله في هذه الذريّة الضعيفة، عيشوا مشاعِرهم، وأدخلوا السرور عليهم؛ فإنها ذرية ضعيفة تحتاج منكم إلى العطف والإحسان، فلا تكسروا قلوبهم.
يا معاشر الآباء، ويا من تستمع إلينا من بيتها من الأمهات، رفقًا بالأبناء والبنات، ها هي أيامهم قد أقبلت وهمومهم قد عظمت، فخذوهم بالعطف والحنان، واشملوهم بالمودة والإحسان، وأعينوهم على هموم الاختبار والامتحان، يكن لكم في ذلك الأجر عند الكريم المنان. أحسنوا إلى الأبناء والبنات، وخففوا عنهم في التبعات، ويسروا عليهم يسّر الله عليكم الأمور. أعينوهم على ما هم فيه، وقوموا بما يجب عليكم نحوهم. علّموهم وأرشدوهم واشحذوا هممهم، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
أيها الأب الحريص، هل تعلم أين يكون ابنك بعد الامتحان؟! هل تعلم ـ وليس الأمر سرا ـ أن أفضل وقت للتفحيط والاستعراض هي ما بعد الامتحان؟! يا كم مات من شابّ بسبب التفحيط، وكم من شاب لم يتعلم التدخين إلا أيام الامتحانات، وأمورا أكرم المسجد والحاضرين من ذكرها يعلمها الجميع. كلنا كان طالبا، وكلنا يعرف أن ذلك إنما يحصل في هذه الأيام؛ لذا إذا أردتَ السلامة من هذا كلّه فاحرص أن يكون أبناؤك في بيتهم بعد الامتحان مباشرة، فهو أحفظ لهم وأسلم.
وثمة قسم آخر يبالغ في التشديد على الأبناء، وليس هذا بمستغرب؛ لأنه هو المتوقَّع والمطلوب في مثل هذه الأيام. ولكن أيها الأبُ المشفقُ على ولده الخائفُ من إخفاقه وفشله، وأنت قد اهتممت بولدك هذا الاهتمام بشأن الاختبار، تعالَ معِي ننظر إلى جانب آخر مما يحتاجه هذا الولد؛ هل كان اهتمامك به بالقدر الذي أوليتَه لدراستِه واختباره؟! ولك أن تقارن وتستخرج النتيجة. تخيّل أن ولدك تأخّر في نومه عن وقت الاختبار ما هي حالك؟! ما هو شعورك؟! كيف ستصنع؟! ألستَ ستسابق الزّمن ليدرك الاختبار؟! ولكن أرأيتَ إن نام يومًا أو أيامًا عن صلاته، كيف سيكون موقفك يا تُرى؟! وأنت ـ أيها الأب المشفق ـ في كل يوم تسأله عما قدّمه في اختباره، وهل وُفّق للجواب الصواب؟ ولكن هل تسأله كلّ يوم عن أمر صلاته؟! وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟!
أيها الأب المشفق، هب أن ولدك قصّر في أداء ذلك الاختبار ولم يسدَّد للجواب الصحيح، ألا يضيق صدرك ويشتدّ همّك وغمّك ويأخذ بك الغضب كل مأخذ؟! وقد تنزِل به أشدّ أنواع العقوبة، ولكن أين ذلك كله حين تعلم بل وترى ولدك يرتكب معصية أو يضيّع واجبًا شرعيًا؟! وها أنت ـ أيها الأب ـ تمنعه أيام الاختبارات مما بين يديه من ملذّات ومُتَع، كالتّلفاز والإنترنت والسهر مع الأصحاب والأصدقاء لئلا يُشغل عن اختباره بأي شاغل، وهذا أمر حسن ولا شك، ولكن أين أنت عنه طوال العام حين يغلق عليه بابه ويشاهد ما يعرض عبر الشاشة مما هو معروف؟! وأين أنت عنه حين يخلو بنفسه أو يرتاد تلك المقاهي ويتنقّل بين مواقع الإنترنت السيّئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت تعلم جيدًا ما يفعل كثير من الشباب حين يجتمعون؟! فماذا كان موقفك؟!
أيها الأب الحنون، ماذا فعلت لإعداد ولدك لاختبار مهمّ جدًا؛ اختبارٍ من فصلين لا ثالث لهما: فصلٍ في القبر وآخرَ يوم القيامة، وليس هناك دورٌ ثانٍ ولا إعادة ولا حمل للمواد، ما هو إلا نجاحٌ لا رسوبَ بعده أو رسوبٌ قد لا يكون بعده نجاح، ما هي إلاّ جنةٌ أو نار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. اختبارُ القبر سيسأل عنه كلّ إنسان: من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وهو اختبار مكشوف ليس فيه شيء من السّرِّية، وقد يبدو سهلاً يسيرًا، ولكن من الناس من إذا سئِل فيه أجاب، ومنهم من إذا سئل قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال له: لا دريت ولا تليت، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وأما الاختبار الآخر فيوم القيامة حين لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يسأَل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟
أيها الأب الفاضل، ماذا تغني عنه شهادته أو تفوّقه؟! ماذا يغني عنه مركزه ومكانته إذا أوتي كتابه بشماله وقال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]؟!
عبد الله، تذكر أنك مسؤول عن هؤلاء الأبناء، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول حتى عن نجاحهم في الآخرة، في الحديث المتفق عليه عن عبد اللَّه ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما أنَّ رسول اللَّه قال: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِه،ِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ومَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
اللهم إنا نسألك أن تصلح أولادنا وإخواننا، وأن تحفظهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نسألك التيسير، اللهم يسر أمورنا، واشرح صدورنا، ووفق أبناءنا وبناتنا. اللهم اجعلهم مشاعل نور وهداية، وخذ بهم إلى سبيل الرضا والولاية، يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله، اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبِلَى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بغدٍ! أتدرون أي غدٍ أعني؟! إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغيرة والكبيرة، السائل رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، يا له من امتحان! ويا له من سؤال! ويا له من يوم يجعل الولدان شيبًا!
عند مسلم عن عَدِيِّ بن حاتم قال: قال رسول اللَّه: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)). نعم، إنه امتحان مهول يدخله كل الخلق في يوم مهول.
وعند مسلم من حديث طويل عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول الله: ((يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّل ـ أي: يوم القيامة ـ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ [الصافات:24]. قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَم؟ فَيُقَال: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)).
عباد الله، تذكروا وأبناؤكم في قاعات الامتحانات الفسيحة، تذكروا عرصات يوم القيامة والناس قيام شاخصة أبصارهم، ألجمهم العرق من هول يوم السؤال ورعب يوم الحساب، يقول : ((إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آنَافِهِمْ)). تذكروا عند إلقاء السؤال في الامتحان سؤال الملكين في تلك الحفرة المظلمة. تذكروا إذا وضع الواحد منا في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم وجاء الممتحنون، وما أدراك ما الممتحنون، هما ((مَلَكَانِ يَقْعَدَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة)). هذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يستعدّ للامتحان: ((فَيَقُول: هاه هاه لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْن)).
تذكر ـ يا عبد الله ـ عند إلقاء السؤال في قاعة الامتحان سؤالَ الله يوم القيامة، يوم يدنيك رب العزة فيقررك بذنوبك يقول سبحانه: تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟
تذكر ـ يا عبد الله ـ يوم توزيع الشهادات على الطلاب ذلك اليومَ العظيم الذي توزّع فيه الصحف، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:19-32].
أيها الإخوة المؤمنون، ولا تنسوا أبناكم من الدعاء لهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وزكريا عليه السلام دعا ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وحين وهب الله له يحيى قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، ومن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]. فما أحرانا أن نخصَّهم بدعوة خالصة في ساعة من ليل أو نهار، لعل الله أن يفتح لنا باب القبول عنده.
اللهم وفقنا ووفق أبناءنا لما فيه الخير والصلاح، اللهم خذ بأيديهم إلى البر والتقوى، واقسم لهم من المعيشة ما ترضى، اللهم احفظهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واكلأنا برعايتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه...
(1/4706)
أيسرهن مهرًا
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
17/5/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة زواج ابنة سعيد بن المسيب. 2- ترغيب الإسلام في النكاح. 3- حسن اختيار الزوج والزوجة. 4- الحث على تيسير المهور. 5- المهر حق للزوجة. 6- عادات دخيلة في الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، أيها المؤمنون، تأملوا معي هذا الموقف العظيم وهذه القصّة المؤثّرة التي حدَثت في القرون المفضّلة لتكون نبراسًا لنا في حياتنا:
في يوم من الأيام ـ كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/233) ـ كان سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى ورضي عنه أحد كبار التابعين ممن روى العلم عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم الذي لم تفُته تكبيرة الإحرام أربعين سنة في مسجد النبي ، كان يتردّد عليه طلبة العلم، ومن ضمن الذين كانوا يتردّدون عليه ويحافظون على حضور دروسه تلميذ نبيه يسمَّى عبد الله بن أبي وداعة، فافتقده سعيد بن المسيّب أيامًا، فدخل عليه بعدها فقال: أين كنت يا عبد الله؟ قال: لقد توفِّيَت زوجتي فانشغلت بها، قال: ألا آذنتَنا حتى نحضرَها؟! ثم قال له: يا عبد الله، هل أحدثت زوجًا غيرها؟ هل تزوجت غيرها؟ قال: يرحمك الله يا إمام، ومن يزوّجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا أزوِّجك، قال: وتفعل؟! قال: نعم، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه وزوّج تلميذه بدرهمين. قال عبد الله: فخرجت وأنا مهموم؛ من أين أستدِين؟! ومن أين أوفّر الصداق؟! ومن أين آتي بالمال؟! فبينما كنت في منزلي بعد صلاة المغرب وكنت صائمًا وقد قرّبت فطوري وكان خبزًا وزيتًا قال: فإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد، قال: فحضرني كلّ من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيّب؛ لأنه لم يغادر بيته إلى مسجده منذ أربعين عامًا، قال: ففتحت الباب فإذا سعيد بن المسيب! إمام أهل المدينة العالم الكبير، قال: قلت: يرحمك الله لو أرسلتَ إلي لأتيتك، قال: لا، أنت أحقّ أن تؤتى، إني تذكّرت أنك رجل كنت ذا زوجة وأنك تبيت عزبًا هذه الليلة، فخشيت أن تبيت وحدَك وهذه زوجتك، قال: فدفعها إليّ وأغلق الباب، قال: فوجدتها من أحفَظ النساء لكتاب الله ولسنّة رسول الله ، ومن أجمل ما رأت عيناي.
وكانت ابنة سعيد بن المسيب هذه قد خطبها عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين لابنه وليّ عهد المسلمين الوليد بن عبد الملك، فأبى أن يزوّجه أياها.
هذه قصة ـ أيها الإخوة الكرام ـ بين أيدينا ننقلها في هذه الأزمان والأعصار لتكون نبراسًا لنا في حياتنا، كيف نختار الزوج، وكيف نيسّر المهر، وكيف نعين الشباب على الزواج، وكيف يكون النكاح الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون الذين يقتَدون بخيار الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أيها المؤمنون، لقد رغّب الإسلام في الزواج وحثّ عليه، وبين النبي أنه سنّة من سننه، ومن رغب عنه فليس منه، لما دخل ثلاثة نفر من أصحاب النبي يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أقوم فلا أنام، أي: أقوم الليل، وقال الآخر: أصوم فلا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوّج النساء، فبلغ ذلك النبي فخرج غاضبًا وصعد المنبر وقال: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
وحثّ النبي على الزواج فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
والله سبحانه وتعالى يبين أن من النعم الكبرى أنه تعالى أوجد لبني آدم أزواجًا من أنفسهم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
وحث الإسلام على النكاح فقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].
وإن من أعظم النعم ـ يا عباد الله ـ في الزواج أن يخلّف المسلم الذرية الصالحة التي تدعو له بعد وفاته، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم والأربعة.
فوجود الأولاد ووجود الذريّة من أعظم النعم التي من أسبابها الزواج ومن أسبابها تيسيره، بل إن النبي يبين أن العبدَ المسلم إذا أراد بالزواج العفاف والطهر وأن يعفَّ نفسه عن الحرام فإنّ الله يعينه وييسر أمره، ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف)) رواه الترمذي والنسائي وأحمد وحسنه الألباني. من يريد أن يعف نفسه عن الحرام وعن الشهوات وعن الوقوع في المعصية فإن الله يعينه، وإن الله ييسّر له أمره، وهكذا كان أصحاب النبي.
أيها المؤمنون، إن من الأمور التي ينبغي أن ننبّه عليها وأن تكون في ذكر عند المؤمنين الصالحين الصادقين عندما يريد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة، بل ويحسن اختيار الزوج في الوقت نفسه، يقول النبي : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
إنها قضية تحتاج منا أن نتأملها كثيرًا؛ حسن اختيار الزوج، وحسن اختيار الزوجة، يقول النبيّ كما في الصحيحين: ((تنكح المرأة لأربع: لدينها، ولمالها، ولجمالها، ولحسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). اختار لنا النبيّ ذات الدين؛ لأن الدّين يشمل الأمور كلها.
أيها الإخوة، إنها قضية مهمة ينبغي أن نتأمّلها كثيرًا في هذا الزمان الذي طغت فيه العادات والتقاليد على القيم والمبادئ إلا ما رحم ربك، يزوج الإنسان صاحبَ المال وصاحب الحسب وصاحبَ القرابة ولا يسأل عن دينه، ولا يسأل عن أخلاقه، ولا يسأل عن قيمه ومبادئه، يسلّم ابنته المسكينة الضعيفة التي هي أمانة في عنقه يسلّمها لمن لن يقومَ بشؤونها، يسلّمها لمن لن يرعاها، لمن لن يحافظ عليها، هذه جوهرة مكنونة أنت مسؤول عنها أمام الله يوم القيامة، امرأة ضعيفة تسلِّمها لعبد لا يخشى الله تعالى؟! كيف يكون موقفك أمام الله تعالى؟! ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) ، لا ينبغي أن يكون غرضنا هو المال؛ فإن المال ينتهي يا عباد الله، ولا الحسب ولا الجمال، وإن كان البحث عنه له أهمية، لكن لا ينبغي أن يكون هو المهمّ، ولا ينبغي أن يكون هو الهدَف الأول، وإنما أن يكون الهدف الأوّل هو الدين والقيم والأخلاق التي يكون عليها الإنسان، يكون عليها الزوج، تكون عليها الزوجة.
كما ينبغي علينا ـ يا عباد الله ـ إذا أردنا لبناتنا وأبنائنا الحياة السعيدة المستمرة أن نيسر المهر، وأن لا نغالي فيه؛ فإن المغالاة في المهور سبب للشقاء يا عباد الله، كما بين ذلك النبي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يقول النبي : ((إن من يمن المرأة ـ أي: من بركتها، من فعلها الحسن، من سعادتها المستقبلية ـ إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وضعفه الألباني، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى لكان أولى بذلك رسول الله ، فإنه لم يصدق أحدًا من نسائه ولم يصدق أحدا من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية) رواه أبو داود وابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح، وهي ما يقارب خمسمائة ريال، لم يصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فلا ينبغي للإنسان أن يغالي في المهر، فلا خير في المغالاة يا عباد الله، فعندما جاءت امرأة إلى النبي تعرض عليه النكاح فقام أحد الصحابة يريد نكاحًا فقال له: ((التمس ولو خاتما من حديد)) ، فلم يجد ذلك الخاتم، فقال: ((هل تحفظ شيئًا من القرآن؟)) قال: نعم، قال: ((زوَّجتكها بما معك من القرآن)) متفق عليه.
أيها الإخوة الكرام، ليس في المغالاة في المهور بركة، بل فيه الشقاء، وفيه الفقر، وفيه عدم البركة للزوجين في مستقبل حياتهم؛ لذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي على المؤمنين الصادقين أن يسعَوا إلى البركة، وأن يبحثوا عن البركة، وأن تكون القدوة لهم في رسول الله وفي أصحابه والتابعين لهم بإحسان، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، لماذا لا يغالي العبد في صداق المرأة؟ لأن الصداق للمرأة فقط وليس لغيرها، والله تعالى يقول: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].
أجمع الفقهاء قاطبة على أنه لا يحل للأب أن يأكل أو أن يأخذ درهمًا واحدًا من صداق البنت إلا إذا أذنت له بذلك إذا رضيت له بذلك؛ لأن الصداق للمرأة، وليس للأب وليس للأم وليس للصديقة والقريبة والخالة والعمة، الصداق للمرأة، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية هبة، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ، فلا يحل للعبد المؤمن رضِي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً وسار على ذلك النهج القويم الواضح أن يشتَرط لنفسه شيئًا. مقابل ماذا؟! مقابل ماذا يشترط؟! إن ما يعطى للمرأة من المهر هو مقابل ما استحل به من فرجها، فبمقابل ماذا يعطى الأب شيئا من المهر؟! مقابل ماذا تعطى الأم شيئًا من المهر؟! ربما يقول البعض: مقابل أنه قام على شؤونها وعلى رعايتها وعلى تربيتها، لو كان الأمر كذلك فلا تكفيه ملايين الريالات؛ لأنه رباها طيلة عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، فلا يكفيه خمسون ألفًا أو مائة ألف أو مائتا ألف، بل يبتغي الأجر من الله سبحانه وتعالى، ((من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) أو كما قال النبي. رواه مسلم والترمذي.
إن جزاءك ـ يا عبد الله ـ في تربيتك لابنتك أو موليتك ثم زواجها هي الجنة، وليست الدنيا الفانية، ترجو جنة عرضها السماوات والأرض، الدنيا ليست بشيء، ومهما أعطيت في الدنيا فلن تجازى مقابل ما قمت به من رعايتها، فاختر لها الزوج الصالح، يسر أمر مهرها حتى تعيش في سعادة وفي طمأنينة وفي أريحية، وحتى نساعد الشباب ـ يا عباد الله ـ على الزواج، على الستر وعلى العفاف وعلى الطهر.
إننا من حيث نشعر أو لا نشعر عندما نغالي في المهور نفتح أبوابًا وأبوابًا للحرام من حيث لا نشعر؛ لأن الشاب عندما يجد أبواب الحلال مغلقة سيبحث هنا وهناك لإطفاء شهوته وغريزته، فلن يجد لذلك إلا الحرام، لن يجد لذلك إلا الحرام، ونحن الذين فتحنا له أبواب الحرام من حيث نشعر أو لا نشعرز
فلنتق الله يا عباد الله، ولنيسّر المهور حتى يتزوّج الشباب، حتى نقفل الطرق على الحرام الذي انتشر وعمّ وطم في وقت أصبَح الحرام فيه سهلاً لكثرة الدعايات المغرضة من أعداء الله تعالى، كما أنه ينبغي ـ يا عباد الله ـ أن نقفل العادات الدخيلة التي غزت مجتمعاتنا المحافظة التي أصبحت عوائق في طريق الزواج، ربما يقول البعض: أنا لم أطلب من المهر إلا شيئًا يسيرًا، لكنه فتح المجال للعادات الدخيلة التي لم يأذن الله بها، والتي لم ينزل الله بها سلطانًا، والتي لم نعرفها من قبل، سواء كانت في الملابس أو القصور والمغالاة فيها أو المطربات اللاتي يستقدمن من هنا وهناك، والمصيبة أن تلك المغنية تأتي مع فريقها من بلد بعيد بدون محرم، فينتشر الحرام، ونكون نحن السبب في ذلك؛ لأننا أذنا لهذه المتهتكة أن تأتي من تلك البلاد البعيدة لتحيي لنا ليلة تسخط رب الأرض والسماوات بمبلغ مبالغ فيه، المطربات المغنيات الراقصات الملابس العارية القصور المبالَغ فيها هذه العادات الدخيلة التي أصبحت حملاً ثقيلاً على الزوج المسكين الذي يريد العفاف، والذي يريد أن يبني بيتًا لزوجته، والذي يريد أن يؤثث بيتًا، ولكن لا يملك درهمًا ولا دينارًا.
من ذلك ـ يا عباد الله ـ ينبغي علينا أن لا نقع في العادات التي نراها هنا وهناك، ونحن مجتمع محافظ، فنسخط الله تعالى، والأصل أن الزواج عبادة، الزواج عبادة يا عباد الله، لا ينبغي أن ندخل في العبادات المحرمات، بعض الناس يشترط دخول الزوج ليزف زوجته أمام النساء الأجنبيات، من أين رأى ذلك؟! عبر المسلسلات، عبر القنوات، رآها عبر أناس لا خلاق لهم ولا دين، فأراد أن ينقل تلك العادة إلى مجتمعاتنا المحافظة، ما كنا نعرف ذلك من قبل يا عباد الله، فلننتبه قبل أن نسخط رب الأرض والسماوات، ((إياكم والدخول على النساء)) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. هكذا يقول النبي ، لا يجوز للزوج أن يدخل على النساء الأجنبيات بحجة أنه يزفّ زوجته لأنه رأى ذلك هنا أو هناك، ينبغي أن ننتبه للعادات الدخيلة في الزواج في النكاح في الخطبة في المهر في هذه الأمور، ولنسأل أهل العلم كما قال سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4707)
رسالة إلى شباب الأمة
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
24/5/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب في الأمة. 2- السؤال عن مرحلة الشباب. 3- الحث على الزواج والعفاف. 4- التحذير من خطط الأعداء. 5- مقصد العبودية لله تعالى. 6- التأسي بالقدوات الصالحة. 7- خطورة الفراغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، أيها المؤمنون، لا شكّ أن الشباب في كلّ أمة هم عمادها وأساس نهضتها، وهم قوّتها في وجه الأعداء. إذا بليت الأمة في شبابها فقل: على هذه الأمة السلام؛ ولذا نجد الإسلام قد أولى الشبابَ عناية عظيمة فائقة في آيات وأحاديث ومواقف، وهل كان أصحاب النبي الذين نشروا هذا الدين ودافعو عن حياضه في مشارق الأرض ومغاربها إلا شبابا رضي الله عنهم وأرضاهم؟! من الذي حمل الراية؟! ومن الذي دافع عن هذا الدين؟! ومن الذي جاهد في الله ونشَر الدين في المشرق والمغرب إلا الشباب من أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان؟!
شباب ذلَّلوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
ولم تشهدهم الأقداح يوما وقد ملؤوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الْخلاعة في بنات وما عرفوا التخنّث في بنينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابا مخلصا حرا أمينا
وعلّمه الكرامة كيف تبنى فيأبى أن يذلّ أو يهونا
هؤلاء هم الشباب الذين حث الإسلام على أن نقتدي بهم، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]؛ ولذا يبين النبي فضل الشاب الذي ينشأ في طاعة ربه عز وجل ويطلِّق الهوى والنفس الأمارة بالسوء ويعرف مكائد الشيطان وحبائله وإغواءاته، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى تحت ظلّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله)) رواه البخاري ومسلم.
تأمل ـ يا رعاك الله ـ كيف كانت منزلة الشاب الذي نشأ في طاعة الله بعد الإمام العادل مباشرة قبل السبعة الأصناف؛ ليبين لنا النبي بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الشاب الذي ينشأ في طاعة الله رجل عظيم، رجل ذو همة عالية، طلَّق الدنيا، وطلق الهوى والشيطان والشهوات والشبهات، وأقبل على ربه عز وجل، ولذا رُوي في الحديث الذي أخرجه أحمد والطبراني: ((إن الله ليعجب من الشابّ الذي ليس له صبوة)) وضعفه الألباني، أي: ليس له ميل إلى المعاصي والمنكرات والشبهات والشهوات. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بإسناد حسن أن النبي قال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني.
فالشباب ـ يا عباد الله ـ هو القوه التي يستطيع الإنسان فيها أن يعبد ربه، أن يصلي، أن يصوم، أن يتنفل، أن يتصدق، أن يجاهد، أن يعمل الخير ولا يجد تعبا ولا نصبا؛ ولذلك كان من ضمن الأمور التي يسأل عنها العبد يوم القيامة هو الشباب، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي وحسنه الألباني. ألم يكن الشباب من ضمن مراحل العمر؟! لكنه خصِّص له سؤال مستقل لبيان أهمّيته، لبيان مكانته، لبيان أهمية الشباب.
فإليكم أيها الشباب، يا شباب الإسلام، يا شباب محمد ، يا من نشأتم في هذا الدين العظيم، إليكم هذه العظة وهذه العبرة وهذه الموعظة وهذه الذكرى؛ لكي تعرفوا قيمة الشباب الذي أنتم فيه، ولكي تعرفوا أهمّية الشباب الذي سرعانَ ما يزول.
قالت حفصة بنت سيرين رحمها الله تعالى: "يا معشر الشباب، اعملوا؛ فإن فترة العمل في الشباب"، وقالت: "ما شبّهت مرحلة الشباب إلا بشيء كان في كمي ثم سقط"، قالت: "اعملوا؛ فإن مرحلة العمل في الشباب"، وأكثر الموتى من الشباب، وآية ذلك أن الشيوخ قليل.
الشاب هو من تكتمل قوته، من يصل إلى مرحلة الرشد، من لا يجد تعبًا ولا نصبًا في العبادة والذكر والصلاة والصيام وغير ذلك من الأمور.
لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن أصحاب محمد كانوا شبابًا، ونشروا الدين، وذادوا عن حياضه، ورسموا لنا أوضح القدوات في التاريخ. من منا ينسى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وسمرة بن جندب ورافع بن خديج وغيرهم وغيرهم من أصحاب النبي الذين لم يكن يتجاوز عمر أحدهم عشرين عاما، وكانوا قدوات في دينهم وفي عبادتهم وفي جهادهم وفي صلاتهم وفي ذكرهم وفي دفاعهم عن محمد ؟!
ولذا حثنا الإسلام على أن نحافظ على الشباب؛ بأن نسلك جميع الوسائل التي تؤدّي بالشاب إلى أن ينشأ في طاعة ربّه عز وجل، ومن ذلك الزواج بقصد العفاف والطهر، قال النبي : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) رواه الجماعة من حديث ابن مسعود. فحثنا النبي على الزواج، وحث الشباب على الزواج حتى لا يقعوا في حبائل الشيطان؛ ولذا لأهمية هذا الموضوع ولأهمية مرحلة الشباب نرى يا عباد الله وهذا الأمر ليس سرّا، نرى أعداء الإسلام في الشرق أو الغرب يوجّهون كل سهامهم لتحطيم شبابِ الأمة؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أنه إذا ضاع شباب الأمة فقل: على الأمة السلام.
شباب خنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا
لما أراد الصليبيون في آخر أيام حكم المسلمين للأندلس أن يغزوا مدينة قرطبة وقصر الحمراء آخر معقل للمسلمين في بلاد الأندلس أرسلوا جاسوسا لهم لينظر إلى شباب المسلمين؛ ما هو تفكيرهم؟ ما هي هممهم؟ ما هي طموحاتهم؟ فنظر ذلك الجاسوس وتجوّل في بلاد المسلمين، فبينما هو يتجوّل ذات يوم إذ به يجد شابًا من شباب الأمة في أحَد الوديان يبكي متحسّرًا نادمًا، قال له: ما بالك يا بني؟! قال: إني أتعلّم الرمي وقد رميت بعشرين سهمًا فأصبت في ثمانية عشر وأخطأت في سهمين، فأنا أبكي متحسرًا على ذلك، لو هجم علينا الأعداء فلن أدافع عن بلاد الإسلام؛ لأني قد أخطئ الرمي، فرجع ذلك الجاسوس إلى الصليبيين إلى قومه فقال: لا طريق لكم لغزو بلاد المسلمين.
ويدور الزمان وتتغيّر الأمور ويغرق شباب الأمة في اللهو والعبث والخنا والمجون والحبّ والغرام، فيعود جاسوس آخر بعد سنوات عدة لينظر هل الوضع ملائم لغزو بلاد المسلمين، فيجد شابًا يبكي فيقول له/ ما يبكيك يا بني؟! فيقول: أبكي على حبيبتي، فرجع ذلك الجاسوس وقال لقومه: لقد آن الأوان لغزو بلاد المسلمين.
إن الأعداء يعلمون أنه إذا كانت همم الشباب في العبادة والذكر وفي معالي الأمور وفي معرفة ما يدبّره لهم الأعداء فإنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى بلاد المسلمين؛ ولذلك نجد الهجمات قويّة لتحطيم شباب الأمة عبر القنوات والمسارح والتمثيليات والمجلات والغانيات وغير ذلك ممّا تعرفون ولا تنكرون، كل ذلك من أجل الشباب، لا يريد الأعداء من هذه القنوات من شاخَ وشاب ولا من أصبح عمره فوق السبعين أو الثمانين، يريدونكم أنتم أيها الشباب، يريدون شباب الأمة ليستطيعوا بعد ذلك أن يحطموا أمة الإسلام، وأن يغزوها في فكرها وفي قناعاتها وفي قوتها وفي شبابها، فيسيطرون عليها فكريًا قبل أن يسيطروا عليها عسكريًا.
إذا علمنا ذلك فلا بد للمسلم أن يعلم ما الذي ينبغي عليه أن يقوم به لمواجهة هذا الغزو.
يا عباد الله، لا بدّ أن نعلم أن هذا الغزو أقوى ألف مرة من غزو السيف والمدفع والدبابة، الغزو الفكري عن طريق الشهوات عن طريق تحطيم القيم والمعتقدات عن طريق تحطيم المبادئ أعظم ألف مرة من تحطيم الشباب بالقتل أو غير ذلك؛ لأنه إذا حطم المسلم من الداخل فسيكون تبعًا للغرب، مسلم باسمه ولكنه غربي بفكره غربي بقناعاته غربي بأهوائه غربي بشهواته وشبهاته. هذه قضية مهمة.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلّم تَسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله، أيها المؤمنون، أيها الشباب، يا ذخر الأمة، يا مستقبلها المشرق، يا من تنتظركم أمة الإسلام، ينبغي عليكم أن تعلموا أمورا عدة:
أولاً: أن يعلم الشاب لماذا خلق، وما هي الغاية من وجوده، وأن يستشعر هذا الأمر دائمًا وأبدًا؛ فإن الله تعالى خلقنا لعبادته، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، لا بد أن يعلم الشاب المسلم لماذا خلق، وما هو القصد من ذلك، والله أمرنا بالعبادة لنستفيد نحن، والله هو الغني ونحن الفقراء.
ومن ذلك أن يتصوّر الشاب الأخطار التي تحدق به وتحدق بأمته والمؤامرات التي يدبرها له أعداء الإسلام في الشرق أو الغرب، وأن لا يستغفل، وأن يعلم أن ما يكاد له الآن عبر القنوات والمجلات ومواقع الإنترنت وغير ذلك ما هو إلا جيش صليبي جديد بأسلوب معاصر مختلف عن الأسلوب السابق، وهو أقوى وأشدّ وأخطر من السلاح الأبيض ومن الجيش الذي يغزونا جهارًا عيانًا، إنه جيش لتدمير القيم والمبادئ والقناعات وقوة الأمة التي تدافع عن حياضها.
كما ينبغي للشباب أن يتأسّى بالقدوات من أصحاب النبي والتابعين لهم بإحسان.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فالمرء مع من أحب يوم القيامة، والمرء يحشر مع من أحبّ، ومن تشبه بقوم حشر معهم، لنعلم ذلك يا عباد الله.
تأمل يا رعاك الله، تأمل وعُد إلى نفسك وتخيّل أن القيامة قد قامت، وأن الأولين والآخرين قد قاموا في صعيد واحد، وأنت تعلم أن النبي قد قال: ((المرء مع من أحب يوم القيامة)) رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني، وقال: ((ولا يحب رجل قومًا إلا حشر معهم)) رواه الطبراني في الصغير والأوسط وصححه الألباني، تأمّل وتخيل نفسك عندما يحشر الناس مع الصحابة والتابعين وخيار الأمة وأنت تحشر مع الممثّل الأمريكي أو اللاعب الأرجنتيني أو المطرب الهولندي أو غيرهم ممن لا خلاق لهم ولا دين من العرب الذين ساروا في فلكهم وساروا في أطروحاتهم وأفكارهم، وأصبح أحدهم مسلمًا بالاسم ولكنه غربي بالفكر، كيف سيكون موقفك عندما تحشر مع اليهود والنصارى أيها المسلم؟! تأمل ذلك قويًا، وعد إلى نفسك بالحساب، ولا تنتظر من أحد أن يجرّك، فكن أنت الذي تجرّ نفسك، كل امرئ مسؤول عن نفسه يوم القيامة، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
ولننتبه يا عباد الله، يا أيها الشباب، لتنتبهوا من عدّة قضايا، من الفراغ فإنه مهلكة.
إن الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
كما ينبغي أن ننتبه من رفقاء السوء، وما أكثرهم في هذا الزمان، الذين يزينون للإنسان المعاصي والمنكرات، وهو يريد أن يجترك إليها من حيث لا تشعر، فأشغل نفسك بذكر الله، وأشغل نفسك بمعالي الأمور، وما أكثر الأماكن التي يشغل الشاب المسلم فيها وقته عبر المراكز وحلقات الذكر والدورات العلمية وغيرها وحلقات التحفيظ ومجالس الذكر والمحاضرات وزيارة العلماء وطلبة العلم وغيرها وغيرها من أعمال الخير التي لا تخفى عليكم.
كما ينبغي ـ يا عباد الله ـ أن ننتبه من هذه الملهيات ومن هذه المغريات التي غزتنا في هذا الزمان، لننتبه يا عباد الله، ولنعلم أنه جيش جديد يريد أن يجتثنا من أصولنا، وأن يقضي علينا، وأن نكون تبعًا لأعداء الإسلام من الشرق أو الغرب.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4708)
هدي الإسلام في مناسبات الأفراح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
27/6/1425
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الزواج. 2- فوائد الزواج. 3- حسن الاختيار. 4- تيسير الإسلام لأمور الزواج. 5- عقبات في طريق الزواج. 6- منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ وَرَاقِِبُوهُ، وَأَطِيعُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ، فَبِتَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ تَزْكُو النُّفُوسُ، وَتَصْلُحُ الأَعْمَالُ، وَتُقَالُ العَثَرَاتُ، وَتُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُم، وَزِنُوا أَعْمَالَكُم، وَتَزَيَّنُوا للعَرْضِ الأَكْبَرِ عَلَى اللهِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللهَ الذِي إِلَيهِ تُحْشَرُونَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، الزَّوَاجُ مِنَ الأُمُورِ الفِطْرِيَّةِ الجِبِلِيَّةِ التي لاَ غِنَى لِكَائِنٍ حَيٍّ عَنْهَا إِذَا أَرَادَ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ الهَادِئَةَ المُطْمَئِنَّةَ لِنَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى البَاهِرَةِ، ونِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِهِ العَظِيمَةِ، تَحْصُلُ بِهِ المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، والأُنْسُ وَالسَّكَنُ، وَالرَّاَحَةُ والطُّمَأْنِينَةُ؛ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
لَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الزَّوَاجَ لِمَصَالِحَ عَظِيمَةٍ، وَمَنَافِعَ جَلِيلَةٍ، وَحِكَمٍ كَثِيرَةٍ لاَ تُحْصَى، إِذْ بِهِ تُبْنَى الحَيَاةُ البَشَرِيَّةُ، وَيُحْفَظُ الجِنْسُ البَشَرِيُّ مِنَ الزَّوَالِ وَالانْقِرَاضِ، بَلِ الكَائِنَاتُ بأَسْرِهَا، وَتَعُمُّ السَّعَادَةُ اِلإنْسَانِيَّةَ، بِهِِ تُصَانُ الأَنْسَابُ عَنِ الاخْتِلاَطِ وَالضَّيَاعِ، والأَنْظَارُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الحَرَامِ، والفُرُوجُ عَنِ الوُقُوعِ فِيمَا لاَ يَحِلُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ قَاَل: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) متفق عليه.
فَالزَّوَاجُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَعْظَمُ وَسِيلَةٍ لِصِيَانَةِ البَشَرِ عَنِ الوُقُوعِ فِي المُحَرَّمَاتِ مِنْ زِنًا وَغَيرِهِ؛ لاَ سِيَّمَا وَنَحْنُ نَعِيشُ في هَذَا العَصْرِ الذِي كَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ، وَتَنَوَّعَتِ الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ، وَكَثُرَ فِيهِ دُعَاةُ الرَّذِيلَةِ والفَاحِشَةِ والفَسَادِ، وَتَعَدَّدَتْ وَسَائِلُهُم وَجُهُودُهُم في سَبِيلِ نَشْرِ الفَاحِشَةِ في المُجْتَمَعَاتِ، وعَلَى الأَخَصِّ في الذِينَ آَمَنُوا.
فِي الزَّوَاجِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الذُّرِيَّةِ الصَّالِحَةِ التي يَنْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهَا الزَّوْجَينِ وَالمُجْتَمَعَ والأُمَّةَ بأَسْرِهَا؛ وَقَدْ قَالَ : ((تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ)) رواه النسائيُّ وأبو داود.
إِلَى مَا فِيهِ مِنْ كَفَالَةِ المَرْأَةِ، وَالقِيَامِ بِنَفَقَتِهَا، وَصِيَانَتِهَا وَإِعْفَافِهَا وَرِفْعَتِهَا عَنِ التَّبَذُّلِ، وَإعْزَازِهَا مِنَ المَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ وَالعُنُوسَةِ في بَيتِ أَهْلِهَا، وَالقِيَامِ بِحَاجِيَّاتِ الرَّجُلِ وَخِدْمَتِهِ، وَإِغْنَائِهِ عَنِ الحَرَامِ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ شَرَعَ الإِسْلاَمُ الزَّوَاجَ، وَرَغَّبَ فِيهِ، وَدَعَا إِلَيهِ، وَبَيَّنَ فَضْلَهُ وَمَكَانَتَهُ، وَشُرُوطَهُ وآَدَابَهُ وَأَحْكَامَهُ، وأَوْصَافَ المَرْأَةِ التي يُسْعَى لَهَا، وَالشَّابِ الذِي يُرْغَبُ فِيهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا رَكَّزَ عَلَيهِ الإِسْلاَمُ في هَذَا الجَانِبِ الدِّينُ وَالخُلُقُ؛ يَقُولُ : ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) متفق عليه، وَيَقُولُ : ((إِذَا خَطَبَ إِلَيكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) رواه الترمذيُّ وابن ماجه.
وَسَعَى الإِسْلاَمُ بِشَتَّى الوَسَائِلِ إِلَى تَذْلِيلِ العَقَبَاتِ وَإِزَالَةِ العَرَاقِيلِ في طَرِيقِ الزَّوَاجِ، وَنَهَى عَنْ عَضْلِ النِّسَاءِ عَنِ الزَّوَاجِ؛ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232].
وَإِنَّهُ مَعَ فُشُوِّ الجَهْلِ في المُجْتَمَعَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَطُغْيَانِ النَّظْرَةِ المَادِيَّةِ البَحْتَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَالتَقْلِيدِ الصِّرْفِِ للآخَرِينَ وَتَلْبِيَةِ مَطَالِبِ ضِعَافِ العُقُولِ وَالسُّفَهَاءِ أَصْبَحَ الزَّوَاجُ في بَعْضِ المُجْتَمَعَاتِ وَالأُسَرِ مِنْ أَصْعَبِ الصَّعْبِ وَأَنْوَاعِ المُسْتَحِيلاَتِ، بَلْ جَعَلَهُ بَعْضُهُم صَفْقَةً تِجَارِيَّةً، كُلٌّ يَسْعَى للتَّكَسُّبِ مِنْ وَرَائِهَا، مِمَّا أَدَّى إِلَى وَضْعِ العَرَاقِيلِ الشَّاقَّةِ وَالعَقَبَاتِ الكَأْدَاءِ في طَرِيقِ الزَّوَاجِ، وَعُزُوفِ الشَّبَابِ وَالشَّابَاتِ والرَّاغِبِينَ في الزَّوَاجِ عَنِْهُ.
وَتَعَدَّدَتْ تِلْكَ العَرَاقِيلُ وَالعَقَبَاتُ والتَّكَالِيفُ التي مَا أَنْزَلَ اللهِ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، حَتَّى أَلِفَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَجَعَلُوهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الزَّوَاجِ التِي لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهَا، وَهِي مُبَايِنَةٌ لِشَرْعِ اللهِ تَعَالَى، وَمُخَالِفَةٌ لِِهَدْي رَسُولِهِ الكَرِيمِ ، وَِهَدْي سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ رَحِمَهُم اللهُ، أَزْكَى الأُمَّةِ وَأَبَرِّهَا وأَقْرَبِهَا إِلَى كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ رَسُولِهَا وَأَبْعَدِهَا عَنِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ وَالإِسْرَافِ.
وَقَدْ صَاحَبَ تِلْكَ العَرَاقِيلَ وَالعَقَبَاتِ مُنْكَرَاتٌ قَبِيحَةٌ وَمُخَالَفَاتٌ عَظِيمَةٌ، زَادَتِ الأَمْرَ سُوْءًا وَتَعْقِيدًا، وَأْحْدَثَتْ مِنَ الفَسَادِ في حَيَاةِ النَّاسِ وَمُجْتَمَعَاتِهِم مَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى.
عِبَادَ اللهِ، وَمِنْ هَذِهِ العَرَاقِيلِ التي وُضِعَتْ في طَرِيقِ الزَّوَاجِ العَقبَةُ الكَأْدَاءُ المُتَمَثِّلَةُ في التَّكَالِيفِ البَاهِظَةِ للزَّوَاجِ؛ مِنِ ارْتِفَاعِ المُهُورِ وَالمُبَاهَاةِ بِهَا، حَتَّى بَلَغَتْ حَدًّا لاَ يُطَاقُ، وَكَأَنَّ الشَّبَابَ يَنْحِتُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ عُرْضِ الجِبَالِ، وَصَارَتِ الفَتَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الأُسَرِ وَكَأَنَّهَا سِلْعَةٌ تِجَارِيَّةٌ في يَدِ وَلِيِّهَا، يُسَاوِمُ عَلَيهَا النَّاسَ في سُوقِ الحَرَاجِ، عَلَّهُ يَظْفَرُ بِمَنْ يَزِيدُ في مَهْرِهَا عَمَّا أُعْطِيَ مِنْ قَبْلُ دُوْنَ خَجَلٍ أَو حَيَاءٍ. وَكَمْ عُضِلَ بَعْضُهُنَّ عَنِ الزَّوَاجِ بِسَبَبِ الطَّمَعِ في وَظيفَتِهَا وَمُرَّتَّبِهَا. نَاهِيكَ عَمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ المُبَاهَاةِ في إِقَامَةِ الحَفَلاَتِ والمُنَاسَبَاتِ، وَاسْتِئْجَارِ القُصُورِ وَالاسْتِرَاحَاتِ وَالفَنَادِقِ وَالقَاعَاتِ بَأَغْلَى الأَثْمَانِ، وَالإِسْرَافِ في وَلاَئِمِ الأَفْرَاحِ، وَتَجْهِيزِ العَرُوسِ بأَغْلَى الأَلبِسَة وَالمُجَوْهَرَاتِ، مِمَّا لاَ مُبَرِّرَ لَهُ، إِلاَّ السَّعْيُ لإِرْضَاءِ السُّفَهَاءِ وَالنِّسَاءِ وَنَاقِصِي العُقُولِ، وَمُجَارَاةُ المُبَذِّرِينَ وَالشَّيَاطِينَ، حَتَّى زَادَ الأَمْرُ الآنَ؛ فأَصْبَحَ العَقْدُ الذِي هُوَ مُجَرَّدُ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ في الأَصْلِ يُقَامُ في قُصُورِ الأَفْرَاحِ وَالاسْتِرَاحَاتِ، وَكَأَنَّهُ زَوَاجٌ حَقِيقِيٌّ.
وَيَتَبَاهَى بَعْضُهُم بِكَثْرَةِ المَدْعُوِّينَ وَالحَاضِرِينَ الذِينَ تَضِيقُ بِهِم قُصُورُ الأَفْرَاحِ وَقَاعَاتُ المُنَاسَبَاتِ عَلَى كِبَرِهَا وَسَعَتِهَا، وَكَانَ بِإمكَانِ الإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ مِمَّنْ يَحْصُلُ بِهِم إِعْلاَنُ النِّكَاحِ وَتَمَامُ الفَرْحَةِ، عَلَى وَلِيمَةٍ مُخْتَصَرَةٍ في بَيتِهِ، أَو بَيتِ نَسِيبِهِ، فَيُرِيحُ وَيَسْتَرِيحُ، وَيَسْتَنُّ بِهَدْيِ الإِسْلاَمِ وَهَدْي سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ.
لَقَدْ نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اِلإسْرَافِ وَجَعَلَهُ مِنَ الكَبَائِرِ وأَعْمَالِ الشَّيَاطِينِ وإِخْوَانِهِم؛ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، وَقَالَ : ((أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيسَرُهُنَّ مَئُونَةً)) رواه أحمد، وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : ((عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟)) قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ غَاضِبًا مُسْتَنْكِرًا: ((عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ! كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ)) رواه مسلم في صحيحه، وَقَالَ الفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِي صُدُقِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ الله كَانَ أَوْلاَكُمْ بِهَا رَسُولُ اللهِ ؛ مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلاَ أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَي عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، أَلاَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُغَالِي بِصَدَاقِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَبْقَى لَهَا فِي نَفْسِهِ عَدَاوَةٌ، حَتَّى يَقُولَ: كَلِفْتُ إِلَيكِ عَلَقَ الْقِرْبَةِ أَوْ عَرَقَ الْقِرْبَةِ) رواه أهلُ السُّنن.
اللهُ أَكْبَرُ يا عِبَادَ اللهِ، أَينَ هَذَا المَهْرُ وَالتَّكَالِيفُ لأَفْضَلِ نِسَاءِ الأُمَّةِ عَلَى الإِطْلاَقِ؛ زَوْجَاتِ النبيِّ وَبَنَاتِهِ مِنْ مَبَالِغِ المُهُورِ وَتَكَالِيفِهَا التي تَعْلَمُونَهَا اليَوْمَ، والتِي أَثْقَلَتْ كَاهِلَ الشَّبَابِ، بَلِ الأُمَّةِ بأَسْرِهَا، وَأَلْصَقَتْهَا بالدُّيُونِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى العُزُوفِ عَنِ الزَّوَاجِ، وَالبَحْثِ عَنِ الطُّرُقِ المُحَرَّمَةِ، وَالسُّبُلِ المُلْتَوِيَةِ لإشْبَاعِ الشَّهَوَاتِ البَشَرِيَّةَ الفِطْرِيَّةَ.
وَيَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا الذِي يُرِيدُهُ الإِنْسَانُ إِلاَّ سَعَادَةَ بِنْتِهِ أَوْ أُخْتِهِ؟! فَكَيفَ تَكُونُ هَذِهِ السَّعَادَةُ إِذَا أَثْقَلَ كَاهِلَ زَوْجِهَا بالتَّكَالِيفِ وَالدُّيُونِ التي تَقُودُهُ إِلَى الفَقْرِ والإِفْلاَسِ في مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ؟!
وَإِنْ اَنْتَهَتْ عَقَبَةُ المَهْرِ بِسَلاَمٍ وَلاَ تَكَادُ فَلَنْ يَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنَ التَّكَالِيفِ الأُخْرَى المُتَمَثِّلَةِ في السَّكَنِ وَالفَرْشِ واَلتَّأْثِيثِ وَالمَلاَبِسِ وَالذَّهَبِ وَالمُجَوْهَرَاتِ التي يَكْفِي بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَالتِي قَدْ تَكْفِي أَحْيَانًا لِتَجْهِيزِ العَشَرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، فَاللهُ المُسْتَعَانُ.
نَاهِيكُمْ ـ عِبَادَ اللهِ ـ عَمَّا يُحْدِثُهُ بَعْضُ الفَتَيَاتِ في لَيلَةِ الزَّوَاجِ مِنْ تَغْيِيرٍ لِخَلْقِ اللهِِ تَعَالَى بالأَصْبَاغِ وَالأَلْوَانِ والنُّقُوشِ عَلَى الذِّرَاعَينِ وَالقَدَمَينِ، بَلْ حَتَّى العَوْرَاتِ أَحْيَانًا، وَالمَلاَبِسِ المُخْتَلِفَةِ التي تُشْرَى أَوْ تُسْتَأْجَرُ بآَلاَفِ الرِّيَالاَتِ لِلَيلَةٍ وَاحِدِةٍ فَقَطْ، وَالَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الفَتَاةُ وَحْدَهَا أَنْ تَمْشِيَ بِهَا إلاَّ بِفَتَيَاتٍ أُخْرَيَاتٍ مِنْ صِغَارِ السِّنِّ يَحْمِلْنَ زَوَائِدَهَا وَمُلْحَقَاتِهَا خَلْفَهُنَّ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَقَارِبِهِنَّ لاَ يَعْرِفُهُنَّ تِلْكَ اللَّيلَةِ؛ لِمَا أَحْدَثنَ في أُنْفُسِهِنَّ مِنْ تَغْيِيرٍ وَأَصْبَاغٍ وَأَلْوَانٍ، نَاهِيكُم عَنِ الذَّهَابِ للكوَافِيرَاتِ وَالنَّقَّاشَاِتِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، وَقَدْ تَمْكُثُ الفَتَاةُ وَحْدَهَا عِنْدَ بَعْضِهِنَّ نِصْفَ النَّهَارِ أَوْ أَكْثَرَ، وَاللهُ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَا يَجْرِي لَهَا، وَمَا تَتَعَرَّضُ لَهُ بَعْضُهُنَّ مِنِ انْتِهَاكَاتٍ للأَعْرَاضِ، أَو الْتِقَاطِ الصُّورِ وَهِي لاَ تَشْعُرُ، وَكَمْ في عَالَمِ الوَاقِعِ مِنَ القصَصِ المُبْكِي المُحْزِنِ، يَجْرِي كُلُّ ذَلِكَ تَقْلِيدًا للغَيرِ، أَوْ بِحُجَّةِ أَنَّ هَذِهِ لَيلَةُ العُمِرِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِنَ المُبَرِّرَاتِ اللاَّمَقْبُولَة شَرْعًا وَلاَ عَقْلاً.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ، وَمِنَ المُنْكَرَاتِ المُحَرَّمَةِ في الأَفْرَاحِ وَالتِي تُصَاحِبُ لَيلَةَ الزَّوَاجِ مَا يَحْدُثُ في قُصُورِ الأَفْرَاحِ مِنَ الغنَاءِ وَالطَّرَبِ وَاللَّهُوِ وَإِحْضَارِ الفِرَقِ الغِنَائِيَّةِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُحْيِي الفَرَحَ، وَهِي في الحَقِيقَةِ تُمِيتُهُ وَتَجْعَلُهُ مَأْوى للشَّيَاطِينِ؛ وَبَعْضُهُم يُحْضِرُ شُعَرَاءَ العَرْضَةِ ـ كَمَا يُسَمُّونَهُم ـ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، الذِينَ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَسُبُّونَ وَيَشْتُمُونَ، وَقَدْ يَتَعَرَّضُونَ لِغَيرِهِم أَو لِبَعْضِهِم بِفَاحِشِ القَوْلِ، ثُمَّ حَدّثْ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّا تُحْدِثُهُ تِلْكَ اللَّيَالِي مِنَ الإِحَنِ وَالبَغْضَاءِ والعَدَاوَاتِ وَالتَّهْدِيدَاتِ وَالتَّوَعُّدَاتِ.
وَهَذِهِ في الغَالِبِ لَيسَتْ بالمَجَّانِ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ المُطْرِبِينَ وَالرَّاقِصِينَ وَالمُغَنِّينَ لاَ يَحْضُرُونَ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ إِلاَّ بأَغْلَى الأَسْعَارِ، وَهَذِهِ عَقَبَةٌ مِنْ عَقَبَاتِ الزَّوَاجِ، وَسِلْسلَةٌ مِنَ العَرَاقِيلِ المَوْضُوعَةِ في طَرِيقَهِ؛ لإِرْضَاءِ النَّاسِ وَمُجَارَاتِهِم، وَقَدْ يَسْتَدِينُ بَعْضُهُم للوَفَاءِ بِهَا.
وَمَنْ لَمْ يُحْضِرْ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ جَلَبَ أَشْرِطَةَ الغِنَاءِ وأَجْهِزَةَ التَّسْجِيلِ وَمُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ، وَفَتَحَهَا عَلَى مِصْرَاعَيهَا، إِلَى أَوْقَاتٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ اللَّيلِ، وَقَلِيلَةٌ هِي الزَّوَاجَاتُ التي تَخْلُو مِنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ، وَتُسْتَغَلُّ في ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالدَّعْوَةِ إِلَيهِ.
وَإِنَّ المَرْءَ لَيَتَسَاءَلُ في تَعَجُّبٍ لاَ يَنْقَطِعُ: مَا الدَّاعِي لِكُلِّ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ؟! وَلِمَاذَا يَتَحَمَّلُ الإِنْسَانُ مِنَ الدُّيُونِ مَا لاَ يُطَاقُ، وَيُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ التي سَيُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ في المُحَرَّمَاتِ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ النَّاس الذينَ إِرْضَاؤُهُم مِنَ الغَايَاتِ التي لاَ تُدْرَكُ؟! وَلِمَاذَا يَسْتَنْكِفُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ هَدي الإِسْلاَمِ وَشِرْعَتِهِ في أَمْرٍ خَطِيرٍ كأَمْرِ الزَّوَاجِ، الذِي يُعَدُّ فَاتِحَةً وَنَواةً للأُسْرَةِ المُسْلِمَةِ؟!
رَوَى مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (صَوْتُ الشَّيطَانِ هُوَ الغِنَاءُ وَالمَزَامِيرُ وَاللَّهُو). وَقَدْ حَلَفَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ قَوْلِِ اللهِ تَعَالَى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، حَلَفَ باللهِ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّ لَهْوَ الحَدِيثِ هُوَ الغِنَاءُ. وَقَدْ قَالَ : ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ)) رواه البخاريُّ.
فَانْظُرْ ـ أَخِي بَارَكَ اللهُ فِيكَ ـ كَيفَ قَرَنَ النبيُّ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ العَظِيمَةِ ـ الزِّنَا وَلبْسَ الحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَشُرْبَ الخَمْرَ ـ بالمَعَازِفِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا سَتُسْتَحَلُّ آَخرَ الزَّمَانِ، كَمَا هُو وَاقِعٌ هَذِهِ الأَيَّامِ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَظِيمٌ عَلَى شِدَّةِ تَحْرِيمِ الغِنَاءِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ وَالمَعَازِفِ بِشَتَّى أَلْوَانِهَا وأَشْكَالِهَا، وَهِي مُحَرَّمَةٌ في كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي الزَّوَاجِ أَوْلَى؛ لأَنَّ الزَّوَاجَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ الجَلِيلَةِ التي تَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ، فَكَيفَ تُقَابَلُ بالمَعْصِيَةِ وَالنُّكْرَانِ؟! وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
إِنَّ الذِي أَبَاحَهُ الإِسْلاَمُ في الزَّوَاجِ هُوَ الضَّرْبُ بالدُّفِّ للنِّسَاءِ فَقَطْ، مَعَ الغِنَاءِ المُعْتَادِ الحَسَنِ الذِي لَيسَ فِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى مُحَرَّمٍ، وَلاَ مَدْحٌ لِمُحَرَّمٍ، وَلا مُصَاحِبَةٌ لآلاَتِ اللَّهْوِ المُحَرَّمَةِ، في وَقْتٍ مِنَ اللَّيلِ؛ لإِعْلاَنِ النِّكَاحِ، وَالتَّفْرِيقِ بَينَهُ وَبَينَ السِّفَاحِ، كَمَا صَحَّ بِذَلِكَ الخَبَرُ عَنِ النبيِّ ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ شَرْعِيَّةٍ؛ أَهَمُّهَا أَنْ يَكُونَ بَينَ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وأَنْ يَكُنَّ في مَعْزِلٍ عَنِ الرِّجَالِ، وأَنْ لاَ تَكُونَ أَصْوَاتُهُنَّ عَالِيَةً؛ لِمَا في ذَلِكَ مِنَ الفِتْنَةِ بِصَوْتِ المَرْأَةِ.
عِبَادَ اللهِ، وَمِنْ تِلْكَ المُحَرَّمَاتِ التِي تُصَاحِبُ الزَّوَاجَ بِكَثْرَةٍ خُصُوصًا في قُصُورِ الأَفْرَاحِ خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ مُتَطَيِّبَاتٍ مُتَبَرِّجَاتٍ وَهُنَّ في أَكْمَلِ زِينَتِهِنَّ وأَبْهَى حِلْيَتِهِنَّ، وَمُرُورُهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ، بَلْ خُلُوهُنَّ أَحْيَانًا مَعَ السَّائِقِينَ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ وأَمَرُّ؛ وَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى : ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)) رواه النسائيُّ وأحمدُ والدَّارِمِيُّ.
فَتَأَمَّلْ أَخِي ـ رَعَاكَ اللهُ وَحَمَاكَ ـ كَيفَ شَبَّهَ النبيُّ فِعْلَ المَرْأَةِ ذَلِكَ بالزِّنَا؛ لِشَنَاعَتِهِ وَقُبْحِهِ؛ لأَنَّهَا هَيَّجَتِ بالتَّعَطُّرِ شَهَوَاتِ الرِّجَالِ، وَفَتَحَتْ عُيُونَهُم التي هِي بَرِيدُ الزِّنَا.
لَقَدِ انْتَشَرَ بَينَ النِّسَاءِ ـ عِبَادَ اللهِ ـ في مُنَاسَبَاتِ الأَفْرَاحِ أَنْوَاعٌ مِنَ الأَلْبِسَةِ العَارِيَةِ وَشِبْهِ العَارِيَةِ، التِي تُبْدِي الأَيدِي كَامِلَةً والصُّدُورَ والظُّهُورَ، وَالضَّيِّقَةِ المُحَدِّدَةِ للأَجْسَامِ وَالعَوْرَاتِ، والمَفْتَوحَةِ مِنَ الصَّدْرِ أَو الظَّهْرِ، وَالمَشْقُوقَةِ مِنَ الأَسْفَلِ إِلَى الرُّكْبَةِ أَو أَبْعَدَ مِنْهَا، وَالرَّقِيقَةِ التي تَصِفُ البَشَرَةَ، وَالأَدْهَى مِنْ ذَلِكَ والأَمَرُّ البِنْطَالُ والجِنْزُ بأَشْكَالِهِ المَمْقُوتَةِ الخَطِيرَةِ، ومَا فِيهَا مِنْ تَشَبُّه بالكَافِرَاتِ وَالسَّافِلاَتِ.
بَلْ إِنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِذَا أَرَادَتِ الخُرُوجَ مِنْ بَيتِهَا لِمِثْلِ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ تَصَنَّعَتْ وَتَطَيَّبَتْ، وَلَبِسَتْ أَجْمَلَ مَلاَبِسِهَا وَكَأَنَّهَا هِي العَرُوسُ، في حِينِ إِنَّهَا في بَيتِ زَوْجِهَا لاَ تَلْبَسُ إِلاَّ أَرْدَى الثِّيَابِ، ولاَ تَبْدُو إِلاَّ بأَقْبَحِ هَيئَةٍ وَمَظْهَرٍ، وَهَذَا مِنِ انْتِكَاسِ المَفَاهِيمِ، وَنُقْصَانِ العَقْلِ وَالدِينِ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ المُصْطَفَى كَمَا في الصَّحِيحِ؛ لأَنَّ زَوْجَهَا أَوْلَى بِحُسْنِ تَجَمُّلِهَا وأَحَقُّ، وَلَكِنَّ العَجَبَ أَنَّهُنَّ لاَ يَجِدْنَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيهِنَّ في ذَلِكَ، لاَ مِنَ الأَزْوَاجِ وَلاَ مِنَ الأَقْرِبَاءِ.
لَقَدْ شَكَا بَعْضُ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ مَا يُوَاجِهْنَهُ في حَفَلاَتِ الزَّوَاجِ مِنْ لِحُومٍ عَارِيَةٍ وأَجْسَادٍ مَكْشُوفَةٍ بَادِيَةٍ وَعْوَراتٍ ظَاهِرَةٍ وَمَوْضَاتٍ فَاضِحَةٍ، بِحُجَّةِ أَنَّ لُبْسَهَا إِنَّمَا هُوَ بَينَ النِّسَاءِ فَقَطْ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ أَقْبَحُ مِنْ ذَنْبٍ، فَإِنَّ فَتَاوَى العُلَمَاءِ الأَجِلاَّءِ في بَيَانِ ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مَعْلَومَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَقَدْ تَوَعَّدَ النبيُّ أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)) رواه مسلمٌ وأحمدُ، واللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بُخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
وَكَمْ يَحْدُثُ في انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنْ تِلْكَ القُصُورِ مِنْ مُنْكَرَاتٍ تَتَفَطَّرُ لَهَا الأَكْبَادُ، وَتَرْتَعِدُ لَهَا الفَرَائِصُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى؛ حِينَ تَخْرُجُ المَرْأَةُ حَاسِرَةً ذِرَاعَيهَا، مُبْدِيَةً لِعَينَيهَا، أَو كَاشِفَةً لِوَجْهِهَا، أَو تَخْرُجُ بِتِلْكَ العَبَاءَاتِ المُطَرَّزَةِ المُزَرْكَشَةِ المَفْتُوحَةِ، وَرَائِحَةُ العُطُوُرِ تَعُجُّ مِنْهَا، أَمَامَ مَرْأَى الرِّجَالِ وَمَسْمَعِهِم الذِينَ يَنْتَظِرُونَ نِسَاءَهُم عَلَى أَبْوَابِ القَصْرِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، وَمِنْ أَخْطَرِ مُنْكَرَاتِ الأَفْرَاحِ مَا يَحْدُثُ في كَثِيرٍ مِنَ الزِّيجَاتِ وَالأَعْرَاسِ مِنَ الاخْتِلاَطِ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَو دُخُولِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَمَامَ النِّسَاءِ وَالنَّصَّةِ القَبِيحَةِ أَمَامَهُنَّ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الفِتْنَةِ مَا لاَ يَخْفَى؛ حَيثُ يَرَى الزَّوْجُ في لَيلَةِ فَرَحِهِ كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ وَهُنَّ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَبَرِّجَاتٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَينَهُنَّ وَلاَ شَكَّ مَنْ هِي أَفْضَلُ وأَجْمَلُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَحْسَنُ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ مَكَانَتِهَا في نَفْسِهِ وَتَلاعُبِ الشَّيطَانِ بِقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ، وَمِنَ الجَانِبِ الآَخَرِ يَرَى هَؤُلاَءِ النِّسْوَةُ الزَّوْجَ وَهُوَ في أَبْهَى زِينَتِهِ وَجَمَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَجْمَلَ مِنْ أَزْوَاجِ بَعْضِهِنَّ، فَتَقَعُ الفِتْنَةُ وَالعِيَاذُ باللهِ، نَاهِيكَ عَمَّا يَحْدُثُ في بَعْضِ قُصُورِ الأَفْرَاحِ مِنْ دُخُولِ الخَدَمِ الذِينَ لاُ يُؤْبَهُ بِهِم عَلَى النِّسَاءِ.
لَقَدْ حَرَّمَ الإِسْلاَمُ الاخْتِلاَطَ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِم رِجَالاً وَنِسَاءً؛ لِيَحْفَظَ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ مَكَانَتَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَلِتَسْلَمَ المُجْتَمَعَاتُ مِنَ الفَسَادِ وَالفُحْشِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَزْكَى للقُلُوبِ وأَطْهَرُ للنُفُوسِ.
أَسْأَلُ اللهَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا مِنَ الوُقُوعِ في الفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاْن يُجَنِّبَنَا المُوْبِقَاتِ، وأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا مِنْ أَدْرَان المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وأَنْ لاَ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرٌ، وَبالإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُم ولِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إِلَيهِ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَاشْكُرُوهُ، وَرَاقِبُوهُ وَلاَ تَعْصُوهُ.
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ مِنَ المُنْكَرَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ المُصَاحِبَةِ لِكَثِيرٍ مِنَ الأَفْرَاحِ السَّهَرُ إِلَى هَزِيعٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ اللَّيلِ، بَلِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ أَحْيَانًا، سِيَّمَا النِّسَاءُ، فَتَضِيعُ صَلاَةُ العِشَاءِ وَالفَجْرِ أو تُؤَخَّرُ عَنْ مَوْعِدِهَا، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ انْتِكَاسِ الفِطَرِ؛ حَيثُ السَّهَرُ فِيمَا لاَ ضَرُورَةَ إِلَيهِ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ الأَمْرَ سُوْءًا أَنَّ هَذَا السَّهَرَ إِنَّمَا هُوَ للنِّسَاءِ فَقَطْ، أَمَّا الرِّجَالُ فَيَنْصَرِفُونَ قَبْلَ مُنْتَصَفِ اللَّيلِ، فَيَذْهَبُ أَحَدُهُم، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ في قُصُورِ الأَفْرَاحِ إِلَى الفَجْرِ، لاَ يَدْرِي مَا يَفْعَلْنَهُ إِلَى آخِرِ اللَّيلِ، وَلاَ مَا يَعْرِضُ لَهُنَّ هُنَاكَ، وَقَدْ تَعُودُ مَعَ السَّائِقِ الخَاصِّ، أَو مَعَ سَيَّارَاتِ الأُجْرَةِ، وَكَمْ حَصَلَ بِسَبِبِ ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدَ لاَ تَخْفَى.
عبَادَ اللهِ، وَمِنَ المُنْكَرَاتِ الشَّنِيعَةِ التي بَدَأَتْ تَحْدُثُ في كَثِيرٍ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الزَّوَاجِ وَتَجَمُّعِ النِِّسَاءِ التَّصْوِيرُ؛ حَيثُ يَتِمُّ الْتِقَاطُ صُوَرِ النِّسَاءِ وَهُنَّ في أَبْهَى جَمَالِهِنَّ وَحِلْيَتِهِنَّ، وبَعْضُهُنَّ عَارٍ بِتِلْكَ المَلاَبِسِ المَفْضُوحَةٍ العَارِيَةِ الفَاتِنَةِ، وَبْعضُهُنَّ يَتَمَايَلْنَ وَيَرْقُصْنَ طَرَبًا، لاَ يَعْلَمْنَ بِذَلِكَ التَّصْوِيرِ. ثُمَّ تَنْتَقِلُ هَذِه الصُّوَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَرْبَابِ الفَسَادِ وَدُعَاةِ الرَّذِيلَةِ، الذِينَ لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاً وَلاَ ذِِمَّةً، يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الذِينَ آمَنُوا، فَيَسْتَخْدِمُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ في أَغْرَاضِهِمِ الدَّنِيئَةِ، وَيَسْتَغِلُّونَهَا للتَّشَفِّي مِنْ بَعْضِ مَنْ يَكْرَهُونَهُم، وَيَنْشُرُونَهَا في مَوَاقِعِ الإِبَاحِيَّةِ والفَسَادِ، كَمَا حَدَثَ مِِمَّا سَمِعْتُمْ بَعْضَهُ وَمَا خَفِي كَانَ أَعْظَمُ، بَعْدَ أَنْ يَتَفَنَّنُوا في تَغْيِيرِهَا وَتَبْدِيلِهَا لِتُوَافِقَ رَغَبَاتِهِم ومَقَاصِدِهِم القَبِيحَةِ.
وَفِي هَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَخْطَارٌ عَظِيمَةٌ تُهَدِّدُ الأُسَرَ وَالبُيُوتَ، وَتُؤْذِنُ بِفَتْحِ أَبْوَابِ الفَسَادِ والخَرَابِ الأُسَرِيِّ عَلَى مَصَارِيعِهَا، فَمَا هُوَ شُعُورُكَ ـ أَيُّهَا الأَبُّ أَو الزَّوجُ أَو الأَخُ ـ إِذَا الْتَقَطَ هَؤُلاَءِ السُّفَهَاءُ الذِينَ يَحْمِلُونَ آلاتِ التَّصْوِيرِ صُورَةً لِبِنْتِكَ أَو زَوْجَتِكَ أَو أُمِّكَ أَو أُخْتِكَ أَو إِحْدَى قَرِيبَاتِكَ لاَ سَمَحَ اللهُ، فَنُشِرَتْ وَتَلاقَفَتْهَا الأَيدِي، فَأَصْبَحَتْ مَثَارًا للفِتْنَةِ وَالعِيَاذُ باللهِ.
اللهُ أَكْبَرُ يَا عِبَادَ اللهِ، كَمْ حَصَلَ بِهَذا المُنْكَرِ مِنْ فَضَائِحَ وَمَفَاسِدَ، وَكَمْ تَهَدَّمَتْ بِهِ مِنْ أُسَرٍ، وَكمْ تَفَرَّقَ بِهِ مِنْ أَزْوَاجٍ، وَكَمْ سُفِكَ بِهِ مِنْ دِمَاءٍ، وَاغْتِيلَ بِهِ مَنْ كَرَامَاتٍ، وَظُلِمَ بِسَبَبِهِ مِنْ نِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ غَافِلاَتٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِنَّ وَمَا يُحَاكُ ضِدَّهُنَّ مِنْ أَرْبَابِ الفَسَادِ.
لَقَدْ تَفَنَّنَ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ المَغْضُوبُ عَلَيهِم وَالضَّالُِّونَ في تَطْوِيرٍ أَجْهِزَةِ التَّصْوِيرِ وآلاتِه وَوَسَائِلِهِ، كَيفًا وَكَمًّا وَنَوْعًا وَحَجْمًا، في صُورَةِ أَقْلاَمٍ صَغِيرَةٍ وأَجْهِزَةٍ لاَ تُرَى بِسُهُولَةٍ، وَفِي أَجْهِزَةِ الجَوَّالاَتِ التي أَصْبَحَتْ في مُتَنَاوَلِ أَيدِي النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالخَدَمِ وأَشْبَاهِهِمْ، وفي السَّاعَاتِ وَغَيرِهَا، وَبعْضُهَا يُسَجِّلُ أَفْلاَمَ الفِيدْيُو، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
وَقَدْ سُجِّلَتْ مِنْ بَعْضِ الأَعْرَاسِ وَالحَفَلاَتِ والأَفْرَاحِ أَفْلاَمُ رَقْصٍ وَغِنَاءٍ وَسَهَرَاتٍ، وَالْتُقِطَتْ صُوَرٌ لِنِسَاءٍ عَارِيَاتٍ، وَبِيعَتْ بَأغْلَى الأَثْمَانِ، وَتَنَافَسَ المُفْسِدُونَ الذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الذِين آمَنُوا في بَيعِهَا وَنَسْخِهَا وَتَوْزِيعِهَا وَنَشْرِهَا عَلَى شَبَكَاتِ الإِنْتَرْنِتْ وَغَيرِهَا مِنْ وَسَائِلِ الإِعْلاَمِ، فَصَارَتْ أَعْرَاضُ المُسْلِمِينَ فُرْجَةً وَفَاكِهَةً لِمَجَالِسِ السُّوْءِ، وَالضَّحِيَّةُ الأُوْلَى والأَخِيرَةُ هِي المَرْأَةُ المُسْلِمَةُ الغَافِلَةُ المُحَارَبَةُ مِنْ دُعَاةِ الفَسَادِ وأَرْبَابِ الرَّذِيلَةِ.
وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُم بالمِرْصَادِ، وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؛ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
أَلاَ فَلْتَعْلَمُوا ـ رَعَاكُمُ اللهُ ـ أَنَّ الزَّوَاجَاتِ والأَعْرَاسَ وَالمُنَاسَبَاتِ المُشْتَمِلَةَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ لاَ يَجُوزُ للإِنْسَانِ أَنْ يَحْضُرَهَا وَلاَ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ لأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِزَالَةِ المُنْكَرِ المَوْجُودِ بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ ذَلِكَ عَاجِزًا فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الذَّهَابُ إِلَيهَا، وَلاَ أَنْ يَأْذَنَ لِنِسَائِهِ بِحُضُورِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعَاصٍ وَمُنْكَرَاتٍ، وَمَا يُخْشَى عَلَيهِ مِنَ الفَسَادِ وَالفِتْنَةِ وَالإِثْمِ وَالوزْرِ.
كَمَا أَنَّ الوَاجِبَِ عَلَينَا جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ـ أَنْ نَعُودَ بِحَفَلاَتِ الزَّوَاجِ وَمُنَاسَبَاتِ الأَفْرَاحِ إِلَى هَدْي الإِسْلاَمِ وآدَابِهِ العَظِيمَةِ؛ فَنَقْتَصد فِيهَا، وَنَحْذَر مِنَ الإِسْرَافِ وَتَوَابِعِهِ، يَقْتَصِرُ الإِنْسَانُ عَلَى دَعْوَةِ أَقَارِبِهِ الخَاصِّينَ المَوْثُوقِ بِهِم، وَيَجْعَلُهَا في بَيتِهِ، وَيَمْنَعُ نِسَاءَهُ وَقَرِيبَاتِهِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى قُصُورِ الأَفْرَاحِ، وَيُلْزِمُهُنَّ ـ إِنْ ذَهَبَنْ إِلَيهَا ضَرُوْرَةً ـ بالحِجَابِ وَالحِشْمَةِ واللِّبَاسِ السَّاتِرِ المُحْتَشِمِ، والإِنْكَارِ عَلَى المُخَالَفَاتِ والمُنْكَرَاتِ المُتَفَشِّيَةِ فِيهَا أَو الخُرُوجِ مِنْهَا.
إِنَّ الأَمْرَ خَطِيرُ جِدُّ خَطِيرٍ، يَتَعَلَّقُ بأَعْرَاضِكُم وَنِسَائِكُم وَأُسَرِكُمْ وَبُيُوتِكُمْ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، فَإِمَّا أَنْ تَتَضافَرَ جُهُودُنَا يَدًا بِيَدٍ للقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الخَطِيرَةِ وَمُحَارَبَتِهَا وَإِنْكَارِهَا بِشَتَّى الوَسَائِلِ قَبْلِ انْتِشَارِهَا وَعُمُومِ فَسَادِهَا، وَإِمَّا الخِزْيُ وَالعَارُ وَالفَضِيحَةُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ أَجَارَكُمُ اللهُ وَحَمَاكُمْ.
كَمْ يَفْرَحُ الإِنْسَانُ ـ أَيُّهَا الإِخْوَةُ ـ وَهُوَ يَرَى كَثْرَةَ مُنَاسَبَاتِ الزَّوَاجِ سِيَّمَا في الإِجَازَاتِ الصَّيفِيَّةِ، مِمَّا يَعُودُ بِإِعْفَافِ الشَّبَابِ وَتَحْصِينِ الفَتَيَاتِ وَتَكْثِيرِ الأُمَّةِ، لَكِنَّ الفَرْحَةَ مَا تَلْبَثُ أَنْ تُصَابَ بالكَدَرِ وَهُوَ يَرَى غَالِبَ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ تُحَاطُ بِكَثِيرٍ مِنَ المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ والمُنْكَرَاتِ المُحَرَّمَةِ وَالتَّكَالِيفِ البَاهِضَةِ، والتِي تَزِيدُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَتَتَنَوَّعُ في أَشْكَالِهَا وأَلْوَانِهَا، مِمَّا يَقُودُ إِلَى الطَّلاَقِ وانْتِشَارِ الخِلاَفَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَتَهْدِيمِ البُيُوتِ والأُسَرِ؛ لأَنَّ هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ لَمْ تُبْنَ عَلَى القَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ تُحَطْ بِطَاعَةِ اللهِ وَشُكْرِهِ وَالاعْتِرَافِ بِفَضْلِهِ وَالبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ؛ وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ إِذْ يَقُولُ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109].
أََلاَ فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، والْزَمُوا صِرَاطَهُ المُسْتَقِيمَ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّةِ رَسُولهِِ الكَرِيمِ، تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيهِ في قَوْله عَزَّ مِنْ قَائلٍ عَلِيمٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الأحزاب:56]، وقَالَ : ((مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُولِِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِِ اللهِِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ...
(1/4709)
التبرج
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة, قضايا المجتمع
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سدّ أبواب الفساد. 2- أمر النساء بالحجاب. 3- تحريم التبرج. 4- شروط الحجاب الشرعي. 5- تحذير النساء من دعاة الفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الإسلام قد سدّ كل باب يفضي إلى الفتنة في المجتمع وبين الناس، فحرم الله عز وجل الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وقد استعاذ نبينا من الفتن في الدنيا فقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)). وأخبر بظهور الفتن قبل قيام الساعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ ـ وَهُوَ الْقَتْلُ ـ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ)) رواه البخاري. كما حذر من كثير من الفتن بعينها، ومن ذلك فتنة النساء، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ)).
ولسد هذه الفتنة ومنعها أمر الله النساء بالحجاب الشرعي، ونهاهن عن التبرج صيانة للمرأة وحفظا لها وللمجتمع من بعدها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. فأمر الله نبيه أن يأمر النساء عموما ويبدأ بزوجاته وبناته لأنهن آكد من غيرهن أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو ما تلتحف به المرأة فوق ثيابها، وهو يستعمل عادة إذا خرجت المرأة من دارها.
ومن ثمّ حرم الإسلام على المرأة التبرج، وهو إظهار الزينة، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. فالتبرج ـ وهو أن تبدي المرأة من زينتها وما يجب عليها ستره ـ مما تستدعي به شهوة الرجل.
ولقد بالغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنا والسرقة وغيرها من المحرمات، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلامِ فَقَالَ: ((أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا تَسْرِقِي وَلا تَزْنِي وَلا تَقْتُلِي وَلَدَكِ وَلا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ وَلا تَنُوحِي وَلا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)).
فحرم الإسلام التبرج، ووضع شروطا للحجاب، وأوجب على كل امراة منهن أن تلتزم بها، ومن ذلك أن يكون الحجاب شاملا لجسم المرأة كلّه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. فالواجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إذا أرادت الخروج، ولا يظهر من زينتها شيء للرجال الجانب.
والشرط الثاني: أن لا يكون لباس المرأة زينةً في نفسه، عليه من الألوان والزخارف والأشكال ما يلفت أنظار الرجال.
والشرط الثالث: أن يكون غليظا لا يشفّ ما تحته من جسد المرأة، وفي ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)).
فالمرأة تلبس ثيابا ولكنها في الحقيقة هي عارية؛ لأنها تبين شيئا من جسدها وشعرها وساقيها، فهذا الصنف من النساء مع كونها لابسة للثياب إلا إنها عارية ملعونة لعنها النبي وطردها من رحمة الله.
الشرط الرابع: أن يكون حجاب المرأة وسيعا غير ضيّق فيبيّن أعضاء جسم المرأة؛ لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيّق فإنه وإن ستر لونَ البشرة فإنه يصف حجم جسم المرأة، عَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسِ الْقُبْطِيَّةَ؟)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ((مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلالَةً؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا)).
الشرط الخامس: أن لا يكون مبخَّرا معطرا، وذلك لأحاديث كثيرة وردت عن النبي تنهى النساء عن الخروج متعطِّرات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة مرت به تعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيّبتِ؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله يقول: ((ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل)).
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس المرأة لباس الرجل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ. فيعلم بذلك أنه لا يجوز أن يكون زيّ المرأة مشابها لزيّ الرجل، فلا يحل لها أن تلبس رداءه ولا إزاره ولا ما يلبسه الرجال مطلقا وإلا دخلت في لعن النبي.
الشرط السابع: أن لا يشبه لباس المرأة لباس الكافرات، لما تقرّر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين رجالا ونساء التشبّه بالكفار، سواء في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)). فلا يجوز للنساء المسلمات أن يلبسنَ ما يعرض في دور الأزياء الغربيّة من العبايات والفساتين والثياب التي يلبسها الكفار.
الشرط الثامن: أن لا يكون لباسَ شهرة، وهو كلّ ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس وهو غير معروف لديهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا)).
فالواجب على كل مسلم أن يحقّق كل هذه الشروط في لباس زوجته وبناته لقوله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)) ، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: ((تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)).
فإذا علمت النساء أنهن أكثر أهل النار يوم القيامة فلا بدّ أن يتّقين الله عز وجل في دينهن، ولكن نجد أن غالب النساء في هذا الوقت لا تهتمّ بأمور الدين، بل يَرَين الحجاب قيدًا وتشدّدًا وتزمّتا، ووقعن فريسة للغزو المنحلّ الذي يشاهدنَه من خلال الفضائيات من صور الممثلات ومن حياة الغرب الكافر، وما يسمعنه من دعاة الضلال الذين يتحدثون باسم الإسلام عن الحجاب ثم هو يدسّ السم في العسل، فيغري النساء بحجاب هو أقرب إلى لباس الفاسقات، ثم يطلقون عليه الحجاب الشرعيّ، والسبب في ذلك بُعد الرجال والنساء عن تعلم شرع الله، وضعف قوامة الرجل المسلم على أهله؛ حيث صار الأمر والنهي بيد النساء لا بيد الرجل، فالله المستعان على تغير الفطر.
وهناك مخالفات تقع فيها النساء يوميّا وربما مرات عديدة وهي تعلم أو لا تعلم أن ما تفعله مخالف للشرع، ومن ذلك خروج النساء متعطِّرات وبكامل زينتها إلى خارج المنزل، سواء للزيارات العائلية أو الأسواق، وهذا من دواعي نشر الفتنة بين الناس، فتشدّه رائحة العطر وشكل الزينة فينته للمرأة، وربما يقع ما لا يحمد عقباه، وربما تساهلت المرأة بالخروج متعطرة أو بزينتها أو قد رمت بشيء من حجابها أمام ابن عمها أو ابن خالها أو أخ زوجها، وزجت أختها بحجة أنهم من العائلة، وهذا لا يجوز أبدا، قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ، وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: ((الْحَمْوُ الْمَوْتُ)).
وربما ـ عباد الله ـ أن الزوجة تهمل في التزيّن لزوجها في بيتها، وتكثر من الزينة للخروج من المنزل، وهذا محرّم، فالزينة كما وردت في الآيات هي بالأصل للزوج وليس لغيره، كما أن كثيرا من النساء إذا ذهبن لزيارة أقاربهن من النساء فقبل الخروج والذهاب يقوم أهل البيت بتبخير وتعطير الضيوف من النساء، وهذا منكر عظيم.
(1/4710)
الخشية من الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
13/5/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغفلة عن أسس الاعتقاد وأصول التوحيد. 2- الخشية من الله صفة الملائكة والنبيين وعباد الله الصالحين. 3- لا ينبغي الخشية إلا من الله تعالى. 4- بطلان مقولة: "أخاف الله وأخاف ممن لا يخاف الله". 5- السبيل إلى كفاية الله تعالى. 6- ثمار الخشية من الله. 7- العلم من أسباب الخشية من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: اتقوا الله عبادَ الله، واذكروا أنّكم موقوفون بين يديه، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111].
أيّها المسلمون، في غَمرةِ الاغترار بالحياة الدنيا والركونِ إليها والاشتغال بمطالبِها ينسى فريقٌ من الناسِ مَا لا يصحّ له نسيانُه، ويَغفَل عمّا لا تجوز لَه الغفلةُ عنه مِن أسُسِ الاعتقاد وأصولِ التوحيد وقواعدِ الإيمان، فإذا بِه حين تُحدِق به الأخطار وتُطلُّ المحن وتُرتَقَب الخطوبُ قد ملَك عليه أمرَه خوفٌ يصرِفه عن السعيِ فيما يصلح به شأنُه وتطيب به حياتُه وتحسن به عاقبتُه، وخَشيةٌ من مُستقبلٍ لا يَدري ما هو مخبُوء له فِيه، وتَوجُّسٌ مِن آتٍ لا يتبيَّن وجهَه ولا يتَحقَّق صورتَه ولا يدرك مآله ومنقلبَه، فيَنتهي به الأمرُ إلى الخشيةِ ممّن لا تصحُّ الخشيةُ منه، وإلى الخوف ممن لا يجوز الخوفُ منه، وكيف يصحّ أن ينسى المؤمِن توحيدَه لله وإيمانَه به وهو يتلو كتابَ ربّه بالغداةِ والعشيّ وقد بيَّن فيه سبحانَه هذا التوحيدَ وحسَم كلَّ موادِّ الإشراكِ به، فأمره أن لا يخافَ أحدًا إلا الله، وأن لا يخشَى سِواه، فقال سبحانَه: إِنَّا أَنزَلْنَا ?لتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ?لنَّبِيُّونَ ?لَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَ?لرَّبَّانِيُّونَ وَ?لأَحْبَارُ بِمَا ?سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـ?بِ ?للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ ?لنَّاسَ وَ?خْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَـ?تِى ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44]، وقال عز من قائل: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، أي: يخوِّفُكم أولياءَه ويوهمكم أنّهم ذوو بأس شديد لا قِبَل لكم به، فإذا سوّل لكم ذلك وأَوهَمَكم به فتوكّلوا عليّ والجؤوا إليّ؛ فإني كافيكُم وناصركُم عليهم.
ولمّا كانت هذه الخشيةُ مِن أعلى المقامات فليس عَجبًا أن تكون صفةَ الملائكةِ المقرَّبين الذين قال الله فِيهم: يَخَـ?فُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، وأن تكونَ صفةَ النبيِّين عليهم صلواتُ الله وسلامه أجمعين حيثُ قال سبحانه: ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيبًا [الأحزاب:39]، وأن تكونَ أيضًا صفةَ خاتم النبيين محمّد الذي صحّ عنه عليه الصلاة والسلام قولُه: ((فوالله، إني لأعلمهم بالله وأشدُّهم له خشيةً)) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم: ((والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله أعلمَكم بما أتّقي)) ، وأن يكون أيضًا مِن صفاتِ عُمَّارِ مساجدِ الله الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
عبادَ الله، إنَّ الخشيةَ لا يَصِحّ أن تكونَ إلاّ مِن الله وحدَه؛ لأنّه سبحانه المدبِّر لأمور المخلوقاتِ كلِّها، وهو الحيُّ الذي لا يموتُ، القيُّوم الذي تَقوم به الخلائِقُ كلُّها وتَفتقِر إليه، أمّا غيره فهو عاجِزٌ فَانٍ لا يملك لنفسِه نَفعًا ولا ضَرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، قلبُه بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبه كيف يشاء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما [1] ، فجميع الخلائقِ ليسوا في الحقيقةِ غيرَ وسائط لإيصال ما قدَّره الله من أقدارٍ، يبيِّن ذلك أوضحَ بيان قولُ رسول الله في وَصيَّته المشهورة لابن عمِّه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: ((يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظِ اللهَ يحفظْك، احفظِ اللهَ تجده تجاهَك، إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستَعِن بالله، واعلم أنَّ الأمّةَ لو اجتمعَت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لَك، ولَو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عَليك، رفِعَت الأقلام، وجفَّت الصحف)) أخرجه الترمذي في جامعه وهذا لفظه وأحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح [2].
ولذا كان من الخطَأ البيِّن قولُ من يقول: "إني أخاف الله وأخاف أيضًا ممّن لا يخاف الله"، فإنّ هذا قولٌ باطِل لا يجوز كما قال أهلُ العلم، بل على المؤمن أن يخاف الله وحدَه، وأمّا من لا يخاف الله فإنّه أذَلّ مِن أن يُخشى، فهو ظالم من أولياءِ الشيطان، والخوف منه قد نهى الله عنه، وأمّا الخشية ممّا قد يصدُر عنه من أَذى فإنه لا يكون إلا بتسلِيط الله له، وإذا أرادَ الله دفعَ شرِّه دَفَعَه؛ لأنَّ الأمرَ كلَّه له سبحانه، وإنما سُلِّطَ على العبد بما اجتَرحه من السيّئات، فإذا خشِيَ العبد ربَّه كمالَ الخشية واتّقاه وتوكَّل عليه وأناب إليه واستَغفره كفاه شرَّ كلِّ ذي شرّ، ولم يسلِّط عليه أحدًا، فإنّه عز وجلّ قال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه، وقال: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?نًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174].
ألا وإنَّ ثمارَ هذه الخشيةِ ظاهرة وآثارها بيِّنة، فإنها باعِثٌ على إخلاصِ العمل لله تعالى والاستِدامةِ على ذلك، وطريقٌ إلى العِزَّة التي كتَبَها الله لعبادِه المؤمنين، وسَبيلٌ إلى صيانةِ النّفس عن التردِّي في مواطنِ الذّلِّ، وداعٍ إلى التحلّي بمحاسِنِ الأخلاق والنُّفرة من مساوِئها، وسببٌ لبلوغ السّعادة في الحياة الدنيا، وحامِلٌ على الأمنِ من الفزع الأكبر وإلى الفوزِ بالجنّة والنّجاة من النار، وصدق الله إذ يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذَنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم في كتاب القدر (2654).
[2] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/623)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وليِّ الصالحين، أحمَده سبحانَه يحِبّ من عباده المتوكِّلين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام المتَّقين وخاتم النبيِّين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آلِه وصحبه أجمَعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ في قول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28] دلالةً ظاهِرة على أثَر العلم بالله في بَعثِ الخشية منه في قلوب العلماء به سبحانَه، فكلّما كان المرءُ أعلمَ بالله كان أعظمَ خشيةً منه، ونقصان الخوف منه ـ كما قال الإمامُ الحافظ ابن القيم رحمه الله ـ إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرفُ الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتدّ حياؤه منه وخوفه وحبُّه له، وخوف الخاصّة أعظم من خوف العامّة، وهم إليه أحوَج، وهو بهم أليَق ولهم ألزَم. انتهى كلامه.
فإذا تبيَّن أثرُ العلم في تربيةِ الخشية ـ يا عبادَ الله ـ كان هذا مدعاةً إلى كَمالِ العنايةِ به وتمامِ الرعاية له وشدّةِ الحرص عليه والسعي إلى بلوغ أعلى المراتب فيه.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعملوا على كلّ ما تبلغون به رضوان الله، واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الورى، فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4711)
نفحة الهداية إلى الإيمان
الإيمان
الولاء والبراء, فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
1/4/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم نعمة الإسلام والإيمان وكيفية استشعارها. 2- واقع الحضارة الغربية وإفلاسها الروحي. 3- من ثمار الإيمان الصادق: المحبة في الله، بغض الكفر وأهله. 4- كيف تستشعر لذة الإيمان؟ 5- من مظاهر الارتياب في الإيمان في عصرنا: الانبهار بالكفر وأهله، إنكار النصوص الثابتة بالهوى. 6- خطورة الركون إلى هؤلاء المرتابين وأثره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون [الحجرات:16-18].
إن نعمة الإيمان والهداية إلى الإسلام أعظم نعم الله علينا نحن معاشر المؤمنين وعلينا أن نعرف قدر هذه النعمة ونؤدي حق شكرها علينا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، لقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين بهدايتهم إلى الإيمان فقال جل من قائل: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.
وامتن الله تعالى على صفوة خلقه وخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد امتن عليه أيضًا بالهداية إلى الإيمان وامتن عليه بأن جعله أعظم سبب للهداية إلى الإيمان، فقال جل من قائل مخاطبًا نبيه ومصطفاه: ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52]، أي: وإنك ـ يا محمد ـ لتهدي إلى صراط مستقيم هداية إرشاد وبيان، وأما هداية الإعانة والتوفيق فهي بيده سبحانه وتعالى.
وقال أيضًا لنبيه ومصطفاه: ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى [الضحى:6-8]، فامتن الله تعالى على نبيه ومصطفاه بالهداية إلى الإيمان وله المنة سبحانه على كل ذلك.
فالهداية إلى الإيمان مصدرها رب العالمين، هو الذي يوفق ويهدي من يشاء، بيّن صراطه المستقيم وفسر معاني دينه القويم وهدي من شاء من عباده إلى اتباع صراطه المستقيم، والتمسك بدينه القويم فمصدر الهداية هو رب العالمين سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرع لنا أن نطلب منه ذلك كل يوم: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]، نستعين بك على الهداية والعبادة، الهداية إلى أي شيء؟ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة:5-7], ولن تعرف قدر هذه النعمة عليك ـ أيها المسلم ـ نعمة الإيمان حتى تتأمل حال المحرومين منها، كيف يعيشون في ضلال فكري وخواء نفسي وانحراف في التصورات وما يترتب على ذلك من اضطراب في الحياة ومن ضنك وشقاء وكبد في هذه الحياة، فإنهم يعيشون في شقاء داخلي شقاء في داخل النفس وكبد وتعب ونصب في داخل النفس والروح، فماذا يفيدهم حينئذ تنعم الجسد؟! إنهم محرومون يعيشون في شقاء وفي نصب وفي كبد.
لن تعرف قدر نعمة الله عليك نعمة الإيمان حتى تتأمل حال هؤلاء، ومن عجائب القرآن أنه في سياق الأمر بطلب الهداية من رب العالمين إلى صراطه المستقيم حذر من أهل السبل الأخرى وخص منهم بالذكر اليهود والنصارى، اليهود الذين سماهم القرآن المغضوب عليهم، والنصارى الذين سماهم القرآن الضالين، فحذر من أهل السبل الأخرى وخص منهم اليهود والنصارى، وما ذاك إلا لأن اليهود والنصارى هم أبرز من خالف صراط الله المستقيم، اليهود سماهم الله المغضوب عليهم انحرفوا عن عبادة الله الواحد الأحد عن علم وبصيرة وهذا شأنهم دائمًا يحرفون الكلم عن مواضعه ويزيفون العقائد ويقتلون الأنبياء وأتباع الأنبياء وينشرون الفساد في الأرض ويشعلون الحروب والفتن، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين [المائدة:64]. ولذلك استحقوا الغضب الإلهي وسموا في القرآن المغضوب عليهم.
والنصارى أيضًا ضلوا عن عبادة الله الواحد الأحد وانصرفوا عنه إلى عبادة ثلاثة أقانيم وما من إله إلا إله واحد، فضلوا عن عبادة الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وماذا يفيد العبد تطور الحياة الدنيا كلها إذا هو لم يعرف ربه وخالقه ولم يهتد إلى عبادته؟!
من تأمل حال اليهود والنصارى فإنه يدرك قدر نعمة الله عليه نعمة الإيمان، ولا أعني حال اليهود والنصارى من جهة التطور المدني ووسائل الحياة فقد بلغوا في ذلك شأنًا كبيرًا لكن كل ما بلغوه من تطور في وسائل الحياة الدنيا فإنه إنما يخدم الجسد وليس الروح وإنما يتعلق بظاهر الحياة الدنيا، أما الحقائق حقائق الحياة الدنيا فلا يعلمون عنها شيئًا ولذلك هم في تطورهم وفي علومهم التي بلغوها التي هي مبلغ علمهم كما وصف ربنا وخالقنا حين قال سبحانه: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً [الفرقان:44]. كل تطورهم هذا الكبير الهائل المذهل لخدمة الجسد، فأين ذهب نصيب النفس والروح؟! أين ذهب نصيب القلب؟! هل علموا من حقائق الدنيا شيئًا؟! إنهم لا يسمعون ولا يعقلون، نعم بعض ضعفاء الإيمان قد يظنون أنهم يسمعون ويعقلون، أنهم يفكرون، أنهم يعلمون، يقول هؤلاء ضعفاء الإيمان: ما بلغ أولئك ما بلغوا من تطور كبير في الحياة الدنيا إلا بعد أن طوروا علومهم وتفكيرهم، ولكن أي علوم؟ وأي تفكير؟ يجيب ربنا عز وجل بقوله: يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [الروم:7]. يا لدقة عبارات القرآن الكريم ودقة مصطلحاته ومدلولاتها! ظاهرًا من الحياة الدنيا ، إذا تأملت بعين البصيرة كل تلك الإنجازات الهائلة الضخمة الكبيرة التي بلغها الغرب من علوم وفكر وصناعات ووسائل مدنية تجدها كلها تدور حول قشرة الحياة التي سماها القرآن ظاهرًا من الحياة الدنيا، أما اللب فلم يصلوا إليه، أعماق النفس لا يعرفون عنها شيئًا، علوم القلب هم من أجهل الناس بها، علوم العقائد والأديان هم أضل الناس عنها، بل النفس محرومة عندهم والقلب خراب والعقائد يباب على رغم كل ذلك التطور الكبير في وسائل الحياة المدنية، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
فاعرفوا ـ يا معاشر المسلمين ـ قدر هذه النعمة التي تتفيؤون ظلالها وتحظون بها بينما حُرم منها أكثر الخلق على وجه البسيطة، وأدوا حق شكر هذه النعمة لرب العالمين الذي هداكم للإيمان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال سيدنا رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) متفق عليه [1].
وصدق رسول الله ؛ إن العبد إذا صح إيمانه فإن حب الله ورسوله يتملك قلبه وجوارحه كلها وتنشأ من ذلك ظاهرتان من ظواهر الإيمان:
الظاهرة الأولى: أن يحب في الله فإن كل محبوبات المحبوب محبوبة للمحب، من أحب الله أحب كل ما يحبه الله وأحب كل من يحبه الله، وأحب الخلق إلى الله نبيه ومصطفاه سيدنا محمد ؛ ولذلك فإن كل من أحب الله أحب نبيه ومصطفاه محمد وأحب كل من يحبهما، إنما يحبه لأنه يحب الله ورسوله، هذا هو معنى الحب في الله.
والظاهرة الإيمانية الأخرى: كره الكفر وأهله فإن العبد إذا صح إيمانه بالله ورسوله تجده يمقت الكفر ويمقت أهل الكفر، فإن الإيمان يرفعه إلى مرتبة أعلى وأسمى فيشعر المؤمن الصحيح الإيمان بعلو إيمانه على الكفر وبعلوه هو بإيمانه على أهل الكفر، والمؤمن إذا بلغ هذا القدر من قوة الإيمان ووضوح التصورات فإنه يجد للإيمان لذة وحلاوة كما أخبر بذلك النبي المصطفى ، أما إذا لم يكن بهذه المثابة فإنه يفقد تلك اللذة وتلك الحلاوة لإيمانه بل قد لا يجد طعمًا لإيمانه بل قد يتردى فريسة للارتياب وحينئذ ففي إيمانه نظر, فإن الله يقول إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا [الحجرات:15].
فالارتياب يقضي على الإيمان إما دفعة واحدة وإما رويدًا رويدًا حسب درجة ذلك الارتياب، ومن أسوء مظاهر هذا الارتياب في عصرنا الانبهار بالكفر وأهله خاصة وأننا نعيش في زمان لهم القوة والسلطة فيه والتطور الصناعي والمدني لهم، ولذلك فقد ينبهر بهم ضعفاء الإيمان وقد يكون من هؤلاء المنبهرين من يلبس ثوب الفكر وثوب الأدب وربما ثوب الدعوة والإصلاح زورًا ودجلاً وكذبًا وبهتانًا، منبهرون بالكفر وأهله لما يرون من تطور هائل كبير لكنه حقير في حقيقته لأنه لم يتعد قشرة الحياة الدنيا ولم يتعد الجسد إلى الروح، ومن أمثلة هذا الانبهار هؤلاء المنبهرون بالكفر وأهله تجدهم يبذلون المحاولات اليائسة البائسة المستميتة لتلفيق إسلام عصري إفرنجي يمكن أن يلتقي بأحكامه ومبادئه بتصورات أهل الكفر والغرب، ونضرب مثلاً لذلك: قبل فترة قريبة من الزمن نشر كاتب في جريدة الشرق الأوسط بحثًا عن حكم الردة، فأنكر ذلك الكاتب المرتاب أن يكون إسلامنا قد أمر بقتل المرتد بينما سيدنا رسول الله يأمرنا بقوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري وأصحاب السنن [2] , والعلماء المحققون يقولون: "ما اتفق على روايته الشيخان البخاري ومسلم فمقطوع بصحته ونجزم بأن رسول الله قاله، وما انفرد به أحدهما إذا شاركه في روايته غيره من أصحاب السنن والمسانيد المشهورة المعتبرة لدى العلماء فكذلك مقطوع بصحته ونجزم بأن سيدنا المصطفي تلفظ به". فهذا الحديث كذلك نجزم بأن سيدنا رسول الله قد قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)) ، ولكن ذلك المرتاب وجد المجتمع الغربي يعيش في فوضى دينية قد يسميها هو ويسمونها هم حرية دينية، فاستنكر أن يكون في إسلامنا ما يخالف تلك الفوضى الدينية، ولم يفرق هذا المرتاب الخبيث بين حالنا وحالهم ومجتمعنا ومجتمعهم، المجتمع الغربي إذا أخذ بالحرية الدينية والفوضى الدينية فإننا نتفهم أسباب ذلك لأنه لم يجد من الدين إلا مجموعة من الخرافات والخزعبلات الكنسية التي قدمتها لها الكنيسة النصرانية على أنها دين الله وهي خرافات وخزعبلات من اختراع القسس والرهبان، فلم يقتنعوا بتلك الخرافات في قرارة نفوسهم وفي قلوبهم، فكانت ردة الفعل لدى المجتمع الغربي الأخذ بالحرية الدينية، فوقعوا في فوضى دينية وعقائدية وفكرية لا نظير لها لأنهم لم يجدوا البديل الصحيح لتلك الخرافات والخزعبلات الكنسية. أما نحن وقد أنعم الله علينا بالهداية إلى الدين الحق بالهداية إلى الإسلام الذي نزل علينا بحقائق الأشياء بالعقيدة الحقة الصحيحة القوية الواضحة البرهان وبهذه الشريعة المتماسكة، فكيف نسوي بين حالنا وحالهم؟! هذا المرتاب المسكين يريد أن يعيد للكفر وأهله اعتبارهم ومكانتهم فيسوي بين أهل الحق وأهل الباطل، وربما أراد هدفًا أبعد من ذلك، يريد أن تفتح الأبواب على مصاريعها للعلمانيين والبعثيين وأمثالهم من الزنادقة والملحدين حتى يؤدوا وظيفتهم ويفعلوا فعلهم في مجتمعات المسلمين من تخريبها وتدميرها من الداخل، من تخريب العقائد وتدمير الإيمان ونقائه وصفائه في نفوس المؤمنين، من التشويش على عقائد المسلمين بحرية تامة، ربما كان هذا الذي يرمي إليه هذا المرتاب وأمثاله من المندسين بين صفوفنا من الذين فتحنا لهم صدورنا فاستحققنا بذلك عقوبة الله عز وجل لأننا عصيناه حينما أمرنا أن لا نتخذ أمثال هؤلاء بطانة من دوننا نأتمنهم على مجتمعاتنا وعلى مصالحنا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم ـ أيها المسلمون ـ بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].، وقال ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3].
اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وأهلك الزنادقة والكافرين...
[1] صحيح البخاري (16)، صحيح مسلم (43).
[2] صحيح البخاري (6922)، سنن أبي داود (4351)، سنن الترمذي (1458) وقال: "صحيح حسن"، سنن النسائي (4059)، سنن ابن ماجه (2535) كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4712)
الصيف بين ألم وأمل
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, مخلوقات الله
عبد الله بن عايض الحاج عسيري
سودة عسير
جامع آل الحاج
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت. 2- الدور الرائد الذي تقوم به المراكز الصيفية. 3- الصيف ألم وأمل. 4- الوصية والتذكير بأن حر الصيف من فيح جهنم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، خطبتنا عن الصيف ما بين أمل وألم.
نعم يا أحبّتي، نحن نتقلّب في نعم العيش الوافر، فاحمدوا الله على ما أعطاكم من نعمه، وأصبغها عليكم ظاهرة وباطنة. احمدوا الله يا أهل الحمد، مجّدوا الله يا أهل المجد لله. نحن ـ يا عباد الله ـ في ظل دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام حينما قال: ربِّ اجعل هذا البلد آمنًا وارزق أهله من الثمرات.
فيا رب بك أستجير ومن يجير سواك فأجب فقيرًا يحتمي بِحماك
يا رب قد أذنبت فاغفر زلتي أنت المجيب لكلّ من ناداك
يا أحبتي، إنه يمتزج على القلب ويهيمن على الذهن ألم وأمل، ألم لما وصل إليه الحال وانتهى إليه المال من قلوب متباينة في الوعي وأنفس متشنّجة في الفهم، فوقتنا ـ بارك الله فيكم ـ لم ننظّمه، فأصبح لا يعرف للزمن قيمة ولا للحياة ثمن. وأمل في صحوة القلوب من غفلتها واستفاقة العقول من سباتها وانتباهة للمشاعر من غوايتها، فعلينا جميعا المبادرة إلى ترميم حبال الوقت الذي يذهب منا سدى وإقامة جسور الهمّة وتشييد صروح الحق واجتماع الشعور والمشاعر لكي تلتقي الأرواح والأجساد معًا، عن نضلة بن عبيد الأسلمي قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). وهنا مصبّ خطبتنا حينما قال : ((عن عمره فيم أفناه؟)). العمر وهو الوقت. عن العمر فيم أفناه؟ هل أفناه بأعمال صالحة أم أفناه في أعمال سيئة والعياذ بالله؟
عباد الله، إن الدين والشريعة ودستورها وهو كتاب الله تعالى يطالبوننا بالمحافظة على الوقت والزمان، فالزمان هي الليالي والأيام والشهور والسنين، فهنيئًا لمن حافظ عليها بتقوى الله والأعمال الصالحة، ويا حسرة على من فرّط فيها، فهو الخاسر الذي قال الله تعالى عنه يوم القيامة: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ [الفرقان:27]، وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]. لماذا يعض على يديه؟ لأنه أضاع الوقت في الخسران والضياع والعياذ بالله.
يا عباد الله، إن الوقت سريع، قيمة نبيلة, وشعيرة عظيمة, سريع التقضّي منا، أبيُّ التأنّي. ولأهمية الوقت انظروا كيف أقسم الله عز وجل به، فقال تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وقال: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1، 2]، وقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]، وقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1، 2]. الوقت ـ يا حبِيبي ـ هو عمرك وحياتك، فاعمل فيه ما يقربك من ربك، وإلا فالوقت يقطع والعمَل مجزيّ به.
الوقت أنفس ما تعنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
فكم في هذه الحياة من يفرط في الوقت وليته يفرط في جزء منه، لا والله، إنه يفرط فيه كله، والمثال على ذلك: تقبل علينا إجازة وعطلة الصيف، ماذا نرى من المدرسين والطلاب وكبار السن إلا الخمول والنوم طوال النهار؟! ألم يعلموا أنهم مسؤولون أمام الله عن سبات نومهم طوال هذه العطلة؟!
نقول: إن الدولة ـ بارك الله فيها ـ عملت مراكز صيفية لمثل ذلك، وتلك المراكز كاضة بالعمل الدؤوب من الصباح حتى بعد الظهر، ومن الظهر حتى الليل؛ وذلك حرصًا منها ـ رعاها الله ـ أن لا تخرج جيلاً كسولاً لا يعتمد على نفسه في شيء. فماذا عليك ـ أيها المدرس ـ إلا العمل في مثل هذه المراكز، راجيًا الثواب من الله تعالى لتنشئة جيل يعرف الله وحق الله عليه. فكم لك من الثواب، ألا تعلم ـ أيها المدرس ـ إن كنت مخلصا أن الملائكة في السماء والحيتان في الماء والطير في الهواء تستغفر لك؛ لأنك معلم البشرية بنور العلم. وكم رأينا من الطلاب المحافظين على أوقاتهم في العطلة الصيفية أو غيرها، رأينا وسمعنا أجيال بعد صلاة الصبح مباشرة يحضرون الندوات مع المشايخ بعد الصلاة حتى شروق الشمس، وبعدها يذهب هذا الطالب إلى المركز الصيفي القريب منه من الساعة السادسة صباحا حتى الظهر، ومن الظهر حتى الليل، إشراف تربوي جيد على هذه المراكز من قبل وزارة المعارف. وهذا ما يرمي إليه ولي أمر الطالب حرصًا على ابنه من الخمول طيلة العطلة الصيفية.
عباد الله، إن الألم والأمل اشتركا في الحروف ولكنهما يختلفان في المعنى, فشتان بين ألم يقطع الأواصر ويباعد عن الحق ويقرب من البا طل والضلال, وأمل تشرق به النفس وتلتذ بحروفه الألسن وتعلو به الحياة همةً ورقيًا, وعلى هذا ـ يا أحبتي ـ فلا يجتمع الحسن والقبيح, ولا النور ولا الظلام, ولا الألم ولا الأمل, إذا الصيف ألم وأمل في فراغه وعمله وقضائه وانقضائه وفي حره واعتداله.
يا أحبتي، الصيف أمل للمتزوجين لبناء حياة جديده، وأي حياة تبنى على غير طاعة الله فليست بحياة آمنة مستقرة. فحذار حذار ـ أيها المتزوجون ـ أن تكدروا صفو عيشكم وصفو حياتكم بالاتجاه إلى المحرمات وسماع المغنين والمغنيات وتنشئة جيل على غير طاعة الله عز وجل. يا أحبتي، الصيف أمل لعابد مشرق الوجه, يعيش عيشة ناضرة إلى ربها ناظرة، ويتشوق إلى نفحات الليل وقد أزهرت نجومه.
قلت لليل كم بِجوفك سرًا فأخبرني من أروع الأسرار
قال ما سمعت في حياتي حديثا كحديث المنيبين فِي الأسحار
وعلى هذا فالصيف ـ يا أحبتي ـ أمل لعابد قد صفّ في محراب السحر، ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيتلو بها آيات ربه، فيجد قلبه وروحه تتألّقان في روح وريحان، وحياته هناء وصفاء، لقول الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وترى وجوه أهل صلاة الأسحار نورا. سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما بال المتهجدين لهم في وجوههم نور؟! فقال رحمه الله تعالى: أولئك قوم خلَوا بالله تعالى فأكسبهم نورًا من نوره. فهنيئًا لأصحاب الأمل الخالد والعمل التالد.
الصيف ـ بارك الله فيكم ـ ألم لأقوام ما عرفوا في الليل إلا الظلام، زعموه سائرًا لقضاء شهواتهم ما بين أغنية ومزمار ومسرح وطار وفيلم وأوزار وليالي حمراء أشد منها الجمر في النار. شباب على الأرصفة يلهون، وعلى الأعراض بالأبصار والأسماع يتلصّصون، فهداهم الله من أقوام ما عرفوا من ليل جميل أسراره وفيض أستاره، وجلاله وأنواره بمناجاة رب العباد وقيام الليل في الظلمات، بصلاة وخشوع وسجود وركوع وبكاء ودموع. الله المستعان، شباب ما عرفوا إلا لهوًا وإعراضا هداهم الله.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يَحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
يا قاطع الأرحام، اسمع لهذه العبارة الجميلة، الصيف أمل لصلة الأرحام وزيارتهم، فكم من قريب عققناه وجفيناه، وكم من رحم قطعناه.
عباد الله، إن الله تعالى خلق الرحم حتى إذا فرغ منها قامت فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله تعالى: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: نعم.
الصيف ألم للبطالين الذين لا هم لهم إلا ضياع أوقاتهم في قيل وقال، في مجالسهم ومنتدياتهم، وكثرة السؤال فيما ليس من ورائه ربح في دنيا ولا فلاح في آخرة، وإضاعة المال في الإسراف والتبذير في الولائم والعزائم والمناسبات. فكم يحدث من التبذير ومن الإسراف بالمال وبالنعم التي رزقنا الله إياها. فاصحَوا أيها المسرفون الغافلون، فوالله إن هذه النعم كانت عند أهلها في أكثر البلدان فيما مضى، وفي بلاد الأفغان فيما مضى، وفي البلاد التي تشكو الجوع الآن، كانوا كما نحن الآن في سرف وترف وفي إضاعة المال والنعم، فلربما أنه استدراج لكم من ربكم، لقوله تعالى: فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17]، وقال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44].
انتبهوا فقد نزل القرآن محذرا المسلم العاقل الفطن من ضياع الوقت وضياع المال وإسراف المال، وهنا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
فيا من جعلوا صيفهم أملا، من حق إخوانكم عليكم نصحهم وتذكيرهم بالله أمرًا ونهيًا. واعلموا أن هذا من تكفير الذنوب، فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره تكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم، إن الصيف يكون أملا على من يحسن تربية أبنائه ويذكرهم بأهمية الوقت وحسن الرفقة وسلامة النفس والحفاظ على أعراض الناس، وألم لمن لم يعلم ابنته وزوجته ومن في طوره على ارتداء الحجاب الشرعي، وعدم السماح لهم بالنقاب؛ لأن العفة في الجلباب وليس في النقاب، وأصدق القائلين يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] ولم يقل: من نقابهن. لنكن أهل عقول واعية وعفة ساترة وغيرة شاملة لبناتنا وزوجاتنا، ومن كان في طورنا من النساء.
عباد الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لا يزال الحديث عن الصيف أمل وألم، لذا فالدنيا دار شقاء ومنزل بلاء، وموطن الضراء وكدر الصفاء, جديدها بالي, ونعيمها فاني، سرورها زائل, وشديدها نازل, أبى نعيمها إلا بمخالطة شقائها وملازمة لأوائها, وأبت أتراحها ومصائبها إلا دفعًا لسرورها وأفراحها.
عباد الله، ها هو الصيف قد حل بلفحه ولهيبه وناره وسمومه, هل من ذكرى لأولي الألباب, أم هل من وقفة لأصحاب القلوب السليمة. نعم يا أحبتي، حري بكل عاقل أن تذكره الشدائد إخوتها, وأن تبصره المصائب بمواطن الشكر لله تعالى, ولكن ـ يا عباد الله ـ أين المعتبرون؟! تعلمون أن شدة الحر من فيح جهنم, وقد أخبرنا به أصدق الخلق نبينا محمدًا ، إن شدة الحر من فيح جهنم, فإنه لقب لم يقف عند هذا الحرف, عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن هذا الحر من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة)) رواه البخاري. أي: من سعة انتشار جهنم وتنفسها, ومنه مكان أفيح أي: متسع. فالصيف ـ يا عباد الله ـ إما موسم طاعة عندنا أو موسم عصيان لربنا. فيا رب عذرًا على التقصير, فالبضاعة مزجاة, والجراب خالي الإهاب، والصيد قليل في جوف الفراء. فيا رب رحماك رحماك من تقصيرنا لذنوبنا وأنت بنا بصير، وأنت على ما تشاء قدير.
يا أحبتي، إن الهدف سامي والمطلب غالي، وتربية النفس طريق طويل طويل، فقد يعين الله فيه من أخلص النية وأصلح السريرة، عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((قالت النار: ربي، أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء, فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم)) رواه البخاري ومسلم.
فيا من لفحك الصيف بحره وحروره, هل تذكرت أن حر الصيف من فيح جهنم؟! ويا من غزاك الصيف بحره، هل تذكرت جهنم؟! ويا من ذقت حرارة الصيف, هل اتّعظت؟!
اعلموا ـ بارك الله فيكم ـ أن الشيء بالشيء يذكر, فهل تذكرت شدة جهنم وأنت تصطلي حمارة القيظ. يا أيها العاقل، ذكر قلبك وتفقده، هل فيه للعظة موضعً؟! قال ابن رجب: "وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكرك بألم النار".
عباد الله، كان السلف يتذكرون ظلمة الليل فيبكون، فيقال لهم: ما يبكيكم؟! فيقولون: ظلمة الليل تذكرنا ظلمة القبر. فلا يعرف ليلهم من نهارهم، وهم مولعون السراج في الليل رضي الله عنهم. لهم قلوب يفقهون بها ولهم عقول يدركون بها. قرئ عند عمر بن الخطاب هذه الآية: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم:50] وكان أعرابي جالس فانتحب، وقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيتني أهنأ البعير بالقطران فيهرج البعير, فكيف بابن آدم؟!
عباد الله، كم منا من لفحه حرّ الصيف وعرقه يقطر من وجهه فما تذكر يوم القيامة يوم النشور، يومًا يسيل العرق من العباد، منهم من يلجمه العرق إلجاما، ومنهم من يكون على خاصرته، ومنهم من هو إلى ركبتيه
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا
فِي ظل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرى في عمها اللبثا
أي: القبر. الله أكبر!
وعن المقداد قال: قال رسول الله : ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل)).
عباد الله، كم في حر الصيف من ذكرى، أرأيتك وأنت تفر من حر الشمس وبينك وبينها ملايين الأميال والكيلومترات، فكيف بي وبك إذا دنت منا مقدار ميلا؟! فكيف كان الميل؟ أنطيق ذلك؟! فلنقف أنفسنا في عتبات المحاسبة، ونقول لها: أي نفسي، أتراك تطيقين الحر في ذلك اليوم؟! قل لي أيها الضعيف: كيف تهرب من حر الشمس ونسيت فيح وحر جهنم ولا تهرب منها؟! ليتك ـ أيها الغافل ـ عملت لظل الجنة كما عملت لداء الهرم والسقم, وليتك هربت من زفير النيران كما هربت من شمس النهار. قيل لأحد السلف عند موته: ما يبكيك؟ قال: لا أبكي إلا على ظمأ الهواجر وحر النهار؛ لأن عملها مضاعف عند الله. وظمأ الهواجر يعني الصوم في شدة الحر. قوم ورجال عرفوا حقائق الأمور، ووقفوا على غرور دار الغرور. رجال أبصرت قلوبهم، فللَّه من حياة لهم.
تزود من الدنيا فإنك هالك وتترك للأعداء ما أنت مالك
ووسع طريقًا أنت سالكه غدًا فلا بدّ من يوم تضيق المسالك
أيها الغافلون، أما تذكرتم لفح السعير تتلظّون بلفح النهار، إنها النار إنها النار.
يا عباد الله، قال أحد السلف: "يا مَن الكلمة تقلقه والبعوضة تسهره، أمثلك يقوى على وهج السعير، أو يطيق صفعة خده على سمومها؟!". قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. من منا ـ يا أحبتي ـ يرضى بالنار؟! لو قلنا: من يريد النار؟ هل من مجيب بنعم؟! لا والله، فلماذا نعمل بعمل أهل النار ونتبع الشيطان وهو جندي من جنود النار الكبار والمخلّدين.
إذا مد الصراط على الجحيم تصول على العصاة وتستطيل
فقوم فَي الجحيم لَهم ثبورُ وقوم فَي الْجنان لَهم مقيل
وبان الحق وانكشف الغطاء وطال الويل واتصل العويل
أيها العاقل، فليكن صيفك واعظًا لك ومذكرًا لك نارًا وقودها الناس والحجارة.
يا أحبتي، تأملوا حال الصالحين، وكيف كان خوفهم من النار، أولئك الأحياء حقًا.
اعلموا ـ بارك الله فيكم ـ الصيف كم أشعل من أحشاء، وكم هيج من عروق، فترى الناس يهرعون إلى الماء البارد طلبًا لبرد الأحشاء وراحة البدن. نعم، ما أحلى الماء البارد مع الظمأ، قال أحد السلف: "إن شرب الماء البارد في اليوم الحار يستخرج الحمد من الجوف حقًا". إنها نعمة تستحق الشكر الكثير، وتدعو صاحبها إلى وقفة محاسبة متأنية.
(1/4713)
كأس العالم
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الهوني
غير محددة
13/5/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتراب حلول ضيف ثقيل. 2- نعمة الفراغ. 3- الترويح في الإسلام. 4- الحرص على الطاعات. 5- تضييع الصلوات المكتوبة. 6- ذم الغضب. 7- التحذير من البغضاء والشحناء. 8- تضييع حقوق الوالدين والأهل. 9- الفرح إنما هو بفضل الله. 10- الفرح المذموم. 11- أدب المسلم في الكلام. 12- عظم أمر اليمين. 13- حرمة الرهان الرياضي. 14- الحب مع الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، خطبتنا في هذا اليوم المبارك الأغر عن قضية هامة قلما يتنبه لها الناس ويتفطنون لخطورتها، حيث سيشهد العالم بعد أيام معدودة حدثا رياضيا معروفا، له كرَّةٌ وفرَّة كل أربع سنوات، فينشغل به الصغير والكبير والرجال والنساء، فتتعطل في موسمه الأعمال، وتضطرب منه البيوت والأحوال. سيحلّ بعد أيام قليلة ضيف ثقيل علينا، يدوم شهرا أو أكثر من ذلك، له تاريخ طويل في زياراته، إنه منافسات كأس العالم لكرة القدم.
ولنا مع هذه التصفيات وقفات وجب التأمل فيها والمراجعة قبل أن يقع الكثير منا فريسة شباكها، فتنال من دينه قبل أن تنال من دنياه:
الوقفة الأولى: يقول رسول الله : ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ إشغال الفراغ باللّهو واللّعب والمرح والفرح لهيَ قضيّة لها صِبغة واقعيّة على مضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عند وجودِ موجبات الفراغ كالعُطَل وهذه التصفيات ونحوِها.
والتّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ لا بأس به، وهو من قبيل إدخال السّرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطِها وزمّها عن السّآمة والمَلل، وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا. رواه مسلم. وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالسهم ويذكرون أمرَ جاهليتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق عينيه. وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنّه قال: (إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ). يقول ابن الجوزيّ: "ولقد رأيت الإنسانَ قد حُمّل من التكاليف أمورًا صَعبة، ومِن أثقل ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكليفها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس". غيرَ أنّنا نودّ أن نبيّن هنا وجهَ الهوّة بَين مفهوم الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين ما يخالط اللّهو والمرَح في عصرنا الحاضر من أخطاء ومحرمات.
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلام شريعة غرّاء، جاءت بالتّكامل والتّوازن والتّوسُّط، ففي حين أنّ فيها إعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويح والتسلية، فإنّ فيها كذلك ما يدلّ على أنّ منه النافعَ ومنه دون ذلك. فقد صحَّ عند النسائي وغيره أنّ النبيّ قال: ((كلّ لهوٍ باطل غيرَ تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بسهمه)) الحديث.
الوقفة الثانية: الحرص على الطاعات والثبات عليها، فإن الأعمال الصالحة بِعَامَّة لا تأخذ من الناس وقتًا طويلاً ما لم يُشَرِّع الناس لأنفسهم ما لم يأذن به الله، فيشقوا على أنفسهم ويرهقوها عُسرًا.
فاعلم ـ أيها المسلم ـ أنك في ميدان سباق، والأوقات تُنْتَهَب، وإياك إياك والخلود إلى الكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وثمرة الأمرين أنَّ تعب المحصل للفضائل راحة في المعنى، وراحة المقصر في طلبها تعب وشَين، إن كان ثَمَّ فَهْمٌ لديك يا رعاك الله.
والدنيا كلها إنما تراد لِتُعْبَر لا لِتُعْمَر، وما يناله أهل النقص بسبب فضولها والانشغال بها عما هو خير منها فإنه يؤذي قلوب معاشريها حتى تنحط، ومِن ثَمَّ يأسف أمثال هؤلاء على فَقْدِ ما وجوده أصلح لهم، في حين إن تأسفهم ربما يكون شبه عقوبة عاجلة على تفريطهم.
فيا أخي، إن كنت من أهل الطاعات والقربات فلا تدع للشيطان عليك سبيلا فيتركك عن فعل ما اعتدت عليه من خير وبر وصلة رحم، ولا تقل: لا أستطيع أن أفوّت مشاهدة هذه الهجمة، فإن هجمة الشيطان على قلبك هي التي تحول دون عملك للخير والمبادرة إليه، فزيّن الشيطان لك الاشتغال بالمشاهدة والإفراط فيها حتى ينغمس فيها عقلك وقلبك، فيثقل ويركن إليها فيبرد، ولذلك كان نهج السلف واضحًا في الإقلال من المباحات الملهية والتي يأنس لها القلب فتقعده عن قُربة مستحبة أو فرصة سانحة، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: "إني لأدع ما لا بأس فيه خشيه الوقوع مما فيه بأس".
الوقفة الثالثة: إن خلال مشاهدة هذه المباريات على الشاة المرئية الصغيرة يضيّع الكثير من المسلمين صلواتهم المكتوبة فضلا عن النافلة، يضيعونها عن أوقاتها، وفي هذا خطر كبير على إيمان المسلم وطاعته لمولاه، ولقد روي عن رسول الله أنها عمود الدين حيث قال: ((رأس الأمرِ الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)). هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله وعلى أمته: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء:103]، كِتَابًا أي: فريضة، مَوْقُوتًا : موقوتا بوقت، لكلّ صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون ثَمَّ عذر. ومن عجبٍ أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات أو يتجاهلوه ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال قدرا، وصاروا لا يقيمون لها وزنا في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتا من ساعات أعمارهم.
فأي دين ـ يا عباد الله ـ لهذا؟! أي دين ـ يا عباد الله ـ لشخص يدع هذا العمل، يدع الصلاة بسبب مشاهدة مباراة مع يسر عملها ووقتها وكثرة ثوابها وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن والفرد والجماعة والقول والعمل؟! وأخبر النبي أنّ من لم يحافظ على هذه الصلوات فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، ويحشر مع أئمة الكفر: فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
فأي دين لشخص يدع الصلاة بسبب مباراة، فلا يصليها في المسجد، وإذا ما انتصف وقت المباراة بين الشوطين نقرها نقر الديك حتى لا تفوته التعقيبات على أحداثها؟! هذا إذا ما صلاها بعد خروج وقتها، فهل يؤمِن هذا بالوعيد على مضيعها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله على من تهاون بها أو تغافل عنها؟! قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:59، 60]. وهذه الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة واتبع الشهوات فليس بمؤمن؛ لأن الله تعالى قال: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ ، ومما لا شكّ فيه أن مشاهدة هذه التصفيات لا تتعدى كونها من الشهوات، وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5].
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على صلواتكم في كل حين، فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها بسبب كرة، فإنّ آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، قال الإمام أحمد: "كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء".
الوقفة الرابعة: الغضب بسبب هفوة أو سقطة أو ضياع فرصة في المباراة، وهذا الغضب في غير محلّه، بل والتصرف أحيانا بعد الغضب بما يخالف الشرع، فإنه من الخصال المذمومة، ومن سمات أهل الجهل والحمق والخرق، وهو من أخطر الذنوب، ومن أسباب موت القلوب وفوات المطلوب وتشوه الصورة ونقص الخلق، وموجبات الندم والإصابة بالصرع، وموجبات فساد الطبع.
فاتقوا هذا الغضب واحذوره، وإذا ابتليتم به فداووه وعالجوه، فقد جاء الشرع بما يقضي على الغضب وينجي من العطب. ومن ذلك الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان، وتذكر ما توعد الله به أهل البغي والعدوان. وأرشد من غضب وهو قائم أن يجلس، فإن ذهب عنه وإلا فليضطجع، وقال : ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) ، وروي عنه أنه قال لرجل: ((لا تغضب ولك الجنة)). إن الغضب شعبة من شعب الجنون، إنه يغير الإنسان؛ ولذا النبي يقول: ((ألا تنظرون إلى احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه)) ، فإن الغضب يحول بين العبد وبين التصرف في الأمور، فربما يحمله الغضب على أن يفعل أفعالاً يندم عليها إذا فاء من غضبه، فمن عباد الله لا يتماسك عندما يغضب، يقول ما يتمنى أنه ما قاله، ويفعل أمرًا يندم على فعله بعد ذلك. كيف تجعل قطعة جلد ممتلِئة بالهواء تفسد عليك دينك ودنياك؟!
الوقفة الخامسة: الخلاف والشقاق والشحناء بين المشاهدين المشجعين، فهذا ينتصر لهذا الفريق، وذاك ينتصر لذاك الفريق، فيحدث بينهم الفرقة والنزاع، فيجافي بعضهم بعضا، روي أن رسول الله بلغه أن ناسًا من أصحابه تنازعوا فقال قائل منهم: يا للمهاجرين، وقال قائل منهم: يا للأنصار، فخرج سيدنا رسول الله من بيته غاضبًا يجر ردائه فقال: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)).
لقد بعث سيدنا المصطفى للقضاء على العنصريات الجاهلية المنتنة مهما كان نوعها ولأيّ كان انتسابها، وليقيم بدلاً منها صرح الإيمان الذي يجتمع تحت لوائه جميع المؤمنين إخوانًا متحابين، تربط بينهم رابطة واحدة وشيجة واحدة وهي رابطة الإيمان ووشجية الإسلام، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
ولنقرأ معًا هذا الحديث النبوي المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)).
الوقفة السادسة: ضياع حقوق الوالدين بالبر والزوجة والأبناء بأداء واجب الأمانة فيهم خلال مشاهدة المباريات، بأن يكون حال المشاهد متعلقا بالمباراة، فلا يطيع والديه إذا طلباه في أمر ما، ويضيع حقوق زوجه وأبنائه، والنبي يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)). وعقوق الوالدين ـ أيها الإخوة ـ من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151].
بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. وها نحن نسمع بين الحين والآخر ـ وللأسف ـ من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه لمجرد أن طلبا منه أمرا أثناء مشاهدة ومتابعة المباراة، وقد ينهرهما أو يسبّهما، وهذه جريمة كبيرة.
أيها الإخوة، من أبشع الجرائم، ليست في الإسلام فحسب، بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، قال الهيثمي عند قوله تعالى: وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن، لا سيما عند الكبر، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول، بأن لا يُكلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما.
وها هو رسول الله يجعل حقّ الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله)). وعنه أيضًا أن النبي قال: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجلّ الطاعات، وببرهما تتنزّل الرحمات وتكشف الكربات.
أما الأبناء والزوجة فحدث ولا حرج، هذه المسكينة تتعطّل كل متطلباتها البيتيّة ولوازم الأسرة لمجرد بداية صفارة الانطلاق التي يصفّر معها الشيطان، فينذر كل من حوله بعدم الحراك والكلام، والويل كل الويل لمن يعبر أمام الشاشة أو يشوّش، والويل لمن يطلب حاجة أو يسأل معروفا، وما أدراك ما ينتج عن ذلك من المشكلات العائلية والفتن الاجتماعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوقفة السابعة: بم يفرح المؤمنون؟ هل بفوز هذا الفريق وانتصاره على خصمه؟! لا، إنما يفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته. افرحوا ـ أيها الناس ـ بفضل الله، أي: الإسلام ورحمته، أي: القرآن، فإنهما أعظم نعمة ومنّة تفضل الله بها عليكم، ليست نعمةً دنيويّة تنسي فضل الله ومنته، بل هي نعمة عظيمة إسلامية قرآنية دينية تقرّب إلى الله تبارك وتعالى، وتشعر بالفرح والسرور بهذه المنة الربانية الكريمة، ذلك خير من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها المضمحلّ عن قريب، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
وأما الفرح المذموم فهو الفرح المطلق الذي يَخرج ويُخرج عن السيطرة، فتلتهب به المشاعر، وتنفعل معه الجوارح، قفز وهزّ وطرب ومجون ومطاردات بالسيارات وزغاريد وشماتات، فرح لمجرد فوز هذا أو خسارة ذاك، فرح بغرور الدنيا ولعبها وباطلها ولهوها وزينتها، ويفتخرون بذلك ويتباهون، ويلهو بذلك ويلعب الشيطان بعقله ويذهب كل مذهب بسبب هذا الإفراط في الفرح، وبهذه الطريقة يكون الفرح مذموما وباطلا ومنهيا عنه في شرع الله وسنة رسول الله. ويقابل ذلك الحزن الشديد والهمّ والغمّ لمجرد خسارة الفريق، فتجد الكآبة تعمّ البيت والصمت والوجوم والغم والحداد، فلا طعام، ولا شراب، ولا نوم، ولا أحباب، دموع ونحيب، وجوه خاشعة عاملة ناصبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أيها الإخوة الكرام، نسأل الله تعالى أن لا يجعل قلوبنا تهشّ أو تبش أو تفرح أو تحزن إلا بما يرضي الله تعالى، آمين.
بارك الله لي ولكم في فهم القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما في السنة من نهج كريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فيا عباد الله، فأما الوقفة الثامنة: فمع أخلاق المسلم في الكلام، الكلام الطيب، الكلام الحسن، الكلام النافع الذي يحقّق الخير ويهدف للخير، فلسان المسلم مهذب، لا يتفوّه إلا بكلام طيب ينفع ويفيد، قال الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بذلك فقال: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وقال جل جلاله: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، وفي الحديث: ((ليس المسلم بالسباب ولا باللعان، ولا بالفاحش ولا بالبذيء)).
فيا أخي المشاهد لهذه المباريات والتصفيات، حذار من الاتصاف بأخلاق أهل النار؛ السباب بينهم، ولعن بعضهم لبعض يوم القيامة، المؤمنون بخلاف ذلك، وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
نعم أيها المسلمون، إن المسلم مسؤول عن كل تصرفاته وألفاظه وأفعاله، فلا ينجرّ للسب والشتم واللعن على اللاعبين والفِرَق، فلن يشفع له هذا الفريق أو ذاك إذا ما سبّ لاعبا أو مدرّبا أو فريقا أو مشاهدا أو حكما يوم القيامة، لذا وجب علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نحاسب أنفسنا وأن نحسب لتصرفاتنا ألف حساب.
أيها المسلمون، لقد أصبح كثير من المسلمين اليوم لا يبالون بتصرفاتهم وما يصدر عنهم من أقوال، وقد يكون في هذه الأقوال ما فيه خسارة دينهم ودنياهم، روى الإمام الترمذي والنسائي وغيره من حديث بلال بن الحارث أن رسول قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)) ، فكان علقمة أحد رواة هذا الحديث يقول: كم من كلام منعَنيه حديث بلال بن الحارث.
عباد الله، ولقد أصبح اللعن والقذف عادة عند كثير من الناس في هذا الزمان؛ حتى أصبح وكأنه تحية عند البعض، مع أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، ذلك أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل، فما بالك فيمن يكون هذا دأبه مع أبنائه وإخوانه؟! قال رسول الله : ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش والبذيء)) رواه الإمام الترمذي. بل إن اللعانين يحرمون في الآخرة من الشفاعة لغيرهم، روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: ((إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء)).
أيها المسلمون، ثم هناك مسألة مهمة تكثر حين مشاهدة هذه المباريات، وهي الحلف، وإن شأن اليمين عند الله عظيم، وخطر التساهل بها جسيم، فليست اليمين مجرّد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عند الله عهد وميثاق، يجب على المسلم أن يقف عند حده ويوفيه حق قدره، فقد قال: ((من حلف بالله فليصدق، ومن حلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)) ، قال الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ، قال ابن عباس: (يريد: لا تحلفوا)، فيكون معنى الآية هو النهي عن الحلف. فلا ينبغي للمسلم أن يكون متسرعًا في اليمين إلا عند الحاجة؛ فإن كثرة الحلف تدلّ على الاستخفاف بالمحلوف به وعدم تعظيمه وتوقيره.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن كثرة الحلف من صفات الكفار والمنافقين، قال تعالى في صفات الكفار: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. فنهى سبحانه عن طاعة الحلاف، وهو من يكثر الحلف، وقال عن المنافقين: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] وقال عنهم: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2]، أي: جعلوا الحلف وقاية يتوقون بها ما يكرهون، ويخدعون بها المؤمنين. ومن قبلهم حلف إبليس اللعين لآدم وزوجه ليخدعهما باليمين، قال تعالى عن إبليس: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:21، 22]، أي: أقسم لهما إنه يريد لهما النصح والمصلحة، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ أي: خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية.
الوقفة التاسعة والتي قد يقع فيها بعض الناس: المراهنة بحيث يتراهن شخصان أو مجموعتان على أنّه إذا فاز الفريق المعيّن فإنه يقوم مشجّع الفريق المهزوم بتقديم مبلغ مالي أو وجبة عشاء لصاحبه بعد انتهاء المباراة، وهذا الرهان باطل، فإن ألزم الخاسر بالإطعام فالأكل منه حرام، وإن استضافهم بطيب نفسه فهو حلال، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90، 91].
وعمدة هذا الباب حديث واحد هو قوله : ((لا سبَق إلا في خف أو حافرٍ أو نَصْل)) أخرجه أبو داود وغيره. والسَبقُ هو ما يُدْفع عند الفوز بالرهان. والخف: إشارة إلى سباق الإبل. والحافر: إشارة إلى سباق الخيل. والنصل: إشارة إلى السباق برمي السهم. فهذه الأمور الثلاثة قد أجاز الإسلام المراهنة فيها لمن يقوم بها بنفسه لا من يتفرّج عليها بنص الحديث.
الوقفة العاشرة: وجعلتها الوقفةَ الأخيرة لأنها مهمة وأهم ما يجب أن نختم به، فهي تدخل في اعتقاد المسلم، وهي المحبّة المفرطة للاعبين بحيث يقدّم حبهم على حب الله ورسوله بالتعلّق المفرط الذي يوصل للشرك، بحيث تصبح كالمحبة المختصة محبة العبودية، وهي المذكورة في قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ، فأخبر تعالى أن من أحبّ من دون الله شيئا كما يحبّ الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فى الحب والتعظيم؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْناؤكمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، فتوعد سبحانه من قدم هذه المحبوبات الثمانية على محبة الله ورسوله والأعمال التي يحبها ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبِل عليه الإنسان، ليس اختياريا، وإنما توعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، ويلاحظ أثره على سلوكه وأخلاقه ظاهرا وباطنا، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده.
وعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: لا شَيْءَ، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ : ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ. وفي رواية: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ : مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أحببت)).
فتذكر ـ يا أخي الشاب ـ مصير أحبابك يوم القيامة، فإن كانوا من أهل الجنة والنعيم كنت معهم، وإن كانوا من أهل النار والسعير فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه، ولا تقعوا في المعاصي وكثرة الذنوب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات المعاصي أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب"، وقال أحد السلف رحمه الله تعالى: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة"، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ولقد أحسن القائل:
إذا كنت فِي نعمة فارعها فإن الْمعاصي تزيل النعم
وحُطها بطاعة رب العباد فربّ العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهمااستطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعًا من أهل محبته ورضوانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4714)
الشباب في الإسلام
الأسرة والمجتمع
الأبناء
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب. 2- أهمية مرحلة الشباب. 3- واجبات الشباب اليوم. 4- مسؤولية الأسرة في حمايةِ الشباب من الانحراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الأمم والمجتمعات لا تستطيع المحافظة على استمرار وجودها وتقدمها ورقيها إلا بفضل إعداد أجيالها المتعاقبة الإعداد السليم المتكامل، وبقدر ما تحافظ الأمم والشعوب على تربية هذه الأجيال على التمسك بدينها ومعتقداتها وأخلاقها بقدر ما تحافظ على بقائها وعلو شأنها؛ لذلك وجهنا الإسلام إلى الاهتمام والعناية بالشباب وتنشئتهم تنشئة صالحة.
فالشبابُ يُعتَبر ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.
الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع.
ولذلك ـ إخواني في الله ـ حث نبينا على اغتنام مرحلة الشباب قبل المشيب، قال النبي لرجل وهو يعظه: ((اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس: شَبَابك قَبْل هَرَمك, وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك, وَغِنَاك قَبْل فَقْرك, وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك, وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك)). والغنيمة لا تكون إلا لشيء يخشى فواته وضياعه إن لم يتداك ويستغل.
ومما لا شك فيه أن الواجب في هذه الأمة مشترك بين المسلمين جميعا، شبابا وشيوخا، ولكن خص الشباب بالذكر لأنها مرحلة مهمة جدا في حياة المسلم نفسه، وفي حياة مجتمعه المسلم، فهم الذين يقومون بواجبهم بعد رحيل الجيل الذي سبقهم.
ومن أجل هذا المطلب أرشدنا نبينا إلى سلوك الطريق النبوي في تربية هذا النشء، بدءا من اختيارك لزوجتك الصالحة المؤمنة التي تعتبر بحق هي المدرسة الأولى لتربية النشء، إلى أن يكبر النشء من الأولاد والفتيات ليقوموا بدورهم من جديد. ولقد رسم النبي فيما رسم منهجًا واضحًا للآباء والمربين لتربية شباب الأمة المحمدية، ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حيث قال: ((يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)).
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة السليمة وقوة الإيمان وصدق التعلق بالله وحده، إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده وحفظ أمره ونهيه، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك ـ أيها الإخوة ـ ليكون دافعًا للشاب وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.
ثم ها هو نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ينادي شباب أمته جميعا؛ ليوجههم إلى حفظ شهواتهم وغرائزهم حتى لا يسقطوا في وحل الإثم والمعصية، قال رسول الله : ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).
ومن المنهج النبوي في تربية الشباب ذكورًا كانوا أو إناثًا قول الرسول : ((مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). فالبرغم من أن ابن السابعة ليس مكلفًا بالواجبات، ولكنه يؤمر بالصلاة لأجل أن يعتادها ويألفها فتنطبع في ذهنه؛ وذلك لأن الصلاة فيها سر عظيم في تربية النشء على الإسلام الصحيح، قال تعالى في ذلك: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وقال عز وجل: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46].
وقوله : ((وفرقوا بينهم في المضاجع)) أي: لا تتركوهم ينامون تحت غطاء واحد أو على فراش واحد؛ خشية أن يطلع بعضهم على عورات بعض، فتقع الفتنة التي لا تحمد عاقبتها.
ثم اعلم ـ أيها المربي وأنت أيها الشاب ـ أن تنشئة الولد أو البنت على طاعة الله ورسوله فيها الأجر العظيم عند الله، وذلك حتى قبل أن يدخل الجنة، فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ..)). قال ابن حجر رحمه الله: "خص الشاب لكونه مظنَّة غلبة الشَّهوة لما فيه من قُوَّة الباعث على متابعة الهوى، فإنَّ ملازمة العبادة مع ذلك أشَدُّ وأَدلّ على غلبة التَّقْوَى".
أيها المسلمون، روى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي قال: ((لا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاه؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟)) ، فالشاهد من الحديث هو قوله : ((وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟)). فأنت ـ أيها المسلم ـ مسؤول أمام الله يوم القيامة عن هذا الشباب، وهو المرحلة التي يكون الإنسان فيها قويًا فتيًا، ماذا عمل فيه؟ وبماذا استغله؟
ألا فليقف كل واحد منا في هذا المسجد وقفة محاسبة مع النفس، ماذا قدمت لنفسك عند الله غدا؟ هل أديت الواجبات والفروض التي طلبها الله منك، أم أنت مقصر فيها ومضيع؟ ثم هل استكملت ذلك بالمستحبات والنوافل؟ قال رسول الله : ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)) رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن مرحلة الشباب مرحلة مهمة جدا في حياة المرء المسلم، فبها ينجو من الخسران، قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. فجنس الإنسان في خسارة إلا من اتصف بالإيمان والعمل به ، ثم الدعوة إليه ، وأخير ً ا الصبر على الأذى فيه.
فما واجب ات الشباب اليوم، إنها كثيرة ومن أ همها :
أ ولا : يجب على الشباب المسلم أن يعتني بتعلم العلم الشرعي بالقدر الذي يستقيم به دينهم وتصح به عبادتهم ، فيجب عليهم أن يتعلموا التوحيد والعقيدة الصحيحة وما يخالفها من العقائد الفاسدة، كما يجب عليهم تعلم أ حكام الصلاة والصيام والزكاة والحج وأركان الإيمان الستة ومعرفة نواقض الإيمان ، وذلك حتى يقيموا دينهم على أساس صحيح. وإن الواقع لأليم يا أولياء الأمور، إننا نرى شبابا قد بلغ السابعة عشر من العمر وهو على وشك أن ينتهي من دراسته الثانوية ، وللأسف لا يعرف كيف يقرأ كتاب الله عز وجل، بل جلهم لا يعرف كيف يقرأ الفاتحة بصورة صحيحة. فالله المستعان على هذه الصورة المخزية من صور التربية الفاشلة
ثاني ً ا: على شباب المسلمين أن يرتبطوا بعلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة ، وأن يرتبطوا بكبارهم، فالناس لا يزالون بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، فإن أخذوه عن أصاغرهم هلكوا، والأصاغر هم علماء السوء من أهل البدع والضلالات. وإذا ما انفصل الشباب عن العلماء الربانيين وارتبطوا بعلماء السوء وعلماء الفضائيات تلقفتهم التيارات المنحرفة من خلال الجرائد أو الفضائيات أو الإنترنت ، فأصبحوا لقمة سائغة لأصحاب الأغراض الس يئ ة.
ثالث ً ا: على الشباب ـ وفقهم الله ـ أن يجتنبوا أصدقاء السوء ؛ لأنهم سبب لشقاء الشاب في دينه ودنياه، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
وأخير ً ا : يا أولياء الأمور ، يا معاشر الآباء والأمهات ، يا معاشر المعلمين ، اتقوا الله في شباب الإسلام ، نشئوهم على طاعة الله ورسوله، كونوا لهم قدوة حسنة.
فالأسرةُ تفقد دورَها وتضيِّع رسالتها إذا انصرَف الآباءُ عن أُسَرهم ، وكان همُّهم الأكبر توفيرَ مادّة الكسب مع ترك الحبلِ على الغارب للأولادِ والتقصيرِ في تربيتهم وعدم تخصيص وقتٍ لهم يمارسون فيه التوجيه والرعاية. فكثير من الآباء والأمهات يعتقد أ ن تربية الأولاد مقتصرة على توفير حاجاتِ الأولاد من أكلٍ وشُرب وكِسوةٍ وترفيه ، أما تربيةُ الأخلاق وتهذيبُ السلوك وبناءُ الشخصية فليس بذي أهمية ، وهذا خطأ بين واضح، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] ، وقال : ((والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولةٌ عن رعيتها)). الأسرةُ في الإسلامِ مسؤولةٌ عن حمايةِ الشباب من الانحرافِ.
راقبوا أبناءكم مع من يسيرون، ومتى إلى البيت يرجعون، تعاونوا مع المدارس في متابعتهم والسؤال عنهم وعن مستواهم الدراسي، لا تترك الإنترنت عند ولدك أ وبنتك في غرفته الخاصة أبد ً ا ، بل راقبه واجعله في مكان يراه كل أفراد الأسرة. وإن كنت غير محتاج إليه فمن الواجب عليك أن تخرجه من بيتك ؛ لأنه وسيلة دمار على الشباب أكثر من كونه وسيلة تعلم واستفادة.
أيها الأب، لا تسرف على ولدك بالأموال بحجة أ نه كبر ومصاريفه قد زادت ، فالأموال سبب لفساد الأبناء، بل انظر ما يحتاجه واشتره له.
وهناك أمور كثيرة يجب على الوالدين مراعاتها عند تربيتهم لأبنائهم لا يتسع المقام للتنبيه عليها.
(1/4715)
رسالة خاصة لشبابنا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الآداب والحقوق العامة
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
23/2/1427
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مرحلة الشباب. 2- وصايا عامة للشباب. 3- نماذج مختصرة من شباب الرعيل الأول. 4- حق الشباب علينا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الناس، اتقوا اللهَ تعالى، فإن تقوى الله خيرُ لباسٍ وزادٍ, وأفضلُ وسيلةٍ إلى رضا ربِّ العباد، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى? وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الألْبَابِ [البقرة:197].
عباد الله، في هذه الخطبة ـ إن شاء الله ـ نوجه رسالةً خاصة لهؤلاء الشباب، رسالةً من الأعماق، ممزوجةً بأسمى معاني الحب والتقدير والإشفاق لثروةِ الأمّةِ الغاليةِ وذُخرِها الثمين.
معاشرَ الشباب، تذكّروا أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، ولم يخلقنا لِنَرْتعَ في الشهوات والمعاصي، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. تذكّروا أن الاستقامةَ على الطاعة وتركَ المعاصي تُوصِلكُم إلى الجنة، التي فيها من النعيم ما لم يخطر على قلب بشر، نعيم لا انقطاعَ له، وسعادة لا مُنغّصَ لها، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُون [الزخرف:71].
تذكّروا أنَّكُم أمل والدَيْكُم، وبكم يَفْخَرانِ ويَعْتَزّانِ، ولكُم يبذُلانِ من الوقت والجهد والمال الكثير؛ لِتَشبُّوا صالحِينَ نافِعينَ مَنْ حَوْلِكُم، فلا تخيّبوا ظَنَّهُما. تذكّروا أنكم أمل الدعاةِ والمْرُبّينَ الذين يحتسبون الأجر في إرشادِكُم وتعليمكم وتوجِيهِكُم. تذكّروا أن لكم إخوانًا قد ضربوا المثلَ الأعلى في الاستقامة والصلاح، فقرّت أعينُهُم ببرّ والديهم، ارتفعت هِمَمُهُم عن سَفَاسِف الأمور، وَطَمَحَتْ إلى معاليها، عُرِفوا بالخُلُقِ الجميل فأحبّهم الناسُ وأَلِفُوهُم؛ إن حَضَرُوا محفلاً أُشِيرَ إليهم، وإن غابوا فُقِدوا، وهم بحمد الله كثير، فلا تَقْعُدْ بِكُم هِمَمُكُم عن اللِّحَاِق بِرَكْبِهِم، فاستعينوا بالله وتوكّلوا عليه، لتكونوا مِنَ السَّبْعَةِ الذين يُظِلّهُمُ اللهُ في ظلّه يوم لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ.
معاشرَ الشباب، كم من شابٍ باع دينَه من أجل شهوة عابرة، وكم من شاب دنَّسَ عِرْضَ عائِلَتِه وسمعتها من أجل لذَّةِ ساعة، وكم من شاب أخْفى سترة نفسهُ عنِ الناسِ فحارب الله َبالمعاصي، وكأن الله لا ينظرُ إليه، فَلَئِنْ غابت عنه عيونُ الناسِ فلن تغيبَ عنهُ عينُ الله.
مَعَاشِرَ الشباب، اسْمَعُوا وعُوا هذا الحديثَ العظيمَ الذي أخبرنا به نبينا بقولِهِ: ((يا معْشر َمن آمن بلسانه ولم يدخلِ الإيمانُ قلْبَهُ، لا تُؤْذُوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّرُوهُم، ولا تَتَّبِعُوا عوْرَاتِهِم؛ فإنه من تَتَبَّعَ عورة َأخيهِ المسلمِ تَتَبَّعَ الله ُعَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الله ُعورتَهُ فَضَحَهُ ولَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. فكما تُدِينُ تُدَان. فإذا كنتَ ممن يتصيدُ طالبات المدارس أو نساءَ الجيران هل ترضى أنْ يَفْعَلَ ذلك أحدٌ مع أُخْتِكَ أو زَوْجَتِكَ أو إحدى قَرِيباتِكَ؟! فكيف بالله تَرْضى ذلك على نساء المؤمنينَ؟!
أخي الشاب، رسُولُكَ يقولُ لَكَ: ((اغتنم خمسًا ق َ ب ْ ل َ خ َ م ْ س ٍ: ح َ ي َ ات َ ك َ قب ْ ل موت ِ ك َ، وص ِ ح َّ تك َ قبل س َ ق َ م ِ ك َ، وف َ ر َ اغ َ ك َ قبل ش ُ غ ْ ل ِ ك َ، وَ ش َ باب َ ك َ قبل ه َ ر َ م ِ ك َ، وغ ِ ن َ اك َ قبل ف َ ق ْ ر ِ ك َ) ) أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. فليس من اغتنام الفراغِ التَّجَولُ في الشوارع والأسواق والجلوسُ في المقاهي والشوارع والطرقات، فهذا خروجٌ على الأخلاق الإسلامية الساميةِ, ومخالفةٌ صريحةٌ لِوصيَّةِ رسولِ الله. فحياة ُالمسلم لا يوجد فيها وَقْتُ فراغٍ، ذلك أن الوقتَ والعُمُرَ في حياة المسلم ملكٌ لله، وساعات الحياة ولحظاتها أمانةٌ في عُنُقِهِ، يُشْغِلُها بِمَا يُقَرِّبه إلى الله والدارِ الآخِرَةِ.
أخي الشاب، من الخِصالِ الحميدةِ التي دعا إليها دينُنا الحنيف خَصلةُ الحياء, والحياء كلُّه خير، ولا يأت إلا بخير، فحقيقةُ الاستحياء من الله أن تحفظَ لسانَك وسمعك وبصرك وبطنكَ وفَرْجَكَ عما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وإن الاستحياء من الله يشملُ كذلك أن لا تعصيه في خلوتك, وكما قال الأول:
وإذا خلوتَ بِريبةٍ فِي ظُلْمَةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلَى الطُغْيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني
وإن من الحياء أن تَسْتحِيَ من الناس، فحياؤكَ من الناسِ يمنعُك من أن تقعَ أعينُهُم على ما يَعِيبُونَهُ عليك، وحياؤك من الناس يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم.
إذا لم تخش عاقبةَ الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيشِ خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرءُ ما استحيى بخيرٍ ويبقى العودُ ما بقي اللِّحاءُ
فحياؤكُم ـ مَعَاشِرَ الشباب ـ يمنعكم من التجمع بالطرقات ومضايقة النساء وإيذاء المارة. حياؤكم يمنعكم من التفحيط, ومِنَ الجلوس أمامَ بيوتِ جيرانِكُم لِتتَابِعُوا بنظراتكِم الداخلَ والخارج. حياؤكم يمنعكم من الاستماع لرقية الشيطان وبريد الزنا الغناء، ورسولكُم يقولُ: ((في هذه الأمةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ))، فقال رجلٌ من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرت القيناتُ والمعازفُ وشُرِبَتِ الخْمُوُر)) رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث عمران بن حصين.
أتدري ـ أخي الشاب ـ بماذا يركز اليهود في مخططاتهم الإجرامية لإفساد العالم الإسلامي، إنهم يركزونَ على نشر الغناء والموسيقى وتشجيعِ محترفيها والدعاية لهم، وقد ذكروا في بروتوكولاتهم أنهم سينشرون الفن ويخدرون به الشعوب الإسلامية، حتى يخلوا لهم الجو، فيحكموا العالم ويتحكموا به، حتى ـ مع الأسف ـ دخلت الموسيقى المساجدَ عن طريق نغمات الجوال. فهل أنت ـ أخي الشاب ـ ممن نفذ مخططات اليهود من حيث تعلم أو لا تعلم؟!
حياؤكم ـ معاشر الشباب ـ يمنعكُم من إيذاء الرجل الكبير بنفسه أو بمُِمْتَلكاتِهِ أو بأُسرتِهِ وأولادِهِ, فقد كان بالأمسِ يخرجُ إلى الأحبابِ والأصحاب يعُودُ مرضاهم ويُشيع ُموتاهم ويتفقدُ أحوالَهُم بِكُلِّ أمْنٍ وأمان, واليوم يخرُجُ من بيته والله أعلمُ كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب الخائفِ المجروحِ المنكسر, وبالدمع الغزير المنهمر؛ حتى أصبح الكبيرُ اليوم غريبًا بين أحبابِهِ وخِلانِهِ، والسببُ أنْتم معاشر الشباب؛ لم ترحموا ضعفه, ولم تُقَدِّرُوا منْزِلَتَهُ, ألم تعلموا أنَّ إجلالَ الكبيرِ وتوقيرَه وقَضَاءَ حوائِجَهُ سُنّةٌ من سنن الأنبياء وشِيمَةٌ من شِيَمِ الصالحين الأوفياء؟! قال : ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إكْرَامَ ذي الشيبة المسلم )). فأعلنوها صريحةً, وارفعوا بها أصْواتَكُم وقولوا لكبار السنِّ: يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا, وَكِبَارٌ في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتمونا وربيتمونا, وقدمتم وضحيتم، لَئِنْ نَسِينا فَضْلَكُم فإننا نعاهِدُكُم اليومَ أننا لن ننساكم ولن نجحد فضلكم, وسامحونا عن الأذى الذي لحقكم منا، فمعروفكم لا يَبْلى ولن يُنْسى, وتضْحِياتكُم لنا تدومُ وتبقى, وأجرُكم من المولى الذي عنده الجزاء الأوفى.
اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ممات الشهداء.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالفلاحُ والفوز والنجاة بتقوى الله.
أخي الشاب، إليك نماذج مختصرة من شباب الرعيل الأول ليكونوا لك قدوةً وأسوة ومثلاً يحتذى به:
عُكَّاشَةُ بن مِحْصَن قاتل يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ((قاتِل بهذه يا عُكَّاشة)) ، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، واستحقّ أن يكون عكاشة من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، رضي الله عنه وأرضاه.
حارثةُ بن سُراقة رُمي بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحرَه فمات، فأخبر أمه بمصيرِه فقال: ((يا أمَّ حارثة، إنها جِنَانٌ في الجنة، وإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأعلى)) رواه الترمذي.
عُمَيْرُ بنُ الحَمَام يقوم إلى جنة عرضها السماواتُ والأرض، ويبشره رسول الله أنه من أهلها، فيُخْرِجُ تمراتٍ من قَرْنِهِ ليأكلَ مِنْهُنّ، ثم يقول: إن أنا حييت حتى آكلَ تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، وما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فيقذف بالتمرات ويأخذ سيفه فيقاتل فيُقتل وهو يقول:
ركضًا إلَى الله بغير زادِ إلا التُّقى وعَمَل الْمَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشاد
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعُمَيْرُ بنُ أبي وقاص يتوارى عن رسول الله يوم بدرٍ مخافةَ أن يراه ُرسولُ الله فيسْتَصْغِرَه فيرده، وهو يحب الخروجَ لعل الله أن يرزقه الشهادة. فعُِرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، رضي الله عنه وأرضاه.
معاذ ومُعَوِّذ يقتلانِ أبا جهل أكبر صناديدِ وطغاة قريش.
إنها ـ أخي الشاب ـ صورُ التربية الجادة لشباب الإسلام في الرعيل الأول، وتلك هي حياة الأبرار الصادقين، علم نافع يتبعه عمل صالح راشد، يورث الله تعالى به عبده جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهكذا يجب أن تكون أنت وأمثالك من شباب المسلمين اليوم؛ حماس للدين وغَيرةٌ على الحرمات واهتمامٌ بمعالي الأمور وارتباط بالعلم والعلماء.
عباد الله، شبابنا ـ ولله الحمد ـ يملكون قلوبًا حية، وعواطفهم تجاه الإسلام وقضاياه قوية، فقلوبهم تنبض بالخير، وعواطفهم تفيض بمحبة الإسلام وأهله، فهم بِذرة في أرض طيبة تحتاج من يتعاهدها، ويشفق عليها ويرحمها، لتشق طريقها على أحسن حال في هذا الزمن المليءِ بالفتن؛ حتى ولو كانوا مُقصرين في بعض الأمور، فهم كغيرِهم من الناس ُيخْطِئون ويُصِيبون، ورسولُنا يقولُ: ((كُلّ ابنُ آدم خطّاء، وخيرُ الخطائين التوّابون)) أخرجه الترمذي. إلاّ أنّ هذه الأمّةَ التي كتب الله لها الخيريّةَ بين الأمَم لا ترضى لشبابها إلاّ أن يكونوا على الأرض سادةً وفي الأخلاق قادَة.
فلشبابنا ـ عباد الله ـ حق علينا أن نعينهم على أنفسهم بنصيحة مهداة أو بموعظة مسداة أو بدعوة صادقة في ثلث اللَّيلِ الأخير؛ لِيَرْتَقُوا إلى أعلى مراتب الإيمانِ واليقين بإذن الله تعالى.
وحقّ علينا ـ عباد الله ـ أن من وضع رِجْلَهُ في الطريق الصحيح أن نقَُابِلَهُ بالودّ والترحاب، وأن نحسن الظنَّ به, ونكونَ له عونًا ـ بإذن الله تعالى ـ على طاعة مولاه.
اللهم اهد شبابنا وشبابَ المسلمين، اللهم أعنهم ونحن معهم على ذكرك وشكرك وحُسنِ عبادتك.
ألا فصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ الله َوَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يأيهُا الذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4716)
أبي لا تسافر
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, السياحة والسفر
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
6/5/1427
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حوار بين فتاة وأبيها. 2- ميل النفوس إلى الاستجمام. 3- من فوائد الأسفار. 4- شروط السفر وآدابه. 5- الترفيه في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
هند فتاة صغيرة، تحبّ الحياة، يلفعها الحياء وتكسوها الحشمة، متعلقة بوالدها الذي ملأ عليها الدنيا، إخوتها صالحون، متفوّقة في دراستها، وفي أيام امتحاناتها خطف سمعها تلك الأخبار السيئة التي تلوكها فتيات أضعن الحياءَ والحشمة يتحدّثن: متى تنتهي الاختبارات حتى ينطلق بنا آباؤنا إلى بلاد الشرق والغرب نلقي عنا الحجاب ونلبَس أضيق الثياب ونحضر أرقى الحفلات والسهرات؟ وتسمع هند بعض الهمسات من فتيات بائسات يتحدّثن عن آبائهن ممن يسافر في الإجازات لا يلوي على رعيّة أو ذرّيّة، يقترفون أنواع المحرمات من الفجور والمسكرات، حتى إذا عادوا لم يستَتروا بسِتر الله بل جاهروا، وكلكم معافى إلا المجاهرون. وفي أول أسبوع من الإجازة إذا بها تسمع جهاز الهاتف، رفعت لتسمع: السيد فلان، رحلتك على الدولة الفلانية مؤكدة ومقعدك محجوز. هالها ما سمعت، وأعيدت على أسماعها كلمات تلك الفتيات البائسات اللاتي تحدّثن عما يقترفه آباؤهن. هرولت هند إلى غرفة أبيها، قرعت الباب ليخرج أبوها وقد لبس لباسًا غريبًا، وهو يبتسم ابتسامة صفراء حيية: أهلاً هند، أبشّرك أني سأعود قريبًا، لن أتأخر، هند: إلى أين يا أبي؟ أبوها: عندي سفر ضروري مع بعض أصدقائي، هند: تنهمر دموعها وتقول: أبي، اذكرني هناك، فالأعراض محرّمة. يذهب والدها وتمسك هند بعتبة الباب فتذرف دموعًا بريئة ويتقطع قلبها حسرات: لماذا تسافر؟ وإلى أين ستذهب؟ وكم تصرف من وقت ومال؟ ومن يصحَبك في سفرك؟ وكيف تستفيد من الخبرات السابقة ممن سافروا إلى البلدان التي ستسافر إليها؟
أيّها المسلمون، وفي زَحمة التطلُّعات المتطاولةِ وفي ظلِّ التّواصل الكونيّ السّريع الموّاجِ بألوانِ السّلوك والطّبائع وعلى حين فُسحةٍ مِن الوقت ووفرةٍ وانعِطافِ الرّوح إلى جِبِلَّة التبسُّط المشروع تسعى النّفوس الكالّةُ من نمطيّة الأعمال اليوميّة ورتابَة المسؤوليّات الوظيفيّة إلى البَحث عن مواطن الإخلاد إلى الهَدأة والسّكون وارتيادِ مجالَي الاعتبار والادِّكار، إجمامًا للنّفوس واستبضاعًا لقوّتها ومتناهِي نشاطِها وزيادة معارف المسافر وعلومه، قال الخليفة المأمون: "لا شيء ألذ من السفر في كفاية، إنك كل يوم تحلّ محلة لم تحلها، وتعاشر قومًا لم تعاشرهم".
تغرب عن الأوطان تكتسب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
قال الثعالبي: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكرًا على نعَمه"، وقال أبو الحسن القيرواني: "كتب إلي بعض إخواني: مثل الرجل القاعد كمثل الماء الراكد، إن ترك تغير، وإن تحرك تكدر".
عباد الله، ولئِن كانت أعلامُ الإجازة الصيفيّة قد رفرفت وبنودُها قد خفقَت وتفاوَتَ النّاس في اغتنامِ هذه الفرصةِ الذهبيّة بين ظالمٍ لنفسه وهم كثير ومقتصدٍ وسابِق بالخيرات بإذن الله، فينبغي أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاعٍ وضيعة ومستنقعاتٍ محمومة وأماكن مشبوهة فلا، ما لم يكن ثَم ضرورة، مع المحافظة على شعائر الإسلام، لاسيما الصلاة، وهل يلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة والسباع الضارية؟! وقد ذكر أهل العلم شروطًا ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين: أن يكون عند الإنسان دينٌ يدفع به الشهوات، وعلمٌ يدفع به الشبهات، والضرورة الشرعية كعلاجٍ ونحوه.
فجديرٌ أيّما جدارةٍ بالمسلم الضَّنين بدينِه الشَّحيح بعمره وهو يقابل برامجَ الحياة بين الفراغ والانشغال أن تستوقفَه هذه الدرَّة النفيسة من دُرَر جوامع كلمِه، وأن تكونَ نصبَ عينَيه وملءَ روحه وشعوره، ألا وهي قوله: : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) أخرجه الترمذي وغيره بسند صحيح.
أيها المسافر، لا تسافر مع الذين أترعت قلوبهم بحب الشهوات، ولا ترافق الذين خلت أفئدتهم من مراقبة رب الأرض والسماوات، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، ولكن رفيقًا يكون موافقًا في الطبع، راغبًا في الخير، إن نسي رفيقه ذكّره، وإن ذكر أعانه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إذا سافرتم فاصحبوا ذوي الجود واليسر)، وقال الأوزاعي: "لا يكون الرفيق فظًا غليظًا ضيق الأخلاق أو بخيلاً شحيحًا".
أخي المسافر، ماذا يحدث منك هناك؟ إن الكثير من السائحين يكون فتنةً للقوم الكافرين، يرون منه ضعف دين ودناءة نفس وسوء تصرُّفات، ما يُزهِّدهم في دينه، ويصدّهم عن اعتناقه والدخول فيه، وأصبح بعض المسافرين لا يهمُّه إلاَّ إشباع غرائزه الثائرة وشهواته الهائجة بما حرَّم الله عليه من خمورٍ ومخدرات ورقصٍ ومجونٍ وخلاعة وفنونٍ وتعرٍّ وسفور، وكأنما الله تعالى يُعبَدُ في وطنٍ دون وطن، وفي زمنٍ دون زمنٍ، فحسبنا الله فيمن شوَّهَ دينه وأضاعَ عِرضه وأذهل عقله ونكَّس رأسه وفرَّط في عقيدته وأساء إلى أمَّته، ألم يتأمل مثل هذا ماذا يحدث بعده، أهله وأولاده، إخوته وأخواته، زوجه ومن يعول؟! متى يستشعر المسافر أنه صورة تعبر عن بلده ومجتمعه ودينه وأسرته من خلال تصرفه وتعامله؟! متى يجسد الأخلاق السامية التي يتميز بها دين الإسلام ويتحلى بها مجتمعه؟! متى يصبح المسافر داعية إلى الله بقوله وفعله، ويستشعر أنه على ثغر من ثغور الإسلام؟!
أيها المسافر، إن كنت أبًا فلك ذرية، وإن كنت زوجًا فلك زوجة، وإن كنت ابنًا فلك أم، وإن كنت أخًا فلك أخوات وقريبات. فهل استشعرت قيمة الأعراض وقد أصبح واقعًا أن الاعتداء على العرض دَين يقضى من عرض المعتدي؟! ألم تهزك تلك الكلمة الصادقة التي خرجت من فيّ ابنتك المكلومة حين تقول: يا أبت، اذكرني هناك؛ الأعراض محرمة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وآله وإخوانه وأتباعه.
أما بعد: عباد الله، الترفيه لا يعني الإخلال بالقيم والثوابت، ولا الخروج على مسلّمات الدين والأعراف، فهناك الاستجمام والانبساط، وهناك الإهمال والضياع، فاختر لنفسك موقعًا يليق بك.
ولا يعني تهيئة عوامل الترفيه والترف ترك التوجيه والمتابعة، فليس الترفيه والمرح بديلا عن التربية واليقضة لفوضى العلاقات الاجتماعية وانفلات القيود والضوابط التي تحكم الأسرة.
عباد الله، تذكروا من عاد من سفره وقد علِقت به الأمراض ودبَّت في بدنه الأسقام، وربما يرجع أحدهم وقد أدمن المسكرات ووقع في المخدرات. وكم من أناسٍ عادوا في التوابيت، موتى لا حراك لهم! وعلى أيِّ حالٍ كانت نهايتهم؟ وبأي عملٍ خُتم لهم؟ وعلى أيِّ أمر طويت صحائفهم؟
إنَّ السعيدَ لهُ في غيره عِظةٌ وفي الحوادثِ تحكيمٌ ومعتبرُ
أيها الأخ المبارك، وقد وقفت الإجازةُ على الأبواب، ومهما بالغت في وسائل الترفيه والترويح فسوف تمل النفس وتتوق إلى البدائل، إذًا فالترفيه ليس آخر المشوار ولا منتهى المطالب، فهل رسمت لنفسك وأهلك الأهداف الحقيقية والطرق الموصلة؟! وهل شاركتهم في صناعة الهدف وصحبتهم إليه؟! قال السيوطي: "تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وتسويدها بأكدار المعصية والضلال". ثمة مناشط على الأبواب عسى أن تفرد بخطبة لاحقة تشخيصًا وإشادة، وسائل ومحاذير، تجاوز أو تحجيم.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، أنقذ الله به من اتبعه من عذاب السعير.
اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه الأخيار ما تعاقب الليل والنهار.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، وأصلح ذات بيننا واجمع شملنا...
(1/4717)
خدمة موجود
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
16/10/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حالنا مع الصلاة. 2- فضل الخشوع في الصلاة. 3- أسباب الخشوع في الصلاة. 4- أسباب انصراف الخشوع في الصلاة. 5- أهمية الصلاة في الإسلام. 6- أحكام سجود السهو في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله ، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه، ويتعلم أحكام العبادات وشروطها وأركانها ونواقضها ومبطلاتها. فربما يفعل المسلم فعلاً يظنّه مسنونًا فإذا هو مبطلٌ للعبادة أو منقص لأجرها.
أيها المسلمون، شركة الاتصالات وفّرت خدمة لمشتركي الجوالات لمن يرغب الاشتراك بها، ويعرفها كثير منكم وخاصة الشباب، حيث إن تلك الخدمة توهم المتّصل على صاحب الجوال بأن جواله مغلق، ويُسمعه رسالة صوتيّة بأنه لا يمكن الاتصال به الآن ويمكن الاتصال به في وقت لاحق، وفي الحقيقة أنه غير ذلك، بل جواله مفتوح، ويَعرف من هو المتَّصل عليه، فأطلقوا على هذه الخدمة اسم "موجود"، وهو فعلا جواله في الخدمة موجود، ولكنه يوحي للمتصل بأنه غير موجود.
فسبحان الله! هذه الخدمة شبّهتها ببعض المصلِّين والموجود في الصلاة ولكن قلبه غير موجود، وغير حاضر في صلاته, وصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه. نعم، البدن موجود لكن القلب غير خاشع في الصلاة، والله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]. فعنوان خطبتي اليوم: "خدمة موجود". والحقيقة موجود ليس في الجوال وإنما في الصلاة، وذلك لما نراه من واقع كثير من الناس اليوم يؤديها وقلبه غير موجود, بدن بلا قلب أثناء تأديته هذه الشعيرة العظيمة الصلاة، التي هي عماد الدين وعصام اليقين وركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين وميزان إيمان العبد وإخلاصه لربه.
نعم كثير من الناس يصلُّون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية، لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، يصلون جسدًا بلا روح، وبدنًا بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته، فيجعله يصول ويجول بتفكره في مجالات الدنيا، يتحرك ويتشاغل، يستطيل ويتثاقل، ويلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، بل لعلَّ بعضهم لا يعقل منها إلا قليلاً، والشريعة تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة، فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، والصلاة ما حافظ عليها وحفظها عبد إلا عرف بين الناس باستقامته، بإخلاصه، بحسن معاملاته، ببره وإحسانه، بسعة باله، وبنصحه للمسلمين، بمحبته للمؤمنين، إلى غير ذلك من الفضائل والمناقب التي لا تحصى.
ولا غرابة في ذلك فكما أن الصلاة أفضل الأعمال، فكذلك إقامتها تأتي بأحسن النتائج، والصلاة ليست هي الصورة المعهودة من القيام والقعود والتعبد بالألفاظ فحسب، وإنما الصلاة الكاملة هي المبنية على الخضوع والخضوع لله تعالى وحضور القلب، وصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه، وفي هاتين الآيتين الكريمتين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ حكم ربنا حكما محققا لا ريب فيه بالفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة، وعد الله لا يخلف الله وعده، وفضل الله لا يملك أحد رده.
الفلاح الذي يشمل كل ما يعرفه الناس من معاني الخير، وما لا يعرفونه مما يدخره الله تعالى لعباده المؤمنين، من النصر والعز والسعادة والتوفيق والثواب والفوز والرضوان، وما شاء الله غير هذا وذاك في الدارين، وفي الصحيح عن عثمان بن عفان عن النبي أنه قال: ((ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)).
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة لبدنه وغذاء لروحه ومغفرة لذنوبه وقرة عين له، وهذه حكمة ربنا، كما قال عز وجل: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]. وقد ذم الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضوع من القرآن، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. ولما استبطأ الله المؤمنين دعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم سبحانه أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
والخشوع في الصلاة هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه. ومن لم يخشع في صلاته فهو بمراحل بعيدة عن الفوز والنجاح. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من قلب لا يخشع، ففي الحديث الصحيح عنه: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع)).
وقد يظن البعض أن حضور القلب في الصلاة من أعظم ما تتجشمه النفس، بل يكاد يكون مستحيلا لغلبة الخواطر على ذهن المصلي، وإنما عرض لهم هذا الظن الخاطئ من شدة الغفلة عن الله تعالى وجهلهم بروح الصلاة، وإلا فلو أخذ المصلي على نفسه أن يتصور معاني الصلاة من ألفاظها التي ينطق بها وأفعالها التي يقوم بها لخشع قلبه وسكنت جوارحه وأقام صلاته واتصل بربه وانحصر ذهنه في عظمة الله تعالى ذكرًا وخوفًا وطمعًا وهيبةً وحيًاء، بل لو أقبل على الله عز وجل في صلاته بقلب يملؤه الحب والتعظيم ويدفعه الذل والافتقار ويحدوه الأمل والرغبة في الخير لما وجدت الوساوس والخواطر إلى قلبه سبيلا، وإن حدث اختلاس طارئ دنيوي في وسط صلاته فسرعان ما يحترق ويتلاشى ويذهب مع الخشوع، ذلك بأن الله عز وجل متى علم عن عبده الإيمان والصدق والإخلاص في العمل أنزل السكينة عليه، وهداه وكفاه شر الشيطان، وأعانه وثبته، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4].
أيها المسلمون، إن الإنسان ضعيف الخلقة دائم الحيرة، كثير الهلع والجزع، كثير الخطايا والذنوب، لا يستغني عن الله تعالى طرفة عين، وهذه الصلوات فروض ونوافل، تتيح لمن يصلي بطمأنينة وحضور قلب أن يسأل بارئه كل ما يريد، حتى ينفس عن مشاعره، وحتى تنبعث في قلبه الرغبة في الطاعة والتلذذ بها، والأخذ بأوامر الله عز وجل ولو كانت تتعارض ورغباته الشخصية، كما تبث فيه عدم اليأس، وتدعوه إلى التماس الخير والقوة من الله تعالى؛ لأن الإنسان الذي يعتمد على الله وحده لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا، ويملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقة وخطرا. فالإنسان في هذه الحياة وسط تيار جارف من الآلام والمصاعب، فمن لم يؤمن بالله تعالى ويؤد فرائضه على أكمل وجه ويتخذه سبحانه ملجأ في الشدائد ومعزيا في المصائب ومساعدا في المتاعب كان أشق الناس في حياته، بخلاف المؤمن الذي يحيا بهذا الإيمان الحياة الطيبة.
والصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود من الأذكار والمنجاة؛ لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال؛ لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم ولم يكن القلب حاضرا لم يحصل المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]. فروح الصلاة التوجه إلى الله عز وجل بالقلب والخضوع الحقيقي له والإحساس بالحاجة إليه، فإذا خلت الصلاة من هذه المعاني لم يصدق على المصلي أنه أقام الصلاة، بل هدمها وسلبها روحها، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، والغفلة تضاد الذكر.
وقد تكاثرت الأدلة بالندب إلى استحضار قرب الله سبحانه وتعالى في حال العبادات كلها، وخاصة الصلاة لقوله : ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه)) ، وقوله: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)).
ففروا إلى الله عباد الله، وانتظروا أوقات الصلاة انتظار المكاسب والمغانم، وأحسنوا الاستعداد لأدائها بطهارة الظاهر والباطن، وعظموا بها ربكم عز وجل، واستحضروا فيها عظمته تعالى، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية، وصلوا بقلوب حاضرة خاشعة خائفة راجية، وأكثروا من الدعاء فيما شرع الدعاء فيه كالسجود وبين السجدتين وبعد التشهد الأخير، فإن الدعاء في الصلاة أفضل من الدعاء بعدها وأنفع، واحذروا من التقصير في العمل، فإن القاصر من العمل لا يبرئ ذمة، ولا يكفر ذنبا، ولا ينور قلبا، وتأملوا فيما تقرؤونه في صلاتكم وما تذكرون الله تعالى وتدعونه، ولاحظوا أن الركوع تواضع لعظمة الله، وأن السجود زيادة تذلل وخضوع له. فرحم الله عبدا أقبل على الصلاة خاشعًا خاضعًا لله عز وجل خائفًا مذعنًا راغبًا وجلاً مشفقًا راجيًا، وجعل أكثر همه في صلاته لربه ومناجاته إياه، وانتصابه بين يديه تبارك وتعالى، قائمًا وقاعدًا وراكعًا وساجدًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
أيها الإخوة في الله، إن من الظواهر الجديرة بالمعالجة والتي لها أثر كبير في انصراف المصلين عن الخشوع في الصلاة ما قذفت به المدنية المعاصرة من وسائل الاتصال الحديثة، كالهواتف المتنقلة التي بُلي بها كثير من الناس، فيصطحبونها في صلواتهم ومساجدهم، وهي تسبب أذى وإزعاجًا للمصلين. فأي خشوع عند هذا المصلي ـ عفا الله عنه ـ الذي يقطع حلاوةَ إقباله على ربه ولذيذ مناجاته لخالقه رنينُ هاتفه المتكرر؟! فيشغل نفسه ويؤذي غيره، فهل هؤلاء الذين جاؤوا إلى المسجد مصطحبين هذه الأجهزة مفتوحة جاؤوا مصلين أم ماذا؟!
ألا فليتق الله أولئك في صلاتهم، وليحذوا من إيذاء إخوانهم المصلين وانتهاك حرمة بيوت الله. ومتى علم الله من عبده الرغبة في الخير وفقه له وأعانه عليه، ولو أن المسلمين اليوم أدوا هذه الصلاة كما سن رسول الله لكانت ـ بتوفيق الله ـ انطلاقة جادة لإصلاح أوضاعهم وتغيير أحوالهم وسلامة مجتمعاتهم وطريقًا إلى النصر على أعدائهم وتحقيق ما يصبون إليه في دنياهم وأخراهم؛ لأن في تطبيق شعائر الإسلام السلاح القوي والدرع الواقي من كل مكروه بإذن الله، ولأن الدافع إليه قوة الإيمان وصدق اليقين والشوق إلى الآخرة.
فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا صلاتكم وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الصلاة قرة أعين العباد الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، فقد قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
أيها المسلمون، عنيت الشريعة الإسلامية بالصلاة عناية فائقة؛ لكثرة منافعها للعباد في عاجل أمرهم وآجله، فقد ذكرها الله في القرآن باشتقاقاتها في أكثر من ثمانين موضعا؛ لما تضمنته من العبودية لله تعالى بالقلب واللسان والجوارح، ولما اشتملت عليه من القيام والركوع والسجود والخضوع لله رب العالمين.
فرضها الله على المسلمين في السماء السابعة ليلة الإسراء قبل الهجرة، وخاطب الله رسوله محمدا بها مباشرة وبدون واسطة لأهميتها وعظم قدرها، وحتم على العباد أداءها في أوقات معينة لا تقدم عليها ولا تؤخر عنها إلا من عذر، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر؛ لتكون صلة بين العبد وربه، حتى لا تطول بالعباد الغفلة عن طاعة الله، ولا تلهيهم المتع الدنيوية عن ذكره؛ لأن الغفلة عن الله والإعراض عن ذكره يحدث للنفوس جفاء وشقاء، وللقلوب ظلمة وقسوة.
وفي قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] أمر منه تعالى للعباد بالمحافظة على الصلوات عموما، وعلى الصلاة الوسطى وهي العصر خصوصًا، والمحافظة على الصلوات أداؤها في أوقاتها مع الجماعة لمن تجب عليه الجماعة، مع استيفاء شروطها وأركانها وخشوعها وواجباتها وسننها. وما جاء في القرآن عن الصلوات الخمس عموما وصلاة العصر خصوصا والمحافظة عليها جاء في السنة أيضا، قال رسول الله : ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)) رواه أحمد وغيره.
أما صلاة العصر فقد ورد في التهاون بها وعيد شديد في قوله : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) رواه مسلم، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)) رواه البخاري.
وقد دلت الآيات والنذر والبراهين القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله أن تضييع الصلاة أو السهو عنها سبب من أسباب دخول النار، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وفي الحديث عند أحمد بسند جيد والطبراني وغيره أن رسول الله ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)). قال بعض العلماء: "إنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه، وإن اشتغل بملكه أشبه فرعون فيحشر معه، أو بوزارته أشبه هامان فيحشر معه، أو بتجارته أشبه أبي بن خلف تاجر كفار قريش فيحشر معه".
ومما يدخل في المحافظة على الصلوات معرفة سجود السهو والإلمام به، والسهو في الصلاة يعني الغفلة، وحكمة سجود السهو إرغام الشيطان وإرضاء الرحمن. وهو مشروع لزيادة أو نقص أو شك، فمتى زاد المصلي فعلا من جنس الصلاة قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا عمدا بطلت صلاته، وإن فعله سهوا يسجد له. وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد، وإن علم فيها جلس في الحال، فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم، وإن نسي ركنا غير تكبيرة الإحرام فذكره فله أن يرجع، سواء شرع في قراءة ركعة أم لم يشرع، وهذا هو الصحيح الموافق لقواعد الشريعة، ومن شك فلم يدر كم صلى فليبن على ما استيقن ثم يسجد للسهو، لحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك ولْيبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعت له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانت ترغيما للشيطان)) رواه مسلم. ومن ترك واجبا وجب عليه سجود السهو، فإن تركه عامدا بطلت صلاته، ومن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع والإتيان به ما لم يستتم قائما، فإن استتم قائما فلا يرجع؛ لحديث بحينة أن النبي قام في صلاة الظهر من الركعتين الأوليين ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم. متفق عليه.
وسجود السهو إن كان عن زيادة في الصلاة فهو بعد السلام، وإن كان عن نقص فقبله، وإن سجد قبل السلام في كلتا الحالتين جاز.
ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد، فالذي يجعل الصلاة مرتعًا للتفكير في أمور دنياه ومحلاً للهواجس في مشاغله قلبه في كل وادٍ، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته بكثرة التفاته وعبثه بملابسه ويده ورجله وجوارحه، وربما أخلّ بطمأنينتها، ولم يع ما قرأ فيها، فيُخشى أن تُردَّ عليه صلاته، فقد ورد عند الطبراني وغيره أن صلاة من هذه حاله تُلفّ كما يُلفّ الثوب الخَلِق، ثم يُرمى بها وجه صاحبها، والعياذ بالله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. فاتقوا الله عباد الله، وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حضرة خاشعة.
واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن أكبر ما يعين على ذلك حضور القلب فيها، واستشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا، وتفريغ القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من مشاغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد مداخل الشيطان على الإنسان.
أيها المصلون، لتعلموا أن للصلاة المقبولة شروطًا وأركانًا وواجبات وآدابًا، لا بد من الوفاء بها.
وصلوا على نبيكم وهاديكم إلى ربكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلى. اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، والكفر والكافرين، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين...
(1/4718)
أهمية الاستغفار وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
أحمد المتوكل
تاونات
مسجد الرميلة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الترغيب في الاستغفار. 2- الاستغفار الذي رغبنا الله تعالى فيه. 3- آداب الدعاء. 4- فوائد الاستغفار ومنافعه الجسيمة. 5- الأنبياء والاستغفار. 6- حاجتنا إلى الاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إنّ الله تعالى أوجب على عباده تكاليف الدين، وحثهم على لزومها والاستقامة عليها، وحرَّم عليهم المحرمات، ونهاهم عن اقتراف السيئات، وحذرهم من السقوط فيها، وإن الله العليم الحليم الرحيم علِم بضعف الإنسان وتقصيره وخطئه وتحكُّم هواه وشيطانه فيه، فشرع له الاستغفار محوا لما يقع فيه من ذنوب وأوزار، وتطهيرا لما يدنس روحه من أكدار، وردََّا لما يمكن أن يلحقه بسبب ذلك من مصائب وعقوبات وأضرار، فرغّب الله سبحانه عباده في الاستغفار ليتخلّصوا من ذنوبهم، ويسلَموا من تبعاتها في الدنيا والآخرة، وحتى لا يهْلكوا بسببها رحمة منه وامتنانًا وتفضلاً وإنعامًا وإحسانًا، فقال جل شأنه: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]، وقال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49]. وشوَّق إلى واسع رحمته وحذَّر من القنوط منها فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
والله عز وجل أرسل رُسله جميعا إلى أقوامهم ليذكِّروهم برحمة ربهم وغفرانه، فأمروهم بالتوبة والوقوف بباب الاستغفار بين يدي ربهم متضرعين سائلين باكين، وشوقوهم في عفوه وحلمه، وأخبروهم بأن رحمته سبقت غضبه، وأن حلمه سبق انتقامه، وأنه جل وتعالى يغفر الذنوب ولا يبالي، ولو بلغت مكان السُّحب العوالي، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنَان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي عن أنس وقال: "حسن غريب". الله الله، ما أوسع رحمة الله، وما أشمل وأكمل وأجمل غفران الله.
ومن دلائل رحمة الله بالمذنب وإحسانه إليه ما نطق به فم رسول الله عندما قال: ((ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف الملك ثلاث ساعات، فإن استغفر من ذنبه لم يكتبه عليه ولم يعذبه به الله يوم القيامة)) رواه الحاكم عن أم عصمة العوصية وقال: "صحيح الإسناد".
فما هذا الاستغفار الذي رغبنا المولى عز وتعالى فيه؟ وكيف يكون؟
أيها المؤمنون، الاستغفار هو طلب المغفرة والصفح، وهو دليل حساسية القلب وانتفاض شعوره بالإثم ورغبته في التوبة والإقالة من الذنب وعدم المؤاخذة عليه لنيل الرحمة الربانية في الدنيا والآخرة.
أما كيف يكون فلقد بين ذلك لنا أمير المؤمنين علي حينما قال رجل بحضرته: أستغفر الله، فقال له : ثكلتك أمك! ألا تدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار اسم واقع على خمسة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبدا، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله وليس عليك تبعة، والرابع أن تعمِد إلى اللحم الذي نبت من السحت فتذيبه بالأحزان حتى تُلصِق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والخامس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله.
والاستغفار ينبغي أن يكون بتذلل وتضرع وانكسار وخضوع وافتقار، وبعيون دامعة وقلوب خاشعة ونفوس إلى رحمة ربها وصفحه وفضله طامعة, وينبغي أن يكون معه حرارة الابتهال والصدق في السؤال والتضرع في الحال والشعور بالفقر إلى المغفرة في الاستقبال. ويستحب أن يكون متواصلا بالليل والنهار، وبالأخص في الأسحار، حينما ينزل الله جل جلاله بعظمته وعزته ورحمته إلى السماء الدنيا، وينادي عباده بنداء لطيف لنيل مصالحهم وغفران زلاتهم وقضاء حاجاتهم، يقول الرسول : ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخرُ، فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفرَ له)) أخرجه البخاري عن أبي هريرة. وعلى المؤمن أن يستغفر بالصيغ الواردة في القرآن والمأثورة عن خير الأنبياء؛ فهي أنصح بيانًا وأرجح ميزانًا وأجمع للمعاني وأروع في المباني وأعظم تأثيرًا في القلوب. على أن في الاستغفار والدعاء بالمأثور أجرين: أجر الدعاء والاستغفار، وأجر الاتباع والاقتداء. ولا حرج عليه فيما يلهمه الله ويفتح له من صيغ وابتهالات، وعليه بسيد الاستغفار كما قال النبي الكريم : ((سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) رواه البخاري عن شداد بن أوس.
والله تبارك وتعالى رغب عباده في الاستغفار لما له من فوائد عظيمة ومنافع جسيمة، وأول هذه المنافع أن المستغفر يُقر بصفة الله تعالى الغفار، ويردد اسمه تعالى ويلهج به، ويتعبد له بهذه العبادة العظيمة التي يجب توفرها في عباد الله المستحقين للاستخلاف في الأرض, ويحقق ـ أي: الاستغفار ـ للمؤمن الثقة بالله وبلطفه بعباده الضعفاء، فإذا كان الدعاء مخّ العبادة فالاستغفار جوهرها, وهو دعاء واستمداد، وهو استجابة لله وتنفيذ لأمره وذكر له وصلح معه وتقرب إليه وخضوع تام له واعتراف بعجز العبد وقدرة مولاه.
أيها المؤمنون، بالاستغفار يُقال المذنب من ذنبه ويسلَم من المؤاخذة عليه، قال الرسول المُوجّه الكريم : ((من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه غُفر له وإن كان فر من الزحف)) رواه أبو داود والترمذي.
وبه تمحى السيئات وتبدّل إلى حسنات، وتنزل الرحمات، وتُدفع الآفات، وتفتح أبواب السموات، وبه تفرَّج الكروب، وتتطهر القلوب، وترتبط بعلام الغيوب، وتُكشف الهموم، وتزول الغموم, وتحصل البركة في المال، وتُحقَّق الآمال، قال الرسول عليه صلوات الله وتسليماته: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ هم فرجا، ومن كل ضِيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس. وبه تكثر الأرزاق وتزداد النعم حتى لا يدري المستغفر مصدرها، ولا الوجهة التي أتت منها.
ولقد أمر الله هذه الأمة بالاستغفار والتوبة, ووعدهم بأن يمتِّعهم متاعًا حسنًا من إغداق في النعم والطيبات وسَعة في العيش وتمتع بالأموال وصلاح في البنين والأهل إن سمعوا وأطاعوا, وتوعدهم بعذاب كبير في الدنيا والآخرة إن خالفوا وعصوا، فقال الله جل شأنه: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:2، 3].
ومن فوائده أنه يدفع العقوبة عن صاحبه ويمنع نزول المصائب به, ويحول دون حلول الكوارث والأزمات والنكبات، ويرفع العقوبات النازلة بالإنسان، كالقحط والطوفان والجوع والأوبئة المهلكة، ويحقق الأمن النفسي والاجتماعي، يقول الرسول : ((أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33], فإذا مضَيْت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)) رواه الترمذي عن أبي موسى عن أبيه.
الاستغفار دواء وعلاج، وملاذ المضطر وباب الفوز برضا الله، وأساس الوقاية من غضبه، وهو سبب فرح العبد وحبوره يوم لقاء الله، يوم يجد صحيفته مملوءة بالاستغفار، يقول الرسول الكريم : ((من أحب أن تَسُره صحيفتُه فليكثر فيها من الاستغفار)) أخرجه البيهقي بإسناد حسن عن الزبير. فالمكثر من الاستغفار يُبعث طاهرًا نقيًا فرحًا مسرورًا لا ذنب يؤاخذ عليه، ويزداد فرحًا وحبورًا عندما يقبض صحيفته بيمينه ويجدها ممتلئة بالاستغفار.
عباد الله، ومن فوائد الاستغفار المهمة والتي نحتاج إليها أشد الاحتياج في هذه الأيام بالذات نعمة هطول المطر ونزول الماء قطرات وهبوط الغيث النافع، يقول الله تعالى على لسان سيدنا نوح لمَّا أجدب قومه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وقال سيدنا هود لقومه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال سيدنا صالح لقومه: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]. ولقد أمر الله رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستغفار فاستغفر وأكثر، وأمر أمته به، ووقف على أبواب القرب من مولاه وبكى وشكا إلى الله.
الله أكبر، إنها وصايا نبوية غالية اتفقت في مجموعها على الاستغفار لما له من أثر في حصول المنافع ودفع الآفات والفواجع، ولما له من أسباب في حصول البركات وحلول الهبات وكشف الكربات.
إن نبي الله نوحا عليه السلام أمر قومه بالاستغفار ليحرك عواطفهم، وليهز مشاعرهم، وليجدد الإيمان في قلوبهم، وليُظهر لهم أن ما أصابهم من انحباس الأمطار وضيق الأرزاق وحرمان الذرية وفقد سبل العيش الكريم مردُّه أولا إلى جفاف القلوب من الإيمان وخلو الأفئدة من الخوف والتفكر والاعتبار؛ لأن جفاف القلوب والعقول أضر من جفاف الحقول، بل هو سبب كل ذلك.
أيها المسلمون الكرام، لقد اتفقت كل وصايا الأنبياء على الاستغفار؛ لأنهم عليهم السلام بدؤوا إصلاح أوضاع أممهم من القلوب، ولأنهم أرادوا أن يزرعوا الربانية في أفئدة أقوامهم، فتعطيهم قوة داخلية معنوية روحية تزرع الإيمان فيهم، فتُحرك جوارحهم بالعمل الصالح، فتتحول هذه القوة المعنوية إلى قوة مادية محسوسة.
روي أن عمر بن الخطاب استسقى يوما فلم يزد على الاستغفار، فقالوا له: ما رأيناك زدت على الاستغفار! فقال: طلبت الغيث بمفاتيح السماء، ثم قرأ قول الله تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود:3]. فعمر الملهم نطق بعين الصواب، وطلب الغيث بأعظم الأسباب، لأنه ربما رأى القلوب قد غطتها الذنوب وغلفتها، فلم يرى بُدا من المصالحة مع الله لكي تصبح القلوب وثيقة الصلة بخالقها ومربوطة به حتى يقبل منها الدعاء.
وحدث مرة أن أحد الفلاحين الصالحين لم يجد سبيلا لري أرضه التي جف ماؤها، حتى كاد الزرع يصبح هشيما، وجلس في وسطها وقال: اللهم إنك قلت وقولك الحق: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:10، 11]، وها أنا ذا ـ يا رب ـ أستغفرك راجيا أن تُفيض علينا من رحمتك، ثم طفق في الاستغفار في همة وثقة بوعد الله، فلم تمض إلا ساعات حتى تلبدت السماء بالغيوم ونزل المطر فياضا مدرارا.
أيها المؤمنون، جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: إن السماء لم تمطر، فقال له الحسن: استغفر الله، ثم جاءه آخر فقال: أشكو الفقر، فقال له: استغفِر الله، ثم جاءه ثالث فقال: امرأتي عاقر لا تلد، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه بعد ذلك من قال له: أجدبت الأرض فلم تنبت، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه بعد ذلك من قال له: جفَّ الماء من الأرض، فقال: استغفر الله، فقال الحاضرون للحسن: عجبنا لك، أوَكلما جاءك شاكٍ قلت له: استغفر الله؟! فقال لهم: أوَما قرأتم قول الله من سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الاستغفار سنة الأنبياء والمرسلين، وطريق ووسيلة الأولياء والصالحين، يلجؤون إليه في كل وقت وحين، في السراء والضراء، به يتضرعون وبه يتقربون، وبه يرتقون في مدارج القرب عند الله، به ينوِّرون قلوبهم وينيرون قبورهم، وبه يصححون سيرهم إلى الله، وبه يُنصرون ويُمطرون ويرزقون ويغاثون ويرحمون، فأبونا آدم وأمنا حواء عليما السلام لما أذنبا وعاتبهما ربهما أحسَّا بخطئهما التجآ إلى ربهما متضرعين مستغفرين نادمين مسترحمين، فكان مما قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. وقال سيدنا نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وقال: وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [هود:47]. وقال موسى عليه السلام لما قتل رجلا من الأقباط: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]. وقال شعيب لقومه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]. وقال سيدنا صالح لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. وحكى الله عن سيدنا داود لما تسَرَّع في الحكم بين الخصمين ولم يتريث في ذلك، فأحس بخطئه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]. وهذا ابنه سليمان قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]. وهذا إبراهيم عليه السلام كان يستغفر لنفسه ولأبيه رغم ضلاله، وبقي كذلك حتى تيقن أنه عدو الله فتبرأ منه، وكان يستغفر لكل مؤمن سابق ولاحق، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]. وهذا خيرتهم وخاتمهم محمد قال له ربه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وقال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]. وروى الإمام أحمد أن ابن عمر قال: إنا كنا لنعُدُّ لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: ((رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)). كان رسول الله وهو المعصوم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله، وعلى قدر منزلته عند الله يستغفر ويكثر، وهو الذي قال: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري.
فحاجة الإنسان إلى الاستغفار حاجة أساسية ضرورية قبل كل شيء؛ لأن الإنسان يلازمه التقصير في كل طاعة، ويصدر منه الخطأ كل ساعة، يقول الرسول الكريم في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم)) رواه مسلم عن أبي ذر. وحاجتنا نحن اليوم للتوبة والاستغفار أكثر من أي وقت مضى؛ لأن وقتنا هذا امتلأ بالمغريات والذنوب، وكثرت أسباب المعاصي في البيت والشارع والعمل، وقست بسبب ذلك القلوب وعلاها الران، وانطمست البصائر والأبصار، فأصبح لزاما على المؤمنين لزوم هذه العبادة العظيمة وتجديدها حينا بعد حين، واللوذ بهذا الركن الركين، اقتداء بالرسل الكرام صفوةِ خلق الله، وبرسولنا الأواه وأصحابه والتابعين الذين وصفهم الله بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:16-18]. وقال : ((طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفار كثير)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن بسر.
ومن فرط فيه جنى الحسرات وتوالت عليه الهموم والنكبات، وعاش وعنده النقص في الأرزاق، وغُبن أمام الناس يوم التلاق.
اللهم اجعلنا من المستغفرين المكثرين بالليل والنهار، واقبل اللهم استغفارنا واحشرنا مع أهلك الذاكرين، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين...
(1/4719)
الشباب بين الأمس واليوم
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
18/11/1426
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير الشباب من الانحراف والضياع. 2- أسباب فساد الشباب وضياعهم. 3- نماذج رائعة من شباب سلف الأمة. 4- الوصية بالاهتمام بالشباب وبيان بعض الأخطاء في تربيتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله عز وجل القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن انحراف الشباب وفسادهم وسوء أخلاقهم من المخاطر العظيمة التي تهدّد أمن المجتمع، وتسبّب ضياع الأمة. إذا كان المجتمع ـ أيها الإخوة ـ يعاني من تبعات البطالة وآثار المخدرات ونتائج التكفير فإن انحراف الشباب لا يقلّ خطورة عن ذلك؛ لأن الشباب هم رجال المستقبل، وهم رصيد الأمة، فإذا فسد الرجال وضاع الرصيد فعلى الأمة السلام.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد اهتمّ الدين بالشباب، وأمر بالاعتناء بهم، وحذر من إهمال تربيتهم، ففي يوم القيامة يحاسب الإنسان عن عمره فيما أفناه، ثم يحاسب عن شبابه فيما أبلاه، وفي هذا دليل على أهمية مرحلة الشباب وخطورتها، فالإنسان يسأل ابتداء عن عمره جملة واحدة، ثم يسأل ويحاسب عن أيام شبابه، ((وعن شبابه فيم أبلاه؟)).
فمرحلة الشباب مرحلة خطيرة، مرحلة مهمة، وهي المرحلة التي يتشكل فيها منهج الإنسان، ومن شب على شيء شاب عليه، ومما يزيد الأمر خطورة وسائل الفساد في هذه الأيام، التي أثرت في كثير من شبابنا، وأفسدت فطرهم السليمة. انظروا ماذا يفعلون بسياراتهم، تصفحوا رسائل جوالاتهم، زوروا المواقع التي تنال إعجابهم، تأملوا اهتماماتهم وهواياتهم، والنتيجة ها هي بين أيديكم:
هجروا المساجد والصلاة وطلّقوا سنن الرسول ومنهج القرآن
أما التلاوة فالغناء لديهم لعب البلوت وجلست الدخان
والله ـ أيها الإخوة ـ إن القلب ليتقطع حسرة وألما ويذوب كمدا مما عليه بعض شبابنا من فساد وانحراف وغير ذلك، ولا شك ـ أيها الإخوة ـ أن هذا نتيجة من نتائج إهمال الآباء لأبنائهم، انشغل بعضهم عن تربية أبنائه بمنصبه أو بمتجره أو بمزرعته أو بوظيفته أو بغير ذلك من أمور الدنيا.
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
اهتمّ بعضهم بتوفير ما لذ من المآكل وما زان من اللباس لأبنائه، وترك تربيتهم للقنوات الفضائية ورفقاء السوء والشوارع ومواقع الإنترنت، وإن شئت قل: البنات للسائق والبنون للخادمة.
أيها الإخوة المؤمنون، إن شباب اليوم أو أكثرهم إذا لم ينتبهوا من غفلتهم ويستيقظوا من رقدتهم ويعودوا إلى دين ربهم فإنهم سوف يُكوِّنوا مجتمعًا فاشلاً ضائعًا فاسدًا، لا تسأل عن حاله ومآله، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44].
أيها الإخوة المؤمنون، ولكي ندرك بوضوح وجلاء سوء حال بعض شبابنا نتأمل كيف كان شباب سلفنا الصالح الذين تربوا على كتاب الله عز وجل وعلى سنة نبيه ، ولا مقارنه.
خرج المسلمون إلى أحد للقاء المشركين، فلما اصطفّ الجيش قام النبي يستعرضه، فهو القائد، فرأى في الجيش صغارا لم يبلغوا الحلم حشروا أنفسهم مع الرجال، يريدون الجهاد في سبيل الله تعالى، يريدون إعلاء كلمة الله، لم يصطفوا للتفحيط أو تبادل الرسائل عبر الجوال، إنما اصطفوا للجهاد وللشهادة، فأشفق عليهم النبي ، أشفق عليهم الرحيم بأمته، فرد من استصغر منهم، وكان فيمن رده عليه الصلاة والسلام رافع بن خديج وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافعا لما قيل: إنه رام يحسن الرماية، فبكى سمرة وقال لزوج أمه: أجاز رسول الله رافعا وردني مع أني أصرعه، فبلغ رسول الله الخبر فأمرهما بالمصارعة فكان الغالب سمرة، فأجازه عليه الصلاة والسلام.
نموذج آخر: في غزوة بدر يقول سعد بن أبي وقاص : رأيت أخي عمير قبل أن يعرضنا رسول الله يوم بدر يتوارى ـ أي: يختبئ في الجيش ـ، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. يريد الشهادة! تدرون كم عمره؟ ستة عشر عاما، ماذا يفعل بعض الأبناء اليوم في هذه السن؟ الله المستعان.
قال سعد : فعرض عمير على رسول الله فرده لصغره، فلما رده بكى فأجازه ، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره ـ طفل صغير ـ، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة. نال الشهادة في سبيل الله تعالى، لم يمت تحت عجلات سيارته لأنه يفحّط، ولم يمت كالذين يموتون في دورات المياه بالإبر المخدرة، إنما مات شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه.
انظروا ـ إخوتي في الله ـ على ماذا يتنافس القوم، ومن أجل ماذا تسيل دموعهم، إنهم يتسابقون على الشهادة في سبيل الله، فهم حقًا محط الفخر والاعتزاز. ولو أردنا أن نفتخر بشباب اليوم، بالله عليكم ماذا عسانا أن نقول؟ أنصفوني من أنفسكم. نعم، قد نقول: إن أحدهم لا يجارى في تسريحته ولا يشابه في لبسته ومشيته وميوعته، وليس له مثيل في لعبه بكرته وتفحيطه في سيارته. هل هناك غير هذا؟ كلا إلا من رحم الله.
أيها الإخوة المؤمنون، نموذج آخر: كان لعمر بن عبد العزيز ولد صغير، فرآه عمر في يوم العيد وعليه ثوب خلق قديم متمزق، فدمعت عيناه، تدمع عيناه وهو أمير المؤمنين؛ لأنه لا يستطيع أن يكسو ابنه ثوبا جديدًا للعيد، فلما دمعت عيناه رآه ولده فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! يسأل الولد أباه، قال: يا بني، أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلِق، قال: يا أمير المؤمنين، إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله راضيا عني برضاك. لا إله إلا الله، ما أجمل هذه التربية، وما أحلى هذه التنشئة:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
إنها تربية عمر بن عبد العزيز، التربية الإيمانية المستمدة من مدرسة النبوة.
نموذج آخر: دخل على عمر أيضا ـ عمر بن عبد العزيز ـ دخل عليه في أول خلافته وفود المهنئين من كل جهة، فتقدم من وفد الحجازيين للكلام غلامٌ صغير لم تبلغ سنه إحدى عشرة سنة، فقال له عمر: ارجع أنت أيها الغلام، وليتقدّم من هو أسن منك، فقال الغلام: أيّد الله أمير المؤمنين، المرء بأصغَريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا وقلبا حافظًا فقد استحقّ الكلام، ولو أن الأمر ـ يا أمير المؤمنين ـ بالسن لكان في الأمة من هو أحقّ منك بمجلسك هذا، فتعجّب الخليفة من كلامه.
أيها الإخوة المؤمنون، نماذج والله لا تُمَلّ، فالله الله، أدركوا خطر انحراف شبابنا، واهتموا بأبنائكم، فسوف تسألون عنهم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
أسأل الله عز وجل أن يصلح لي ولكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، اتقوا الله عز وجل، واعملوا على تربية أبنائكم تربية صحيحة، أدبوهم على حب الله وحب رسوله وحب القرآن والدين، اجعلوا شباب السلف هم قدواتهم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقول أحدهم: كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن.
واحذروا ـ يا عباد الله ـ إهمال تربيتهم، وإياكم والمبالغة في تزكيتهم، فبعض الناس مبالغته في تزكيته لأولاده صارت سببا لانحرافهم وفسادهم. لقد وجد ـ أيها الإخوة ـ من يدعي صلاح أولاده وهو لا يعرف شيئا عنهم؛ لأنه لا يشاهدهم إلا عند النوم أو عند الطعام، وعندما يلام على انحراف أولاده لا يكاد يصدق ذلك، بل تجده يدافع عنهم، بل يلوم ويوبخ من يقدم له النصيحة.
أيها الإخوة المؤمنون، فنشئوا أولادكم على العبادة، ليعتادوا أدائها والقيام بها منذ نعومة أظفارهم، يقول النبي : ((مروا أولاكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)). عوّدوهم على الصيام، وأدبوهم على حفظ القرآن وتلاوته واستماعه والعمل به. علموهم سنة النبي ، ولقنوهم سيرته ومغازيه. اربطوهم بذكر الله عز وجل، وربوهم على مراقبة الله جل جلاله، ورغبوهم بالجنة وحذروهم من النار. امنعوهم ـ يا عباد الله ـ من مخالطة الأشرار صغارًا وكبارًا.
أسأله عز وجل أن يصلح ذرياتنا، اللهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا. اللهم أصلح شباب المسلمين ذكورًا وإناثًا. اللهم اجعلهم هداة مهتدين، بالقرآن عاملين وبسنة النبي متمسكين. اللهم جنّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا...
(1/4720)
البركة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, فضائل الإيمان
عبد الكريم بن عبد الرحمن الحيدري
جدة
جامع البراء بن مالك
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجتنا إلى البركة. 2- فقدان الناس للبركة. 3- السبيل إلى حصول البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: حديثنا اليوم عن أمر بالغ الأهمية لنا، فنحن نحتاجه في أعمارنا وأرزاقنا وطعامنا وشرابنا وعلمنا وبيعنا وشرائنا، ولا نستغني عنه في أغلب أمورنا، ورغم أن فقده خسارة عظيمة لنا فنحن لا نشعر بفقده ولا نحزن على فقده، فضلاً أن نعمل أسبابَ تحصيله، ألا وهو البركة، أن يبارك لنا الله عز وجل فيما أعطانا من مال وزوجه وذرية ومنزل وعلم وعمر وبيع وشراء وغيرها، وإذا بارك الله لك في شيء كان خيرًا عليك ونفعك قليله، وإذا لم يبارك لك فيه كان شرًا عليك ولم ينفعك وإن كثر.
البركة ـ أيها الإخوة ـ افتقدها كثير منا في أغلب أموره، ورغم ذلك لا يتنبه إلى ذلك ولا يحزن على فقدها أو يحاول أن يفعل الأسباب لتحصيلها.
ولو استعرضنا حالنا ـ أيها الإخوة ـ حينما نزعت البركة منا لوجدنا ما يُحزن: الذرِّيةُ التي يقول الله تعالى عنها: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا صارت عند بعض الناس مصدر شقاء ومتاعب، لماذا؟ لأنه لم يبارك فيهم. الزوجة التي يقول الله عز وجل عنها في كتابه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً ـ تسكنوا إليها أي: تألفوها ترتاحوا تطمئنوا إليها ـ لا ألفة، ولا مودّة، ولا رحمة، مشاكل، خلافات، محاكم، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيها. نزِعَت البركة من أموالنا وأرزاقنا؛ الواحد دخلُه في الشهر أربعة آلاف أو خمسة آلاف أو أقلّ أو أكثر يأتي آخر الشهر لم يبق منه شيء، لا يدري كيف صرفه، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيه. الذي يعمل في البيع والشراء في الأراضي في العقار في السيارات في المحلات التجارية يشكو من قلّة البركة. التاجر يملك الملايين وتجد جيرانه أقاربَه رحِمَه فقراء محتاجين لا يتصدَّق عليهم يعيش يشقى بماله، يموت لم يبنِ له مسجدًا ينفعه في الآخرة، لماذا؟ لأن البركة نزعت من ماله. أعمارنا، أغلى ما يملك الإنسان في الدنيا عمره، تمر السنة والسنتان والعشر سنين والواحد منا مكانه يراوح، في عبادته، في علمه، في حفظه لكتاب الله، في تفقهه، في دينه، وإن تقدم فشيئًا يسيرًا، يعيش الواحد منا الستين والسبعين سنة وإذا قارن هذا العمر الطويل بما قدم للآخرة يجد الفارق الهائل، ربما لم يحفظ خمس أجزاء من القرآن، لماذا؟ لأنه لم يبارك في عمره.
أوقاتنا مهدره، 24 ساعة في اليوم والليلة، لو تأملنا كيف تذهب لحزنا على ذلك، 6 ساعات في النوم، 6 ساعات عمل، وساعة للصلوات الخمس، كلها ما يقارب 12 إلى 13 ساعة، والباقي ما يقارب النصف ضائع، لماذا؟ لأن البركة نزعت من أوقاتنا.
ومما يزيد الأمر خطورة أننا سوف نسأل عن أعمارنا: فيم قضيناها؟ يقول النبي : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن عمله فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)).
ماذا نقول لله إذا سألنا عن أعمارنا فيم أفنيناها؟ نقول: نصف أعمارنا ضائع فيما لا فائدة منه، أغلى شيء نملكه في الدنيا نضيّع نصفه، خسارة كبيرة.
نزعت البركة من علم كثير منا، تجد الواحد عنده شهادة جامعية أو خريج كليه علوم شرعيه وليس له أثر في أهله وجيرانه وأقاربه، كم سمعنا من المحاضرات، كم حضرنا مجالس علم، كم قرأنا من كتب، أين أثر ذلك علينا وعلى أهلنا وجيراننا ومجتمعنا؟ لا شيء، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيه، لماذا؟ لأننا ربما لم تكن نيتنا خالصة لله، لم نستشعر مسؤوليه تبليغ العلم، ((بلغوا عني ولو آية)) ، لا نستشعر أهمية الدعوة إلى الله.
هذا هو حالنا عندما نزعت البركة منا، تحولت النعم إلى نقم، وأسباب الراحة والسعادة إلى شقاء ومتاعب، وأصبحنا نجري وراء الدنيا، ونحن كالذي يشرب من البحر؛ كلما زاد شربًا زاد عطشًا.
فكيف المخرج من ذلك؟ ما السبيل إلى حصول البركة؟ ماذا نعمل حتى تحصل لنا البركة ونسعد بما يعطينا الله من نعم؟ هناك أسباب كثيرة، هناك أسباب عامة، وهناك أسباب خاصة ببعض الأمور.
أما الأسباب العامة فمنها تقوى الله والبعد عن المعاصي، يقول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. فَقدُ البركة مصيبة سببها أفعالنا، معاصينا، لا بد أن نتنبه لذلك.
الدعاء من أهمّ ما تستجلب به البركة الدعاء، أن تسأل الله أن يبارك لك فيما أعطاك، وانظروا كيف يعلمنا الله سؤال البركة منه تعالى في قصه نوح: وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]. وفي الدعاء العظيم الذي علمه النبي للحسن: ((اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)).
صلة الرحم من أسباب حصول البركة، يقول النبي : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) رواه البخاري عن أبي هريرة. فصله الرحم سبب للبركة في الرزق والعمر، وقطيعة الرحم شؤم على فاعلها.
وما يدرينا ـ أيها الإخوة ـ أن ما نحن فيه من قلة البركة في العمر والوقت والرزق هو بسبب قطيعة الرحم، فلنتق الله، ومن كان عنده رحم قاطعها فليتق الله، وليسارع ويذهب إليهم ويصلهم ويحسن إليهم.
قراءة سورة البقرة، يقول النبي في الحديث الذي يرويه مسلم: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان ـ من طير صواف تحاجان عن أصحابهما)) ، ((اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)) ، قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
السلام، يقول تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور:61]، مباركة أي: يرجى فيها الخير والبركة. وعن أنس قال: قال لي رسول الله : ((يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك)).
هذه بعض الأسباب العامة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
هناك أساب خاصة ببعض الأمور مثل أسباب البركة في الرزق سواءً كان راتبًا أو غيره، فمن ذلك:
القناعة والرضا بعطاء الله، يقول النبي : ((إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له فيه)) السلسلة الصحيحة (1658).
أداء العمل الذي أخذتَ الأجر عليه كما يجب، يقول النبي : ((إن الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها، ورب متخوّض في مال الله ورسوله له النار يوم يلقاه)) السلسلة الصحيحة (4/124)، يعنى أن الذي يأخذها بغير حقها لن يبارك له فيها، سواءً كانت وظيفة أو صنعة أو غيرها.
ومن أسباب البركة في المال أداء الحق الذي فيه، سواءً كان حقا واجبا مثل الزكاة أو مندوبا إليه غير واجب مثل الصدقة وغيرها، يقول النبي : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) رواه البخاري عن أبي هريرة، ويقول : ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل)) روه مسلم عن أبي هريرة، أي: أن الصدقة تكون سببًا للبركة فيه.
عدم الطمع والشره والجشع، يقول حكيم بن حزام: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى)) ، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم ـ يا معشر المسلمين ـ على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله حتى توفي. رواه البخاري.
من أسباب البركة في البيع والشراء الصدق وعدم الغش، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت البركة من بيعهما)) رواه البخاري ومسلم.
عدم الحلف في البيع، يقول أبو هريرة: سمعت رسول الله يقول: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) رواه البخاري ومسلم. إذًا لا تحلف ولا تغشّ ولا تكذب ـ أخي البائع ـ حتى يبارك لك في بيعك وشرائك.
من أسباب البركة في الطعام والشراب التسمية، يقول النبي : ((إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره)) ، وكان النبي يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله : ((أما إنه لو سمى لكفاكم)) رواه الترمذي عن عائشة. وهذا يدل على أن التسمية من أسباب البركة في الطعام.
لعق الأصابع والإناء بعد الأكل، روى جابر رضي الله عنه أن النبي أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: ((إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) رواه مسلم.
الخلاصة أن البركة نعمة من الله، فمن بارك الله له فيما أعطاه كان ذلك خيرًا له ونفعه وإن قل، وأن من نزعت البركة منه كان ذلك شرًا عليه ولم ينفعه ذلك الشيء وإن كثر، بل ربما كان سببًا لشقائه.
إننا في هذا الزمان يشكو كثير منا من نزع البركة في المال، في الذرية، في الرزق، في العمر، في الوقت، البيع، الشراء، وهذه خسارة عظيمة.
إن هناك أسبابا لتحصيل البركة منها العامة مثل: 1- تقوى الله، 2- البعد عن المعاصي، 3- الدعاء، 4- صلة الرحم، 5 - قراءة سورة البقرة، 6- السلام. وهناك أساب خاصة ببعض الأمور مثل: البركة في الرزق من أسبابها: القناعة والرضا بما قسم الله، أداء العمل الذي أخذت من أجله الأجر على الوجه المطلوب. البركة في المال من أسبابها: أداء الحق الذي فيه، عدم الطمع والجشع والشره في أخذ المال وإعطائه. البركة في البيع والشراء من أسبابها: الصدق وعدم الغش، عدم الحلف. البركة في الطعام من أسبابها: التسمية قبله، لعق الأصابع والإناء.
هذا والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
(1/4721)
طعم الرضا
الإيمان
خصال الإيمان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
28/4/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطلب الطمأنينة واستقرار النفسي. 2- نعمة الرضا. 3- فضل الرضا. 4- حاجة الأمة في هذا العصر إلى الرضا. 5- فضل المجتمع المتديّن. 6- وجوب الانقياد لسنة المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه والعمل على مرضاتِه وتَركِ ما يُسخطه، فما زاغ من اتقاه، ولا خاب من رجاه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:61، 62].
أيها الناس، إنَّ مِن الأمور التي لا يماري فيها العقلاء ولا يتجاهلها من هم على هذه البسيطة أحياء ولهم أعينٌ تطرف وعقول تدرك أنَّ الطمأنينة والاستقرارَ النفسي مطلب البشر قاطبةً وإن اختلفوا في تحديد معاييرها وسبُل الوصول إليها، وربما ضاقت بعض النفوس عطَنًا في نظرتها لمثلِ هذا المعنى الرفيع، فحصرته كامنًا في المال وتحصيله، ونفوسٌ أخرى حصرته في الجاه والمنصب، ونفوسٌ غيرها حصرته في الأهل والولد. وهذه المفاهيم وإن كانت لها حظوة في معترك الحياة الدنيا، إلا أنها مسألةٌ نسبيّة في الأفراد ووَقتيّة في الزمن، والواقع المشاهَد أن الأمر خلافُ ذلكم، فكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه، ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي؛ إذ كم من غنيٍّ يجد وكأنّه لم يجد إلا عكسَ ما كان يجد، وكم من صاحب جاهٍ ومنزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار في وردٍ ولا صدر، ولا لاح له طيفُه يومًا ما، وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّب على رمضاءِ الحزن والقلق والاضطراب النفسيّ وعدم الرضا بالحال، بينما نجد في واقع الحال شخصًا لم يحظَ بشيء من ذلكم البتةَ؛ لا مال ولا جاهٍ ولا أهل ولا ولد، غيرَ أن صدرَه أوسع من الأرض برمّتها، وأنسَه أبلغُ من شقاء أهلها، وطمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم واضطرابهم، لماذا؟ وما هو السبب عباد الله؟ لأنّ تلكم الأصناف قد تباينت في تعاملها مع نعمة كبرى ينعم الله بها على عبده المؤمن، نعمةٍ إذا وقعت في قلب العبد المؤمن أرته الدنيا واسعةً رحبة ولو كان في جوف حجرةٍ ذرعُها ستة أذرعٍ، ولو نزِعت من قلب العبد لضاقت عليه الواسعة بما رَحُبت ولو كان يتقلّب بجنبيه في حجر القصور والدور الفارهة.
إنها نعمةُ الرضا عباد الله، نعم نعمة الرضا، ذلكم السلاح الفتّاك الذي يقضي بحدّه على الأغوال الهائلة التي ترعب النفسَ فتضرب أمانها واطمئنانَها بسلاح ضعف اليقين والإيمان؛ لأن من آمن عرف طريقَه، ومن عرف طريقه رضي به وسلكه أحسنَ مسلكٍ ليبلغَ ويصل، لا يبالي ما يعرض له؛ لأن بصرَه وفكره متعلقان بما هو أسمى وأنقى من هذه الحظوظ الدنيوية. ولا غروَ ـ عباد الله ـ أن يصل مثل هذا سريعًا؛ لأنّ المتلفِّت لا يصل ولا يُرجى منه الوصول، يقول المصطفى : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً)) رواه الترمذي، وقال : ((من قال: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً وجبت له الجنّة)) رواه أبو داود.
إنّ للرضا ـ عباد الله ـ حلاوةً تفوق كلَّ حلاوة، وعذوبةً دونها كلُّ عذوبةٍ، وله من المذاق النفسي والروحيِّ والقلبيّ ما يفوق مذاقَ اللسان مع الشهد المكرَّر. فهذان الحديثان ـ عباد الله ـ عليهما مدار السعادة والطمأنينة، وباستحضارهما ذكرًا وعملاً تتمكّن النفس من خوض عُباب الحياة وتكفّؤِ أعاصيرها دون كُلفةٍ أو نصب، مهما خالط ذلك من مشاقٍّ وعنت؛ لأن الحديثين قد تضمّنا الرضا بربوبيّة الله سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له، فأخلِق بمن جمع هذه الدعاماتِ الثلاثة في قلبه أن يحيا هنيًّا ويعيشَ رضيًّا؛ لأن هذه الدعامات ـ عباد الله ـ مقاصد مشروعةٌ مضادّة لما يخالفها من الهوى والشبهة والشهوة التي تعترض المرءَ ما دام حيًّا، وهي معه في سجال معتَرَكٍ بين الحقّ والباطل والزَّين والشَّين والرضا والسخط، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط، ولا يظلم ربّك أحدًا.
أيها المسلمون، إن الأمة في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن بعضها ببعض وتتلاقح فيه الشرور والنكبات لهي أحوج ما تكون إلى إعلان الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً. نعم عباد الله، إنها أحوج ما تكون إلى إعلان ذلكم بلسانها وقلبها وجوارحها؛ لأن ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم يصدق فيه قول الحسن البصري رحمه الله حينما سئل: من أين أتِي هذا الخلق؟ قال: "من قِلَّة الرضا عن الله"، قيل له: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: "من قلّة المعرفة بالله". ولا جرم ـ عباد الله ـ أننا نسمع مثل هذا الإعلان على الألسنِ كثيرًا، بيدَ أن هذا ليس هو نهاية المطاف ولا غاية المقصد، بل إننا أحوج ما نكون إليه في الواقع العمليّ ليلامسَ شؤوننا المتنوّعة في المأكل والمشرب والملبس والعلم والعمل والحكم والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام وسائر نواحي الحياة.
إن النفوسَ مشرئبّة والأحداق شاخصة إلى أن ترى في واقع الناس الرضا بألوهيّة الباري جلّ شأنه المتضمّنة الرضا بمحبّته وحده وخوفه وحده ورجائه وحده وكلِّ ما من شأنه أن يُصرَفَ له وحده، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:162-164].
إنه الرضا بربوبيته سبحانه المتضمِّن الرضا بتدبيره وتقديره وأن ما أصاب العبد لم يكن ليُخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربُّه، وإذا رضي عنه ربّه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه، وقد رتّب الباري سبحانه في محكم التنزيل في غير آيةٍ رضاه عن الخلق برضاهم عنه فقال في عدّة آيات: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119، التوبة:100، المجادلة:22، البينة:8].
عباد الله، إن انتشارَ الرضا بدين الله في أرضه لهو مظنّة سعادة المجتمعات المسلمة برمّتها، ومتى عظّمت الأمة دينها ورضيت به حكَمًا عدلاً في جميع شؤونها أفلحت وهدِيَت إلى صراط مستقيم. وإن واقعَ مجتمع يشدّ الناسَ إل التديّن ويذكّرهم بحقّ الله وتُشَمّ رائحة التديّن في أروقته لهو المجتمع الرضيُّ حقًّا المستشعرُ ضرورةَ هذا الدين له كضرورةِ الماء والهواء؛ لأن كلّ أمّة تهمل أمرَ دينها وتعطّل كلمةَ الله في مجتمعها فإنّما هي تهمل أعظَم طاقاتها وتعطِّل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة. فيا لله العجب كيف يتحلَّل أقوام عن دينهم ويستخفّون به ويقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدون من آمن به يبغونها عوجًا؟! ويا لله العجب كيف يتوارى أقوام بدينهم ولا يظهرونه إلا على استحياءٍ أو تخوّف؟! أين هؤلاء من قول النبي : ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار)) رواه أبو داود والنسائي؟!
ألا ما أعظمَ الأمةَ الواثقةَ بنفسها الراضيةَ بربها ودينها ورسولها ، تردّد في سرِّها وجهرها: "رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً".
إن الاضطرابَ والتفرّقَ والذلَّ والخوف والفوضى كلُّ ذلك مرهون سلبًا وإيجابًا بالرضا بالدين وجودًا وعدمًا، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
إنه الدين الكاملُ الصالح لكلِّ زمان ومكان، إنه دين الرحمة والرأفة والقوّة والصدق والأمانة والاستقامة والعبودية لله، دين متين خالدٌ لا يُقوَّض بنيانه ولا تُهزّ أركانه، دينٌ لا يشوبه نقصٌ ولا يفتقر إلى زيادةٍ، دين كامل بإكمال الله له، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن حلاوة الإيمان لا يلَذّ طعمها ولا تلامس شغاف قلب المؤمن حتى يرضى بمحمد نبيًّا ورسولا، وذلك بأن ينقادَ له ويسلّم تسليمًا مطلقًا بما أتى به من الوحي، فلا يتحاكم إلا لهديه، ولا يحكّم عليه غيرَه، ولا يرضى بحكم غيره البتّةَ، وأن لا يبقى في قلبه حرجٌ من حكمه، وأن يسلّم تسليمًا، أيًّا كان حكمه ، حتى وإن كان مخالفًا لمراد النفس أو هواها أو مغايرًا لقول أحدٍ كائنًا من كان؛ لأن الحبيبَ قال كما في الحديث الصحيح: ((كلُّ أمتي يدخل الجنّةَ إلا من أبى)) ، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنّةَ، ومن عصاني فقد أبى)).
ألا إنّه لا أقبحَ ولا أخزى في العصيان من معارضة سنته بالهوى أو الشهوة أو تقديم العقل عليها أو التشكيك فيها، كما وقع في أتُّون ذلكم فئامٌ من الناس على وجه الحيلة وهم لا يهتدون سبيلا، وبالأخصّ في جملةٍ من المسائل التي يبني عليها المسلمون مرتكزاتهم وثوابتهم الشرعية، وذلك من خلال الترويض على استسهال نقد نصوص السنّة دون مسوِّغٍ شرعيّ يجب الرجوع إليه والجرأة على مواجهتها ووصفها بأنها تخالف المعقول تارةً أو لا تلائم واقعَ الحال تارات، بل لقد شرق أقوامٌ بالسنة النبوية حتى أضحت شوكةً في حلوقهم، فيا لله العجب، إذا كان يسعى إلى الماء من يغصّ بلقمةٍ واحدةٍ فإلى أيّ شيء يسعى من يغصّ بالماء ذاته؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ألا رحم الله الحافظ ابن حجر وقد أحسن حين قال: "وقد توسَّع من تأخَّر عن القرونِ الثلاثة الفاضلة في غالبِ الأمور التي أنكَرَها أئمّةُ التابعين وأتباعُهم، ولم يقتنِعوا بذلَك حتى مزَجوا مسائلَ الديانة بكلام الفلاسفةِ، وجعلوه أصلاً يرُدّون إليه ما خالَفَه من الآثار بالتأويل ولو كان مستَكرَها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأنّ مَن لم يستعمِل ما اصطَلحوا عليه فهو عامّيّ جاهل، فالسعيد من تمسَّك بما كان عليه السلف واجتَنَب ما أحدثه الخلف".
مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:80-82].
ألا فاتقوا الله عباد الله، ووصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمَركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبّحةِ بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى عليَّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
(1/4722)
بشائر النصر في فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
خالد بن محمد طقاطقة
عبدون
7/7/1426
جامع أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المبادرة إلى صلاة الجمعة. 2- استجابة الله تعالى لدعاء المضطرين. 3- بشائر النصر. 4- سنة الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أيتها المسلمات، يا أصحاب الجباه الطاهرة المتوضئة الساجدة الطائعة، يا من تحفكم ملائكة الرحمن بعد أن طوت الصحف ليستمعوا الذكر الآن، قال : ((إذا كان يومُ الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم، فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضة، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر)) أخرجه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح.
فصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم محمد ، وصلاة الله وسلامه على النبيين والمرسلين، وسلام الله على الملائكة الكرام البررة، وسلام الله على الصديقين والشهداء ما تعاقب صيف وشتاء، وما امتدّ ظلٌ وفاء، سلام الله على شهداء الأمة الذين رووا الأرض بدمائهم الزكية، سلام الله على شهداء الأقصى الذين عرفوا طريق الجنة، ولسان حالهم يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ، وهنيئًا لنا أمة الإسلام أن جعلنا الله من المسلمين، وأن أكرمنا لنكون في بيتٍ من بيوته مع الملائكة الكرام الكاتبين، فأي تشريفٍ أعظم من تشريف الله تعالى؟! وأي نصرٍ أعظم من نصر الله تعالى؟! وأي بشاراتٍ أعظم من بشارات القرآن العظيم؟! نعم، القرآن ربيع قلوب المؤمنين، ومثبّت همم المجاهدين، ومصبّر الجرحى والثكالى، وأنيس المأسورين، وأي مناجاةٍ أعظم من قرع أبواب السماء بالدعاء؟! فكم من أشعث أغبر من بين المسلمين كان صادقًا في دعواه حتى قرعت أبواب السماء وهو يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، فكانت دعوات هؤلاء الصالحين تقرع أبواب السماء حينما انقطعت كلّ الأسباب وأغلقت كلّ الأبواب إلا باب الرحمن الجبار العزيز الوهاب الذي بيده العزّ والعطاء والنّصر والتأييد، إنه الباب الوحيد الذي وقف عنده الأنبياء والصالحون والمجاهدون، قال الله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إنه يسمع دعاء المضطرين، ويعلم صدق المجاهدين، يسمع أنين المجروحين، ويعلم نية المرابطين، فيا لها من آيةٍ متجدّدةٍ وكأنها أنزلت اليوم، سهام قسّام المجاهدين في أرض فلسطين على رؤوس إخوة القردة والخنازير من المعتدين والمغتصبين أحالت بقدرة الله ليلهم إلى جحيم ونهارهم إلى نار حتى أيقنوا بقدرةِ القادر الجبار، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وكأن الآية تقول لنا: إن أردتم مزيد نصر فاقرعوا أبواب من ذلّت له الرقاب، فلا إله إلا الله، ما أكرم الله، ولا إله إلا الله، ما أعظم الله.
فهذه دعوات إلى الرحمن السميع العليم صاعدة، وهذه آيات من الرحمن العزيز كأنها اليوم منزلة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ، وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، فكل شيءٍ حولنا ـ يا عباد الله ـ لله فيه حكمة، وتذكّروا أن كل من كان عدوًا لله فهو ضعيف، قال الله تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ، فثقوا بنصر الله وبوعد الله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وقال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، وقال سبحانه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ، وقال تعالى: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلقد تضمّنت سيرة النبي مجموعةً من المبشرات لهذه الأمة المباركة، ومن ذلك ما رواه الصحابي الجليل المجاهد خباب بن الأرت قال: أتيت النبي وهو متوسّد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: ألا تدعو الله؟! فقعد وهو محمرٌ وجهه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحمٍ وعَصَبٍ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ والذئب على غنمه)) وفي روايةٍ: ((ولكنكم تستعجلون))، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
فثقوا ـ يا عباد الله ـ بنصر الله، فإن نصر الله قريب، وبشائر النصر قد لاحت بإذن الله في الأفق، يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
أتذكرون ما أصابكم يوم أحد؟! أتذكرون ما أصابكم من جراحٍ وحصارٍ وتضييق؟! أتذكرون شهداءكم؟! أتذكرون بكاء أطفالكم؟! أتذكرون أنين الأيتام؟! أتذكرون حنين المبعدين؟! أتذكرون وتذكرون؟! فقد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة والهلاك على الكافرين، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وإن كان قد أصابكم قتل وجرح فقد أصاب أعداءكم قريبٌ من ذلك، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء).
عباد الله، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. نقول ذلك ـ يا عباد الله ـ ونكرره لأنّ الله وحده هو الذي يهبنا النصر ولا أحد غيره، فهو يهب النصر لمن شاء ومتى شاء، فلا يظننّ ظانّ بأن النصر لهذه الأمة يقوم بلا إسلام، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. ومدح الله المؤمنين الذين عرفوا حقيقة النصر فأقاموا شرع الله في أرض الله، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
فنسأل الله العظيم أن يهيّئ لإخواننا في أرض فلسطين الحكم بكتاب الله وبسنة النبي ليكون بصيص النصر في هذه الأيام مباركًا في أرض غزّة هاشم، نصرًا يشعّ بعد نحو أربعين سنةٍ من الجهاد والرباط، وفاتحةً بإذن الله لفكّ قيود الأقصى المبارك وما ذلك على الله بعزيز، ونسأل الله تعالى أن لا يحقّق لأعدائه غاية، وأن لا ينجح لهم أمنية، وأن يحفظ أهل فلسطين من مؤامرات المعتدين الذين يمكرون ويخططون لفتنة المسلمين وطمس عقيدتهم وزرع الفتنة بينهم، فقد قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، فكلنا أملٌ وثقةٌ بإذن الله أن اندحار المغتصبين من أي شبرٍ من أراضي المسلمين هو نصرٌ وإن سماه أعداؤنا ما سموه، ولن يكتمل فرح المسلمين إلا باسترداد كامل الحقوق المغتصبة بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، وتتويج ذلك كله بعودة الأقصى الأسير إلى سماحة الإسلام ونوره، فنسأل الله أن يكون ذلك قريبًا، ونسأله تعالى أن يجمع قلوب إخواننا في أرض فلسطين، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه جواد كريم.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِ وسلم على عبدك ونبيك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن سائر صحابة رسول الله أجمعين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأعلِ اللهم بعزتك كلمة الدين...
(1/4723)
دلالات الحرب على فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
19/1/1423
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اشتداد المعركة مع اليهود. 2- الحرب صليبية يهودية. 3- دعم أمريكا لليهود. 4- جرائم اليهود في فلسطين. 5- من دلالات هذه الحرب. 6- واجب المسلمين تجاه ما يحدث في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
إخوة الإسلام،
غَصَّ الثرى بدم الأضاحي وتلهّبت سوحُ الكفاحِ
وتبرّجت جند اليهودِ وأطرقت جندُ الصّلاحِ
والنور طال غيابه والليل مسدول الجناحِ
وحناجر العملاء بُحّت من مبادلة النباحِ
والدهر لاث جباهَهم بالعار بالكفر البواحِ
والقدس في أسر اليهود وهم على دن وراحِ
والمسجد الأقصى غدا في الأسر مغلولَ السراحِ
أيها الإخوة الكرام، لقد بلغت المعركة مع اليهود أوجها، وتعالت نيرانها، واشتد حنقها، والأمة الإسلامية والعربية تعاين الحدث، متفرجةً عن كثب، لاغيةً باللغط, مشغولةً بالنغَم.
المعركة في فلسطين حرب صليبيّة يهوديّة تشن على الأبطال البواسل، ولا يزال عندنا وقت للعب وساعات للهو، ولحظات للتأمل والتفكير!!
فأين أنتم ـ يا مسلمون ـ عن حرب شعواء ضروس، ترعاها أمريكا الصليبية والتي طبل لها الآلاف، وغنى لها الخونة والعلمانيون بأنها راعية السلام وأمة الحرية والعدالة وبلاد حقوق الإنسان وأنها وأنها؟!
ها هي أمريكا اللعينة تقدم دعمها السخي لليهود أسلحةً وأموالاً ورأيًا وحنقًا على أبطال المقاومة في فلسطين، وتقول لخنزير اليهود: دمّر المقاومة، صفِّ الأبطال، أهلك كلَّ معترّض ومعاند قبل وصولنا وقبل أن تتّسع المعركة.
ها هم ـ يا مسلمون ـ النصارى والعالم أجمع مسرور بما يحل بإخواننا المسلمين في فلسطين، ويقولون: "يجب أن يقف إطلاق النار من الطرفين"، والجميع يشاهد ما يصنع المجرمون من حرب شديدة على فلسطين؛ هدموا المباني، وسحقوا المنشآت، وجرفوا الشهداء، وقتلوا ودمروا بلا توقف ولا هوادة مع دوام الاحتلال للمدن الكبيرة، فماذا ننتظر بعد ذلك؟!
أما قرأتم في القرآن: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]؟! وهل وعيتم قوله سبحانه وتعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]؟!
فأين هم مطبِّلو السلام ودعاة الصلح والمعايشة مع إسرائيل؟! ها هي إسرائيل تدوس كلَّ ذلك بتوقيعات أمريكية صريحة وبتأييد نصراني شامل. وإن لهذه المعركة لدلالات وعظات منها:
أن هذه الحرب كشفت الشيطان الصليبي للسُّذَّج والبلَهاء، وأنه راضٍ وفرح بما يجري في فلسطين، فهو يقود المعركة ويدعمها ويغذيها؛ لكي يصفي كل جهاد ومقاومة ضد إخوان القردة والخنازير، وأن هذه الحرب تؤكد لنا أن ملة الكفر واحدة، وأنهم يتحزبون على الإسلام وأهله مهما كلّفهم الثمن أو أضناهم الجهد، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
ومن دلالات الحرب أن خيار الفلسطينيين هو الجهاد والمقاومة؛ لأن اليهود ما برحوا يدوسون كل سلام، ويهينون كل اتفاقية ومحادثة وحاور.
وإننا لسعداء بما يقدمه الأبطال في (مخيم جِنين) من مقاومة باسلة وتضحيات جبارة، انذهل لها الشيطان الصليبي أمريكا التي هي شريك إسرائيل في هذه الحرب. ولقد ارتعب اليهود من أناس يحبّون الموت كحب اليهود للحياة، بل أشدّ، وقد قال أبو بكر لأبى سليمان خالد: (اطلب الموت توهَب لك الحياة).
إن منازل الموت وساحات البطولات لا تَهب الحياة فحسب، بل تهب حياة العزّ والشرف، وتسجّل تاريخ البذل والصمود، وتمسح العار وتزيل الهوان. فلله درهم من مجاهدين أشاوس، رفعوا العار عن أمتنا، وأرخصوا دماءهم لله تعالى، وما بالوا بالهوان العربي الكبير، ولا تهيّبوا الغطرسة الصليبية تجاههم، التي تحمي خنزير اليهود وتسميه رجل السلام.
هذا رجل السلام الذي يبيد الأخضر واليابس، ويرتكب المجازر البشعة تجاه المخيّمات والعزّل، ويضرب بكل قواه وإمكاناته، تحت المتابعة والتأييد الأمريكي الصليبي، فهل وعيتم عدوكم يا مسلمون؟!
عباد الله، إنّ النصارى ـ ولا سيما أمريكا ـ شركاء اليهود في المذابح الشرِسة تجاه الإخوة المسلمين في فلسطين، فكيف بعد ذلك تظهر لنا من يسميهم بأرباب العدالة وحماة الديمقراطية ومجتمعات السلام والوفاق؟! إن هذا شيء عجيب!
لا بد ـ أخي المسلم ـ أن تجدّد عقيدة الولاء والبراء تجاه هذه الأحداث، فتحبّ المؤمنين وتواليهم، وتبغض المجرمين وتعاديهم، ومن صور معاداتهم الدعاء عليهم بالهزيمة والخذلان ومقاطعة منتجاتهم، لا سيما الأمريكية، وقد أفتى الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين بضرورة مقاطعة المنتجات الأمريكية ولو بصورة فردية، جراء ما يصنعون في بلاد المسلمين، وقد صحّ قول نبينا : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)).
وتأكد أنّ كل بلاء يحصل في العالم الإسلامي هو من صنيع النصارى والصليبيين الذين قال الله فيهم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. ولا يزال العرب والمسلمون إلى هذه اللحظات يعانون سوء المعاملة منهم، قاتلهم الله ووقانا شرهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المسلمين، إن ما في فلسطين سيمتدّ إذا طال سكوت المسلمين، ويُخشى على بُلهاء السلام أن يرددوا كثيرًا: (أُكِلت يومَ أكل الثور الأبيض).
إن جهاد الإخوة في هذه الأيام مِن أبلغ الجهاد وأعظمه، فإنهم يقاومون بأسلحة تقليدية أمام ترسانة إسرائيلية ضخمة، وبعدد قليل أمام متدرّب كثير، والعالم كله يشاهد ويتفرج.
فأدوا ـ يا مسلمون ـ شيئًا تجاه هذا العدوان الشامل، وإنه لمن أبلغ صوَر الإثم والعار أن يؤدّيَ المسلم دور المخذّل والغاشّ لهؤلاء المجاهدين، شاركوا في حملة خادم الحرمين الشريفين ـ وفقه الله ـ لدعم الجهاد والصمود الفلسطيني بكلّ ما تملكون، فقد قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه)). وذكروا نساءكم وأبناءكم بالصدقة والوقوف وبالآلام تجاه هذه الأحداث العصيبة، ومن ذلك:
أولاً: الدعاء لهم ليلاً ونهارًا، فرُبَّ دعوة صادقة من أحدكم يفتح الله بها عليهم، ويكسر بها عدوهم.
ثانيًا: الصدقة والإنفاق، وإن هذا الباب خير من بَذلها في تطوعات.
ثالثًا: تبيين مَن العدو الحقيقي في هذه الأحداث وتربية الجيل على ذلك.
رابعًا: بإمكان الموظّف المهتم بدينه وإخوانه أن يجتزئ من راتبه ولو شيئًا يسيرًا كل شهر، يقدمه في سبيل الله، وإن ذلك لسبب في نمائه وحصول التوفيق والفلاح في حياته، قال تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4724)
سلاح الحجارة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
7/8/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كفاح الحجارة. 2- استمرار الانتفاضة. 3- دروس الانتفاضة. 4- قوة الإيمان. 5- نماذج من أبطال السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
معاشر المسلمين، في خضم النكسة العربية أمست الحجارة أقوى سلاح وأفتك مدفع وأسرع صاروخ. لقد شقَّت آفاق الهزيمة، وشيدت البطولة، ودكت الباطل، وأرعبت اليهود. أصبحت الحجارة المسلحة حجارة كالحجارة تحمل التيار، وتشعل الفخار، وتمسح العار، وتأبى الذلة والشنار. حجارة فلسطين حجارة حُشيت بالبارود، وغصت بالمتفجرات، فصنعت ما لم تصنعه المحافل والقرارات.
كانت الحجارة الفلسطينية حاملةً لهيب الأقدام وبطش الجلاد، فأثمرت ثمارًا هي بطولة في زمن الخيبة والنكسات. كانت بطولةً صنعت النخوة الإسلامية والإباء العربي والحماية الدولية، وأعادت للأمة عزها ومجدها وفخارها.
دُمتِ لنا أيتها الحجارة، وجزاك الله من أخٍ وعشيرة خيرًا.
إن الحجارة هذه الأيام لتصنع مجدًا كان مدروسًا، وتُعيد عزّة باتت عروسًا، وتربي لنا أنَفًا شَموسًا.
دعِ للحجارة أن تَخُطَّ سطورًا ما دام سيفُ الكبْرياء أسيرا
ناب الصغارُ عن الكبار وخيلهم واسترخصوا باسم الجهاد صدورا
جزت نواصيها الكرامةُ واستحى من يومنا ماضٍ أضاء دهورا
يستصرخ الشرف الرفيع مكبِّرا لا خائفًا باسم السلام كسيرا
أيها المسلمون، هنيئًا للأمة الإسلامية استمرار الانتفاضة الفلسطينية، التي أرهبت العالم وأعادت النخوة، وأزعجت اليهود وأذناب اليهود.
لقد أعلنت الانتفاضة المباركة أن الجهاد والمجابهة لإخوان القردة والخنازير هو خيارها الإستراتيجي وضمانها الأمني ومسلكها الموضوعي. لقد سئمت فلسطين أكاذيب السلام المزعوم الذي سلبها حقوقها وأسال دماءها وقتل أطفالها.
إن الانتفاضة لتعود من جديد متينة قوية صلبة متوهّجة، لتحكي لنا قصة الشرف الرفيع والإباء المفقود والشجاعة الغائبة. لقد أورثت الانتفاضة قلقا إسرائيليًا، أفشل التقدم وأسقط القاصفات واجتاح المخططات، فالحمد لله.
إخوة الإسلام، إن هذه الانتفاضة بمثابة الزحف الخطير الذي لا يُرهب اليهود فحسب، بل يرهب العالم أجمع. إنهم يخشون من يقظة إسلامية تغير مجرى التاريخ. إنهم يخافون استيقاظ العملاق النائم الذي نام كثيرًا وغاب طويلاً، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
والإخوة المسلمون إنما أرعبوهم (بحجر ضعيف) بالنسبة لقواتهم وقاصفاتهم، لكن هذا الحجر يحمل هيبة الإيمان وصدق المبدأ والحنق الشديد للكفر وأهله، ولكي تعلموا أن المؤامرة على فلسطين ليست يهودية فحسب بل عالمية [حسبكم أن تعلموا] أن الإدارة الأمريكية أدانت الفلسطينيين تجاه الحرب الحالية، وأن العنف المصبوب هو من فلسطين، وأن القتل سار في إسرائيل، فيا للعجب!! ما هذا التلاعب وهذا الاستخفاف؟! كأننا وصلنا إلى مرحلة من الغفلة والسذاجة، لا يمكن أن نعي فيها الأحداث، ولا ندرك الحياة، ولا نميز العدوّ من الصديق.
فصبرًا ـ يا أبطال الانتفاضة ويا حماة الأقصى ـ على خفّة العقول والسذاجة المتناهية والذلة الفاشية.
هل من فلسطين مكتوب يطمئنني عمّن كتبت إليه وهو ما كتبا
وعن بساتين ليمونٍ وعن حُلمٍ يزداد عنِّي ابتعادًا كلّما اقتربا
فيا فلسطيْن من يهديك زنبقةً ومن يعيد لك البيت الذي خربا
أين الشعارات أين المالئون بها الدنيا لكَم زوَّروا التاريخ والكُتُبا
فلا خيول بني حَمدان راقصة زهوًا ولا المتنبِّي مالئ حلبا
إنّ هذه الانتفاضة لتشعّ فوائد وتنشر دروسًا وعظات منها:
أن فلسطين لن تعود إلا بالجهاد في سبيل الله الذي يرفع راية التوحيد، وليست الرايات القومية أو الشعارات الإقليمية.
أن مجابهة اليهود هو خيار الفلسطينيين والمسلمين أجمعين، وأن السلام مع إسرائيل مرفوض من جميع صوره.
أن هذه الانتفاضة لتذكي الحماسة الإسلامية، وتمحو بعض ألوان الذلة والهوان.
أن هذه الانتفاضة لتؤكّد لنا أن أمة الكفر واحدة، وأن العالم يهوديًا ونصرانيًا ووثنيًا يسعى في إبادة المسلمين إبادة شاملة، فها هو يقف متفرّجًا مستأنسًا ربما يصير ويحدث، والله المستعان.
أن هذه الانتفاضة تقف حجر عثرة ضدّ انحراف الأمة لمستنقع المذلة والتبعية.
أن هذه الانتفاضة لتبعث الأمل من جديد، كي تعود الأمة لدينها، وتتطلع لعزها ومجدها. وهذه الانتفاضة تبرهن المسلك الموضوعي تجاه الظلم والعدوان، وأنها ليست بحاجة لخطب رنانة، ولا أحداث مدوية، لا ثمن لها ولا رصيد في واقع التحديات والبطولات.
فلقد طرحت الأقوال، واستعصمت بالأفعال، وسارت على بركة الله، مستعينة بنصره، تجلجل بالتكبير، وتهدّ صفوف المعتدي المغير، فيا لله كم دفعت من نقمة وأحيت من بسمة وقابلت التحديات والمؤامرات؟! فلله الحمد والمنة.
عباد الله، وإن هذه الانتفاضة الميمونة لتعطي درسًا عظيمًا، وهو أن القوة قوة إيمان قبل أن تكون قوة عدة وسلاح، إذ إن قوة الإيمان تأوي إلى ركن شديد، يدبر الأمور سبحانه وتعالى، ويقلب التحديات، وينصر الفئة الضعيفة، ويقهر الفئة الكافرة والمغيرة، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.
إنَّ عدة الإيمان لتمتلك قوةً لا نظير لها، فهي تجعل من الأحجار راجمات نار ومضادات للصواريخ وناسفات للقاصفات. وإنها لتجعل من القلة كثرة، ومن الضعف عزة، ومن الجبن تقدمًا وشجاعة. وإنها لترهب المدافع، وتشوش العقول، وتقيم الاضطرابات، وتفسد المخططات.
إن مؤمنًا واحدًا ليزلزلُ عشرات بل مئات بل آلاف من الكفار والملحدين، فها هم المسلمون في غزوة بدر، فئة قليلة مستضعفة لا تملك عُدة ولا عتادًا، تسحق فئة كثيرة جبارة، لماذا؟! لأن أولئك قوم تسلحوا بالإيمان، فنزلوا الميدان متوكلين على الله، معتمدين على نصره، ولم تخفهم كثرة الأعداء ولا قوة السلاح، قال تعالى: إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأحزاب:12]، ويقول النبي في أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: ((لَصوتُ أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)) أخرجه الحاكم عن جابر وهو حديث صحيح، وأخرج أحمد والحاكم والخطيب عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((لصوتُ أبي طلحة في الجيش خير من فئة)) وسنده صحيح.
فهذا رجل غشيته سحابة الإيمان، فصيرت منه حسامًا، ينكأ المشركين، ويُرعبهم بصوته، فكيف فتك زنده وضربة سيفه؟! إن ذلك لعجيب!! مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
اللهم قو ضعفنا، واجبر كسرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاعلموا ـ يا مسلمون ـ أن قوة الإيمان تعلو علوًا شامخًا، لا يُطال ولا يُنال، وإنها لتفلُ وتهد الصعاب وتصنع الأعاجيب، فذلكم أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ـ تمامًا لحديثه وأخباره ـ كان إذا بقي مع النبي في المعركة جثا بين يديه، وقال: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء.
وفى سنن أبى داود بسند صحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال يوم حُنين: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم.
وعن أنس أيضًا أن أبا طلحة قرأ: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، فقال: استخرنا الله وأمَرَنا شيوخَنا وشبابنا، جهِّزوني، فقال بنوه: يرحمك الله، إنك قد غزوتَ على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا البحر فمات، فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغيّر رضي الله عنه.
وهذا عمرو بن الجَموح الخزرجى سيد بني سلمة رضي الله عنه، أخرج البخاري في الأدب المفرد بسند قوي عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: ((يا بني سِلمة، مَنْ سيدكم؟)) قالوا: الجد بن قيس، وإنا لنبخله، قال: ((وأي داءٍ أدوى من البخل؟! بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجَموح)).
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة بسند حسن قال: أتى عمرو بن الجموح على رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلتُ في سبيل الله حتى أُقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عَرجاء، فقال رسول الله: ((نعم)) ، فقُتِلوا يومَ أحد هو وابن أخيه ومولى له، فمر رسول الله فقال: ((كأني أنظر إليك تمشى برجلك هذه صحيحة في الجنة)) ، فأمر بهم فجعلوا في قبر واحد. وقد كان عمرو هذا ـ يا مسلمون ـ أعرج، ولما خرج يوم أحد منعه بنوه، وقالوا: عذَرَك الله، فأتى رسول الله يشكوهم، فقال: ((لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله يرزقه الشهادة)). قالت امرأته أخت عبد الله بن حرام: كأني أنظر إليه قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردّني. فلما كان يوم أحد قال رسول الله : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)) ، فقام وهو أعرج، فقال: والله، لأتقحَّمنَّ عليها في الجنة، فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.
(1/4725)
عداوة اليهود ومجزرة الأقصى
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حمزة بن فايع الفتحي
محايل
9/7/1421
جامع الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكالب الأعداء على المسلمين. 2- تاريخ عداء اليهود للمسلمين. 3- عداء اليهود في العصر الحاضر. 4- قضية الأقصى. 5- المسلمون أمة واحدة. 6- الحث على مساعدة الفلسطينيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحدث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
معاشر المسلمين، لا تزال أمتنا المنكوبة هدفًا للأمم الكافرة، والشعوب الباغية يسعون في إبادتها، ويحصدون خيراتها، وينتهكون مقدساتها. لقد أحاطت الأمم الكافرة بهذه الأمة إحاطة السوار بالمعصم، يَهُدون كيانها، ويزلزلون إيمانها، ويفُلون جموعَها. لقد استعملوا جُلَّ أساليب الإبادة، فمرةً الإبادة الشاملة، ومرة الحرب الفكرية، ومرة بإثارة الضغائن والبلبلة، ولم تزل كل ألوان الحرب المعاصرة تُستخدم ضد المسلمين.
فالمسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى نبينا الأمين لا يزال جرحه ينزف من عبث اليهود المجرمين، فقد غُلَّ واحتُكر دون انفتاح أو هوادة، وغابت من أمتنا نسمات الضياء والأمل.
فالنورُ طال غيابُه والليلُ مسدول الجناحِ
والقدسُ فِي أسْر اليهودِ وهم على دَنٍ ورَاحِ
والْمسجد الأقصى غدا في الأسر مغلولَ السراحِ
لندائه في كل قلب مؤمن وخْزُ الرماحِ
أين الذين يقودهم للبذل ذبْحي واجتياحي
إن فعائلَ اليهود في المسلمين ليست وليدة هذا العصر، بل من حيث قيام الدعوة وظهورها، باتوا يكيدون لها كيدًا، ويجمعون لها جمعًا، فالكيد عتيد، والحنَق شديد، والعداوة مستديمة، ويكفيك كمسلم تقرأ القرآن أن تعتقد ذلك، وأنت تتلو: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
قدم رسول الله المدينة فاتحًا منصورًا، واستقبله أهلها، وما إن عرفه اليهود بعلامات النبوة إلا وناصبوه العداء. حدثت صفية رضي الله عنها بحديث حصل لها قبل إسلامها، وهي بنت حيي بن أخطب، قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحبَّ إليهما مني، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله قباء قرية بني عمرو بن عوف غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين أي: ليلاً، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءنا فاترَين كَسلانَين ساقطين، يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، قال: أتعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله، قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
وكان اليهود في المدينة ثلاث طوائف: يهود بني قينقُاع، ويهود بني النَّضير، ويهود بني قُريَظة، ولما حل رسول الله المدينة كاتبهم وعاهدهم على حماية المدينة والدفاع عنها، لكنهم نقضوا العهود، وضيعوا الحقوق، فبعد انتصار النبي في بدر على مشركي مكة قام وجمَع يهود بني قينقاع في سوقهم وقال لهم: ((يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسَل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم)) ، فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يَغُرنَّك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمنَّ أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا.
وكان اليهود إبّان مكثهم في المدينة يؤججون النعرات، ويثيرون الخلافات بين المسلمين، ويكيدون لرسول الله بألوان المكائد.
وفي السنة الخامسة من الهجرة، قام عشرون من رؤوسهم، وانطلقوا إلى مشركي مكة يحرضونهم على حرب رسول الله ، ويأملون إبادته والقضاء على دعوته بالكلية.
وفي تلك السنة أيضًا قام حُيي بن أخطب اليهودي إلى بني قريظة وهم آخر طوائف اليهود بالمدينة, فأزهم في الأحزاب لنقض العهد، فنقضوه، وتنكروا لرسول الله، وأزمعوا لحربه، فردّهم الله بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا، فحصدهم رسول الله في يوم مشهود، وهم قرابة السبعمائة، فقال الخبيث حيي بن أخطب لعنه الله: والله، ما لمتُ نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغلب.
ومع استئصال خضرائهم من المدينة إلا أن كيدهم وتربصهم لم ينقضِ، فعاد ابن السوداء اليهودي لعنه الله يفُتّ في الخلافة الراشدة، ويفكك صف الوحدة والاجتماع، وتوالت مكائد اليهود عبر حِقب التاريخ الإسلامي ساعية بالمكر والدس والأذى، حتى تمَّ لها إسقاط الخلافة العثمانية الإسلامية على يد المجرم اليهودي اللعين مصطفى كمال أتاتورك، فحلّت الفرقة في الأمة، وتمزقت صفوفها، وهاجت نعراتها وأعراقها، وهان رباط الإيمان الشامل.
وفي هذا العصر اتسعت جراح المسلمين، وغُزوا في عُقر دارهم، وديست كرامتهم، ولم يبق لهم شعار يرفعونه غير الإسلام، فبه يجتمعون، وبه يقاتلون، وبه ينتصرون. ولقد رُزئت الأمة باليهود المعتدين في الأرض المباركة فلسطين، وسالت دماء الأقصى تئن: (وا إسلاماه، وا إسلاماه)، تطلب الغوث والنصرة والتأييد، فكم من دماء سالت، وكم من أدمع جرت، وكم من فضيلة مُحيت وقُتلت. وفي هذه الأيام العصبية تشتعل مجزرة الأقصى، وينتفخ إخوان القِردة والخنازير، لينالوا من أقصى المسلمين، ويسلبوهم دينهم وعزتهم، ولكن تأبى الجنود المسلمة إلا أن تدافع عن دينها، وتعلي راية التوحيد مجددةً جهاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فأسفرت تلك المقاومة عن ستة وسبعين شهيدًا، نرجو الله أن يتقبلهم في عداد الشهداء.
إخواني، إنَّ قضية الأقصى قضيةُ أمةٍ مسلمة، ضيّعت دينها، ونسيت مجدها، وغرتها دنياها. هل نسي المسلمون ما للأقصى من مكانةٍ في الإسلام، وأنه مسرى رسولنا الكريم، وأنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد لها الرحال كما صح بذلك الحديث، وأنه منارة من منارات الإسلام الشامخة؟!
لندائهِ في كل قلبٍ مؤمن وخْزُ الرماحِ
أيها المسلمون، إن الحرب مع اليهود حرب عقائدية تستهدف إفناء المسلمين وطردهم من فلسطين وتأسيس (إسرائيل الكبرى) كما يزعمون، فهل نعي صراعنا مع اليهود؟! وهل نترقب ذلك اليوم المشهود الذي قال فيه النبي كما في الصحيحين: ((تقاتلون اليهود، فتُسلَّطون عليهم، حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول الحجر: يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله)) ؟!
نعم، إن وعد الله لا يتخلف، وإن نصره لآتٍ، بعز عزيز أو بذل ذليل، ولكنَّ النصر والفتح لا يتم إلا على جماجم الأبطال ومزيد من الفدائية والتضحيات، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
أيها الإخوة، لا أظنكم غافلين عما يحدث لإخوانكم المسلمين في فلسطين، فلقد نزف الأقصى دماءً مسلمة، تذود عن حياض هذا الدين، فهبّوا إلى نجدة إخوانكم بكل ما تملكون.
أيها الجنديُّ يا كبشَ الفداء يا شعاعَ الأمل الْمبتسمِ
ما عرفتَ البخل بالروح إذا طلبتها غُصص المجد الظّمِي
بورك الجرح الذي تحمله شرفًا تَحت ظلال العلمِ
لقد استخدم اليهود المجرمون مختلف الأسلحة لضرب المسلمين هذه الأيام، ولم يبالوا بصغير ولا كبير، ولا عجوز ولا كسير، فأين غيرتكم يا مسلمون؟! إنكم لتغضبون لأموالكم ومصالحكم، أفلا تغضبون لدينكم وإخوانكم؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:7، 8]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، إن الكيان المسلم كيان واحد، جمعه الإيمان، ووحده القرآن، مع اختلاف الألوان واللهجات، فلا ينبغي أن تمزقه العرقيات أو النزاعات أو الشعارات، والمسلمون إخوة متحابون بمقتضى الانتساب لهذا الدين، تغشاهم المحبة، ويسودهم الإخاء والصفاء.
والأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية هي أشد وأوثق روابط التواصل والتضامن، وإنها لأقوى وأمتن من رابطة النسب، قال : ((مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
فالإسلام ـ يا مسلمون ـ لا يعترف بالعنصريات ولا المساحات.
فأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ عددت أرجاءه من لبّ أوطاني
معاشر المسلمين، أغيثوا إخوانكم جنود الأقصى الصابرين، أغيثوهم بالمال، والدعاء لهم، والاهتمام، وبالمشاعر الحية الصادقة، إننا لنحتاج إلى مسلمين يهبون لإخوانهم ويتأثرون لمصابهم ويحزنون لحزنهم. كم هو عظيم بذل المسلم ماله لإخوانه المنكوبين، فبه يجمع شملاً ويستر عورة ويحيي بسمة ويفرج كربًا وينكأ عدوًا.
وكم هو عظيم أن يلتفت المسلم بشعوره تجاه إخوانه المضطهدين فيعيش مصابهم وقضيتهم، ويلجأ إلى الله بدعوات صادقات، متحريًا ساعات الإجابة، يدعو لهم بالنصرة والفرج والتمكين، ويدعو على عدوهم بالهزيمة والعذاب والخسران. لئن كنا عجزنا عن النصرة الحقيقة فهل نعجز عن النصرة بالدعاء واللجوء إلى الله أن ينصر إخواننا المسلمين في كل مكان ويقهر أعداءهم؟!
يا مسلمون، إن الدعاء عبادة، فاجعلوا لإخوانكم منها نصيبًا، ولقد كان النبي يدعو وهو بالمدينة للمستضعفين بمكة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين...
(1/4726)
الشغب الرياضي
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, قضايا المجتمع
عصام بن هاشم الجفري
مكة المكرمة
2/8/1421
جامع حسين عرب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ ظاهرة الشغب. 2- خطورة ظاهرة الشغب. 3- أحداث الشغب. 4- حقيقة الوطنية. 5- أسباب الشغب. 6- أساليب العلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمة الإيمان والنظام، ظاهرة الشغب الرياضي ظاهرة جديدة على مجتمعنا، ولكنها قديمة على المستوى العالمي، حيث كانت أوّل أحداث شغب في العصر الحديث وقعت في تصفيات كأس العالم عام 1964م؛ حيث حدثت معركة بين الجماهير أثناء مباراة بيرو والأرجنتين، وكانت حصيلة تلك المعركة أكثر من ثلاثمائة قتيل وأكثر من خمسمائة جريح، وأكثر البلدان التي اشتهرت بشغب الملاعب هي بريطانيا، حيث لا تكاد تمرّ سنة فيها إلا ويتسبّب المشجعون المتهوّرون في كارثة تزهق أرواح الأبرياء.
هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة إذا تركت ولم تعالج من البداية يستفحِل خطرها، ويصعب بعد ذلك السيطرة عليها؛ حيث إنها تنمو كالسرطان، خاصة إذا ما وجدت شبابًا بعدوا عن هدي الدين، ووجدوا قدرًا كبيرًا من الفراغ إضافة إلى المال؛ لذا بدأ الباحثون الاجتماعيون الغربيون الاهتمام بهذه الظاهرة ومحاولة علاجها.
ولم تقتصر تلك الظاهرة على الدول الغربية فقط، بل أخذت تتسلّل إلى الدول الإسلامية والعربية، ولما أهملت بعض الدول علاجها والتصدي لها أخذت مناحي خطيرة، حيث تعدت تلك الجماهير بالإتلاف على الممتلكات الحكومية والخاصة، ومن أمثلة ذلك ما حدث في تونس في الرابع عشر من نيسان من عام 1982م حيث كانت حصيلة العنف الرياضي الذي حدث أكثر من خمسين متضررًا من أصحاب السيارات، وتكسير واجهات أكثر من عشرة مؤسسات تجارية، وخلع عشرات الإشارات الضوئية.
أرأيتم ـ أحبتي ـ إذا ترك المجال لهذه الظاهرة ولم يتم علاجها ماذا يترتب عليها؟ وتعالوا لننظر ونتتبّع هذه الظاهرة في بلادنا الطاهرة قبلة المسلمين، فقد بدأت في صورة سيارات وأبواق في الشوارع، ثم إذا بالأمر يتطوّر حتى أصبح إغلاقًا كاملاً للطرقات وتعطيلاً لحركة المرور وتفحيطًا وتجديعًا وشبابًا يخرجون معظم أجسادهم من السيارات، وقد يكون هناك ضحايا وموتى حتى من الأبرياء الذين يكونون في نزهة أو قضاء أمر ضروري، وقد وصل الحال ببعض العقلاء أنه لا يخرج من بيته بعد انتهاء المباريات الحسّاسة خشية على نفسه أو أهله. ومما يُتناقل في المجتمع أن الأمر لم يعد قاصرًا على الذكور فقط، بل هناك فتيات أصبحن يخرجن في سيارة واحدة مع السائق ليشاركن في تلك الأعمال المشينة، والمصيبة أن كل تلك البلايا ترتكب باسم الوطنية وتشجيع المنتخب الوطني.
فنقول لأمثال هؤلاء: إن هذه حجة واهية وفهم سقيم، فالمواطن الصالح هو الذي يسعى لخير بلاده ويساهم في أمنها وأمانها وحفظ النظام فيها، فأي وطنية تلك التي تنشر الفوضى والاضطراب وتعطيل مصالح الناس؟! أي وطنية تلك التي تصوِّرنا أمام العالم بأننا أمة بلهاء ذات اهتمامات وضيعة نعطي اللهو حجمًا أكبر من العلم؟! فكم من شاب جامعي ترك محاضراته ليتابع المباريات أو ليخرج للشوارع مشجعًا، وكم من طالب فرط في امتحانه ليتابع المباريات أو ليخرج إلى الشوارع مشجعًا. أي وطنية تلك التي تظهر للعالم أن قبلة الإسلام تفرح وتمرح غير عابئة بما يحدث لأطفال المسلمين في أرض الإسراء؟!
إن معيار الوطنية في هذه البلاد هو مدى الالتزام بتعاليم الإسلام التي تحافظ على مكتسبات البلاد وتسعى لتنميتها، أقول لهذه الفئة من الشباب: ماذا لو مات أحدكم في أثناء هذه الفوضى؟! كيف يقابل ربه؟! يبعث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق حيث قال: ((يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ)) ، فمن مات ساجدًا يبعث ساجدًا، ومن مات للقرآن تاليًا يبعث له تاليًا، والطفل الشهيد يبعث يوم القيامة بجراحه تثعَب دمًا، ويبعث صاحب الشغب الرياضي يوم القيامة في رقصه وتزميره وتفاهته، وقد تنحرف سيارة المشجع التي يتمايل بها طربًا وفرحًا فيفلت زمامها منه فتُزهق أرواح أبرياء قد يكون بينهم أطفال، فكيف يجيب يوم القيامة يوم يأتون قائلين: يا ربنا، يا ربنا، سله فيم قتلنا؟! كم من طرقات أغلقت وكان في تلك السيارات المعطلة في الزحام امرأة تعاني المخاض، فتضع طفلها في السيارة، فتتعرض حياتها وحياة وليدها للخطر بسبب فئة غوغائية جاهلة بعواقب الأمور،كم في تلك السيارات من مريض يعاني من أزمة الربو أو أزمة قلبية وهو في حاجة إلى إسعاف سريع، وقد يقضي نحبه والمشاغبون بطبلهم ومزمارهم مشغولون.
يقول أرمسترونج وهوبز في بحث لهما عن الشغب الرياضي: "إن مستوى الصوت والزعيق والطبل والأغاني الشعبية للمشجعين في المدرجات بطريقة حماسية تولد جوًا ومناخًا من الحماس والإثارة تسبّب الشغب العنيف، وإن مثل هذا الهذيان النفسي إنما هو تعبير عن انخفاض الوعي لدى الجمهور وتدني مستواه الثقافي والعلمي". وقد أوضح فان لمبرجين وآخرون أن معظم المشجعين العنيفين في مجال كرة القدم لوحظ أنهم تعرضوا لإحباطات خلال مراحل دراستهم، فمعظمهم كانوا من عوائل غير مستقرّة ومن طبقات اجتماعية عاملة، كما أن معظمهم لم يكن لهم وظائف منتظمة، وقد أجمع عدد من الباحثين على خطورة دور الإعلام في تنمية وزيادة العنف الرياضي، حيث يؤدي إلى تشنج الأعصاب وتكهرب الأجواء من خلال العنانين البارزة، كما رأوا أن الصحافة والإذاعة والتلفزيون يقومون بتهويل المشهد الرياضي والمباريات الرياضية من خلال استخدام لغة تجعلها شبيهة بالحرب،كما أنها قد تبرز الأعمال المفرطة في العنف أو تسكت عنها، كما قد تحثّ بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التحيز والتعصب الرياضي.
معاشر الأحباب، لم يقتصر الشغب الرياضي على ما يحدث في الشوارع فقط، بل بدأ ينسحب على العلاقات الأسرية والاجتماعية، فكم من أسرة تشتّت شملها لأن الزوج يشجع فريقًا والزوجة تشجع فريقًا آخر، فينهزم فريق الزوج، فلا يتحمل تلك الهزيمة وشماتة الزوجة، فتكون ردة فعله الطلاق ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكم من أب يضرب ابنه بسبب التعصب الرياضي، وكم من أخ هجر أخاه من النسب بسبب التعصب الرياضي. وأخطر من ذلك أن الأمر تسرب لدى بعض الناس للجانب العقدي، فأصبح أحدهم يوالي ويعادي على أساس الفريق الذي يشجعه، فهو يحب العاصي وحتى الكافر ويبجّله لأنه يدرّب أو يشجع نفس الفريق، وقد يبغض الرجل الصالح لأن ليس له اهتمامات كروية، أو لأنه لا يشجع نفس الفريق.
أيها الأحبة في الله، إن أساس تلك البلايا ونحوها إنما هو البعد عن معين الإسلام الصافي ونسيان المآل والسؤال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واقدروا للأمر قدره.
معاشر الأحباب، إن ظاهرة العنف الرياضي في بلادنا الحبيبة قد نالت حظها من العناية كظاهرة اجتماعية خطيرة، فأجريت دراسات عليها وعلى سبل مواجهتها، ولعل من أبرز نتائج ذلك القرار الأخير الحكيم لوزارة الداخلية بمعاملة أهل الفوضى والشغب بمزيد من الحزم للحدّ من هذه الظاهرة المتفاقمة التي لا تليق ولا تنسجم مع طبيعة الشعب السعودي المسلم.
وإني أرى أن من أساليب العلاج لتلك الظاهرة التخفيف مما يشحن الأنفس ويزيد التوتر من خلال تقليل الحديث الإعلامي عن كرة القدم، كتخفيض عدد الصفحات الرياضية في الصحف والبرامج الإذاعية والتلفازية التي تهتمّ بالتحليل الرياضي، وتقليل نقل المباريات إعلاميًا إلى أقلّ حد، توجيه المدرسين في المدارس أو الجامعات والكليات إلى بيان آداب الرياضة وضرورة الالتزام بها، كما أنه من أكثر الأساليب فعالية تكثيف الجرعة الدينية في المجتمع، فهي اللجام الذي يحدّ من تفاقم تلك الظاهرة، وقد كانت تجرى مسابقات رياضية على عهد النبي في الجري أو سباق الخيل والهجن أو في الرمي، وكان هناك مشجعون، لكن لم يسجل التاريخ شيئًا من العنف الرياضي في تلك الفترة. وما نراه اليوم إنما هو تقليد غير واعي لمجتمعات كافرة.
وإني أوجه خطابي للآباء والأسر فأقول لهم: أنتم مجال التربية الأول، فلا يعتمد الرجل على أن تصلِح الدولة أو المجتمع له ولدَه، فلا بد لكل أب أن يتعاهد ابنه وابنته ويتفقد حالهما، ومتى ما رأى بوادر العنف الرياضي عليهما أن يبادر بإصلاحها. وأقول لكل أب ولكل مدرس وقدوة في المجتمع: أنتم قادة التربية في المجتمع، فلا يجد منكم أبناؤكم وتلاميذكم ما يشجّع على حالة الشغب الرياضي، وكونوا صمام أمان لمجتمعكم؛ لأن لانتشار هذه الظاهرة ثمنا ضخما يدفعه الجميع إن لم يتم تدارك الأمر من الآن، ودِرهم وقاية خير من قنطار علاج.
(1/4727)
مباريات كأس العالم
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/2/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منشأ لعبة كرة القدم. 2- دور اليهود وأهدافهم من هذه اللعبة. 3- حكم اللعب في الإسلام. 4- اشتغال الناس بهذه المباريات. 5- من مفاسد كرة القدم. 6- خصائص الأمة الإسلامية. 7- مفهوم الفوز والخسارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد بدأ يوم الأربعاء الماضي مباريات كأس العالم لكرة القدم، والتي تقام الآن هذه المرة في فرنسا.
هذا الحدث يشغل العالم كلّه هذه الأيام، فالجميع يتابعون نتائج هذه الدورة، وممن شُغل به أيضًا المسلمون كبقية شعوب العالم، ولي مع هذه الدورة عدة وقفات:
أولاً: منشأ هذه اللعبة كما يقال كان في بلاد الصين في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وأول ما لعبت في أوربا في إيطاليا سنة 1410م تحت اسم: "كالسيو"، وكانت أولى الإشارات الواضحة لممارسة كرة القدم في إنكلترا، ففي عام 1863م تأسست في بريطانيا جمعية كرة القدم البريطانية، ثمّ طورّ الإنجليز هذه اللعبة، وانتقلت خلال قرن من قارة إلى قارة أخرى، ومع ذلك ظلّ الإنكليز زهاء 70 عامًا حتى عام 1930م هم سادة هذه اللعبة.
واليوم هناك أكثر من 130 دولة أعضاء في الاتحاد العالمي لفرق كرة القدم الذي تأسّس في باريس عام 1904م، وبرعايته وإشرافه أنشئت مباريات كأس العالم الذي كان أولها بالأرغواي في 13 تموز 1930م.
ثانيًا: أصبح من المسلّمات ومن المعلوم عند الجميع بل ومما ينشر علنًا أن اليهود هم وراء إلهاء الشعوب بشكل عام والشعوب الإسلامية بشكل خاص عن التفكير في قضاياهم المصيرية الكبرى، فقد نصّوا فيما يسمّى ببروتوكولات حكماء صهيون بقولهم: "ولكي تبقى الجماهير في ضلال لا تدري ما وراءها وما أمامها ولا ما يراد بها فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانهم بإنشاء وسائل المباهج والمسليات والألعاب الفكهة وضروب أشكال الرياضة واللهو وما به الغذاء لملذاتها وشهواتها والإكثار من القصور المزوّقة والمباني المزركشة، ثم نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنية ورياضية".
ثالثًا: الأصل في الألعاب الإباحة ما لم ينص الشرع على تحريم لعبة معينة، كالنرد والشطرنج، أو ما كان مباحًا يترجح ضررهُ ومفاسده، فعندئذٍ يُحرّم من هذا الباب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكرّ والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله به ورسوله فهو حسن، وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه".
رابعًا: تعلّقت قلوب وعقول الشعوب الإسلامية بلعبة كرة القدم منذ زمن، وانطلى عليهم حيل اليهود كغيرهم، وأصبح هذا الهوس الكرويّ متسلطًا على عقول الأجيال في العصر الحاضر إلا من رحم الله. وحصل بسبب مباريات كرة القدم تطليق لزوجات وتقطع لأواصر القربات، فما أن يعلن عن إقامة مباراة بين ناديين إلا وتستعد لها الرايات وتنبري لها الإذاعات وتهيئ لها الشاشات ويعدّ المشجعون لها الطبول والمزامير. وما أن تنتهي المباراة حتى تنتقل من ساحة الملعب ليكون ميدانها في البيوت والمدارس والدواوين ومكاتب الموظفين، ويستمر النقاش لساعات وأيام، فتعطل بسببها المصالح وتؤخر المعاملات وتترك الواجبات، وما أن تهدأ حدتها وتنجلي غمرتها حتى يعلن عن إقامة مباراة أخرى وهلم جرا.
وإذا رفعت صوت المنطق لتناقش أعقل هؤلاء المصابين بالهوس الكروي لرد عليك بملء فمه: "إنني رياضي".
خامسًا: بعض أضرار كرة القدم وليس كلها، وبحكم أننا مسلمون فإننا نناقش مثل هذا الموضوع من خلال منطلقاتنا الشرعية، ولا ننظر لمثل هذه القضية نظرة مادية أو حتى علمانية.
فمن أضرارها المشاهدةِ والتي لا ينكرها عاقل أنها أصبحت وسيلة لتفريق الأمة وإشاعة العداوة والبغضاء بين أفرادها، حيث أوجدت التعصب المقيت للفرق الرياضية المختلفة، بل إن أهل البيت الواحد ينقسمون على أنفسهم، فهذا يتبع فريقًا وذاك يتبع فريقًا آخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أضرارها أنه لما قلنا بأن الأصل في الإسلام أنه أباح الرياضة وحضّ عليها فذلك بأن يباشر المسلم بنفسه أو مع غيره لتحصل له القوة المطلوبة، أما واقع الكرة فإن أهم عنصر مقصود فيها هم المشاهدون والمشجعون، الذين يصل عددهم أحيانًا إلى مئات الآلاف وأكثر. ولا يستفيدون من اللعبة شيئًا إلا بذاءة اللسان ووقاحة العبارة والتخاطب بالفحش ورديء الكلام وسبّ الحكام.
ومن أضرارها أن كرة القدم اليوم فيها صد للمتفرجين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا أمر معروف عن الناس خاصتهم وعامتهم، وباتفاق العلماء بأن كل ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو حرام، فكم سمعنا عن أناس ممن يتابعون مباريات كأس العالم أنهم يستيقظون في النصف الأخير من الليل والغالب أنهم يواصلون، وهم هم أنفسهم لا يحضرون صلاة الفجر في المساجد، وكم من المصلين تفوته صلاة الجماعة بسبب جلوسه أمام الشاشة، بل هناك من يسافر من قُطر إلى قطر لحضور مباراة، وتصادف وقت صلاة الجمعة ويناديهم منادي السماء وهم جلوس على المدرجات، ولكن أنى لهم أن يستجيبوا وقد تعطلت عقولهم وماتت أحاسيسهم؟!
ومن أضرارها أن مسابقات كرة القدم أصبحت معاول هدم، استخدمها أعداء الأمة وخصوم الملة، وشجعوا عليها للقضاء على معاني العزة والكرامة في الأمة، حيث بددت الأمة أموالاً طائلة وأضاعت أوقاتًا طويلة، لو استغلتها الأمة فيما ينفعها لتحسّن حال كثير من شوارعها ومدارسها ومستشفياتها.
أما إذا أردت أن تعرف حجم عمر الأمة الضائع فطريقة حسابها أن تضرب عدد المشاهدين في مدة المباراة، فيظهر لك الساعات المهدرة من عمر الأمة، وهذه الساعات هي ساعات حياة المسلمين، وهي بالضبط ساعات تأخرهم وتقهقرهم، وساعات تأخر نصر الله عنهم.
ومن أضرارها كشف العورات؛ إذ فيها كشف الأفخاذ ونظر الناس إليها ونظر بعضهم أفخاذ بعض، روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن جُرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي مر به وهو كاشف عن فخذه فقال النبي : ((غط فخذك؛ فإنها من العورة)).
وقد تهون هذه المصيبة في مقابل ما إذا كان اللاعبون والرياضيون من النساء الكافرات في بعض الألعاب والمشاهدون من المسلمين المصلين.
ومن أضراراها أن كرة القدم اليوم أصبحت وسيلة لقلب الموازين، حيث أن البطل في هذا الوقت هو لاعب الكرة، لا المجاهد المدافع عن كرامة الأمة وعزتها، ونسيت أو أُنسيت أجيال الأمة الناشئة اليوم أبطالها الحقيقيين، أمثال خالد وسعد والمثنى وشيخ الإسلام وغيرهم، وصار تعلقهم بفلان وفلان، وإذا أردت صدق مقالتي فتتبع قصات الشعر عند بعض الشباب، تجدها قصات لاعبي كرة القدم.
ومن أضرارها دخول المراهنات وانتشارها على مباريات كرة القدم، وهذا ينتشر في أوربا، وطريقته أن يقتصر المراهن على تعبئة بطاقة بأسماء الفرق الرياضية التي يتوقع فوزها، فإن فازت ربح المبلغ المستحق، وإلا فإنه يخسر المبلغ المراهن به، وهذا ضرب من ضروب القمار المحرم لا شك فيه. وهم كفار، وليس بعد الكفر ذنب، وفي بريطانيا حوالي 40 في المائة من الرجال يراهنون بشكل منتظم مرة في الشهر.
أما البلاد الإسلامية فلم تدخلها أنظمة المراهنات إلى الآن والحمد لله، غير أن هناك بعض الأصوات في مصر بدأت تطالب بإدخال نظام المراهنات على كرة القدم كحل لظاهرة الإفلاس المادي لبعض الأندية. أفلسها الله إذا كانت تسعى لترويج القمار المحرم بين المسلمين.
الوقفة السادسة: ما هي خصائص هذه الأمة؟ إننا أيها الأحبة أمّة جهاد، أمة علم، أمة عبادة، أمة دعوة، أمة أمر بمعروف ونهي عن منكر، بهذا مُيّزنا، وبهذا فضلنا الله على غيرنا، لسنا أمة لعب ولهو ورقص وغناء، لم يخلقنا الله لهذا ولم يوجدنا لهذا، بل أوجدنا الله لنكون شهداء على الناس. فعجبًا لجيل يأبى إلا السفول، ولا يريد إلا الدنو، والأمرّ من هذا أن أراضينا مغصوبة وكرامتنا مهانة وعزنا مفقود وعقيدتنا وتصوراتنا ينخرها الخلل والضعف والقصور، ومع ذلك ما زلنا نرقص ونغني ونتابع هذا الهوس الكروي، وكأن الأمر لا يعنينا، وكأننا قد أدّينا كل الحقوق والواجبات، والأعجب أنك ترى الرجل الرزين والعاقل فيما يبدو للناس وربما من حملة الشهادات العالية، لكن أمام مشاهدة المباراة أو عند لحظة دخول الكرة شباك الخصم، فلا تسأل وقتها عن العقل ولا عن الرزانة، بل ربما قام ورقص مع الراقصين وتمايل مع المتمايلين، وفي لحظتها يكون عقله في رجله لا في رأسه.
فنسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبقي عقول أبنائنا في رؤوسهم خصوصًا في هذه الأيام وهي أيام امتحانات. نسأل الله جل وتعالى أن نعود إلى رشدنا وأن نعي واقعنا، كما أسأله جل وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشدا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوقفة السابعة: مع مفهوم الفوز والخسارة، هذا المفهوم الشرعي الذي صار لا يفهمه كثير من الناس اليوم إلا من خلال فوز فريق وخسارة نادي، وغاب عن الذهن الفوز الحقيقي الذي علمنا ربنا في كتابه في قوله سبحانه: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. هذا هو الفوز؛ أن تزحزح عن النار وأن تكون من أهل الجنة، وما عداه فقد تراه فوزًا، وهو في المقابل يزيدك إثمًا ومعصية وخسرانا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة...
(1/4728)
المواجهات بين الفلسطينيين واليهود
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله الهذلول
غير محدد
9/7/1421
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرائم اليهود في فلسطين. 2- الركض وراء سراب السلام. 3- طريق العزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين،
لا أشتم الذئب طبع الذئب يكفيني الغدر شيمة أبناء السراحين
تسمعون ـ عباد الله ـ ما يدور هذه الأيام في الأرض المباركة وفي مسرى رسول رب العالمين محمد من قتل وترويع وإهانة وإذلال، يمارسه إخوان القردة والخنازير، أعداء الله وقتلة الأنبياء، اليهود ضد المسلمين هناك. استخدم اليهود فيه أنواع الأسلحة من رصاص خارقٍ متفجر وصواريخ وطائرات مروحية ونحوها ضد شعب أعزل، فالقتلى بالعشرات، والجرحى بالآلاف، ولا زالت الاعتداءات وانتهاك الحرمات تتواصل، وسقوط الضحايا والجرحى في زيادة.
اليهود الذين لا يتجاوز عددهم خمسة ملايين في فلسطين يدنسون مقدساتنا، ونحن أبناء الألف مليون إنسان واقفون نتفرج، فهنيئًا للراكضين وراء سراب السلام ومفاوضات أوسلو وما بعدها وما قبلها، هنيئًا لهم هذه النتائج وهذا الإنجاز!! هل يعلم اللاهثون للسلام أنهم يبرمون عقودًا مع ثعابين ويسالمون العقارب ويوقعون عهودًا مع الثعالب؟! مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينًا.
إن الممسكين بملف القضية المتهافتين على الصلح بأفعالهم هذه يصادمون الفطرة ويصادمون التاريخ ويصادمون الواقع ويصادمون العقيدة. يصادمون الفطرة؛ لأن الله تعالى فطر الناس على الإسلام، واليهود كفروا بكل الأديان، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أي: ليس غريبًا عنهم، فبماذا قابلوه؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101، 102]. ويصادمون التاريخ؛ لأن التاريخ لا يكذب، وقد سطر في ديوانه أن اليهود قتلة الأنبياء، وسطر في ديوانه جملة من خياناتهم، منها خيانة يهود بني قينقاع في المدينة بعد غزوة بدر، وخيانة بني النضير بعد غزوة أحد، ثم خيانة بني قريظة أثناء غزوة الأحزاب. ويصدقها الواقع، فأحد أحزاب اليهود يوقع اتفاقيات السلام ويأتي الآخر لينقضها، ويتحفظ على كثير من بنودها أو يختلف اجتهاده عن سابقة في تنفيذها والعمل بها، وهكذا كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم. أعلن من بيدهم ملف القضية أن الثالث عشر من سبتمبر موعد نهائي لإعلان الدولة الفلسطينية التي كان مقررًا إعلانها قبل ستة أشهر من هذا التاريخ، ثم أجلّت حتى تتاح الفرصة لفوز يهودي في الانتخابات يظنّ أنه معتدل، ولما فاز ومرت الشهور ولم يتم شيء مما كانوا يعدون به أخذوا يطلقون تهديدات، والدولة التي يراد إعلانها تنتقص أطرافها كل يوم بالمصادرات وبناء المستوطنات، وشعبها تحت الاحتلال، والمجاهدون منهم مطاردون ومضيق عليهم في الوقت الذي يعطى لليهود حق الاقتحام والتدخل متى شعروا بتهديد أو خطر، وفي الوقت الذي يصرح فيه زعماؤهم عدة مرات أن لا مواعيد مقدسة عندهم، وإنما يجرون وراء المصلحة التي يرونها ظاهرة لهم.
أيها المؤمنون، إن المسلمين لا يوحدهم إلا الإسلام، وإن العرب منهم خاصة لا يصلحون إلا بالجهاد، فإذا رفعوا رايته أبدعوا في ذلك وانقاد لهم الآخرون وفتحوا الدنيا وعاش الناس في ظل حكمهم آمنين كرماء.
وإذا كان للفرس حضارة وللروم حضارة وللهند حضارة وللصين حضارة وللفراعنة حضارة وللأشوريين حضارة فإن حضارة العرب هي الإسلام والجهاد، ولم يُعرف لهم حضارة مدى التاريخ إلا الإسلام والجهاد، ومتى ما تخلوا عنهما أو شُغلوا بغيرهما وقعوا فريسة لعدوهم وأضحوكة للعالم يسخَر بهم ويسخّرهم.
إن اللهث وراء السلام بملابساته مصادمة للعقيدة أيضًا؛ لأن المقتنعين به يصفونه بالسلام العادل والشامل والدائم، وهذه الأوصاف لا تنطبق على سلام مع قوم قال تعالى لنا في شأنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52]. إن هذا التحذير بل التهديد بأن من يتولهم فهو منهم، وفيه نص على أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر ويخافون سوء العواقب في الدنيا.
قد يقول قائل: إن المسلمين الآن ضعاف، وفي الأمر سعة أن نصالح أعداءنا ونسالمهم لحين أن تقوى شوكتنا فننبذ إليهم عهدهم ونعلن الحرب على اليهود. والجواب على هذه الشبهة أن الواقع ليس اتفاقيات سلام فقط، وإلا فماذا بقي في يد العرب المعنيين به من شيء حتى يوافقوا عليه؟! ومع كل ذلك وحتى هذه الأيام رفض اليهود كل تلك التنازلات ويصرون على أكثر، وما دخل تنحية شرع الله عن الحكم في عهد السلام؟! لماذا من ضمن بنود السلام تسليم العناصر الجهادية لليهود والتعاون على مطاردتهم؟!
إن الله تعالى أخبرنا وهو أصدق القائلين بقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وهذه الحقيقة لمسناها جلية في القديم والحديث، فأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]، وأهل الكتاب هم الذين ألبوا المشركين على المسلمين في المدينة وكانوا لهم درعًا ورداءً، وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع محاكم التفتيش في الأندلس، وهم اليوم شردوا العرب المسلمين في فلسطين، ويشردون المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا والحبشة والصومال والفلبين والشيشان.
اللهم أقم على الجهاد...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لقد استبشر المسلمون وفرحوا بهذه التحركات التي تجري على بعض الأصعدة في طول البلاد الإسلامية وعرضها تجاوبًا لما يجري في فلسطين، وبقدر ما ساءهم الوضع وآلمهم فهم في الوقت نفسه تغمرهم فرحة التلاحم والتداعي الشعوري التي ظهرت وبرزت نتيجةً لما يحدث، فالحمد لله على نعمه. بيد أن في النفوس تساؤلا: هل هذه الحملات ردة فعل معينة للخروج من مأزق أو من مآزق، وقطعًا للطريق أمام التيار الإسلامي حتى لا يستأثر بالقضية بعد أن ثبت للجميع علميًا وعمليًا فشلُ القوميات العربية والنعراتِ الجاهلية وإفلاسُ الشعارات المطروحة؟ فلما احتدم الأمر وحمي الوطيس خاف الكثير من المتنفذين، فعمدوا إلى حيلٍ يسكتون بها الهدير الذي بدأ، ويمتصون غضب الشعوب الناقمة، عمدوا إلى وسائل لا تكلف كثيرًا فسيَّروا المظاهرات بعشرات الألوف، وربما مئات الألوف، لكن هل قدموا شيئًا عمليًا يعود بالنفع الحقيقي للقضية وأهلها؟!
الجميع يعلم أن اليهود استولوا على فلسطين قبل خمسين عامًا، وأدخلوا القدس تحت حكمهم منذ ثلاثة وثلاثين عامًا، وأحرقوا المسجد الأقصى، وروعوا الآمنين، وشردوا أهل البلاد من المسلمين، كل ذلك قبل عشرات السنين، فأين هذه الغضبة المضرية؟! فإن قيل: عفا الله عما سلف، قلنا: اللهم آمين لكن هل تستمر هذه التعبئة وتوجه الوجهة الصحيحة المثمرة النافعة إلى أن يتحرر الأقصى وتعاد الحقوق المسلوبة إلى أهلها وتحكم فلسطين بحكم الله وكتابه؟! نرجو ذلك، وندعو الله أن يتم، وندعوه سبحانه أن يقيم علم الجهاد ويرفعه، ويقمع أهل الكتاب والشرك والعناد وأهل الزيغ والفساد.
اللهم ارحم ضعف المنكوبين والمستضعفين من المسلمين، وتول أمرهم، اللهم ثبت أقدام المجاهدين في سبيلك وسدد سهامهم وآرائهم...
(1/4729)
فضل الصبر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
27/5/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاضل العباد. 2- الصبر خلق الأنبياء والصالحين. 3- معنى الصبر. 4- أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي، الصبر على الطاعات، الصبر على الأقدار المؤلمة. 5- الأمر بالصبر. 6- ثواب الصابرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن طاعته أقوم وأقوى، وتزوّدوا لآخرتكم بالتقوى.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن العباد يتفاضلون عند ربهم في دينهم الحق وأخلاق الفضل والصدق كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، وفي الحديث القدسي عن الرب تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
أيها المسلمون، إنّ خُلُق الصبر خلقٌ كريم ووصف عظيم، وصف الله به الأنبياء والمرسلين والصالحين، فقال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وقال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، وقال عز وجل: وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج:34، 35]، وعن أنس مرفوعا: ((الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر)) ، وروى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي قال: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ـ أو: تملأ ـ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك)).
والآيات والأحاديث في الصبر وفضله كثيرة شهيرة.
ومعنى الصبر: حبس النفس على الطاعة وكفُّها عن المعصية والدوام على ذلك.
أيها المؤمنون، إن الصبر أنواع متلازمة، فأعظم أنواع الصبر الصبر عن المعصية والمحرمات، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22]. وأكثر الناس يقدر على فعل الطاعة ويصبر عليها، ولكنه لا يصبر عن المعصية، فلقلّة صبره عن المحرمات لا يوصف بأنه من الصابرين، ولا ينال درجة المجاهدين الصابرين، فلا يعصم من ورود الشهوات إلا الصبر القويّ والورع الحقيقي، والمسلم إذا لم يكن متصفا بالصبر فقد تأتي عليه ساعة تلوح له فيها لذّة عاجلة أو منفعة قريبة أو شهوة عابرة أو كبيرة موبقة، فتخور عزيمته، وتضعف إرادته، ويلين صبره، ويغشى المحرّم، ويقع في الموبقات، ويشقى شقاء عظيمًا، ويلقى عذابًا أليما، فالصبر عن المحرمات للإنسان مثل كوابح السيارات، فتصوّر سيارة بلا كوابح، والإنسان إذا لم يحجزه صبره وإيمانه عن المحرمات كان مآله في الدنيا الذلة والهوان أو السجن، وفي الآخرة جهنّم وساءت مصيرا، مهما كان قد أوتي حظا في الدنيا.
النوع الثاني من الصبر هو الصبر على طاعة الله تعالى، بالصبر على أدائها وإصابة الحق فيها بالتمسك بسنة النبي والصبر على المداومة عليها، قال الله تبارك وتعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. قال الحسن البصري رحمه الله: "أمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا شدة ولا رخاء، وحتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يفتنون دينهم، وأما المرابطة فهو المداومة في مكان العبادة والثبات على أمر الله فلا يضيع. وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
والنوع الثالث من الصبر هو الصبر على الأقدار والصبر على المصائب والمكاره التي تصيب العباد، وذلك الصبر لا يكون محمودًا إلا مع الاحتساب؛ بأن يعلمَ بأنّ المصيبة مقدّرة من الله، وأنّ من صبر أُجِر وأمر الله نافذ، ومن جزع وتسخّط أثم وأمر الله نافذ، قال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. قال عمر بن الخطاب : (نِعمَ العِدلان، ونِعمتِ العلاوة)، يعني: أن قول الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ عدلان، يشبَّهان بعدلَي البعير في الحمل، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ هي العلاوة، وهو ما يكون بين العِدلين.
وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَى به يومَ القيامة، وإنَّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
ولقد أمر الله بالصبر في آيات كثيرة من كتابه:
فأمر بالصبر أمرًا مطلقًا، كما في قوله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ [النحل:127].
وأمر بالصبر في أمور مخصوصةٍ لشدّة الحاجة إلى الصبر فيها: فأمر بالصبر لحكم الله تعالى الشرعي والقدريّ، قال الله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]. وأمر بالصبر على أذى الفاجرين، قال تبارك وتعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]. وأمر بالصبر على ما يترتّب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأذى والألم لما في ذلك من المشقّة، قال تبارك وتعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]. وأمر بالصبر لمن ولي شيئًا من أمر المسلمين قليلا كان أو كثيرًا، فقد قال وقد بلغه عن قوم أنهم يؤذونه بالكلام من المنافقين، فقال : ((لقد أوذي أخي موسى بأكثر من هذا فصبر)).
وأمر الله تعالى المسلم أن يستعين بالله في التخلّق بالصبر والتمسّك بالطاعة، فقال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]. وأمر الله المسلم أن يعوّد نفسه على خلُق الصبر في كلّ حالةٍ، فأمره بذلك فإنّ العادةَ تساعد على الخُلُق، ففي الصحيحين: ((ومن يتصبّر يصبِّره الله، ومن يستغن يُغنه الله)).
ووعد الله تبارك وتعالى على الصبر أعظم الثواب والنجاة من العقاب، قال تبارك وتعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال عز وجل عن ثواب الصابرين: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22-24].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن طاعة الله أقوم وأقوى وذخر لكم في الآخرة والأولى.
عباد الله، إنّ الصبر مرّ المذاق في ساعة الحال، حلو المذاق في العاقبة والمآل، قال الله تعالى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:126، 127]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59].
فما أعظمَ سعادةَ من صبر على الطاعات وجانب المحرّمات واحتسب أجر الأقدار والمصيبات، كما قال النبي : ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).
أيها المسلم، اعمل لدار البقاء والنعيم المقيم، ولا تغرّنّك دار الفناء، فعمّا قليل تخلّفها وراء ظهرك، ولا ينفعك مال ولا ولد ولا صديق حميم. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كن في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل)). فمن عرف ربّه وعرف ما أعدّه لأوليائه وما توعّد به أعداءه وعرف مقامه في هذه الحياة استلذّ الصبر في رضا الله تبارك وتعالى، واستقلّ ما قام به من طاعة الله، وخاف من هول المطَّلع، وحذر من المحرّمات، وضاعف الجهد في الطاعات.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليما كثيرًا، اللّهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/4730)
فضل الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/6/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة العبد عند الله تعالى بالإيمان والخلق. 2- تفاوت الأعمال الحسنة والسيئة. 3- فصل الصدق. 4- حقيقة الصدق: صدق القول وصدق الفعل. 5- أصل الإيمان الصدق. 6- الحث على الصدق والتحذير من الكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله تَعالى بامتِثالِ أمرِه والبُعدِ عن غَضَبِه ومَعصيَتِه، فإنَّ التقوَى بابُ كلِّ خَير، والفجورَ بابُ كلِّ شَرّ.
واعلَموا ـ عِبادَ الله ـ أنَّ مَنزِلةَ العَبدِ عِندَ ربِّه هِيَ بِإيمانِه وخُلُقِه، وقيمَةَ الإنسانِ عندِ الله وعند الخَلقِ هي بهذا الإيمانِ والعَمَل الصَّالح، لا بمالِه ولاَ بقوَّته ولاَ بجاهِهِ، قال تعالى: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ ?لضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
ألاَ وإنَّ الأعمَالَ الصَّالحةَ تتفَاضَلُ في الثَّواب والصِّفات الحميدة، يَزيدُ بعضُها على بعضٍ في الأجرِ والمنازل بحَسَب عُمومِ نَفعِها لِصَاحبِها وللخَلقِ، كمَا أنَّ الأعمالَ السيِّئةَ والأفعالَ والصِّفاتِ القبيحةَ يعظُم عقابها وجزاؤُها الأليم بحسَب ضَررِها وطَيَران شرَرِها لصاحبِها وللخَلق، قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَـ?تٌ مّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَـ?لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19].
ألا وإنَّ الصِّدقَ خُلُقٌ كَريم ووَصفٌ حسنٌ عَظيم، لاَ يتَّصِفُ به إلا ذو القَلبِ السّليم، أمَرَ الله تَعَالى به في كتابِه فقال تبَارَك وتعَالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
الصّدقُ يَكشِف عن مَعدنِ الإنسان وحُسنِ سَريرَتِه وطيبِ سيرتِه، كما أنَّ الكذِبَ يكشِف عن خُبثِ الطويَّة وقُبح السيرة. الصدقُ مَنجاة والكذِب مَرداة. الصّدقُ محبوبٌ ممدوحٌ في العقول السليمَة والفِطَر المستقيمة. حثَّ على الصِّدقِ رسول الهدَى ، فعن ابن مَسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ : ((عَلَيكم بالصِّدق، فإنَّ الصِّدقَ يهدِي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدِي إلى الجنَّة، ولا يزال الرجُلُ يصدُق ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عند الله صدّيقًا، وإيّاكم والكذبَ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّار، ولا يزال الرَّجل يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَبَ عند الله كذّابًا)) رواه البخاريّ ومسلم [1].
وقَد وَعَدَ الله علَى الصِّدقِ ثوابه العظيمَ وجزاءَه الكبيرَ في الدنيا والآخرة، ففي الدّنيا يَرزُق اللهُ صاحبَ الصدق حُسنَ الأُحدوثَة ومحبَّةَ الله ومحبَّة الخَلقِ، وتُثَمَّن أقوالُه، ويُؤمَنُ جانِبُه، ويُريحُ النّاسَ من شَرِّه، ويحسِن إلى نفسِه، ويحسِن إلى غَيره، ويُعافى منَ الشرورِ والمهالك التي تصيب الكَذّابين، ويطمئنُّ بالُه وقلبه، فلا يمزِّقه القَلق والخوفُ، ففي الحديثِ عن الحَسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما قال: حَفِظتُ مِن رَسولِ الله : ((دَع مَا يَريبُك إلى ما لا يَريبك، فإنَّ الصّدقَ طمأنينة والكذبَ ريبة)) رواه الترمذيّ وقال: "حديث صحيح" [2].
وتكونُ عواقبُ الصّادِقِ في حَيَاتِه إلى خَيرٍ، كما في حديثِ كَعب بنِ مالكٍ رضي الله عنه في قِصّةِ تخلُّفِه عن غزوةِ تَبوك: قلت: يا رسولَ الله، إني ـ والله ـ لو جَلَستُ عند غيرِك من أهلِ الدنيا، لرَأيتُ أني سأخرُج من سخَطِه بعُذر، لقد أُعطِيتُ جدلاً، ولكني ـ والله ـ لقد عَلِمتُ لئن حدّثتُك اليومَ حديثَ كذبٍ تَرضَى به عنِّي، ليوشِكنَّ الله يُسخِطُك عَليَّ، وإن حدّثتُك حَديثَ صِدقٍ تجِدُ عليَّ فيهِ، إني لأرجُو فيه عُقبى الله عزّ وجلّ. رواه البخاري ومسلم [3] ، أي: أرجو مِنَ الله العاقبةَ الحَميدةَ في صدقي، وقد كان ذلك في شأنه رضي الله تعالى عنه.
وأمّا ثوابُ الصّدقِ في الآخرة فرضوانُ الله تبارك وتعالى والدّرجاتُ العُلى في الجنّة التي فيها مَا لاَ عينٌ رَأَت ولا أُذُن سمِعت ولا خَطَر على قلبِ بَشَر، ففي القُرآنِ العظيم قال الله تعالى: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119]، وقَالَ تَعَالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيِّينَ وَ?لصِّدِّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاءِ وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
فَما حقيقةُ هذا الصِّدقِ الذي وَعَد الله عليه أحسَنَ الثوابِ ونجَّى صاحبَه من العذاب؟
الصدقُ صِدقُ أقوالٍ وصِدق أفعال:
فصِدق القولِ أن يَقولَ الحقَّ بِتَبلِيغ كَلامِ الله تعالى أو كَلامِ رسولِ الله ، أَو يَأمُر بحَقٍّ، أو يَنهَى عن باطل، أو يخبِر بما يُطابِقُ الوَاقِعَ، قال الله تعالى: وَ?لَّذِى جَاءَ بِ?لصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [الزمر:33]، وفي الحدِيثِ عَنِ النَّبيِّ : ((المؤْمِنُ إذا قالَ صدَق، وإذا قيلَ له يُصَدِّق)) [4].
والصِّدقُ في الفِعلِ هوَ مُعامَلةُ الله تَعَالى بِصِدقِ نيَّةٍ وإِخلاصٍ ومحبَّةٍ لله ويَقينٍ، ومُعاملةُ الخَلق بصدقٍ ورَحمةٍ ووَفاءٍ، قال الله تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيِّينَ وَءَاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبِّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرِّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، وَقَالَ تعَالى: مِّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
والصِّدقُ هو موافقةُ الظاهر للباطنِ في الخير، وهو موافقة الأقوال والأعمال بعضها لبَعضٍ، والكذبُ هو مخالفةُ الباطنِ للظاهر في الشرّ والمخادَعةُ والمكر. والإيمانُ أَصلُهُ الصِّدقُ والتَّصدِيق، فالصِّدقُ إذًا يكونُ بالأقوالِ ويكون بالأفعالِ.
وقَد كانَ السَّلفُ رضي الله عنهم أشدَّ الناسِ تمسُّكًا بخُلُق الصّدق مع ربِّهم ومع عِبادِ الله، عن كعبِ بن مالك رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ تعالى إنما أنجَاني بالصِّدق، وإنَّ مِن تَوبَتي أن لا أحَدِّثَ إلاّ صِدقًا ما بَقِيتُ، فواللهِ مَا علِمتُ أحدًا منَ المسلمين أبلاه الله تَعَالى في صِدقِ الحديثِ مُنذُ ذَكَرتُ ذلك لرسولِ الله أحسَنَ ممَّا أبلاني، واللهِ مَا تَعَمَّدتُ كذبَة منذ قلتُ ذلك لرسولِ الله إلى يومِي هَذَا، وإنِّي لأَرجُو أن يحفظَني اللهُ تعالى فيما بقِي. رواه البخاري ومسلم [5].
ووصَفَ اللهَ المهاجرينَ الأوَّلين بخُلُقِ الصِّدقِ فقَال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَـ?جِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِمْ وَأَمْو?لِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نًا وَيَنصُرُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحشر:8].
بَارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحكيم، ونفَعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وبِقَوله القويم. أقول قَولي هذا، وأستغفِر الله العَظيم الجَليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6134)، صحيح مسلم: كتاب البر (2607).
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2518)، وأخرجه أيضا أحمد (1/200)، والنسائي في الأشربة (5711)، وصححه ابن حبان (722)، والحاكم (2/13)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في الإرواء (2074).
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4418)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2769).
[4] ذكره علي القاري في المصنوع (260) وقال: "لا يعرف بهذا اللفظ".
[5] تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الملِكِ القدّوس السّلام، رفع مَنارَ الإسلام، وعمَّ خَلقَه بالنّعَم العِظام، أحمدُ ربِّي وأشكُره، وأتوبُ إليه وأستَغفِره، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ له ذُو الجلالِ والإكرَام، وأشهَد أنّ نبيَّنا وسَيِّدَنا محمّدًا عبده ورسوله، كشف الله به دَيَاجيرَ الظَّلام، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمَّد، وعلى آله وصحبِه الأئمة الأعلام.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، وتقرَّبوا إليه بما يُرضِيه.
أيّها المسلمون، إنَّ الصِّدقَ خلُقٌ يحبُّهُ الله ورسوله، ويعرِف فضلَه العقلاء الحكماء، دعا إليه نبيُّ الرحمة مع دعوتِه لعِبادةِ الله وَحدَه لا شريكَ له في أوَّلَ بِعثتِه وطولَ حياتِه عليه الصلاة والسلام، عن أبي سُفيانَ رضيَ الله عنه أنَّ هِرَقلَ سألَه عن النَّبيِّ فَقَال: فمَاذا يأمُرُكم؟ قُلتُ: يَقول: ((اعبُدوا اللهَ وَحدَه لاَ تُشرِكوا بِهِ شيئًا، واترُكُوا مَا يَقول آباؤكم)) ، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفَافِ والصِّلَة. رواه البخاري ومسلم [1].
قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ وَ?لصَّـ?ئِمِينَ وَ?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذَّاكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذَّاكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
فكُونُوا ـ عِبادَ الله ـ مِنَ الصّادقِين في أقوَالِكم وأَعمالِكم؛ فإنَّ الصّدقَ بابٌ من أبواب الجنَّة، لا يقرِّب أجلاً، ولا يمنَع رِزقًا، ولا يفوِّتُ مصلَحَةً.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحِدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسَلِين.
اللَّهمَّ صلِّ علَى محمّد وعلى آل محمّد...
[1] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (7)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/4731)
وكونوا عباد الله إخوانا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
11/6/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- روح الثبات والمصابرة. 2- ضرورة ترابط المجتمعات المسلمة. 3- الحاجة إلى الصبر. 4- توثيق الإسلام للعلاقة بين المسلمين. 5- فطرية التعاون والتآزر. 6- اضطهاد بعض المجتمعات المسلمة. 7- التلاحم واقع منشود. 8- أهمية التعاون والتكاتف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، فقد توالتِ السّنون والعصور الإسلامية منذ الرعيل الأوّل إلى يومنا هذا والإسلام يلقّن أبناءه يومًا بعد يوم روحَ الثبات على الدين وآداب المغالبة والمدافعة والصبر على الشدائد وتكفُّؤ الفتن والرزايا بروح الراضي بقضاء ربِّه الواثقِ بإنجاز وعده، محتمِلاً مع ذلك كلّ نصب، مستسيغًا في سبيل الله كلَّ تعب، وليس هذا الشعور الإيجابيّ مختصًّا بالفرد المسلم دون المجتمعات المسلمة برمّتها، كلاَّ، بل إنّ عليها جميعًا ما يجب من استحضارِ مثلِ تِلكم المشاعِر على وجهٍ آكَد من مجرّد حضوره في صورة أشخاص أو صورة أفراد لا يصلون درجةَ المجموع؛ لأنَّ من سُنن الله في هذه الحياة الدنيا أنّ المجتمعاتِ المسلمةَ المؤمنة بربّها الراضية بدينها ونبيّها قد تتفاوت في القدرات والملكات والجهود والطاقات، قوّةً وضعفًا، وغنًى وفقرًا، وصحّةً ومرضًا، وسِلمًا وحربًا، وإنّها بهذا التفاوتِ لتؤكّد حاجةَ بعضها لبعض في المنشط والمكرَه والعسر واليُسر والحزن والفرح، وكذا تؤكّد حاجتها إلى تقارب النفوس مهما تباعدتِ الديار، وإلى التراحم مهما كثُرتِ المظالم، وإلى التفاهم مهما كثُر الخلاف، بل إنها في حاجة ماسّة إلى إحساس بعضها ببعض من خلال أسمى معاني الشعور الإيجابيّ الذي حضَّ عليه ديننا الحنيف؛ إذ ما المانع أن تسموَ معاني الإلفة والترابط بين المجتمعات المسلمة إلى حدِّ ما لو عطس أحدٌ في مشرقها شمّته أخوه في مغربها، وإذا شكا من في شمالها توجّع له من في جنوبها؟!
فلا غروَ عباد الله؛ إذ لا بدّ لكلّ مجتمع مسلم أن يبثَّ آهاتِه وهمومَه لإخوانه من المجتمعات المسلِمَة، فلا أقلَّ حينَها من أن يلاقي من يواسيه أو يُسليه أو يتوجَّع له، وليس وراء ذلكم مثقالُ حبّة من خردل من تعاون وتراحُم.
إنّه متى شوهِد مثلُ ذلكم الواقعِ الإيجابيّ بين المجتمعات المسلمة فلن تقعَ حينها فريسةً لما يسوؤها، بل كلّما لاح في وجهها عارض البلاء وكشَّر أمامها عن أنياب التمزّق والتفرّق والأزمات التي تعجمُ أعوادَها وتمتحن عزائمها لم تمت في نفسها روحُ المصابَرة المستنيرةُ بهدي الوليّ القدير مهما ظلّت كوابس الظلم والتسلّط جاثمةً على صدرها.
ومن هذا المنطلق يبقى الإسلام شامخًا أمامَها، ولا يموت المسلمون جرّاءَهَا، بل إنّهم لا يزالون يردّدون كتاب ربّهم ويتلون قولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. إنّهم يستلهمون من آيات الصبر التي تجاوَزَت أكثرَ مِن ثمانين موضعًا في كتاب الله الشعارَ والدثار؛ لأنّ الصبر من أكرم أنواع المغالبة والمدافعة بين الحقّ والباطل في شتّى صورها، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]. ولم يكن الصبر أكرمَ في ذلك إلاّ لشموله الواسع أنواعَ الحسن فيه على مراقي التوفيق، وذلكم من خلال حسن الاستقبال للبلايا والمحن والعداء وحسنِ الاحتمال لها وحسن التصرّف معها وحسن حملها بقوّة واقتدار للزجّ بها بعيدًا عن طريق المسير الخالد وحسن تعاطف المجتمعات المسلمة مع بعضها لتصبح كالأعضاء في الجسد الواحد؛ لينالوا بذلك ما وعد الله به أولئك بقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. ولم يكن هذا الأجر الممدود بغير حدٍّ إلا لأنّ أولئك الصابرين أوفَوا بعهد الله من بعد ميثاقه، وأوفوا للإسلام، وأوفوا للثبات والمدافعة، وأوفوا لبعضهم البعض مهما امتدّ النفس واشتدّتِ اللأواء.
عباد الله، لقد انطلق نور الإسلام ليكون مما يهدي إليه توثيقُ علاقة الفرد المؤمن بالفرد المؤمن، والمجتمع المؤمن بالمجتمع المؤمن، على أكرم أساس وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياج الفضيلة والإيثار والرحمة والنصرة، فقد قال جل شأنه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال المصطفى : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) رواه البخاري ومسلم، وقال أيضا: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) رواه البخاريّ.
كلّ هذه النصوص ـ عباد الله ـ دالّةٌ بوضوح على تحضيض الشارع الحكيم على التعاون والإلفة والتناصر واتّحاد الآمال والآلام بين المسلمين مجتمعاتٍ وأفرادًا؛ لأنّ الربَّ واحد، والدين واحد، والنبي واحد.
إنّ هذه لحقيقة شامخةُ البناء، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء؛ لذا كان لزامًا على المجتمعات المسلمة أن تتوهّج في نفوسها المعاني الكريمة للتماسُك والتراحم والتناصر، وأن يتوهّج السموّ الروحيّ في الأخوّة والتضامن والمساواة والتخلّص من سلبية احتكار الشعور وفرديّة العواطف والنشوز بين الأجناس المختلفة، فدين الإسلام لم يجعل للجنس ولا للُّغة ولا للَّون معيارًا لتلك المعاني الجليلة؛ لأنّ الكلَّ عبادُ الله، والنبي يقول: ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) رواه البخاري ومسلم.
إذًا كيف لا تحُضّ شِرعة الله ومنهاجُه على مثل هذه المعاني وقد كرّم الله بني آدم وحملهم في البَرّ والبحر ورزقهم من الطيِّبات؟! وقد كرّم من بني آدم أمّةَ الإسلام، فأوجب عليها من التراحم والترابط والاجتماع والنصرة ما يحرّم من خلاله كلَّ معنى من معاني الفرقة والاختلاف والأثرة وحبّ الذات والخذلان والإسلام للغير. وإنّ من لديه أدنى إلمامٍ بعالَم بعض الأحياء ليدرك جيِّدًا أثرَ تلكم المعاني في واقعها لأجل البقاء والسيادة والوقوف في وجهِ الظالم المعتَدِي، فالنمل على سبيل المثال يتعاون في دأب وصبر على الأعمال المتعدّدة والمحاولات المتكرّرة، وقد ذكر الله جلّ وعلا عن أمّة النمل موقفَها من سليمان عليه السلام: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]. ولجموع النحل مثلُ ذلكم الشعور مع مملكته، تتعاون في دقّةٍ وانتظام في عمارة خلاياها وحمايتها. وقولوا مثلَ ذلكم في الطيور والحيوانات الأخرى؛ حيث نراها تسير جماعاتٍ وأسرابًا، وإذا عرض لها عارض خطرٍ تكتّلت واجتمعت؛ لإدراكها بالغريزة أنّها إذا انقسمت هانت وذلّت.
فإذا كان ذلكم هو الشعور الجليّ في الحشرات والحيوانات العجماوات غريزيًّا فكيف بالإنسان المسلم الذي استطاع أن يملك ذلكم الشعور بالغريزة وبالشريعة جمعاء، حيث يقول الرسول : ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة من كرَب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) رواه البخاري بهذا اللفظ.
إن في أمتنا الإسلاميّة مجتمعاتٍ مسلمةً تمرّ عليها أيّام عِجافٌ، قُلِب فيها الباطلُ حقًّا والحقُّ باطلاً؛ لأنّ دورةً من دورات الزمن منحتِ المبطلَ القوّةَ في الأرض، فجعلته هو صاحبَ الأرض، وجعلت مالكَ الأرض الأصل إرهابيًّا طرِيدًا لا حقَّ لَه، كلُّ ذلك يستَدعي شَحذَ همَمِ المجتمعاتِ المسلمة شعوبًا وحُكَّامًا وأصحابَ قَرار أن يحيطوا تِلكم المجتمعات بالرحمة والتّعاطف والإحساس بالواجِب تجاهها والسَّعي الدَّؤوب لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل، فالحقُّ لا يمكِن أن يضيعَ جوهرُه لأنَّ عِللاً عارضةً اجتَاحت أهلَه؛ إذ لم تتحوّل جرائمُ فرعون إلى فضائل لأنّه ملك سلطةَ الأمر والنهي واستطاع قتلَ الأبناء واستحياء النساء. إنّنا إذا لم ندرك ذلكم جيّدًا فلن نستبين أغراضَ الغارة الشعواء الكامنة في جعلنا وإخوانَنا من المجتمعات المسلمة قِصّةً تُروَى وخبرًا كان، أو تبقيَنا جملةً لا محلَّ لها من الإعراب، إلاّ أن تلتقيَ الأطماع على أنقاضنا، وعزاؤنا أنّ الله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، إنّ الحاجةَ إلى تلاحم المجتمعات المسلمة وتوحيد شعورها إيجابًا وسلبًا وفق ما شرعه الله لهم والدعوة إلى إذكاء ذلكم الشعور لم تكن بِدعًا من الحديث، وليست هي خيالاً لا يُتصوَّر وجوده، ولا فتونًا يتردّد، ولا هي مثاليّة يُهزأ بها، بل هي واقعٌ منشود في كلّ عصر ومصر، وهي وإن خبت تارةً فإنها قد نشطت تاراتٍ، وإنّ ذلكم كلَّه ليسير على من يسّره الله له متى ما تحقّقت معاني التعاون الصادق والإحساس المشترك والانتماء الأصيل للدين؛ إذ القوّة وحدها لا تكفي، والصبر وحدَه لا يسدّ الحاجةَ، والشجاعة وحدها لا تردّ الاعتداء، ما لم تُحَط هذه الأمور جميعها بالتعاون المشترك ووضع الأكفّ على الأكفّ بين المجتمعات قياداتٍ وشعوبًا؛ ليكون تلاحم الأمّة سياجًا منيعا ضدَّ أيّ ثارةٍ أو غارة، وضدّ أيّ تحدٍّ وعدوان غاشم يبيح كلأها ويختلي خلاها، فإذا كانت القوّة وحدها لا تكفي دون تعاون وتضافر فكيف إذا كان الضعف جاثمًا مكانَ القوّة؟! فقوّة القويّ لا يتمّ لها الكمال إلاّ بتعاون الضعيف معه، فما ظنّكم بالضعيف إذا عاونه القويّ؟! وأيّ قوّة أسمى وأعلى من قوّة الدين والملّة؟!
ولقد ضرب الله لنا مثلاً ذا القرنين على ما أوتي من قوّة وشدّة، إذ مكّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سببًا، نراه مع قوّته وشدّته لم يستغن عن التعاون والاشتراك في مواجهة الشدّة، وذلك حينما سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًّا، فقال: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:95، 96]. فها هو مع قوّته وشدّته قد طلب منهم الإعانةَ بقوّة، وطلب منهم أن يأتوه بزُبَر الحديد، وطلب منهم أن ينفخوا فيه، فقدّموا له هذه الأمور الثلاثة مع قدرته وتمكينه. وهذا كلُّه دليل جليّ على إباء الرماح أن تنكسر إذا هي اجتمعت، ومعلوم أنّ القِدرَ على ضخامته لن يستقرَّ دون الأثافي.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأَزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
(1/4732)
مع الصيف
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الجنة والنار, مخلوقات الله
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الصيف. 2- واعظ الصيف. 3- نار الآخرة. 4- الوقاية من العذاب. 5- خضوع الكون لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، التقوى مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويوم الدين.
أيها المؤمنون، نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، إلاّ أنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلاً مع الصيف وما يحمل من عبر.
مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟! كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر، فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحر؟
روى الشيخان وغيرهما أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ـ أي: أخروها حتى يبرد الجوّ ـ ، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) ، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح قال : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)).
أيها الأحبة، إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، كان من دعائه : ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم)) رواه النسائي بإسناد صحيح.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم)) ، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)) ، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
اللهم إن أجسادنا لا تقوى على النار، فأجرنا منها يا رحيم.
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَعثا
ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جدثًا
في ظل مقفرةٍ غبراءَ مظلمةٍ يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
أيها المؤمنون، لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟
يقول : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا)) رواه النسائي بإسناد صحيح.
صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين، والمحروم من حُرم. يقول أبو الدرداء : (صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور).
أيها المؤمنون، إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.
عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة. رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.
خرج ابن عمر في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.
فهلم ـ عباد الله ـ نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
لما مرض معاذ بن جبل مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.
هنيئًا لك ـ يا معاذ ـ أن يكون هذا أسفك على الدنيا، وهذا حزنك على فراقها.
أيها المؤمنون، لنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعند الصباح يحمد القوم السُرى. حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندمز
في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض، وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:81، 82].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد: يقف بنا واعظ الصيف في موعظته مع ذلك الخلق العجيب وتلك الآية العظيمة؛ الشمس. الشمس بحجمها الهائل وحرارتها ولهبها ودخانها تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة، أخرج الإمام أحمد في المسند والبخاري في الصحيح عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال: ((يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها، ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38] )).
لقد استجاب الكون كله لله، سماؤه وأرضه، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا مهللاً لله، جل الله، وتبارك الله، وتعالى الله، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:49، 50]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ [الحج:18].
لقد تناغمت أجزاء الكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها، تدين بالطاعة لمن فطرها، تسبح ربها، فلماذا تلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف الكونَ كلَّه ويتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه، يتجرأ على ربه، وهو ذرة صغيرة في هذا الملكوت الطائع؟! ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَ قدره.
اللهم أنت ربنا، لا إله إلاّ أنت، خلقتنا ونحن عبادك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، إنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت...
(1/4733)
عناية الإسلام بشأن الأسرة
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تزويج صاحب الدين. 2- اختيار الزوجة الصالحة. 3- حسن تربية الأولاد. 4- عاقبة البعد عن تشريعات الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، وشكر ما أنعم به عليكم، فقد وعد بالعاقبة للمتقين والمزيد للشاكرين.
عباد الله، من المعلوم لديكم أن المجتمع يتكون من الأسرة، والأسرة تتكون من الأفراد، كالبناء الذي يتكون من الأساس واللبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها يكون البناء صرحا شامخا وحصنا راسخا، كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحا بصلاح الفرد والأسر التي يتكوّن منها، ولهذا شبه النبي المجتمع المسلم بالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضا، وبالجسد الواحد الذي يتألم كله بتألم عضو من أعضائه، ولهذا عني الإسلام عناية تامة بتكوين الأسرة المسلمة واستصلاحها، ولما كان تكوين الأسرة يبدأ من اتصال الذكر بالأنثى عن طريق الزواج أمر باختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة، قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وحسنه.
وقد أمر النبي في هذا الحديث بتزويج من كان مَرْضِيّ الدين والخُلُقُ، وهذا يدلّ على أن من كان فاسد الدين سيّئ الخلق لا يجوز تزويجه، ففيه حث على اختيار الأزواج واعتبار المؤهلات الشرعية، وكثير من الأولياء لا يُعِير هذا الجانب اهتماما عند تزويج موليته، فلا يختار لها الرجل الذي أرشد إليه الرسول ، وإنما يختار لها الرجل الذي يهواه هو ولو كان فاسدا في دينه سيئا في خلقه لا مصلحة للمرأة من الزواج به، فكم سمعنا مشاكل النساء اللاتي وقعن في سوء الاختيار، هذه تقول: إنها بليت بزوج لا يصلي، وهذه تقول: إن زوجها يشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات، وهذه تقول: إن زوجها أمرها بالسفور وإلقاء الحجاب، وهذه تقول: إن زوجها يستمتع بها في غير ما أحل الله، يجامعها في نهار رمضان، أو يجامعها وهي حائض، أو في غير المحل الذي أباح الله، وهذه تقول: إن زوجها لا يبيت عندها لأنه يسهر مع الفسقة، والمسؤول عن ذلك هو وليها الذي أساء الاختيار لها، وخان أمانته عليها، وهو المسؤول أيضا عن فسادها وفساد ذريتها بسبب هذا الزوج الذي غشها به.
وكما حث الإسلام على اختيار الأزواج الصالحين حث كذلك على اختيار الزوجات الصالحات، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((تنكح المرأة على إحدى خصال: لجمالها ومالها وخلقها ودينها، فعليك بذات الدين والخلق، تربت يمينك)) رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك)) رواه البخاري ومسلم. ومعناه: الحث على اختيار الزوجة الصالحة دون نظر إلى الاعتبارات الأخرى من الحسب والمال والجمال مع الخلو من الدين. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تَزَوّجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، لكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجة. والخرماء هي التي قطع شيء من أطرافها. والحديث يدل على أن الدين في المرأة يغطي ما فيها من العيوب، بخلاف المال والجمال إذا كانا بدون دين، فإنهما يجرّان إلى مفاسد. وأما إذا اجتمع في المرأة الدين والجمال وغيره من صفات الكمال فذلك من تمام النعمة، ولكن كل نقص يمكن التغاضي عنه إلا نقص الدين.
ثم يأمر الإسلام بعد تمام الزواج بحسن العشرة بين الزوجين، ومن هنا ندرك اهتمام الإسلام باختيار الزوجين لأنهما ركيزة الأسرة، وبصلاحهما تصلح الأسرة بإذن الله، واهتمامه ببقاء الزوجة الصالحة.
ثم بعد هذه المرحلة في تكوين الأسرة وهي مرحلة اختيار الزوجين يهتم الإسلام بتربية الذرية الحاصلة بين هذين الزوجين، فيأمر الوالدين بتنشئة أولادهما على الصلاح والابتعاد عن الفساد، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) ، ويأمر بالعدل بين الأولاد في العطية، ويمنع الوالد أن يعطي بعض أولاده ويحرم البعض الآخر؛ لأن هذا يُفضي إلى العداوة بين الأولاد، ويجرّ إلى القطيعة التي تفكك الأسرة وتهدم بناءها، عن النعمان بن بشير قال: تصدّق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فانطلق أبي إليه يشهده على صدقتي، فقال رسول الله : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، فقال: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)) ، فرجع أبي في تلك الصدقة. رواه مسلم.
وحث النبي على حسن تأديب الأولاد، فقال : ((ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن)) رواه الترمذي، وروى ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي : ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)).
وكما أمر الله الوالدين بتربية الأولاد والإحسان إليهم وحسن تأديبهم فقد أمر الأولاد برد هذا الجميل والإحسان إلى الوالدين وبرهما لا سيما عند كبرهما، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24].
وهكذا يأمر الله الوالدين بالإحسان إلى الأولاد في حالة صغرهم وعجزهم، ويأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين عند كبرهم وعجزهم، وفي هذا تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة المسلمة من الناحية المادية، وهناك تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة على ما هو أهم من ذلك وأنفع في العاجل والآجل، وهو التعاون على البر والتقوى، وذلك بالتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر بين أفراد الأسرة الواحدة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
فأمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم، ويقوا من لهم عليهم ولاية من أهليهم من النار التي لا ينجي منها إلا فعل الطاعات وترك المحرمات والتعاون على البر والتقوى. وكما يجب على الإنسان أن يحرص على نجاة نفسه يجب عليه أن يحرص على نجاة غيره من أقاربه وإخوانه، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] ، وهذا فيه أن قيّم الأسرة يحمل مسؤولية أسرته بالأمر بأداء الصلاة وغيرها من الواجبات وترك المعاصي والمحرمات، وهذا يتضمن اتخاذ وسائل الخير في البيوت من التعليم والتأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبعاد وسائل الشر عن البيوت من الملاهي وكل المظاهر السيئة؛ لأن البيوت هي محل اجتماع الأسرة وتلاقي أفرادها، فلا بد أن تكون بيوتا إسلامية مؤسّسة على البر والتقوى، وخالية مما يتنافى مع الإسلام وآدابه.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن صلاح الأسرة سبب لجمع الشمل وقرة الأعين في الدنيا والآخرة، وفساد الأسرة يسبب القطيعة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:19-25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله يعِنكم على فعل الخيرات، ويحفظكم من جميع المحذورات، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
واعلموا أن إهمال تعاليم الإسلام في شأن الأسرة يسبب تشتّتها وضياعها في الدنيا والآخرة؛ فإنها ما فسدت الذّراري إلا بسبب إهمال الوالدين وسوء تربيتهم لأولادهم، وما حصل العقوق من الأولاد لآبائهم إلا بسبب أن الآباء قد سبق أن عقّوا آباءهم من قبل، فإن الجزاء من جنس العمل، وقد يكون بسبب حيف الأب مع بعض الأولاد بتخصيصه دون إخوانه بشيء من المال والعطف، وما حصلت قطيعة الأرحام بين الأقارب إلا بسبب التشاحن والتنافس على أمور الدنيا، وبالجملة فإنه ما حصل الخلل في بناء الأسرة اليوم إلا بسبب الخلل في الدين.
انظروا إلى المجتمعات الكافرة كيف يعيشون عيشة البهائم؛ لا روابط تجمعهم، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. ولا يعطف قويهم على ضعيفهم، ولا يوقر صغيرهم كبيرهم ولو كان أباه أو أمه، إذا هرم الشخص منهم وعجز عن المشي وُضِع في دور العجزة إلى أن يموت ميتة الحيوان الحسير. وقد يكون له أولاد يملؤون الفِجَاج، ولكن لمّا ضيعوا دين الله أضاعهم الله، نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في أنفسكم وفي أُسَرِكم، واعتبروا بغيركم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/4734)
العدوان الإسرائيلي
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
11/6/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار العدوان الإسرائيلي. 2- محنة الشعب الفلسطيني. 3- ضرورة الاتحاد والتعاون. 4- اعتداء الاحتلال على الآثار الإسلامية في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ويستمرّ العدوان الإسرائيلي الذي ندينه ونندّد به على شعبنا الصابر المرابط، ويتوسّع هذا العدوان ليتّخذ أبعادا خطيرة تطال الإنسان الفلسطيني قتلا وجرحا وتشريدا؛ لترتفع إلى مراقي العلا أرواح الشهداء من أبناء هذا الشعب الذين تصدّوا للآلة العسكرية الإسرائيلية بكلّ صبر وثبات وإيمان بحقهم في الحياة فوق هذا الثرى الطاهر بكرامة تحفظ لأبناء شعبنا معنى العزّة بإيمانهم وانتمائهم إلى أرض باركها الله تعالى، واختارنا مرابطين فيها إلى يوم القيامة؛ ليكون هذا الشعب طليعة الأمة الإسلامية المتقدّمة في ميدان العطاء والوفاء إلى الدفاع عن كرامة الأمة ومقدّساتها وتاريخها وحضارتها في ديار قد رتّبها لتكون الحلقة المتّصلة في سلسلة الرباط مع ما يترتّب على هذا الرباط من بلاء وابتلاء، وصدق الله العظيم: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155، 156]، فكان جزاؤهم أكبر من مصيبتهم، وكان إكرامهم أعظم من ابتلائهم، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]. وفي هذا المعنى يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العِدلان، ونِعمَت العِلاوة، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فهذان العدلان، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ فهذه العلاوة) أي: ما زيد على الحمل، فالصابرون على البلاء لهم أجر عند ربهم وزيادة، والله جل وعلا يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن العدوان الإسرائيلي الآثم على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة وما يرافقه من مداهمات واعتقالات واغتيالات وإغلاق لكثير من المؤسّسات المدنية والخدماتية في الضفّة الغربية، إن هذا العدوان ليستوعِب مفردات الآية الكريمة التي مرّ ذكرها؛ مِن خوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، الخوف الذي يروع الأطفال والنساء والشيوخ جراء القصف الجوي والبري والبحري الذي استهدف ويستهدف المؤسّسات العامة كمقارّ الوزارات والجامعات والمدارس وبيوت المواطنين، ويوقع الشهداء والجرحى بين صفوفهم، أما الجوع فمن أسبابه هذا الحصار الجائر الذي فرضه الاحتلال من خلال الجدران الفاصلة والمناطق العازلة التي يستهدفها القصف المدفعي بشكل متواصل لمنع أهلها من الوصول إليها واستغلالها، وتجريف الأراضي الزراعية وإتلاف محاصيلها وضرب البُنَى التحتية من جسور وطرق ومحطات الماء والكهرباء هو استنزاف للاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني قبل العدوان الأخير من أزمة خانقة جراء الحصار المضروب على دخول الأموال والمساعدات للسلطة الفلسطينية.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن مواجهة هذا العدوان الغاشم الذي يستهدف الأرض والإنسان والشجر والحجر وكلّ مقدرات هذا الشعب من مؤسّسات رسمية وشعبية وبُنى تحتية، إن مواجهة هذا العدوان لتقتضي من جميع أبناء شعبنا أن يكونوا صفّا واحدا ويدًا واحدة في تصديهم لهذا العدوان الذي يسعى لكسر إرادتهم، وإن شعبنا الذي أفشل في الماضي مخططات الاحتلال من النيل من إرادته لجدير أن يفشل هذا العدوان الدموي الذي ينذر بكارثة إنسانية تحلّ في قطاعنا العزيز من وطننا الغالي، هذا الوطن الذي ما تخلّى أبناؤه يوما في تقديم التضحيات الجسام من أجل حريته وكرامة أبنائه، وكان شعارهم وما يزال الموت واقفين ولا نرفع الراية البيضاء، ومهما كانت المصائب فدعاؤنا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وشعارنا وشاحذ عزيمتنا نداء الله الخالد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وهادي ركبنا ومُلهِم نفوسنا قول رسولنا الأكرم : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أيها الصابرون على البلاء في الوقت الذي يوسّع فيه الاحتلال عدوانه الغاشم على شعبنا لترتفع أرواح الشهداء من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ والشباب إلى بارئها تشكو ظلم الظالمين وتخاذل المتخاذلين، في هذا الوقت تخرج علينا وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لتكشف عن مخطّط يهدف إلى إزالة طريق باب المغاربة المؤدية إلى المسجد الأقصى المبارك، هذه الطريق التي تربط باب المغاربة وهو بوابة رئيسية من بوابات المسجد المبارك بحائط البراق وما تبقى من أملاك الوقف الإسلامي والآثار الأموية في الجهة الغربية الجنوبية للمسجد الأقصى، بعد أن نالت يد الهدم حيّ المغاربة في بدايات الاحتلال لمدينة القدس عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين.
إن هذه الطريق تحتوي على الآثار الإسلامية منذ الفترات المتقدمة للوجود الإسلامي في هذه الديار، وهي وقف إسلامي على المسجد الأقصى المبارك، وإن العبث في هذه الطريق أو إزالتها لهو اعتداء صارخ على المسجد الأقصى المبارك الذي يشكل جزءًا من عقيدة المسلمين، وهو قبلتهم الأولى وثالث مسجد تشد إليه الرحال في الإسلام، وهو منتهى معجزة الإسراء بالنبي وبوابة معراجه إلى السماوات العلا، وإن الإقدام على إزالة هذه الطريق يحمل في طياته مخاطر جسيمة على أمن وسلامة المسجد الأقصى خاصة وأن المتربّصين بالمسجد من المستوطنين والمتطرفين اليهود لا يخفون نواياهم العدوانيّة تجاه المسّ بقدسية المسجد ووجوده، وهذا ما تظهره تفوّهاتهم من خلال وسائل الإعلام ودعواتهم الصريحة لدخول المسجد الأقصى ضمن مجموعات كبيرة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إننا ونحن نحذر من المخاطر المترتبة على هذه الأعمال غير المسؤولة لنحمّل سلطات الاحتلال كافة النتائج التي تؤدي إليها مثل هذه المغامرة الحمقاء، فقد أصبح واضحا أن كل الحفريات التي قامت بها السلطات الإسرائيلية المحتلّة لم تسفر إلا عن الحضارة الإسلامية وآثارها من قصور أموية ومبان إسلامية، وإن العبث بالقدس وحضارتها وتاريخها وحقوق مواطنيها في أرضهم وإقامتهم لن يغيّر من الحقيقة الناطقة بإسلامية القدس ووجهها العربي والإسلامي، ولن يخالف الحقيقة من قال: إن القدس متحف لحضارة الإسلام والمسلمين، وهذه مساجدها درّة جبينها المسجد الأقصى المبارك بما اشتمل عليه من قباب ومساطب ومحاريب ومصليات، وهذه زواياها وتكاياها ومدارسها وأسواقها الإسلامية تشهد لكل ذي بصر وعقل على ارتباطها بالمسلمين وارتباط المسلمين بها؛ لهذا كله نهيب بالمسلمين دوَلا وشعوبا وحكومات أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في المحافظة على إسلامية وعروبة هذه المدينة والدفاع عن أقدس مقدساتهم فيها، كما نطالبهم أن يقفوا موقف العزّة في العمل على وقف هذا العدوان الدموي الذي يشنّ على أبناء هذا الشعب الصابر المرابط، ولا يقولوا كما قال الشاعر:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي كلهم من دون خلق الله ماتوا
(1/4735)
رابطة العقيدة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
18/6/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله لبني آدم. 2- أهمية الحياة الاجتماعية. 3- تماسك بناء المجتمع المسلم. 4- ضرورة العناية برابطة الأخوة. 5- أساس الأخوة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله الذي خلقكم ورزقكم من الطيبات، واشكروه على مزيد فضله ووافر نعمه، واحذروا أسباب غضبه وعقابه.
أيها المسلمون، إن من عظيم آلاء الله وجميلِ إحسانه أن كرَّم بني آدم على جميع مخلوقاته لما حباهم به من عقل هو مناط التكليف وما أنزل عليهم من وحيٍ هو الدليل لهم إلى كلّ سعادة والقائد لهم إلى كلّ خير والسائق لهم إلى كلّ هدى والمنقذ لهم من كلِّ ضلال. ولمّا كان الإنسان مدركًا بعقله قيمةَ الحياة الاجتماعيّة متبيِّنًا ضرورَتَها متيقّنًا لزومها وشدّةَ الحاجة إليها؛ فحيثما وجِد الإنسان وُجِدت، بها تنتظم أموره وتستقيم حياتُه ويبلغ غاياته، وإذا كان الناس قد تواضعوا بينهم على إقامة روابطهم وإنشاء صِلاتهم على قواعدَ وطرائق شتّى يرون أنها السبيل الأمثل الذي تتحقّق به مصالحهم ويطيب به عيشهم فإنّ الله تعالى جعل رابطةَ المؤمنين على أساس العقيدة والأخوّة في الله، فأخبر سبحانه عن ذلك المعنى بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الآية [الحجرات:10]، وهو إخبارٌ منه بما يجب أن يكون واقعًا ملموسًا، لا مجالَ لجَعله كلامًا وأمانيَّ لا رصيد لها؛ لأنّ المؤمنين حين آمنوا بربّهم وصدّقوا برسوله وبما جاءهم به من عنده توحّدت وِجهتهم واجتمعت قلوبهم، ولا تنافر بين قلوب اجتمعت على إيمانٍ بالله وعَمَرها حبٌّ شديد لله؛ لأنّ الإيمانَ قوّة جاذبة تبعث أهلَها على التقارب والتعاطف، وذلك هو التآلفُ الذي أشار إليه سبحانه بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
وبذا كان هذا البناء المؤتلف المحكَم جديرًا بهذا الوصف النبويّ البليغ الوارد في قوله صلوات الله وسلامه عليه: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) أخرجه مسلم في الصحيح، وكان هذا التآلف القائم على العقيدة والأخوّة في الله جديرًا أيضا بهذا المثل النبويّ المشرق الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)) أخرجه مسلم في الصحيح. ولقد كانت تلك المؤاخاة العظيمة ثمرةَ الغراس النبويّ الذي غرسه رسول الله عقِبَ هجرته إلى المدينة، تلك المؤاخاة التي جعلت من المسلم الأنصاريّ يقتسم مع أخيه المهاجر كلَّ شيء، حتى إنّه لينزل عن إحدى زوجتيه فيطلّقها ليتزوّجها أخوه المسلم المهاجر من مكّة، كانت هذه المؤاخاة أوضح دليل وأقوى برهان على أنّ رابطةَ الأخوّة في الله أمست في ضياء القرآن وهدي النبوّة واقعًا مشهودًا لا ريبَ فيه وحقيقة ماثلة لا يوجد مدافع لها؛ ولذا كانت هذه الأخوّة نعمةً امتنّ الله بها على عباده، فقال في مقام التذكير بآلائه والتعداد لنعمه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
قال بعض أهل العلم في التعليق على هذه الآية وبسط مدلولاتها: "لقد وثّق الله صلات المسلمين خاصّة بلحمةٍ أقوى من النسب، هي وحدة العقيدة بما ينشأ عنها من وجدان مشترك وتآلفٍ وتعاطف وتعاونٍ وإخاء؛ لأنّ صلةَ الدم أو الجنس قد يمسّها فتور وهي أشدّ ما تكون قرابة، أما وحدة العقدة فهي قرابة قويّة دائمة متجدّدة، يذكرها المسلمون وهم ينطقون بالشهادتين في سرّهم وجهرهم، ويذكرونها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجّهم، ويذكرونها في طاعتهم لله وخضوعهم له واستعانتهم به، ويذكرونها في كلّ لمحة عين أو خفقة قلب أو تردّد نفَس؛ لهذا أمرهم القرآن الكريم أن يعتصموا بوحدتهم في ظلال عقيدتهم، وحذّرهم الفرقة لأنّها تقوّض هذه الوحدة. وفي حضّه على الوحدة صوّرها صورةً تحبِّبها إلى نفوسهم فسمّاها حبل الله، ثم امتنّ عليهم بنعمة من ربهم هي الألفة التي جمعتهم فصيّرتهم إخوة يربطهم الحبّ والتعاون والاتحاد ووحدة الهدف والمصير بعد أن كانوا أعداء يسطو بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا، حتى لقد كاد يُفني بعضهم بعضًا، حتى لقد كادوا يتفانَون كأنّهم على حافة حفرة تلتهب نارًا، يوشكون على التردي فيها لولا أن لطف الله بهم فأنجاهم من التردّي المهلك" انتهى كلامه.
وإذا كانت هذه الأخوّة المباركة نعمةً أنعم الله بها على هذه الأمّة فلا عجبَ إذًا أنه سبحانه لم يربطها بمصالحَ دنيويّة ولم يردّها إلى عوامل واعتبارات متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان، بل أراد لها أن تتّسم بسمة البقاء والاستمرار إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها، حتى تكون الأخوّة في الله رابطةً بين المسلم وبين من سبق من أجيال وما سوف يتلوه أيضا من أجيال في سِلسِلة متّصلة يربط ويقوّي ما بين حلقاتها هذه الأخوّة المباركة.
عباد الله، إنّ استشعار هذه النعمةِ يستوجب كمالَ العناية بأمرها وتمامَ الرعاية لحقوقها والحرصَ على صيانتها من كلّ ما يعكّر صفوها أو يوهن عُراها أو يتصدّع به بناؤها؛ إما من اتصافٍ بما يقبح من الصفات وما يضرّ من الأعمال، أو بالتخلِّي عن الأخ المسلم عند حاجته، وكلّ ذلك مما جاء بيانه في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إياكم والظنَّ؛ فإنّ الظنَّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضُه)) ، وفي رواية: ((ولا يسلمه)) أي: لا يتخلّى عنه عند حاجته إليه. ولما كانت الأثرة التي يُمنى بها بعض الإخوة في الدين حقيقةً واقعة لا مجال لإنكارها يستجيبون لها بدرجات مختلفة وتوقع بينهم العداوةَ والبغضاء شرع الله سبيل الوقاية التي تحجزهم عن التنكّر لحقوق هذه الأخوة وتدرأ عنهم سوء العاقبة المترتّبة على ذلك؛ بأن أمرهم بالاحتكام إلى شرع الله وسنة رسول الله ؛ لأنه الطريق الذي يحقّق الخير ويضمن العدالة، فتطمئنَّ له القلوب وتذعن له النفوس، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمة الله عليكم المتمثّلةَ في هذه الأخوّة التي ربط الله بها بين قلوبكم، وارعوا حقّها، وحذار من التنكّر لها؛ تكونوا من المفلحين الفائزين الذين قال الله فيهم: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17، 81].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابهِ وبسنّة رسوله ، أقول قَولي هَذَا، وأَستَغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هوَ الغَفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكرم الأمة بدين الإسلام، أحمده سبحانه الملك القدوس السلام، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريك لَه، وأشهَد أنَّ سيدنا ونبينا محمّدًا عَبد الله ورَسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صلاة دائمة ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعد: فيا عباد الله، قال بعض العلماء: إن الأخوّة في العقيدة لها وشيجة قُربى بين المتآخين دنيا وأخرى؛ فإن الأخ في إحساسه برقابة الله يرعى أخاه موجودًا وغائبا، وهو يحفظه في نفسه وفي ماله وفي عرضه؛ لأنه يعدّ ذلك واجبه الذي تفرضه الأخوة في الدين، ولأنه سوف ينال على ذلك جزاء طيّبًا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]؛ ولذلك قامت الأخوّة الإسلامية على أساس من القيم الأخلاقية التي أغنتِ الإسلام عن سَنّ القوانين وفرض التشريعات في كثير من المواقف، فهذه النظرة الحكيمة إلى بناء الإخاء الإسلاميّ واضحةٌ في ديننا أشدَّ الوضوح، قويّةُ التأثير؛ لذا قادت من قبلُ جموعَ المؤمنين إلى النصر في الدنيا، وإلى رضوان الله في الأخرى، وهي كفيلة الآن أيضًا أن تقود الأمّةَ في مواجهة التحديات من حولها إلى كلِّ نصر وعزة وسؤدد، وتضمن مع ذلك الأمن النفسي وثواب الله.
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بحبل الله بينكم، واعملوا على القيام بحقوق الأخوّة في الله امتثالاً لأمر الله ومتابعةً لرسول الله وحرصًا على تحقيق كلّ خير يُرجَى ودفع كلّ شرٍّ يُخشى.
واذكُروا على الدَّوامِ أنَّ الله تعَالى قَد أمَرَكم بالصّلاةِ والسّلامِ على خير الورَى، فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عَبدِك ورَسولِك محَمَّد، وَارضَ اللَّهمَّ عَن خلَفائهِ الأربعة...
(1/4736)
دلالات العدوان الإسرائيلي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
18/6/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البحث عن أسباب الذل والهوان. 2- شباب الإسلام. 3- تضحية صهيب الرومي رضي الله عنه. 4- إيمان سحرة فرعون وصبرهم. 5- أهمية الصبر والمصابرة لتحقيق النصر. 6- جريمة منع المصلين من المسجد الأقصى. 7- دلالات اتساع رقعة العدوان الإسرائيلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول الحق جل وعلا: فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:4-11].
عباد الله، لماذا لا تزال الأمة تحت الحصار؟! لماذا تضرب من اليمين واليسار؟! لماذا يتحكم أعداؤنا فينا تحكم السادة بالعبيد؟! لماذا تتلقى أمتنا الضربات من كل مكان؟! لماذا تخلت الشعوب الإسلامية عن شعبنا المرابط الصامد؟! ولماذا هذا الصمت المخزي لما يجري على الساحة اللبنانية؟! وفي المقابل أليست أمتنا هي القائمة على أمر الحق والدين القيم؟! أليست هي الشهيدة على الناس؟! أليست هي الأمة الوحيدة التي تقدم قوافل الشهداء؟! أليس شعبنا الفلسطيني المسلم هو الشعب الوحيد الذي يرابط على ثغور الإسلام وكذلك الشعب اللبناني؟! أليست أمتنا خير أمة أخرجت للناس؟! ألسنا الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! ألم تحكم أمتنا الإسلامية العالم قرونا طويلة؟! ألسنا أصحاب الحق الشرعيين في أرضنا المباركة؟! ألم يأمرنا المولى تبارك وتعالى بالمحافظة على ديننا وأرضنا وعزتنا وكرامتنا؟! أليست قلوبنا حية ومؤمنة وصادقة ونرضى بما كتب الله لنا؟! قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].
عباد الله، لا عجب أن نرى اليوم الذين يحملون رسالة الإسلام جلّهم من الشباب، فقد كان أصحاب رسول الله شبابا، وكان أكبرهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وكان في الثامنة والثلاثين حينما دخل الإسلام، فقد ناصروا الرسول ووقفوا بجواره وأيدوا دعوته ونصروا رسالته، ونحن هنا في أرضنا المباركة نرى الفئة والجماعة المؤمنة أغلبها من الشباب الذين يحملون رسالة الإسلام قولا وعملا، لا يخافون في الله لومة لائم، صابرين في البأساء والضراء وحين البأس، لا يتزعزع إيمانهم مهما كلّف الثمن؛ لأنهم باعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].
أتدرون ـ يا عباد الله ـ فيمن نزلت هذه الآية؟ لقد نزلت في الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، وكان في مكة، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيرا وآويناك إلى جوارنا، وأنت الآن ذو مال كثير وتريد أن تهاجر بمالك! فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟ قالوا: نعم، قال: تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟ قالوا: لك هكذا.
عباد الله، هكذا تكون التربية الإيمانية، فلا تغيير في الموقف مهما اشتدّت المحن، ومهما استمرّ العذاب فالمؤمن يزداد إيمانا وقوّة وعزيمة، تلك هي سنّة الله في عباده، ولن تجد لسنة لله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
انظروا ـ يا عباد الله ـ كيف تنازل عن ماله من أجل عقيدته من أجل دينه من أجل أن يهاجر إلى رسول الله ويلتحق بموكب المؤمنين من المهاجرين والأنصار، ليسجّل اسمه في سجل رباني كتب فيه قوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ، وينزل الأمين جبريل عليه السلام ويخبر الرسول بخبر صهيب، فيقول له النبي : ((ربح البيع أبا يحيى)). إنها التضحية، إنه الدين، إنه الفداء، وأي دين لو كان له رجال مثل أصحاب رسول الله ؟!
يا عباد الله، ما الحياة بثقة فيرجى نومها، ولا المنية بعذر فيؤمن غَدرها، ففيم التفريط والتقصير والاتكال والإبطاء؟!
عباد الله، لقد رضينا من أعمالنا بالأماني، ومِن طَلَب التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني، فيا أيها المؤمن بادر إلى الله واستيقظ من غفلتك، فقد طال الغياب، ولا تؤثرن فانيا على باق، فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ولا تغترنّ بملكك وهو ملك لولا أن بعده هلاك، وفرح وسرور لولا أنه غرور، وهو يوم لو كان يوثق به بعد، فسارع إلى أمر الله فهو القائل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
عباد الله، إذا كان السحرة وهم عدة فرعون وعتاده لمواجهة موسى عليه السلام أعلنوا الإيمان، ولم يكترثوا بتهديد فرعون ووعيده، وقد ثبتوا على إيمانهم وقالوا لفرعون بصوت واحد: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73].
عباد الله، لا تتعجبوا من أولئك السحرة، فقد كانوا أول النهار كفرة سحرة، وكانوا آخر النهار شهداء بررة، كيف لا وقد توجهوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]؟!
عباد الله، إذا أردتم النصر والثبات فعليكم أن تتصلوا بالله، فهو القاهر فوق عباده، وهو محطّم المعتدين ومخزي الظالمين وقاهر الجبارين. إذا أردتم المدد من الله فانظروا إليه بعين العبودية الصادقة، واستغيثوا به ليلا ونهارا سرا وجهارا، فهو سبحانه القائل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9، 10]. إذا أردنا النصر فلنطلبه من الله وحده، فهو صاحب النصر والقوة والجبروت، هو الذي يمدنا بمدده ويقوينا بجنده. وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن التضحيات كبيرة والدماء تسيل والشهداء يتساقطون والمعتقلون يتزايدون، فعليكم بالصبر والمصابرة فهو باب النجاة.
عباد الله، قال رجل لعنترة: ما السر في شجاعتك؟! قال: ضع إصبعك في فمي وخذ إصبعي في فمك، فوضعها في فم عنترة ووضع عنترة إصبعه في فم الرجل، وكلّ عض إصبع صاحبه، فصاح الرجل من الألم ولم يصبر، فأخرج له عنترة إصبعه وقال: بهذا غلبت الرجال، أي: بالصبر والاحتمال.
عن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاءَ العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ، ثم قال النبي : ((اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، دائرة الأوقاف الإسلامية والهيئة الإسلامية العليا والمسلمون في كل مكان يدينون منع المصلين المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، وبخاصة في أيام الجمع، ومنع الشباب من هم دون سن الخامسة والأربعين، وقد تكرّر هذا مرارا وتكرارا من سلطات الاحتلال. وإن هذه الأعمال تكشف زيف الاحتلال وأنه يعطي حرية العبادة للناس. فلا تمعنوا في الظلم، وكفاكم محاربة لله تعالى، كفاكم ظلما لبيوت الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
عباد الله، إن اتساع رقعة العدوان على شعبنا على امتداد الوطن الفلسطيني وعلى لبنان إنما يعزّز الرؤيا الصادقة التي طالما أكدناها وأنه لا سلام في ظل الاحتلال ولا تحرير في ظل غياب دولة الإسلام، مبدآن أساسيان لا يلتقيان مهما تغلفت الاتفاقيات الثنائية والحلول والمعاهدات بأغلفة الاستقرار والانتعاش والرخاء، وما يجري على ساحة اليوم خير دليل على عنجهية المحتل، وخير برهان على العجز العربي والإسلامي، وخير بيان لسذاجة المتوهمين واللاهثين وراء الحلول الاستسلامية تحت ذرائع وهمية لا تمت إلى عقيدتنا الإسلامية بشيء، بل إنها تندرج تحت فلسفة العاجزين وبأن العالم قد تغير ولا بد من الواقعية والتسليم بالأمر والواقع.
أيها المسلمون، إن إسرائيل بعدوانها الواسع ضدّ شعبنا المسلم والصابر وضدّ الشعب اللبناني تبين للجميع هشاشة ما يسمى السلام، وتؤكد للجميع أنها لا تفرّق بين هذا الفصيل أو ذاك، فالعدوان يستهدف تدمير البنية التحتية وتدمير محطات الكهرباء وضرب الجامعات والمستشفيات والمؤسسات الأهلية في كل من فلسطين ولبنان، فشعبنا بكل انتماءاته مستهدف، وكذلك الشعب اللبناني، وادعاء الحكومة الإسرائيلية بأنها لا تسعى إلى إيجاد أزمة إنسانية في قطاع غزة محض افتراء ومجرّد ذر الرماد بالعيون. فما معنى تدمير محطات الطاقة ومحطات تزويد المياه؟! ما معنى تدمير المباني الحكومية والجسور واختراق الطائرات الحربية حاجز الصوت فوق المخيمات وهي مبنية من الطوب والصفيح؟! أليس هذا العدوان يفوق كل الأزمات الإنسانية التي يمكن أن تلحق بنا؟! إن إسرائيل التي اتخذت من أسر الجنود في فلسطين ولبنان ذريعة للعدوان الواسع على قطاع غزة ولبنان يعطي للمراقب أن كل الاتفاقات المبرمة أصبحت حبرا على ورق، وأن الدعوة إلى طاولة المفاوضات ما هو إلا دليل العجز والاستسلام لشروط إسرائيل.
لقد أعلنت إسرائيل أنها تستهدف الحكومة الفلسطينية، فعملت على اعتقال وزراء وأعضاء في المجلس التشريعي، ووجهت لهم تهم الإرهاب أو التحريض على الإرهاب، فأي منطق هذا؟! وهل تعتقد إسرائيل أن هؤلاء سيشكلون ورقة ضغط على الحكومة الفلسطينية لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي؟!
عباد الله، إسرائيل واهمة لأنها تسير بعكس التيار، فإرادة الأمة أقوى من كل الأسلحة، واستمرار العدوان ومسلسل القتل والتدمير والاعتقالات سيعمق الكراهية والعداء، كلما ازداد العدوان زاد تمسك الشعب الفلسطيني بالثوابت الإيمانية، وازدادت قناعته بأن حل القضية لن يكون عبر مفاوضات تهدف إلى إضفاء شرعية الاحتلال.
عباد الله، ليس جديدا على شعبنا المواقف المخجلة من الدول العربية والإسلامية، فليست هذه هي المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتعرض فيها شعبنا إلى المذابح والعدوان والقتل والتدمير والحصار والتجويع وتذهب استغاثات الثكلى وأنات المرضى والجرحى أدراج الرياح. وليست المرة الأولى التي تعرب فيها الإدارة الأمريكية الحاقدة بأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، فشعبنا عليه مواجهة العدوان بالعزيمة والإيمان وقوة الصبر والصمود في ظل صمت عربي وإسلامي وأنظمة لا تعرف للعقيدة معنى ولا للإنسانية مغزى ولا للأخوة شيئا، وإن وحدة شعبنا وتمسّكه بدينه كفيلة بإفشال مخططات الأعداء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/4737)
الشباب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, المسلمون في العالم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دور الشباب في بناء الأمة ونهضتها. 2- مقارنة بين اهتمامات شباب الماضي وشباب الحاضر. 3- ماذا قدم أسلافنا الأوائل من شباب الأمة الإسلامية لدينهم؟ وماذا قدم شبابنا اليوم لدينهم؟ 4- صور من مآسي المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: من المعلوم لدى الخاص والعام والقريب والبعيد أن الشباب هم عماد الأمم بعد الله عز وجل، وهم الذين تقوم على أكتافهم نهضة البلاد، وتعلق عليهم الآمال بعد الله في القيام بالأمة من كبوتها ونهضة الأمة وصحوتها.
الشباب ـ أيها المؤمنون ـ هم الذين قاموا بدعوة الإسلام، وأيد الله بهم هذا الدين، فقَيّض لرسوله مجموعة من الشباب قاموا به وعَزّروه ونصروه. لقد كان من السابقين الأولين في الإسلام علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود، وخَبّاب بن الأرت، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مظعون رضي الله عنهم، وغيرهم كثير من الشباب الذين نصر الله دينه بهم.
أيها المسلمون، الشباب قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، مرحلة الشباب هي تلك المرحلة التي تكون ما بين سن الخامسة عشرة والأربعين، تلك الفترة من العمر التي يبدأ فيها النضج الفكري والجسدي حتى يكتمل عند سن الأربعين سنة، ذلك السن الذي هو سن اكتمال الرجولة، قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، ولذلك بعث الله رسوله على رأس أربعين سنة.
والآن ـ عباد الله ـ تعالوا بنا ننظر في حال شبابنا اليوم وحال شباب المسلمين في السابق، ما هي يا ترى اهتمامات شبابنا اليوم؟ وما هي اهتمامات شباب المسلمين في عصور العِزَّة؟ ما هي طريقة تفكير شبابنا اليوم؟ وما هي طريقة تفكير شباب المسلمين في عصور العِزَّة؟ كيف يقضي شبابنا اليوم أوقاتهم؟ وكيف كان شباب المسلمين يقضون أوقاتهم في عصور العِزَّة؟ ماذا قدم شباب المسلمين اليوم لدينهم؟ وماذا قدم شباب المسلمين لدينهم في عصور العِزَّة؟ والأسئلة كثيرة، ويكفي ما ذُكِر لعل الله أن ينفع به ويصلح أحوالنا.
أيها المسلمون، عند الحديث عن اهتمامات شبابنا اليوم أجدني حائرًا بماذا أبدأ؟ وماذا أذكر؟ وماذا أدع؟ فاهتمامات الشباب اليوم كثيرة، وطموحاتهم لا حدود لها، وهممهم في أعلى عليين، ولعلكم تظنون أني أسخر بهذا الكلام، لا والله، بل هي الحقيقة، لكن تلك الاهتمامات وذلك الطموح وتلك الهمم كلها أرضية دنيوية سفلية. يقول تعالى في مثل هذا العلو الذي هو علو أرضي لا يسمو ولا يرتفع بصاحبه، بل على العكس يسفل بصاحبه وينحط به، يقول جل شأنه: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]. فهو عال لكن في الأرض، وهكذا كثير من الشباب والشابات اليوم، كثيرة اهتماماتهم، عالية هممهم، عظيمة طموحاتهم، لكن أين؟ في الأرض، وفي الأرض فقط.
معاشر المسلمين، عندما تسفل الاهتمامات وتنحط الهمم يغدو غاية ما يتمناه الشاب أن يكون لاعبًا مشهورًا لكرة القدم، أو مغنيًا ذا حنجرة رنانة تعشقه الجماهير، أو ممثلاً بارعًا تظهر صوره على شاشات التلفاز، ويغدو غاية ما تتمناه الفتاة مثل ذلك أو قريبًا منه. وعندما ترتقي الهمم قليلاً عند البعض يتمنى أن يكون طبيبًا أو مهندسًا. وهذه وإن كانت أمورًا مباحة إلا أن الخطأ ليس في مجرد تمنيها، وإنما الخطأ عندما تنحصر الهمم في ذلك فقط، أو أن تجعل هذه الأمور المباحة أولويات تقدم على الدين ومتطلباته. ومن الخطأ أن تتمنى الدنيا لأجل الدنيا، والعاقل من تمنى الدنيا لأجل الآخرة.
واستمع الآن ـ أخي الكريم ـ إلى أمنيات بعض أصحاب رسول الله ، روى الحاكم في المستدرك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح.
فتأمل ـ رعاك الله ـ في أمانيهم، ولماذا تمنوها؟ تمنى بعضهم مالاً وهو من الدنيا لكن تمناه ليصل به إلى الآخرة، لا كما يتمنى بعض الشباب اليوم أن يكون من التجار أصحاب الملايين، لكن لماذا؟ لأجل الاستمتاع بالمال، وليشتري ما يشاء من أثاث ومتاع، وليحصل على ما يشاء من شهواته.
ثم استمع بعد ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه لشاب كان يخدم النبي ، ثم أراد النبي أن يكافئه، فأمره أن يطلب ويتمنى ما يشاء، فيا ترى ماذا كانت أمنيته؟ وماذا كان طلبه؟ عن أبي سلمة قال: حدثني ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله لآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: ((سل)) ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: ((أوَغير ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
فلا إله إلا الله، ماذا تمنى؟! وتصور لو أن أحد الشباب عرض عليه عرض مشابه ماذا سيتمنى؟ بل إن الخيِّر فينا سيتمنى الجنة فقط، وهذا ما يخطر على البال عندما تسمع الحديث، لكن ربيعة كان طموحًا ذا همة عالية، فشتان بين همة ربيعة وهمة كثير من شبابنا اليوم، شتان بين الثرى والثريا.
سارت مُشَرِّقَة وسرت مُغَرِّبًا شتان بين مُشَرِّق ومُغَرِّبِ
هذا ـ إخوة الإيمان ـ عن الأماني، فماذا عن الاهتمامات عند شبابنا اليوم هداهم الله؟ إنها اهتمامات دنيوية تعلقت بتوافه الأمور، فما بين مهتم بالكرة قد تعلق فكره وقلبه بها، ينام على التشجيع ويصحو على التشجيع، إن ربح الفريق الذي يشجعه فرح وغنى ورقص، بل ويخرج الأفواج من الشباب إلى الشوارع ليحدثوا الفوضى ويعطلوا السير، ويقوم بعضهم بالرقص كالنساء في الطرقات، ثم يذهبون إلى الشواطئ لإكمال ما تبقى لديهم من رقص وغناء. وإن هزم فريقهم الذي يشجعونه حزنوا ووجموا وربما بكى بعضهم، بل ربما أغمي على البعض وحُمِل إلى المستشفى. هذا بخلاف ضياع الأوقات في مشاهدة المباريات، وتضييع الصلوات عند الكثير منهم، وضياع المال في تذاكر دخول الملاعب، وفي شراء الأعلام وقطع القماش وتوزيع الهدايا عند الفوز، وغير ذلك من المفاسد والبلايا التي تحل بسبب هذه الكرة. وأمر الكرة يطول الكلام فيه وتطول الشكوى منه. والله المستعان.
واهتمامات أخرى للشباب هداهم الله، الاهتمام بالمظهر كاللباس والشعر، وتلك قضية ـ والله ـ إن جاز شيء منها للنساء فلا يليق أن تكون محور اهتمام عند الشاب. فقد رأينا من يفعل بنفسه الأفاعيل في شعره ولباسه ومشيته، متابعًا في ذلك أحدث الموضات كما يقولون، ورحم الله أيامًا كانت متابعة الموضة فيها قاصرة على النساء، أما اليوم فقد أصبح كثير من الشباب يتابعون الموضات.
معاشر المؤمنين، عار ـ والله ـ على رجل أن يكون جُلّ اهتمامه بشعره وملابسه وسيارته. عار ـ والله ـ على رجل أمته تبتلى باحتلال أراضيها ومقدساتها وقتل رجالها ونسائها وأطفالها، ثم هو بعد ذلك لا يلوي على شيء، ولا يرى من الدنيا إلا الاهتمام بمظهره، اهتماما خارجًا عن حدود الشريعة.
عباد الله، هذا التنعم الزائد عن حده كان من الأسباب في خروج جيل لا يصلح لتحمل أدنى مسؤولية، وكان بعد ذلك سببًا في خروج جيل ليس من الرجال ولا من النساء، فهو مذبذب بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
معاشر الشباب، جاء في الآثار: (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)، وروى البيهقي في سننه عن أبي عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: (أما بعد: فاتزروا وانتعلوا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا وانزوا على الخيل نزوًا).
إخوة الإيمان، إن التنعم والترف مفسد للمرء ومضعف له، وقد يضطر إلى عيش خشن يومًا ما فلا يطيقه، بخلاف من ربّى نفسه على عدم الإكثار من الترفه والنعومة. بل وإنه ينبغي على الإنسان أحيانًا أن يدرب نفسه على العيش الخشن. روى أبو داود في سننه والنسائي من حديث عبد الله بن بريدة أن رجلاً من أصحاب النبي رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكني سمعت أنا وأنت حديثًا من رسول الله رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فما لي أراك شعثًا وأنت أمير الأرض؟! قال: إن رسول الله كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، قال: فما لي لا أرى عليك حذاءً، قال: كان رسول الله يأمرنا أن نحتفي أحيانًا.
فانظروا ـ يا شباب الإسلام ـ كيف يربي رسول الله أتباعه على الخشونة. فلئن كنت اليوم تمشي بنعال أو حذاء فخم طري فلعلك لا تجده غدًا فماذا أنت فاعل؟! وإن كنت اليوم لا تنام إلا على السرر الكبيرة والفرش الوثيرة فلعلك لا تجد ذلك غدًا، وإن كنت لا تنام في الحر إلا بمكيف الهواء، ولا تنام في البرد إلا بالمدفأة، فلعلك لا تجد ذلك غدًا، فماذا أنت فاعل؟! وكيف ستنام بعد ذلك؟!
معاشر الشباب، إن ما يحصل اليوم من إرفاه وترفيه للنفس زائد عن الحد جعلنا ننحرف عن المنهج القويم، فاتباع الموضة مثلاً جعل شبابنا في عيدنا الفائت يخرجون علينا بلبس قمصان حمراء أو بنطال أحمر أو قبعة حمراء، وحينما سألنا: ما هذا؟! قالوا: الموضة، وهم لا يدرون ما سر هذه الموضة في هذه السنة، لكنهم يقلدون فقط.
وليعلم هؤلاء أن سر ذلك هو أن عيد النصارى المسمى بعيد الميلاد وعيد رأس السنة قد وافق هذه السنة قربه من عيدنا، وعند النصارى أن في عيد الميلاد المسمى (بالكرسمس) يأتي ما يسمونه بالبابا نويل وهو يلبس ثوبًا أحمر، ولذلك فهم ـ أعني النصارى ـ يلبسون قبعات حمراء في احتفالاتهم. وهكذا قلدهم شبابنا في مسألة دينية واحتفال من احتفالاتهم الدينية، وهو تشبه محرم كما تعلمون، بل ولو لم يكن ذلك اللباس الأحمر تشبهًا بالنصارى لكان محرمًا؛ لأنه قد ورد النهي عن لبس الأحمر الخالص كما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب قال: نهانا النبي عن المَيَاثِر الحمر والقَسِّي. والمَيَاثِر والقَسِّي أنواع من الثياب، ومن هنا قال بعض أهل العلم بحرمة لبس الأحمر الخالص.
عباد الله، هذه هي اهتمامات كثير من الشباب اليوم وطريقة تفكيرهم، فنسأل الله جل وعلا أن يردهم إلى الحق ردًا جميلاً، وأن يصلحهم ويجعلهم درعًا للإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الشباب، تعالوا بنا ننظر ماذا قدم أسلافنا الأوائل من شباب الأمة الإسلامية لدينهم، وماذا قدم شبابنا اليوم لدينهم.
إخوة الإيمان، عندما تعلو الهمم وتسمو الاهتمامات يقود شاب في الثامنة عشرة من عمره جيشًا يقاتل به الروم، فيه أبو بكر وعمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ولم تكن تلك أول مرة يقود فيها الشاب أسامة بن زيد جيشًا، بل سبق له قبل ذلك أن كان أميرًا في سرية من السرايا، سميت سرية الحرقات من جهينة. ولم يكن أسامة بن زيد الشاب الوحيد الذي قاد جيشًا، فلقد أمَّر رسول الله كذلك علي بن أبي طالب وهو شاب على جيش، كما روى ذلك أصحاب الحديث كالبخاري والترمذي.
لقد كان الشباب يتسابقون إلى الالتحاق بجيش رسول الله للقتال ضد الكافرين أعداء الإسلام، حتى الصغار الذين دون الخامسة عشرة، وكان في كل غزوة يستعرض الجيش فيرد الصغار، لذا نجد في السيرة كثيرًا قولهم: "استُصغِر فلان في غزوة كذا". فحفظت لنا كتب السير أنه في غزوة بدر استُصغِر البراء بن عازب ورافع بن خديج رضي الله عنهما، وقيل: عرابة بن أوس وأسيد بن ظهير بن رافع وسعد بن جبير. وفي غزوة أحد استُصغِر أبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وزيد بن الأرقم. وكان عمير بن أبي وقاص في بدر يتوارى لئلا يراه النبي ، فلما رآه رده فبكى وأجازه.
وإن الأمر ـ إخوة الإيمان ـ لم يقف عند مجرد المشاركة في القتال، وإن كان ذلك أمرًا له دلالته التي ينبغي أن تبقى في الذهن، فلقد تعدى الأمر إلى مواقف بطولية للشباب أثناء القتال في المعارك وغيرها، حفظها لنا التاريخ يطول المقام بذكرها. واقرؤوا إن شئتم في سيرة سلمة بن الأكوع، وفي سيرة معاذ ومعوذ ابني عفراء اللذَين قتلا فرعون هذه الأمة أبا جهل، واقرؤوا سيرة البراء بن عازب وغيرهم كثير.
ولقد كان كذلك شباب المسلمين دعاة إلى الله يهدون الناس، ويدلونهم على الخير. لقد كان الشاب منهم يدخل الإسلام فيتوجه مباشرة إلى بني قومه يدعوهم إلى الإسلام. إن الكثير من الشباب اليوم بحاجة إلى دعوة هو بنفسه، غافل عن ربه لاه عن أمر دينه. والمؤسف أن المجتمع الذي حولهم لا يساعد على النهوض بهم، فكم من إنسان إذا حدثته في شأن ابنه قال لك: لا زال صغيرًا، فيعامله كأنه طفل، وقد كان مَن في مثل سنه يقاتل أعداء الإسلام في الجيوش الإسلامية. ويتجاوز بعضهم قضية الصغر ليتعذر لك بأنه مراهق، وتلك حجة يستبيح بها الشباب فعل كثير من المنكرات اليوم، وخاصة فيما يتعلق بالشهوات، والسبب أنه يقال لهم: إن هذه طبيعة فترة المراهقة، وأنه لا بد من المرور بهذه المرحلة من العمر وحدوث مثل ذلك فيها.
عباد الله، إننا نضخم هذه المسألة ونعطيها أكبر من حجمها؛ ألم يكن أصحاب محمد من الشباب في سن الرابعة عشرة وما بعد ذلك كانوا رجالاً يعتمد عليهم في القتال وقيادة الجيوش والدعوة إلى الله والإمارة والإمامة في الصلاة؟! ألم يكونوا يمرون بتلك المرحلة من العمر؟!
معاشر الشباب، إنه ـ والله ـ لا يليق بنا أن نكون على هذا الحال ونحن نُقتل ونُباد ونُشرد ونُطرد في كل بقاع الأرض، لا يليق بشبابنا أن يكون جُلّ اهتماماتهم شعورهم وتسريحاتهم وقصاتهم وفريق الكرة الذي يشجعونه والمغني الفلاني والمغنية الفلانية والممثل الفلاني والممثلة الفلانية، في حين يقتل إخواننا ويشردون، وتنتهك أعراض وتهدم ديار، ونحن نلهو ونلعب وكأن الأمر لا يعنينا. لقد سقطت الأندلس وضاعت من أيدي المسلمين عندما آل بهم الحال إلى مثل هذا. فهلا اتعظنا بغيرنا أم أننا لا نتعظ إلا بأنفسنا؟! نسأل الله العافية لنا ولكم ولجميع المسلمين.
معاشر المسلمين، ماذا يحدث لإخواننا؟! فلنسمع ولنتعظ: دخل أحد الجنود النصارى على الأم المسلمة في مطبخها وكانت تعد الغداء، ففتح إناء الطعام وقال: أليس لديكم لحم؟ قالت: لا، فبادر الجندي النصراني بوضع قطع من اللحم في ذلك الوعاء وهو على النار، كان هذا اللحم هو أشلاء ابن هذه المرأة الذي قطعت أوصاله أمام عينيها.
وصور أخرى عرضت في أحد المواقع الإسلامية الأندونيسية على الشبكة العنكبوتية، عن المجازر البشعة التي ارتكبت في حق مسلمي جزر الملوك، رأيتها ورآها كثير من الناس في هذا الموقع وفي أماكن أخرى، جرائم تقشعر لها الأبدان، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أطراف ممزقة، بطون مبقورة ومحشوة بالحجارة، عُلّق الأطفال على الأشجار وهم أحياء، واستخدموهم أهدافًا للتدريب عليها بالخناجر والبنادق. وكان يرفع بعضهم إلى الهواء ويتلقاهم النصارى على أسنة رماحهم التي تخترق أجسادهم الغضة، هذا واقع حقيقي أيها الشباب. ونشر في عدد من المطبوعات العربية، ونشرت بعض المجلات تحذيرًا لأصحاب القلوب الضعيفة من أن في الداخل صورًا مروعة.
فهذا ـ يا أمة الإسلام ـ غيض من فيض وقليل من كثير مما يحدث لإخواننا، فكيف يليق بنا بعد ذلك أن نعيش بهذا الشكل الذي نحيا به؟! لعب ولهو وغفلة. نسأل الله أن يردنا إلى الحق ردًّا جميلاً.
(1/4738)
عندما ينطق الرويبضة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استهانة كثير من الناس اليوم بالفتوى. 2- فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون. 3- فتوى لبعض الرُّوَيْبِضة في زماننا. 4- وصف لحال المتعالمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ذكر بعض العلماء في كتبهم أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل هي (الخنفشار)، فسألوه عنها فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم:
لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان، وقال النبي فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء فلا تكذب على النبي ، وتحقق لديهم أن ذلك المسكين جِراب كذب وعَيْبة افتراء في سبيل تعالمه.
عباد الله، قد تبدو هذه للسامع وكأنها طرفة فيضحك منها، لكن الأمر كما قيل: شر البلية ما يضحك.
إن هذه القصة تمثل أنموذجًا من النماذج التي ابتليت بها هذه الأمة، من الذين يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولئن كانت هذه القصة حدثت في الأزمنة الغابرة ففي زماننا هذا مئات القصص من مثل هذه القصة، بل عندنا ـ والله ـ ما هو أشد وأنكى من ذلك، وذلك كله عندما يتعلق الأمر بالكلام في دين الله وشرعه.
لقد أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحًا ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يُقصَدون للفتوى، وصحفيين يناقشون ويجادلون في أدق مسائل الدين! نعم، إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس حِكرًا على طبقة من الناس، فلا رهبانية في الإسلام. إن تدبر القرآن والفقه في الدين مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء، والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة شيء آخر، فكل ذلك حكر على أهله، وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية العلمية حسبما يقرره أهل الاختصاص، وحسب القواعد والضوابط التي اصطلحوا عليها واستمر العمل بها إلى اليوم.
عباد الله، خرَّجَ الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه السلسلة الصحيحة حديثًا رواه ابن ماجه والحاكم والإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة)) ، قيل: وما الرُّوَيْبِضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). وعنون له الشيخ بقوله: "أليس هذا زمانه؟!". ويقال اليوم: بلى والله، إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرُّوَيْبِضة. لقد أخبرنا بذلك رسولنا عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، أخبرنا بظهور هذا الصنف من الناس، ودارت الأيام والسنون ونطق الرُّوَيْبِضة، وتكلم في أمر الدين وأفتى وأحل وحرم وليس هو من أهل العلم، بل ولم يُعرف بطلب العلم.
أيها الموحدون، إنه يجب علينا اليوم معرفة الكفء لهذه المهمة من أهل العلم الموثوقين المعروفين بالدين والصلاح والورع والعلم. وذلك أمر الله لنا عندما أمرنا بالتوجه لأولئك في حال الجهل وعدم العلم في شأن من شؤون ديننا، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. إن الكثير من الأمة اليوم بحاجة إلى معرفة من هو المؤهل لأن يُسأل، وليس كل من تكلم في الدين أهل لأن يُسأل، إنما يعرف العالم باهتدائه بهدي الوحيين القرآن والسنة على فهم السلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة، لا على فهم المتأخرين الذين إن تكلموا في الفقه فبالرأي، أو في التفسير فبما تمليه عقولهم وأفهامهم، حتى تسمع أحدهم يفسر الجزء من القرآن لا يذكر في تفسيره حديثًا واحدًا أو قولاً لأئمة المفسرين، من أمثال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، أو من بعدهم من مثل مجاهد، ولا من أصحاب التفسير كالطبري وابن كثير وغيرهما، ممن فسروا القرآن تفسيرًا أثريًا مبنيًا على الآثار الواردة فيه من أحاديث وغيرها. ويعجب الكثير من المسلمين بقوله، وما عرفوا أن ذلك أبعد ما يكون عن تفسير كلام الله ومعرفة مراده. فمن يا ترى ـ بالله عليكم ـ يكون أعلم بمراد الله في الآيات من رسوله ؟! ومن يا ترى يكون أعلم بذلك من أصحابه من بعده؟! لكن مشكلتنا أننا نعجب ببهرجة الأقوال وزخرفتها، ولو خالفت الحق ما درى الكثير منا.
عباد الله، يقول ابن سيرين رحمه الله كما في مقدمة صحيح مسلم: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
من الواجب على كل مسلم أن يعرف من الذي يُستفتى، وليس كل من نصب نفسه لذلك فهو أهل. إن الدين يؤخذ من العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى والورع، الذين إذا تكلموا فبقول الله وقول رسوله لا بزخرف القول غرورًا. وما أحسن ما قاله ابن القيم في العلماء، قال رحمه الله: "ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه".
ولقد أصبح اليوم كتاب صحفيون يتكلمون في الدين، ومقدمو برامج في قنوات فضائية يفعلون ذلك. لكن يجب أن نعلم أننا لا نأخذ ديننا من كاتب محترف، ولا مذيع متكلم، ولا نأخذ ديننا من الصحف أو المجلات أو القنوات الفضائية، بل نأخذه من أفواه علمائنا الذين عرفوا بأهليتهم لذلك، لا من حملة شهادات عالية في مجالات دنيوية يحسبون أنهم بحملهم لهذه الشهادات مؤهلون للخوض في غمار المسائل الشرعية دقيقها وجليلها. إن هؤلاء ـ عباد الله ـ هم الرُّوَيْبِضة الذين ذكرهم رسول الله.
وإليكم بعض الأمثلة لبعض الرُّوَيْبِضة الذين كثروا في زماننا هذا. فقد قام أحدهم مثلاً بإنكار الشفاعة، وتكلم في ذلك وناقش بجرأة وجهل، وليس هذا شأنه لكنه متعالم، ويَضِلُّ المتعالم ويحار عندما يتكلم فيما ليس له فيه، فقد قال منكر الشفاعة مثلاً: "وتتواتر الأحاديث بهذا المعنى بصياغات مختلفة في البخاري وغيره، ويقف المسلمون أمام الاختيار الصعب بين النفي القرآني وبين ما جاء في السنة"، ويقول أخرى: "والنبي يشكو أمته في القرآن، ولا يتوسط لمذنبيها، فيقول لربه: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأي شفاعة".
ومثال آخر لرجل يصنَّف كاتبًا إسلاميًّا ومفكرًا، ذا مِبْضَع يدمل به جراح الأمة في تدينها المنقوص وأزمة وعيها الديني كما زعموا! فهذا الرجل الفقيه يقول: "إن علم الشريعة يتجاوز دارسي العلوم الشرعية ليشمل كل من حسن إسلامه، وتعمق في أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية والعلمية"، ويقول: "قلت للشاب الماليزي المتحمّس: إن الترويج للأغاني العربية الراقية لا يعد متعة مشروعة ومطلوبة فقط، ولكنه يؤدي رسالة أيضًا من حيث إنه يجذب الناس إلى اللغة العربية، ويعلمهم مفرداتها بمضي الوقت". هكذا يقول ويفتي في الغناء، نسأل الله العافية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فعندما تكلم أمثال هؤلاء ـ عباد الله ـ ظهرت الأقوال الشاذة والآراء الغريبة، كالقول بجواز التأمين بشتى صوره، والقول بعموم (في سبيل الله) في مصارف الزكاة لبناء المساجد والمستشفيات خرقًا للإجماع كما قرره المفسرون. والقول بنفي فضيلة ماء زمزم، والقول بإباحة الغناء. وهكذا في سلسلة أقوال شاذة وآراء فجة يمسك المتعالم لها رواية ضعيفة أو خلافًا شاذًا أو فهمًا مرضًا، فيبني عليه فتوى مجللة بحلل البيان ونضد الكلام، لكنها عَرِيّة عن الدليل والبرهان. والله المستعان.
وبعضهم يستخدم التلفيق المذهبي وتتبع الرخص، فما لا يجوز في مذهب أحمد يجوز في مذهب الشافعي، وما لا يجوز في مذهب مالك يجوز في مذهب أبي حنيفة، وهكذا يكون الرائد والقائد في هذا هو هوى النفس لا رضا الرب، عافانا الله وإياكم.
وخرج منهم كذلك من يقول لنا: يجوز للمسلم أن يبدّل دينه كما يجوز للمسيحي أن يبدّل دينه، معارضًا بذلك قول رسول الله : ((من بدّل دينه فاقتلوه)) الذي ورد في صحيح البخاري وعند أصحاب السنن الأربعة.
عباد الله، إنها مجموعة هجمات شرسة على الفتوى، وجرأة فارهة، وانحدار بها واعتداء عليها من الأصاغر حينًا ومن صغار النفوس تارة أخرى، فاتحين بذلك في حصن الدين المحكم ثلْمًا، وفي السفينة ثقبًا، لتؤول حال المسلم مع هذه الجرأة إلى الضلال والانحراف. وهذه الهجمات تمنح الجهلة فرصة لاقتحام حمى الفتوى وتقويض بناء الدين والخوض في حرماته خوضًا غير مشروط بعلم ولا تخصص ولا تقوى، فإذا اشتهت أنفس هؤلاء تناول الفتوى فليمد يده ولسانه، وليقل ما يشاء بلا رقيب من نفسه ولا غيره.
وهكذا نطق الرُّوَيْبِضة، ومُكِّن من الكلام دون أثارة من علم، وصارت الصدارة للمتفيهقين والمتشدقين الذين يحملون الناس على فتاوى شاذة وغريبة، غاية ما تؤدي إليه الإدبار عن الدين والنفور عن المسلمين. وعندما نطق الرُّوَيْبِضة في مثل هذه الأزمان دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجًا، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجًا، تُبدّل فيه الأحكام، ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات, والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات, الحق فيه غريب، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه، وينصح به نفسه والناس.
يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا حال المتعالمين: "انتكست عليهم قلوبهم، وعميَ عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا ـ والله ـ ما ابتلّتْ من وَشَلِه أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مَهَامِه الحيرة وبيداء الضلالة".
ويقول رحمه الله: "وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتِي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّرَّاق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثّبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب, ولا يبدي جوابًا بإحسان وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان بن فلان.
يمدون للإفتاء باعًا قصيرة وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ
ونقل رحمه الله قولاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فقال: "وقال علي بن أبي طالب لكميل بن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني, ومتعلم على سبيل نجاة, وهَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ثم قال: آه! إن ها هنا علمًا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة بل قد أصبت لقنًا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به. وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه".
عباد الله، ولخطورة هذه القضية صح عن رسول الله أنه قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) رواه أحمد.
فنسأل الله جل وعلا أن يرحم أمة محمد ، وأن يعصمها من إضلال المضلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/4739)
القسوة في التربية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأنباء مسؤولية وتكليف. 2- القسوة المحمودة والضرب غير المبرح منهجان تربويان مفيدان. 3- متى يستخدم الضرب والقسوة؟ 4- من الأخطاء في التربية. 5- من وسائل القسوة المحمودة في التربية. 6- الضرب أنواع ومراتب. 7- نتائج القسوة المفرطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن مما امتن الله به على عباده من النعم العظيمه والآلاء الجسيمه نعمة الذرية، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]. فهذه الذرية التي رزقنا الله إياها نعمة من الله تبارك وتعالى يجب علينا شكرها، كما أنها أمانة يجب علينا المحافظة عليها، ومسؤولية سنسأل عنها بين يدي الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده ومسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) رواه مسلم.
معاشر الآباء والأمهات، وكما أن لكم حقوقا على أبنائكم فإن عليكم واجبات تجاههم، وإن أسهل الطرق للوصول إلى الحقوق هو أداء الواجبات، فكما أن من حقوقكم على أبنائكم السمع والطاعة والصبر على طلباتكم وحاجتكم، فإن من حقوق أبنائكم عليكم أن تحسنوا تربيتهم على المنهج الشرعي القويم. فإذا لم تؤدِ الذي عليك فلا تتوقع أن تحصل على ما هو لك. إنها معادلة سهلة الشكل معقدة المضمون، وأعني بالمضمون الأداء.
وإذا لم نحسن تربية أبنائنا فإننا أول من سيدفع ثمن هذه الإساءة، وقديما قالت العرب: "إنك لا تجني من الشوك العنب".
معاشر الآباء والأمهات، معاشر المربين، الحديث عن التربية بحر لا ساحل له، له أول وليس له آخر، لكن حديثي اليوم عن جزئية من جزئيات التربية ومفردة من مفرداتها التي حصل فيها خلل كبير وخلط كثير، وكما هي العاده فإن هذه الجزئية في التربية بين إفراط وتفريط وغالٍ وجاف، والشيطان في إضلاله للخلق يحرص أن يدفعهم دائما إلى أحد الطرفين: إما الغلو المفرط أو الاستهتار المضيع، ولا يبالي ـ والله ـ بأيهما ظفر.
إخوة الإيمان، وحديثنا اليوم عن القسوة في التربية، تلك المفردة من مفردات التربية التي طالما حصل الجدال حول جزئياتها، ومن جزئياتها استخدام الضرب، تلك الوسيلة التي لا زال الجدال حاميا حولها إلى اليوم. فما هي القسوة؟ ومتى تستخدم؟ وما هي وسائلها؟ وما هي حدودها؟ وفي ظني ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن الإجابة على هذه الأسئلة ستغطي جزءًا كبيرًا من الموضوع.
أولاً: ما هي القسوة؟ قال ابن منظور في لسان العرب: القسوة الصلابة في كل شيء، وتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه.
إذا فالقسوة هنا مرادفة للشدة والغلظة، ومن المعلوم لدى المؤمنين أن الله قد أقر الشدة في مواطن معينة تستحق الشدة والغلظة، فقد أقر ضرب الزوجه الناشز مثلاً في حالات معينة وبضوابط معينة، فقال تعالى في تأديب الزوجات: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]. ولست بحاجة إلى التذكير إلى أن الضرب يكون ضربا غير مبرح، كما ورد في أحاديث كثيره في السنن وغيرها.
وقد أقر استخدام الضرب بل وأمر به رسول الله : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبو داود والترمذي.
والضرب ـ عباد الله ـ من استخدام القسوة، وعليه فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف في استخدام الضرب كوسيلة من وسائل التربية، وعلى القائلين بخلاف ذلك الخضوع للقرآن والسنة خوفا من أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
وإذا تقرر ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ فلننتقل للسؤال الثاني وهو: متى تستخدم القسوة؟
عباد الله، يجب أن يُعْلَم عند الحديث عن هذه القضية وغيرها من قضايا المعاملات أن الأصل الأصيل في هذا الباب هو الرفق واللين، وأن الشدة والقسوة كالدواء يحتاج إليها في حالات معينة قد سبقها محاولات أخرى باللين متعددة الطرق والوسائل، عندها يحتاج المربي إلى القسوة وهو آخر العلاج والدواء, وكما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقسُ أحيانا على من يرحم
فيا أيها الآباء والأمهات، ويا أيها المربون، الرفق أولاً، ففي صحيح مسلم من حديث جرير قال: سمعت رسول الله يقول: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) ، وفيه كذلك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)) ، وفيه أيضا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
فإذا استخدم الأب وسائل الترغيب من الثناء والهدايا والمنح والجوائز وغرس روح التنافس بين الأبناء وغيرها من الطرق الكثيرة، ثم استخدم التهديد والحرمان وغيرها من وسائل الترهيب، ثم إذا لم تفلح هذه الوسائل كلها يُلجأ إلى القسوة والضرب والشدة. لكن المشكلة أننا كثيرًا ما تكون هذه الوسيلة هي أول الوسائل استخداما دون أن يراعى هذا الترتيب المهم، وذلك من أخطائنا التربوية التي تفسد علينا عملية التربية وتجعلها عملية شاقة مليئة بالمتاعب.
ومن أهم ما ينبغي الحديث عنه عند الحديث عن استخدام القسوة هو الحديث عن أسباب استخدامها، ومن الملاحظ لكل من يتأمل أحوالنا اليوم أننا نستخدم القسوة عند المخالفات التي تتعلق بحقوقنا نحن، أو بأمر من أمور الدنيا، ولا نكاد نستخدم ربع تلك القسوة عندما تكون مخالفات الأبناء مخالفات شرعية. فكم من ابن جُلِدَ جلد الحيوانات وطُرِدَ من البيت لأنه شتم أباه أو أمه أو رفع صوته عليهما، وكم من الأبناء من قد أهين وضرب لأنه لم يحسن استقبال الضيوف، وكم من الأبناء من قد حرم من أشياء كثيره لأنه لم ينفذ لوالديه أمرا أو يقضي لهما حاجة. بينما لم نر ولو عشر تلك القسوة مع الأبناء الذين يسبون الله أو يسبون الدين أو الرسول ، ولم نر تلك القسوة مع تاركي الصلاة من الأبناء، ولا مع الذين قد تشبهوا بالكفرة والملحدين في أشكالهم وقصات شعورهم ولباسهم، وإن كنا لسنا ندعو إلى مثل تلك الأساليب الخاطئة من الطرد والإهانة أمام الناس. لكن الكثير من الآباء والأمهات يرون في مثل هذه القضايا التي تتعلق بالدين أن الهداية من الله، وأما ما يخصهم هم من تبجيل واحترام وقضاء حاجات فهذا ما لا يطلبونه من الله بل يريدون الحصول عليه بالقوة.
معاشر المربين، إن أولى ما يعاقب عليه الأبناء بعد استخدام اللين معهم وعدم جدواه حقوق الله عز وجل والواجبات الدينية، ذلك الذي يجب علينا التنبه له. فلئن كان لك حق على أبنائك فحق الله أسبق وأوثق، ولئن لم يؤد الابن أو البنت حقوق الله فلن يؤديا ـ والله ـ حقوق البشر. وتأمل حديث المصطفى : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه الترمذي والنسائي. قال العلماء: "إنما قال: ((ولد صالح يدعو له)) مع أن الولد الفاسد قد يدعو لوالديه بعد موتهما، وهو داخل ضمن الحديث أيضا، لكن لما كان من المعتاد أن الذي يدعو لوالديه هو الولد الصالح ذكره الرسول في الحديث". وقال العلماء: "إن قوله عليه السلام: ((ولد صالح)) صفة كاشفة وليست قيدا أو شرطا للولد الذي يدعو لوالديه"؛ لذلك نقول: إن الأبناء الذين يتربون على طاعة الله والخوف منه هم الذين ينشؤون عادة بارين بوالديهم، وأما من أضاع حق الله فهو لما سواه أضيع.
ثالثًا: وأما وسائل القسوة التي تستخدم في التربية فهي محصورة في الضرب عند الغالبية العظمى من الآباء والأمهات والمربين، بل إن الكثير لا يفهم من كلمة القسوة إلا الضرب.
عباد الله، إن من وسائل القسوة في التربية الهجر، وأعني هجر الأبناء وعدم الكلام معهم، وعدم التبسم في وجوههم عندما يحصل منهم مخالفات شرعية أو مخالفات في الآداب العامة، وذلك طبعًا بعد النصح والتوجيه لهم، فإن لم يستجيبوا استخدمت معهم هذه الطريقة.
وكذلك من وسائل القسوة الحرمان مما يحبونه من بعض الأشياء، كبعض المصروف أحيانا أو شراء بعض الألعاب، أو حرمانهم من الخروج للنزهة أو زيارة بعض الأقارب والأصدقاء.
وكذلك من وسائل الشدة والقسوة التوبيخ بالكلمات التي لا تخرج عن حدود الشرع. وهنا يقع بعض الآباء والأمهات في مخالفات شرعية باستخدام ألفاظ بذيئة وشتائم لا تليق. وإن من الآثار السلبية لذلك أن الأبناء يتلقفون تلك الألفاظ ويستخدمونها فيما بينهم ومع الناس، بل وقد يستخدمونها مع والديهم، وعندها يثور الوالدان وهما قد كانا السبب في تعلم الابن لتلك الألفاظ البذيئة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح لنا ولكم نياتنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإيمان، ومن وسائل القسوة الضرب، وهو وسيلة تأديبية شرعية قد وردت في القرآن والسنة كما أشرنا في الخطبة الأولى.
وهنا عباد الله، يجب على المربي أن يعلم أن الضرب وسيلة للتأديب وليست وسيلة للتعذيب. إن المربي حين يضرب ابنه أو زوجته أو تلميذه يرمي من وراء ذلك إلى تأديبه وزجره عن الخطأ الذي وقع فيه، وليس يقصد من وراء ذلك التشفي وإرواء الغليل والانتقام. ومن هذا الذي تنتقم منه؟! إنه ابنك. وإن مما يجعل الضرب وسيلة للإفساد وليس للإصلاح كونه يحدث من البعض انتقاما لا تقويما. وهنا نقول للآباء والأمهات والمربين: إن من الضرب ما هو مباح، ومنه ما هو ممنوع أو محرم شرعا.
فالضرب المباح له قيود منها:
أولا: أن لا يكون مبرحًا؛ فيكسر عظمًا أو يترك عاهة مستديمة، أو يحدث تشوها في المضروب. وكم سمعنا عمن تسبب في حدوث عاهات لأبنائه بسبب هذا النوع من الضرب، وعندها يندم ولات ساعة مندم.
ثانيًا: أن لا يكون في الوجه، وذلك لأن ديننا يحرم الضرب على الوجه، وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) ، وعند مسلم: ((إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه)) ، وعند أبي داود: ((إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)).
أيها المربي، إن ضرب الوجه قتل معنوي وتدمير نفسي للابن صغيرًا كان أو كبيرًا، ولرُبَّ عشر ضربات بالعصا تكون أخف وأهون من لطمة واحدة يتلقاها الابن على وجهه، فتهين كرامته وتحطم مشاعره.
ثالثًا: ومن قيود الضرب كذلك أن لا يكون أمام الناس عامة، فإن ضرب الطفل أو الشاب أمام الناس يلغي شخصيته وقد يسبب له أزمات نفسية.
رابعًا: ومن القيود كذلك أن لا يستخدم الضرب مع الطفل الذي لا يعي ولا يفهم، بل إن بعض أهل العلم قال: إن ضرب الابن ممن هو دون العاشرة لا يجوز، واستدل بحديث: ((مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)) رواه أبو داود، فقال: "إذا كان الطفل لا يضرب على الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين إلا عند بلوغ العاشرة، فكيف يضرب على ما سواها قبل العاشرة؟!".
معاشر الآباء، إن القسوة المفرطة ليست حلا ولا هي الطريق لإصلاح الأبناء. لقد بلغت القسوة عند بعض الناس حدا حتى أصبحت الحيوانات أرحم منه، فلقد أودع الله تعالى حب الأبناء والرفق بهم ورحمتهم فطرة في قلوب الحيوانات حتى إن الوحوش لتحنو على صغارها، ولا نرى إلا أن هذه الفطرة قد طمست عند البعض من البشر هداهم الله.
يحدثني أحد الإخوة عن رجل كان يضرب أبناءه ويطردهم من بيته، حتى إنه ليعري ابنه في الشارع أمام الناس. وحدثني آخر فقال: فقدنا أحد أبناء الجيران فلم نعد نره لمدة شهرين، فكنا نسأل أباه عنه، فيقول: هو موجود، ثم شككنا في الأمر واتفقت أنا وبعض أهل الحي أن نذهب لوالده في البيت ونتحرى أمر هذا الولد، فإذا بنا نكتشف أن الأب قد ربطه بسلسلة في البيت تسمح له بالوصول إلى الحمام فقط ولمدة شهرين، وأخذ الابن يستجير بنا عندما رآنا، فشفعنا له.
عباد الله، أيها الآباء والأمهات، إن الضرب الشديد المؤذي بالأسلاك والسلاسل والتعليق في المراوح وإهانة الابن أمام الناس وطرده من البيت ليبيت في الشوارع، كل ذلك ليس سبيلا للإصلاح ولا طريقًا للتقويم، بل إن من نتائج هذه القسوة المفرطة نفور الأبناء وعنادهم وزيادة فسادهم، حتى يصبح الأبناء يتمنون موت والدهم، بل ويدعون الله بذلك. وليعلم هذا الأب القاسي أنه اليوم قوي وابنه ضعيف، وغدًا يشيخ الأب وتضعف قوته ويشب الابن ويقوى، فيصبح الأب لا يستطيع ضربه، ويصبح الابن قادرا على الرد على أبيه فيرد الصاع صاعين كما يقال.
وهذا ـ أيها الإخوة الكرام ـ ما أصبح اليوم يحدث وبكثرة، ولقد كنت ممن رأى ذلك مرة، حيث رأيت شابا يتعارك مع شيخ كبير، فلما أخذت في فض النزاع بينهما وقمت أوبخ الشاب، حيث تجرأ ليمد يده على شيخ كبير، فإذا بي أعرف من الناس أن هذا الشيخ هو والده.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن هذا إنما حدث بسبب خلل في التربية، وأغلب الظن أن القسوة المفرطة سبب ذلك، وها قد أصبحنا نسمع اليوم عن حوادث قتل يكون القتيل فيها أبا للقاتل. نسأل الله العافية.
تلك هي القضية أيها الآباء، تلك هي القضية أيها المربون، وهذه بعض سلبياتها، فالحذر الحذر من الوقوع في مثل هذه الأخطاء. إن من مصلحة الأب أن ينشئ ابنه صالحا مصلحا، وتخيل لو أن لك ابنا ربيته فأحسنت تربيته حتى صار عالما من العلماء أو داعية إلى الله يهدي الله على يديه الناس، ويكون ثواب ذلك لك أنت أيها الأب، تجده في ميزان حسناتك، وتخيل لو كان لك من مثل هذا الابن خمسة من الأبناء فكيف ستكون غبطتك يوم القيامة؟!
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لتربية أبنائنا وأن يهديهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/4740)
تأمين مستقبل الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنة الله تفضيل بعض الناس على بعض. 2- الحكمة في تفضيل بعض الناس على بعض. 3- السبل والوسائل الموصلة لتأمين حياة كريمة لذريتنا من بعدنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله الأرض وقدر فيها أقواتها، وخلق الخلق وقدر لها أرزاقها، وكل ميسّر لما خلق له. وفي هذه الحياة يوجد الغني المفرط الذي رزقه الله مالاً بغير حساب، وآتاه الله من الأموال ما شاء، ذهبٌ وفضة وعقار وأنعام رزقًا من عند الله. ويوجد أيضًا الفقير المدقع الذي لا يجد ما يسد رمقه، فهو يعيش على حسنات الناس، بل ربما وجدت يومًا من مات جوعًا لشدة فقره.
وبين هذين الشخصين درجات متفاوتة ممن آتاهم الله شيئًا من هذه الدنيا أو حرمهم. وهذه إرادة الله وحكمته، يقول جل وعلا: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].
فهذه حكمة الله، فقد فضل بعض الناس على بعض لحكمة أرادها، فيها مصالح الناس، وهي سبب لاستمرار الحياة، ولولا ذلك لفسدت الحياة ولم تعمر، ولما تسخر الناس بعضهم لبعض. ولو تساوى الناس لم يحتج أحد لأحد، ولم يعمل أحد لأحد، وذلك هو فساد الأرض ومن عليها.
وعندما يفقه المؤمن ذلك تتورث لديه قناعة وطمأنينة ورضا بما قسم الله له، لكن البلاء كل البلاء والمصائب والدمار إنما تنشأ عندما لا يرضى الإنسان بما قسمه الله له وقدَّره له، فيسعى ليحصل على ما لم يُقدَّر له من رزق أو يُكتب له، ويكون هذا السعي بوسائل محرمة؛ وكل ذلك تأمينًا لمستقبله ومستقبل أسرته كما يزعم، وما درى هذا المسكين أنّ الحرام ما كان يومًا أمانًا لأحد، بل إنما ينشئ الخوف والدمار والضياع للإنسان ومن يعوله بسبب أكل الحرام أو التعامل به، وعند الترمذي من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إنه لا يربو لحم نبَت من سحت إلا كانت النار أولى به)).
أمة محمد، أيتها الأمة المباركة المرحومة، وفي ظلّ زيادة تعقيدات الحياة المعاصرة وزيادة الفتن، يزداد المرء منا خوفًا على أسرته في حال غيابه عنهم بموت أو غيره، فيزداد عندنا الشعور بأهمية تأمين حياة كريمة لذريته من بعده. وهذا أمر طبعي فطري لا يُنْكَرُ على أحد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحال: ما هي الحياة الكريمة التي يمكن أن نؤمنها لذريتنا من بعدنا؟ وينبني عليه سؤال آخر لا يقلّ أهمية عنه وهو: كيف يكون تأمين هذه الحياة الكريمة؟ وما هي السبل والوسائل الموصلة إلى هذا المقصود العظيم؟
أخي الكريم، وقبل أن نجيب على السؤال الأول يجب أن نعي جيدًا أننا في أيامنا هذه قد اختلّت عندنا كثير من الموازيين وانقلبت كثير من المفاهيم، حتى إن بعض الناس أصبح يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وبناء عليه فإن إجابة السؤالين السابقين عند الكثير من الناس لن تكون صحيحة، إلا إذا كانت الخلفية الفكرية لمن يحاول الإجابة مبنية على أسس شرعية من كتاب الله وسنة رسوله. وحيث إن عصرنا هو عصر الماديات البحت، عصر يربط كل شيء بالمال والمنفعة الدنيوية والمصالح الشخصية، وما عدا ذلك فلا قيمة له ولا وزن؛ فإن الإجابة على السؤالين السابقين لن تكون صحيحة عند من انصبغ بصبغة هذا العصر وانطبع بطابعه، وأما من وفقه الله فكان بعيد النظر عالي الهمة وكان ممن قد أوتي الإيمان واليقين بالله فإنه سيوفَّق لإجابة صحيحة على ذينك السؤالين.
إخوة الإيمان، وبحثًا عن إجابة السؤالين فلننظر في كتاب الله عز وجل، ولنقف قليلاً مع قصة ذكرها الله في سورة الكهف في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، عندما طلب الخضر من أهل القرية أن يضيّفوهما فأبوا، ثم قام الخضر عليه السلام ببناء جدار كاد أن يتهدّم في تلك القرية، فتعجّب موسى عليه السلام من فعل الخضر وقال له: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، ثم لما أخبره بعد ذلك بالسبب قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82].
فها هو الخضر هو وموسى عليهما السلام يطلبان من أهل القرية التي نزلا بها أن يضيفوهما، فيرفض أهل القرية استضافتهما أو إعطاءهما أي شيء، فبقيا جائعين بلا طعام، ويرى الخضر عليه السلام جدارا قديما متهالكا فيقوّم ببنائه، فيتعجب موسى عليه السلام من فعل الخضر عليه السلام، ويقول له بأن هؤلاء القوم لا يستحقون بناء الجدار لهم؛ فهم لم يقوموا بضيافتنا، فيبين له الخضر عليه السلام أنه إنما أعاد بناء الجدار لأنه ليَتِيمين، وكان تحت هذا الجدار كنز مخبّأ لهما، فأراد الله أن يكبر اليتيمان حتى يستخرجا كنزهما، وإنما حفظ الله لهما هذا الكنز لأن أباهما كان رجلا صالحا.
فتأمل ـ يا عبد الله ـ في القصة تجد إجابة السؤالين:
أما الأول: وهو الحياة الكريمة التي ينشدها كثير من الناس، ما هي؟! إنها ـ عباد الله ـ تقوى الله والعمل بطاعته وإصلاح النفس ظاهرًا وباطنًا، يقول تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14]. قال بعض أهل العلم: "النعيم للأبرار ليس في الآخرة فقط، بل هو في الدنيا والآخرة. والجحيم الذي هو للفجار في الدنيا والآخرة".
وأما السؤال الثاني: كيف يكون هذا التأمين للحياة الكريمة؟! والجواب: إنه يكون بتربية الأبناء على الخير والصلاح، وربطهم بربهم جلّ وعلا، وعدم ربط قلوبهم بالدنيا فقط. وهكذا يحفظ لنا أبناؤنا، وتحفظ ذرياتنا من بعدنا. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة؛ بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم".
واليوم ـ معاشر المؤمنين ـ أصبح الكثير من المسلمين يربي أبناءه تربية مادية دنيوية محضة، فالأبناء يغرس فيهم حب الدنيا من خلال معاملة الوالدين، فتجد أن بعض الآباء والأمهات يحرصون أشدّ الحرص على التحاق أبنائهم بالمدارس، وإتمام الدراسة والوصول إلى الجامعات، ويتعبون في سبيل ذلك أشد التعب، ويجاهدون من أجله جهادا عظيما، ويغضب الوالدان على الابن إذا لم يفلح في دراسته أو إذا رفض مواصلة الدراسة، ويبينان له أن هذا مستقبله الذي لا يمكنه العيش بدونه، ويحرص الكثير من الآباء والأمهات على أن يكون أبناؤهم من المتفوقين الأوائل، وفي المقابل تجد أن الآباء والأمهات لا يُولُون اهتماما مماثلا ـ فضلا عن أن يكون زائدًا ـ لمستقبل الأبناء الأخروي؛ فقد يكون الابن لا يصلي أو أنه يكذب ويغش أو يرتكب معاصي أخرى، فتجد أنه لا يوجد ذلك الاهتمام بالقضية، وإذا نبهوا ونصحوا هزُّوا رؤوسهم وقالوا: نسأل الله أن يهديهم. وهذا كل ما يمكن أن يفعله أب أو أم لابنهما التارك للصلاة مثلا، أما لو تعلق الأمر بالدراسة فإن الابن سوف يتعرض لشتى أنواع العقوبات من الوالدين.
إننا ـ عباد الله ـ نوقظ أبناءنا للذهاب للمدارس في كلّ صباح، في موعد محدد دائما ولا نتخلف عنه إلا لظروف قاهرة، بينما لا نفعل الشيء ذاته مع صلاة الفجر، نرحمه من الاستيقاظ للصلاة؛ لأنه مسكين متعب قد أجهد من كثرة المذاكرة، وبعدها بساعة واحدة أو أقل أحيانا نوقظه للمدرسة بلا رحمة.
إننا ـ عباد الله ـ نضرب الأمثلة لأبنائنا بقدوات في أمور الدنيا كالطبيب المشهور فلان والمهندس فلان والكاتب فلان، أما أن نضرب أمثلة لقدوات من علماء الأمة علماء الشريعة ونقول: ليتك مثل الشيخ فلان أو الداعية الفلاني فهذا ما لا يسمعه الأبناء منا إلا من رحم الله.
معاشر المؤمنين، تلك تربية كثير منا اليوم لأبنائه وذريته، وذلك مفهومنا للمستقبل والحرص على المستقبل، ما هي إلاّ نظرة دنيوية محضة، نظنّ الحياة الكريمة في الوظيفة والمال والجاه والمنصب، وتنحصر عندنا في ذلك فقط، فهل عقلنا ما نقرؤه في كتاب ربنا؟!
إنها قضية تحتاج إلى مراجعة ومحاسبة، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الآباء والأمهات، يا من يريد تحسين المعيشة لنفسه وأبنائه فيقع في الحرام بسبب ذلك، يقول تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]. قال القرطبي في تفسيره: "ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله عز وجل بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافعا، كما قال الله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]. والمعرض عن الدّين مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشه ضنك" انتهى كلامه رحمه الله.
فإن كنا نريد تأمين الحياة الكريمة لأنفسنا ولذرياتنا فعلينا بطاعة ربنا وذِكر ربنا، وإلا فإننا لن نجنِيَ في حال مخالفة ذلك إلا ضنَك العيش في الدّنيا والعمَى يوم القيامة، عافانا الله وإياكم من ذلك.
أيّها المؤمن، إنّه ليس بعذر عند الله أن تتعامل بالربا فتقترض على أن تردّ بزيادة بنسبة معينة لأجل أن تشتري بيتا أو قطعة أرض تأمينا لمستقبل الذرية كما تظن، وليس بعذر عند الله أن نترك الصلاة بحجة الانشغال بطلب الرزق، وليس بعذر عند الله أن نقصّر في حق والدينا فلا ننفق عليهما بحجة ادخار المال للأبناء، وليس بعذر عند الله أن نفرّط في أوامر الله ونقع فيما حرم الله بحجج مشابهة لتلك التي ذكرت فيما سبق. ألا فليعقل ذلك كل مسلم حتى يفتح الله علينا ويبسط لنا من بركاته، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
فهلموا ـ عباد الله ـ إلى الحياة الكريمة والعيش الرغيد في رحاب الطاعة وروضة الإيمان، يقول سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي: يا من ليس همه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك" انتهى كلامه.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك...
(1/4741)
خداع الألفاظ والمصطلحات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الفتن
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار التلاعب بالألفاظ وخداع المصطلحات بين المسلمين اليوم. 2- صور من التلاعب بالألفاظ وخداع المصطلحات. 3- التحذير من الانخداع بمثل هذه التراهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
قد جبل الله الخلق على حب الحق وكراهة الباطل، إلا أن أقواما انتكست فطرهم وعميت بصائرهم حتى غدَوا لا يحبون الحق ولا يقبلونه، ويدافعون عن الباطل بل ويزينونه. ولما كان الأصل عند الناس حب الحق وكراهة الباطل اتخذ الشيطان أسلوبا ماكرا خبيثا لقلب الحق باطلا والباطل حقا، وذلك لكي يصرف الناس عن الحق ويوقعهم في الباطل، واتبعه في ذلك إخوانه من شياطين الإنس والجن لإضلال الخلق وحشدهم تحت راية الشيطان؛ ليزداد أتباعه وأولياؤه الذين أرادهم الشيطان أن يكونوا يوم القيامة في داره ومستقره أعاذنا الله وإياكم منها.
ولقد غدا التلاعب بالألفاظ والمصطلحات اليوم وسيلة من أعظم الوسائل المستخدمة في التنفير من الحق والدعوة إلى الباطل، وهي وسيلة أعداء الإسلام الأُوَل في حرب الدين والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
أليس في كتاب الله الحكيم: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 35، 36]، وقوله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4]؟! كل ذلك تنفيرا للناس عن دعوة رسول الله مع علمهم بصدقه. وهي وسيلة أعداء الإسلام اليوم من الكفرة والمنافقين.
ومن الأمثلة الصارخة على هذه القضية اليوم حال اليهود وإخوانهم النصارى وهم يسمون دفاع إخواننا في فلسطين عن أنفسهم وأرضهم ومقدساتهم إرهابا، ويسمون إجرامهم وبغيهم وقتلهم للأطفال والنساء والشيوخ دفاعا عن النفس. وحينما يصف رئيس النصارى رئيس عصابة اليهود بأنه رجل سلام، ويصف في الوقت نفسه شباب الانتفاضة بأنهم إرهابيون. إنه ـ أيها الكرام ـ التلاعب بالألفاظ وخداع المصطلحات، مع جرأة وصفاقة وعدم حياء، يدعم ذلك منطق القوة الذي ينتج عنه التحاكم إلى قانون الغاب.
هذا ـ أيها الإخوة ـ مثال واحد فقط أردته تمهيدا للموضوع الذي أريد التحدث عنه.
إنه ـ أيها الكرام ـ أسلوب قديم كما ذكرته في بداية حديثي، كان الإمام فيه والرائد إبليس المطرود من رحمة الله، فعندما أسكن الله الأبوين في الجنة ونهاهما عن الأكل من الشجرة ما كان من إبليس إلا أن تلاعب بالألفاظ وسمى الشجرة المحرمة على الأبوين:شجرة الخلد وملك لا يبلى، كما حكى الله عنه في كتابه أنه قال لآدم عليه السلام: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]. وعندها أكل آدم وزوجه عليهما السلام من الشجرة المحرمة، فأخرجهما الله من الجنة بسبب تلك المخالفة التي نتجت عن تلاعب الشيطان بالألفاظ حين سمى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد.
وتلقف هذه الطريقة أتباعه من شياطين الإنس والجن، فهذا فرعون عدو الله ورسوله مدعي الربوبية يقول لقومه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، ثم يقول بعد ذلك عن نفسه: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]. وهكذا يصبح موسى عليه السلام من المفسدين في الأرض، وفرعون هو الهادي إلى سبيل الرشاد! تلاعب بالألفاظ يستخدمه عدو الله لينفر الناس عن رسول الله موسى ويوقعهم في شَرَكِ اتِّباعه.
واليوم يستخدم أتباع الشيطان الجدد نفس الوسيلة لتشويه الحق والتنفير منه وتزيين الباطل والترغيب فيه. وقد أخبر بهذا رسولنا ، فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن غير واحد من أصحاب النبي أنه قال: ((لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) وهذا لفظ ابن ماجه. إنه ـ عباد الله ـ التلاعب بالألفاظ كذبًا وزورًا وخداعًا، وحدث ما أخبر به الصادق المصدوق ، فكم من الأمة اليوم ممن يشرب الخمر ويسمونها بغير اسمها تحاشيا لكلمة (خمر).
واليوم أيضا ـ أيها الكرام ـ يستخدم هذا الأسلوب بكثرة، عندما تسمى الوقاحة والصفاقة والمجون جرأة وصراحة، فيخرج علينا فاسق أو فاسقة في لقاءات مقروءة أو مسموعة، ليحكي وبكل وقاحة وبلا حياء عن انحرافه وضلاله، ثم يزعم بعد ذلك أنه من المؤمنين الأتقياء، حيث إنه يصلي كما يزعم وقد حج كذا وكذا مرة، وأنه يتصدق ويفعل ويفعل، في خلط متعمد بين فسقه وطاعته. كما يزعم ليوهم الناس هو ومن أجرى معه اللقاء أن الدين لايمنع من فسقه ما دام يصلي ويصوم ويحج، ثم تسمى هذه الوقاحة جرأة وصراحة، ويُعَنوِن ذلك الصحفي الفاجر لقاءه مع الفنان المزعوم باللقاء الجريء واللقاء الصريح.
وهو التلاعب بالألفاظ أيضا عندما يسمى الفسوق والانحلال من الدين فنًا، فيظهر أولئك الضَّالِّين المُضِلِّين بمظاهر مخزية وأوضاع مزرية يندى لها جبين الفضيلة، وتقشعر لها أبدان المؤمنين؛ من ظهور النساء كاسيات عاريات، وفي خلوة محرمة مع رجل أجنبي، وقد يظهرون ما لا يكون إلا بين الرجل وزوجه، وكل ذلك باسم الفن، بل ويمجد أولئك المنحرفون الفسقة عند من لا يقيمون لشرع الله وزنًا.
وهو التلاعب بالألفاظ والخداع والزور عندما يسمى تعدي حدود الله والمجاهرة بالمنكرات حرية شخصية، فيريد الفسقة والفجرة أن يخلعوا الحجاب عن المرأة، وأن تكون هناك علاقة محرمة بين الرجل والمرأة، بل ويصل الحال في بعض البلاد أنه إذا زنى الرجل بالمرأة برضاها فليس لأحد أن يتدخل ما دام الأمر برضا الطرفين.
وهو التلاعب كذلك بالألفاظ والمصطلحات عندما يسمى الإفتاء بغير علم والقول على الله بغير علم اجتهادا في الدين، وعندما تسمى زلزلة أصول الدين وقواعد الشريعة اجتهادا كذلك. فيتكلم أقوام في دين الله ويحرمون ويحلون ويمنعون ويجيزون ويستخدمون القياس والاجتهاد، ويستدلون بالمنطوق والمفهوم، ويدعون الإجماع، ولا ناقة لهم في العلم الشرعي ولا جمل، وليس لهم مما يؤهلهم لذلك إلا أنهم يحسنون القراءة والكتابة ويجيدون التلاعب بالألفاظ. ويخوض في ذلك كل من هب ودب من مذيع أو صحفي أو كاتب مشهور أو مغمور.
ويخرج على المسلمين ممن ينسب إلى العلم الشرعي ليرد أصول الدين وثوابته، ويخالف المسلمات من الشريعة بحجة الاجتهاد، فيرد مسألة توريث المرأة نصف ما للرجل، وأن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ بحجة أن ذلك هضم لحق المرأة وأنه من بقايا الجاهلية. ويرد أحدهم ما ثبت في الصحيحين من أن: ((النساء ناقصات عقل ودين)) بحجة أن الرسول كان يمزح.
وهو التلاعب بالألفاظ أيضا عندما يسمى تعطيل أحكام الشريعة وإلغاؤها تجديدا في الدين. ويخرج على الأمة زنادقة يريدون إلغاء الأحكام الشرعية كالحدود، واستبدال قطع يد السارق وقتل القاتل ورجم الزاني وقتل المرتد وغيرها من الأحكام بالسجن والغرامة المالية أو غير ذلك مما يقترحونه بحجة التجديد، وهو ـ والله ـ إلغاء لشرع الله.
ومن التلاعب بالألفاظ وخداع المصطلحات تسمية الاستهزاء بالدين وسب الله ورسوله إبداعا وفنا، فيؤلف زنديق من الزنادقة روايات يسب الله جل وعلا فيها أو رسوله أو القرآن أو غير ذلك من ثوابت الدين، فإذا غار المسلمون على دينهم وثاروا ضد أولئك المستهزئين بالله ورسوله انبرى لهم أتباع الشيطان المخادعون والمتلاعبون بالألفاظ ليقولوا لهم: لماذا كل هذه الضجة وكل هذا التعنت؟! إنه الإبداع والتميز بالخروج عن المألوف! وهكذا يسمى الاستهزاء بدين الله إبداعًا.
وهو التلاعب بالألفاظ عندما يسمى اللهو واللعب بطولة، ويلقب من يسمونه لاعبا بالبطل، ويُنسى أبطال الأمة الحقيقيون من علماء دين نفعوا الأمة في دينها، وعلماء دنيا في الطب والهندسة والتقنية نفعوا الأمة في دنياها، أو شهداء ماتوا في نصرة قضايا الأمة، وتبقى البطولة محصورة في ساحات الملاعب.
إنه التلاعب بالألفاظ حين يسمى الكذب والنفاق مجاملات، فيكذب الواحد من الناس ويزين للناس باطلهم، ولا ينصح أو يدل على الحق باسم المجاملة وحسن العشرة، ثم يقال: إن فلان حسن المعاملة يجيد المجاملة.
وهو التلاعب بالألفاظ كذلك عندما يسمى المكر والغش والخداع ذكاء وشطارة، فيخدع الإنسان أخاه ويأكل ماله ويلبسه التهم، يستولي على مال غيره بالمكر والخديعة، يأكل الحقوق ولا يؤديها إلى أهلها، ويسمى عند الناس ذكيا فطنا ويحسب نفسه كذلك، وهو عند الله بخلاف ذلك.
إنه التلاعب بالألفاظ عندما يسمى تمييع الدين وتفصيل الشريعة على حسب ما يهوى الناس ووفق أمزجتهم باسم التيسير وترك التشديد، علما بأن التيسير مطلوب في شرع الله، لكنه تيسير قد حده الشارع الكريم وجعل له ضوابط وأصولا، فنيسر ما يسره الله على عباده، أما أن يقال للناس: افعلوا ما شئتم فالدين يسر فهذا ليس من دين الله.
أيها الإخوة الكرام، كانت تلك بعض الأمثلة لبعض ما يستخدمه أتباع الشيطان وجنوده من خداع وتلاعب بالألفاظ؛ ليوقعوا عباد الله فيما حرم الله بتزيين الباطل وتسميته بالاسم الجميل، فلنحذر ـ عباد الله ـ من الوقوع في شَرَكِ أولئك المخادعين، ولا تخدعنكم الأسماء عن النظر في حقائق الأمور وسبر أغوارها، فإن تغيير الأسماء لا يغير الحقائق.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، يقول جل وعلا: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27].
فهذا تحذير من رب العالمين لنا نحن، يبين لنا كيف أن الشيطان قد خدع الأبوين الكريمين، وتسبب في خروجهما من الجنة بالخداع والكذب، ويحذرنا مما وقع فيه أبوانا. ألا فلنحذر من الوقوع في شرك الشيطان وأتباعه، ولنتأمل الحقائق قبل أن نخدع بالأسماء والألفاظ، فكم من لفظ بغيض أطلق على أمر جميل، وكم من اسم جميل سمي به أمر خبيث قبيح، وخاصة في هذه الأيام التي كثر فيها أعداء الإسلام، منهم الظاهر المعروف، ومنهم المتخفي والمتلبس بثوب الإسلام، بل والمتكلم باسم الدين وهو عدو له.
فحذار من أن نقع ضحية لهذه التسميات التي انتشرت في الوسائل المقروءة والمسموعة، البعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله. والواجب علينا أن نرجع إلى علمائنا في حال التباس الأمور واشتباهها علينا، والله قد أمرنا بذلك في التنزيل فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
كم من فساد وانحراف ينتشر اليوم بين الناس باسم التأقلم مع الواقع والتعايش معه، كم من ضلال أصبح واقعا على الأرض بحجة يسر الدين، كم من نساء المسلمين اليوم من هجرت الحجاب الشرعي ولبست شيئا هو أشبه بالملابس التي لا ينبغي أن تلبس إلا في المنزل أو عند محارمها باسم الموضة، كم من امرأة اليوم بل وبعض الرجال من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، كم من أولئك من يطالب بمساواة المرأة مع الرجل في كل شيء، والسماح لها بالخروج والمشاركة في كل المحافل والتجمعات والأعمال، بل ويطالبون بالأندية الرياضية النسائية والمسابح وغير ذلك مما يدندنون حوله في صحفهم صباح مساء، وكل ذلك تحت مسمى حقوق المرأة، وكأنهم لم يكتشفوا أن للمرأة حقوقا إلا اليوم.
وغير ذلك الكثير الكثير من التلاعب بالألفاظ والمصطلحات التي يجب على المسلم الحريص على دينه أن يَحْذَرَ ويُحَذِّرَ منها، لئلا ينخدع بها عامة المسلمين من طيبي القلوب سليمي الطوية.
(1/4742)
صور التعذيب
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, الولاء والبراء, جرائم وحوادث
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مأساة إخواننا في سجن أبو غريب. 2- حالنا مع بعض بني قومنا في غرامهم بالغرب الكافر والدفاع عنه. 3- حكم موالاة الكفار. 4- رسالة لأولئك المفتونين بالغرب من المسلمين. 5- دعم الأمريكان لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
ظهرت في الآونة الأخيرة صوَر زعِم أنها لتعذيب معتَقلين عراقيين في سجن أبو غريب، وما أودّ قوله هنا أن مثل هذا الأمر لا يمكن تصديقه، وأن هذه الصور ما هي إلا تلفيق على أولئك الجنود، وأنها صور مأخوذة من مواقع على الإنترنت أو أفلام أو غير ذلك بقصد تشويه صورة الجنود الأمريكان!!
عفوا أيها الكرام، هذا لم يكن كلامي أنا، وإنما هو نقل لرأي بعض الصحفيين العرب من بني جلدتنا. حين ضجّ العالم أجمع بعد مشاهدة أقلّ من ثلاثين صورة من جملة ألف صورة أو يزيد لتعذيبٍ أقل ما يمكن أن يوصف به أنه همجي بربري، لكن قضية التعذيب ليست هي قضيتي اليوم، فقد كانت الصوَر أبلغ من كلّ المقالات والخطب، بل إنّ صورة واحدة من تلك الصور تفوق كلّ ما يمكن أن يقال في مثل هذا المقام.
إنها معضلة ـ أيها الكرام ـ تعيشها فئة مِن الناس منذ فترة ليست بالقصيرة، إنه انسلاخ من بِيئتهم ومجتمعاتهم التي عاشوا وترعرعوا فيها. هي أزمة تعاني منها تلك الفئة منذ بزغ نجم القوم ـ أعني الغرب الكافر ـ فيما يسمونه اليوم بالحضارة الغربية. تلك الحضارة التي أفرزت وأنتجت استعلاء وتجبرا واعتداءات وظلما وانتِهَاكات، لكلّ القِيَم والمبادئ السماوية منها والوضعية. انبهرت فئة من المسلمين بهؤلاء الغربيين وبهذه الحضارة المزعومة، وافتتنت بتلك المبادئ الزائفة التي قامت عليها أمة الغرب، فارتموا في أحضانهم وعظموهم وبجلوهم ووقروهم، وسبحوا بحمدهم والثناء عليهم بكرة وأصيلا. وما مثلهم إلا كما قال الله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52].
لقد اعترف المحتل المجرم بوجود التعذيب في السجون، بل وصرحوا أن لديهم صورا أكثر مما عرض في وسائل الإعلام، وأفلاما عن هذه الفظائع التي ارتكبت بحق المعتقلين، فماذا تراه يقول أولئك المدافعون عنهم المفتونون بهم من بني جلدتنا؟!
هل تظنون أنهم اعتذروا للأمة الإسلامية وللعراقيين خاصة عن دفاعهم عن المجرم الذي قام بهذه الأفعال؟! أبدا لم يحدث شيء من ذلك. بل هل تراهم توقفوا عن الدفاع عن أولئك المجرمين؟! أيضا لم يحدث شيء من ذلك. أتدرون ما الذي حدث؟ إنه شيء فوق ما يمكن أن يتصوره العقل، لقد وظفوا الحدث الإجرامي نفسه لخدمة الغرب والعالم الغربي بالحديث عن اعتذار بعض مسؤوليهم اعتذارا باردا بقوله: "إن ما حدث شيء مقزز"، وغيرها من الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأخذوا يشيدون بكون الذي نشر الخبر واستنكره بشدة هي وسائل الإعلام الغربية. لقد أصبحت الجريمة بفضل أولئك المستغربين منقبة يثنى بها على المجرم، وتصغر عندها كل خطيئة، وأخذوا يكيلون المديح للجلاد المجرم، ولتتحول بعد ذلك التهمة إلينا لنصبح نحن الجناة. فهل عندكم لهذا الداء من دواء؟!
وفي مثل هذه الحال من تحويل الجاني إلى ملاك طاهر بريء وتحويل المظلوم إلى مجرم يقول أحد الشعراء:
بيني وبين قاتلي حكاية طريفة
فقبل أن يطعنني حلّفني بربّ الكعبة الشريفة
أن أطعن السيف أنا بجثتي فهو عجوز طاعِن وكفّه ضعيفة
حلّفني أن أحبس الدماءَ عن ثيابه النظيفة
فهْو عجوز مؤمنٌ سوف يصلّي بعدما يفرغ منْ تأدية الوظيفة
شكوته لحضرة الخليفة
فردّ شكوايَ لأنّ حجتي سخيفة
نعم أيها المؤمنون، هذه هي حالنا مع بعض بني قومنا في غرامهم بالغرب الكافر، فلا يزال الغرب عند أولئك نموذجا للحرية والديموقراطية كما يحلو لهم دائما أن يدندنوا بهذه الكلمات الجوفاء، نموذجا للعدل والمساواة، بل وكل القيم النبيلة، زعموا!!
ومهما فعل الغرب بنا من اعتداء وانتهاك للحقوق فلا يزال في أعين أولئك هو الأب الروحي للقيم والمبادئ السامية النبيلة. روى الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((حبك الشيء يعمي ويصم)) وقال بعض علماء الحديث: "هو من قول أبي الدرداء".
فهؤلاء ـ أيها المؤمنون ـ قد أعماهم حبهم للغرب وأصمهم عن كل عيب في هؤلاء القوم. وإننا نذكرهم بقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، ونذكرهم بقوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه الترمذي، وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف)) رواه الترمذي.
إن الأمة اليوم بحاجة إلى التكاتف والتعاون لصد العدوان الذي يستهدف دينها وأمنها وخيراتها، وإن مثل هؤلاء المنسلخين عن جلدتهم وعن انتماءاتهم يشكلون ثغرات في بناء الأمة المحكم، يمكن أن تتسبب في هدمها. إننا لا نود أن تكون هناك معاول هدم من أبناء الأمة تهدم من الداخل، سواء شعر أولئك بهذا الأمر أم لم يشعروا، فهم على كل حال لا يسهمون في حماية الأمة من الأخطار الخارجية ولا الداخلية.
إننا في مثل هذه الأيام التي نواجه فيها تهديدا داخليا من قبل فئة ضلت وقامت تفجر وتقتل المسلمين بحاجة للتلاحم لا التشرذم. إن من واجبنا كذلك أن نمد يد العون لإخواننا في العالم الإسلامي الذين اعتدي عليهم في بلادهم واحتلت، ودمرت ديارهم وشردوا وأوذوا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، لا أن ندافع عن المحتل الغاصب الذي لو لم يكن من ذنبه إلا احتلال الأرض لكفى به إثما مبينا، فكيف بعد ذلك وهو يعذب ويغتصب ويقتل؟! ثم يريد منا أولئك المفتونون أن نشيد باعتذار المجرم عن إجرامه بكلمة باردة.
إن من الواجب علينا مطالبتهم بالرحيل عن فلسطين والعراق وكلِ أرض للمسلمين دنسوها بأقدامهم، وهذا أقل ما يجب. إن لهؤلاء المسلمين الذين تعرضوا للأذى حقا علينا وأي حق، فكيف بنا بدلا من أن نتألم لمصابهم ندافع عمن احتل أرضهم وانتهك عرضهم؟!
أيها المفتون بهؤلاء المجرمين، قليل من العقل والتأمل سيقودك إلى الحقيقة. أتُرى لو أن هذا المجرم اغتصب دارك وأخذ مالك وانتهك عرضك سيكون موقفك منه كما هو الآن؟! أتُراك ستقبل دفاع المدافعين عنه واعتذار المعتذرين عنه، أم أن الأمر سيختلف؟! عجبا لهؤلاء، هل لهم أعين يبصرون بها، وآذان يسمعون بها وقلوب يفقهون بها!
أيها المؤمنون، إنه يجب أن يعلم أننا لا نخالف في أن من اتصف بصفة حميدة فإنه يذكر بها ويشهد له بذلك، وأنه توجد بعض الأخلاقيات المحمودة عند القوم، والله جل وعلا قال لنا في كتابه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ويقول: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152]، لكن هناك أمران مهمان يجب أن نتنبه لهما:
أولهما: أن هذه الأخلاقيات مهما بلغت عند الغرب فلن تبلغ عشر معشار ما عندنا في القرآن الكريم والسنة المطهرة، لكن القوم عملوا بما عندهم ونحن لم نعمل بما عندنا.
ثانيهما: أن هذه الأخلاق التي يتشدق بها الغرب قد تبين بجلاء أنها ليست إلا مساحيق وأصباغ، يزين بها أولئك المجرمون وجوههم القبيحة، وأن كل تلك الشعارات من الحرية وحقوق الإنسان إنما يقصد بها حرية وحقوق الإنسان الغربي الكافر، أما المسلمون فليس لهم منها نصيب، فلا حرية ولا حقوق للمسلمين، بينما مبادئنا وأخلاقنا نحن المسلمين لا يزال التاريخ يشهد بأننا نحن من كان خيرَ فاتح للبلاد والعباد. فهل يعقل بعض بني قومنا ذلك؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، ها هم إخواننا اليوم وكل يوم يقتَلون على أيدي إخوان القردة والخنازير من اليهود عليهم من الله ما يستحقون، وليس غريبا ما يفعله من غَضِبَ الله عليه من اليهود؛ فهم أعداء الملائكة وقتلة الأنبياء ومحرفو الكلم، والشيء من معدنه لا يستغرب.
لكنني أريد أن أسأل أولئك المستغربين من بني جلدتنا: من الذي أمد اليهود بطائرات الأباتشي التي قتلوا بها الشيخ أحمد ياسين، وقتلوا بها الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقتلوا بها قبل ذلك خلقا لا يحصيهم إلا الله؟ ومن الذي يمد اليهود المحتلين على أرض فلسطين بالدعم السياسي، فما من قرار يصدر ضدهم إلا ويستخدمون حق النقض المسمى (بالفيتو)، علما بأن هذه القرارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تقدم ولا تؤخر بالنسبة للمسلمين؟ بل إن شئت فقل: من الذي غرس نبتة اليهود الفاسدة في أرض فلسطين الطاهرة إلا الغرب بوعد المجرم بلفور؟
(1/4743)
خواطر حول النصر والهزيمة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنن الله الكونية. 2- أسباب النصر. 3- حكم وفوائد من هزيمة المسلمين في أحد. 4- هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أوجد الله هذا الكون وجعل له سننًا كونية ثابتة لا تتغير وقوانين لا تتبدل، ولهذه السنن أسباب، من أخذ بها تحققت له نتائجها وحصل على ثمراتها، ومن لم يأخذ بأسبابها خسر النتائج ولم يجن الثمار.
"من جد وجد ومن زرع حصد" مثل معروف يشير إلى سنة كونية أودعها الله في هذا الكون. وبنظرة عميقة سريعة إلى حال أمة الإسلام ووضعها التقني وما يسمى بالتكنولوجيا مقارنة مع كثير من دول الكفر يرى أن هذه السنة الكونية واضحة جلية، فقد حصل القوم على تقدم هائل في مجالات التصنيع والإنتاج بما لا يمكن مقارنته مع وضع المسلمين، والسبب هو تحقيق هذه السنة الكونية. هذا في أمر من أمور الدنيا، ودعونا من أمر الدنيا الآن، وإنما ضربت مثلاً أريد به تقريب المعنى.
ومن السنن الكونية التي قررها الله تعالى في كتابه في مواضع عديدة أن العزة والنصر لعباده المؤمنين وأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، ويقول جل في علاه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] وغيرها كثير. وهذه قضية مسلمة لا يجوز لمسلم أن يكون عنده فيها أدنى شك، وإن حصل ذلك فإنه الكفر. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
لكن هناك أسئلة تلح على النفس تطرح مع هذا الكلام؛ ليحصل الفهم الصحيح لهذه القضية وحتى لا تشوبها شائبة:
أولها: ما أسباب النصر؟
وثانيها: هل يعني ذلك أن المؤمنون في نصر دائم ولا يمكن أن يهزموا؟
وثالثها: هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟
معاشر المؤمنين، الإجابات على هذه الأسئلة محور الحل لمشكلة من مشاكل الأمة وكبرى قضاياها التي تعاني بسببها هذه الأمة الأمرين. إن من الواجب على الأمة اليوم جماعات وأفرادًا دراسة هذه الأسئلة وبحثها بحثًا يراد منه التوصل إلى حل لأزماتها ومصائبها التي أصيبت بها، وتخرج بحل عملي يسارع في انتشال الأمة من الغرق.
أيها المسلمون، إننا مع الأسف نكثر الكلام بدون حاجة لذلك، لكننا نعيش وضعًا قد أصبح الكلام فيه بضاعتنا التي لا نستغني عنها. إننا بحاجة والله إلى تأمل وتدبر أكثر من الكلام، ولو أننا تأملنا في كتاب الله وسنة رسوله ثم تأملنا في حالنا لعرفنا الداء والدواء، ولما احتجنا إلى تلك الإطالة التي لا داعي لها. فنحن اليوم نكثر الكلام ونطيل، وكان بالإمكان أن يختصر الكلام بكلمات جامعة نافعة يتدبرها الناس ويخرجون بنتائج عظيمة، ولعل بعض من يطيل يفعل ذلك لأن ذلك هو الذي يروج عند كثير من أفراد هذه الأمة.
أمة الإسلام، إن التأمل في كتاب ربنا تبارك وتعالى يجيب على التساؤل الأول الذي طرحناه، وهو السؤال عن أسباب النصر، فعند القراءة في كتاب الله نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أجاب على هذا التساؤل بإجابة مختصرة شافية كافية، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
إنها ـ عباد الله ـ كلمات يسيرات تبين لنا أسباب النصر بما يمكن لو أردنا نحن الإجابة عليه لتكلمنا بما لا يتسع له مقام خطبة الجمعة، أما القرآن فقد بين القضية أفضل بيان وأوضحه، شرط النصر أن تنصروا الله، وما نصرة الله عز وجل؟ إنها إقامة شرعه وتطبيق دينه واقعًا على الأرض، يحياه الناس عملاً وقولاً واعتقادًا. إنها العمل بكتاب الله وسنة رسوله ونشرهما بين الناس ولو أبغضك من أبغضك، ولو كره الكافرون الذين يهاجموننا ويتهموننا بشتى التهم، لأننا نعمل بكتاب الله وسنة رسوله.
وإن شئت ـ أخي الكريم ـ فاقلب السؤال الذي نناقشه الآن وقل: ما أسباب الهزيمة؟ لتسمع جوابًا شافيًا كافيًا من رسول الله فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، يذكر فيه أن ترك دين الله وترك نشره وحب الدنيا والتعلق بها هو سبب الهزيمة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). فهذا جواب آخر من رسول الله بلا إطالة ولا إكثار.
وأما التساؤل الثاني حول حصول الهزيمة للمؤمنين في بعض معاركهم ضد الكفر، فمن تأمل في كتاب الله وسنة رسوله وجد الإجابة واضحة جلية، فقد ذكر الله في كتابه قصص بني إسرائيل، وأنهم قتلوا بعض أنبيائهم، وأشار تبارك وتعالى إلى هزيمة المسلمين في معركة أحد، وبين أسبابها والحكمة منها في مجموعة من الآيات ذكرها سبحانه في سورة آل عمران. وقد هزم المسلمون في معارك عدة أمام الكافرين، وليس ذلك بمستغرب وإن استغربه كثير من المسلمين. وهذا ما حصل للمؤمنين يوم أن هزموا في أحد فتعجبوا كيف يهزمون وهم المؤمنون؟! بل كيف يحدث ذلك ورسول الله يقاتل معهم؟! فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم قد يهزمون في بعض معاركهم ضد الكافرين، ولذلك أسبابه كحصول المعصية من المؤمنين فتكون العقوبة هزيمتهم في تلك المعركة. كما أنه يجب على المسلمين أن يفهموا أن الله جل وعلا لم يخبر بأن المسلمين سينتصرون في كل معركة يخوضونها، وإن كان قد وعد المؤمنين بالنصر، وإنما المراد بذلك النصر النهائي والعاقبة لا تكون إلا للمؤمنين، كما أشار تبارك وتعالى لذلك في غير آية، قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].
عباد الله، لقد هزم المسلمون في أحد فهل كانت تلك النهاية؟! كلا، بل كانت الخاتمة للمؤمنين، وجاء الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا. لقد هزم المسلمون في أحد هزيمة شمت فيهم بسببها الأعداء، فلما حصل ما حصل جعل عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقون يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين, ويظهرون أقبح القول، فيقول ابن أبي لابنه عبد الله وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي، عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله تعالى لرسوله وللمسلمين خير. وأظهر اليهود القول السيئ, فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك؛ ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه. وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله أصحابهم، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن فمشى إلى رسول الله ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين، فقال : ((يا عمر، إن الله تعالى مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم)) ، فقال عمر: فهؤلاء المنافقون؟ قال: ((أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذًا من السيف، فقد بان لنا أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم عن هذه النكبة، فقال: ((إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يا بن الخطاب، إن قريشًا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن)). وهكذا شمت أعداء الإسلام بهزيمة المسلمين، لكن النهاية كانت للمؤمنين وأعز الله دينه وأعلى كلمته.
إن الهزيمة ـ عباد الله ـ قد تكون نعمة والمحنة قد تكون منحة، وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، وربما صحت الأجساد بالعلل. فقد كان في هزيمة المسلمين في أحد حكم وفوائد، منها مثلاً اتخاذ الشهداء من المسلمين، وبيان سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، ومنها أن الهزيمة من أعلام وأدلة الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال, يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة. ومن فوائد الهزيمة كذلك أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. ومنها تطهيرهم وتنقيتهم من معاصيهم، وغير ذلك كثير مما ذكر العلماء. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى كل ذلك في سورة آل عمران، وجاءت تلك الآيات لتثبيت المعايير الإيمانية في مفهوم القدر، ومفهوم الحياة والموت ومفهوم النصر والهزيمة والربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق. فهل الهزيمة تعني الخسارة؟ وهل الموت يعني الخسارة؟ كلا والله، فقد مات من الصحابة في معركة أحد سبعون رجلاً، فهل خسروا؟! بل ربحوا ـ والله ـ جنة عرضها السماوات والأرض، واتخذهم الله شهداء عنده أحياء غير أموات عند ربهم يرزقون. ولقد قتل المؤمنون في الأخدود وأحرقوا، فهل خسروا؟! ولقد قتل الغلام المؤمن ـ كما في حديث الغلام المؤمن والساحر ـ بطريقة كان هو الذي دل الملك عليها بعد أن عجز عن قتله، فهل خسر؟! بل ربح أولئك جميعا رضوان الله والدار الآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
ويبقى ـ إخوة الإيمان ـ التساؤل الثالث يحتاج إلى إجابة، وهو هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل طويل ولا أريد ذلك، لكن ربما يكون من المفيد لنا جميعًا أن نقسم هذا السؤال الضخم إلى أسئلة صغيرة، يكون من السهل علينا جميعًا الإجابة عليها.
معاشر المؤمنين، يقول تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، هل نصرنا الله بإقامة شرعه وتطبيقه على أنفسنا فالتزمنا بأوامر ربنا واتبعنا سنة نبينا ؟! لا شك أننا جميعًا نعرف الإجابة على هذا السؤال لأن كل واحد منا أدرى بنفسه من غيره. ويقول تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، فهل نحن صالحون بحيث تنطبق علينا هذه الآية فيورثنا الله الأرض؟! ويقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فهل أقمنا الصلاة وأدينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، أم أن الكثير منا قد ضيع الصلاة وتحايل على الزكاة ورأى المنكرات فسكت ولم يأمر بالمعروف حتى أقرب الناس إليه؟!
وهكذا في قائمة أسئلة معروفة الإجابات تظهر لنا الإجابة على ذلك السؤال الكبير، ويتبين منها أن الأمة اليوم بحاجة إلى عودة إلى ربها وتوبة صادقة ليتحقق لها موعود الله بالنصر. ومع ذلك كله نقول: إننا على ثقة بأن الأمة الإسلامية اليوم وإن هزمت في كثير من الميادين فإن الغلبة لها والعزة والنصر والتمكين، وعدًا من الله والله لا يخلف الميعاد.
(1/4744)
رسالة إلى العابثين بالأعراض
الأسرة والمجتمع
الأبناء, المرأة, قضايا المجتمع
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة الأعراض بين المسلمين. 2- الغيرة على الأعراض. 3- رسالة إلى العابثين بالأعراض. 4- رسالة إلى أولياء الأمور من آباء وأمهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد كان للعرض مكانة عظيمة عند العرب قبل إسلامهم، وكانوا يفتخرون بشرفهم وطهارتهم، وكانوا يحافظون على عرضهم ويفدونه بالغالي والنفيس.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
ولذلك وجدت تلك العادة القبيحة عندهم وهي وأد البنات، فإنما كانوا يئدون بناتهم خشية لحوق العار بهم بسبب بناتهم، وإن كان ذلك ليس بمبرر صحيح لقتل الأبناء، ولذا جاء الإسلام بتحريم هذه الفعلة الشنيعة. وجاء الإسلام وأقر العرب على الحرص على العرض، بل وجعل الموت دفاعًا عن العرض شهادة، فقال : ((من قتل دون أهله فهو شهيد)) أخرجه أبو داود الترمذي.
وجعل حرمة الأعراض بين المسلمين كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في مكة المكرمة، فقد روى أبو بكر أن رسول الله قال في حجة الوداع: ((ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: ((ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: ((ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا يومنا هذا، قال: ((فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) ثلاثا، كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. رواه البخاري ومسلم.
أيها المؤمنون الغيورون، كل امرئ عاقل بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون ولا يجوس حماه العابثون. إن كريم العرض يخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، وتسود الدنيا وتظلم الحياة، ويصبح بطن الأرض خير من ظهرها للمرء إذا أصيب في عرضه. نسأل الله لنا ولكم الستر والعافية.
ومن هنا ـ عباد الله ـ نوجه رسالة إلى طائفة من الناس ـ نسأل الله لهم الهداية ـ قد آذوا المسلمين في أعراضهم. رسالة إلى العابثين بالأعراض. رسالة إلى هاتكي الحرمات. رسالة إلى كاشفي العورات، إلى تلك الفئة من الناس التي تعبث بأعراض المسلمين، فتؤذيهم في زوجاتهم أو بناتهم أو أخواتهم. فئة تتميز بقلة الدين وذهاب الورع وفساد المروءة. الغدر والكذب شعارهم، والخيانة وقلة الحياء دثارهم، وعدم المراقبة لله مسلكهم، وضعف الأنفة ديدنهم، وذهاب الغيرة من القلوب بليتهم. هذا بخلاف ما يترتب على ذلك من غضب الله ومقته وهتك الأعراض والفضائح والقبائح، لذة ساعة وخسارة إلى قيام الساعة إذا حجب عن التوبة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فيا أيها العابث بأعراض المسلمين، إننا نخاطب فيك دينك، فإن لم يكن عندك دين يردعك فإننا نخاطب فيك الغيرة، فإن لم يبق لك منها شيء فإننا نخاطب فيك الرجولة، فإن لم تكن تحمل شيئا من الرجولة فليس إلا أن نخاطب إنسانيتك، فاتق الله الذي يراك ويسمعك وأنت تعبث بأعراض المسلمين وتهتك أستارهم وتقتحم حرماتهم. يراك ويسمعك وأنت تتحدث في هاتف أو تُرْكِبُ في سيارة أو تنفرد في خلوة بعرض من أعراض المسلمين. أما علمت أن الله مطلع عليك ناظر إليك؟! فلو شاء لفضحك وهتك سترك، ولو شاء لأمرضك وسلبك عافيتك، ولو شاء لأخذ روحك في تلك الحالة ولكنه يمهل ولا يهمل، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].
أيها العابث بأعراض المسلمين، إن لم يردعك دينك وقلّ خوفك من الله وعقوبته في الآخرة أفلا تخشى العقوبة الدنيوية؟! أما علمت أن الجزاء من جنس العمل، وأنه كما تدين تدان؟! أما تخشى أن يسلط الله عليك من يؤذيك في عرضك كما تؤذي المسلمين في أعراضهم؟! أما قرأت قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]؟! أليس لك أخت أو بنت أو خالة أو عمة؟! أفترضاه لعرضك؟! فكيف ترضاه للناس؟!
يا هاتكًا حرم الرجال وقاطعًا سبل الْمودة عشت غيْر مكرم
لو كنت حرًا من سلالة ماجد ما كنت هتاكًا لِحرمة مسلم
إن الزنا دين إذا أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيبًا فافهم
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال : ((أدنه)) ، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: ((أتحبه لأمك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) ، قال: ((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)) ، قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) ، قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) ، قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) ، قال: فوضع يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)) ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
أيها العابث بأعراض المسلمين، إننا نحذرك من انتهاك حمى الحرمات، فإن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة وعقوبته عند الله عظيمة.
أيها العابث بأعراض المسلمين، كم من دعوة قد رفعت إلى الله تسأله الانتقام منك وترجوه أن يجعلك عبرة لمن يعتبر، وتسأل من كل أنواع البلايا والرزايا أن يصيبك الله بها ويبتليك. كل أولئك مظلومون قد ظلمتهم أنت، فاتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
أيها العابث بأعراض المسلمين، ماذا تنتظر؟! أتستبطئ العذاب؟! أغرك من الله حلمه أو اغتررت بإمهاله؟! فما هو إلا أن يأذن الله لفضيحة فتحصل، أو مرض فينزل، أو مصيبة فتحل.
أيها العابث بأعراض المسلمين، ها هم ضحاياك يرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يريهم فيك عجائب قدرته، فأن تتوب خير لك، وأن تنيب خير لك، قبل أن لا ينفع الندم ولات ساعة مندم. إننا ندعوك إلى العودة إلى الله فإن باب التوبة مفتوح ما دامت الشمس لم تطلع من مغربها، وما دامت الروح لم تبلغ الحلقوم. فإن عدت إلى ربك فهو خير لك، وإن أعرضت فإن الله غني عنك وعن العالمين، يقول عز وجل: مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد: فيا أولياء الأمور من آباء وأمهات، إن مسؤوليتكم اليوم قد غدت أكبر من ذي قبل وأشق؛ وذلك أن وسائل الفساد قد كثرت وقويت، ووسائل الإصلاح قد قلت وضعفت، وانتشرت الفتن وكثرت الذئاب البشرية من العابثين بالأعراض الهاتكين للحرمات؛ لذلك كله أصبحت مسؤوليتكم أعظم، فاتقوا الله في هذه الرعية التي استرعاكم الله إياها من بنين وبنات، فإنهم ضعاف أغرار.
واعلموا ـ وفقكم الله ـ أن النساء ضعيفات عقول، فهن كما وصفهن رسول الله : ((ناقصات عقل ودين)) رواه البخاري ومسلم. يخدعن بسهولة بمعسول الكلام الذي يسمعنه من الذئاب البشرية، فيقعن في شباكهم. ولا يخفى عليكم أن تلك الذئاب البشرية من العابثين بالأعراض يستخدمون طرقًا شيطانية للإيقاع بالنساء فيما لا تحمد عقباه، فيستخدمون التسجيل للمكالمات أو التصوير أو الرسائل أو غيرها كوسائل تهديد للوصول إلى أغراضهم الخبيثة ومقاصدهم الدنيئة. فكم من غافلة وقعت بإحدى هذه الوسائل في حبائلهم وصارت فريسة لهم.
أيها الأب، أيتها الأم، إن الشباب مغرمون بالتقليد مليؤون بالطاقة، فإذا وجدوا بعد ذلك وقتًا فارغًا ومالاً متوفرًا حصل ما لا تحمد عقباه. إن وجود غرفة خاصة وهاتف خاص للابن أو البنت مع غياب الرقابة المنضبطة بضوابط الشرع سبب لحصول تلك المصائب التي نجل المقام عن ذكرها، ومن شاء معرفة التفاصيل فليسأل موظفي هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسمع قصصًا تشيب لها الرؤوس وتتفطر لها الأكباد.
أيها الوالدان، إن معرفتكما لأصدقاء أبنائكم ومن يزورون وبمن يتصلون ليس شكًا فيهم، بل هي رقابة من أجل حمايتهم من شياطين الإنس والجن. وهذا هو واجب الرعاية الذي ائتمنكم الله عليه.
أيها العقلاء، إن خروج النساء في كل وقت وبغير حساب ومع كل من هب ودب من السائقين أو سيارات الأجرة التي لا يدرى عن حال سائقها أصالح أم طالح، بر أم فاجر، واستخدام أجهزة الهاتف لساعات طويلة وفي الليل والنهار، كل هذه أسباب لوقوع النساء في شباك الذئاب البشرية. والله المستعان.
أيها الأب، إن إدخال أجهزة الفساد إلى البيت بحجة التسلية أو متابعة الأخبار العالمية سبب عظيم من أسباب فساد الذرية، لما يرونه من مناظر مثيرة ومشاهد مغرية. إنك ـ أيها الوالد ـ تتسبب في فتنة أبنائك من حيث لا تشعر.
إخوة الإيمان، كلمة أخيرة موجهة إلى النساء، فلتتق الله كل امرأة في نفسها وفي أهلها، ولتحذر من بداية الطريق، فإن بداية طريق الهلاك والضياع نظرة فاتنة أو كلمة لينة. فإذا خرجت المرأة فلتخرج لضرورة ملحة ليس لها منها بد، ولتلتزم بالحجاب الشرعي الكامل غير متعطرة، ولتحرص على وجود المحرم معها، فإن في ذلك حماية لها من طمع الكلاب البشرية اللاهثة وراء النساء. وإذا احتاجت إلى مخاطبة الرجال من بائع أو غيره فلا تلن له الكلام، فإن القلوب المريضة كثيرة في أيامنا هذه، يقول تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]. ولتحذر من الخلوة برجل لا يحل لها؛ فإن رسول الله يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) رواه الترمذي. ولتحذر من المكالمات الهاتفية المريبة، فإنها سبب كثير من المصائب اليوم.
اللهم أصلح القلوب والأعمال، وأصلح ما ظهر منا وما بطن، واجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم آمنا في أوطاننا...
(1/4745)
رمضان بين العادة والعبادة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, الصوم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آفات العبادات الخطيرة تحوّل العبادة إلى عادة. 2- دواء ناجع لهذه الآفة. 3- بعض الوقفات لإخراج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، وتلك سنة الحياة التي لا نملك تغييرها، فنحن لا نملك أن نوقف الزمن الذي يسير بلا توقف، ولو ملكنا ذلك لما تركنا الزمن يمر حتى نعمر في هذه الحياة، وتلك طبيعة البشر. يأتي رمضان ولا نملك منعه من المجيء، ويذهب ولا نملك منعه من الذهاب. ضيف يحل ويرحل في كل سنة. نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته وما يجب علينا من اغتنامه، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها. أحداث رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم.
وليس بمستغرب تحوّل كثير من شؤون الحياة إلى عادات تتكرر علينا حتى نألفها، وتصبح ممارستها ومزاولتها أمرًا تلقائيًا لا يحرك في النفس ساكنًا ولا يثير فيها كامنًا. ولئن كان ذلك مقبولاً في شؤون حياتنا الدنيوية فإنه لا شك أنه من غير المقبول تمامًا أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله.
معاشر المؤمنين، إن من آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثرًا في نفسه أو سلوكه. وتأمل ـ رعاك الله ـ في عبادة من العبادات وهي الصلاة، قال الله عنها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر, عندما تحولت إلى عادة من العادات عند الكثير منا أصبحت لا تنهى عن الفحشاء ولا المنكر؛ ولذلك ذكرت إحدى الممثلات من الفاسقات في لقاء صحفي عندما سئلت عن برنامجها اليومي قالت: أستيقظ في الصباح وأصلي ثم أتناول طعام الإفطار، ثم ذكرت أمورًا أخرى, والشاهد أنها تصلي وهي من المتبرجات المجاهرات بالمنكر على شاشات التلفزيون وهي تصلي. وهكذا تجتمع الصلاة تلك العبادة العظيمة مع الفسق والفجور والمجون. لكن ذلك لا يحدث إلا عندما تكون الصلاة عادة لا عبادة، وإلا فإنه ـ وربي ـ لو كانت صلاتها عبادة وقربه لله لنهتها عن الفحشاء والمنكر، فهو قول الحق سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو القائل: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
والمقصود ـ معاشر المؤمنين ـ أن من أعظم آفات العبادات آفة الإلف والعادة، فعندما يعتاد المرء على العبادات وتصبح جزءا من برنامجه اليومي كالصلاة والأسبوعي كالجمعة والسنوي كرمضان والحج تتحول هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تضيف جديدًا إلى حياة الفرد. لكن لنعلم أن هذه مشكلة واقعية نتعرض لها جميعًا بلا استثناء، فهل هناك حل؟ وما هو يا ترى؟
نعم عباد الله، هناك حل نبوي عظيم قد أرشدنا إليه رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، واستمع إلى ما رواه ابن ماجه في سننه والإمام أحمد في مسنده وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، عظني وأوجز، فقال له : ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا, واجمع الإياس مما في أيدي الناس)).
الله أكبر! يا له من دواء لو كنا به عاملين. هذا هو العلاج والحل لتلك المشكلة المعضلة. تصور ـ أخي الكريم ـ أن يقال لك: هذه آخر صلاة تصليها، فهل تظن أنها ستكون مثل الصلاة التي قبلها، بل مثل الصلوات التي قبلها؟! وأترك الإجابة لك.
معاشر المؤمنين، أن تصلي صلاة مودع يعني أن تتصور أن لقاء الله سيكون بعد هذه الصلاة، فهل يظن أحد أن الصلاة ستكون في مثل هذه الحال، صلاة محشوة بالوساوس والهواجس، يصول فيها القلب ويجول في أودية الدنيا؟! كلا والله.
ثم تعال أخي الحبيب، وقل لي: هل تظن أن هذا مجرد كلام لا ينفع؛ لأنه مجرد خيال يتخيله المصلي، وتصور أنها ربما تكون آخر صلاة أمر مستبعد. لماذا وما الذي يجعلك تظن أنك لن تموت بعد هذه الصلاة؟ هل عندك ضمان بذلك؟! أوتدري متى ينتهي عمرك ويحل أجلك؟! أليس من المحتمل أن لا تخرج من المسجد إلا محمولاً على الأكتاف؟! يقول تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. إذًا فالأمر جد لا هزل فيه، وبذلك يكون الدواء لا مرية فيه. لكن نعود فنقول: أين العاملون؟!
عباد الله، وليكن معلومًا لدينا أن هذا الدواء الذي أرشد إليه رسولنا للقضاء على مشكلة الإلف والعادة في العبادة ليس مقصورًا على الصلاة وحدها، بل إنه دواء نافع وحل ناجع لهذه المشكلة مع كل العبادات. ولذلك تعالوا بنا نحاول العمل بهذا الدواء لنفس المشكلة في شهر رمضان. فكم منا من قد أَلِفَ مرور هذا الشهر عليه حتى اعتاد على الصيام والقيام والصدقة وتفطير الصائمين وقراءة القرآن، فما عادت هذه العبادات العظيمة تسمو بالنفس في أفق الإيمان ولا تحلق بها في أجواء الخشوع، والسبب مرة أخرى الإلف والعادة.
فتعال معي ـ أخي الكريم ـ نخص هذا الشهر المبارك بمزيد اعتناء، وكأننا نصومه صيام مودع. تعال نقف مع أنفسنا بعض الوقفات لإخراج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة.
عباد الله، إننا نصوم في كل سنة وهمنا أن نبرئ الذمة ونؤدي الفريضة لا غير. فليكن همنا في هذا العام أن نحقق معنى الصوم الحقيقي، وأن نتحصل على ثمرة الصيام التي أشار إليها تبارك وتعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. إن الله يريد منا بصيامنا اكتساب التقوى، فلنحاول جاهدين أن نصوم عن الحرام كما نصوم عن الحلال، ولتصم أيدينا وأرجلنا وأعيننا وآذاننا وقلوبنا كما صامت بطوننا وفروجنا. ليكن صيامنا هذا العام مختلفًا عنه في السنوات الماضية، ولنصم إيمانًا واحتسابًا حتى يغفر الله لنا ما تقدم من ذنوبنا، فقد قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
يا أهل القرآن، إننا نقرأ القرآن في رمضان في كل عام ونختمه عدة ختمات، فلنجعل منها هذه السنة ختمة نقرؤها بتدبر وتأمل، وبنية تطبيق أوامر الله والعمل بها. لنعرض أنفسنا على القرآن، هل نحن من الذين قال فيهم رسولنا : يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]؟ وأي أنواع الهجر هجرناه؟ هل هجرنا تلاوته وتدبره والعمل به أو أحد أنواع الهجر؟ ثم لنعد إلى الله بترك هذا الهجر.
أيها المصلون، إننا نتنقل بين المساجد بحثًا عن الصوت الأجمل في كل عام، فليكن سعينا في هذا العام بحثًا عن الصلاة الأكمل؛ حيث يطول القيام والركوع والسجود، فتلك هي سنة نبينا وأصحابه، وخاصة في العشر الأواخر، فقد كان يقوم الليل كله.
أيها المصلون، يتزايد حرص الكثير منا في رمضان على عدم تضييع صلاة الجماعة، فليكن حرصنا في هذا العام على عدم تضييع الصف الأول وتكبيرة الإحرام مع الإمام، ويا له من تحول عظيم سوف نشعر بلذته. لقد كان السلف رحمهم الله يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام، وذلك في كل حين وليس في رمضان فقط.
أيها المؤمنون، إننا في رمضان نوسع على أهلنا وأبنائنا بأطايب الدنيا من الطعام واللباس، فهلا وسعنا عليهم كذلك من غذاء الروح وأطايب الآخرة, مجالس الذكر وقراءة القرآن وتعليمهم أمور دينهم. إنها فرصة قد لا تتكرر فإن النفوس مهيأة لقبول الخير بل ومتشوقة إليه.
يا أمة الجسد الواحد، إننا ندخل السرور على أهلنا بالجديد من اللباس والتوسعة في المال، فهلا وسعنا الدائرة قليلاً هذا العام لندخل السرور على أسر أخرى من أقاربنا وغيرهم، قد كبلتهم الديون وأسرتهم الحاجات لم يبوحوا بسرهم إلا لله، يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].
إننا نحرص على الدعاء في كل عام لأنفسنا وأهلينا وذرياتنا، فليكن لإخواننا المسلمين في هذا العام من دعائنا نصيب، فكم من مسلم اليوم ابتلي، ولا يخفى عليكم ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من بلاء وهم وكرب لا يعلم به إلا الله. إننا اليوم نرى إخواننا في العقيدة يقتلون ويسجنون بلا ذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله. إننا اليوم نرى تسلط الأعداء علينا من اليهود والنصارى والشيوعيين الملحدين، قد تكالبوا علينا من كل حدب وصوب، قد فرقتهم أديانهم ومللهم وأفكارهم وغاياتهم ومقاصدهم وهمومهم، وجمعهم حقدهم على الإسلام والمسلمين. إننا اليوم نعيش مآسِي كثيرة وجراحًا نازفة، أينما اتجهت وجدت للمسلمين جرحًا نازفًا؛ قتل وتشريد، وهدم للبيوت واغتصاب، وسجن وتعذيب، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون. حرب على الإسلام شعواء، ويؤجج نارها ويذكي سعارها عباد الصليب وعباد العجل وعباد الطبيعة، ولئن كان بعضنا ينام ملء عينيه فإن من المسلمين من حرم لذة النوم؛ إما خائفًا يترقب أو باكيًا يتعذب. ولئن كان بعضنا يضحك ملء فيه فإن من إخوانه المسلمين من جفت مآقيه من كثرة البكاء. ولئن كان منا من يأكل حتى لا يجد مكانًا يضع فيه الطعام إلا صناديق النفايات، فإن من إخواننا المسلمين من لا يجد ما يسد به رمقه ولو من كسرة خبز أو شربة ماء، بل وربما مات بعضهم جوعًا ومات بعضنا تخمة وشبعًا. ولئن كان بعضنا يلبس الجديد بأشكاله وألوانه لكل موسم لباسه، فللصيف لباسه، وللشتاء لباسه، فإن من إخواننا المسلمين من لا يجد ما يستر به عورته إلا قليلاً، ولربما مات بعضهم في شتاء قارس لأنه لم يجد ما يلبسه لذلك الموسم.
أمة الجسد الواحد، إنهم ليسوا بحاجة لأموالكم وتبرعاتكم بقدر حاجتهم لدعائكم إن بخلتم عليهم بالمال. الدعاء الدعاء ـ أيها المسلمون ـ لإخوانكم المستضعفين في كل مكان، خصوهم بالدعاء في سجودكم وقنوتكم وبين الأذان والإقامة وعند الإفطار وفي الثلث الأخير من الليل وما أدراك ما ثلث الليل الآخر؟! وقت لا ترد فيه دعوة، يقول فيه الجبار كما في الحديث القدسي: ((هل من سائل فأعطيه؟)). الدعاء الدعاء أيها المسلمون، فكم رفع الله من بلاء بهذا الدعاء. واعلم ـ أخي المسلم ـ أنك لن تدعو لمسلم إلا قال الملك: ولك بمثل، فقد روى الإمام مسلم من حديث أم الدرداء وأبي الدرداء أن رسول الله قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وعودة إلى أمور كنا نفعلها في رمضان في كل عام، نريد في هذا العام أن نخرجها عن نطاق الإلف والعادة، وأن نجعلها مختلفة عن كل عام.
عباد الله، إننا في رمضان نفطر الصائمين طلبًا للأجر كما أخبرنا رسول الله بذلك، حيث قال: ((من فطر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا)) رواه الترمذي وابن ماجه.
إن إشباع جوعة البطن أمر محمود وفاعله مأجور، لكن لنعلم أن إشباع جياع القلوب فرض مطلوب، فليكن لنا جهد في ذلك. إن الكثير من غير المسلمين اليوم وهم حولنا يحتاجون إلى إشباع قلوبهم بحلاوة الإيمان ونور الإسلام؛ بدعوتهم إلى الإسلام. وهذا أمر قد كفتنا إياه كثير من المؤسسات الخيرية في هذا البلد المبارك. لكن تلك المؤسسات بحاجة إلى دعمنا لها، فلنبذل من أموالنا لإشباع قلوب قد خلت من الإيمان فغدت جائعة لا يشبعها شيء، ولنتذكر قوله : ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)) رواه البخاري.
أيها المحسنون، في رمضان يذكرنا الضعفاء الفقراء بأنفسهم على نواحي الطرق وأبواب المساجد، ومنهم الصادق ومنهم الكاذب، فهلا تذكرنا إخوة لنا ضعفاء فقراء محتاجين لا سبيل لهم إلينا ليذكِّرونا بأنفسهم، قد يكون بعضهم حولك بل ومن قرابتك، وبعضهم في بلاد بعيدة لا تعرفهم ولا يعرفونك، تجمعك بهم أخوة الدين.
إخوة الإيمان، كم نحرص في كل عام على أعمال تنفعنا في رمضان ولا ينتفع منها غيرنا؛ كقراءة القرآن والصلاة والذكر، فهلا حرصنا في عامنا هذا على أعمال تنفعنا وتنفع غيرنا؛ بكتاب نافع يهدى أو شريط قيم أو نصيحة لأخ مقصر؟!
معاشر الصائمين، إنها الفرصة اليوم لنخرج رمضان من إطار العادة إلى روح العبادة؛ لتصبح تلك الأعمال طاعة لله تزيدنا قربا منه وحبا له جل وعلا، وتكون سببا في الارتقاء بنا في مدارج الإيمان، لنخرج من هذا الشهر ـ إن شاء الله ـ برصيد من الإيمان والحسنات ما يزيدنا شوقا إلى لقاء ربنا، فهلا عملنا؟! يقول تعالى: مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الإسراء:15].
فنسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لصيام رمضان وقيامه على أكمل وجه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/4746)
سنن الله في الظالمين: أمريكا نموذجا
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفاؤل بمستقبل الإسلام والمسلمين. 2- طغيان أمريكا. 3- من سنن الله في الظالمين. 4- حال المسلمين اليوم وبعدهم عن الله. 5- من أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
حين تكفهر الأجواء وتتلبد بالغيوم السماء إيذانًا بحرب يشنها الباطل على الحق والكفر على الإسلام وقد اغتر الكفر بقوته على أهل الإسلام بضعفهم تبدو الوجوه وقد اكفهرت، والنفوس وقد انقبضت، والقلوب وقد ارتجفت، تشاؤما مما تخبئه الليالي والأيام، توقعا للشر وتحسبا للخطر، وتضج المجالس بأحاديث لا تعد ولا تحصى كمًا ونوعًا، والقاسم المشترك بينها التشاؤم والخوف واليأس.
معاشر المسلمين، ما لنا نرى الوجوه كئيبة والسعادة قد غدت سليبة؟! ليت ذلك يكون لما يجري على الدين وما يصيب إخواننا المسلمين، لكن البلاء أن كثيرًا من أحاديثنا حول خوفنا من الموت أو ضيق العيش، فلا إله إلا الله! إذا كنا ونحن في هذه الحال همنا الأول وشغلنا الشاغل دنيانا وأموالنا كيف نرجو بعد ذلك رفع البلاء؟!
أيها المؤمنون، ومع ذلك كله فإنني جئتكم اليوم متفائلا، نعم، جئت متفائلا بما سيكون إن شاء الله. إنني أرى ـ والله ـ من وراء هذه الأزمات بشائر خير وإرهاصات صحوة للأمة، تخرجها من كهوف الأزمة الحاضرة. فليتشاءم من شاء، وليبك من شاء، ولتفعل أمريكا ما تشاء، فوالله ثم والله ثم والله لن تذهب هذه الدماء بالمجان. نعم، إن دماءنا تراق ودمعنا يهراق لكنني مع ذلك أستشرف العطاء من وراء هذا البلاء. إنها ليست تكهنات ولا تخرصات، ولست ـ عياذا بالله ـ بكاهن، لكنني مستقرئ لسنة الله الكونية من خلال آياته الشرعية والأحاديث النبوية.
لقد ظلمتنا أمريكا ـ عليها من الله ما تستحق ـ ظلمًا عظيمًا؛ يحتل اليهود أرضنا بدعمها، ويهدمون ديارنا ويقتلون نساءنا وأطفالنا وشبابنا وشيوخنا، وإذا واجهناهم بالحجارة واجهونا بالدبابات والطائرات والمدافع والرشاشات ثم يتهموننا بالإرهاب، ليُسمَّ من يقذف الحجر في وجه الدبابة إرهابيًا، ومن يدافع المحتل المغتصب لأرضه مجرمًا. ويسلطون علينا إعلامهم الكاذب الخبيث، ويخصون بالذكر بلاد الحرمين الشريفين ليرموها بالتهم الباطلة والدعاوى الكاذبة.
لقد شابهت هذه الدولة الخبيثة فرعون في طغيانه، وقالت بلسان حالها مقولة فرعون: "أنا ربكم الأعلى". فها هي قد هاجمت العراق واحتلتها، وتضرب بعرض الحائط رأي العالم كله على المستوى الشعبي وعلى المستوى الدولي وعلى مستوى الهيئات العالمية التي تفرض على المسلمين ما تشاء، بينما لا يطبق من هذه القوانين الوضعية عليها إلا ما ترتضيه لنفسها، فأي عتو هو أشد من هذا العتو؟! وأي استكبار هو أشد من هذا الاستكبار؟!
إنها ـ والله ـ بداية النهاية لهذه الدولة الكافرة الظالمة. إنه ـ عباد الله ـ ليس رجما بالغيب. ودعونا نقف مع كتاب الله لنستقرئ منه مصير هذه الدولة الخبيثة.
معاشر المؤمنين، يقول الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]. فهو يخبرنا سبحانه أنه مطلع على أفعالهم عالم بأحوالهم، وإذا كان الأمر كذلك فلن يتركهم، ويشهد لذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، قال ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
وإن من سنة الله تعالى في الظالمين المعتدين أن ينزل عليهم أنواعا من العذاب الذي يكون كالمنبهات؛ ليرجعوا إلى صوابهم ويثوبوا إلى رشدهم ويستكينوا لربهم ويتضرعوا إليه. فإذا لم يفعلوا فإنه سبحانه لا ينزل عليهم العذاب مباشرة بل يمتعهم قليلا، وينعم عليهم بالرخاء زمنا معينا، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، سنة ماضية وحكمة قاضية فلتكن النفوس راضية. واقرؤوا إن شئتم قول المولى عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42، 43]، وقال جل من قائل: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، وقال سبحانه مبينا أنواعا من العذاب أنزلها على فرعون وقومه، تنبيها وتذكيرا ليتوبوا ويعودوا إلى ربهم، فماذا كانت النتيجة؟ استمع إلى قول الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133]، وقال جل ذكره مبينا حالهم مع هذه التنبيهات: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]. فهذه ـ عباد الله ـ عدة أنواع من العذاب أدب الله بها الأمم الغابرة، وهداهم إليه بواسطتها، ولكنهم أبوا إلا الجحود والكفران، ورفضوا التوبة والعودة إلى الله.
وإن من سنته بعد ذلك أن يمتحن هؤلاء الكفرة الظلمة بالرخاء بعد الشدة فتنة لهم، كما حكى ذلك في التنزيل فقال: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]. وهكذا يغترون وينخدعون، ثم ماذا بعد؟ يقول سبحانه: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95]. ومع ذلك فإن الله بكرمه وفضله قد يرحمهم نسبيا؛ فيرفع عنهم بعض الشدائد ليرجعوا عما هم فيه، ولكنهم كما قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] أي: لتمادوا واستمروا في طغيانهم وتمادوا في ضلالهم وعمى بصيرتهم.
ومن سنة الله كذلك أنه قد يمهل الظالمين ويرجئ عذابهم إلى وقت آخر، ويمدهم مع ذلك بالأموال والبنين ويوسع عليهم في حياتهم، ويسهل لهم الصعاب ويمهد لهم سبل المعاش، فيظن الجهال بسنة الله أنهم على خير، وأنهم ناجون غير معاقبين، وهم لا يعلمون أن الله يستدرجهم ويملي لهم من حيث لا يشعرون حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، واقرؤوا إن شئتم: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، ويقول سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48]، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
ألا فليعلم النصارى واليهود بأن الله تعالى قد أهلك أقوامًا وقرونًا وأجيالاً كانوا أشد منهم قوة وأطول أعمارًا وأرغد عيشًا وأكثر أموالاً، فاستأصلهم وأبادهم ولم يبق لهم ذكر ولا أثر، وتركوا وراءهم قصورا مشيدة وآبارا معطلة وأراضي خالية ونعمة كانوا فيها فاكهين، وأورث كل ذلك قوما آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين، قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6]، وقال جل وعلا: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا كفعل النصارى اليوم وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]. وقد قالها النصارى اليوم بلسان حالهم ولسان مقالهم، والله يرد عليهم: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]. فماذا كانت النتيجة، نتيجة أولئك المتكبرين المغترين بقوتهم الذين ظنوا أن لا أحد يستطيع الوقوف أمام قوتهم؟ هل تعلمون كيف أهلكهم الله جلت قدرته؟
لم يسقط السماء عليهم كِسفًا وهو قادر سبحانه، ولم يخسف بهم الأرض وهو قادر سبحانه، ولم يزلزل الأرض من تحتهم أو يرسل عليهم ملائكة لتهلكهم بأمره، وهو قادر سبحانه، بل أهلكهم بالهواء، هذا الهواء الذي نستنشقه، ذلك النسيم العليل الذي نتلقى هبوبه ونستنشق عبيره، جعله الله سببًا لهلاكهم؛ حتى يعلم المتعاظمون والمستكبرون أن إهلاكهم أهون على الله مما يتصورون، واستمع إلى قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا قال بعضهم: وهي شديدة الهبوب، وقيل: الباردة، وقيل: هي التي لها صوت. والحق أنها متصفة بجميع ذلك، فإنها كانت ريحا شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا، كقوله تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ أي: باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج" انتهى كلامه رحمه الله. واقرؤوا قول الله تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8].
نع عباد الله، هذه هي سنة الله في خلقه، فليفعل النصارى ما شاؤوا، وليستكبروا كما يحلو لهم، وليعتدوا على من شاؤوا، وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:121-123]. فهل عرفتم الآن لماذا أنا متفائل؟
إنها سنة الله في إهلاك الأمم السابقة لأسباب مختلفة في كل أمة، بعض منها تسبب في هلاك بعض الأمم، وقد اجتمع اليوم في أمريكا ما لم يجتمع في غيرها من الأمم السابقة؛ ولذلك فنحن ننتظر سنة الله فيها، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإيمان، لقد بلغت هذه الدولة قمة قوتها وعنفوانها وجبروتها وطغيانها، وليس بعد الوصول إلى القمة إلا الهبوط والانحدار، وتلك سنة أخبر بها المصطفى ، فقد روى البخاري من حديث أنس بن مالك قال: كان للنبي ناقة تسمى العضباء لا تسبق أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى لاحظ النبي ذلك، فقال: ((حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)).
وكما قيل:
إذا تَمّ شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل: تَمّ
معاشر المسلمين، إن مما يدمي القلب ويدمع العين ويفتت الكبد ما تعيشه الأمة اليوم من واقع أليم في غفلتها وبعدها عن الله وانشغالها بالترهات والأباطيل وانغماسها في الشهوات والملذات المحرمة.
أيها الإخوة، إنه ينبغي أن يكون بكاؤنا على أنفسنا وحالنا مع الله ومع كتابه ومع رسوله أكثر من بكائنا على قتلانا من النساء والأطفال؛ لأن أولئك قد قتلوا في سبيل الله، والله يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:169، 170]، أما نحن فلمن نشكو حالنا بل
كيف نشكو والمسامع مغلقات والرجال اليوم همهم المتاجر
ثلة منهم تبيع الدين جهرا تلثم الحسناء والكأس تعاقر
ثلة أخرى تبيت على كنوز لا تبالي كان بؤسا أم بشائر
نعم عباد الله، هذه حالنا إلا من رحم الله، ثلة شغلتهم شهواتهم فوقعوا في المعاصي صغيرها وكبيرها، وثلة أخرى شغلهم جمع الأموال ووسع الله عليهم فبخلوا به على إخوانهم ولم ينفقوا في سبيل الله. ولقد جرت سنة الله في خلقه كما مضى قضاؤه في كتابه أن يعامل عباده حسبما عملوا؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر. يقول تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال جل وعلا: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، وقال سبحانه: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40].
أيها المؤمنون، لنعد إلى الله ولنترك مخالفة أمره، فنحن بحاجة إلى رعايته لنا وحفظه لنا ونصرته لنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]. وعندها سوف تحل البركات وتعم الخيرات وتذهب الأوزار وتهطل الأمطار.
ولننتظر سنة الله في أعدائنا، فإنها متحققة لا محالة، ولنتفاءل ولنبشر بالخير. واعلموا أنني لا أحدثكم هنا عن نصر يحل للأمة بخروج المهدي أو نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وإن كنا نؤمن بذلك يقينا أنه كائن، وإنما أتحدث عن إهلاك الله لعدونا بأمر من عنده إن نحن عدنا إليه وأصلحنا أحوالنا وأخذنا بالأسباب بإعداد القوة؛ ليكون هلاك هذا العدو على أيدينا بإذن الله. والله المستعان.
(1/4747)
عيد الفطر 1422هـ
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المرأة, المسلمون في العالم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
1/10/1422
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال أمة الإسلام مع حلول العيد. 2- بعض الأسباب التي أدت إلى تسلط الكفار علينا. 3- نصيحة للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، ها هو العيد يأتي على الأمة الإسلامية لتفرح به، وبما قدمت من طاعات وقربات في الشهر المبارك، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. ها هو العيد يأتي على الأمة لتلبس الجديد ويهنئ بعضها بعضا بهذه المناسبة السعيدة. لكنه يأتي اليوم والأمة قد اشتد بلاؤها وازداد كربها. يأتي العيد اليوم والأعداء متسلطون على الأمة، بل قد تكالبت أمم الكفر على المسلمين. تسلطت شرذمة من اليهود على المسلمين، تقتل الرجال والأطفال، وتهدم البيوت، وتجرف المزارع، وتفعل وتفعل، ولا ناصر ولا معين للمسلمين المستضعفين إلا الله، وكفى بالله نصيرا.
أيها المسلمون، إننا نريد أن نفرح ولكن أنى لنا ذلك وكيف لنا ذلك وإخواننا في الدين والعقيدة في كل يوم يقتلون، وفي كل يوم يشردون؟! فراشهم الأرض ولحافهم السماء. نريد أن نفرح فنتذكر فلسطين وما يحدث فيها مما تعلمون. نريد أن نفرح فنتذكر إخوة لنا يقتلون في الشيشان وفي كشمير وأفغانستان والفلبين وإندونيسيا وتركستان وأرتيريا ومقدونيا. هناك ـ أيها المسلمون ـ يمر العيد على امرأة فقدت زوجها وعائلها بعد الله، فترملت في عز شبابها، وعلى طفل لم يبلغ الحلم أصبح يتيما لا أب له، وعلى أب قد فقد ابنه وثمرة فؤاده. آه لهم لو رأيتهم قد احمرت عيونهم من البكاء، وتقطعت قلوبهم من الحزن، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
عذرا إخوتي الأحبة، عذرا فأنا أعلم أني أعكر عليكم صفو هذه الفرحة، لكنه واجب الأخوة الذي فرضه علينا ديننا، أليس من كتاب الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]؟! أليست بلاد الإسلام كلها بلد واحد؟! أليس حال المسلم:
بلادي كل أرض ضج فيها نداء الحق صداحا مغنيا
ودوى ثم بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا
إننا ـ إخوة الإيمان ـ أمة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
إذا اشتكى مسلم في الهند أرقني وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
إننا لا نريد أن ننسى في غمرة فرحتنا بالعيد إخوةً لنا يقاسون الكرب والشدة، قتل وتشريد وهدم للبيوت واغتصاب للحرمات، وسجن وتعذيب، لا لشيء إلا أنهم مسلمون. حرب على الإسلام شعواء يؤجج نارها ويذكي سعارها عباد الصليب وعباد العجل وعباد الطبيعة.
ولئن كان بعضنا ينام ملء عينيه فإن من إخوانه المسلمين من قد حرم لذة النوم؛ إما خائفا يترقب أو باكيا يتعذب. ولئن كان بعضنا يضحك ملء فيه فإن من إخوانه في العقيدة من جفت مآقيه من البكاء. وإن كان منا من يأكل حتى لا يجد مكانا للطعام إلا صناديق النفايات، فإن من إخوانه في الدين من لا يجد ما يسد به رمقه ولو من كسرة خبز أو شربة ماء، بل ربما مات بعضهم جوعا ومات بعضنا تخمة وشبعا. ولئن كان بعضنا يلبس الجديد بأشكاله وألوانه لكل موسم لباسه، من صيف وشتاء وأعياد ومناسبات، فإن من إخواننا المسلمين من لا يجد ما يستر به جسده إلا قليلا، ولربما مات بعضهم في شتاء قارس لأنه لا يجد ما يتدفأ به من اللباس والغطاء.
أمة الجسد الواحد، إنهم ليسوا بحاجة للمال بقدر ما هم محتاجون للدعاء. الدعاء الدعاء ـ أيها المسلمون ـ لإخوانكم المستضعفين في كل مكان، خصوهم بالدعاء في سجودكم وقنوتكم وبين الأذان والإقامة وعند إفطاركم من الصيام أي صيام كان، وفي الثلث الأخير من الليل، وما أدراك ما ثلث الليل الآخر؟! وقت لا ترد فيه دعوة. يقول فيه من بيده ملكوت السماوات والأرض: ((من يدعوني فأستجيب له؟)). الدعاء ـ إخوة الإيمان ـ فكم من بلاء رفع بالدعاء.
أمة الإسلام، وفي غمرة الألم والحزن لمصاب الأمة، يجب علينا البحث عن الأسباب التي أدت إلى تسلط الكفار علينا، فما الأسباب يا ترى؟
معاشر المسلمين، يقول جل وعلا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، ويقول : ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه في سننه.
عباد الله، قبل أن نبحث عن أسباب خارجية لهذا البلاء الذي نزل وحل بالأمة، فلنبحث عن الأسباب الداخلية. والحقيقة ـ إخوة الإيمان ـ أننا اليوم قد ابتعدنا عن المنهج الرباني السديد والمسلك النبوي الرشيد، لذلك فقد أصابنا ما أصابنا. نعم عباد الله، نحن السبب فيما حدث ويحدث لنا. ولا ينبغي لنا أن نتلفت يمينا وشمالا لنلقي باللائمة على الأعداء أو الأقدار أو طائفة من الناس. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة). لقد وقع الكثير منا ـ سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات ـ في مخالفات شرعية كثيرة أوصلتنا إلى هذا الحال، فقد قدمنا شهواتنا ورغباتنا على أوامر الله وأوامر رسوله ، أمرنا فلم نأتمر ونهينا فلم ننته، نقرأ القرآن ولا نعمل بما فيه إلا من رحم الله وقليل ما هم.
يقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. فكم من الأمة اليوم من لا يقيم الصلاة؛ إما تركًا لها أو أداءً لها على غير ما شرع الله. وكم من الأمة اليوم من يمنع الزكاة أو يتحايل عليها بشتى الحيل. وكم من الأمة اليوم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل أصبح البعض يرى المعروف منكرا والمنكر معروفا.
ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، والكثير من المسلمين اليوم يتعاملون بالربا صراحة حينا وتحايلا أحيانا. ويقول تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، وكم من الأمة اليوم من عاق لوالديه قاطع لرحمه. ويقول تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، وكم من الأمة اليوم من أطلق لبصره العنان، ينظر إلى ما حرم الله من النساء المتبرجات والفاسقين والفاسقات، مباشرة أو من خلال أجهزة التلفزة. انظروا إلى أسطح المنازل وشرفاتها لتروا أجهزة استقبال، لم يقتصر خطرها على الأخلاق والسلوك بل تعدى إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير؛ وهو طرح الشبهات والتشكيك في ثوابت الدين ومسلماته. ولا زال الكثير منهم يحتج بسماع الأخبار ومتابعتها، علمًا بأن تلك القنوات التي يستقي منها الأخبار لا تفتأ تفتري الكذب بلا كلل ولا ملل، وما هجومهم على هذه البلاد المباركة وحملتهم الشعواء عليها إلا من تلك الأكاذيب والافتراءات التي يريدون بها تشويه الدين الإسلامي وإلصاق التهم به. والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وكذلك من مخالفاتنا ما حكاه الله سبحانه في كتابه على لسان رسوله فقال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. وكثير من الأمة اليوم قد هجر القرآن، لا قراءة فقط بل عملا وتطبيقا أيضا. هذا كتاب الله يقرأ على المرضى ومن به مسٌّ، ويوضع في السيارات والبيوت لدفع البلاء وطرد الشياطين، ويعلق في رقاب وسواعد المواليد لمنع العين زعموا، ولا يعمل به إلا قليلا. وما أنزل القرآن لهذا، بل أنزل كما قال ربنا جل وعلا: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]. فهو أنزل للتدبر والعمل، فهو منهج عمل ودستور حياة.
معاشر المؤمنين، كان هذا استعراضا سريعا لحالنا مع ربنا تبارك وتعالى ومع نبينا ومع كتاب ربنا، فعلام العجب بعد ذلك إن نزل البلاء؟! أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]. ولئن كان بعضنا اليوم معافى في بدنه وماله وأهله فلا يأمن مكر الله، فإن الله قد حذرنا بمن حولنا فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، وقال: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ [الأنبياء:44]. فاللهم عافنا ولا تبتلينا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيتها الأخت المسلمة، هذه كلمات نوجهها إليك من القلب ونرجو أن تصل إلى القلب.
أيتها الأخت، نصيحة أخ مشفق ـ والله ـ عليك من أن يصيبك عذاب الله، خوفا عليك من النار، حرصا على مصيرك الأخروي، فإياك ثم إياك من دعاوى المستغربين الذين يريدون الفساد والدمار لك ولأمتك. إنك ـ أيتها الأخت ـ على ثغرة عظيمة من ثغور الإسلام، فلا يؤتين المسلمون من قبلك.
أختنا الكريمة، لقد عرف الأعداء مكانة المرأة المسلمة في المجتمع، لذا أرادوا الدخول على المسلمين من هذا الباب، فلا تفتحيه لهم، فإنك والله اليوم حامية الحمى من هذا الجانب، كما أن هناك حمى يحميه الرجال من جانب آخر.
يا ابنة الإسلام، لقد أغاظ أعداء هذه الأمة أن يروك محتشمة مصونة مكرمة. لقد أغاظهم أن رأوك تخرجين للأمة رجالا كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وصلاح الدين وغيرهم من الأبطال. أليس من أنجب هؤلاء الرجال هم أمهات مسلمات فاضلات؟!
لقد أغاظ أعداء الإسلام وجود الأم المربية المسلمة، فسعوا جاهدين لإفساد هذا المصنع العظيم للرجال وهذه المدرسة الجليلة. وجاؤوا من كل حدب وصوب وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، ينعقون باسم الحرية تارة، وباسم المساواة تارة، وباسم التقدم تارة. وكذبوا والله، ما الحرية يريدون، ولا المساواة يقصدون، ولا إلى التقدم يهدفون، إن يريدون إلا فسادا. فهل تعي المرأة المسلمة ذلك؟!
أيتها الأخت المسلمة، سأقرأ عليك كلاما عن وضعك في المجتمع المسلم، نطقت به امرأة كافرة وكما يقال: "والحق ما شهدت به الأعداء".
تقول (هيلسيان ستانسبري) وهي صحفية أمريكية زارت كثيرا من بلاد العالم، وزارت القاهرة وأمضت فيها عدة أسابيع حيث زارت المدارس والجامعات والمؤسسات الاجتماعية ومراكز الأحداث والمرأة والأطفال، ثم قالت في مقال لها: "إن المجتمع المسلم كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يمتلك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي؛ فعندكم أخلاق موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم احترام الأب والأم، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا. ولذلك فإن القيود التي يفرضها مجتمعكم على الفتاة، هذه القيود صالحة ونافعة؛ لهذا أنصحكم بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم. امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا. امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير. لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا مقعدا مليئا بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملؤون السجون والأرصفة والبارات، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات للمخدرات والرقيق. إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق" انتهى كلامها.
هذه شهادة من امرأة كافرة عاشت في بيئة الكفر التي ينظر إليها اليوم بعض المسلمين على أنها البيئة المثالية والنموذجية، ويطالبون بأن تكون مجتمعات المسلمين مثلها. فماذا يقول أولئك الآن؟!
أيها الأب، إنك أول المسؤولين أمام الله جل وعلا عن هذه البنت، فهل أحسنت تربيتها على التمسك بتعاليم دينها ومراقبة الله قبل التفكير في الفضيحة والعار؟! نسأل الله لك العون.
(1/4748)
قدوات نسائية
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
المرأة, تراجم
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة ماشطة بنت فرعون. 2- قصة امرأة فرعون. 3- طرف من عبادة عائشة رضي الله عنها وأم حسان والسيدة نفسية. 4- الدروس والعبر من تلك القصص.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن القارئ في سير الصالحين والعُبّاد في هذه الأمة يجد العجب العجاب، من مواقف القوم في العبادة والخشية والصبر على البلاء والقوة في إظهار الحق وإنكار المنكر والبذل من المال والوقت والجهد والجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سبل الخير وسنن الهدى والرشاد. ولا عجب إذا ما عرفنا أن القوم قد خالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وسكنت الآخرة في قرارة نفوسهم، وانشغلت عقولهم بالتفكير في اللقاء بربهم، في يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين ويُجْمَع فيه الأولون والآخرون. ومن كانت هذه حاله فلا جرم لتخرجن الحكمة من أقواله وأفعاله، ويكون قدوة في الخير وهاديا ودليلا إليه.
وإني اليوم أود الوقوف مع بعض مواقف لأولئك المؤمنين الصالحين المتقين، مواقف استوقفتني وتأملتها فعرفت قدر نفسي وقدر الكثير من الرجال عند المقارنة، مواقف تطرح تساؤلا يثير في النفس كوامن الحسرة والحرقة، ويحرك فيها عوامل المنافسة والمسابقة، تساؤلا يقول: أين نحن من هؤلاء؟!
وإمعانا في الإثارة لهذه الكوامن والعوامل التي ذكرتها فإني لن أحدثكم عن أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا عثمان بن عفان ولا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ولن أحدثكم عن إبراهيم النخعي ولا ربيعة الرأي ولا الحسن البصري ولا ابن المبارك رحمهم الله جميعا، ولن أحدثكم عن الإمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد بن حنبل رحمة الله عليهم، بل أقول لكم: إنني لن أتعرض لسيرة رجل واحد اليوم، ولكنني سأذكر لكم من سير بعض النساء الصالحات ممن سبقنا من الأمم ثم من هذه الأمة المباركة. نعم يا معشر الرجال، أحدثكم عن نساء لنرى ماذا يفعل الإيمان الصادق حين يسكن القلوب ويملأ الصدور.
وهذه أولاها قصة ماشطة بنت فرعون، وقد رواها ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه والطبراني في المعجم الكبير، وهي عند ابن حبان والطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((لما كانت الليلة التي أسري بي فيها وجدت رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، فقلت: ما شأنها؟ قال: بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا ولكن ربي وربك ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟! قالت: نعم، قالت: فأعلِمُه ذلك؟ قالت: نعم، فأعلمته، فدعا بها، فقال: يا فلانة، ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله. فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحدًا واحدًا، فقالت: إن لي إليك حاجة، قال فرعون: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفننا جميعا، فقال: وذلك لك علينا، فلم يزل أولادها يلقون في النقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع، فكأنها تقاعست من أجله، فقال: يا أمه، اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)).
فهذه امرأة ـ يا رجال ـ قد كان منها ما سمعتم عندما خالط الإيمان بشاشة قلبها، تتحمل أن يقتل أولادها أمام ناظريها، وليس قتلا عاديا بل هو ـ والله ـ من أبشع القتلات؛ يحمى على قدر من نحاس حتى يلتهب القدر ويحمر ويصبح كالجمر ثم ينزع الطفل من بين يدي أمه وهو يصرخ فزعا لرؤية ذلك المنظر المهول، ثم يلقى في ذلك القدر ليصيح صيحة مدوية لا يصرخ بعدها، ثم يذوب اللحم على تلك القدر الملتهبة حتى لا يبقى منه إلا العظم، كل ذلك والأم تنظر. ولك أن تتخيل قلب الأم في تلك الحالة، فهل استسلمت؟ وهل رضخت لفرعون وكفرت بربها؟ كلا، بل بقيت على إصرارها لتقول له: إنك لست برب خالق، بل أنت عبد مخلوق ولو فعلتَ ما فعلتَ. ثم يؤخذ الابن الثاني ويلقى كذلك في القدر الملتهب، والثالث حتى لا يبقى لها إلا الرضيع الذي في حضنها، فكأنها ترددت شفقة ورحمة بهذا الرضيع لا خوفا من الموت، فينطق الله هذا الرضيع ليقول لها: يا أمه، اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. ينطق الله هذا الصبي الذي لا ينطق، ينطقه بحكمة كم نحن بحاجة إلى تدبرها اليوم: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"ز فأسألكم بالله: أين نحن من هذه المرأة؟
كم من إنسان اليوم يُطلبُ منه ترك محرم من المحرمات، يطلب منه ترك المسلسلات الهابطة والأفلام الفاجرة فيقول: لا أستطيع، والآخر يقال له: اترك الغناء المحرم فيقول: لا أستطيع حاولت ولم أفلح، وثالث يقال له: اترك التدخين فيقول أيضا: لا أستطيع حاولت مرارا وفشلت.
لا تستطيعون! لا ضير ولا بأس، فالله عز وجل ليس بحاجة لترككم لهذه المحرمات، ومُلْكُ الله لن يزيد بطاعة المطيع ولن ينقص بمعصية العاصي، يقول الله جل جلاله: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا وليس إن تعصوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا يعني ليس أنتم فقط بل كل أهل الأرض لو كفروا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]. ويقول سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر:7]. لا تستطيع ترك الجري وراء النساء والعبث بأعراض المؤمنين! حسنا اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
هذه ـ أيها المؤمنون ـ واحدة.
وأما الثانية فمع امرأة أخرى من المؤمنات الصالحات ذكرها الله في كتابه، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند تفسير قول الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]: "عن أبي عثمان النهدي عن سليمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها وكانت ترى بيتها في الجنة". ثم روى عن ابن جرير فقال: "قال ابن جرير: كانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فإنها امرأتي. فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. فقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع. وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله. وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: كان إيمان امرأة فرعون من قِِبَلِ إيمان امرأة خازن فرعون، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون فوقع المشط من يدها، فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت لها بنت فرعون: ولك رب غير أبي؟! قالت: نعم، ربي ورب أبيك ورب كل شيء الله. فلطمتها بنت فرعون وضربتها وأخبرت أباها. فأرسل إليها فرعون فقال: تعبدين ربا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك ورب كل شيء الله وإياه أعبد. فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادا فشد يديها ورجليها وأرسل عليها الحيات، فكانت كذلك فأتى عليها يوما فقال: ما أنت منتهية؟! فقالت له: ربي وربك ورب كل شيء الله، فقال لها: إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي، فقالت له: اقض ما أنت قاض، فذبح ابنها في فيها وإن روح ابنها بشرها فقال لها: أبشري يا أمه، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا، فصبرت. ثم أتى عليها فرعون يوما آخر فقال لها مثل ذلك، فقالت له مثل ذلك، فذبح ابنها الآخر في فيها فبشرها روحه أيضا، وقال لها: اصبري يا أمه، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. قال: وسمعت امرأة فرعون كلام روح ابنها الأكبر ثم الأصغر فآمنت امرأة فرعون، وقبض الله روح امرأة خازن فرعون وكشف الغطاء عن ثوابها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون، حتى رأت فازدادت إيمانا ويقينا وتصديقا. فأطلع الله فرعون على إيمانها فقال للملأ: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم، فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد غيري، فقالوا له: اقتلها. فأوتد لها أوتادا فشد يديها ورجليها فدعت آسية ربها فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ، فوافق ذلك أن حضرها فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها؟! إنا نعذبها وهي تضحك! فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها". انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
وبعد: معاشر الرجال، أليس لنا حق في أن نتساءل: أين نحن من هؤلاء؟! امرأة تقتل وهي صابرة على إيمانها ومبادئها، تتزحزح الجبال الرواسي وهي لا تتزحزح عن موقفها. أي عظمة هذه؟! وأي سمو؟! إنه الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، إنه اليقين حين يسكن النفس ويمازج الروح لتولد تلك النماذج الربانية، فتكون أقوى من الجبروت وأقوى من الطغيان، أقوى من الشيطان وجنوده، وأقوى من غرائز النفس ورغباتها وطبائعها، أقوى من الدنيا بأسرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، وننتقل إلى أنموذج من هذه الأمة المباركة، أنموذج رائع من روائع هذه الأمة وثمرة من ثمار نبيها صلوات الله وسلامه عليه، ألا وهي أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها. فقد أخبر القاسم بن محمد رحمه الله عنها قائلا: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة ـ وهي خالته ـ أسلم عليها، فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، وتدعو وتبكي وترددها، فقمت ـ يعني ينتظرها ـ حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت إليها فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي. رضي الله عنها وأرضاها. فهذه امرأة من الصالحات فهل نقارن ونقتدي؟!
وكذلك كانت أم حسان من السلف رحمها الله، وكانت زاهدة عابدة، دخل عليها سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة المسلمين وساداتهم في زمانه، فلم ير في بيتها غير قطعة حصير، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك ليغيروا من سوء حالك، فقالت: يا سفيان، لقد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر من ساعتك هذه، أما إني لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها، يا سفيان: والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله، فبكى سفيان.
فهذه ـ يا رجال ـ امرأة لا كنساء اليوم، فلم تكن تعرف الجلوس أمام التلفاز ساعات، أو الحديث بالهاتف طول الأوقات، ولا قراءة مجلة ماجنة تثقل الميزان بالسيئات، أو التجول في الأسواق لقتل الأوقات، أو الجلوس في مجالس لتأكل فيها لحوم البشر وتقتات. كلا، ما كان هذا حالها، بل لم تكن ترضى بأن ينشغل وقتها بشيء غير ذكر الله، فرحمها الله من زاهدة عابدة.
وهذه امرأة ثالثة وحالها في مسألة تقاصر عنها الكثير من الناس رجالا ونساءً، وقضية أهملها العام والخاص، وهي من الأهمية بمكان في هذا الدين حتى عدها بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة التي غابت اليوم إلا عند القليل.
فقد روت كتب السير عن السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنها أنها كانت سببا في توبة أحمد بن طولون حيث كان حاكما ظالما، فتوجه الناس إلى السيدة نفيسة يشكونه إليها، فقالت: متى يركب؟ قالوا: في غد، فكتبت رقعة ومضت بها في طريقه، وقالت: يا أحمد بن طولون، فلما رآها عرفها، فنزل عن فرسه وأخذ منها الرقعة وقرأها فإذا فيها: "ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتم فعسفتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما من قلوب قد أوجعتموها وأكباد جوعتموها وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". فتاب ابن طولون من ساعته وأصبح عادلا. فلله درها من امرأة، ولا عجب فهي سليلة الشجرة النبوية المباركة، وفرع من دوحة البيت الطاهر رحمها الله رحمة واسعة ورضي عنها.
وأختم حديثي هذا بسيرة هذه المرأة المباركة والسيدة الشريفة، فقصتها في مرض موتها عجب من العجب. قال أهل السير: احتضرت السيدة نفيسة رحمها الله وهي صائمة فألزمها أهلها بالفطر وألحوا عليها وأبرموا، فقالت: واعجبا! منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن؟! هذا لا يكون. ثم قرأت سورة الأنعام وكان الليل قد هدأ، فلما وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127] غشي عليها ثم شهدت شهادة الحق وقبضت إلى رحمة الله.
هكذا تكون الحياة يا رجال، وهكذا يكون الممات، نساء عابدات زاهدات، آمرات بالمعروف ناهيات عن المنكر، باذلات للنفس في سبيل الله. ونحن اليوم نتمنى على بعض الرجال أن يحافظوا على خمس صلوات مفروضات في الجماعة، نود لو حافظ شبابنا على صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، ونود لو يحافظ آخرون على صيام رمضان، وأن يؤدي آخرون فريضة الحج والعمرة مرة في العمر. فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وهو أعلم بمن يستحق كرامته ومن ليس أهلا لذلك. لا ضير أيها التارك للجماعة المضيع للصلوات، لا بأس أيها المتهاون بشعائر الله الوالغ في المحرمات، فقد خلق الله للجنة أهلها وخلق للنار أهلها، ولو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئا، ولو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله شيئا.
أيأبى من روحه من عند الله وهي بيد الله إن شاء أخذها متى شاء، أيأبى من يعيش في أرض الله ويأكل من رزق الله ويسكن في ملك الله ويسمع ويبصر بفضل الله، أيأبى من حاله هذه أن يطيع الله؟! كلا والله، لا يليق بك ذلك يا عبد الله، ولست أهلا لذلك.
هؤلاء نسوة أيها المؤمنون، نساء مؤمنات صالحات قانتات:
فلو كن النساء كمن ذُكِرْنَ لفضِّلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وبعد: عباد الله، فهذه نماذج فأين المقتدون؟ وهذه منارات فأين الهتدون؟ وهذه مسالك فأين السائرون؟ فيا لله، أين نحن من هؤلاء؟!
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالأعرج
(1/4749)
معركة العفة
الأسرة والمجتمع
المرأة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار المعركة بين الطهر والعفاف وبين الفجور والفساد. 2- نداءات تحذير وصيحات نذير حول قضية الحجاب وما يدور حولها من معارك ضارية. 3- وسائل القوم في حرب الحجاب. 4- وقفات مع مسائلة الحجاب. 5- نداء إلى أولياء أمور. 6- نداء إلى التجار الذين يستوردون هذه العباءات ويبيعونها لنساء المسلمين. 7- نداء إلى المرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
في الوقت الذي يشتد فيه الصراع بين الحق والباطل وتصل المواجهة بينهما إلى حد الصدام الصريح بل والقتال المسلح تبقى هناك معارك خفية لا تظهر لبعض الغافلين، تدار من وراء الكواليس. تنتقل هذه المعركة الدائرة بين الحق والباطل من ميدان إلى ميدان، حتى تصل إلى كل بيت، ويتأثر بالصراع أفراد في دواخل بيوتهم. تدار هذه الحرب بين الحق والباطل وكالة وأصالة؛ وكالة بيد العلمانيين والمستغربين في بلاد المسلمين الذين يلبسون ثوب الإسلام ويتكلمون بلغة القرآن، وأصالة بيد أعداء الإسلام الظاهرين من يهود ونصارى وملحدين.
وهذه المعارك الخلفية المستترة لا تقل خطورة عن حرب السلاح التي يشنها الباطل على الإسلام وأهله، بل إن بالإمكان القول أنها أخطر من تلك الحرب الظاهرة المعلنة؛ لأن المحارب في الحرب الظاهرة المعلنة لا يكون إلا كافرا صريحا أو مرتدا، تعلم الأمة أنه قد تخلى عن دينه لمصلحة دنيوية يؤملها.
ومن تلك المعارك معركة تدور بين أهل التقى والعفاف والطهارة والفضيلة القائمين على الثغور وبين أهل الفجور والفساد والرذيلة والانحلال القائمين بدور الشيطان. معركة قائمة بين الذين يذودون عن دين المرأة وكرامتها وعفتها، وبين الذين يريدون إفسادها ويسعون لجرها لشرك الشيطان، وجعلها سببا رئيسا لسقوط هذه الأمة ودمارها.
أيها المؤمنون، معركة الحق والباطل حول المرأة معركة عريضة، واسعة الأرجاء متشعبة الأودية، فهناك مثلا ما يدور منها حول إفساد التعليم، والتأليف حول المرأة والاختلاط والابتعاث واتباع الموضات، وإنشاء التنظيمات النسائية، وتمجيد الفاجرات والترويج للفن، وغير ذلك من ميادين هذه المعركة العظيمة التي قلت لكم: إنها واسعة الأرجاء متشعبة الأودية.
ومن هذه الميادين لهذه المعركة الحامية الوطيس ميدان هو باب عظيم لأعداء الله لو فتح، وميدان فسيح لهم لو دخلوه وتمكنوا فيه لانتصروا في ميادين كثيرة دون عناء، ولجرهم هذا النصر إلى انتصارات أخرى جليلة الخطر عظيمة الأثر، لا وفقهم الله.
وهذا الميدان ـ أيها الموحدون ـ هو الهجوم على الحجاب. إنه ـ أيها الشرفاء ـ ميدان احتوى ميادين، وباب من ورائه أبواب، ستفتح بيسر وسهولة إن فتح هذا الباب. فلو سقط الحجاب لذهب حياء المرأة، ولانتشرت الفواحش وكثر أولاد الزنا، واختلطت الأنساب وفسدت الذرية، وهكذا ينهار المجتمع كله وتسقط الأمة في مهاوي الردى. أرأيتم مدى خطورة هذه المعركة؟!
وهذه ـ عباد الله ـ نداءات تحذير وصيحات نذير حول قضية الحجاب وما يدور حولها من معارك ضارية، لا زال أوارها يشتد وخطرها يمتد.
معاشر المؤمنين، وها نحن نضع بين أيديكم ونلقي على أسماعكم بعض تفاصيل هذه المعركة، علكم تشاركوننا همها لأنكم طرف في هذه المعركة، ولأن الحرب على نسائنا وبناتنا وأخواتنا.
إنها ـ إخوة الإيمان ـ معركة دائرة يعمل فيها الأعداء بكل ما يملكونه من وسائل، لا يكلون ولا يملون، يأتون بالبرامج التلفزيونية، ويكتبون في الصحف، ويؤلفون الكتب والرسائل، ويحاضرون في نواديهم الأدبية، وغير ذلك حتى يصلوا إلى مرادهم، وأنى لهم ذلك والله يقول في كتابه العزيز: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
واستمع ـ أخي الكريم ـ إلى ما كتبه أحدهم في صحيفة في إحدى الدول الإسلامية، حيث كتب مقالا يقطر سما وخبثا بعنوان: "نحن بين السفور والحجاب" يقول: "اختلفت الأقاويل في الحجاب والسفور، فمنهم من يؤيده ومنهم من يعارضه، فملؤوا صفحات الجرائد بآراء متضاربة، فيها مندفع اندفاعا كليا نحو التحرر من الكابوس الثقيل وهو الحجاب، والفئة الأخرى هي التي تمثل الرجعية البغيضة تعارض بقوة شديدة السفور، وتعتقد بل تجزم أنه سوف يفضي إلى نتائج مريعة تصيب المجتمع بأمراض جسيمة". ثم يقول برأيه بعد ذلك: "وكل هذا وذاك لن يقف في الطريق، ولن يحد من قوة التيار، فالسفور آت لا محالة على فترات متتابعة شاءت التقاليد أم أبت" انتهى كلامه عامله الله بما يستحق.
ومن وسائل القوم في حرب الحجاب وسيلة معروفة وهي الكتابة في الصحف بأسماء نساء وهمية، وإنما الذي يكتب في بعض الأحيان رجال يتخفون تحت أسماء أنثوية، يهاجمون في كتاباتهم الحجاب ويزعمون أنه يقيد حرية المرأة، وأنه تشويه لجمالها، وغير ذلك من الإفك المفترى؛ ليوهموا الناس أن النساء لا يردن هذا الحجاب، وليخدعوا كذلك نساء أخريات يصدقن هذه الكتابات المكذوبة.
إخوة الإيمان، وعند الحديث عن هذه القضية فإنني أوجه خطابي هذا لكم أنتم أيها الرجال، يا من ولاكم الله على هذه المرأة الضعيفة، وجعل لكم سلطانا القوامة، ثم أوجه كذلك هذه الكلمات إلى كل أخت مسلمة تسعى للحصول على غنيمة الدارين والسعادة فيهما. وكلماتي في هذه القضية عبارة عن وقفات، أسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى: الحجاب عبادة وليس عادة.
عباد الله، سؤال مهم للمرأة المسلمة: أختاه، من الذي أمرك بالحجاب؟ أهو الشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين، أم هو الإمام أبو حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله جميعا؟! كلا بالطبع، فالذي أمر بالحجاب هو الله جل في علاه، هو الذي قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
إنه الله الذي له الخلق والأمر، فماذا تريدين بعد ذلك؟! أتستمعين إلى صوت الناعقين القائلين بأن المتعصبين والرجعيين والظلاميين يريدون للمرأة أن لا تظهر ولا يراها أحد؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. أهو عار علينا وعيب نعاب به أننا نريد للمرأة أن تكون عفيفة مصونة، لا يراها إلا من أحل الله له ذلك من زوج أو ابن أو غيره من المحارم؟! ولا يزال أحدهم يكتب ما بين حين وآخر، وشغله الشاغل المرأة وخروجها من البيت، وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال، وكأنه ليس هناك قضية للبلاد والعباد إلا هذه!
عباد الله، وعود إلى القضية الأساس، فإذا كان هذا الحجاب هو أمر الله في كتابه فهل هو من التقاليد البالية كما يسميه المنافقون؟!
أيتها الأخت المسلمة، يجب أن تفهمي أن الحجاب عبادة وليس عادة، وما حصل الاستهتار والتبرج والسفور إلا عندما أصبح البعض يراه من العادات والتقاليد، ولا خلعت المرأة حجابها عند خروجها من بيئتها التي نشأت فيها كما تفعله البعض هداهن الله؛ فتراها في بيئتها محجبة لا ترى منها شيئا، فإذا خرجت من بيئتها خلعت حجابها. واسألوا إن شئتم كثيرا ممن سافروا بالطائرات إلى خارج البلاد: ما الذي تفعله بعض النساء هداهن الله؟ وما ذلك ـ والله ـ إلا لأنها ترى أنه من العادات والتقاليد، ولو كانت تلبسه تعبدا لله وطاعة ما خلعته في أي مكان؛ لأن الذي أمرها بالحجاب يراها في كل مكان.
معاشر المؤمنين، ولما أصبح الحجاب عادة وليس عبادة ظهر التلاعب في طريقة لبسه؛ فتارة يوضع على الرأس، وتارة يوضع على الكتف، وتارة يغطي الوجه كله، وتارة تظهر العينان، وتارة تتلثم به المرأة تلثما ليظهر نصف وجهها من وراء اللثام، وتارة ترفع العباءة حتى تظهر ساق المرأة، وتارة تنزل، وهكذا في سلسلة من التلاعب بطريقة لبسه تظهر على شكل موجات متتابعة من الموضة.
ولما أصبح الحجاب عادة كذلك ظهر أيضا التلاعب في طريقة تفصيله وشكله ولونه، فظهرت عباءات مزخرفة مزركشة، منها ما هو مزخرف من أوله لآخره، ومنها ما هو مزخرف في الأكمام والصدر والأطراف. وظهرت العباءات الضيقة التي تسمى بالعباءة المخصرة، والتي تبدو وكأنها فستان تلبسه المرأة، وظهرت العباءات الملونة، وعباءات تتكون من قطعتين قطعة علوية وقطعة سفلية، وغير ذلك كثير مما يضيق المقام بذكره. فهل هذه المظاهر ـ عباد الله ـ تدل على أن الحجاب عبادة لله وطاعة؟! كلا والله، وقد ذكر العلماء أن من شروط الحجاب أن يكون واسعا فضفاضا ثخينا لا يرى ما تحته.
إخوتي الكرام، ولما كان الحجاب عادة عند البعض أصبحت ترى المرأة لا تحتجب من السائق ولا الخادم، ولا الخياط ولا صاحب المحل الذي تشتري منه بضاعة ما. فتكون المرأة محجبة عند الأغراب كاشفة الوجه واليدين، وربما أكثر من ذلك عند هؤلاء الأغراب. أوليس هؤلاء الرجال من الذين أمر الله بالاحتجاب منهم؟!
وها هنا أقف لأنبه إخوتي الكرام، فليس التبرج هو كشف المرأة الوجه والشعر وغير ذلك فحسب، ولكن التبرج أيضا أن تغطي المرأة وجهها ولكنها تمشي في الشارع وكأنها في صالة لعرض الأزياء، مما تلبسه من عباءة مزركشة تلفت الأنظار. إن التبرج أن تلبس الثوب الضيق والعباءة الجذابة لونا وقصرا وتجسيدا لجسمها، وكأنها تلبس فستانا للسهرة، ذلك الحجاب الذي يخضع أصحاب القلوب المريضة، ويلفت أنظارهم لينطلقوا كالكلاب المسعورة ينهشون بأعينهم جسد هذه المرأة المتبرجة بحجابها. والمصيبة ـ أيها المسلمون ـ أن هذا الحجاب المتبرج أصبح غير مستنكر اليوم عند الكثير من الناس. نسأل الله العافية.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الإخوة، والوقفة الثانية مع معركة الحجاب هي مسألة السفور التي انتشرت عند البعض اليوم. والسفور عند الفقهاء هو كشف المرأة وجهها، وليس بخاف علينا وجود الخلاف بين العلماء في هذه المسألة قديما وحديثا.
وفي هذا العصر الذي ظهرت فيه بعض النسوة المتفيهقات وبعض الكتاب المتشدقين يحاجوننا بأن هناك من قال بجواز كشف الوجه، وأن في المسألة خلافا. ألا فليعلم أولئك عدة أمور:
أولها: أن الخلاف موجود في كثير من المسائل الشرعية، وأن المسائل المجمع عليها والمتفق عليها بين العلماء قليلة جدا، وذلك لاختلاف الأفهام وهو أمر طبعي لا غرابة فيه، ولكن ينبغي أن يعلم هؤلاء أن وجود الخلاف في مسألة ما لا يسوغ للمرء أن يختار القول الذي يناسب هواه وميوله ورغباته، كلا بل الواجب على المسلم أن يختار ما يظهر من الأدلة رجحانه وقوته، أو أن يقلد عالما يثق في علمه ودينه ثم لا يجاوزه. واليوم نرى أن أولئك يبحثون عن العالم الذي يوافق رأيه هواهم، فكلما وجدوا عالما يقول بما يهوون تابعوه ونسبوا القول له. ولا شك أن ذلك ليس دينا بل تتبع للهوى.
ثانيا: ليعلم هؤلاء المتفيهقون والمتشدقون أنه حتى الذين يقولون بجواز كشف المرأة وجهها يقولون بأنه يجب تغطيته في حال حصول الفتنة به من قبل الرجال. وأسألكم بالله: هل تعلمون عصرا من العصور الفتنة فيه أشد من هذا العصر؟! اللهم لا.
فهذا عصر الفتن كما يسميه الكثير من الناس اليوم. إذا فالنتيجة أن هؤلاء العلماء يقولون كذلك بتغطية الوجه وجوبا في هذا العصر. فهل يقر بهذا فقهاء الصحافة المتشبعون بما لم يعطوا؟!
الوقفة الثالثة: نداءات أوجهها إلى ثلاثة من فئات المجتمع:
الأول: نداء إلى فئة أولياء أمور النساء، اتقوا الله في نسائكم وراقبوا حجابهن وعباءاتهن، إننا حين نتحدث في المجالس والمساجد عن هذه العباءات المتبرجة نسمع الجميع يستنكر ذلك وينتقده بشدة. والسؤال هو: نساء من هؤلاء اللاتي في الشوارع والأسواق ويلبسن هذه العباءات؟! نساء من هؤلاء اللاتي ترى الواحدة منهن تكشف وجهها للسائق والخياط والبائع في المحل؟! نساء من هؤلاء اللاتي تراهن في سوق الذهب تطلب من البائع أن يلبسها الذهب من أسورة أو خاتم أو غيره؟ إنها تساؤلات للجميع وعلينا البحث عن الجواب.
النداء الثاني: إلى التجار الذين يستوردون هذه العباءات ويبيعونها لنساء المسلمين ليساهموا في حرب الحجاب لأجل مكسب دنيوي دراهم معدودة. ألا فليتق الله كل تاجر، فإن بيع هذه العباءات والكابات وما شابهها حرام، وثمنها حرام وسحت، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) رواه الحاكم. فليختر لنفسه إن شاء أن يربي أبناءه بهذه الأموال المحرمة.
والثالث: نداء نوجهه إلى المرأة المسلمة، أيتها الأخت المسلمة، الله الله في الحجاب. اعلمي ـ وفقك الله ـ أن أعداءك يسعون لهلاكك وهلاك الأمة من بعدك، فكوني كما هو الظن بك الحصن المنيع الذي تندك عنده معاول هدمهم، وكوني المعقل الذي يستعصي عليهم ويأبى السقوط. احفظي دينك وشرفك وعفتك وكرامتك بالتمسك بالحجاب حتى تلقَي ربك سبحانه وتعالى فيجزيك خير الجزاء.
اللهم وفق نساء المسلمين لما تحب وترضى...
(1/4750)
وما النصر إلا من عند الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب غزوة الخندق. 2- المعجزات الباهرة الدالة على نبوته أثناء حفر الخندق. 3- حال المنافقين في هذا الموقف الحالك. 4- ما أصاب المؤمنين من الشدة والكرب في تلك الغزوة. 5- أسباب النصر الحقيقية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن في سيرة محمد وصحبه الكرام عبرة وأي عبرة، ذلك لمن تأملها ونظر فيها بعين البصيرة. لقد بعث الله رسوله بالحق، فصدع به ودعا إليه، ولكن الملأ من قريش لم يقبلوه منه، وعادوه واتهموه بتهم شتى، وآذوه في نفسه وعرضه وحاولوا قتله، لكنه لم يترك الدعوة، وخرج بدعوته إلى المدينة مهاجرًا، وحاربه كفار قريش فهزمهم مرة وهزموه مرة.
ثم جاء اليوم الذي أراد فيه أعداء الله ورسوله أن يجتثوا الإسلام والمسلمين ـ كما يزعمون ـ من جذورهم، وجاء اليهود إلى قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله ، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه مع محمد، أفديننا خير أم دينه؟ قال اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً إلى قوله تعالى: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:51-55]. فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لحرب رسول الله ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم اتجه اليهود إلى غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه. ثم إن قريشًا تجهزت وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم، وخرجوا في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن حلجة، وقادوا ثلاثمائة فرس وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران من سبعمائة، وخرجت بنو فزارة وكانوا ألفًا، وخرجت كذلك أشجع، وخرجت بنو مرة حتى اكتمل عددهم عشرة آلاف، وقادهم أبو سفيان.
أما ما كان من أمر رسول الله فإنه لما بلغه الخبر جمع الناس وشاورهم يسألهم ما يفعل، فكان أن أشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة، فأعجبتهم الفكرة، وبدأ رسول الله بحفر الخندق هو وأصحابه، ووقع في أثناء حفر الخندق معجزات باهرة من علامات نبوته ؛ كحديث الصخرة العظيمة التي اعترضتهم في حفر الخندق، فلم يعمل فيها المعاول وأعيت فيها الحيل, فأخذ رسول الله المعول وسمى الله وضربها فانهالت ترابًا كما في صحيح البخاري. وحديث الطعام القليل الذي كفى أهل الخندق وكانوا ألفًا، وكقوله لما انصرفت الأحزاب: ((لن تغزونا قريش بعدها، بل نغزوهم ولا يغزونا)) ، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، وكانت تلك الشدة خاتمة الشدائد.
أيها المؤمنون، لقد كانت غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب كما سماها الله شدة يظن المرء معها أنها نهاية الدعوة والداعية. لقد كانت بالحسابات الدنيوية والمقاييس المادية النصر الأكيد للأحزاب الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب على حرب الإسلام والمسلمين، وكانت الدولة الإسلامية لا زالت ناشئة فتية، بادئة في تأسيس ذاتها في المدينة النبوية. ولقد بلغ الحال بالمؤمنين أشده من الرعب والخوف، فهم قلة محاصرون من قبل جماعة كثيرة يبلغون أضعافهم عددًا وعدة. وإذا أردت وصفًا دقيقًا لحال المؤمنين في تلك الوقعة فلن تجد أبلغ من وصف الله تعالى لهم في كتابه، حيث يقول واصفًا الشدة التي لقيها المؤمنون: وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]. كيف لا يكون هذا الزلزال الشديد للمؤمنين وقد جاءهم الأحزاب من فوقهم، وكان اليهود قد غدروا بهم ونقضوا العهد من أسفل منهم، وأصبح المسلمون بين الأحزاب واليهود؟! واستمع إلى وصف الله لحالهم حيث يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ [الأحزاب:9،10]. فهل تصورت هذه الشدة وذلك الوضع الحرج الذي عاناه المؤمنون؟ هل تصورت كيف يزيغ البصر في وضع مثل هذا حتى يصبح المرء لا يدري أين ينظر ولا إلى أي جهة يلتفت؟ هل تصورت ـ أيها المؤمن ـ شدة تحرك القلب من مكانه حتى يكاد أن يبلغ حلقك؟ إنها شدة وأي شدة، العدو كافر حاقد يريد الانتقام للضربة التي لقيها في معركة بدر، ولا زالت قريش تعاني من آلام الهزيمة والإهانة العظيمة التي لقيتها في بدر. ومن أسفل المدينة العدو الآخر الخبيث المتربص الذي كان في يوم من الأيام صاحب عهد وميثاق، إنهم اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، غدروا في أحلك المواقف وهم كذلك دائمًا وأبدًا، يستغلون المواقف ويصطادون في الماء العكر. والعدو الداخلي كذلك بدأ في التخذيل والهرب من أرض المعركة، المنافقون أخذوا يخذلون. واسمع إلى ما رواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في يوم الخندق: ((اذهبوا بنا إلى سلمان))، وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال : ((بسم الله))، فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: ((الله أكبر، قصور الروم ورب الكعبة)) ، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: ((الله أكبر، قصور فارس ورب الكعبة)) ، فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم.
هكذا ـ أيها المؤمنون ـ كان حال المنافقين في هذا الموقف الحالك، الذي يبين فيه رسول الله أن هذا الدين منصور وقائم، حتى أنه يخبرهم بأن الله سيفتح على المسلمين قصور فارس والروم، حتى تهدأ نفوس المؤمنين، ويعلموا أن هذا الجمع وهذه الأحزاب لن تتمكن من القضاء على المسلمين واجتثاث أصل دعوتهم والقضاء عليها كما جاؤوا يحلمون بذلك.
عند هذا الموقف الإيماني التربوي من الرسول إذا بالمنافقين يشككون في هذه الأخبار التي يخبر بها الرسول ، ويقولون: نحن محاصرون ونحفر الخندق لحماية أنفسنا وما بيننا وبين الموت إلا قليل ومحمد يعدنا أننا سنفتح قصور الروم وفارس! يسخرون ويهزؤون.
ثم من تخذيلهم كذلك أنهم بدؤوا يستأذنون النبي ليعودوا إلى بيوتهم وأهليهم، ويقولون: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، ولكنهم جبناء يريدون الهروب. حتى ذكرهم الله في كتابه وفضحهم فقال جل وعلا: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13]. يزعم المنافقون أن بيوتهم مكشوفة، ولذلك يريدون الرجوع إلى بيوتهم ليحموها، وهم كاذبون، إنما يريدون الهروب خوفًا من القتال. هكذا كان الوضع. لكن كيف كان حال المؤمنين؟ لقد كان حالهم هم ورسول الله كما وصف الله حال المؤمنين قبل معركة بدر، حيث أخذوا يسألون عن كفار قريش، فأخذ الناس يقولون لهم: إن قريش قد أعدت لكم وجمعت لكم، فكان رد رسول الله وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل. قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟! قال الله تعالى مبينًا ما جعله الله لهم جزاء على اعتمادهم على ربهم وتوكلهم عليه: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
ثم بين الله تعالى للمؤمنين بل وللناس كلهم أن هذه الجموع لا يخافها المؤمنون، لا يخافها محمد وأصحابه، بل يخافها الذي خلا قلبه من الإيمان والتوكل على الله، فيقول سبحانه: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. نعم عباد الله، إن أولياء الله لا يخافون جموع الكفر ولو كثرت، إنما يخاف ويخشى هذه الجموع أولياء الشيطان، أما من كان الله وليه فقد قال الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
عباد الله، إن الخوف قد يقع وقد ينال كل النوعيات وكل المستويات الإيمانية، لكن الموقف الناتج عن الخوف يختلف من إنسان لآخر، وهنا موضع الأسوة والقدوة؛ فالمؤمنون في الخندق خافوا وبلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا، فالمؤمنون الصادقون الصديقون رغم ما وقع بهم من الخوف والفزع قال الله تعالى عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وأما المنافقون الذين أصابهم الخوف واقتلع قلوبهم الرعب فقال الله تعالى عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]. لقد زاد الخوف المؤمنين إيمانًا وتسليمًا، وزاغت عقيدة المنافقين قبل أن يزيغ بصرهم وقالوا: إن محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ولا يأمن أحدنا أن يخرج إلى حاجته, أو لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! فقارن بين الموقفين، وتأمل الحالين؛ لتعلم حال المؤمنين وتستمسك بغرزهم وتفوز فوزًا عظيمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، أما رسول الله فلقد كان هو القمة التي لا يرقى إليها أحد في الثقة بالله والثبات أمام العدو؛ فعندما بلغه أن بني قريظة قد نقضوا عهدهم الذي عاهدوه به واشتركوا مع الأحزاب في حرب المسلمين وخانوا الله ورسوله قال: ((الله كبر، أبشروا يا معشر المسلمين)). وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) ذكر ذلك الواقدي في المغازي.
أيها الموحدون، وحيث إن المعركة بين رسول الله والأحزاب معركة عقيدة فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى وحده أن يكشف الغم ويزيل الكرب، فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله يوم الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)). وقد حرص رسول الله أن يؤكد لصحابته الكرام ثم للمسلمين جميعًا أن هذه الأحزاب العظيمة لم تهزم من المسلمين رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده، بالمسلم الذي أسلم في قلب المعركة واندفع يخذل العدو، وبالريح التي قلبت قدورهم واقتلعت خيامهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا حتى قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال َ [الأحزاب:9-25]. يقول مؤكدًا ذلك كما عند البخاري: ((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)). إنها التربية الإيمانية، التربية على البراءة من الحول والطول، التربية على نسبة الفضل إلى الله وعدم الاغترار بالأسباب المادية.
إننا ـ أيها المسلمون ـ لا ننصر بكثرة العدد ولا العدة، بل ننصر بإيماننا بالله ويقيننا بموعوده، ننصر بطاعتنا لله واجتناب ما يغضبه سبحانه. بل إنه عندما اغتر المسلمون بعددهم أذاقهم الله مرارة الهزيمة، قال تعالى حاكيا ذلك في سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [التوبة:25، 26]. إنه درس تربوي لأولئك الذين ظنوا أن كثرتهم ستكون سببا أكيدا للنصر، فأراهم الله ماذا يصنع التعلق بالأسباب الدنيوية مع نسيان العون الإلهي والمدد الرباني؛ لذا فإن علينا اليوم خاصة أن نحيي هذه العقيدة في نفوسنا، وأن نغرسها في نفوس المسلمين عامة؛ ليعلم كل مسلم أن نصر الله قريب وسهل، إن نحن توكلنا على الله مع بذل الأسباب، وتعلقت قلوبنا به سبحانه، وتبرأنا من كل شيء إلا الله. وعند ذلك فلن يهزمنا ـ والله ـ أقوى وأعتى الأعداء؛ لأن الله مولانا ولا مولى لهم.
(1/4751)
سورة العصر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
محمد بن حمد الخميس
الدمام
23/10/1426
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزات الرسل عليهم السلام. 2- عظمة القرآن الكريم. 3- فضل تدبر القرآن الكريم. 4- تفسير سورة العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والجد في طلب رضاه، فإن من اتقى الله وقاه، ومن اجتهد في طاعته نال عفوه وأدرك مبتغاه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثم أما بعد: أيها الأحبة في الله، إن الله جل في علاه جعل لكل رسول من الرسل معجزة خصه بها؛ ليصدّقه قومه، أو يقيم عليهم الحجة إن كذّبوها، فموسى عليه السلام حينما بعث في قوم بلغوا من السحر ذروتَه وغايته جعل الله معجزته العصا، فإذا بها تبطل سحرهم وتذهب كيدهم، فأظهرت الحق وأبطلت الباطل بإذن الله، وعيسى عليه السلام بلغ قومه في الطب مبلغًا عظيمًا، ونبغوا في فنونه نبوغًا فائقًا، فإذا به يأتي بمعجزة فاقت طبهم، وعلمٍ يفوق قدرتهم وإمكاناتهم، فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، وأما رسولنا وعظيمنا محمد فأرسل في أمّة فصيحة في لغتها مجيدة في بيانها، فأنزل الله عليه القرآن العظيم، فدهشوا من بيانه، وبهتوا من تبيانه، وحاروا من فصاحته وقوة صياغته، سمعه شاعر من شعرائهم وزعيم من زعمائهم وهو الوليد بن المغيرة فلم يستطع تكذيبه، ولم يقدر على دفعه ورده، بل شهد شهادة الحق، ووصفه بوصف الصدق فقال: "إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه"، والحق ما شهدت به الأعداء.
أحبتي في الله، ما تدبر كتاب الله متدبّر إلا وفقه الله وهداه، ومن سبل الغواية نجاه، كتاب الله تعالى مَن حكم به عَدل، ومن استرشد بنهجه رشَد، كتاب الله تعالى من عمل به دخل الجنة، ومن جعله خلفَ ظهره قذفه في النار، كتاب الله تعالى أمِرنا بتدبّر آياته، ونهِينا عن هجره والابتعاد عن عظاته، قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
أحبتي في الله، سنقف وإياكم وقفات مع بعض السور من القرآن، نتدبر بعض ما فيها من العظات، ننهل من بحارها الزاخرة، ونقطف من ثمارها اليانعة. نبدأ اليوم بسورة عظيمة من سوره، ودرّةٍ غالية من درره، هذه السورة جاءت تنشر عطرها الشاهد بفلاح المؤمنين وخسران الكافرين، وعلى الرغم من قِصَر هذه السورة العظيمة إلا أنها رسمت منهجًا متكاملاً وحياةً وافيةً للمسلم الحق؛ وذلك بأخصر عبارة وأجمل بيان، فهي سورة ذات آيات ثلاث، جمعت علوم القرآن وغاياته.
في هذه السورة يتمثل نهج الإسلام وطريقه، وتبرز معالمه وأركانه. هذه السورة الكريمة تؤكد أنه ليس للنجاة إلا طريقٌ واحدٌ على امتداد الزمان في جميع الأعصار وامتداد الإنسان في كل الأمصار. ثبت عند الطبراني أن الرجلين من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
ارتكزت هذه السورة العظيمة على معالم أربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
بُدئت هذه السورة بالقسم بالعصر، وهو الدهر كله أو جزء منه، وقال بعض المفسرين: إنها صلاة العصر. إن في قسم الله سبحانه بالعصر دلالة على عظم هذا المخلوق، فإن العصر هو منتهى النهار ومُقْتَبَل الليل؛ ولذلك أصبحت صلاة العصر من أفضل الصلوات، ومن حافظ على أدائها كانت له طريقًا إلى الجنة. جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله: ((من صلّى البردين دخل الجنة)) ، والبردان: الصبح والعصر. وبالمقابل من فرط فيها ولم يحافظ على أدائها وتكاسل عن ذلك كانت سببًا لحبوط عمله، يقول المصطفى كما في الصحيحين: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)).
وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، هذا هو جواب القسم، يؤكّد خسارة الإنسان, كل إنسان، الأحمر والأسود، العربي والأعجمي، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [إبراهيم:18]. ولا ينجو ولن ينجو إلا من استكمل أسباب النجاة التي دلت عليها السورة الكريمة، وأولها وأهمها الإيمان بالله وبما جاء من عند الله، الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته. إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون.
الإيمان: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
الإيمان: نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه. فالمؤمنون في رياض المحبة وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، ورضي عنهم فرضوا عنه، اقتربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات، كما في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). نسأل الله تعالى أن نكون من أهل محبته ورضوانه.
الإيمان: شعور يختلج في الصدر، ويبعث في القلب الثقة بالله والأنس بالله والطمأنينة بذكره، أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
الإيمان: شعور بأنك ذرّة في كون عظيم هائل، متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله، فسبحان من آمن له الكون أجمعه، وسبحان من سبَّح له الكون كله، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يمتلكها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان.
الإيمان كما فسره لجبريل عليه السلام أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. هذا المعنى العظيم للإيمان ينعكس على حياة المؤمن، فيسعدها في الدنيا، وينجيها في الآخرة.
فالإيمان بالله يشعر العبد بأن الله يراقبه في أفعاله صغيرة كانت أو كبيرة، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]. إذا استشعر العبد هذه المعيّة سابق إلى الخيرات وخضع مستجيبا لربّ الأرض والسماوات
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
ولا تَحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله لعلمه أن الملائكة معه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ترافقه وتراه وتحصي عليه أعماله بسجلات محكمة، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.
والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتزّ بكلام الله ويتقرب إليه بتلاوته والعمل.
والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم، فيتخذهم أسوة وقدوة، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حبّ الخير، ليلقى ثوابه في جنات النعيم، ويكرّه في النفس الشرّ ودواعيه خوفا من نار تلظّى ومن وقوف بين يدي المولى.
والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها ولا ترجو ما سوى ربها، لا تقنع إلا بالله، ولا تلجأ إلا لله، تزهد بالموت ولا تبالي، لا تخضع للطغيان، بل تخضع للرحمن، ولسان حالها يقول:
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والْموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالِي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف
هات ما عندك هاتِ، معي الإيمان يهديني ببحر الظلماتِ، بلسم الإيمان ينجي مركبي والموج عاتي، هل ترى الإعصار يومًا هزَّ شُمًّا راسيات؟! كل ذلك يدفع العبد إلى عمل الصالحات وحب الخيرات وترك المنكرات؛ ولذلك قال الله بعدها: إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ. فالعمل الصالح ميدان العاملين وسمة المؤمنين وديدن الموحدين، لا يطمئنون إلا إليه، ولا يتنافسون إلا فيه، ولا يتسابقون إلا عليه، يتفانون في حبه، ويسابقون لكسبه، ولا يحيدون عن دربه. والإيمان بلا عمل كالجسد بلا روح، وكالشجر بلا ثمر، ولذلك يجمع القرآن دائمًا بين العمل والإيمان، ليلفت نظر الإنسان أنه لا قيمة لإيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]. وتحديد مصير الإنسان يوم القيامة مبني على إحسان العمل أو إساءته، إن أحسن فله الجنة مع الأبرار، وإن أساء فما له إلا النار، قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:14-16].
والإيمان لا يعني أن يكون المؤمنون قابعين في بيوتهم، لا يهمهم أمر الإسلام ولا المسلمين، فأهل الإيمان يتواصون بالحق واتّباع سبله ونبذ الباطل ومسالكه؛ ولذلك قال الله تعالى بعد الإيمان والعمل الصالح: وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ. فهم يتواصون بحقّ بعضهم على بعض، وبحقوق أهل الإسلام عليهم، وبحقوق الله عليهم من الدعوة إلى دينه وتعظيم حرماته وترك مساخطه وغضبه، ويتواصون بالثبات على طريق الإيمان.
فإذا عمل المؤمن الصالحات وتواصى بالحق احتاج إلى الصبر عليها والمجاهدة في متابعتها واستمرارها ونبذ المحرمات واجتنابها؛ لذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يتواصون بالصبر: وَتَوَاصَوْاْ بِالْصَّبْرِ أي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر على أقدار الله، والصبر على طاعة الله، وترك ما حرم الله، فهم يتواصون بالصبر بأكمل صوره وأجلى معانيه، فتراهم يذكر بعضهم بعضا بقول النبي : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) ، ويذكر بعضهم بعضا بالموقف العظيم يوم ينظر الله للناس وهم في عرصات القيامة، ثم يقول لأناس منهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: يا ربنا، ويا مولانا، قد حاسبتَ الناس وتركتنا! فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعِزّتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة، فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم بسبب صبرهم واحتسابهم. وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: ((ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) حديث صحيح، وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول لملائكته: ((قبضتم ابن عبدي المؤمن، قبضتم ثمرة فؤاده، وهو أعلم سبحانه، فتقول الملائكة: نعم، فيقول: وماذا قال؟ وهو أعلم جل وعلا، قالوا: حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيتَ الحمد)) حديث صحيح. وَبَشِّرِ الصَّابِرِين الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155، 156].
أيها الأحبة في الله، لا يزال أهل الإيمان كذلك, إيمانهم راسخ وعملهم دائم، يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، حتى تنقضي دنياهم فيعيشون بعد بعثهم الحياة الحقيقية والنعيم المقيم, حينها يعلم أهل الباطل وطلاب الدنيا أنهم ما كانوا إلا في خسران، وأنهم لم يذوقوا شيئًا من نعيم الدنيا.
فعلى من أراد أن يكون في عداد أولئك, ما عليه إلا أن يطبق هذه المعاني الجليلة في هذه السورة العظيمة تطبيقًا عمليًا، وصدق الشافعي إذ يقول: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم". وللحديث بقية عن سورة أخرى من سور القرآن العظيم.
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم. اللهم اجعلنا لكتابك من التالين، وللذيذ خطابه من المستمعين، ولأوامره من العامِلين، ولنواهيه من المستجيبين يا رب العالمين.
قلت ما قد سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4752)
إنما المؤمنون إخوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعد بن مبروك المطيري
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتحابب في الله تعالى. 2- الطريق إلى الأخوة في الله. 3- من صفات المؤمنين. 4- حقوق الأخوة. 5- مقياس الأخوة الصادقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن المؤمنين إخوة في الدين، سماهم الله بذلك في كتابه المبين، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، وقال النبي : ((وكونوا عباد الله إخوانا)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((حتى يحبّ لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وفي رواية لأحمد: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحبّ للناس من الخير ما يحب لنفسه)) ، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويأتي الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)).
فهذه الأحاديث وما جاء بمعناها تدلّ على أن المؤمن يسرّه ما يسرّ أخاه، ويخزنه ما يحزنه، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير. وهذا إنما يأتي مع سلامة المسلم من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في نعمة أو يساويه فيها؛ لأنه يحب أن يمتاز على الناس وينفرد عنهم بالنعمة، والإيمان يقتضي خلافَ ذلك، وهو أن يشاركه المؤمنون كلهم في مثل ما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.
وقد مدح الله تعالى في كتابه من هذه صفته، من كانوا لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، فقال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، قال عكرمة وغيره في هذه الآية: "العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند السلطان، والفساد: العمل بالمعاصي"، وقال تعالى في مدح المؤمنين أيضا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. فمن صفات المؤمنين سلامة قلوبهم وألسنتهم لإخوانهم المؤمنين السابقين واللاحقين والثناء عليهم والدعاء لهم بالمغفرة مع الدعاء لأنفسهم، ولا سيما السابقين الأولين من صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فمن وجد في نفسه بغضا لأصحاب رسول الله أو تنقصهم فليس بمؤمن, وقد قال النبي : ((لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)). فقاتل الله أولئك الأقوام الذين يسبون أصحاب رسول الله وخلفاءه الراشدين ويتنقّصونهم، وقد قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. فهذا يدل على أنه إنما يغتاظ من أصحاب رسول الله الكفارُ، وأما المؤمنون فإنهم يحبونهم ويتولّونهم ويستغفرون لهم.
عباد الله، ينبغي للمؤمن أن يحبّ للمؤمنين ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن رأى مِن أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد في إصلاحه، فلا يكون مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يغتابه أحد فكيف يغتاب أخاه وقد قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]؟! وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسعى أحد بينه وبين أحبابه بالنميمة فكيف يسعى هو بين إخوانه المتحابين بالنميمة ليفسد ما بينهم وقد قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10، 11]، وقال النبي : ((لا يدخل الجنة نمام)) ؟! وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسخر منه أحد أو يستهزئ به أحد فكيف يسخر من إخوانه ويستهزئ بهم ويتنقّصهم وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةْ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29، 30]؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يغشَّه أحد في بيعه وشرائه فكيف يغشّ إخوانه ويخدعهم في معاملاته معهم؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يؤذيه جاره فكيف هو يؤذي جيرانه وقد قال النبي : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) ؟! إذا كان المؤمن لا يرضى أن يظلم فكيف يظلم الناس؟! وإذا كان المؤمن لو خطب امرأة أو باع سلعة أو اشتراها لا يرضى أن يفسد عليه ذلك أحد فيخطب على خطبته أو يبيع على بيعه أو يشتري على شرائه فكيف يصدر منه ذلك في حق إخوانه المؤمنين وقد قال النبي : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا)) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يبع المؤمن على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) ؟!
عباد الله، هذا قول الله جل جلاله وقول رسوله في إخوة الإسلام، وفي تحقيق تلك الأخوة في المسلمين الأولين منهم والآخرين إلى يوم الدين، فهل عرف المسلمون ذلك ولزموه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:11، 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لقد بيّن النبي المقياس الصحيح للمؤمن الحقيقي في كلمة مختصرة جامعة، وهي قوله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). فإذا كان يحب لنفسه الخير فليحبه لإخوانه، ويجتهد في جلبه لهم، وإذا كان يكره لنفسه الشر فليكرهه لإخوانه، فيصرف شره عنهم، ويجتهد في صرف شر غيره عن إخوانه. وتلك قاعدة نافعة ووصية جامعة، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الاتّصاف بها والبعد عما يضادّها، إنه قريب مجيب.
ألا وصلوا على سيد الأولين والآخرين وأفضل خلق الله أجمعين محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله فقال جل من قائل عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا...
(1/4753)
سقوط بغداد
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عمر بن محمد رزق الله
جدة
9/2/1424
مسجد الإمام مالك
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات عن سقوط بغداد. 2- العدوان الأمريكي على بغداد. 3- الأمر كله لله تعالى. 4- عاقبة الظالمين. 5- طغيان أمريكا. 6- دروس من الأزمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، سقطت بغداد، ووقف الجميع مذهولين لما يحدث، كيف حدث هذا؟! ولماذا حدث؟! وهل ما نشاهده حقيقة أم خيال؟! كيف سقطت بغداد بهذه السرعة وهي المدينة الرئيسة والتي من المفترض أن تكون أكثر صمودا وأشد مقاومة؟! أين عبارات التهديد بجعل بغداد مقبرة للغزاة؟! أين مئات الآلاف من الجنود والحرس والثوريين والفدائيين؟! هل هي صفقة ما بين نظام عميل خائن ومحتل غاصب، أم هو الانهزام الحتمي أمام التقنية الحربية والتكنولوجيا التي لا يمكن أن تنهزم، أم هي خطة عسكرية لها ما وراءها؟! ما الذي يحدث بالضبط؟!
وفي الحقيقة ـ أيها الإخوة ـ ما جئت اليوم لأحلل لكم تحليلاً سياسيًا ولا عسكريًا لما يحدث، وليس هذا من اختصاصي، وإنما أريد أن أبين موقف المسلم البصير بدينه، وأريدكم أن تفكروا معي وأن تنتبهوا لما سأقوله جيدًا.
نحن المسلمون نتميز عن غيرنا بأن لنا ربًا نعبده، وكتابًا أنزله نقرؤه ونتدبره، فصل لنا فيه كل ما حصل وما سيحصل، ذكر لنا كل أمورنا الشرعية والدنيوية، بين لنا ربنا في كتابه وفي سنة نبيه كل شيء، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]. ومن هنا أريد أن أقرأ معكم ما حدث، وما هو موقفنا نحن المسلمين تجاه ما حدث.
معاشر المسلمين، لا شك أن ما يحدث لإخواننا المسلمين في العراق يسوء كل مسلم؛ قتل وتدمير وتشريد وذل وفوضى، أطفال تموت، ونساء تنتهك أعراضهن، ورجال يبكون ويقتلون ويؤسَرون، من رأى منكم قطع اللحم إنها لشيء كانوا يسمّونه طفلاً، من رأى منكم الشاب العراقي المسلم وهو يقبّل يد الجندي الأمريكي المسلم، من رأى منكم الرجال يُركَلون وتسلسل أيديهم وأرجلهم، مناظر مخزية وجبروت أمريكي متسلّط ومتجاوز لحده، بغداد عاصمة الحضارة الإسلامية يدمرونها باسم الحرية، وينتهك شرفها باسم الديمقراطية، أين هم مما يحدث الآن من فوضى وسلب ونهب وقتل وإحراق في مدن العراق إذا كانوا جاؤوا لنشر الحرية والديمقراطية؟! فلماذا توجهوا لوزارة النفط وتركوا الشعب يتقاتل ويحترق؟! إن مآذن بغداد صارت ركامًا وأطفالها قطعًا من اللحم، إنها تحترق بقنابل ومتفجرات زِنَتها الأطنان وآلاف الكيلوغرامات، والخونة يصفقون على مشهد من النار والأشلاء، ويردد الخائبون وراء القتلة: "لا بد للحرب من ضحايا".
أقول: أيها الإخوة، إنها حال مؤسفة، لكن الذي يُثبّت المسلم ويطمئن قلبه أنه يعلم أن الأمر بيد الله تعالى وحده، فهو الذي أعطى هذه الدولة هذه القوة وهذا الجبروت، وهو الذي سينزعها قوتها ويبدلها ضعفًا وذلة، قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. فالأمر لله وحده، وهو سبحانه المقدّر والمدبر لأمر هذا الكون، كما أن من قدر الله أن الظالم لا بد أن ينال جزاءه ويلقى جزاء ظلمه، فالظلم مرتعه وخيم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وعلى الظالم تدور الدوائر، وكما قال شيخ الإسلام: "فالعدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة".
إن الإنسان إذا اتبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه. لقد وقع الظلم من نظام ظالم مستبد فكان السقوط مصيره.
إن ما حدث في بغداد أيًا كان تفسيره إنما هو نتيجة لامتهان الشعب واستعمال الحديد والنار في سياسة الشعب المسلم المقهور على أمره. إننا لا يجب أن نلوم ما حصل من العراقيين من فرح وهتاف؛ إنهم منذ 30 سنة وهم لم يتنفسوا هواء الحرية ولم يذوقوا إلا طعم القوة والبطش والسجون والقتل، لقد فرحوا حين شاهدوا قوة أكبر من قوة صدام وقوة دحرت صداما وجيشه العرمرم ومخابراته القوية وفدائييه الذين ذابوا ككرة الثلج تحت لهيب الشمس المحرقة، لقد وقع الظلم من الحاكم الطاغية فكان هذا جزاءه، ويقع الظلم من أمريكا المعتدية الظالمة لأنها دولة معتدية تخصصت في اغتيال المدن وقتلها بدءًا من هيروشيما ومرورًا بفيتنام وانتهاء ببغداد، ولا ندري من سيكون في المستقبل.
أمريكا تعد الناس بالجنة جنة الديمقراطية والحرية، ثم ها نحن نشاهد جنتها قتلاً وتشريدًا وحرقًا وتدميرًا. إنها تنتهك القوانين السماوية والأرضية، وترتكب جرائم الحرب، تنتهك سيادة الدول، وتهدد الجميع، وتغير الأنظمة دون استئذان من أحد. بدأت بأفغانستان، وها هي في العراق، ولا ندري على من سيأتي الدور بعد ذلك.
إن أمريكا تحتج على عرض الأسرى وهي التي اختطفت رجالنا وشبابنا ووضعتهم في أقفاص كالحيوانات المتوحشة في جزيرة نائية في المحيط، في عرف أمريكا أن تكون مسلمًا فذلك يعني أنك لا إنسان ومطرود من جنتهم الموعودة ومعاقب أينما كنت، ويتكفل بك صاروخ كروز ذكي يتبعك حيث سرت ويحيلك إلى شظايا باسم مكافحة الإرهاب. إنهم يتحدثون عن اتفاقية جنيف وهم الذين داسوا على النظام الدولي كله وأداروا أظهرهم لكل ما يسمى بالشرعية الدولية. وإذا كانت هذه هي أمريكا فسيكون السقوط المريع مصيرها لا محالة. ويقع الظلم ممن يعاون أمريكا ويقف معها ضد الشعب المسلم فسيكون العقاب المؤلم مصيرهم، أين الذين أنكروا الجهاد من أجل أمريكا؟! وأين الذين تباكوا على قتلى أبراج التجارة وأدانوا الإرهاب وقتها؟! أين هم من الموت المجّاني في العراق للأطفال والنساء والشيوخ؟! جميع هؤلاء سيلفظهم التاريخ من صفحاته، وسيكونون في مزبلة التاريخ، وإن التاريخ لن يرحم المتخاذلين. وهكذا لا يترك الله الظالم وشأنه بل يأخذه شر أخذة أيا كان هذا الظلم بكلمة أو إشارة أو رأي.
معاشر المسلمين، إن من سنة الله أنه إذا أراد أن يظهر الحق أقام من يعارضه من أهل الباطل، فيظهر الحق على أثر الباطل. إن دين الله غالب، والعاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها عباده الصالحين المؤمنين، ولن يمكن الظالمون الكافرون حتى يبعث الله من أهل الإيمان من يجدد لهذه الأمة دينها وجهادها، فيرفع الله به شأن الأمة. لا بد أن يستقر في ذهن وقلب كل مسلم أن الإسلام هو المنتصر، وأن جولة الظلم ساعة، ولكن العاقبة للإسلام إلى قيام الساعة، ومهما تجبر الكافر فسيدحره المسلمون بإذن الله، وكل ما نحتاجه هو أن نكون مؤهلين لنصر الله لنا؛ ولذلك فإنني أسأل كل واحد: ماذا استفدنا من هذه الأزمة؟ هل علمتنا الأزمة أن نعود لربنا وأن نكون على قدر من الجدية والالتزام بديننا؟ هل علمتنا الأزمة أن نتوكل على ربنا ونثق به ونركن إليه ونحمل أمورنا وهمومنا وآلامنا لربنا؟ هل تعلمنا أن نحافظ على الصلوات ونقترب من الله؟ هل سأل أحد منا نفسه أن ما حدث في العراق الشقيق من الممكن أن يحدث لنا نحن؟ فماذا نحن فاعلون؟ هل سننهزم أم سيجد العدو رجالاً مؤمنين صادقين مصلين متوضئين مستقيمين؟ هل لا زلنا نبحث عن شهواتنا وملذاتنا والعالم يلتهب من حولنا أم استيقظت نفوسنا من غفلتها؟ هل أحيينا في أنفسنا معاني الجهاد الحقيقي جهاد النفس وجهاد الشيطان، كره الكفار وبغضهم وحب المسلمين كل المسلمين؟ هل شعرنا في هذه الأزمة بمعنى قوله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، وقول الرسول : ((المسلم أخو المسلم)) ؟ هل كانت تؤلمنا مناظر القتلى والجرحى والنساء والأطفال المسلمين؟ هل سأل أحدنا نفسه: ماذا لو كان هذا أخي وتلك أختي وذلك طفلي؟
أيها الإخوة، إنه ليس بين الله وأحد من خلقه نسب إلا بالطاعة، وبالطاعة تدوم النعم، كما أنه بالمعاصي تزول وتفنى، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
معاشر المسلمين، لا بد أن نستمرّ في الدعاء للإسلام والمسلمين، وأن ينصر الله عباده المجاهدين، إننا لا ندعو لنظام ظالم ولا لحكومة جائرة، بل ندعو لشعب مسلم، ندعو لأطفال أبرياء ونساء لا ذنب لهن وشيوخ لا يملكون من أمرهم شيئًا، نحن ندعو للأمة المسلمة، وندعو على أعداء الله الكفرة الظالمين المعتدين، وندعو ربنا أن يحفظ بلاد المسلمين، ولذلك فلنستمر في الدعاء والتضرّع لإخواننا المسلمين في العراق وفلسطين وفي كل مكان، ونستمر في مقاطعة المنتجات الأمريكية والبريطانية، المقاطعة هذا السلاح الفعال الذي أثبت فعاليته وجدواه.
أيها الإخوة، إن واجبنا كبير ودورنا عظيم، وكل ما يفعله المسلم لنصرة دين الله بكلمة أو رأي أو إشارة أو فعل أو دعاء، وأعظم شيء أن ننصر دين الله في أنفسنا فنستقيم على دين الله ونسلك الطريق المستقيم ونلتزم بالصلاة وبالدعاء وبالذكر وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى، أسأل الله أن يلطف بنا بلطفه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4754)
الحاجة إلى التفاؤل
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
18/6/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلّب أحوال الحياة. 2- حال الأمة الإسلامية. 3- الحاجة إلى التفاؤل في أوقات الأزمات. 4- تفاؤل الرسول. 5- ثمرات التفاؤل. 6- خطر التشاؤم والاغترار بالأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الحياة تتقلّب صفحاتها بين خير وشدّة وسرور وحزن، وتموج بأهلها من حال إلى حال؛ بسطٌ وقبض، سراء وضراء، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. وفي الحياة مصائب ومحن وابتلاءات، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155].
وفي الأمة اليوم حالة مُرعبة من قلب المآسي، تصدُّعُ وحدتها، تفرُّق كلمتها، اشتداد البأس وألوان البلاء من قتلٍ وتشريد مع فشوّ الجهل، ولما أصابها من نكبة الذلّ والهوان وتكالب الأعداء. وفي الأمة انتشار الفساد والتحلّل بين أبنائها بصنو الإغواء والإغراء.
أحداث الحياة وشدائدُ الأحداث وأحوال الأمة قد تورث المرءَ لونا من اليأس والقنوط الذي هو قاتلٌ للرجال ومثبِّط للعزائم ومحطّم للآمال ومزلزل للشعور. وفي أوقات الأزمات تعظم الحاجة لاستحضار التفاؤل، والمتأمّل في سيرة النبي يجد تأكيده الأكيد والحرص الشديد على التبشير في موضع الخوف وبسط الأمل في موضع اليأس والقنوط؛ حتى لا تُصاب النفوس بالإحباط. قال خباب بن الأرتّ رضي الله عنه: أتيت النبي وهو متوسّد بردَه، وهو في ظلّ الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرّ وجهُه فقال: ((لقد كان من قبلكم ليمشَط بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) رواه البخاري.
ويبشّر الرسول عديّ بن حاتم بمستقبل عظيم لهذا الدين فيقول: ((لعلّك ـ يا عديّ ـ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم)) ، قال عديّ: فأسلمت.
من قلب رحِمِ الفتنة ينطلق الصوت الكريم بالتفاؤل، يقول رسول الله : ((والذي نفسي بيده، ليفرّجنّ الله عنكم ما ترون من شدّة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكنّ الله كسرى وقيصر، ولتُنفقُنّ كنوزهما في سبيل الله)).
هكذا يكون الرجال بالإيمان، يحوّلون الألم إلى أمل، والتشاؤم إلى تفاؤل، والضيقَ إلى سعة، والمحنة إلى منحة، فتتقدّم الحياة وتنمو ويستمرّ عطاؤها.
المسلم المتفائل لا يسمح لمسالك اليأس أن تتسلّل إلى نفسه أو تعشّش في زوايا قلبه، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
ومع ترادفِ صنوف البلاء على يوسف عليه السلام ثبت ولم يقنط ولم ييأس، فجاءه نصر الله وجعله على خزائن الأرض.
غمر التفاؤل حياة النبي ، ورسّخه مبدأً ساميًا، وربّى عليه الأوائل الأفذاذ. نزل في علوّ المدينة في حيّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف كما في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. رأى راعيًا لإبل فقال: ((لمن هذه؟)) فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((سلمتَ إن شاء الله)). بدّل اسم امرأة تدعى: عاصية إلى جميلة، واسم رجل يدعى: أصرم إلى زرعة. وفي الحديبية جاء سهل يفاوض النبي عن قريش، فتفاءل رسول الله وقال: ((سهلٌ إن شاء الله)).
هذه هي القيادة الرائعة التي تلتمس الأسباب؛ لتنشر وتبذر في النفوس التفاؤل.
"تفاءلوا بالخير تجدوه"، ما أروعها من كلمة، وما أعظمها من عبارة. المتفائل بالخير سيحصد الخير في نهاية الطريق؛ لأن التفاؤل يدفع بالإنسان نحو العطاء والتقدّم والعمل والنجاح، وكما قال ربنا تبارك وتعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، فاجعل في قلبك خيرًا وأبشر.
أعلى التفاؤل توقّع الشفاء عند المرض والنجاح عند الفشل والنصر عند الهزيمة وتوقُّعُ تفريج الكروب ودفع المصائب والنوازل عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يولّد أفكارَ ومشاعر الرضا والتحمّل والأمل والثقة، ويبعد أفكار ومشاعر اليأس والانهزامية والعجز.
أساس التفاؤل الثقة بالله والرضا بقضائه، وغذاؤه علمُ المؤمن أنّه لن يصيبَه إلا ما كتبه الله له؛ فهو سبحانه الذي يملك كلَّ شيء، فلا يستبطئ الرزق، ولا يستعجل النجاة، ولا يقلق على حال الأمة. يتفاءَل حتى لو نزلت به مصيبة أو دهمه مرض أو فقر أو فقد ولدًا أو زوجة. يتفاءل مع العمل على دفع ما يقدر من بلاء أو تخفيف ما نزل بأمته من ضرّ، ثمّ يطمع في ثواب الصبر وتحمّل المشاقّ. نتفاءل لأنّ في كلّ محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، تقول أمّ السائب: الحمّى لا بارك الله فيها، فينهاها النبي : ((لا تسبّي الحمّى)) ؛ فلها فوائد: تهذّب النفس وتغفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، قال : ((ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة)) رواه مسلم.
ففي معترك المصائب أوقِد جذوةَ التفاؤل، وعِش في أمل وعمل ودعاء وصبر، ترتجي بعض الخير وتحذر الشرّ. كان النبي إذا استسقى قلب رداءه بعد الخطبة تفاؤلا بتحوّل حال الجدب إلى الخصب.
التفاؤل الذي نتحدّث عنه هو الذي يولّد الهمّة ويبعث العزيمةَ ويجدّد النشاط. المسلم المتفائل متوكّل على الله، أكثر الناس نشاطًا، أقواهم أثرًا، كلّ عسير عليه يسير، وكلّ شدّة فرجُها آتٍ وقريب. المتفائل دائمًا يتوقّع الخير، يبتسم للحياة، يحسن الظنَّ بالله، والله عز وجلّ بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه سيكشف الضرَّ الذي نزل بالأمّة، وسيجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، يرجو رحمة الله، ويتعلّق بحبل الله المتين، وتلك ثمرة الإيمان، قال رسول الله : ((إنّ حُسن الظنّ بالله من حسن عبادة الله)).
ونحن بحاجة إلى الأمل الذي يحيي النفوس، والعمل الذي يرفع عن الأمّة حالة الذلّ والهوان، وأخطر الناس من عاش بلا أمل، يسقط فلا ينهض؛ ذلك أن اليأس يسوق إلى الأفعال اليائسة، فإذا كان المرء مصابًا بالقنوط مما نزل به من مصائب أو يأسٍ من إصلاح الناس غدت الحياة في منظاره سوداء، يكره الناس، لا يثق بهم، وقد يندفع للانتحار أو العنف والقتل الذي هو الأسلوب الناجع بزعمه وضلاله، قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127، 128].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه، وسلَّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ.
الحديث بالتشاؤم عن حال المسلمين يفتّ في عضد المسلمين، ويصيب بالحزن والقنوط. الذي يردّد كلمات الخوَر والاستسلام يظنّ أنّه بذلك قد وجد لنفسه عذرًا يتخلّص به من محاولة القيام بالواجب، ومن كان هذا حاله لا تسري في عروقه روح الأمل، فلن يصنع تأريخا، ولن يبني خيرًا، ولنستمع إلى رسول الله وهو يهذّب النفوس ويربيها على العطاء والخير، يقول: ((إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم)) رواه مسلم.
إن كثرةَ الكلام عن قوّة الأعداء من الكفار قد تورث القلوب وهنًا، فتتوهّم الضعف وقوّة الحيلة، فيجرّها ذلك إلى اليأس وترك العمل، ويفضي ذلك إلى إطلاق الأحكام على الناس واعتزالهم وتكفيرهم. ودواء ذلك أن تمتلئ النفوس بالثقة بالله والتصديق بوعده، ثم تبذل الأسباب لتحقيق ذلك بالعمل والبناء، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
وفي ميدان الدعوة تفاؤلٌ وتيسير وتبشير، قال : ((يسّروا ولا تعسّروا، وبشروا ولا تنفروا)). أما الذي يتنطع في دعوته ويتشدّد في قوله وسلوكه يثبّط العزائم ويحطّم المعنويّات وينفّر من النصر، وهذا حال المتشائم، لا عمل لديه، ولا همّة في نفسه، ولا غاية تحدوه، ولا هدف يدفعه، [خمود] وأوهامٌ وأحلام، وعملُه تعداد السلبيات وسوء ظنّ بالآخرين. هذا عبءٌ على مجتمعه وأمته، يعيش على هامش الحياة صغيرَ الشأن خاملَ الذكر، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4755)
القوّة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
25/6/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مذاهب الناس في معنى القوة. 2- القوة الحقيقية. 3- قوة العقيدة ورسوخ الإيمان. 4- القوة في العبادة. 5- القوة في الأخلاق. 6- قوة الإرادة والعزيمة. 7- ضبط النفس وكظم الغيظ. 8- القوة البدنية. 9- ذم الكسل والخمول. 10- ضرورة التوكل على الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتَقوَى الله؛ فَهي النّجاة وسَبيل الفَلاح، فإنّ مَن اتّقاه وَقاه، وَمن سلَك سَبيلَه نجَّاه.
قال رَسولُ الله : ((المؤمِنُ القَوِيّ خَيرٌ وأَحَبّ إِلى الله منَ المؤمِنِ الضّعيف، وفي كلٍّ خَير)) رواه مسلم [1].
يَنطلِق كَثيرٌ منَ النّاس في فَهمِ مَعنَى القُوَّةِ والضَّعفِ مِن مَنظورٍ مادّيٍّ واعتباراتٍ أرضيّة مُسفّة، فهذا يُقدِّر القوّةَ والضَّعف بحسَب إقبالِ الدّنيا وإدبَارِها، وآخرُ يقدِّر القُوّةَ في فَهمِهِ بممارسةِ الجبَروتِ والقَهرِ والبَغيِ والطغيان، وثالثُ يَظنّ القوّةَ لمن له جَاهٌ أو حَظوَة مِن سلطان، ورَابعٌ يَركَن في قُوَّته إلى مَالِه أو ولدِه أَو مَنصبِه، وخَامِسٌ يَستَمِدّ قوّتَه مِن إجَادةِ فنونِ المكرِ والكَيدِ والخِداع والقُدرةِ علَى التلوّن حسَبَ المواقِفِ وَالأحوَال.
والقُوَّة ليسَت ذلك كلَّه، وإنّمَا هيَ قوّةُ العَقيدةِ والخلُق، القوّةُ في العِبادةِ والسّلُوكِ والجِسمِ والعِلم والصِّناعة والتّجَارة. تِلكَ القوّةُ التي تتَّجِه بجهدِ الإنسانِ إلى الخير وتَقودُه إلى الرَّحمة، وتجعَل منه أداةً يحِقّ الله بها الحقَّ ويُبطِل الباطِلَ.
وأعلى أنواعِ القوَةِ قوّةُ العقيدةِ وقوّة رسوخُ الإيمان، فصاحِبُ العقيدةِ القوِيّة يؤمِن بالله ويَتَوكَّل عليه، يعتَقِد أنّه معه حيثُ كان. ومِن أسرار قوّةِ العَقيدة أنّه لا يَستطيعُ إِنسانٌ كائنًا مَن كَان أن يمنعَك مِن رِزقٍ كَتَبه الله لك، ولا أن يُعطيَكَ رِزقًا لم يَكتُبه الله لك، بهذَا يَنقطِع حَبلُ اللّجوءِ إلى أغنياءِ الأرض وأقويَائِها، ويتَّصِل بحبلِ الله المتينِ، فهو المعطِي المانع والرَّزّاق ذو القوّة المتِين، يَقول رسول الله لابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما: ((يا غلام، إني أعلِّمُك كَلِمات: احفَظِ اللهَ يحفظْك، احفَظِ الله تجِدْه تجاهَكَ، إذا سَأَلتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا استَعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنّ الأمّةَ لو اجتمَعت علَى أن ينفَعوك بشيءٍ لم يَنفَعوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك)) الحديث [2]. وَلِقوّةِ العَقيدةِ قالَ رَسول اللهِ لِعُمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: ((والذِي نفسي بِيَده، ما لَقِيَك الشّيطانُ قطّ سالِكًا فجًّا إِلاّ سلَك فَجًّا غيرَ فجِّك)) رواه البخاري ومسلم [3].
بِقوّة العقيدةِ والإيمان جَعلَ الله لرسولِه مِن الضَّعفِ قوّةً، ومنَ القِلّة كثرةً، ومنَ الفَقرِ غِنى، لقد كانَ فَردًا فصارَ أمّةً، وكان أمّيًّا فعلَّم الملايِينَ، وكانَ قليلَ المالِ فصَارَ بالله أغنى الأغنياءِ، قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8].
المؤمِنُ القَوِيّ يَتَمَاسَك أمَامَ المصائبِ ويَثبُت بين يدَيِ البلاءِ رَاضيًا بقضاءِ الله وقَدَره، وقد صَوَّر هذا الحالَ رسولُنا : ((عَجَبًا لأمرِ المؤمِنِ، إنَّ أمرَه كلَّه خَير، وَلَيسَ ذَلكَ لأحَدٍ إلاّ لِلمؤمِن؛ إن أصابَته سرّاءُ شكَر فكانَ خيرًا له، وَإن أصابَته ضرّاء صبرَ فكانَ خيرًا له)) رواه مسلم [4].
وَالقوّةُ في العِبادةِ بالمحافظةِ عَلَى الفرائِض والاجتِهادِ في الطاعاتِ وَالتّنافس في الخيراتِ والتَّقرُّب إلى الله، فلاَ يمدّ يدَه إلاّ إلى الحَلال، ولا يعيشُ إلاَّ في الطاعَةِ والرِّضوَان، وقد كان رسولُ الله يَقوم حتى تَفطَّرت قدَماه، لا يتركُ قيامَ اللَّيل، وكانَ يتصدَّق بكلِّ مَا عِنده.
والقوّةُ في الأخلاقِ، لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بَعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاقِ فحسب، دونَ أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبَعضُ المسلمين اليومَ جمَع مِنَ العلمِ فأوعَى وخَلاَ من الخُلُق الأوفى.
القُوّةُ في الأخلاقِ دَليلُ رسوخِ الإيمان، فإلقَاءُ السلامِ عِبادةٌ، عِيادة المريض عِبادة، زِيارة الأخِ في الله عِبادة، تَبَسُّمك في وجهِ أخيك صَدَقةٌ وعِبادة.
ومِنَ القوّة ثَباتُ الأخلاقِ ورُسوخ القِيَم في الفرَح والشِدّة والحزنِ والألم، مع الصَّديقِ والعدوِّ والغَنيِّ والفَقير، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. ومن وصايَاه : ((وتَقتُلوا شَيخًا فَانِيًا ولا طِفلاً ولا صغيرًا ولا امرأةً)) رواه أبو داود [5].
لقَد فَعَل مشرِكو مَكّةَ برَسولِ الله ما فَعَلوا، آذَوه، حَاصَروه، اتَّهموه، كذَّبوه، أخرجوه، ثم شهَروا سيوفَهم ليقتلوه. وتمرّ السّنون، ويَعود رسولُ الله إِلى مكّةَ فَاتحًا مُتَوَاضِعًا للهِ مُتَذلِّلاً، يقول لهم: ((مَا ترونَ أني فاعلٌ فيكم؟)) قالوا: خيرًا؛ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطّلَقاء)) [6].
إنّه انتصارِ المبادِئ ورسوخُ القِيَم والقوّةُ في الأخلاق، وحاشا رَسولَ الله أن يَنتَقِمَ لنَفسِه أو يَثأرَ لشخصِه، وفي الحديث: وما انتقَمَ رسول الله لنَفسِهِ إلاّ أن تُنتَهَك حُرمةُ الله عزّ وجلّ [7]. وفي عالمنا اليومَ مَن تنتفِخ أَوداجُه وتحمرّ عَيناه ويصيبه الأرَق والقَلَق ولا يَهدَأ رَوعُه حتى يَثأرَ لنفسِه ويَنتقِمَ لشخصِه المبَجَّل، لكنّه لا يحرِّك سَاكنًا ولا يشعُر قَلبه بامتِعاظ إذا انتُهِكت محارمُ الله.
والقوّةُ في الإرادَةِ بمغالبَة الهوَى والاستِعلاءِ على الشَّهوات. وفي سِيرةِ نوحٍ عليه السلام تَرَى قوَّةَ العزيمةِ والإرادَةِ وهو يَسير في دَعوتِه ليلاً ونهارًا، سِرًّا وجِهارًا، يمرّ عَليه قومُه وهو يَصنَع السفينةَ، فيُلقُون على سمعه عباراتِ التَّهكّم والسّخريةِ، فلَم تهن عَزيمتُه ولم تَضعُف إرادَته؛ لأنَّه كان واثِقًا بنَصرِ الله، مُطمئنًّا إلى وَعدِه، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:38، 39].
قالَ ابنُ القيِّم رَحمه الله: "اعلَم أنَّ العبدَ إنما يقطَع مَنازلَ السَّيرِ إلى الله بقَلبه وهمّتِه لا بِبَدنِه، والتَّقوى في الحقيقةِ تقوَى القلوبِ لا تقوَى الجوارِح، قال : ((التقوَى ها هنا)) وأشار إلى صدره [8]. فالكيِّسُ يقطَع مِنَ المسافَةِ بصحَّةِ العَزيمة وعلُوِّ الهِمّةِ وتجريدِ القَصدِ وصِحّةِ النية معَ العملِ القليل أضعافَ أضعافِ ما يَقطعُه الفارغُ من ذلك مع التّعَبِ الكثير والسّفَر الشَّاقّ، فإنّ العزيمةَ والمحبّة تُذهِب المشقّةَ وتُطيِّبُ السَّيرَ، والتّقدّمُ والسّبقُ إلى الله إنما هو بالهِمَم وصِدقِ الرّغبة، فيتقَدّم صاحِبُ الهِمّة مَعَ سكونِه صاحِبَ العمل الكثيرِ بمراحِلَ، فإن ساوَاه في همّته تقدّمَ عَليه بعَمَلِه" انتهَى كلامه رَحمه الله [9].
الذلُّ قَبيح، وفي الرضا به هَلاك، وحينَ يوضَعُ في موضِعِه الصَّحيحِ يُعتَبر عِزّةً وقوّة، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
القُوَّة في ضَبطِ النَّفسِ والسّيطَرَة عليها، قال : ((ليس الشّدِيدُ بالصُّرعَة، إنما الشَّديد الذي يملك نفسَه عند الغضب)) [10].
كَظمُ الغَيظِ قُوّةٌ، قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ [آل عمران:134].
تحصِيلُ القوّةِ البَدَنيّة مِن مقاصدِ الشَّارع الكريم، وفي سبِيلِها كان تحرِيمُ الخبائثِ منَ الطّعام والشراب، كالخمرِ والميتَة ولحمِ الخنزير، وفي سبيلِها كانَت عِناية الإسلام بِرياضةِ البدَن، ومن أجلِ العافيةِ حثَّ الإسلام على التَّداوِي وأمَر بالطبِّ والعِلاج: ((تداوَوا عبادَ الله، فإنَّ الله لم يَضَع داءً إلاّ وَضَع له شِفاءً ـ أو قال: دواءً ـ إلاّ داءً واحدًا)) ، قالوا: يا رسولَ الله، ومَا هو؟ قال: ((الهرَم)) رواه الترمذي [11].
ومَعَ قوّةِ الإيمانِ والأخلاقِ والجِسمِ تَكون القوّةُ في العِلمِ والمعارِفِ والعمَل وفي كلّ ما يعطيه لفظُ القوّة من دلالة؛ لتكون الأمّة متصدّرةً في كلّ أمر ذي قوّة لا يشَقّ لها فيه غبار. والقوّة في التجارة واستخراج ثروات الأرض. الزراعةُ قوّةٌ والصناعة قوّة. والقوَّةُ في الجدِّ في مُباشرةِ العمَل، وذلك باطِّراحِ الكَسَل وتَركِ الخمول.
وأَقوامٌ غَفَلوا عَن هَذهِ النّصوص الكَثيرة لتعسُّفٍ في تَأويلِها وتحريفٍ في مواضِعها، حتى قعَدوا عن النّهوض، فأصيبَ العقلُ بالتبلُّد والفكرُ بالجمود والحياةُ بالتوقّف، وقامَ مَن ينادي بأنّ التديُّنَ مِن أسباب التخلُّف وأنّ الشريعةَ عَامِل من عوامِلِ التأخُّر، وهذا جهلٌ بالدِّين وغَفلَةٌ عن تعاليمه، وكان رسولُ الله يستعيذ من كلِّ أسبابِ ومظاهرِ الضّعف فيقول: ((اللّهمَّ إني أعوذ بك من العَجزِ والكَسَل)) رواه البخاري [12].
((المؤمِن القويّ خير وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمِن الضعيف، وفي كلٍّ خير)) [13] ، في كلٍّ منَ القويّ والضعيف خيرٌ لاشتراكِهما في الإيمانِ، وقد يَكون المؤمِن ضعيفًا في بَدَنه قويًّا في إيمانِهِ ومَالِه، وقد يَكون نحيلَ الجِسم لكنّه قويّ الفِكر والقلَم، وإلى هذا تُشير الكلمة النبويّة: ((وفي كلٍّ خير)).
إِنّ قوَّةَ المسلِم ضَرورةٌ لا بدّ أن تتَحقَّق؛ ليصدُق عليه وَصفُ الإسلام، وحتى لا يُصبِح المسلمون بِضعفِهم وهوانهم فِتنةً للنّاس، يَصدّونهم عن السَّبيل، وتتدَاعى عليهِمُ الأمَم كما تداعَى الأكلَةُ إلى قَصعَتها.
بارَك الله لي ولَكم في القُرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتب القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه أحمد (1/293)، والترمذي في كتاب صفة القيامة ( 2516 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3683)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2397) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم: كتب الزهد (2999) عن صهيب رضي الله عنه.
[5] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2624) عن أنس رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (561).
[6] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال : "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال" فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[7] أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3560)، ومسلم في الفضائل (2327) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] الفوائد (ص141-142).
[10] رواه البخاري في كتاب الأدب (6114)، ومسلم في البر (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] سنن الترمذي: كتاب الطب (2038) عن أسامة بن شريك رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/278)، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وأبو داود في الطب (3855)، وابن ماجه في الطب (3436)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (10/135)، والحاكم (7430، 8206)، والنووي في الخلاصة (2/921)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1660).
[12] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6763) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الذكر (2706).
[13] أخرجه مسلم في القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه عَلَى توفِيقِه وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنِه، وأشهد أنَّ سيّدَنَا ونَبيَّنا محمّدًا عَبده ورسوله الدَّاعي إلى رِضوانه، صلى الله علَيه وعلَى آله وصحبه وإخوانِه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، ورَاقِبوه في السرّ والنجوَى.
يَنبَغي أن لا يَنسَى العبدُ ربَّه مع مُباشرةِ هذه الأسباب، فإنّ العَوَائقَ جمّة، والحاجَة إلى عَونِه وتوفيقِه في كلِّ لحظةٍ وآنٍ ماسّة، وفي محكمِ التنزيلِ: لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39].
يقولُ عَزّ وجلّ في دعاء نوحٍ عليه السلام بعد أن كذّبه قومه وبذلَ جميعَ الأسباب: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وقال تعالى عن موسى عليه السلام في وصيّته لقومه بعد أن هدَّدَهم فرعونُ بقتلِ أولادهم: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128]، وقال أيضًا عن وصية أخرى من موسَى لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]، وقال تعالى عن يوسفَ عليه الصلاة والسلام عندما تعرَّض لفتنةِ النساء: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33، 34].
فينبغي للعبدِ أن يلتجِئ إلى الله عند وجود أسباب المعصيَة ويتبرّأ من حولِه وقوّته؛ لقول يوسف عليه السلام: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ أي: إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي قوّة، ولا أملِكُ لها ضرًّا ولا نفعًا إلا بحولِك وقوّتك، أنت المستعان، وعليك التّكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقالَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4756)
الثبات أمام الأعداء
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
المسلمون في العالم, غزوات
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
25/6/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهديد أبي سفيان للمسلمين.2- خطة الرسول بعد غزوة أحد. 3- قتل الشاعر أبي عزة. 4- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 5- الأمر بالصبر والثبات. 6- حقيقة الخشية من الله تعالى. 7- افتضاح دعاة الحرية والديمقراطية. 8- مشروعية تبادل الأسرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المؤمنون، أيها المسلمون، أيها المرابطون، هذه الآيات الكريمة هي آيات مدنية، ولها أسباب نزول حافلة بالعظات والعبر لمن أراد أن يتّعظ ويعتبر أفرادا وشعوبا ودولا، فقد ذكرت كتب التفسير والسيرة النبوية الشريفة بأن زعيم المشركين أبا سفيان وقتئذ قد هدد بعد غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة بأن يلاقي المسلمين العام القادم في موسم بدر، فأجابه رسولنا الأكرم محمد مباشرة: ((نعم إن شاء الله تعالى)).
أيها المسلمون، لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة أحد إلى المدينة المنورة أصبح حذِرا من رجوع المشركين إلى المدينة المنورة ليتموا غلبتهم على المسلمين، فنادى عليه الصلاة والسلام في أصحابه بالخروج خلف العدوّ لصدّهم عن دخول المدينة المنورة وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمّدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يعرَف بحمراء الأسد، وقد حصل الذي توقعه الرسول ، فقد كان المشركون يجهّزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المنورة، ولكن لما علموا بخروج النبي من المدينة ظنّوا أنه قد حضر معه من لم يحضر بالأمس، فألقى الله عز وجل الرعبَ في قلوبهم، وأسرعوا بالتوجه إلى مكة مندحرين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، بينما كان عليه الصلاة والسلام في موقع حمراء الأسد ألقي القبض على المدعو أبا عزة، الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرا بيَد المسلمين في عزوة بدر الكبرى، ومنَّ عليه الصلاة والسلام وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أنه لم يلتزم بتعهده، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتل أبي عزة الشاعر، فأخذ أبو عزة الشاعر يتوسّل للرسول ليمنّ عليه مرة أخرى، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا، والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمّدا مرتين، لا يلدغ المرء من جحر واحد مرتين)). وتُعدّ غزوة حمراء الأسد ردَّ اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هذا درس واضح للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بأعمال المشركين والمنافقين، وأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن ينبغي عليه أن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وينبغي عليه أن لا ييأس ولا أن يستسلم حين وقوع الهزيمة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد تمكن رسولنا الأكرم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الوضع العامّ لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة والتي تعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عسكر المسلمون في مكان بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان الذين سبق أن حدّده أبو سفيان بنفسه، وحاول أبو سفيان تخويف المسلمين وإرجافهم واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر قبيل الموعد المقرّر، إلا أن محاولته قد باءت بالفشل، وكان المسلمون وهم متوجّهون إلى بدر يردّدون: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فازداد المؤمنون إيمانا على إيمان.
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ أن نردّد: حسبنا الله ونعم الوكيل، وبخاصة نحن الآن في أمر عظيم وفي مأزق عصيب، فالله كافينا، وهو حسبنا، وهو حافظنا، وهو راعينا، وهو نعم المولى ونعم النصير، فيقول رسولنا الأكرم : ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)). وقد سبق أن ردد سيّدنا إبراهيم عليه السلام هذه العبارة حين ألقي في النار بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكان سيدنا إبراهيم عليه السلام في منطقة ديار بَكر بتركيا حين ألقوه في النار.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد خرج الرسول ومعه أصحابه إلى موقع بدر، وأقاموا فيه ثلاثة أيام بأمان وأمن، وعادوا سالمين، فيقول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه، وأن خشية الله مرتبطة بالإيمان، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله عز وجل يطوّع له المخلوقات كلها، أما المنحرفون والساقطون فإنهم لا يخشون الله، وإنما يخافون من الناس.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، في هذا السياق تسأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الرسول عن الخوف من الله فقالت: قلت: يا رسول الله، قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه)) ، أي: أن المؤمنين يعطون العطاء ويتقربون إلى الله بأنواع القربات والخيرات وهم خائفون مشفقون أن لا يتقبل الله منهم؛ لأنهم يؤمنون بلقاء رب العزة والجلال، هؤلاء هم الفائزون بالجنان ورضا الرحمن.
وعليه فإن الذي ينافق ويرتكب المعاصي والمحرمات لا يخاف من الله أصلا، فلو كان يخاف الله لما ارتكب المعاصي والموبقات والخيانات، ويقول الحسن البصري في هذا المقام: "إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ـ أي: خوفا وخشية من الله ـ، أما المنافق جمع إساءة وأمنا"، وسئل الحسن البصري: كيف تخاف من ربنا؟ قال للسائل: "لو ركبت البحر فتحطمت سفينتك فلم يبق منها إلا لوح واحد فأمسكت به بين الموج العاتي كيف يكون حالك؟" قال السائل: خوف شديد، قال الحسن البصري: "أنا هكذا مع الله في خوف منه ليل نهار". هكذا ـ يا مسلمون ـ كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن ما تمر به الأمة الإسلامية في هذه الأيام من المحن والمصائب والفرقة والاختلاف ليحفزنا بالرجوع إلى الله رب العالمين قولا وعملا، ويدفعنا للأخذ بالأسباب، فمن الذي ينصرنا؟ إنه هو الله، ومن يحمينا؟ الله، ومن يوحِّدنا؟ الله، ومن يميتنا؟ الله، ومن يرزقنا؟ الله، ومن يحررنا؟ الله. لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكلّما اقتربنا من الله فإن الله يقترب منا وينصرنا على أعدائنا.
جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، ماذا نشاهد من إزهاق لأرواح الأبرياء من الأطفال والنساء؟! ماذا نشاهد من مئات الآلاف وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء؟! ماذا نشاهد من تدمير للبيوت وللمؤسسات والماء والكهرباء؟! إن النكبات تتوالى على فلسطين ولبنان، والصرخات تعلو من الأيتام والثكالى والمشرّدين، فهل من مجيب؟! لا مجال للصمت المريب، ولا مجال للتسويف المقيت. هل صحيح أن هذه الحرب الشّرسة من أجل ثلاثة جنود أسرى في غزة ولبنان؟! هل صحيح أن الذي يريد السلام يقوم بمثل هذه الأعمال العدوانية؟! وهل هذه الأعمال ستقود إلى السلام أم إلى الاستسلام؟! وهل صحيح أن الذين يدعون إلى الحرية والديمقراطية يؤيدون ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من قتل وتدمير؟! ثم إن الذين يدعون إلى التسامح وحوار الأديان ما موقفهم مما يجري على الساحة اللبنانية والفلسطينية؟! إنها شعارات براقة خادعة، ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)) ، فكيف بالذي يلدغ مرات ومرات؟! هل يبقى مؤمنا حقا؟!
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد أصدر عدد من الحاخامات اليهود فتوى تجيز قتل الأطفال والنساء، ونتساءل: هل الدين اليهودي الحقيقي الصحيح يبيح قتل الأطفال والنساء؟! وهل يجيز الدين اليهودي للجيش الإسرائيلي أن يضع أطفال فلسطين دروعا بشرية؟! كان الواجب على الحاخامات اليهود أن يدعوا إلى التراحم والتحابب وإلى وقف القتل والتدمير والعدوان. فلو أن المسؤولين الإسرائيليين يرغبون بالتهدئة لوافقوا على التبادل بين الأسرى.
أيها المسلمون، من المعلوم بداهة أن ديننا الإسلامي العظيم يقرّ مشروعية التبادل بين الأسرى، كما يقر الحفاظ على أرواحهم، وأن القوانين والأعراف الدولية تؤيد أيضا التبادل بين الأسرى، وسبق لإسرائيل أن قامت عدة مرات بالتبادل بين الأسرى. فلماذا هذا التعنت في هذه الأيام؟! إن حصول التبادل بين الأسرى يدخل الفرحة والسرور والأمن والأمان بين الجانبين، ويوفر الأرواح التي أزهقت، ويحمي البيوت والمؤسسات التي دمرت نتيجة الحروب العدوانية الشرسة غير الإنسانية.
أيها المسلمون، إننا من على منبر المسجد الأقصى نعلن استنكارنا لما يحصل في نابلس وقطاع غزة ولبنان، ونقول لإخواننا في فلسطين ولبنان: الثبات الثبات. وإن من واجب العرب والمسلمين بل من واجب المجتمع الدولي أيضا الوقوف في وجه هذا العدوان الغاشم وحماية إخوتنا في فلسطين ولبنان.
هذا وسنقيم صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة مباشرة على أرواح الشهداء الذين لا يزالون تحت الأنقاض والذين قتلوا ظلما وعدوانا وعلى جميع الشهداء في فلسطين ولبنان.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4757)
الغارة اليهودية الصليبية على فلسطين ولبنان
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
25/6/1427
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غدر اليهود وخيانتهم. 2- واقع المسلمين المشين. 3- ثمرات الصمت والجبن. 4- أحوال المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان. 5- غفلة المسلمين واغترارهم بأعدائهم. 6- واجبنا تجاه هذه الأحداث. 7- سبب الذل والهوان. 8- المستقبل للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيكُمُ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ بِتَقْوَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالاعْتِمَادِ عَلَيهِ وَالتَّذَلُّلِ بَينَ يَدَيهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ الرِّفْعَةُ، وَتُقَالُ العَثْرَةُ، وَتُرْفَعُ الدَّرَجَةُ، وَتَكُونُ العَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ في الأُولَى وَالآخِرَةِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ إِخْوَانِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدِ الطَّاغُوتِ؛ بِمَا نَقَضُوا المَوَاثِيقَ وَخَانُوا العُهُودَ وَغَدَرُوا بِالأَبْرِيَاءِ وَأَشْعَلُوا فَتِيلَ الفِتَنِ وَالأَحْقَادِ وَأَوْقَدُوا نَارَ الحُرُوبِ وَالدَّمَارِ، جَحَدُوا نِعَمِ اللهِ عَلَيهِمْ، وَقَتَلُوا الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، إِنْ أُحْسِنَ إِلَيهِمْ أَسَاؤُوا، وَإِنْ أُكْرِمُوا تَمَرَّدُوا؛ مِنْ أَجْلِ ثَلاَثَةٍ مِنَ اليَهُودِ خُطِفُوا أَوْ قُتِلُوا تُبَادُ الشُّعُوبُ المُسْلِمَةُ كَامِلَةً، وَآلافُ المُعْتَقَلِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي سُجُونِ الاحْتِلاَلِ وَمُعْتَقَلاتِهِ لاَ بَوَاكِي لَهُمْ، وَالمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لاَ يَتَكَلَّمُونَ وَلاَ يَتَحَرَّكُونَ لِنُصْرَةِ إِخْوَانِهِمْ المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ لاَ يَعْنِيهِمْ، قَدِ اكْتَفوا بِالمُظَاهَرَاتِ وَالشَّجْبِ وَالاسْتِنْكَارِ الذَّلِيلِ.
وَا أَسَفَاهُ عَلَى وَاقِعِ المُسْلِمِينَ المَشِينِ وَتَخَاذُلِهِمُ المَهِينِ، وَإِلَى اللهِ نَشْكُو جَلَدَ الفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ، وَإِلَى اللهِ الشَّكْوَى مِنْ أَوْضَاعِ المُسْلِمِينَ المُتَرَدِّيَةِ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، أَكْثَرُ مِنْ مِلْيَارِ مُسْلِمٍ، وَلَكِنَّهُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ، ضَعُفَتْ في نَفُوسِهِم الثِّقَةُ بِرَبِّهِم، وَابْتَعَدُوا عَنْ شَرْعِهِ وأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَانْتُزِعَتْ مِنْ صُدُورِ عَدُّوهِمِ المَهَابَةُ مِنْهُم، وَقَذَفَ اللهُ في قُلُوبِهِم الوَهْنَ؛ لَقَدْ أَصَابَهُم مَرَضُ حُبِّ الدُّنْيَا وكَرَاهِيَةِ المَوْتِ، وهُوَ الوَهْنُ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ النبيُّ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ حِينَ قَالَ: ((يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
هَا هُمُ المُسْلِمُونَ يَجْنُونَ ثِمَارَ صَمْتِهِم الجَبَانِ وَسُكُوتِهِم الذَّلِيلِ عَنْ نُصْرَةِ إِخْوَانِهِمْ وَالدِّفَاعِ عَنْ قَضَايَاهُمْ، وَهَا هِي بِلاَدُ الإِسْلاَمِ ـ عِبَادَ اللهِ ـ كُلَّ عَامٍ تَقَعُ تَحْتَ كَارِثَةٍ وَمِحْنَةٍ جَدِيدَةٍ، بَدَلاً مِنَ التَّخَلُّصِ مِنَ الكَوَارِثِ وَالنَّكَبَاتِ السَّابِقَةِ، وَالسَّبَبُ وَاضِحٌ وُضُوحَ الشَّمْسِ، هُوَ بُعْدُ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِم وَعَقِيدَتِهِم وإِقْصَاءُ شَرِيعَةِ اللهِ وَتَرْكُ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالغَفْلَةُ عَمَّا يُحَاكُ ضِدَّهُم وَيُدَبَّرُ لَهُم مِنْ قِبَلِ أَعْدَائِهِم.
إِنَّ جَسَدَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُسْلِمَةِ جَسَدٌ مُثْخَنٌ بالجِرَاحِ والطَّعَنَاتِ، وإِنَّ الصَّفَعَاتِ التي تَتَعَرَّضُ لَهَا أُمَّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ لاَ تَزِيدُهَا ـ مَعَ شَدِيدِ الأَسَفِ ـ إِلاَّ بُعْدًا عَنِ اللهِ وإِقْصَاءً لِدِينِهِ وغَفْلَةً عَنْهُ وَتَفرُّقًا وخِلاَفًا فِيمَا بَينَهَا، فَاللهُ المُسْتَعَانُ وإِلَيهِ الشَّكْوَى.
أَكْثَر مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَفِلَسْطِينُ المُسْلِمَةُ وَمُقَدَّسَاتُهَا وَأَهْلُهَا تَحْتَ وَطْأَةِ اليَهُودِ إِخْوَانِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، وَأَكْثَر مِنْ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةٍ وَالعِرَاقُ الشَّقِيقُ وَأَفْغَانِسْتَانُ المُسْلِمَانِ تَحْتَ الاحْتِلاَلِ اليَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، فِي أَحْدَاثٍ دَامِيَةٍ وَمَجَازِرَ مُتَكَرِّرَةٍ وَمَذَابِحَ مُتَتَالِيَةٍ وَجَرَائِمَ بَشِعَةٍ وَهَمَجِيَّةٍ لاَ تَعْرِفُ للرَّحْمَةِ طَرِيقًا وَلاَ للإِنْسَانِيَّةِ مَعْنى، أَبَادُوا المُسْلِمِينَ، وَشَرَّدُوا الآمِنِينَ، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَيَتَّمُوا الأَطْفَالَ، وَرَمَّلُوا النِّسَاءَ، وَهَتَكُوا الأَعْرَاضَ، وَأَسَرُوا المُدَافِعِينَ، وَهَدَّمُوا المَسَاكِنَ، وَدَمَّرُوا المُمْتَلَكَاتِ، وَعَاثُوا فِي الأَرْضِ الفَسَادَ، وَسَدُّوا كُلَّ طَرِيقٍ للسِّلْمِ وَالأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَتَفَنَّنُوا فِي اقْتِرَافِ الجَرَائِمِ وَارْتِكَابِ المَذَابِحِ، فِي سِجِّلٍ حَافِلٍ بِالعَارِ وَالغَدْرِ، مُجَلَّلٍ بِالخِزْي وَالظُّلْمِ، تَتَكَرَّرُ المَجَازِرُ وَالمَذَابِحُ وَالجَرَائِمُ اليَهُودِيَّةُ نَفْسُهَا فِي العِرَاقِ وَأَفْغَانِسْتَانَ وَفِلَسْطِينَ وَلُبنَانَ، دُونَ أَنْ يَتَحَرَّكَ فِي المُسْلِمِينَ نَخْوَةٌ، أَوْ تَنْبُتُ فِي نُفُوسِهِمْ جَذْوَةُ حَمَاسٍ، فَيَهُبُّوا لِنُصْرَةِ إِخْوَانِهِمِ المُسْتَضْعَفِينَ المُحَاصَرِينَ الذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ صَبَاحَ مَسَاءَ وَلاَ مُجِيبَ.
وَهَا هِي بِلاَدُ لُبْنَانَ هَذِهِ الأَيَّام تَعَيِشُ المَأْسَاةَ مِنْ جَدِيدٍ، فِي مَشْهَدٍ مِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ الخِزْي وَالعَارِ عَلَى العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ، وَفِي نَكْبَةٍ وَهَمَجِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ صَلِيبِيَّةٍ وَاضِحَةٍ.
وَفِي المُحَيَّا سُؤَالٌ حَائِرٌ قَلِقٌ أَينَ الفِدَاءُ وَأَينَ الحُبُّ في الدِّينِ
أَينَ الرُّجُولَةُ وَالأَحْدَاثُ دَامِيَةٌ أَينَ الفُتُوحُ عَلَى أَيدِي الْميَامِينِ
أَلاَ نُفُوسٌ إِلى العَلْيَاءِ نَافِرَةٌ تَوَّاقَةٌ لِجِنَانِ الْخُلْدِ وَالعِينِ
كَرَامَةُ الأُمَّةِ العَصْمَاءِ قَدْ ذُبحتْ وَغُيِّبَتْ تَحْتَ أَطْبَاقٍ مِنَ الطِّينِ
وَمَعَ هَذِهِ المَجَازِرِ كُلِّهَا يُطَالِبُونَ الفِلَسْطِينِيِّين وَاللُّبْنَانِيِّينَ أَنْ يَضْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَنْزِعُوا سِلاَحَهُمْ وَيَكُفُّوا عَنْ إِطْلاَقِ النَّارِ عَلَى اليَهُودِ المُعْتَدِينَ، فَباللهِ عَلَيكُمْ ـ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ـ كَيفَ يَمْلِكُ إِنْسَانٌ عَاقِلٌ ضَبْطَ نَفْسِهِ وَإِلْقَاءَ سِلاَحِهِ وَهُوَ يَرَى أَفْرَادَ أُسْرَتِهِ يُقَتَّلُونَ أَمَامَهُ وَمَنْزِلَهُ يُهَدَّمُ عَلَيهِ بِالقَذَائِفِ وَالصَّوَارِيخِ وَهُوَ المُعْتَدَى عَلَيهِ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ؟! أَلاَ قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ وَأَعْوَانَهُمْ، مَا أَجْبَنَهُمْ، وَمَا أَشَدَّ مَكْرَهُمْ وَخِدَاعَهُمْ وَبُغْضَهُمْ للإِسْلاَمِ وَحِقْدَهُمْ عَلَى المُسْلِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مَا يَجْرِي للمُسْلِمِينَ فِي بِلاَدِ الإِسْلاَمِ حَرْبٌ يَهُودِيَّةٌ صَلِيبِيَّةٌ سَافِرَةٌ وَتَصْفِيَةٌ عِرْقِيَّةٌ تُشَنُّ ضِدَّ المُسْلِمِينَ وَبِلاَدِهِم، للقَضَاءِ عَلَيهَا وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى، فِي ثَارَاتٍ مِنَ الحِقْدِ الصَّلِيبِيِّ الدَّفِينِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ لاَ يَنْتَهِي. إِنَّهَا ضَرْبَةٌ قَوِيَّةٌ للأُمَّةِ الغَافِلَةِ، وَوَخْزَةٌ كَبِيرَةٌ للأَجْيَالِ المُسْلِمَةِ، كَفِيلَةٌ بِإِيقَاظِهَا مِنْ سُبَاتِهَا وَعَوْدَتِهَا إِلَى الإِسْلاَمِ الحَقِّ وَتَوْحِيدِ صُفُوفِهَا، وَلَكِنْ:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيتَ حَيًّا وَلَكِنْ لاَ حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
إِنَّهَا هَجْمَةٌ تَتَرِيَّةٌ عَلَى دِيَارِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، جَدِيرَةٌ بالتَّأَمُّلِ وَالاعْتِبَارِ وَالعَوْدَةِ إِلَى مَا أَخْبَرَنَا بِهِ اللهُ تَعَالَى وَحَذَّرَنَا مِنْهُ وَوَجَّهَنَا إِلَيهِ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الأَمِينِ عَنِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ للإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ.
إِنَّ اليَهُودَ وَالذِينَ أَشْرَكُوا أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً للمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُم لَنْ يَرْضَوا عَنِ المُسْلِمِينَ حَتَّى يَتْرُكُوا إِسْلاَمَهُم وَيَتَّبِعُوا مِلَّتَهُم؛ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
وَإِنَّهُم وَاللهِ لاَ يُقَاتِلُونَ المُسْلِمِينَ إِلاَّ لأَنَّهُم هُمُ المُسْلِمُونَ، وَإِنَّ هَذِهِ الأَحْدَاثَ المُتَتَالِيَةَ عَلَى بِلاَدِ المُسْلِمِينَ لَتُثْبِتُ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ أَنَّ النِّزَاعَ مَعَهُمْ نِزَاعُ هُوِيَّةٍ وَعَقِيدَةٍ وَمَصِيرٍ، وَمَا فِي ذَلِكَ رَيبٌ وَلاَ عَجَبٌ وَلاَ غَرَابَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُم في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانٍ رَسُولِهِ أَنَّهُم أَشَدُّ النَّاسِ لَنَا عَدَاوَةً، وأَنَّهُم لَنْ يَرْضَوا عَنِ المُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَّبِعُوا مِلَّتَهُم، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ حَدِيثًا وَقِيلاً؟!
وَلَكِنَّ العَجَبَ أَنْ تَجِدَ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا الذِينَ يَعِيشُونَ بَينَنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا وَيَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ مَنْ لاَ يَزَالُونَ يَغُطُّونَ في نَوْمٍ عَمِيقٍ وَسُبَاتٍ عَرِيضٍ، يُشَكِّكُونَ في نُصُوصِ الحَقِّ، وَيَجْرُونَ وَرَاءَ وَعُودِ الغَرْبِ الكَاذِبَةِ، وَيُصَدِّقُونَ أَكَاذِيبَهُم الزَّائِفَةَ، فَاللهُ المُسْتَعَانُ.
كَمْ عَلَّقُونَا بالوُعُودِ وَمَا وَفَوا وَكَذَاكَ وَعْدُ الكَافِرِينَ سَرَابُ
إِنَّ وَاجِبَ المُسْلِمِينَ عَظِيمٌ لِنُصْرَةِ إِخْوَانِهِمْ المَنْكُوبِينَ فِي بِلاَدِ الإِسْلاَمِ المُحْتَلَّةِ؛ بِالنَّفْسِ وَالمَالِ وَمَدِّ يَدِ العَوْنِ وَالمُسَاعَدَةِ بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ قُوَّةٍ وَوَسِيلَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ المُسْلِمِينَ فَلَيسَ مِنْهُم، وَإِنَّ الجِهَادَ بِالمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ وَأَحَادِيثِ السُّنَّةِ، وَلاَ أَقَلَّ ـ أَخِي المُسْلِمَ ـ مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ لَهُمْ وَالصَّدَقَةِ عَلَيهِمْ؛ فَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى : ((جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَلاَ أَقَلَّ ـ أَخِي المُسْلِمَ ـ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ؛ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْلِحَةِ التِي يُسْتَجْلَبُ بِهَا النَّصْرُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرءًا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ)).
مَنْ للأَطْفَالِ المُشَرَّدِينَ المَفْجُوعِينَ؟! وَمَنْ للنِّسَاءِ المَكْلُومَاتِ؟! وَمَنْ للأَبْرِيَاءِ المُعْتَقَلِينَ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ إِذَا تَخَلَّى عَنْهُمُ المُسْلِمُونَ؟!
لَقَدْ غَزَا رَسُولُ اللهِ يَهُودَ بَنِي قَينُقَاعَ، وَأَجْلاَهُمْ عَنِ المَدِينَةِ بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِمْ عَلَى عِرْضِ مُسْلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَيفَ بِآلاَفِ المُسْلِمَاتِ اللاتِي تُنْتَهَكُ أَعْرَاضُهُنَّ فِي فِلَسْطِينَ وَالعِرَاقِ وَغَيرِهَا مِنْ بِلاَدِ الإِسْلاَمِ المَنْكُوبَةِ عَلَى أَيدِي اليَهُودِ وَالنَّصَارَى؟! وَأَرْسَلَ جَيشَهُ لِغَزْوِ مُؤْتَةَ فِي شَمَالِ الجَزِيرَةِ؛ انْتِصَارًا لِرَسُولِهِ الحَارِثِ بنِ عُمَيرٍ الأَزْدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذِي بَعَثَهُ لِهِرَقْلِ الرُّوْمِ، فَقَتَلَهُ عَامِلُ قَيصَرَ عَلَى الشَّمَالِ شُرَحْبِيلُ بنُ عَمْروٍ الغَسَّانِيُّ. وَجَهَّزَ بَعْثًا لأُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالمَسِيرِ إِلَى تَخُومِ البَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، حَيثُ قُتِلَ قَادَةُ النَّبِيِّ فِي مَعْرَكَةِ مُؤْتَةَ: زَيدُ بنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ عَلَيهِمْ رِضْوَانُ اللهِ.، فَكَيفَ بِآلاَفِ المُسْلِمِينَ الذِينَ يُقَتَّلُونَ وَيُمَثَّلُ بِهِمْ يَوْمِيًّا عَلَى أَيدِي عَبَدَةِ الصَّلِيبِ وَالبَقَرِ وَإِخْوَانِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ؟!
إِلَى مَتَى يَظَلُّ المُسْلِمُونَ يُمَثِّلُونَ رُدُودَ الأَفْعَالِ وأَعْدَاءُ الأُمَّةِ هُمُ الذِينَ يَفْعَلُونَ ويُخَطِّطُونَ ويُدَبِّرُونَ؟! إِلَى مَتَى هَذَا التَّخَاذُلُ الرَّهِيبُ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنْ نُصْرَةِ قَضَايَاهُم والدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِم وأُمَّتِهِم وأَرَاضِيهِم ورَدِّ عُدْوَانِ المُعْتَدِينِ وكَيدِهِم وَالتَّصَامُمُ عَنْ صَرَخَاتِ إِخْوَانِهِم وتَعْلِيقُ الآمَالِ في ذَلِكَ كُلِّهِ على شَمَّاعَةِ مَجْلسِ الأَمْنِ الكَافِرِ وهَيئَةِ الأُمَمِ الصَّلِيبِيَّةِ؟!
إِنَّ الصُّرَاخَ وَالنُّوَاحَ وَالشَّجْبَ وَالاسْتِنْكَارَ لاَ يَرْفَعُ ظُلْمًا، وَلاَ يَرُدّ مُغْتَصَبًا، وَلاَ يَحْمِي أَحَدًا، وَلاَ يَقْمَعُ عَدُوًّا، إِنَّمَا هُوَ حِيلَةُ الضَّعِيفِ الجَبَانِ، مَا لَمْ يُتَوَّجْ بالعَمَلِ وَالأَفْعَالِ، وَإِنَّهُ لاَ عِزَّةَ لِجَبَانٍ، وَلاَ حَيَاةَ لِضَعِيفٍ، وَسَيَجْنِي المُسْلِمُونَ آثَارَ هَذَا السُّكُوتِ المَرِيرِ وَالتَّخَاذُلِ المَشِينِ عَنْ نُصْرَةِ إِخْوَانِهِم وَالوُقُوفِ في وَجْهِ عَدوِّهِم عَلْقَمًا مَرِيرًا وَعَذَابًا أَلِيمًا، فَاليَهُودُ لاَ يُفَرِّقُونَ بَينَ مُسْلِمٍ وَآخَرَ، وَاللهُ أَعْلَمُ عَلَى مَنْ سَتَكُونُ الدَّائِرَةُ فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ، وَقَدِيمًا قَاَلَتِ العَرَبُ: إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.
اللَّهُمَّ أَعِدِ المُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِم وَكِتَابِ رَبِّهِم وَسُنَّةِ نَبِيِّهِم، وَرُدَّ كَيدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى في نُحُورِهِم، وَأَذِلَّهُم، وأَدِلْ دَوْلَتَهُم، وأَزِلْ مُلْكَهُم، وشَتِّتْ شَمْلَهُم، وَاجْعَلِ الدَّائِرَةَ عَلَيهِم يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوْهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، وَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ هَذِهِ الأَحْدَاثَ الدَّامِيَةَ التِي تَجْرِي يَوْمِيًّا عَلَى مَسْرحِ بِلاَدِ الإِسْلاَمِ الوَاسِعِ قَدَرٌ مَكْتُوبٌ عَلَى الأُمَّةِ التِي نَسِيَتِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَخَلَّتْ عَنْ دِينِهَا، وَهُزِمَتْ أَمَامَ شَهَوَاتِهَا وَرَغَبَاتِهَا، وَهِي فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ للأُمَّةِ الجَادَّةِ لِتَنْهَضَ مِنْ كَبْوَتِهَا، وَتُوَحِّدَ صُفُوفَهَا، وَتَسْتَرِدَّ أَمْجَادَهَا وَعِزَّهَا، فَفِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالأَزَمَاتِ تُبْعَثُ الهِمَمُ، وَتُوْقَدُ العَزَائِمُ، وَيَتَحَرَّكُ فِي الأُمَّةِ الرِّجَالُ الأَقْوِيَاءُ الذِينَ تُحْمَى بِهِمُ المُقَدَّسَاتُ، وَتُسْتَرَدُّ الأَوْطَانُ، وَيُدَافَعُ عَنِ الحِمَى، وَيُرَدُّ المُعْتَدِي صَاغِرًا جَبَانًا طَرِيدًا مَهْزُومًا، فَمَا أُخِذَ بِالقُوَّةِ لاَ يُسْتَرَدُّ إِلاَّ بِالقُوَّةِ.
وَالمُسْلِمُ الحَقُّ يَجِبُ أَن لاَّ يَكُونَ مَعَ المُتَشَائِمِينَ، فَالتَّشَاؤُمُ وَالإِيمَانُ لاَ يَسْتَقِرَّانِ أَبَدًا فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ الحَقِّ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَ إِنَّهُ لا يَيئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((أُمَّتِي مِثْلُ المَطَرِ، لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيرٌ أَمْ آَخِرُهُ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ قَالَ: ((لاَ يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُم فِي طَاعَتِهِ)).
وَإِنَّ المُسْتَقْبَلَ للإِسْلاَمِ الحَقِّ، وَإِنَّ المُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ هُمُ المُنْتَصِرُونَ بِإِذْنِ اللهِ، فَنَصْرُ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُسْلِمينَ مَتَى مَا رَجَعُوا إِلَى رَبِّهِم وَدِينِهِم، فَطَبَّقُوا كِتَابَهُ وَاعْتَصَمُوا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ.
وَمَهْمَا طَغَى اليَهُودُ وَبَغَوْا وَتَجَبَّرُوا فَإِنَّ النَّصْرَ حَلِيفُ المُسْلِمِينَ بِإذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَالعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ اليَوْمُ الذِي يُقَاتِلُ المُسْلِمُونَ فِيهِ اليَهُودَ، فَيَقْتُلُهُم المُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلاَّ الغَرْقَدَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ. هَذَا وَعْدُ اللهِ الثَّابِتِ الِذِي لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ.
وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَعُودَ المُسْلِمُونَ إِلَى دِينِهِمْ، وَيَعْتَزُّوا بِإِسْلاَمِهِمْ، وَيُجَاهِدُوا أَعْدَاءَهُم، وَيَنْصُروُا إِخْوَانَهُمْ، وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُوُرِ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأَنْفُسِهِمْ. فَالعَمَلُ مَطْلُوبٌ، وَاللُّجُوءُ إِلَى اللهِ تَعَالَى والرُّجُوعُ إِلَيهِ وَالثِّقَةُ بِمَوْعُودِهِ وتَحْكِيمُ شَرْعِهِ وَالعَوْدَةُ إِلَى سُنَّةِ نَبِيَّهِ سَبَبٌ للنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ؛ وَقَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَينِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيضَتَهُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21].
أَجَلْ عِبَادَ اللهِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نُفُوسُ المُؤْمِنِينَ مُطْمَئِنَّةً إِلَى قَدَرِ اللهِ وقُدْرَتِهِ، وَأَن لاَّ يَنْقَطِعَ الأَمَلُ مِنْ نُفُوسِ المُسْلِمِينَ، فَالدِّينُ دِينُ اللهِ، ولَنْ يُصِيبَ النَّاسَ جَمِيعًا شَيءٌ إِلاَّ بِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، وَمَهْمَا عَلاَ البَاطِلُ وزَمْجَرَ وتَجَبَّرَ وبَطَرَ فَهُوَ تَحْتَ قَهْرِ العَلِيِّ القَدِيرِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وَالذِي أَمَدَّ لأَهْلِ البَاطِلِ وأَمْلَى لَهُم قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُدِيلَ دَوْلَتَهُم، ويَجْعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيهِم؛ فَـ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
تَمَسَّكُوا بإِسْلاَمِكُمْ، وَدَافِعُوا عَنْ قَضَايَاكُمْ، وَجَاهِدُوا أَعْدَاءَكُمْ، وثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّكُم؛ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَ الشِّرْكَ والمُشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِدِّينَ...
(1/4758)
فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ماجد بن بلال شربة
الحوية
18/6/1427
جامع الأبرار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية فلسطين والقدس عند المسلمين.2- خذلان المسلمين لإخوانهم في فلسطين. 3- بذل وتضحية إخواننا في فلسطين. 4- دعم الغرب لإسرائيل. 5- رفض مبادرات السلام. 6- معركتنا مع اليهود معركة عقيدة. 7- ما يفعله اليهود بحكومة حماس لتحرير أسير واحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
كثير منا يطالع الأخبار كل يوم في الإذاعات والصحف والقنوات، وكثيرة هي التساؤلات ونحن نرى ما تتقلب فيه الأمة من نكبات خلال سنوات، قرن مضى بل أكثر، نذهب ونعود، ونتكلم ونصمت، لكنما هو حديث واحد، وهي قضية القضايا، قضية تجمعت فيها كل المصائب، قضية أرتنا كلَّ عيوبنا، ووضحت خللنا وتناقضنا، قضية مصيرية ارتبطت بها كل القضايا، نشأت قضايا المسلمين بعدها على شاكلتها، رأينا فيها دماءنا التي أهدِرت، رأينا فيها كرامتنا التي مرّغت، رأينا بيوتنا تحرق وتهدم وأشجارنا تجتث، رأينا نساءنا تهان كرامتهن، إنها الأرض المقدسة، قبلة الأمة الأولى وبوابة السماء ومهد الأنبياء وميراث الأجداد، مسؤولية الأحفاد، معراج محمّدي وعهد عمري، إلى مسجدها تشدّ الرحال، ومن قبله تشدّ الأبدان والنفوس والأفئدة، فتحها المسلمون بعد وفاة الرسول بست سنوات، وحكموه قرونًا طويلة، ثم احتله الصليبيون تسعين عامًا، فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله، وإن احتله اليهود هذه الأيام فإنهم لن يخرجوا إلا بأمثال عمر وصلاح. إنها فلسطين المشرفة وقدسها المقدسة.
ونمنا عن القدس حتى تحدر دمع الرجولة منا دماء
وأغضى عن القدس أبطالنا فزلزل خنزيرُ منها الإباء
فلا عمر يستشير الإخاء ولا خالد أسد الكبْرياء
ولا من صلاح يقينا البلاء ويحمي حمى موطنِ الأنبياء
أيها الأحبة، حديثنا يتجدد عن فلسطين، فلسطين التي يدمي جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟! ماذا قدمنا من تضحيات؟! وماذا حققنا من التنازلات؟! وهل أدينا أقل الواجبات أمام صيحات أمهاتنا وأخواتنا المكلومات؟! نداءات استغاثة يقدّمها إخواننا كلَّ يوم في أرض الإسراء والمعراج، قدّموا دماءهم، وبذلوا أرواحهم، وهدمت منازلهم، وحوصروا في ديارهم، فهل قمنا بأبسط أدوار النصرة لهم؟! بل هل بحثنا في أسباب خسائرنا وهواننا ونحن أعز الأمم أشرفها؟! هل ساهم في هزائمنا عوج خلقي أو خلل سياسي أم غش ثقافي أو انحراف عقدي أم جبن وتجاهل يؤخر يوم النصر؟!
تأتينا قضية فلسطين الدامية بعشرات الضحايا هذه الأيام لتكون محطة امتحان وكشفًا لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم. لقد أبانت لنا قضية فلسطين مقدار ما استودعت هذه الأمة من خير في شبابها وشيوخها ونسائها حين ترى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه أعدائهم لا سيما الصهاينة، يقاومونهم بالحجر أمام أسلحتهم ومجنزراتهم، يسارعون إلى ملاقاة ربهم، دماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم ترفع، لتبقى وسامًا فوق صدورهم، يقدمون أنفسهم شهداء في سبيل الله لقتل الصهاينة اليهود في محلاتهم وسياراتهم.
وفلسطين التي أبانت لنا هذه العزة أوضحت مقدار خذلاننا وخورنا وكثير منا يرى ما يقع فلا نحير جوابًا، ولا يحرك بعضنا ساكنا، تقع أمامهم الحوادث وتدلهم الخطوب فلا يألمون لمتألم، ولا يتوجَّعون لمستصرخ، ولا يحنون لبائس، بل أعظم من كل ذلك أنه في ذات الوقت الذي يذبَح فيه المسلمون ترى كثيرًا منا لاهين عن مصابهم بإقامة مهرجانات سياحية تسوِّق للعهر والفجور، أو دورات وبطولات رياضية، أو رقص على جراح الأمة بحفلات غنائية، فإلى الله المشتكى، وبه وحده المرتجى.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد أتى على مسلمي فلسطين قرابة قرن من الزمن مرابطين في ثغور الإباء، مدافعين بأموالهم وأنفسهم عن أراضي المسلمين في بلاد الشام، عن البلاد التي كُتِبَ تاريخُها بدماء الصحابة، وسُطِّرَ بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر الفاروق رضي الله عنه، ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، حاول الصليبيون كسرها فجاسوا خلال الديار، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد، وقفوا لهم حين كان العلماء يحدثونهم عن الجهاد ويحثونهم عليه، ويوضحون لهم كيف يَفْتَحُ الجهادُ أبوابَ الجنان، وكيف يوصد أبواب المذلة والهوان، ومقدار ما يضخّ من دماء الكرامة والعزة في الجسد الإسلامي، فيطيرون شوقًا إلى الجنان ولسان حالهم:
يستعذبون الْموت قبل لقائه وهم إذا حمي الوطيس تدفقوا
ضمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيها الشهادة تشرق
ثم ترى الأسخياء من الأغنياء وقفوا وراء العلماء ليسخّروا المال في حماية العقيدة، متتبعين بأموالهم بعد عون الله تعالى سبل العزة وطرائق الحكمة، أما الحكام فكانوا بُدُورًا من المناقب وكواكبَ من المكرمات، كان من بدورها عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، الذين بذلوا جهودهم وغرسوا في الأمة روح الجهاد والمجاهدة، فوقفوا درعًا أمام الصليبيين حتى أخرجوهم.
وتمر الأيام وتتعاقب السنون ليتمالأ الكفر مرة أخرى، وتآمر الصليبيون وحملة التلمود لوضع فلسطين في قبضة اليهود في جريمة من أعظم جرائم العصر، بإخراج شعب من أرضه وإقامة شعب آخر محتل مكانه، ويستمر الصهاينة اليهود في القتل والإيذاء إمعانًا في النكاية في إخواننا هناك؛ أسالوا الدماء، وأزهقوا الأرواح، ودنسوا المقدسات، وبعثوا المؤامرات، اعتداءات وانتهاكات في صور مرعبة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح لحماية نفسه. عدو صهيوني في أرضنا المباركة في فلسطين يقاتله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيله إلا العِصِيّ والحجارة والصراخ، ليدفعوا عن أنفسهم ومقدساتهم ومنازلهم وحرماتهم ومدنهم، قدموا لنا أروع الأمثلة بتلك التضحيات. ويعزم أبناء فلسطين على التسابق إلى قتال اليهود والإثخان فيهم حين علموا حقًا أنه لا مقاومة للصهاينة إلا بالقتال، وأن قذيفة من حديد أو حجر تساوي آلاف القذائف من الكلمات.
وبدأت ولله الحمد والمنَّة قوائم القتلى تتصاعد في أوساط اليهود، أخذ الأمن ينحسر، والهجرة اليهودية إلى فلسطين تتراجع، بل هرب كثير ممن أتوا إليها ينشدون السلام في أرض الميعاد، واقتصادياتهم إلى مزيد من الانهيار، وتذوَّق المسلمون حلاوة النصر ورحيق الكرامة بدلاً من ذل الهزيمة وعفن السلام المزعوم، ولكن ما حال إخوانهم من العرب والمسلمين؟ هل وقفوا درعًا لحمايتهم وكانوا سببًا لنصرتهم؟! هل أدّوا واجبهم؟! لقد رأينا غفلة وتغافلاً وصمتًا مريبًا مرة وعجزًا مرات ومرات؛ إلا عن بعض المساعدات التي تُبعث من هنا وهناك، ويكون فيها خير ودعم على قلتها. وكان ذلك الدعم من شعوب بلاد المسلمين على قلته سببًا في إذكاء روح الجهاد والصبر والمجاهدة لإخواننا هناك، فامتدت انتفاضة الأقصى المباركة أشهرًا، كانت على اليهود نارًا وجحيمًا، وبدأ يهود وجيوشهم وحكوماتهم يفرَقون، لكن أطواق النجاة امتدت لهم من دول تدعي ظلمًا وجورًا أنها ترعى السلام وتحارب التطرف والإرهاب، يدَّعون التسامح ويزعمون الديمقراطية، ويدعون الاهتمام بحقوق الإنسان في قرن التحضر والمدنية وقرن المواثيق الدولية، فأين كلامهم هذا عن دماء تراق وحصد للأرواح من أماكن العبادة وقتل للأطفال في مهدهم ومع أمهاتهم بعد مدارسهم وحرب من الأرض والبحر والسماء؟! يتحدثون عن السلام بألسنتهم ويباشرون الحرب في خططهم واستعداداتهم وأفعالهم، أفعال شنيعة وتجاوزات رهيبة، لا تثير لدى تلك المجالس والهيئات أي تحرك منصف، لم يسأل اليهود عن جريمة ارتكبوها، ولم تحجب عنهم مساعدات طلبوها، ولم يتأخر عنهم مدد سألوه، ولم يوجه إليهم لوم ولا عتاب لجرم اقترفوه، بل يتوافد رؤساء تلك الدول الكافرة ونوابهم ومندوبوهم لتأييدهم وبعث العزاء في قتلاهم، أما إخواننا في فلسطين فيقتل منهم خمسون قتيلاً في يوم واحد فقط والأسرى بالآلاف وهدم للبيوت وهم لا بواكي لهم، فأين العدل؟! وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان من شعب يعيش منذ سبعين عامًا في احتلال وفي مخيمات لجوء، تغلق مدارسهم ومتاجرهم، تحاصر مدنهم ومنازلهم، عدو يقتل من يشاء ويعتقل من يشاء، ينشئ المستوطنات ويقيم الحواجز ويغلق المدن ثم يزعم بعد ذلك أنه يريد السلام.
أيها المؤمنون، إن كل هذه التناقضات ليست غريبة على عدوٍ تكالب على الإسلام والمسلمين منذ بزوغ فجر دعوته، فاليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم ونسيرَ في ركابهم ونخضع لقراراتهم، كلُّ ذلك لا يُستغرب على من أضله الله وغضب عليه ولعنه وجعل منهم القردة والخنازير، لكن المستغرب ـ إخوتي ـ حين ينبري ممن ينتسبون إلى الإسلام مَن يدعو إلى السلام ويبادر إليه إجهاضًا لانتفاضة الأقصى المباركة وإنقاذًا لوضع الصهاينة الحرج في فلسطين، وبعضهم بعيد كل البعد عن القضية، فأين هم عن علماء ذكرهم لنا التاريخ، سطر لنا أمجادهم، قدموا السنان قبل اللسان والسيف قبل القلم، فكانوا ملجًأ للناس بعد الله عندما تدلهم الأزمات؟! أين دَوْرُ التجار وأصحاب الأموال من دعم قضية فلسطين وقد امتلأت أرصدتهم، والله سائلهم عن أبسط أدوار المناصرة لإخوانهم، وقد قدروا على ذلك ثم قصروا، أين هم من كفالة أسر أولئك الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداء لدينهم ووطنهم؟! أين دور كثير من قنواتنا الفضائية في نقل أخبار إخواننا وليعيش المسلمون مصاب أمتهم بدلاً من مسلسلات العهر والفجور والأغاني المائعة بصورها الفاضحة التي تبث ليل نهار ومسابقات القمار الهاتفية المرئية والمسموعة ذات المبالغ الهائلة؟! أين دَوْرِي ودَوْرُكَ من النصرة في بيوتنا ومقرات أعمالنا ومساجدنا وفي قُنُوتِنَا ودعائنا؟! واللهِ إنه لا عذر لأحد منا اليوم يرى تلك المصائب ثم لا يحدد لنفسه دورًا.
أيها المؤمنون، إننا يجب أن نعلم أنّ من أسباب هزيمتِنا أمام اليهود أن الأمة لم تُمَكَّن أصلاً من مواجهة اليهود مواجهة حقيقية، ولم تمكن إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم كما وصفهم الله تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، وكذلك أنهم أحرص الناس على الحياة وكما قال عنهم: لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الحشر:14].
لا بد لأمّتنا أن تعلَم أن هزائمنا مع اليهود كانت هزائم أنظمة لم ترفع راية الإسلام، بل كل راية رفعتها إلا الإسلام، فكانت هزائم لرايات الجاهلية. وإذا عُلم السبب بطل العجب.
إخوتي الكرام، إن ما يسمى مشروع السلام إنما هو فرصة لإنقاذ الصهاينة اليهود بعد أن عجَزت عن المقاومة الباسلة لنشر تجارتهم في دول المنطقة وكذلك أخلاقهم عبر التطبيع، وكما أتى في صحافاتهم أن الكونكرس يحاول الضغط على رئيسهم لمقاطعة بلاد الحرمين لمقاطعتها لإسرائيل، فأي سلام هذا؟! أي سلام يكون بعد أكثر من ألف وثلاثمائة قتيل خلال سبعة عشر شهرًا أكثرهم من الأطفال والنساء بلا ذنب؟! أي سلام بعد أكثر من عشرة آلاف جريح نصفهم قد أصيب بإعاقة دائمة؟! أي سلام بعد هدم بيوت المسلمين فوق أهلها وما كان قبلها من محاصرة شعب العراق بعقوبات غبية أماتت حوالي مليون طفل عراقي ثم تركتهم في مستنقع الفتن الداخلية؟! وكيف تهاجم جمعياتنا وجامعاتنا وتقتحم تلك المكاتب وتهجم عليها وهي تجمد الأرصدة الخيرية ويقتلون أبناءنا في معتقلات زعَموها ثم يأتوننا بدعوى الحوار والحرية؟! أي سلام نتحدث عنه وهم يتوغّلون ليل نهار في مدننا ومخيماتنا ويدنّسون مقدّساتنا؟! أي سلام نبيع فيه أرضنا المباركة وقدسنا المعظّم؟! هذا سلام الخانعين.
وعندنا شجر الشهادة كلّ يوم يورق، أين السلام
وما تزال مساجدي في كل يوم تستباح وتحرق، أين السلام
وهذه أرواحنا من دون ذنب كل يوم تزهق، أين السلام
وأمتي مغلولةُ ودمي على كل الخناجر يهرق، أين السلام
- - - - -
وها همُ أطفالنا قبل الفطا م تكسّروا وتمزّقوا
شُدُّوا الوثاق أيا رجالَ عقيدتي فالنصر آت والرجاء محقَّق
لا يرهبنكم الظلام وجيشه فالسيف أولى بالظلام وأخلقُ
وإذا ضعف الإسلام في النفوس ضعفت معه روابط الحقوق واستنقاذ المغتصبات في أي مكان وعلى أي أرض إلا حين يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعًا ولا يتفرقون، يصطفون عبادًا لله إخوانا، يجمعهم نداء واحد لا نداء غيره: يا مسلم يا عبد الله. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) متفق عليه.
عباد الله، وإن تفوق اليهود سيظل خنجرًا في خاصرة الغافلين عن دينهم حتى يؤوبوا إلى القرآن شرعةً ومنهاجًا، فإذا عادوا إلى الحق عاد اليهود بإذن الله إلى ذلتهم ومسكنتهم المضروبة عليهم، وينقطع بهم حبل الناس، ويبطل السحر والساحر، ويأتي وعد الحق، فلا ينفع اليهودي شيء، ولا ينصره اتقاء خلف حصى ولا يقيه حجر، ولا يحميه سلاح ولا شجر.
هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:138-142].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المؤمنون، إنَّ إخوانكم في فلسطين ينتظرون منكم الدعم والدعاء والمساندة والنصرة. إنّ من يرى منظر الشهداء والأطفال الأبرياء يجب أن يقدّم ما يستطيع لهم.
أيها المسلمون، من منا لا يتفطّر قلبه حزنا ودما على منظر تلك الطفلة الفلسطينية هدى عليّ أبو غالية ذات السبعة أعوام وهي تدور على أسرتها التي ماتت بأكملها بغارة جوية إسرائيلية بينما كانوا يقضون أمتع الأوقات في نزهة عائلية، تطوف عليهم واحدا تلو الآخر وهم قتلى مضرَّجين بدمائهم، تبكي وتنكث التراب على رأسها وتصيح، إلى من تشتكي، إلى الله المشتكى، ثم إلى الله المشتكى.
وقبلها في ذلك محمد الدرة والطفلة إيمان حجو وسارة، والله ثم والله إنها لمسؤولية على عاتق كل واحد منا سمع بكاءها، عليه أن يقدّم ما يستطيع من مال ودعم لقضيّتهم، أين القنوت لطلب نصرتهم في المساجد وقد أمر به علماؤنا حفظهم الله؟! نحن قصرنا فيه، أين تذكير أولادنا بمقاطعة بضائع اليهود والنصارى؟!
إننا ـ إخوتي ـ مطالبون بإبراء ذمتنا بنصرتهم وعدم خذلانهم، ومن نصر مسلمًا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته، ومن خذل مسلمًا خذله الله.
ولنتصور ـ أيها الإخوة ـ أن هؤلاء الأطفال هم أولادنا، وأن تلك العجائز هم أمهاتنا، ثم لنقدم لهم الدعم. ثم لننظر ـ أيها الإخوة الكرام ـ ولنقارن بين ما يسميه اليهود عدوانًا وبين أفعالهم الشنيعة، انظروا ما فعلوا لأجل عِلج كافر واحد لآثم معتدي يدّعون أنه أسير، والمسلمون القتلى والجرحى والمعتقلون بالمئات بل بالآلاف، وإليكم هذه التقارير الموجزة: اعتبرت مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان أن الشهر الماضي كان الأكثر دموية بالنسبة لإسرائيل منذ عام ونصف، حيث قتلت 53 فلسطينيا واعتقلت 350، وقال تقرير للمؤسسة أن من بين القتلى 15 قضَوا في عمليات اغتيال، إضافة إلى 11 طفلا دون سن 18، أصغرهم الشهيد هيثم علي أبو غالية عام واحد، و7 من النساء، وأوضح التقرير أن إسرائيل لا تزال تستهدف المواطنين الفلسطينيين بالقتل المتعمّد، وهو ما يتنافى مع المادة الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن الحق في الحياة هو الحق الإنساني الأسمى. ودعا رئيس الوزراء الصهيوني الجيشَ إلى استخدام كل الوسائل المتاحة لضرب الفلسطينيين واستعادة الجندي المختطف. كما أنهم قصفوا مقرّ رئيس الوزراء لحكومة حماس. وقامت قوات الاحتلال تدمّر مبنى وزارة الداخلية الفلسطينية. وقامت محكمة صهيونية باعتقال وزير وأربعة من نواب حماس وتمديد سجنهم. كما قصفت إسرائيل مقرّ الجامعة الإسلامية بغزة. كما قصفت أحد مراكز الإصلاح الطبي. ثم قاموا بإقصاء مفتي القدس بسبب مواقِفِه المعادية لإسرائيل. ثم يخرج الاحتلال بجريمة نكراء فيقتل مقاومًا فلسطينيًا بأريحا بعد اعتقاله حيًا. ثم تكون النتيجة أن مليون وأربعمائة ألف فلسطيني ينتقلون إلى دائرة الفقر وتقطع رواتبهم أشهرا متوالية. كيف بنا ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ لو انقطعت رواتبنا شهرا واحدا؟! وهذا ما فعله أولئك لتحرير علج واحد، فماذا فعلنا نحن تجاه آلاف القتلى والمأسورين؟! وإنه من لم يهتم بأمر المسلمين فلس منهم. هل استشعرنا القضية؟!
اللهم ربنا، عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك، اللهم لا يرد أمرك ولا يهزم جندك، سبحانك وبحمدك، اللهم انصر جندك وانصر إخواننا المستضعفين في فلسطين وأفغانستان وفي كشمير والفلبين والعراق وفي كل مكان، اللهم بارك في حجارتهم واجعلها سجيلاً على رؤوس اليهود الغاصبين، اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة، واجعل جهادهم عبادة، واجعل موتهم شهادة، اللهم سدد رميهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، واحفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم، اللهم وطهر المقدسات من دنس اليهود الحاقدين والصليبيين المتآمرين ومؤامرات المنافقين المتخاذلين.
عباد الله، صلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية...
(1/4759)
قيمة التضحيات
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين الحق والباطل. 2- القضية الفلسطينية. 3- سنة الابتلاء. 4- دروس من غزوة أحد. 5- الرد على دعاة الاستسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قد سطّرت يد الشهيد بالدّماء أسطرا
للجنّ والإنس معا رسالةً لِمن قرا:
إذا ادْلَهمّ ليلُنا والعير أعياها السُّرى
ولم يعد دليلُنا ولا كفيلنا يَرى
وأحْدقت بنا العدا قاد الشهيدُ العسكرا
فشقّ بالدِّما لنا طريقَنا المظفّرا
إذا الدماء لم تسِلْ فالقدس لن تُحرّرا
أيها المؤمنون، لقد كتب الله على هذه الأرض أن تكون مسرحا للصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ. إنه الخطّ الممتد مع تاريخ البشرية منذ أُهبط آدم عليه السلام إلى الأرض وإلى أن ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام حكما عدلا، فلا يقبل من أهل الأرض إلا الإسلام، فيضع الجزية، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب.
إنها حقيقة تغيب عن أولئك المخدوعين بأكذوبة السلام اللاهثين وراء السراب، الذين قُذف في قلوبهم الوهن، قيل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
إن الصراع الذي نشهده اليوم إنما هو فصل من قصة طويلة وجولة من صراع قديم، فكيف يتخيل الضعفاء أنهم سيقرون السلام في الشرق الأوسط أو ينهون الصراع في المنطقة والصهيونية تجثم برجسها على الأرض المباركة؟!
ومدجَّنين كببّغاء القصر قيل لَهم فقالوا
صرخوا: السلام وكيف يجتمع السلام والاحتلالُ
ذي أرضنا مذ أشرقت شمسٌ ومذ هلّ الهلال
لقد أخبرنا الصادق المصدوق أن القتال باقٍ بيننا وبين عدونا، يخبو زمانا ثم يعود أشد ضراوة وأعمق حقدا، يبتلي الله به المسلمين ليعلم مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. والأرض المباركة أرض النبيين تشهد الجولة الأشرس في هذا الزمان، وتواجه ترسانة حربية تكفر بكل العهود والمواثيق، فليس يشملها حظر أسلحة الدمار الشامل، ولا توقفها قرارات ولا شرعيات، بل تعضدها مهزلة الفيتو التي يتلاعب بها خمس دول تسيّر العالم بهواها، ولكن أسلحتهم وأمريكا من ورائهم كلها قوى بشرية هزيلة، يرينا القويّ العزيز بين الفينة والأخرى في إعصار يزورها أو أمواج تغسل شواطئها أنه قادر أن يهلكها متى شاء، وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ.
إن إخواننا هناك لينتصرون كل يوم على عدوهم، ينتصرون بإيمانهم ويقينهم، وبنكايتهم في عدوهم، يستقبلون شهداءهم بمواكب التشييع التي تحمل لواء المقاومة في ظل القصف، ويعدون بالرد، يقينهم بما هم عليه من حق وما ينتظرهم من جزاء جعل الأمّ تربي فلذة كبدها بين سحرها ونحرها، تحبه كما تحب كلُّ أم ولدها، حتى إذا قوي عوده قذفت به إلى رحى المعركة ليكون سهما في كنانة محمد ، ينفّذ أحدهم عملية استشهادية فيصبُّ العدو نقمته على أهله، فتدمر الجرافات بيتهم الوحيد، فيقف أبوه على الأنقاض يتوعّد بالرد أمام شاشة التلفاز، وتخرج أمه تعلن عن نجلها القادم الذي لن يحيد عن خطى أخيه.
أَرْضُ المَلاحِمِ لِلأبطالِ مُنْجِبَةٌ قد جَدَّدَتْ لِلرعيلِ الأَوَّلِ السِّيَرَا
أَبو الشَّهيدِ كَيومِ العُرْسِ مِنْ فَرَحٍ وبالزَّغاريدِ أُمٌّ تُعْلِنُ الْخَبَرَا
كأَنَّما كُلُّ أُمٍّ مِنْ حَرائِرِنا قَدْ أَرْضَعَتْ أَسَدًا أَوْ أَرْضَعَتْ نَمِرَا
حُمْرُ الْمَنَايا لنا خَيلٌ ونَحنُ لَهَا مَنْ لمْ يُحَارِبْ عَليها ضَاعَ وانْدَثرا
فَقِسْمَةُ الموتِ في الأَوطانِ قِسْمَتُنَا والكُلُّ مِنَّا شَهيدٌ مِنْذُ أَنْ فُطِرَا
حَتّى يُنَزِّلَ رَبُّ العَالمينَ لَنا عيسى وَيَنْقُرَ فِي النَّاقورِ مَنْ نَقَرَا
أيها المؤمنون، هل أحد أكرم على الله أو أحب إلى الله من رسول الله ؟! فماذا لقي حبيب الله يوم أحد؟! لقد قتِل سبعون من أصحابه رضي الله عنهم، وقتل عمه حمزة رضي الله عنه، فلما وقف عليه ورآه قد مُثل به قال: ((لن أصاب بمثلك أبدا)). ولما سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن وأبنائهن وإخوانهن ذرفت عيناه وقال: ((ولكن حمزة لا بواكي له)). وكان يأتي شهداء أحد يزورهم ويسلّم عليهم حتى لحق بالرفيق الأعلى. وأشدّ من ذلك كله على نفوس المؤمنين منظر حبيبهم رضي الله عنهم وقد شُجّ وجهه وجرحت شفته وكُسرت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وسقط في حفرةٍ والدم يسيل على وجهه الشريف وهو يمسحه ويقول: ((كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)) ثم ينزل جبريل بعد المعركة بقول الحق جل في علاه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.
ففي البلاء تمحيص لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ، والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين، ويعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكن البلاء يكشف المخبوء, ويجعله واقعا في حياة الناس. ثم ليتخذ منكم شهداء، فالشهداء يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه سبحانه، فليست رزية إذًا ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد، إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة, ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصّهم بقربه. وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ، فالإنسان كثيرا ما يجهل نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب, فالبلاء يُعلّم المؤمنين من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير؛ ليراجعوا أنفسهم ويؤوبوا إلى ربهم. وليمحق الكافرين، تحقيقا لسنته الماضية، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ، ووفاء بوعده الناجز الأكيد: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ.
ثم يأتي السؤال ليبين للمؤمنين أن طريق الجنة محفوف بالمكاره, زادُه الصبر على مشاقّ الطريق, وليس التحلي والتمني، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ، فليس الجهاد وحده، ولكنه الجهاد والصبر معا.
ويمضي السياق القرآني يصور أحداث أحد، ويربي المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ، ويقول لهم: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، ويقول لهم وهم يحملون الشهداء ويعانون الجراحات وتحترق قلوبهم لما أصاب حبيبهم : وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، لئن كان هذا هو ما لقيه أكرم خلق الله على الله في سبيل الله فلماذا يستكثر الناس على المرابطين هناك ما يلقَون، ويدعونهم إلى الاستسلام والرضوخ والقبول بالعروض الكاسدة التي لا يفي بها العدو؟! وحجتهم أننا أمام عدو لا قِبَل لنا به، وينسَون أو يتناسون أن الله مولانا ولا مولى لهم، وأن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وأن لنا جولة في الدنيا ينصرنا الله فيها بقوته لا بقوتنا، ولنا الجولة الكبرى يوم يقوم الأشهاد، وأن للمقاومة مكاسب عظيمة لا يراها من غشى الوهن بصره، هي أرجح ألف مرة من الخطوات التي لا تتحرك بالقضية إلا إلى الوراء. كل عاقل يدرك أنه لا سواء بين من يُسمعنا جعجعة ولا يرينا طحينا، وبين من يسير على صراط الله ترعاه عين الله، يشهد العدو نفسُه بما يلقاه منه.
وأقتطف ها هنا مقاطعَ من لقاء صحفي مع الخبير اليهودي "فان كرفيلد" أستاذ الدراسات العسكرية حول الانتفاضة الفلسطينية المباركة، يقول: "لدينا قوة كبيرة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعمله، وحتى لو استعملناه فثمة شكّ في نجاحه، فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طنّ من القنابل على فيتنام، ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم"، وحين سأله الصحفي: حاليا تشير الأرقام إلى أننا نقتل منهم أكثر مما يقتلون منا، قال: "هذا غير موضوعي، في هذه الحرب يقتل الكثير من المنتفضين، لكنهم يكسبون الحرب، لقد قتل خمسون ألف أمريكي و3 ملايين فيتنامي، وعدة آلاف من الفرنسيين مقابل 300 ألف جزائري، وفي البلقان قتل عشرات الآلاف من الجنود الألمان، مقابل 800 ألف يوغسلافي، فالأرقام شيء غير مهمّ، هذا إلى جانب أن الفلسطينيين لم يدفعوا ثمنا باهظا على عكس ما نسمع عندنا"، ثم يضيف: "فيما يتعلق بالفلسطينيين فإن هذا الأمر يعمل بشكل عكسي تماما، فهم يملكون دائما ثقة بالنفس عالية، ويمكنك أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرمة، كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة وفشل يتبعه فشل، فالرجال يرفضون الخدمة العسكرية، والجنود يبكون على القبور، في نظري أن هذا البكاء أحد أغرب الأمور، ولو كان بوسعي فعل شيء لمنعت بث هذه المشاهد وهذه الصور، وفي الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الانتقام ومعنويات عالية، وما عليك إلا أن تقارن الجنازات حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر ومعنويات أعلى، عندنا ينوحون، وعندهم يطلبون الانتقام. إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفييت في أفغانستان، وما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الفرنسيين في الجزائر".
إن المقاومة تسير في الطريق الصحيح، ولئن كانت التضحيات باهضة الثمن فلا ضير؛ لأن اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وأيّ ربح أعظم من ذلك الفوز العظيم، ووالله ليتمن الله هذا الأمر، ولينصرن جنده، وليعلين كلمته، وليظهرن دينه، ولكنكم تستعجلون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
(1/4760)
قتل أصحاب الأخدود
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
ياسر بن محمد بابطين
جدة
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإيمان وفضله عند الشدائد. 2- الميزان الحق. 3- قصة أصحاب الأخدود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، يا طرف الجسد الذي تكوي الصهيونية طرفه الآخر، يا بقية الدم الذي يريقه اليهود في فلسطين ولبنان، أيتها القلوب المحترقة غيظا وألَمًا لِما يحلّ بها هناك وإن كانت الأجساد هنا، حين تشتد وطأة الظلم على المستضعفين ويجثم الليل على طريق المظلومين فليس للقلوب بلسم كالإيمان، الإيمان الذي يقطر من آي القرآن، فيغسل القلوب بماء اليقين، ويغرس فيها الأمل الذي يستشرف الغد الحقيقي في ظل العدالة الكبرى يوم يقوم الناس لرب العالمين، فهلُمَّ نقف وقفات سريعة مع قصة قصها الله على المؤمنين المستضعفين في مكة، نستلهم بعض معانيها، ونستشرف بعض آفاقها؛ لنكون في ظل المحنة التي نعيشها اليوم كما يريد ربنا أن نكون.
يقول تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج].
إنها قصة فئة آمنت بربها، ثم تعرّضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق الإنسان في أن يؤمن بالله العزيز الحميد، قلوبٌ امتلأت بحبّ الله وإيثار الله والرضا بالله، ارتفع الإيمان بها على الفتنة فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تفتن عن دينها وهي تحرق بالنار حتى تموت.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الكريمة كانت هناك قلوب جاحدة مجرمة لئيمة، جلس أصحابها على النار يتلهّون بمنظر الحياة تأكلها النار، والأناسي الكرام يتحوّلون وقودًا وترابًا. وكلما ألقي في النار فتى أو فتاة شيخ أو عجوز أو حتى تلك الأُمّ التي تحمل رضيعها، كلما ألقي مؤمن ومؤنة ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء.
وفي حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان، فالآيات وروايات القصة لا تذكران أنّ الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة كما أخذ قوم نوح، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ، فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
في حساب الأرض تبدو خاتمة الصراع بين الحق والباطل في قصّة الأخدود أسيفة أليمة؛ عُذّب فيها المؤمنون وحرِّقوا، ونجَا الظالمون وأفلتوا، إن حساب الأرض يحيك في الصدر شيئا أمام هذه الخاتمة الأسيفة. ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى، ويبصّرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها، وبمجال المعركة التي يخوضونها.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام أو متاع وحرمان ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، ثم إن النصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهي ليست إلا صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكنهم لا ينتصرون جميعًا هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى تلك الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، بل وفي دنيا الناس أيضًا.
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس وحدهم، إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض، وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق. وبعد ذلك كله هناك الآخرة، وهي المستقر وخاتمة طريق الدنيا ونهاية مطاف أهلها.
فالمعركة إذًا لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجئ بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح؛ لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد.
هكذا تكون قد اتصلت حياة الناس بالملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر والحق والباطل والإيمان والطغيان، ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع، ولا القيمة العليا في الميزان.
لقد انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات.
نتألم كثيرا حين نرى إخواننا يُقتّلون تِباعا في وحشية وهمجية يغذيهما الحقد الصهيوني الصليبي، نحزن كثيرا على الأبرياء الذين تراق دماؤهم لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، نذرف الدمع على قوافل الشهداء في طول العالم وعرضه، ونتمنى لو كانوا مكاننا في الأمن والدعة والرخاء، أما هم فإنهم أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، يودّ أحدهم لو رد إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرة أخرى لما يرى من الفضل والكرامة عند رب العالمين.
لقد ربى القرآنُ المستضعفين في مكة على هذه المعاني الجليلة، لا لييأسوا من الجولة الأولى على هذه الأرض، أو يكفوا عن الإعداد للنصر والفتح القريب، وينتظر كل واحد منهم منزله من الجنة يوم يُقتل شهيدا، كلا، فإن الله جل في علاه قد وعدهم بالنصر هنا وهناك، في الدنيا والآخرة، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، لكننا يجب أن نرى آفاق المعركة كاملة، ونعي صورَ النصر كلها، فلا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد لأنه مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ، ولا تهزّنا التضحيات ولا ما يسمونه خسائر في الأرواح أو الممتلكات، فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ، ولا سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، ولا تضحية تضيع عند الله، فلا ضير إذًا أن تذهب أجيالٌ ولمَّا ترَ النصر الموعود، ولما تذق ثمرة المقاومة والكفاح الطويل، فالمهم أنها بذلت وستلقى عند الله ثوابها في مقام كريم.
تبدأ هذه السورة بقسم وثيق الصلة بهذا المعنى العميق الذي تغرسه الآيات في قلوب المؤمنين، فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة، واليوم الموعود وأحداثه الضخام، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه. تربط بين هذا كله وبين هذا الحادث الذي جرى على هذه الأرض، فتلتقي السماء ذات البروج واليوم الموعود والشاهد والمشهود. تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود، وتوحي جميعا بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث، وتوزن فيه حقيقته، ويصفى فيه حسابه، إنه مجال أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجَلها المحدود.
ثم تبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة وغضب الله على الفعلة وفاعليها، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، الوقود الذي يؤجّجها من الحطب وأبدان الناس، وتلتحم لحظة اللعن والغضب بلحظة الجريمة البشعة؛ لأن الله لعنهم، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، فقد لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين, يشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار, كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع.
ثم تأتي حقيقة الصراع في قوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. إنها حقيقة ينبغي أن يتأمّلها المؤمنون في كل أرض وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق. إن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، ولو كانت شيئًا من هذا لسهل وقفها، وسهل حلّ إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام.
ولئن كانت الصليبية والصهيونية فيما مضى تحاولان أن تخدَعانا عن حقيقة المعركة لننصرف عن سلاح النصر الحقيقي فيها، فماذا بقي وقد سقطت الأقنعة وانكشف النقاب عن وجه الكيد والحقد الذي يؤجّج الصراع في كل شبر يوحّد الله، وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
بعد أن عرضت الآيات أحداث القصة عرضًا سريعا مشحونا بالإشارات إلى ما يخفى على عيون البشر ويغيب عن أذهانهم وهم يستعرضون الحدَث، بعد هذا يشير السياق إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكلّ ما يقع في السماوات والأرض الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
إنها لمسةٌ تُطمئن قلوب المؤمنين, وتهدّد العتاة المتجبرين، فالله كان شهيدا، وكفى بالله شهيدا.
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث، وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك، والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آتٍ لا محالة؛ لذا تنقل الآيات رحى المعركة إلى الجولة الأخيرة منها، الجولة التي لم تشهدها هذه الأرض، الجولة التي يُصفَى فيها الحساب من كل جبار غرّته دنياه وغره حِلم الله وإمهاله.
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، فتنوهم ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ، وما أوسع رحمة الله وهي تظلّ هذا الخطاب المليء بالغضب والنقمة والتهديد من الجبار المقتدر، لتفتح باب الأمل أمام التائبين النادمين وإن كانوا في ماضيهم طغاة جبارين، أما إذا لم يتوبوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ، وينص على الحريق وهو مفهوم من عذاب جهنم، ولكنه ينطق به وينصّ عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود، وبنفس اللفظ الذي يدلّ على الحدث، ولكن أين حريق من حريق في شدته أو في مدته؟! حريق الدنيا بنار يوقدها الخلق، وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق. حريق الدنيا لحظات وتنتهي, وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله. ومع حريق الدنيا رضا الله عن المؤمنين والانتصار والرفعة، ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم.
هذه خاتمة الطغيان تقابلها خاتمة الإيمان يحفها رضا الله وإنعامه، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ، ولئن كانت النجاة من عذاب الآخرة فوزا فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار?! إنه ليس فوزا فحسب، ولكنه الفوز الكبير كما يصفه العلي الكبير سبحانه.
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه، وهي الخاتمة الحقيقية للموقف، فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه، لا يتم به تمامه، وهذه هي الحقيقة التي غرستها الآيات لتستقر في قلوب المؤمنين المضطهدين في مكة حين نزلت الآيات، ثم في كل وقت ومكان يفتن فيه المؤمنون، حتى تستقر في قلوب المؤمنين في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان، وفي قلوب كل من يؤلمه مصاب المؤمنين هناك.
ثم يعقب سبحانه على الحدث بعد أن تكاملت صورته فيقول: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ، وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مرّ في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا، فالبطش الشديد هو بطش الجبار الذي له ملك السماوات والأرض، لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلّطون على رقعة من الأرض محدودة, في رقعة من الزمان محدودة.
وتلقي كلمة (رَبِّكَ) المضافة إلى المخاطب ظلالا من الأمن والاطمئنان يحفّ ذلك المؤمن الذي يستنصر ربه ذا البطش الشديد.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ، ففي كل لحظة بدء وإنشاء, وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات، وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة يبدو حادث الأخدود مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير، إلا أن بعده إعادة في ظل العدالة الحقيقية يوم يقوم الأشهاد.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ، الحبيب لعباده المؤمنين الرؤوف بهم، ألا هانت الحياة، وهان الألم، وهان العذاب، وهان كلّ غال عزيز, في سبيل لمحة رضا ونفحة حبّ يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد.
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، فهو يريد مرّة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها، ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها، يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض، ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود؛ ولذا يُذَكِّر جل في علاه بمشاهدَ أراد فيها أن يُهلك الطغاة في الدنيا، فأهلكهم وهم مدججون بالسلاح محفوفون بالقوى، ولكنها قوى البشر الهزيلة الضعيفة أمام قوة القوي العزيز ذي البطش الشديد، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ، هل أتاك حديثهم?! وكيف فعل ربك بهم ما يريد?! ما يريد هو وحده لا ما يريد العباد، فلله حكمة وراء كل أمر يقضيه وقدر يجريه، فهو مدبر هذا الكون كله، المطلع على أوله وآخره، المقدر لأحداثه، وهو وحده الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور.
لقد أغرق فرعون ذا الأوتاد بين الأمواج التي أفسحت الطريق لينجو المؤمنون، وأهلك ثمود بالصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ، ونجى صالحا والذين آمنوا برحمة منه، ومع كل هذه الحقائق التي شهد بها التاريخ الماضي والواقع الحاضر وسيشهد عَليها الغد الموعود إلا أن الكفر سادر في غيه مغرور بما بين يديه، ولكن الله تعالى بالمرصاد، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ.
(1/4761)
الدين سبب الاجتماع والوحدة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
18/6/1427
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنما المؤمنون إخوة. 2- فضل الإسلام. 3- معنى التديّن. 4- العقوبات الربانية. 5- حزب الله الشيعي. 6- نظرة في العدوان الإسرائيلي على لبنان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. الدين سبب الاجتماع والوحدة والبقاء، وفي الوقتِ الذي تتزايد فيه الانحرافات والجرائمُ والأمراض النفسيّة وتبرزُ مظاهر التطرّف والغلوّ والإعراض والجفاء والاختلاف والفرقة تأتي النصوصُ الشرعيّة وتسندُها الدّراسات العلميّة والخبرات العمليّة لتؤكِّدَ أنّ الدينَ حصانةٌ للمجتمع ودافع للوحدة والترابط بين أفراده.
دين الإسلام ضرورة للبقاء، إنّ أيَّ حضارةٍ مِن الحضارات لن تجدَ هويّتها بين الأمم إذا كانت بلا معتقدٍ دينيّ، والذي يقرأ تأريخ الأممِ السابقة التي كانت بلا عقيدةٍ اندثرت حضارتُها في مدّةٍ قصيرة ولم تستطع البقاءَ، وبفضلِ التديُّن بدين الإسلام تحوّلت قبائلُ السّلب والنهبِ إلى دولةٍ ذات حضارة، يحكمها منهجٌ صالح لكلّ زمانٍ ومكان، قال الله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
في عهد الجاهلية كان الناس غارقين في الثارات والدماء والمنازعات، تحكمهم شريعة الغاب، يأكل القويُّ منهم الضعيفَ، وضع يستحيل معه التئام القلوب والأفكار والجهود، فضلاً على الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيرًا ولا شبيهًا كما في دين الإسلام، ففي دين الإسلام استحالت القلوب النافرة والطباع الشّموس إلى كتلة متراصة متآخية ذلول بعضها لبعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ، والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
إن هذا الدين حين يخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة والمودة التي تُلين قاسيها وتُرقِّق حواشيَها وتُندِي جفافَها وتربطها برباط وثيق عميق رفيق، ترانيم من التعارف والتعاطف والولاء والتناصر والسماحة والهوادة، لا يعرف سرَّها إلا من ألَّف بين هذه القلوب، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان:11].
التديُّن يعني الاستقامةَ والطهرَ والعفافَ وغضَّ البصر والبعدَ عن الفجور والخمور والمخدِّرات وأذيّةِ المؤمنين باللّسان واليد. التديُّنُ يمنَح صاحبَه عاطفة جيّاشةً تجعله نبعَ خيرٍ يتدفّق لتنميةِ المجتمع وتقويةِ أواصره. التديُّن يقذِف في قلب صاحبِه رقابةً ذاتيّة تجعله لبنةَ بناءٍ، يحرُس الفضيلة، يحافِظ على أمنِ المجتمع، يحميه من مجرمٍ رذيل أو فكرٍ دخيل. التديُّن له أثرٌ في السّلوك، يربِّي على الأوبَة الصادِقة والإنابة العاجلة، أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122]، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
وبهذه الأخوة الإيمانية ورابطة العقيدة الناصعة التي نعيشها في السعودية يأمن الجميع من خطر الطائفية وتعدّد الأديان التي تأتي على الأخضر واليابس عند محك الفتن، فتهلك الحرث والنسل، وتنقض أركان الأمن، وتجعل الأرض مسرحًا للأحداث الدامية والاقتتال الذي يمزّق التماسك والاستقرار، فيُظلِم بذلك المستقبل. وليس ببعيد عن الأنظار والأسماع اليوم ونحن نشاهد هذه الأحداث في البلاد من حولنا.
إن المتلقيَ الآن يتقلبُ بين الإذاعات والأخبار وتحليلها وتجاذب الأطراف بما يشوّش رؤيته، ويجعل موقفه مضطربًا؛ فمن يحمي هذا الحق من الانتهاب وهذا الفكر والسلوك من الاستلاب؟! ومن يعرف الحقيقة ويجرؤ على الصدع بها؟! ومن يقدّر حجم الكارثة حين يُعقد ولاء وبراء على ألوية غامضة ومبادئ بائدة؟! ومن يملك عقلية ثاقبة وعاطفة متزنة؟! ومن له حق التصريح أو التلميح؟! تساؤلات في عقلية المسلم، فمن يتولى الإجابة عليها إلا أهل العلم والرأي وأصحاب القرار؟! فلينتظر قليلا مروّجو الشائعات، وليكفّ الشناعة المقتاتون على فتات الحروب.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أصلّي وأسلم على خير خلق الله وصفيه وخليله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.
وبعد: عباد الله، "إن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالبَ وصورٍ تناسبها من العقاب الرباني، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامّة، وتارة بهموم وآلام وغموم، وتارة بمنع بركات السماء والأرض، وتارة بتسليط الشياطين تؤزّهم إلى أسباب العذاب أزًا، والعاقل يسيِّر بصيرتَه بين أقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقعَ عدل الله وحكمته" [1].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلاّ سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) أخرجه ابن ماجه (4009) وحسنه الألباني.
عباد الله، ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ونعوذ بالله من الشماتة منا أو بنا، لكن لنأخذ العبرة، ونجتهد في التلاحم باسم الدين وللدين، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]. لا بد من بصرِ نظرٍ وبصيرةِ تدبرٍ، قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران:137]. سنن الله الكونية هي هي، والأرض كلّها واحدة، مسرح للحياة البشرية، وكتاب مفتوح، عبرة وذكرى، وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101]. فهل من مدّكر؟!
عباد الله، وماذا عن "حزب الله" الشيعي؟! "حزب الله" الذي رفعه وطوّره وأعطاه انتصارات وهمية هم اليهود، وذلك ليتم شنقه في الوقت المناسب ودون أن يذكر عليه اسم الله، وهكذا اليهود لا يصنعون كل الأحداث كما قد يتوهّم الموغلون في تضخيم الأعداء، ولكنهم يحسنون استغلالها، في الوقت الذي نحول الانتصارات إلى هزائم، فبماذا نفسر الخطوات العشوائية؟! هل يريد "حزب الله" صرف النظر عما يحدث في العراق من إبادة الشيعة للسنة؟! هل "حزبُ الله" عصًا أخرى لسوريا كما هي لإيران؟! وهل تستطيع سوريا فتح بقية الجبهات على إسرائيل خاصة ما يهدد أمنها، أم يريد الحزبُ التغطيةَ على دور حماس في المنطقة وربط الاتجاهين في سياق واحد وتغطية نجاحهم بعملية الوهم المتبدد؟! وهل الأسرى الذين اختطفهم الحزب كانوا من الدروز وليسوا يهودًا، فتصرُّفُ إسرائيل لا يدل على الطمع في نجاة هذين الدرزيين؛ لأنهما ليسا يهوديين، ومن ثم فهي تخبط وتضرب عشوائيًا؟! وقضية الأسرى مجرّد قلامة ظفر علق بها الجرس.
خُطَب حسن نصر الله كان يقول فيها: إن لديه قوى عظمى يدمّر بها إسرائيل، وانتهت بصاروخ الكاتيوشا، فأين ذهبت تلك القوى؟! وهل هذا تضليل للشعوب وإيهام الآخرين بأنهم أقوياء؟!
حرب غير قانونية، لا يعضدها سند من المشروعية حين تستهدف المدنيين والمنشآت، وتعيد ما سبق تحريره، ويظل المجتمع الدولي يتباكى على الأنقاض، ويندب القلوب الرحيمة، ويفتش في أوراق المعاهدات الدولية، ويطرح خيارات أسرعها تمديد فترة الاستنزاف، وبمزيد التصريحات تتّسع هوةُ الفرقاء، ويكشف التعري عن مزيد من البؤر المتجرثمة في جسم الأمة والتفاضح في قالب التناصح، والمأجورة والثكلى، وفي لحن القول تعرفهم بلمز المؤمنين وتصفية الحسابات، وهذه شنشنة تجترّ التاريخ بغية الإسقاط، ولو راموا المعاذير لأمعنوا في الاعتذار عن الشيطان، فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:109].
ماذا سيطال الجاليات الإسلامية في كل بلاد العالم وبالذات أمريكا من الاستخفاف والاستهداف والضغط النفسي كأحد مخرجات الأزمة؟! وهناك من يخلط الأوراق، ويعتمد المقارنات برغم المفارقات بين المقاومة الوطنية والحق المشروع، كما هي حماس وبين "حزب الله" وتصرفاته.
هل هناك من يسعى لإشعال المنطقة بحيث يسوغ الدخول في ترتيب أوراق المنطقة كإيران والخروج من مأزق المفاعل النووي، أم هو تنسيق وتناوب أدوار يقرؤها الأنجال في مستقبل الأيام؟!
ماذا نستفيد من الدروس والعبر؟!
تحاشي جرّ المنطقة إلى حروب وتضييع الثروات في سبيل خطوات غير محسوبة.
تفويت الفرصة على المزايدات الوطنية؛ فلا يصح أن تكون مقياسًا لولاء أو براء؛ لأن مفردات التقويم غير منضبطة؛ لكن الدين ميزان ثابت، ويمكن القياس به والتحاكم إليه.
القارئ لأعداد الجاليات والسيّاح في لبنان دليل على عزوف السياح عن بلادهم والسياحة في بلادنا أقاليم وطبيعة خير منها كتفعيل وتسويق، فليست السياحة مراقص ومسارح وملاهي؛ بل هي مناظر وخدمات وتسهيلات مالية وترفيهية. إنَّ جذبَ الناس ليس باللهو بقدر ما هو برخص الأسعار وحفظ الآداب والأخلاق.
ماذا عليك أنت أيها الرجل العادي؟ هل أنت بمعزل عن الأحداث أم سيطالك الشرر والضرر؟
من قدرتك الدعاء والتضرع وعدم الاستجابة للاستخفاف وأخذ الأمور من مصادرها الموثوقة، والعبادة في الهرج كهجرة إلى رسول الله ، وحفظ الوقت من التقلب بين صراعات القنوات التي تستركض العجلى في غير طائل، وتشرف بهم على الفتن. فالسكوت الآن فيما يعني خير من العراك بلا جدوى إلا حصائد من الإحن والخصومات التي توغر الصدور.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد كما صليت على إبراهيم في العالمين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
[1] زاد المعاد (4/363).
(1/4762)
التفحيط والامتحان
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
25/4/1427
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أخطر المخالفات المرورية. 2- أضرار التفحيط. 3- ظواهر الخلل أثناء الامتحانات. 4- خطورة مرحلة المراهقة. 5- حلول لظاهرة التفحيط.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، كانت التحولات الاجتماعية بطيئة الإيقاع عصية الانقطاع، وما هي إلا لحظات غفلة عقلاء وسطوة شهوة سفهاء حتى نما فيها الورم الخبيث وتسرطن الدماغ، فشلت القوى العقلية عن تدبير العضلات أو غرق الرقيب في بحر شلة، فتولى سرحان رعي القطيع يعصف بها في أودية الهلاك أو كهوف الزواحف أو مستنقعات النتن. جاء الامتحان وهو موسم لذكريات مزعجة: شلل، بداية تجربة في المخدرات، الوقوع تحت عبث الوغدنة وسمسرة الفاحشة، ومسلسل الهبوط أسرع من سلّم الصعود، فيا وَيح من بِناؤه هش أو لأسرته غشّ.
التفحيط والسرعة الزائدة وقطع الإشارة ضمن ثلاثة من أخطر المخالفات المرورية التي تؤدّي إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ونظرًا لخطورته حرّمته اللجنة الدائمة.
عباد الله، عن ماذا نتحدث؟ هل نتحدث عن الضحايا البشرية، أم الخسائر الأخلاقية، أم الانتكاسات النفسية؟ أربعةُ آلاف ومائتا حالة وفاة، وألف ومئتا إعاقةٍ دائمة، وثمانية آلاف إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا. لقد ازدادت الحوادث المروية في المملكة خلال عشر سنوات فقط بنسبة أربعمائة بالمائة. وخلال ثلاث وعشرين سنة بلغ عدد المصابين في حوادث المرور بالمملكة أكثرَ من نصف مليون مصاب. توفي منهم ستون ألفَ إنسان. ظاهرة التفحيط ظاهرة مرعبة؛ لكنها عند كثير من الشباب مجرد لعبة، ولكنها لعبة الموت.
هذا التزامن بين الامتحان وظواهر الخلَل السلوكي غاية في التناقض بين العلم والعمل، فالطالب في ذروة التواصل مع المادة العلمية، وبالمقابل في ذروة الفوضى والعبثية، فمن المسؤول؟!
المادة العلمية المكثفة في الجوانب الأخلاقية والتي يتلقاها أبناؤنا أين تأثيرها؟! وإلى متى ستبقى مظاهر الغش في الامتحانات والهيشات في انصراف الطلاب والإخلال بحقوق المارة؟! والطالب لا زال للتّو قد أمضى ساعات في صرح من صروح العلم والمعرفة، والذي كان يرجى أن يُرى منه أدب العلم والتعلم ظاهرًا على سلوكه وتعامله وكلامه وتصرفاته.
عباد الله، التفحيط شكل من أشكال إيذاء الناس غير المبرّر، ودلالة على عدم الاكتراث بسلامة وممتلكات الآخرين، ومناف لما جاءت به الشريعة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله)) ، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها)) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعا أو تصنع لأخرق)) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)).
مرحلة المراهقة وبداية الشباب مرحلة تتميز بالميول النفسية تجاه ترسيخ الهوية وإثبات الذات، وفي هذا السبيل يلجأ المراهق إلى وسائل عديدة تتضمن المغامرة وركوب المخاطر ومواجهة الصعاب؛ ليثبت للآخرين أنه الأقوى والأفضل والأحسن. حب الظهور والشهرة والفراغ ومحاكاة رفقة السوء والتحدي الذي يقع بين الشباب وضعف رقابة الأسرة وأثر وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية كأفلام المطاردات ومسلسلات العنف والترف وعدم تقدير النعم ومحاولة بعض الشباب لفت انتباه الأحداث والمردان واستدراجهم لعلاقات شاذة، كل ذلك من أسباب تفاقم هذه الظاهرة الخطرة كما تحكيه الدراسات العلمية. سلوك اللامبالاة أحد أهمّ سمات المفحطين، وكلما انخفض العمر والمستوى التعليمي برزت سلوكيات خطرة تعرض أصحابها والآخرين للمخاطر الشديدة.
التفحيط ليس جرمًا مقتصرًا على صورته، بل مفتاح لجرائم متعددة من قتل الأرواح البريئة وإتلاف وسرقة الأموال المحترمة وترويع الآمنين وباب من أبواب ارتكاب الأفعال اللاأخلاقية وأرض خصبة لتهافت الشباب على المسكرات وترويج المخدرات.
عباد الله، من يتولى التجمعات الشبابية بعد الامتحانات حول المدارس وفلولَ الطلاب الذين تأخّر عنهم الأولياء؟ وقد أصبحت هذه التجمعات لا تقل خطرًا عن مشكلة التفحيط إذ هي المغذي الأكبر لجذب المفحطين واستعراض مهاراتهم، وهم الضحية الأولى عند حصول خطأ ما في ميدان التفحيط.
إننا سنظل ننادي: أين الأنظمة؟! ومسؤولية من هذه الشطحات؟! وكيف نحقّق المنظومة الأدبية الأخلاقية في مجتمع نسبة التناغم الاجتماعي فيه عالية؟!
الخسائر البشرية جراء الحوادث من وفيات وإصابات سنويا أكبر من خسائر كثير من البلدان التي تجتاحها حروب أو زلازل مدمرة, في حين لا تزال جهود الجهات المختصة محدودة في حصر نطاق هذه الحوادث والتقليل منها.
هناك أخطاء دون أخطاء، فالخطأ المنهجي والنظامي فادحة كبرى لا تجدي معها الصيحات. ودون ذلك الخطأ في التطبيق وفهم النظام. وحتى لا يكون جهادنا تلاوما فلا بد من تحمّل التبعة ودفع الضريبة لتستقر الكرة في مرمى المفرطين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وبرغم الجهود المبذولة والمشاركات الإعلامية والتوعوية المشكورة ستظلّ دون حجم المأساة، فإن مشكلة التفحيط لم يعد يكفي فيها حجز المفحّط خمسة أيام والإطلاق بكفالة، أو حجز السيارة أو مصادرتها فحسب؛ بل أصبحت بالحجم الذي يجب على الجهات المعنية أمنيا وتربويا إعادة النظر فيها وتوسيع الدراسات العلمية حولها بشيء من الإفاضة، والوقوف على الأسباب الحقيقية التي تدفع بعض المراهقين إلى ممارستها. ولا تزال البحوث العلمية عزيزة في هذا الجانب عدا مقالات صحفية أو كتابات على الشبكة العنكبوتية.
من الحلول المقترحة للتخفيف من هذه المشكلة الاجتماعية إضافة بند في مخالفات التفحيط المرورية يشرك آباء أو أولياء أمور القصَّر والمراهقين من المفحّطين في المسؤولية والعقوبة والتغريم عن الأضرار الناتجة عن التفحيط. ومنها تخصيص برامج إذاعية وتلفزيونية وصحفية تعنى بهذه القضية. ومنها إعداد حملة توعوية تحث الآباء وأولياء الأمور ولا سيما أولئك الذين لديهم مراهقون ممن لديهم سيارات على مراقبة أبنائهم.
إن عدم وجود البديل المناسب لإبراز مهارات الشباب وحبّهم للمنافسة والظهور يدفعهم لمثل هذا التهوّر، فهل ثمة مانع من إعداد أماكن أو ساحات متخصّصة خارج النطاق العمراني يشرف عليها محترفون متخصصون في رياضة سياقة السيارات على غرار رياضات سباق السيارات؟! وذلك على مسؤولية المنظمين، وربما تحت أنظار إدارة المرور، أو لجان فنية وصحية تتوفّر فيها أسس السلامة والتقنين والتنظيم. وهل تتاح الفرصة للقطاع الخاص بممارسة هذا الدور؟!
ومن الحلول التي تخفّف من هذه المشكلة المطبّات الاصطناعية في المناطق التي لا يتواجد فيها رجال الأمن، مع دراسة الأسس الفنية والهندسية لإعداد هذه المطبّات بحيث تعيق المفحطين، ولا تزعج سائقي المركبات العاديين.
عباد الله، وثمة رافد أساسي لتفعيل الأنظمة، فهي لا تكفي وحدها إذا لم نجد استجابة وتفاعلاً من المجتمع كل بحسبه، فأولياء الأمور والجهات ذات العلاقة ولو بشكل جزئي ورجل الشارع يستطيع تأدية دوره، ولكل رافد نصيب في نهر جار من العطاء الأخلاقي للأمّة، فالحياء والمروءة وحسن الخلق وحقوق الآخرين سدّ يحمي الحمى، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((من أخرج من طريق المسلمين شيئًا يؤذيهم كتب الله له به حسنة، ومن كتب له عنده حسنة أدخله بِها الجنة)) رواه الطبراني (32) وحسنه الألباني.
أيها الأب الحنون، ليس الشأن أن تجد مالاً تحقّق به مرادات أبنائك، ولكن عقلاً ومسؤولية تدبّر فيها شؤون رعيتك.
عباد الله، قد لا نستطيع القوامة بكل أشكالها، أو تكون المسؤولة عن البيت امرأة كما هي حالات أزعجت مخرجاتها المجتمع. عندها من الممكن أن يستعان بعناصر أخرى من الأقارب أو أعيان الحيّ أو الاتصال على أجهزة الدولة لتساعد في الأخذ على يد السفيه.
إن كثيرًا من الأولياء يخلط بين الحبّ والعاطفة والنصح والتربية، فالتربية شغف وإبداع لا عاطفة رخوة أو سوط فاتك؛ بل مناخ ملائم وهمٌّ دائم، تفاعل فكري وحضاري ترتقي بالسلوك وتحصّن من الانفلات. والقسوة قد يحتاجها الأب أحيانًا يدفعها الحب والعطف.
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا فليقسُ أحيانا على من يرحم
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، اللهم ارزقنا اتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه، واجمعنا به في جنات النعيم...
(1/4763)
فكوا الأسير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, المسلمون في العالم
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
11/6/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية هذا الموضوع. 2- أحوال الأسرى في سجون أعداء الله. 3- مقارنة بين معاملة الإسلام للأسرى ومعاملة الكفار. 4- فكاك الأسير من واجبات الدين. 5- صور مشرقة. 6- بشرى للأسرى. 7- واجبنا تجاه الأسرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأتناول اليوم بإذن الله موضوعًا في غاية من الأهمية، ألا وهو موضوع أسرى المؤمنين في سجون الكافرين، ولسائل أن يسأل: لماذا هذا الموضوع؟ وما هي أهميته؟
تكمن أهمية طرحه في أنَّ ديننا الحنيف يدعو للاهتمام بأمر المسلمين. تكمن أهميّته في أن الحديث عن الأساليب القذرة التي يتعرض لها إخواننا في الأسر تُجذِّر في نفوسنا عقيدتي الولاء للمؤمنين وبغض الكافرين والبراءة منهم. وكذلك لتعريف الناس بواجبهم حيال الأسرى في زمن نسيهم فيه المسلمون إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
عباد الله، لقد دأب المشركون منذ عهود بعيدة على تعذيب الأسرى وإلحاق الضرر بهم، وليس هذا بغريب، فالمشرك ظالم لربه بصرف حقِّه إلى غيره، أفلا يظلم عبدًا مثله؟! قال خباب بن الأرت: أتينا النَّبِيَّ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَدْعُو اللَّهَ؟! فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: ((لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)) رواه البخاري.
وهذه بعض طرق التعذيب التي يستعملها اليهود حيال إخواننا الأسرى في فلسطين: الضرب الشديد، إطفاء أعقاب السجائر في الصدر، سكب الماء البارد في الليلة الشاتية، الحرمان من مقابلة الأهل والمحامي، التعرية من الملابس لا سيما في وسط النساء، عدم السماح بقضاء الحاجة والاستعجال عند قضائها، الضرب على الجروح والمفاصل، التواني في علاج المرضى، الإجبار على النوم جالسًا، خلع الشعر شدًا، التفتيش العاري.
واسمعوا إلى هذه الحادثة التي تدمي القلب: فتاة قبض اليهود عليها بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي، فجيء بوالدها، وأجبروها على التعري أمامه، ولم تُجْد دموع أبيها وتوسّلاته، لم تُجد صرخاتها وبكاؤها، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل جاء علجٌ حقيرٌ فاغتصبها أمام أبيها.
وكم من أسيرة من أخواتنا المؤمنات مُنعن من مقابلة أبنائهن مدة طويلة، فإذا ما سُمح لهن بذلك مُنعت من ضَمِّه إليها.
أتعلمون ـ عباد الله ـ أنَّ في سجن اليهود أكثر من عشرة آلاف أسير، منهم مائة وعشرون أسيرة وثلاثمائة وثلاثون طفلاً؟! فماذا عن الأسرى في غوانتانامو وقد فاق عددهم الخمسمائة أسير؟ أوضاعهم لا يُسأل عنها، يعيشون في جحيم لا يُطاق، وقد منعت أمريكا الإعلام من أن يحلّ بساحتهم لئلا ينكشف عوارها للعالم.
لقد تسربت رسائل لبعض الأسرى ونُشرت على صفحات الإنترنت، وفيها من البلاء ما الله به عليم، عذاب بالليل والنهار، كلاب تنهش في أجسادهم، إهمال قاتل للمرضى منهم، الحرمان من الظل في اليوم الحار.
ختم أحدهم رسالته بقوله: يا مسلمون، إن أبيتم إلا نسياننا فلا تنسَوا أبناءنا، فإننا قد احتسبنا أنفسنا في سبيل الله. لله دركم ولسان حالكم:
سأحيا بالكرامة يا رفاقي وأسحق دائما أهل النفاق
سأمضي في طريقي نَحو عز ولو قطع العدا كفي وساقي
سأمضي للشهادة فِي ثبات فإني والمنية في سباق
ولو جعلوا حياتي في جحيم وصار الكون أسود كالمحاق
فلن يصلوا أيا أبتاه يومًا إلى قلبي ولن يثنوا أبدًا مساقي
سأبقى صامدًا زادي كتابِي وقول المصطفي فيه ائتلاقي
سأبقى يا أبي حصنًا منيعا سأبقى في سماء المجد راقي
وسوف أعيد للأيام ذكرى صلاح الدين والأسد البواقي
يا أسرى المؤمنين، عزاؤكم أنكم خرجتم للجهاد في سبيل الله، عزاؤكم أنَّ الأسير مَن أسَره هواه.
أيها المؤمنون، قارن بين التعاليم الإسلامية في معاملة الأسير وبين معاملة هؤلاء الأنجاس؛ يأمر الله تعالى بالإحسان إلى الأسير، ويجعل ذلك من أسباب النجاة في يوم القيامة: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:8-11].
يقع أهل مكة تحت سيطرته وهم الذين فعلوا به ما نعلمه جميعًا فيقول لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: بَعَثَ النَّبِيُّ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ؛ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: ((أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ)) ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ. رواه البخاري ومسلم.
يضرب الصحابة شابًا قبل واقعة بدر لما قال: هذا جيش أبي جهل، وكان ودهم أن يقول: عير أبي سفيان، فيزجرهم النبي.
قال ابن تِعْلَى: غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأُتِيَ بِأَرْبِعَةِ أَعْلاجٍ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا صَبْرًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ دَجَاجَةٌ مَا صَبَرْتُهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ. رواه أبو داود.
وينهى النبي عن التفريق بين الأم وابنها في البيع فيقول: ((مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه أحمد والترمذي.
ولا يُكره الأسير على اعتناق دين الإسلام لقول الله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].
ويشهد النبي بالنار لامرأة حبست هرة ولم تطعمها: ((دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، من فرائض ديننا الحنيف السعي لفكاك الأسير؛ لئلا تكون فتنة. وهذا كتبه الله على أهل الشرائع السابقة، قال تعالى عن اليهود: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لا إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ)) رواه البخاري. قَالَ سُفْيَانُ الثوري: الْعَانِي الأَسِيرُ.
وهذه بعض النقول لعلمائنا تدل على وجوب فكاك الأسير:
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (9/228): "ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن ".
وقال النووي رحمه الله في الروضة (10/216): "لو أسروا مسلمًا أو مسلمَيْن هل هو كدخول أرض الإسلام؟ وجهان... أصحّهما: نعم؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار".
وقال القرطبي في تفسيره (2/23): "قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد".
وقال ابن جُزَيّ المالكي رحمه الله في قوانين الأحكام الشرعية (ص172): "يجب استنقاذهم ـ أي: الأسرى ـ من يد الكفار بالقتال، فإن عجز المسلمون عنه وجب عليهم الفداء بالمال، فيجب على الغني فداء نفسه، وعلى الإمام فداء الفقراء من بيت المال، فما نقص تعين في جميع أموال المسلمين ولو أتى عليها".
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في أحكام الجهاد وفضائله (ص97): "وإنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار من أفضل القربات، وقد قال بعض العلماء: إذا أسروا مسلمًا واحدًا وجب علينا أن نواظب على قتالهم حتى نخلصه أو نبيدهم، فما الظن إذا أسروا خلقًا كثيرًا من المسلمين؟!".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (28/642): "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".
وقال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن (2/440): "إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين؛ فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بأن لا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد".
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج (9/237): "ولو أسروا ـ أي: الكفار ـ مسلمًا فالأصح وجوب النهوض إليهم ـ وإن لم يدخلوا دارنا ـ لخلاصه إن توقعناه بأن يكونوا قريبين، كما ننهض إليهم عند دخولهم دارَنا بل أوْلى؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار".
قال أبو بكر الجَصّاص في أحكام القرآن (1/58): "وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا".
فهذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، فما بالنا قد أعرضنا عن هذه القضية؟! ما بالنا لا نهتم بها وإخواننا يعذبون صباح مساء في الأسر؟!
وأنَّات الأُسارى شاهدات على نياتكم أين الضمير
وأين الفارس الْمغوار يأتي يفكّ القيد أعيانِي الزفير
ولو أنَّ القطيع لنا جوار لما طابت بسكنانا الحمير
أيهنأ عيشكم يا قوم إني أجرَّع كأس حنظلهم مرير
ولكني أخَبِّرُكم بأنَّا كمثل الأسد إذ خفي الزفير
لنا العزمات رغم القيد إنَّا بقيد الشرع أحرار نسير
وميثاق مع الله اشترينا تكاد نفوسنا فرحًا تطير
وفي ذات الإله تهونُ نفسي ونفسُ القاعدين لَها شخيرُ
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد ضرب بعض الأمراء أروع الأمثلة في فك الأسارى، منهم الخليفة المعتصم، يقول ابن خلدون متحدّثًا عن فتح عمورية في تاريخه (3/327): "وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين، فأوقع بأهل زبطرة... ومثل بالأسرى، وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجاب: لبيك لبيك، ونادى بالنفير ونهض من ساعته، فركب دابته وخلّصها وأسر من أسرها، وفتح عمورية".
عباد الله، فما واجبنا تجاه الأسرى؟ أرى أن واجبنا يتمثل في الآتي:
1- الدعاء لهم، ودعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجاب.
قال ابن كثير في ترجمة بقي بن مخلد رحمه الله في البداية والنهاية (11/56-57): "كان رجلاً صالحًا عابدًا زاهدًا مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكّه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نومًا ولا صبرًا ولا قرارًا ولا راحةً، فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلاً حتى جاءت الشيخ وابنها معها، فقالت: اسمع خبره يرحمك الله. فقال: كيف كان أمرك؟ فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال: لِمَ أزلت القيد من رجليك؟ فقلت: لا والله، ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به! فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدّوا مسماره وأكدوه، ثم قمت فسقط أيضا فأعادوه وأكدوه، فسقط أيضا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها، أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام. فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له".
2- تكوين اللجان المختصة لمتابعة قضيتهم من الناحية الإنسانية والقانونية.
3- إحياء قضيتهم إعلاميًا.
4- تكثيف الأنشطة الدبلوماسية وممارسة الضغط على الدول الآسرة حتى تفك قيدهم وتطلق سراحهم.
عباد الله، إنَّ اليهود ـ وهم شر عباد الله ـ أقاموا الدنيا بسبب أسير واحد، استهدفوا إخواننا في فلسطين بكل ما عندهم من صلف وعنجهية في عمليتهم التي أطلقوا عليها (أمطار الصيف)، وفي سجونهم عشرة آلاف أسير من الرجال والنساء والأطفال، ولم يُحرِّك ذلك ساكنًا فينا! فلكم الله يا أسرى المؤمنين.
أحباءنا الأسرى، بشارةٌ أختم بها حديثي، هي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].
فهذه الآية في أناس خرجوا للصدِّ عن دين الله وقتال رسول الله ، فما بالك بمن خرج لإعلاء كلمة الله؟! لا شك أنَّ الله جاعل لهم فرجًا ومخرجًا.
اللهم فكَّ أسرانا...
(1/4764)
بعض سمات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد الله بن حمد السكاكر
بريدة
جامع الذربان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- بلوى تسلط الأعداء. 3- عداوة المنافقين. 4- صفات المنافين في القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن من سنة الله الماضية وقدره السابق أن يبتلي عباده المؤمنين بأنواع البلايا، وذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، وليفاوت سبحانه وتعالى بين عباده المؤمنين في الدرجات، كلّ حسب إيمانه وثباته وعمله.
وإن مما ابتلى به عباده المؤمنين تسلّط أعدائهم من الكفرة والمنافقين، فما يزال الصراع بين المؤمنين وأعدائهم قائمًا حتى قيام الساعة، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
عباد الله، إن عداوة المنافقين أشد من عداوة الكافرين، ذلك أنهم مندسّون في الصفّ، يعيشون بين ظهرانينا ويتسمّون بأسمائنا ويصلون خلف أئمتنا ويطّلعون على أسرارنا، وهم مع ذلك محكومون بما يكرهون، عاجزون عن إظهار ما يعتقدون، فعداوتهم أشد وسلاحهم أمضى.
إخوة الإيمان، ولما كانت عداوة المنافقين أشدّ وضررهم أعظم وكان المؤمن مأمورًا بإحسان الظن وبمعاملة الناس بظواهرهم وأن يكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى جلّى الله سبحانه وتعالى المنافقين بأوصافهم وسماتهم حتى لا يخدع بهم أهل الإيمان.
لقد تكاثرت الآيات التي تخبر المؤمنين بصفات أهل النفاق حتى كان المنافقون يحذرون كلما أضمروا كيدًا أن يفضحهم القرآن، يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التوبة:64]. لقد وصفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه حتى كان المؤمن يعرفهم بكلامهم لا يشك فيهم: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30]
عباد الله، إن للمنافقين من التخفي والتلون ما يجعلُ المؤمن مأمورًا بالتعرف عليهم حتى لا يخدع بهم ولا يغتر بكلامهم، ولا سبيل للتعرف عليهم إلا من خلال ما قصّه الله سبحانه وتعالى علينا من أوصافهم.
فمن أوصافهم في القرآن الكريم أنهم يتخفّون خلف دعاوى الإصلاح والإحسان، فإنّ بالمنافقين من صفاقة الوجه وقلّة الحياء ما يجعل الواحد منهم يسعى إلى الفساد بكل حيلة وينقض عرى الإسلام عروة عروة إن استطاع، فإذا قيل له: اتق الله رفع عقيرته بدعوى الإصلاح: إنني أريد خيرَ الأمة وصلاحها وتقدّمها وازدهارها. فالذين بنوا مسجد الضرار على عهد رسول الله لما ظهر أمرهم وفضحهم القرآن أخذوا يحلفون لرسول الله أنهم ما أرادوا إلا الخير، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107].
إن من يشيع الفتن في المؤمنين ويحارب تعاليم الدين ويسعى في مسخ الأمة وتغريبها وإشاعة الفاحشة في أبنائها وبناتها منافق ولو صرخ بأعلى صوته أنه مصلح، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]
إخوة الإيمان، ومن صفاتهم التي وصفهم بها القرآن الكريم أنهم دعاة فتنة وفرقة بين المؤمنين، فسعيهم حثيث وحرصهم شديد على فرقة المؤمنين وتناحرهم، وذلك ليضعف أهل الإيمان وتكون الدائرة لهم، قال الله سبحانه وتعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:47، 48]، وقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:107].
إن من سمات المنافقين سعيهم بين المؤمنين أو بين المؤمنين وولاة أمرهم بأسباب الفرقة والخلاف وإغراء العداوة وإيغار الصدور، فلا صلاح لهم إلا بضعف أهل الإيمان. إن الفرقة بين المؤمنين أو بين المؤمنين وولاة أمرهم لا مصلحة فيها إلا لأعداء الأمة من الكفرة وأهل النفاق. وقد يلبس المنافقون فتنتهم وسعيهم بالشر بين المؤمنين بلباس النصيحة والشفقة، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].
إخوة الإيمان، ومن سماتهم التي وسمهم القرآن بها وصفاتهم التي وصفهم الله بها أنهم إذا ضاقت بهم الحيل وانكشف أمرهم بادروا إلى الأيمان الكاذبة والدعاوى الفاجرة، فمن يكذب في إسلامه لا يعجزه أن يكذب في يمينه، قال الله سبحانه وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2]. وحين انكشف أمر مسجد الضرار فزعوا إلى الأيمان الكاذبة، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]. وحين رجع رسول الله من غزوة تبوك بادر المنافقون رسول الله بالأيمان الكاذبة يستدفعون غضبه، فوقعوا في غضب الله سبحانه وتعالى، سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95، 96].
عباد الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، فدعاة الفساد والمروّجون للرذيلة والفاحشة ومثيرو الفتنة بين المؤمنين وبين المؤمنين وولاة أمرهم كلّما تكشف أمرهم بادروا إلى ادعاء النصيحة والإصلاح، وشفعوا دعاواهم الكاذبة بالأيمان الفاجرة، فصدق الله العظيم: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30].
اللهم نوّر بصائرنا حتى نعرف أعداءك فنعاديهم، وأوليائك فنواليهم، وصراطك المستقيم فنسلكه يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنين، واعلموا أن ربكم سبحانه وتعالى قد أمركم بما أمر به نبيَّكم، وقد أمر نبيّكم بجهاد المنافقين: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التحريم:9].
وإن جهاد المنافقين لا يتمّ إلا بمعرفتهم، ولا سبيل إلى معرفتهم إلا بالتعرّف على أوصافهم في القرآن الكريم الذي نزل من عند حكيم عليم، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
عباد الله، ومن أخطر أوصاف المنافقين التي وصفهم بها القرآن الكريم أنهم كهفٌ لأعداء الدين والملة وفئة للكفار، يتّصلون بهم ويوالونهم ويستقبلونهم، ويسعون لتحقيق أهدافهم، فقد بنى المنافقون مسجد الضرار ليكون مرصادًا لمن حارب الله ورسوله، يجتمع فيه المنافقون، ويأرز إليه كلّ من شرق بهذا الدين، فيخططون للفتنة والإفساد، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ [التوبة:107]. قال البغوي رحمه الله عند قوله سبحانه: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ : "أي: انتظارًا وإعدادًا لمن حارب الله ورسوله" اهـ.
إن من يدعو أعداء الأمة إلى بيته أو مكتبه ليكشف لهم أسرار الأمة ومَواطن ضعفها وليمالِئهم على الكيد لها والتخطيط لإفسادها أو يدعو أعداء الأمة للضغط عليها وإرغامها على ما يريد من الفساد أو يسعى للاتصال بأعدائها في الخارج ليطلِعهم على مواطن ضعفها ويعِدهم بالنصرة، كل ذلك علامة على نفاق وفساد باطن وإن حلف الأيمان المغلظة وادعى النصح والإصلاح، فالله يشهد إنهم لكاذبون.
عباد الله، ومن صفات المنافقين في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى بظلمهم وفسقهم وكفرهم بعد إيمانهم قد طمس بصائرهم وطبع على قلوبهم، فلا تنفعهم المواعظ، ولا تحرّكهم الزواجر، ولا تؤثّر فيهم المثلات، قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3]، وقال سبحانه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:87]. والطبع ـ إخوة الإيمان ـ هو أن تختم قلوبهم وتغلق فلا تدخلها المواعظ ولا تنفعها الزواجر.
إن القرآن الذي جعله الله هدى وشفاء للمؤمنين لا يزيد هؤلاء المنافقين إلا كفرًا ونفاقًا، قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124، 125].
أخي المؤمن، حين تقرأ هذه الآية يذهب عنك العجب من قسوة قلوب هؤلاء المنافقين، يشيب عارضا أحدهم في بلاد الإسلام ويقرأ القرآن والسنة ويطّلع على كلام أهل العلم ويناصِحه العلماء وأهل الدين فلا يزيده ذلك إلا رجسًا ونفاقًا، قد أظلم قلبه وطمست بصيرته، نعوذ بالله من حال الأشقياء.
عباد الله، إن من ظهر شرّه وبان إفساده اتهمناه وحَذِرنا وحَذَّرنا منه ووكلنا سريرته إلى الله، فهو الذي يتولى السرائر.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل، وأعذنا برحمتك من حال أهل الزيغ والفساد، اللهم افتح قلوبنا لأهل طاعتك، وبصرنا بأعدائك، وأعذنا برحمتك من الهوى والشيطان.
اللهم إنا نعوذ بك أن نقول زورًا، أو نغشى فجورًا، أو أن نطعن في أحد من المؤمنين يا كريم...
(1/4765)
قد أغاث من استغاث
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
إبراهيم بن صالح السويد
رنيه
13/3/1426
جامع الإمام ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الماء. 2- استجابة الله تعالى لاستسقاء المؤمنين. 3- أسباب انحباس المطر. 4- دروس وعبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن نعمة الماء هي من أجل النعماء، وإن الحياة بلا ماء بأساء وضراء، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].
إن الناس منذ القدم عاشوا بجوار الغُدران، وأحبوا الشُطآن، وسَاكنوا البحار، وتركوا القفار، فهي خلاء من الكلأ والأشجار، ساروا إلى أرض لا يعرفونها، ومنازل قد لا يصلونها، كل ذاك بحثًا عن الماء.
الماء والحياة رفيقان منذ القدم، والماء والفناء متلازمان منذ الأزل، فما أعجب خلق هذا الماء، صنع الله الذي أتقن كل شيء. إن هذا الماء الذي جُمع فيه بين نقيضين، ورُصف فيه بين متقابلين، إنه لشيء عجاب.
سار إبراهيم الخليل الحنيف، وأنزل هاجر وإسماعيل في أرض من حجر، فلم يك يومها يوجد ماء ولا حياة، بل كان هناك صخور وجلامد، فتركهم وانصرف. فمن رأى الموقف قال: هذا تصرف غير معقول، ومن سمع به لام الفاعل، لكنه تنفيذٌ لأمر رب العالمين، فلم يهِن أو يستكين. بكى إسماعيل عطشا، وركضت هاجر بين جبلين حرضا، فكادت تَهلك نفسُها لما بكى وليدها، وهي تسعى بين الصفا والمروة إذا بها تفقد بكاء الطفل الرضيع، فشكت في الأمر، وسلمت تسليما، وأتت بخطى كسيرة، تمشي الهوينى، ولا تدري ما تصنع، إذ لفت حسها باهر الخبر وجليل العبر، فقد رأت الماء ينبع من تحت قدمي إسماعيل، فشكرت المنعم الجليل، وسألت: كيف ذلك؟! فرأت قدمي طفلها قد أثرت في الصخر من طول البكاء، فخرج من تحتها الماء، وعلمت أنه لا حياة لمن ليس له تعب وعناء، فحبَست الماء كي لا يذهب هدرًا، ولو تركته لصار منه أودية وغُدرا، كما جاء ذلك عنها خبرا.
إخوة الإسلام، إن الغيث الذي همع والماء الذي اجتمع قد حملته إليكم المزن رحمة ونعمة وفضلاً، فاشكروا هذه الآلاء، واصطبروا على الضراء، ولا يغرنّكم بالله الغرور، فيومٌ همّ وآخر فيه السرور.
إخوة الحق والفضيلة، ما إن رأى الناس الغيثَ قد روَّى الأرض وسار في الطول والعرض حتى أدركوا نعمة الدعاء ولذيذ الشكاية والنداء. خرج الناس إلى المصلى ودموعهم تهمع، ورجوا أن دعاءهم يسمع وهتافهم يرفع، فلم ينزل من السماء ماء، وصبروا وأكثروا من الالتجاء، وصابروا على ذلك حتى نزل غيثًا غدقًا سحًّا مجلّلاً، فسُرت به العيون واكتحلت به الجفون، فله الحمد في الأولى والآخرة.
عندها لتعلم ـ أيها المسلم ـ أن الدعاء قد لا يتحقّق من حينه، وأنه يحب إلحاح عبده عليه، فإن فعل أعطي أكثر مما طلب.
أيها الأخيار، إن انحباس الماء له أسباب كثر:
فأولها: أن الله تعالى يبتلي عباده في السراء والضراء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ويجب على من أسلم وجهه لله أن يرضى على كل حال، فيؤجر مرتين أجر الابتلاء وأجر الرضا.
ثانيًا: أن الظلم وبخس الحقوق بين العباد من أشد الأسباب أثرًا في حبس القطر من السماء، وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]. فكم من صاحب حقّ تركه ولم يطالب به لعلمه جحودَ المدين ومماطلة الواجد الغني، وفي الحديث: ((مطل الغني ظلم)) رواه البخاري (2125) ومسلم (2924). وكم ممن استقدم عمالاً وخدمًا فأكل حقوقهم، وهضمهم عرق جبينهم، وبخسهم أجرهم، فهم يأكلون في بطونهم نارًا، يدعون عليهم في الليل والنهار، وما علموا أن الإحسان إلى الأجراء من عمال وخدم من أخلاق الإسلام وآدابه السامية. بل كم من عامل قد خدع ربّ العمل أو خان كافله وسبب له عراقيل وإيذاء، وقَّع مع الآخرين عقودًا ما نفذها، أكل مالهم وجحد حقهم وأساء في العمل، لا يؤتمن على تنفيذ البنود، وما علم أن هذا من أخلاق اليهود. وكم من زوجين قد قسَت قلوبهما من كثرة ما يبهت بعضهما بعضا، فصار البيت نارًا وجحيمًا. وكم من عاقّ لوالديه آذاهما ليلاً ونهارًا، بكيا من ألم العقوق وشديد الفسوق، وما فعل فيهما كما فعل صاحب الصبوح والغبوق. وكم ممن تخاصما كيدًا كيدًا، ليرهق كل منهما صاحبه عدوانًا وظلمًا، وليجعله مهانًا حقيرًا. وكم من جيرانٍ تدابروا، وكم من أرحامٍ تقاطعوا، وكم من أحبابٍ تهاجروا، بسبب تافهٍ حقيرٍ، وصنعوا جبلاً من القطمير. تظالمٌ بين من يدَّعون الإسلام، فلا والله ما حسن إسلام أولئك، فـ ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) رواه الترمذي (2239) وابن ماجة (3966)، و((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري (9)، ومسلم (57)، والنسائي (4910).
ثالثًا: وإن من المعاصي القلبية وآفات اللسان والبنان وهي من أقوى أسباب الضراء واحتباس الماء، فمن الشرك الخفي الرياء، ((من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم (5300)، وإنه قد جاء في الخبر عن خير البشر: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) رواه أحمد (22528)، فكم من عمل جميل قد حبط، وقول جليل قد سقط، فليكن عمل أحدكم لله وحده لا شريك له فقط. والعُجب محبط للأعمال، والكبرياء آفة ووبال، والهمز واللمز والغمز حسرة وندامة، ونقل الحديث بلا تثبت سهم قاتل، فتك بالأبرياء وجرَّأ السفهاء. وحب الدنيا قرة قارون، وحب الرئاسة مسلك فرعون، والسعي لهما حثيثًا يودي بترك الصلاة، وهذه سيماء أميةَ بن خلف، وبئس السلف لهذا الخلف.
وإن الخيانة والتقلب في إيفاء المواعيد هي أرذل صفات المنافقين، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) رواه البخاري (33). إنها صفات ترونها عيانًا بيانًا في كل الأحوال. بل وإن مجمع البحرين وآفة الشرين الكذب والاحتيال، والتي تُدرِّكُ صاحبها في سفال، ويُصلى بالنار، ويذاق الحميم والشنار، ويوسم بالذل والعار.
ولو تعلمون ما يلقاه الأزواج الخائنون والزوجات الفاسقات من بلاء وفتون جزاءً بما كانوا يخونون ولعهد الله ينقضون، فمن خان منهما صاحبه فقد خان ميثاقًا غليظًا، فهو شارب قيحًا وصديدًا، ونتنًا آتيًا من فروج المومسات، وسوف يشربه كما تشرب عطشى الهيم.
أيها البررة الكرام، ألا فلتدركوا أن آفات اللسان شرها خطير وبلاؤها مستطير، فقد حث الحبيب عليه الصلاة والسلام بحفظ اللسان فقال في جميل البيان: ((كف عليك هذا)) رواه الترمذي (2541) وابن ماجة (3963) وأحمد (21008)، وقال: ((أمسك عليك لسانك)) انفرد به الترمذي (2330). وفي حديث معاذ رضي الله عنه: ((وهل يكبُ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)) رواه الترمذي (2541) وابن ماجة (3963) وأحمد (21008).
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
ولم تحدث فتنة وقتل ونشوز وعضل إلا بسبب زلات اللسان.
الغيبة والنميمة أدواء محرقة ومآسي مطبقة، لا ينقلها إلا اللسان، ولم تدخل بين قلبين إلا فرقتهما بعد اجتماع.
كم تفجرت قلوب من سماع قول أثيم، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم، مناع للخير معتد أثيم. وتقرحت جفونٌ من كذاب بهات مكار قتات.
أمسك عليك لسانك ثم أمسكه، ولا تدع شيطانك على قول وشهادة الزور يغلبْك، لتفوز بالحبور وتزوج بالحور وترى وجه ربك العزيز الغفور.
ألا إن آفات السمع من أخطر الآفات التي تصيب القلب بالران وضعف الإيمان، فلا تسمع من مغتاب أو من نمام، فمن نمَّ لك نمَّ عليك، ومن اغتاب عندك اغتابك عند غيرك، فكن على حذر كي لا تصلى سقر.
وإياك وسماع الغناء، فهو دليل الخنا وبريد الزنا، فإنه يزيل عن قلبك حب سماع القرآن.
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان
هذه آثار الذنوب والأوزار، ومن مسببات انقطاع الأمطار.
فلا تهنوا وأنتم الأعلون باتباع الشرع وصدق الإيمان، وإن زلت قدم بعد ثبوتها صرتم على شفى جرف هارٍ، يكاد أن ينهار إلى عذاب النار.
قلت ذلك وسمعتموه، فاحفظوه وعوه، وإياكم أن تدعوه، ولتزموا الاستغفار، فهو رحيم به غفار، ويجعل لكم به الجنات والأنهار، ويمددكم بالأموال والبنين، وينزِّل عليكم الأمطار.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن التقوى شرف كبير، من حرمها فقد حرم الخير كله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المحبون الأماجد، كونوا بين راكع وساجد، عظموا ربكم بجليل المراقبة، وكن ـ يا أُخيَّ في الله ـ أسيفًا بكاءً، خاشعًا مخبتًا منيبًا، لتلق الخير كله، وتفوز بالرضا، وتجلل بالرفعة والنصر والسناء.
وقد أدركتم ـ يا رعاكم الله ـ فيما سبق أن آثار الذنوب خراب البلدان والقلوب، وأن البهائم تضج بالبكاء وتقول: حرمنا بسبب ذنب ابن آدم الماء.
كم من نعم ذهبت يوم اقترفت المعاصي، وكم حرم الناس من خير عميم من ذنب فاسق أثيم، يجري الغمام فوق الديار، فلا ينزل عليهم الغيث المدرار؛ لما كسبته قلوبهم من الأخطال، فذاقوا من أمرهم الوبال.
أيها الراكعون الساجدون، يقول الباري: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]. فقد سمع المولى سركم وجهركم، وأحيا الباري بالمطر أرضكم، وإن هذا الغيث الذي نزل سرت به الرؤوس والمقل.
ويقول جل ثناؤه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:12، 13]. لقد أرسل المنعم سحابًا ثقالاً، كأنها الخمائل رقة وجمالاً، فخف حملها، وأنزلت وقرها، فسالت أودية بقدرها، وسارت كالبرق الخاطف والريح العاصف، لتحمل لكم ماءً زلالاً، كرة بعد كرة، لتكون هذه الأرض مخضرة، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]. بل لتسمع وتخشع وتدمع، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]. فهل هذه الأرض أرق منك فتخشع، أم أن هذه المزون أنقى منك فتدمع؟! فلعلك ممن يسمع، وبفضل الله يطمع.
وقال سبحانه: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].
يا أفئدة من الإيمان هامدة، ويا عيونًا من الدموع جامدة، لعلكِ تهتزي لنداء السماء، لتنبت فيك مباهج الهدى.
غفت عيونك من وجد المُحبينا وصرت تركض من لهو ومن تعب
أفق منيبًا رعاك الله مُجتبيًا ثوب التقى راقيًا أرقى ذرى النجب
وانظر إلى جنة حوراء تسكنها وكوثرًا تشربن خِلوًا من النصب
فشمروا للطاعة، فما بقي إلا ساعة على قيام الساعة، ولا يذهبن عمرك بالتفريط والإضاعة، فتُلقى خاسرًا قليل البضاعة.
يا قومي رعاكم الله وتولاكم، إن الله قد بعث إليكم نبيًا فعظموا أمره، وصلوا عليه وسلموا تسليما، فبهذا سبحانه أمر، بالصلاة والسلام على أتقى البشر.
اللهم صل عليه ما صدح الغريد، وما تحركت الأفنان، وما هب النسيم، وما نزل الغيث العميم، فعليه أبدًا الصلاة والبركة والتسليم.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، اللهم احم بلادنا من صولات المرجفين يا حي يا قيوم...
(1/4766)
رمضان وانكسار القلب
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصوم
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
1/9/1425
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عودٌ حميد. 2- قدوم رمضان. 3- انكسار القلوب. 4- سر انكسار القلوب في رمضان. 5- نعمة إدراك رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: بالأمسِ وقفنا في صفِّ الصلاةِ، وتجدّدَ عهدُنا بقيامٍ انقطعَ عنه أكثرُنا سنةً كاملةً. بالأمسِ أصغتْ أسماعُنا إلى كتابِ اللهِ بروحٍ جديدةٍ وقلبٍ جديدٍ، فاغرورقت عيوننا بدمعٍ نسيَهُ أكثرُنا سنةً كاملةً. بالأمسِ تضرَّعْنا بدعاءٍ خاشعٍ جميلٍ غابَ عن أكثرنا سنةً كاملةً. بالأمسِ رقصت قلوبٌ وزهتْ أرواحٌ وأشرقت نفوسٌ. بالأمسِ ومع أول ليلةٍ رمضانيّةٍ وأولِ قيامٍ إيمانيٍّ تبدّلنا كثيرًا، وتقدّمنا في طريق الإيمانِ خُطُواتٍ.
ما الذي جرى؟ كيف استحالَ القلبُ الذي استعصى عليه الخشوعُ عامًا كاملاً قلبًا سريعَ العبرةِ فيّاضَ الوجدِ؟! وكيف غدت العينُ التي بخلت بدمعها عامًا كاملاً حاضرةَ الدّمعةِ تجودُ بعبراتِ الإنابةِ كلّما هزّت صاحبها موعظةٌ؟! كيف ذلتِ النّفسُ وخشعتِ الروحُ وذرفتِ العينُ وأناب الفؤادُ؟! كيف كان ذلك كلُّهُ في ليلةٍ واحدةٍ؟! كيف كان؟!
إنّهُ رمضانُ وكفى، رمضانُ الذي تنقلبُ فيه الموازينُ وتتبدّلُ فيه الاتّجاهاتُ. إنّهُ رمضانُ أيها الأحبة، شهر انكسار القلوبِ بين يدي علاّمِ الغيوبِ، هذا الانكسارُ الذي يقرّبُ العبدَ من ربِّهِ، ويدنيه من رحمة خالقِهِ.
روى الإمام أحمدُ في كتاب الزهدِ (ص75) عن عمران القصير قال: قال موسى بن عمران عليه السلام: أي ربِّ، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرةِ قلوبهم، إنني أدنو منهم كلّ يومٍ باعًا، ولولا ذلك لانهدموا.
وتأمّلوا ـ رعاكم الله ـ صفة القرآن لهؤلاء المنكسرين: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:17-109]، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
وها هو إمام المنكسرين يقول عنه ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين. رواه الطبراني في الأوسط. وروي عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف العظيم دعاءٌ يدلُّ على عظيم انكسارِهِ بين يدي ربه: ((اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائسُ الفقيرُ المستغيث المستجيرُ الوجل المشفق المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبتُهُ، وذل لك جسده، ورغم لك أنفُهُ، وفاضت لك عيناه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي بارّا رؤوفًا رحيمًا يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين)).
هكذا انكسر نبيّنا بين يدي ربّه، ومن بعده تتتابع قوافل المنكسرين؛ رئي عليٌّ رضي الله عنه في بعض مواقفه وقد أرخى الليلُ سدولَهُ وغارت نجومُهُ، وقد قبض على لحيته في محرابه يتململُ ويقولُ: (يا دنيا، ألي تعرّضتِ، أم بي تشوقت؟! هيهات هيهات، غرّي غيري، فعمرُك قصير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!). ودخل علي بن الحسينِ رضي الله عنه ذات ليلة الحجر يصلي، فجعل يقولُ في سجودِهِ: "اللهم عُبيدكَ بفنائك، مسكينكَ بفنائك، سائلك بفنائك". ومن جميل صور انكسارِهِ رضي الله عنه بين يدي ربِّهِ هذه المناجاة العجيبةُ: "كل شيءٍ خاشعٌ لك، وكل شيء قائمٌ بك، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوةُ كل ضعيف، ومفزَع كل ملهوف، من تكلّم سمعتَ نطقه، ومن سكَت علمت سرّه، لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك، لم تخلق الخلق لوحشة، ولا استعملتهم لمنفعةٍ، ولا يسبقك من طلبتَ، ولا يفلتك من أخذت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيدُ في ملكك من أطاعك، ولا يرد أمرك من سخط قضاءَكَ، ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك، سبحانك ما أعظم شأنك، وما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر أيّ عظيمة في جنب قدرتك". وها هو الحسنُ البصريُّ الإمام العابدُ المنكسرُ لا يكادُ يراهُ أحدٌ إلا ظنّه حديث عهد بمصيبةٍ. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا دخل بيته ألقى نفسه في مسجده، فما يزال يدعو ويبكي حتّى تغلبَهُ عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلتَهُ أجمعَ.
هكذا إذن كان المنكسرونَ تضرعًا ومناجاةً وتقرُّبًا. وها نحنُ اليوم في فاتحة شهر الانكسارِ شهر رمضان، الشهر الذي يعلِّم القلبَ كيف يخشع وينكسرُ ويذلُّ ويلين، الشهر الذي يعلّم العين كيف تستعبر وتكتبُ بدمعِها قصّةَ التوبة والإنابة والاستغفار، الشهر الذي يعلّم الروحَ كيف تخرجُ من إسارِها وتنطلقُ إلى ربّها باكيةً منكسرةً راجية راهبةًً.
رمضانُ بالْحسنات كفك تزخر والكون فِي لألاء حسنك يبحر
يا موكبا أعلامه قدسية تتزين الدنيا له وتعطر
أقبلت رحْمى فالسماء مشاعل والأرض فجر من جبينك مسفرُ
هتفت لمقدمك النفوس وأسرعت من حوبها بدموعها تستغفر
لأمت بتوبتها جراح ذنوبِها والنفس تسمو بالصيام وتطهرُ
هذا هو رمضانُ بما فيه من انكسار الروح والقلب وذلتهما للخالق الجليل. ولعل سائلاً يسأل: ولماذا ننكسرُ في رمضانَ دون غيرهِ؟! أيُّ سر فيه يجعل القلوب أدنى لهذه الكسرةِ الإيمانية الخاشعة؟! والحقُّ أنّ في هذا الشهر الكريم جملةً من المزايا في هذا البابِ:
فأول ذلك أن شهر رمضان هو شهر البركةِ في المشاعر الإيمانية عمومًا؛ إذ يفيضُ الله على قلب الصائم من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعّمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب.
وثاني ذلك أنّه شهرُ نزول القرآن كما صح في الحديث، والقرآن قد قال الله عنه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]. فما أرجى شهر نزول القرآن الذي يصدع الجبال، ما أرجاه أن يكون شهر انكسارٍ للعزيز الجبار.
وثالث ذلك أنّه شهر تصفيد الشياطين.
ورابع ذلك أنّه شهر التخفّف من فضول الطعام والكلام ومخالطة الأنام.
وخامس ذلك أنّه شهر تكفير الذنوب.
وسادس ذلك أنّه شهر استجابة الدعاء.
وسابع ذلك أنّه شهر فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران.
وثامن ذلك أنّه الاستجابة والحرص على الطاعةِ.
وتاسع ذلك أنّه شهرُ التعاونِ على البر والتقوى.
وعاشر ذلك أنّه شهر التوبة والإنابة.
وهكذا تجتمع هذه الأسباب العشرةُ لتجعل من رمضان شهر انكسارٍ وذلة وإقبال.
_________
الخطبة الثانية
_________
أي أخَيّ، أتذكر كم كانت ندامتك وحسرتك حين تصرّمت آخر ليلة من رمضان الفائت؟ أتذكر كم من عبرة سكبتها وأنت تتندّم على أوقات من شهر رمضان ضاعت وليال لم تحسن اغتناما؟ أتذكر أنك عاهدت نفسك يوم ذاك أن تستقبل رمضان القادم بنفس عازمة وهمة قائمة؟ فها أنت ذا أمام رمضان جديد، وها قد كتب الله لك الحياة لتدرك فرصة أخرى تختبر فيها صدقك ورغبتك في الخير، فماذا ستفعل؟ هل ستبادر أم تفرط في أوقات شهرك حتى يغادر ثم تندم ولا ينفع الندم؟
يا إخوتاه، هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟! ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟! أكنا قادرين على الركوع والسجود؟!
إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم، وكم من رجل صلّى معنا في هذا المسجد في رمضان الماضي وسمع حديثا كهذا الحديث عن فضائل رمضان ثم ها هو الآن موسّد في الثرى يتمنّى لحظة يسبّح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
لقد وقفت طويلا عند حديث عجيب رواه أحمد وابن ماجه، وقفت عنده طويلا لأنه أشعرني جلال نعمة إدراك رمضان جديد، وأشعرني أيضا بعظيم المسؤولية الملقاة على كل مسلم يكتب الله له عمرا ليدرك شهر رمضان.
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي. قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليّ فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله ، وحدثوه الحديث فقال: ((من أي ذلك تعجبون؟)) فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدّ الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله! فقال رسول الله : ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟)) قالوا: بلى، قال: ((وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟)) قالوا: بلى، قال رسول الله : ((فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).
أفرأيت كيف سبق أقل الرجلين اجتهادا لما أتيح له من فرصة العمل في العمر الممتد؟!
فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجّدين اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي.
(1/4767)
ليدبروا آياته
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
محمد بن عدنان السمان
الرياض
11/9/1426
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بإقبال الناس على القرآن الكريم. 2- فضل القرآن الكريم. 3- الحث على تدبر القرآن الكريم. 4- القرآن منهج حياة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: فإن القلوب المسلمة لتفرح وتستبشر حينما تنظر إقبال جمع كثير من المسلمين على كتاب الله في هذا الشهر الكريم، ولا غرابة فنحن في الشهر الذي أنزل فيه القرآن، ومع الإحساس بالسعادة لهذا الإقبال الجميل على كلام الله سبحانه وتعالى ومع الأجور الكثيرة التي بإذن الله سيتحصل عليها أولئك التالون لكتاب الله عز وجل فقد أخبر الصادق المصدوق حين قال: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) رواه الترمذي بسند صحيح، وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟)) فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)) ، أقولك ومع ذلك كله ومع انشراح الصدر لهذه المشاهد الإيمانية إلا أن التالي لكتاب الله لا أقول: في هذا الشهر فحسب بل في كل قراءة للقرآن الكريم أنه ينبغي لهم أن يلتزموا بأمر هو المقصود الأسمى من نزول القرآن الكريم، وهو تدبر الآيات والوقوف عند العظات، إنها القراءة التي ننتفع بها من هذا النور العظيم، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121]، إنها القراءة التي تفيد قارئها من هذا المعين المبارك، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
فالقرآن العظيم فيه خير كثير ونفع كبير، فيه سعادة الدارين لمن أرادهما، فيه الفلاح والفوز والنجاة، فيه الطريق القويم والصراط المستقيم، فإن سألت ـ يا أُخيّ ـ عن الوسائل التي تعين على تدبّر القرآن فهي بعد الاستعانة بالله سبحانه وتعالى مجموعة في جَمع العقل والفكر والقلب عند التلاوة؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "تدبّر القرآن واقرأه بتدبر وتعقل ورغبة في العمل والفائدة، لا تقرأه بقلب غافل، اقرأه بقلب حاضر بتفهّم وبتعقل، واسأل عما أشكل عليك، اسأل أهل العلم عما أشكل عليك مع أن أكثره بحمد الله واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية" اهـ.
أيها الصائمون، إنّ هذه القراءة التي يستجمع فيها المسلم حواسه تدبرًا وتفكرًا هي الحكمة من نزول هذا القرآن العظيم، قال الشيخ السعدي رحمه الله عند قول الله تعالى: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ : "أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه وإعادة الفكر فيه مرة بعد مرة تدرك بركته وخيره" اهـ.
معاشر المسلمين، يُتدبّر القرآن حين يقف المسلم حين يتلوه وهو يستشعر تلك المعاني العظيمة التي يتضمنها القرآن والتي أوردت شيئًا من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى سبحانه وتعالى، فالمسلم يستشعر هنالك عظمة الله وقوة الله وقدرة الله ورحمة الله ومغفرة الله، هو سبحانه العلي الأعلى القوي القدير اللطيف الخبير الرحمن الرحيم.
اسمع إلى ربك سبحانه وهو يصف نفسه سبحانه في مثال واحد من أمثلة كثيرة ينبغي للمسلم أن يحرص على تدبرها، قال الله جل الله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ.
ثم إنه مما يساعد على تدبر كتاب الله الكريم الوقوف عند آيات الوعد والوعيد، آيات الرحمة والعذاب، آيات الجنة والنار، يقف المسلم ليتدبر لينظر إلى أعمال هؤلاء وأولئك، لينظر إلى مصير هؤلاء وأولئك، لينظر إلى نعيم هؤلاء وبؤس أولئك، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، وعلى النقيض من ذلك وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ.
ثم أيها المسلمون، إن مما أودع في القرآن الكريم نصوص الأحكام وبيان الحلال والحرام، ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله عن صاحب رسول الله عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: (والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله)، وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: "يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر".
عباد الله، لقد رسم القرآن الكريم للمسلم منهج حياته وتعامله مع ربه ومع نفسه ومع أسرته ومع مجتمعه، لقد تضمن القرآن العظيم أحكامًا كثيرة من الدين هي بحق منهج حياة، لقد صوّرت لنا الصديقة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها هذا الأمر جليًا واضحًا حين سألها سعيد بن هشام قال: أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ، فقالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ؟! وعند الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه: كان خلقه القرآن؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره تعليقًا على هذا الحديث: "فقالت: كان خلقه القرآن، تعني والله تعالى أعلم أنه يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه" اهـ.
وهذا ـ أيها المسلمون ـ ينبغي بل يجب أن يكون ديدن كل مسلم ومسلمة اتباعًا لأوامر الله واجتنابًا لنواهي الله.
اللّهمّ اجعلنا من التالين لكتابك العاملين به، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد الأحد الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، والصلاة والسلام على نبي الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، ما أعظم تدبّر كتاب الله، فبه ينشرح الصدر وتطمئنّ النفس، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة".
(1/4768)
الأشهر الحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/7/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استشعار الحُرُمات. 2- الأشهر الحرم. 3- نسيء الجاهلية. 4- الحذر من ظلم النفس. 5- تعظيم الأشهر الحرم. 6- التحذير من بدع رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واذكروا وقوفكم بين يديه، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
أيها المسلمون، خيرُ ما تحلّى به المؤمن من سجايا وأجمل ما اتصف به من صفات حِسٌّ مرهَف وشعور يقِظ وقلبٌ حيّ وعقلٌ واعٍ يبعث على استشعار حرمة ما حرّم الله وتعظيم ما عظّمه، فيقيم البرهانَ الواضح على إيمان صادق ويقين راسخ وتسليمٍ ثابت.
وإنّ مما حرّم الله تعالى الأشهر الحرم التي قال فيها سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الآية [التوبة:36]، وهي الأشهر التي بينها رسول الله في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي خطب في حجّة الوداع فقال في خطبته: ((إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهَيئتِه يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان)).
فجاء هذا البيان النبوي تقريرًا منه صلوات الله وسلامه عليه وتثبيتًا للأمر على ما جعله الله من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، أي: أنّ الأمر اليوم شرعًا في عدّة الشهور وتحريم ما هو محرّم منها هو كما ابتدأه الله قدرًا في كتابه يومَ خلق السماوات والأرض؛ وذلك لإبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه مما أحدثوه قبل الإسلام من تحليل المحرّم وتأخيره إلى صفر، فيحلّون الشهر الحرام، ويحرّمون الشهر الحلال، وهو النسيء الذي أخبر سبحانه عنه بقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]. وهي صورة من صور التحريف والتبديل والتلاعب عُرفت بها الجاهليّة، ولونٌ من ألوان ضلالاتها وكفرها وتكذيبها بآيات الله عز وجل ورسله.
ألا وإنّ من أظهر الدلائل على استشعار حرمة هذه الأشهر الحرم الحذرَ من ظلم النفس فيها باجتِراح السيّئات ومقارَفَة الآثام والتلوّث بالخطايا في أيّ لون من ألوانها امتثالاً لأمر الله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ، فالذنب في كلّ زمان سوءٌ وشؤم وظلم للنفس؛ لأنّه اجتراء على العظيم المنتقمِ الجبّار والمحسن بالنعم السابغة والآلاء الجميلةِ، لكنّه في الشهر الحرام أشدّ سوءا وأعظم شؤمًا وأفدح ظلمًا؛ لأنّه يجمع بين الاجتراء والاستخفاف وبين امتهان حرمة ما حرّم الله وعظّمه واصطفاه؛ ولذا تُغلّظ فيه الدّيةُ عند كثير من العلماء.
وإذا كان احترام الشهر الحرام أمرًا ظاهرا متوارَثًا لدى أهل الجاهلية، يعبِّر عنه إمساكهم فيه عن سفك الدم الحرام والكفُّ عن الأخذ بالثأر فيه مع ما هم فيه من شرور وآثام، أفلا يكون جديرًا بالمسلم الذي رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، أفلا يجدر به أن يحجز نفسه عن الولوغ في الذنوب وينأى بها عن أسباب الإثم والعدوان، وأن يترفّع عن دوافع الهوى ومزالق النزوات والشطحات وتسويل الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، وأن يذكر أن الحياة أشواط ومراحل تفنى فيها الأعمار وتنتهي الآجال وتنقطع الأعمال، ولا يدري أحد متى يكون الفِراقُ لها وكم من الأشواط يقطع منها وإلى أيّ مرحلة يقف به المسيرُ في دروبها، فالسعيد من سمت نفسُه إلى طلب أرفع المراتب وأعلى الدرجات من رضوان الله باستدراك ما فات واغتنام ما بقي من الأوقات والتزام النهج السديد في هذا الشهر الحرام وفي كلّ شهور العام، وصدق سبحانه إذ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كِتابهِ وبسنّة نبيه محمّد ، أقول قَولي هَذَا، وأَستَغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هوَ الغَفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريك لَه، وأشهَد أنَّ سيدنا ونبينا محمّدًا عَبد الله ورَسوله صاحب الحوض الرويّ السلسبيل، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، قال بعض مفسِّري السلف رحمه الله: "إنّ الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم الله، فإنّما تعظَّم الأمر بما عظّمها الله به عند أهل الفهم والعقل".
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستشعروا حرمة شهركم هذا، وحذار من ظلم أنفسكم فيه وفي كلّ الشهور، وأقبلوا على موائد الطاعة فيه بما صحَّ وثبت، وأعرضوا عن كلّ مبتدَع غير مشروع كصلاة الرغائب في أوّل ليلة جمعةٍ من شهر [رجب]، فإن الأحاديث المروية في فضلها كذبٌ باطلٌ لا يصحّ عن رسول الله ، كما بيّنه جمعٌ من الأئمّة كالحافظ ابن رجب والحافظ العراقي وابن حجر والنووي وغيرهم، وأما الأئمة المتقدّمون فلم يذكروها لأنها إنما أحدِثت بعدهم، وقال الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وأما الصيام فلم يصحَّ في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي ولا عن أصحابه".
فاتقوا الله عباد الله، واذكُروا على الدَّوامِ أنَّ اللهَ تعَالى قَد أمَرَكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ على خير الأنام، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم علَى عَبدِكَ ورَسولِك محَمَّد، وَارضَ اللَّهمَّ عَن خُلَفائهِ الأربعة...
(1/4769)
الموقف الإيماني
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
3/7/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- الحكمة من المصائب والآلام. 3- موقف المؤمن. 4- المستقبل للإسلام. 5- تواصل العدوان الإسرائيلي. 6- العدوان على المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، هذا نداء الله تعالى لكم يشدّ عزيمتكم، ويسدد قصدكم، ويمحص ما في نفوسكم، فافتحوا قلوبكم لفهمه، واستغلّوا عقولكم بغايته وقصده، وأدركوا بنور بصيرتكم بإنجاز وعده، لتقفوا على خطاب الله الكريم في الذين خلوا من قبلكم، فكان جزاء صبرهم نصرا وعاقبة أمرهم عزا، ومن أصدق من الله قولا؟!: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، إن هذه المصائب والنوائب والآلام والبأساء والضراء لهي امتحان صدق المؤمنين وسبر غور يقينهم ومقياس ثباتهم ورباطهم، واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى وهو يصف شعور ومشاعر المؤمنين يوم أحاط بهم زلزال المشركين في يوم الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:9-11]، فكان النصر بعد الابتلاء والتمحيص، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
وها هو موقف المؤمنين يتجلى عبر الزمان والمكان في آيات بينات هدى ورحمة للمؤمنين: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:22، 23].
وقد بشر رسولكم صحابته الكرام بالنصر وظهور هذا الدين وهم يشكون إليه حالة الضيق التي وصلوا إليها من اضطهاد المشركين، فقد ورد في الحديث الشريف عن خباب بن الأرت قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقال: ((إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه)) ، ثم قال : ((والله، ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
وكان ذلك، فقد وصل أسلافكم إلى هذه الديار المباركة فاتحين منتصرين، وكنتم أهل الرباط من بعدهم، تصابرون أعداءكم متربصين بهم إحدى الحسنيَين، يحدوكم الأمل والإيمان بنصر الله، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وتزداد ضراوة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، في استهداف واضح للمدنيين، وخرق فاضح لكل المواثيق والأنظمة والأعراف الدولية، فضلا عن الشرائع الإلهية التي تحرم قتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال في حالات الحرب، ولكن هذه الحرب المجنونة تصبّ جام غضبها ونقمتها على المدنيين ومقدرات حياتهم من الغذاء والدواء، فقد استهدف قصفها الجوي قوافل الإغاثة التي تحمل الغذاء والمعونات الطبية للمدنيين المشردين من بيوتهم جراء القصف المستمر لقراهم ومدنهم في لبنان، كما شردت القوات الإسرائيلية التي تشن عدوانها على قطاع غزة مئات العائلات الفلسطينية من بيوتها تحت ذريعة أن هذه البيوت تشمل على مخازن الصواريخ والأسلحة كما حصل في أبراج الندى في بيت لاهيا، فقد شردت 400 عائلة من هذه الأبراج، وراحت تفترش الأرض وتلتحف السماء بعد أن دمرت محطات الكهرباء والجسور والطرقات التي تصل مدن ومخيمات القطاع بعضها ببعض، ويستمر هذا العدوان هنا في فلسطين وهناك في لبنان تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الذي تكابر قوى الاستكبار العالمي بإطلاق اسم العالم الحرّ عليه أو عالم رعاية حقوق الإنسان، ولنا أن نتساءل: أي إنسان يقصدون؟! وهل قسموا الإنسانية إلى درجات، منها ما يستحق العيش والحياة ومنها من يستحق القتل بأسلحة الدمار والخراب، بل بأسلحة محرمة دولية كالقنابل الحارقة والعنقودية؟! أما شعوب ودول المسلمين فآن لها أن تستيقظ، فقد طمي السيل حتى غاصت الركب، وأوشك قطار العزة والكرامة أن يتجاوزها إن لم تتدارك أمرها.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن مواكب الشهداء التي يشيّعها شعبنا المرابط من شبابه وأطفاله ورجاله ونسائه جراء العدوان الإسرائيلي المستمر على شعبنا لن تزيد هذا الشعب إلا إصرارا على حريته وكرامته، وتمسكا بحقوقه التي لن يساوم عليها مهما بلغت التضحيات، كما أن العدوان يزيد شعبَنا صلابة وتماسكا وتكافلا وتعاونا، وهذا شأن الشعب الفلسطيني المرابط على امتداد تاريخ جهاده ونضاله، فقد نذر نفسه أن يكون طليعة أمته في الصبر والثبات والرباط والذود عن كرامة الأمة ومقدساتها وتاريخها وحضارتها في هذه الديار المباركة التي رويت بدم الشهداء الأخيار، وهي أمانة الأجيال في أعناقكم، فاحفظوا لله وديعته.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ويتزامن مع العدوان المادي على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية عدوان معنوي آخر على المسجد الأقصى، يتمثل في منع المصلين من الوصول إليه لأداء عباداتهم وإعمارهم لمسجدهم، فهذا الأسبوع الخامس على التوالي الذي يمنع أبناء المسلمين ممن تقل أعمارهم عن الخامسة والأربعين سنة من الوصول للأقصى للصلاة فيه، كل ذلك يجري تحت ذرائع الأمن المزعوم وعدم الإخلال بالنظام العام. فأين حرية العبادة؟! وأين حرية الوصول إلى أماكنها في ظل شرعية الغطرسة والاحتلال؟! والله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]. وأي خراب أكبر من هذا الخراب المعنوي الذي يحول دون عباد الله وبيوت الله؟!
إننا من على هذا المنبر الشريف نطالب المجتمع الدولي بأسره بالعمل على وقف الحرب المستعرة التي وقودها مقدّرات الشعب الفلسطيني واللبناني، وضحاياها الأبرياء من أبناء الشعبين. كما ندين استمرار سلطات الاحتلال بعزل القدس عن محيطها الفلسطيني، ومنع أبنائها وأبناء المسلمين في سائر أنحاء الوطن من الوصول للمسجد الأقصى لأداء عباداتهم، فهم ليسوا الغرباء عن هذه الديار، بل هي ديار أجدادهم وآبائهم. كما نستنكر منع كثير من المصلين بالأمس من الوصول للمسجد الأقصى لأداء صلاة العصر تحت ذريعة الأمن واحتجاز عدد من شباب المدينة في مراكز الأمن الإسرائيلي لبضع ساعات.
(1/4770)
الرد على شبهة حرية الرأي: حد الردة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
باسل بن عبد الرحمن الجاسر
حلب
جامع الرئيس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين الإسلامي. 2- تفنيد دعوى أن الإسلام دين الإرهاب. 3- الإسلام بين الغلاة والمتحللين. 4- الفرق بين العقيدة والتطبيق. 5- قضية حرية الرأي. 6- الحرية الدينية في الإسلام. 7- الجهاد والحرية الدينية. 8- شبهة قتل المرتد. 9- أصناف المرتدين. 10- استتابة المرتد. 11- من آداب الدعوة وأحكامها. 12- متى يقتل المرتد؟ 13- قصة المنافق عبد الله بن أبي بن سلول. 14- المسلم بحكم البيئة إذا ارتد عن دينه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها الإخوة المؤمنون، دينٌ كاملٌ لا نقص فيه، محكمٌ لا ثغرة فيه، مضيءٌ لا ظلمة فيه، والكامل هو الّذي يراد بالتّنقّص دون النّاقص.
وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ فهي الشّهادة لي بأنّي كامل
وكما قال الصّينيّون: "إنّ النّاس لا يرمون بالأحجار إلاّ الشّجرة المثمرة"، لهذا فقد كان هذا الدّين غرضًا لسهام كثيرٍ من الحاقدين، وكان هذا الدّين مظنّةً لظنون كثيرٍ من الجاهلين، وأمّا أولئك الّذين ما كانوا حاقدين ولا كانوا جاهلين فإنّ كثيرًا منهم وقفوا عاجزين عن ردّ شبهات المشبّهين وعن ردّ ظنون الظّانّين، فضاع الإسلام بين حاقدٍ وبين جاهلٍ وبين عاجز.
ولكنّه لا يحتاج إلى من يدافع عنه؛ لأنّه حقّ بذاته لا بمدافعيه، ولأنّه كمالٌ بذاته لا بمناصريه، ولكنّ شرفًا للمرء أن يكون مدافعًا عن الدّين الكامل وإن كان هذا الدّين مستغنيًا عنه؛ لأنّ الله جلّ وعلا تكفّل بحفظه ببشرٍ أو بغير بشر، فهو محفوظ.
شبهات كثيرة رددنا كثيرًا منها وبقي الكثير، وتكلّمنا عمّا يُزْعَم من أنّ الإسلام دين عنفٍ وقسوة ودين إرهابٍ وتطرّفٍ وبطش، فهو دينٌ يطالب بإيجاد مجتمعٍ إرهابيٍّ تسود فيه الأحكام الجائرة، فتارةً يذبَّح أشخاصٌ، وأخرى تقطّع أيديهم، يجلدون ويرجمون بالحجارة حتّى الموت، عقوباتٌ عفا عليها الزّمان كما يقولون، عقوباتٌ صارت تتنافى مع حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين، عقوباتٌ صارت بعيدةً عن الحسّ الحضاريّ لإنسان العصر الحديث ولإنسان النّظام العالميّ الجديد؛ لذلك علينا أن نقوم بأحد أمرين: إمّا أن نُنظّف الإسلام من هذه الأحكام الجائرة حتّى يصير دينا حضاريًّا، وإذا عَجَزنا عن هذا التّنظيف فلندع الإسلام جملةً وتفصيلا؛ لأنّ دينًا فيه مثل هذه الأحكام ليس أهلاً لأن يُطبّق في زمان النّظام العالميّ الجديد.
سمع مسلمون هذا الكلام فأعجبهم وغرّهم، فأخذوا بالرّأي الأوّل ظانّين أنّهم به يكونون مسلمين، قالوا: إذًا نبقى مسلمين ولكنْ مع إجراء بعض عمليّات التّطهير والتّنظيف لهذا الدّين؛ نريد إسلامًا حضاريًّا خاليًا من الشّوائب، نريد إسلامًا لا عنف فيه، نريد إسلامًا لا إرهاب فيه، نريد إسلامًا لا تقطع فيه الأيدي ولا يرجم فيه الرّجال والنّساء ولا يجلد فيه الأُناس البرآء الّذين أذنبوا ذنبًا لا يتناسب مع هذه العقوبة العظيمة.
صدّق أولئك هذا القول، فإذا بهم يحاربون الإسلام من حيث أرادوا أن ينصروه، ويوسّخونه من حيث أرادوا أن ينظّفوه، الإسلام برّاقٌ بذاته لا يحتاج إلى من يلمّعه، فإذا زعم امرؤٌ عندما يُحرف شيئًا من تعاليم الإسلام وأحكامه أنّه يلمّع الإسلام فإنّه يزعم إذًا أنّه يزيد فيه، والإسلام كامل، وليست الزّيادة على الكامل إلاّ نقصانا، الكامل لا يُزاد فيه، فمن زعم أنّه زاد الكامل فوق كماله فهو إذًا ينقصه، ومن زعم أنّه يلمّع الإسلام فوق لمعانه فهو إذًا يوسّخه.
خذوا الإسلام كما هو، خذوه جملةً واحدة، أو فدعوه جملةً واحدة، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ، جعلوا القرآن عضين أعضاء وأشلاء مفرقةً مبعثرةً، يأخذون ما بدا لهم ويدعون ما لم يبدُ لهم، يأخذون ما توافق مع هواهم ويدعون ما تخالف معه، يأخذون ما وافق عقولهم الفاسدة ويدعون ما خالفها، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:90-93].
خذوا الدّين جملةً أو فدعوه جملة من حيث الاعتقاد، أمّا من حيث التّطبيق فإذا أخذت بعضه وتركت بعضه فإنّك تُؤجر على ما أخذت وتأثم على ما تركت، قد يُجَزَّأ الإسلام تطبيقًا، فإذا رأيت امرأً يصلّي الصّلوات الخمس ولا يصوم في رمضان فلا تقل له: صلاتك مردودةٌ عليك ولا قيمة لها عند الله، بل إنّ لصلاته أجرًا، ولترك الصّيام وزرًا، وإذا رأيت امرأةً سافرةً متبرّجة تصلّي وتصوم وتكثر من النّوافل في الصّلاة وفي الصّيام وتتصدّق وتكثر من الصّدقات فلا تقل لها: إنّ أعمالك كلّها هباءٌ منثور ولا قيمة لها ومردودةٌ في وجهك لأنّكِ تركت الحجاب، عليك أن تأخذي الدّين كلّه أو تدعيه كلّه، لا، بل إنّها تؤجر على ما فعلت وتأثم على ما تركت ما دامت بالكلّ معتقدة.
فالتّطبيق إذًا جُزء يجزّأ أجزاؤه، وأمّا الاعتقاد إذَا جُزّئ فإنّه عند الله لا يجزّأ، فإمّا أن يقبل كلّه أو أن يُردّ كلّه، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، الخطابُ خطابُ عقيدةٍ إذًا لا خطابُ تطبيق، وكم من أُناسٍ عجزوا أو نكصوا عن أن يطبّقوا الإسلام كلّه فتركوا بعض تعاليمه، فهل نقول: إنّ كلّ ما طبّقوا مردودٌ عليهم لبعض ما تركوا؟! لا، بل إنّهم يُؤجرون ويأثمون، ميزان حسناتٍ وميزان سيّئات دقيقان لطيفان يحاسبان بمثقال الذّرّة، فالحسنة محسوبة والسّيّئة محسوبة، أمّا إن تعلّق الأمر بالاعتقاد فإنّ التّجزئة هنا غير مقبولةٍ بحالٍ من الأحوال، أن يقول قائل: "يعجبني في الإسلام تعاون أفراده، ويعجبني في الإسلام الحسّ الرّوحيّ اللّطيف فيه، ويعجبني في الإسلام تهذيب الأخلاق فيه، ويعجبني في الإسلام الصّلة بين العبد وربّه، كلّ هذا أقبله، فأنا مسلمٌ من هذا المنطلق، ولكنْ أن تقول لي: عبوديةٌ في القرن العشرين والحادي والعشرين! وأن تقول لي: قطعٌ للأيدي في عصر حقوق الإنسان! وأن تقول لي: رجمٌ بالحجارة في عهد المنظّمات الدّوليّة ووسائل الإعلام تبثّ كلّ صغيرةٍ وكبيرة! فإسلامٌ من هذا النّوع لا يعجبني، إذًا أنا مسلم"، نقول له: إذًا أنت غير مسلم، لأنّ المسلم مستسلم، وليس الإسلام إلاّ إسلام الكلّ لله تعالى، فلا تكون مسلمًا ما لم تسلّم عقلك وهواك وجوارحك بعد ذلك كلّه للدّين، فإن كنت غير مستعدٍّ لأن تستسلم جملةً وتفصيلا فإذًا أنت لست مسلما، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، ((لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) أخرجه الحسن بن سفيان وغيره عن أبي هريرة، قال ابن حجر: "ورجاله ثقات" وصححه النّووي في الأربعين، حتّى يكون عقله، حتّى يكون منطقه، وحتّى تكون طريقة تفكيره، كلّ ذلك تبعًا لما جاء به.
بهذا نخاطب المؤمنين الّذين زعموا أنّهم يكونون مسلمين وإن ردّوا بعض عقائد الإسلام، فبماذا نخاطب غير المسلمين؟
خاطبناهم طويلاً في شبهاتٍ كثيرةٍ عديدةٍ، كلّمناهم عن الفسق، كلّمناهم عن التّسرّي واتّخاذ الجواري، كلّمناهم عن الحدود، عن القطع وعن الجلد وعن الرّجم، ولربّما نعود إلى ذلك مرّةً أخرى لنستوفيه، ولكنّنا لمّا نكلّمهم عن شبهة عظمى من شبهاتهم الّتي كثيرًا ما تشدّقوا بها ولاكتها ألسنتهم، وعندما تكلّموا بها زعموا أنّهم أصابوا من الإسلام مقتلا، وزعموا أنّ المسلمين أجمعين سيقفون عاجزين لأنّ الإسلام ثبت أنّه دينٌ غير حضاريّ، إنّها حرّيّة الرّأي، إنّها حرّيّة اعتناق المذهب والمبدأ والدّين، إنّها الحرّيّة الّتي أعطاها الإسلام أتباعه ورعايا دولته من غير أتباعه على حدٍّ سواء، بينما زعم غير المسلمين أنّها حرّيّةٌ مفقودةٌ في ظلّ دولة الإسلام، تلك الدّولة الّتي يزعمون أنّها دولةٌ ثيوقراطيّة؛ دولةٌ يسود فيها الحكم الدّينيّ الإرهابيّ الجائر، وليست الثّيوقراطيّة من الإسلام في شيء، إنّما الإسلام أُنموذجٌ لا يمكن أن يُعبّر عنه مصطلحٌ من المصطلحات الغربيّة؛ لأنّه أُنموذجٌ لا يعرفونه، فلا يشبهه حكمٌ دينيٌّ نصرانيّ، ولا حكم دينيٌّ يهوديّ، ولا حكمٌ دينيٌ بوذيّ، ولا يشبهه بالمقابل حكمٌ مدنيّ، فهو حكمٌ جمع بين الدّينيّ الثّيوقراطيّ وبين المدنيّ المتحلّل، هو حكمٌ دينيٌّ مدنيٌّ في آنٍ معًا، هو حكمٌ منضبطٌ حرٌّ في آنٍ معًا، ولكنّه ذلك التّحرّر الوسط ما بين التّحلّل والتّحجّر، وديننا دين أوساط، وما من وسطٍ إلاّ هو فضيلة وسطٌ بين رذيلتين، الفضيلة هي وسطٌ بين رذيلتين، يعرف ذلك علماء الأخلاق، فلماذا حاكموا الإسلام بمعيارٍ آخر؟ فأرادوا أن يكون الإسلام بعيدًا عن الوسط طوباويًّا خياليًّا على طرف نقيضٍ من الرّذيلة، أفلا يعلمون أنّ كلّ طرفي نقيضٍ متقابلين متشابهان؟! فما قابل الرّذيلة فهو رذيلة، ما قابل التّزمّت المذموم تحلّلٌ مذموم، ما قابل التّعصّب المذموم تسيّبٌ مذموم، والحقّ هو الوسط بين الأضداد، التّحرّر وسط بين التّحلّل والتّحجّر، الإسلام ما دعا إلى تحجّرٍ وتزمّتٍ وانغلاق، ولكنّه بالمقابل ما أفسح المجال لأيٍّ كان حتّى يتحلّل من الضّوابط والقيود ويفعل ما يشاء متى يشاء بالشّكل الّذي يشاء، لكنّه ضبط.
الحرّيّة الدّينيّة ـ إخوتي ـ أسٌّ من أسس الإسلام، لمّا كان الأنصار أوسًا وخزرجًا في الجاهليّة قبل أن تصهرهم بوتقة الإسلام كان بعضهم لا يعيش له ولد وكان ينذر إن عاش له ولدٌ أن يهوّده؛ بحكم معاشرة اليهود للعرب ـ الأوس والخزرج ـ في تلك المدينة، فلمّا جاء الإسلام ونُوِّرت المدينة المنوَّرة كان كثيرٌ من أبناء الأنصار عبدة الأوثان يهودًا، فأسلم الآباء وبقي الأبناء على دينهم، رغب الآباء في إسلام أبنائهم، ورغب الأبناء عن إسلام آبائهم، وما بين الرّغبة في الإسلام والرّغبة عن الإسلام صار الحبل يُشدّ بين الآباء والأبناء، حتّى همّ الآباء بإجبار أبنائهم على اعتناق الإسلام، عندها أنزل الله تعالى قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].
عندما تكلّمنا عن الجهاد علمنا أنّ الجهاد لم يكن من أجل الإكراه، ولكنّ الجهاد كان من أجل التّحرير، كان الجهاد تحريرًا لآراء الشّعوب وعقائدهم من سلطان الملوك الجائرين، حتّى يستطيع الشّعب اتّخاذ كلمته بعيدًا عن سلطة المتسلّطين، فلمّا حارب المسلمون الملوك والجيوش ولم يحاربوا الشّعوب أفسحوا المجال للشّعوب لاتّخاذ القرار ولإعلان الكلمة، فمنهم من دخل الإسلام ومنهم من لم يدخل، ولم يُكره على ذلك أحد، وحسبك بذلك ذلك الحدث الجليل الّذي سردناه في عهد عمر بن عبد العزيز ما حدث في مصر، عندما انزعج والي مصر من دخول النّصارى في مصر في الإسلام؛ لأنّ دخولهم في الإسلام كان يُقلّلُ ريع الدّولة من الجزية، فأرسل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو له ذلك، يشكو له أنّ أهل مصر يدخلون في الإسلام بكثرة، وإنّ هذا سينقص من أموال الجزية، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى والي مصر مَن عاقبه ضربًا بالسّياط، وقال له: (لوددت أنّ أهل مصر كلّهم دخلوا في الإسلام، إنّ الله بعث محمّدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا).
أفترى في موقف الوالي ثمّ في موقف أمير المؤمنين أيّة إشارة أو تشمّ أيّ رائحة بأنّهم أكرهوا النّاس على الدّخول في الإسلام؟! والأمثلة بعد هذا كثير، فلم يكن الجهاد إذًا مظهرًا من مظاهر الإكراه، ولكنّه كان مظهرًا بالغًا من مظاهر التّحرير، ومن مظاهر الإطلاق والإعتاق، فلمّا انعتق النّاس اتخذوا قراراتهم بأنفسهم، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
ها هو تعالى يقول في موطنٍ آخر: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]. إنّها حرّيّةٌ مطلقةٌ في الرّأي والاختيار، ولكنّها حرّيّةٌ تترتّب عليها نتائج عظيمة، وبقدر ما يُعطى المرء من الحرّيّة يُحمّل من المسؤوليّة، فلمّا أُعطي حرّيّةً عظمى تتعلّق باتّخاذ القرار في أهمّ مسألةٍ في الكون وأهمّ مسألةٍ على مرّ التّاريخ، ألا وهي حرّيّة اتّخاذ الإله وحرّيّة انتساب الدّين، عندها حمّله أعظم مسؤوليّةٍ على الإطلاق، حمّله نتيجةً عظيمة هي الخلود في نعيمٍ أو في جحيم، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ، ولكنْ ما بعد ذلك؟ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29-31].
هم اختاروا فتحمّلوا نتيجة اختيارهم، ولو أنّه أجبرهم على اتّباع مبدأ أو امتثال أمرٍ أو اعتناق دين لما تحمّلوا هذه المسؤوليّة العظيمة؛ لأنّه سبحانه كما قال: لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًَا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. إنّه تخيير، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، إنّه تخيير، وما أكثر النّصوص الّتي تُقرّ التّخيير إقرارًا نظريًّا في الكتاب أو في السّنّة، فطريق الخير وطريق الشّرّ بيّنان.
يقال لنا: لقد تأكّدنا أنّ دينكم أقرّ حرّيّة الاختيار وحرّيّة العقيدة وحرّيّة الدّين إقرارًا نظريًّا، ولكنْ إذا نحن بحثنا في التّطبيق العمليّ عن ذلك فهل نجده أم إنّنا نجد إرهابًا وقسرًا؟ يُقال لنا: ما تقولون في حدّ الرّدّة؟! حيث إنّ مسلمًا يرتئي دينًا آخر غير الإسلام دينَ حقّ فيتّبعه فيقتل لذلك: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنه، فكيف نوفّق بين تلك الحرّيّة المزعومة وبين هذا التّسيير وهذا الإجبار العمليّ البيّن: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) ؟! فمن ارتدّ عن الإسلام قتل!
الجواب عن ذلك ـ إخوتي ـ أنّ الّذي لم يكن مسلمًا ليس ملزمًا في الدّنيا بأن يكون مسلمًا، وإن كنّا من النّاحية النّظريّة نحذّره من أنّه إن اختار غير الإسلام فسيتحمّل نتيجةً وخيمةً يوم القيامة؛ لأنّه يختار دينَ غير الله ويختار غيرَ دين الله؛ لذلك نحذّره، ولكنّنا لا نجبره، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فإن شاء أسلم فله الفضل وله حقوق المسلمين وعليه واجباتهم، وإن شاء لم يسلم فسوف يعامل معاملةً فاضلةً في الدّولة المسلمة كما قال خالد بن الوليد، وكما قال أبو عبيدة، وكما قال الفاتحون العظام: لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، حتّى ولو لم يسلموا فإنّ لهم حقوقًا كما أنّ عليهم واجبات، يدفعون الجزية، وقد فصّلنا طويلاً في الجزية وبيّنّا أنّ فرض الجزية على غير المسلمين إنّما هو فضلٌ لهم وليس فضلاً للدّولة، فالدّولة الإسلاميّة تفضّلت عليهم إذ طالبتهم بالجزية لا أكثر.
فها هو السّلطان سليم الأوّل ويقال السّلطان سليمان القانونيّ يخشى من تجمّع الأروام والبلغار والصّرب والأرمن، فَيَهِمُّ بإخراجهم من الدّولة العثمانيّة، فيقول له شيخ الإسلام في كلّ مرّة ويحذّره: "ليس لك عليهم إلاّ الجزية"، ليس لك أن تمارس ضدّهم إرهابًا دينيًّا أو تطهيرًا عرقيًّا، الله أوجب عليهم الجزية، فليس لك أن توجب عليهم سواها، فإذا لم يكن مسلمًا فإنّه ليس ملزمًا بأن يصير مسلمًا، فإن صار مسلمًا فبها ونعمت، وإلاّ فإنّ الدّولة الإسلاميّة تحفظ له حقوقه، تحفظ للنّصارى كنائسهم ولليهود بيعهم، وإنّ الدّولة الإسلاميّة تحميهم من أعدائهم، ولا تكلّفهم الخدمة الإلزاميّة في الجيش، فإذا خدم أحدهم في الجيش سقطت عنه الجزية لأنّه فعل ما يعوّضها، فما أشبه الجزية إذًا ببدَل الخدمة الإلزاميّة يدفعها من أراد أن لا يخدم في الجيش، وأمّا المسلم فليس له ذلك، ليس له أن لا يخدم في الجيش، بل هو ملزمٌ بالجهاد، صار التّفاوت هنا نظريًّا من النّظرة الدّنيويّة لصالح النّصرانيّ، وأمّا من النّظرة الأخرويّة فإنّ الجهاد فضلٌ وشرف وليس قسرًا وكلفة، لذلك صار لمصلحة المسلم، الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بأن تحمي النّصارى من بعضهم، كما حدث في إنطاكيّة في بعض عصور الدّولة العثمانيّة، عندما خصّصت الدّولة جنودًا وأحراسًا يحمون طوائف النّصارى من بعضهم لعظيم الفتنة الّتي كانت بينهم، حتّى في فلسطين، حتّى في مهد النّصرانيّة في بيت لحم، كان النّصارى يذبّحون بعضهم ويقتتلون؛ من الّذي يحوز مفاتيح كنيسة المهد ـ مهد المسيح عليه السّلام ـ؛ لهذا فقد آلت المفاتيح إلى المسلمين إلى ذرّيّة أبي أيّوبٍ الأنصاريّ رضي الله عنه.
الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بتأمين الحياة الكريمة لهؤلاء من غير المسلمين: (فوالله، ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثمّ نخذله عند الهرم)، قالها عمر بن الخطّاب في رجلٍ يهوديّ.
إذًا ليس غير المسلم مطالبًا بالدّخول في الإسلام إلاّ مطالبةً دينيّةً معنويّةً، وأمّا من النّاحية المدنيّة فلا، فإن لم يسلم فإنّه لن يقتل، ولكنْ إذا أسلم ـ إخوتي ـ فإنّه قد صار عضوًا في هذا الاجتماع، وصار عضوًا في هذه المنظّمة الّتي تدعي الإسلام، فلا بدّ إذًا أن يتحمّل نتائج انتسابه لهذه المنظّمة، ولا بدّ من أن يكون راضيًا بكلّ ما فيها من مبادئ وقوانين، لم نأت بهذه القاعدة من عندنا فقط، بل إنّ كثيرين من غير المسلمين اعترفوا بها، فذلك على سبيل المثال جون جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعيّ) يقرّ أنّ امرأً فردًا من النّاس إن دخل في اجتماعٍ معيّن، وإن صار عضوًا في مجتمعٍ معيّن فقد عقد بينه وبين هذا المجتمع عقدًا بطريقةٍ تلقائيّةٍ، وإن لم يوقّع ويوقّعوا، وإن لم ينصّ وينصّوا، فإنّ العقد قد أبرم لأنّه صار عضوًا في هذا المجتمع، إن أنت دخلت بلدًا من البلدان فهل لك أن تخالفَ قانونه بدعوى أنّك لا تعترف بهذا القانون؟! إن أنت دخلت بلدًا يحرّم التّدخين في وسائل النّقل فدخّنت في وسائل النّقل وطولبت بالغرامة أو حبست ربّما، فهل لك أن تقول: أنا لست مقتنعًا بهذا القانون؟! إذا كنت غير مقتنعٍٍ بقانون البلد فلمَ دخلت البلد من الأساس؟! ما دمت قد دخلت البلد فأنت ملزمٌ بكل قوانينه، إن كنت معتادًا على التّسيّب في بلدك ثمّ سافرت إلى بلدٍ آخر لا تسيّب فيه واستمرَّت مسيرة التّسيّب عندك فهل تعذر لأنّك من بلدٍ آخر؟! لا، بل إنّ قوانين البلد الجديد صارت نافذةً عليك ملزمةً لك بكل تفاصيلها وحذافيرها، إذا كان هذا يتعلّق بالدّخول في بلد فمن باب أولى إن كان دخولاً في نظام وإن كان اعتناقًا لمبادئ هذا النّظام، إن أنت انتسبت إلى حزبٍ سياسيّ أو نادٍ اجتماعيّ أو منظّمةٍ ثقافيّةٍ مثلاً وبايعت أربابها على نظامها الدّاخليّ بتفاصيله، فهل لك فيما بعد أن تخالفه بدعوى أنّك غير مقتنعٍ به أو ببعض بنوده؟! لا.
فإذا دخلت ـ يا أيّها الإنسان ـ في دينٍ اسمه الإسلام فأنت إذًا ملزمٌ بتفاصيل هذا الإسلام، وعالمٌ مسبقًا بما يترتّب على كلّ فعلٍ تفعله، أنت لم تكن ملزمًا بالدّخول في هذا الدّين، أمَا وقد دخلت فيه فإنّك ملزمٌ بكلّ تفاصيله لأنّه دينٌ لا يجزَّأ، نظامٌ محكمٌ لا يفتّت، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فعليك أن تقبل به كما هو.
يقول قائل: فإن دخلت فيه ثمّ تبيّنَت ليَ بعض التّفاصيل الّتي لم تعجبني فيما بعد فما أفعل؟ نقول: إن ارتدَدت عن هذا الدّين فإنّك إذًا لم ترتدّ عنه لأنّ بعض التّفاصيل لم تعجبك، ولكنّك ارتددت لأنّك إنسانٌ هوائيّ، تتّبع هواك، تريد التّقلّب والتّذبذب.
هذه الرّدّة الّتي وضع لها هذه العقوبة الصّارمة نتائجها وخيمةٌ على المجتمع المسلم، تصوّر أنّ امرأً من النّاس يدخل الإسلام اليوم ثمّ يخرج منه غدًا، ثمّ يدخل فيه ثمّ يخرج منه، وقلّده أمثاله من المغرضين أصحاب الأهواء، ماذا سوف يحُلّ بالمسلمين من ضعاف الإيمان؟ سيقولون: لماذا يدع الإسلامَ بعد أن يدخل فيه؟! هذا لا بدّ أنّه يدلّ على أنّ في الإسلام أخطاءً اكتشفها هذا الرّجل، فسوف يهمّون بفعل مثل ما فعل، وفي هذا قال تعالى: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]. هكذا قال اليهود لبعضهم، حرّضوا بعضهم على الإسلام ثمّ الرّدّة عَلَّ المسلمين يرتدّون مثل ما يرتدّ اليهود، آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، أسلموا صباحًا واكفروا مساءً ثمّ أسلموا صباحًا ثمّ اكفروا مساءً لعلّهم يرجعون، أي: لعلّ المسلمين يرجعون عن دينهم ويرتدّون عنه، في المجتمع أمثال هؤلاء، فلا بدّ من أن توضع لهم عقوباتٌ صارمة لئلا تسوّل لهم نفوسهم أن يتّخذوا الإسلام لعبة وأن يتّخذوه طريقًا سهلا، الدّخول في الطّريق ليس مثله الرّجوع منه، فالرّجوع صعب، ما دمت قد دخلت فليس لك أن ترجع بالسّهولة ذاتها، ادرس الإسلام حتّى إذا اقتنعت به فاتّبعه، فإذا اتّبعته فلْتكن مخلصًا له.
ما أكثر ما نرى اليوم من مسلمين ضَعف إيمانهم لا لأنّ الإسلام فيه خطأٌ أو أنّ الإسلام فيه عيبٌ، ولكنْ بما يرون من تقصير من حَولهم، فكيف إذا رأوا ردّةً ممّن حولهم؟! كيف إذا رأوا نكوصًا عن الدّين جملةً وتفصيلا؟!
ثمّ ها هنا مسألةٌ هامّة، وهي أنّ المرتدّ غالبًا سيكون أحَد نوعين:
أمّا النّوع الأوّل فهو هذا الّذي ذكرنا، صاحب الغرض والهوى الّذي يريد أن يؤذيَ الإسلام، ويريد أن يخرّب الإسلام من الدّاخل، ومعلومٌ أنّ التّخريب من الدّاخل أبلغ ضررًا من التّخريب من الخارج؛ لذلك صارت اليوم وسيلة التّفجير وتهديم المباني هي التّفجير الدّاخليّ لأنّه يقوض البناء من أسسه، فإذا كان في المجتمع أمثال هؤلاء فلا بدّ من أن نقطع دابرهم بعقوبة القتل: ((من بدّل دينه فاقتلوه)).
وأمّا النّوع الثّاني فإنّهم أناسٌ لا يفكّرون بمثل هذا ولا يريدون أن يؤذوا الإسلام أو أن يردّوا المسلمين عن دينهم، ولكنّهم حقًّا اشتبهت عليهم بعض الأفكار، وضلّوا في فهم بعض أحكام الإسلام، فارتدّوا عن الدّين لهذا، فما حكم هؤلاء؟ وهل يقتلون كما يقتل أولئك؟ نعم يقتلون، ولكنْ لا يقتلون ابتداء، بل لا بدّ قبل أن نقتلهم من أن نردّ الشّبهات في عقولهم، ولا بدّ من أن نزيل ذلك الغبار الّذي تراكم على عقيدتهم.
يستتاب المرتدّ ثلاثة أيّامٍ قبل أن يقتل، فإن تاب فبها ونعمت، نسينا ما قال وتجاهلناه وعاد عضوًا نافعًا صالحًا في المجتمع، وأمّا إن بقي على ردّته فإنّ لنا معه شأنًا آخر عندها.
ثلاثة أيّامٍ نستتيبه فيهنّ، ولا بد من أن نقف عند هذه الاستتابة، فهل الاستتابة هي ما يفهمها عوامّ النّاس من أن نذهب فنقول له: "تب إلى الله، وإن لم تتب فسوف نقتلك"؟ هذا الكلام يعرفه ولا جدوى من تكراره على مسمعه، بل إنّه إن لم تردّ الشّبه حقيقةً فإنّه سيكون متقبّلاً للقتل، ألا ترى أن كثيرين يقتلون شهداء مبادئ فاسدة وهم مسرورون بذلك؟! ألا ترى إلى أصحاب المبادئ القوميّة والشّوفينيّة وأصحاب المبادئ الاشتراكية والشّيوعيّة وأصحاب المبادئ الفاسدة كيف يقتلون مسرورين لأنّهم يرون أنفسهم ينصرون القضيّة؟! فإن نحن استتبناه استتابةً ظاهرة فإنّنا لن نحلّ الإشكال، وسوف نقتله وهو بذلك مسرور، ولا نحلّ بذلك إشكالاً، سوف يظنّ أنّه قتل شهيدَ الحرّيّة وشهيد المبدأ وشهيد النّور وشهيد العقل والمنطق، ونحن في نظرِه العتاةُ المتمرّدون والطّغاة المتجبّرون الّذين حاربنا الحقّ والخير والهدى والفضيلة والعقل والمنطق، فهو المظلوم ونحن الظّلمة في نظره.
ليست الاستتابة كما تتصوّرون إخوتي؛ إنّما الاستتابة حلٌّ للعقد وفكٌّ للشّبه حتّى يستطيع الرّجل أن يفكّر بالمنطق الدّينيّ مرّةً أخرى. إذًا لا بدّ أن يكون المستتيبون علماء عقلاء حكماء، فإن كان ذلك المرتدّ فيلسوفًا فلا بدّ من أن يكون المستتيبون فلاسفة، وإن كان ذلك المرتدّ عالمًا تجريبيًّا فلا بدّ من أن يكون أولئك المستتيبون علماء تجريبيّين، وإن كان ذلك المرتدّ إنسانًا يفهم بمنطق التّاريخ فلا بدّ من أن يكون المستتيبون مناطقةً في التّاريخ، فضلاً عن علم المستتيبين بأحكام الشّرع وبمنطق الدّعوة والإصلاح حتّى يستطيعوا أن يعاملوه كما يناسبه.
الدّاعي ـ إخوتي ـ لا بدّ من أن يكون محقّقًا لشروطٍ هامّة، لا بدّ من أن يكون الدّاعي إلى الله عمومًا في كلّ مواطن الدّعوة عالمًا في المنطق وعالم نفسٍ وعالم حكمةٍ وفلسفة، ثمّ لا بدّ من أن يكون صاحب روحٍ مرنةٍ لطيفةٍ صافيةٍ يستطيع بها أن يدخل القلوب ويتعامل مع النّفوس، ويستطيع بها أن يتعرّف ثغرات البشر فيدخل عليهم من خلالها، لا بدّ من أن يكون الدّاعي ملمًّا محيطا كالبحر المحيط، لا بدّ من أن يكون الدّاعي في مقابل المتلقّي كالإناء الكبير في مقابل الإناء الصّغير حتّى يستطيع احتواءه واستيعابه، أمّا إن كان الدّاعي صغيرًا والمتلقي كبيرًا فإنّ الدّاعي عاجزٌ عن احتواء المتلقّي، هذا في عموم مواطن الدّعوة فكيف إذًا في دعوة المرتدّ؟! وهنا الدّعوة أخطر.
في عموم الدّعوة إذا دعوت نصرانيًّا إلى الإسلام فلم يسلم اليوم فقد يسلم غدًا، فإن لم يسلم غدًا فقد يسلم بعد غدٍ، فإن لم يسلم هذا العام فقد يسلم العالم القادم، على أن أكون صاحب نفسٍ طويل وموجةٍ طويلة في دعوته، وأمّا هذا المرتدّ فإن لم يعد إلى دينه ضمن ثلاثة أيّام فإنّه سيقتل، وحكمة الدّاعي إذًا خطيرةٌ دقيقةٌ في هذا الموطن، أن يذهب أناسٌ جهلة يُسَمَّون مشايخ فقط وليست عندهم الذّخيرة العلميّة الكافية ويقولون له: "يا كافر، يا مرتدّ، عد إلى الدّين وإلاّ سنقتلك" فإنّ هذا سيخرّب أكثر ممّا يبني.
إخوتي، في أصل الدّين والإيمان لا يمكن أن يكفر بالدّين امرؤٌ لشبهةٍ تتردّد عنده في الأصل كما قال أبو سفيان في جوابه على أسئلة هرقل، قال له: هل يدخل أحدٌ دينه ثمّ يخرج منه سُخطةً له؟ قال: لا، فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يخرج منها.
هذه الرّدّة حادثة، عندما صارت الشّبهات تُشاع وصارت الأمراض تفشو في عقائد النّاس صار بعضهم يرتدّ لشبهة، وإلاّ فلم يكن ذلك في الأصل واردًا؛ لأنّ النّاس كانوا يؤمنون إيمانًا خالصًا، وكانت عقائدهم صافية، إذًا ما دامت الأمراض عارضة فلا بدّ إذًا من أن نعالجها علاجًا حكيمًا، لا بدّ من أن يمضي إلى هذا المرتدّ أناسٌ عقلاء علماء حكماء حلماء توافرت فيهم كمالات الدّعاة كلّها، توافرت فيهم مناقب الحلماء أجمعها؛ حتّى يستطيعوا أولاً أن يفهموا نفسيّة هذا المرتدّ، وثانيًا أن يفهموا الشّبهات الّتي أودت به إلى الرّدّة، وثالثًا أن يفهموا الطّريقة الّتي بها يستطيعون إصلاح المرض، يفهمون النّفسيّة، ثمّ يفهمون أعراض مرضها، ثمّ يفهمون أدوية هذه الأعراض، فإنْ ذهب أناسٌ كهؤلاء إلى هذا المرتدّ وناقشوه وخاطبوه وأقاموا الحجّة عليه فبقي مرتدًّا فقد انتقل إذًا من خانة النّوع الثّاني إلى خانة النّوع الأوّل، إذًا هو لم يرتدّ لشبهة إنّما هو ارتدّ لغرض، عندها صار أهلاً لأنْ يقتل لأنّه أراد تخريب الإسلام وأراد إفساد عقائد المؤمنين؛ لأنّنا أقمنا عليه الحجج، ورددنا له الشّبهات باللغة الّتي يفهمها والمنطق الّذي يفهمه ومع ذلك بقي على ردّته، عندها نقول له: لا بدّ من أن نطهّر المجتمع منك؛ لأنّك مثل أولئك الّذين قالوا: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، مرضٌ في نفسك لا تفصح به، لا بدّ من أن تعاقب عليه بالقتل؛ لأنّك عقدت عقدًا اجتماعيًّا مع هذا الإسلام ورضيت من خلاله بكلّ تفاصيله وأحكامه. وأمّا إنْ حاول هؤلاء المستتيبون ردّ الشّبهات فعجَزوا وبقي هو المقدّم وبقي رأيه سائدًا ورأيهم مسودًا وكان هو أقوى حجّةً منهم عندها لا ينبغي أن يقتل هذا الرّجل، لا ينبغي أن يقامَ عليه حدّ الرّدّة لأنّنا ما أقمنا عليه الحجّة بعد، حتّى ولو استمرّت الاستتابة شهورًا لا أيّامًا ثلاثة؛ لأنّنا إنْ قتلناه حينها فإن ذنبه في رقبة وليّ الأمر الّذي قتله دون أن يقيم عليه الحجّة، والّذي أرسل إليه علماء هم جهلاء، وحكماء هم ليسوا حكماء، جعلهم حكّامًا دون أن يكونوا حكماء، ولا بدّ للحاكم من أن يكون حكيمًا، وكلّ حكمٍ لا يُشْفَع بحكمةٍ يكون تسلطًا، فإن عجزنا عن إقامة الحجّة عليه فلا بدّ من أنْ نتخيّر عالمًا يستطيع إقامة الحجّة عليه، وإلاّ فإن قتلناه قبل ذلك فإنّه سيكون قتيل ظلمٍ وقتيل جورٍ وسيكون شهيدًا لرأيه.
هذه هي الرّدّة إخوتي، لا نقتل امرأ إلاّ بعد أن نتأكّد أنّه ارتدّ عن دينه لغرضٍ وهوى، لا لرأيٍ ومبدأ، فأمّا إن كان لرأيٍ ومبدأ فإنّنا نقيم الحجّة عليه، فإن كان لرأيٍ ومبدأ فلا بدّ من أن نستطيع إقناعه بالعكس، فإن لم نستطع فلا ينبغي أن نقتله، وإن استطعنا ولم يعد إلى دينه فلا بدّ من أن نقتله لأنّه إذًا من النّوع الأوّل كما قلت.
من هذا المنطلق قتلُ المرتد حمايةٌ للإسلام إذًا من العابثين، وحمايةٌ له من أولئك المغرضين أمثال عبد الله بن سبأٍ مثلاً اليهوديّ الملعون الّذي تظاهر بالإسلام تظاهرًا، وغيره من الّذين دخلوا في الإسلام لا لاعتقادٍ واعتناق، ولكنّهم دخلوا فيه لينخروا فيه من أساساته، وليعيثوا فيه فسادًا من داخله، لا بدّ من أن يطهّر الإسلام من أمثال هؤلاء، ومع هذا ـ إخوتي ـ لا يقتل المرتدّ إلاّ بعد أن يُصرِّح بالرّدّة، فها هم أولاء المنافقون الّذين عاصروا النّبيّ ، لطالما ارتدّوا عن الإسلام، فلمّا قُرِّرُوا بردّتهم نكصوا وأنكروا، فلم يقتلوا بردّة لأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أخذ بالظّاهر، ها هو ذا رأس النّفاق عبد الله بن أبيّ بن سلول يسبّ النّبي ويذمّه، كانوا راجعين من غزوة بني المصطلق عندما اختصم رجلٌ خزرجيٌّ مع أجيرٍ لعمر بن الخطّاب، والخزرجيّ من أهل المدينة ومن قبيلة عبد الله بن أبيّ لعنه الله، وأجير عمر من أهل مكّة من المهاجرين، فلمّا وصل الخبر لعبد الله بن أبيٍّ قال: أوَيناهم في ديارنا ثمّ يقاتلوننا، ما مثلهم ومثلنا إلاّ كقول من قال: سمّن كلبك يأكلك ـ يقول ذلك عن المهاجرين ـ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل) لعنة الله عليه، يقصد بالأعزّ نفسه، ويقصد بالأذلّ رسول الله ، وصل الخبر إلى المصطفى عليه الصّلاة والسّلام فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ: ((أأنت قلتها يا ابن أبيّ؟)) قال: لا، قال: ((فانصرف)). لقد أقرّ الوحي ذلك الخبر، وثبت بالدّليل القاطع الّذي لا شبهة عليه فقال تعالى: يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، ومع هذا لم يقتل رسول الله ابن أبيٍّ لأنّه لم يعترف ولم يصرّح بما قال. جاء عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني أضرب عنقه، قال: ((لا يا عمر، لا أقتله حتى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين [الأنبياء:107]، ((لا أقتله حتّى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). منافقٌ يسبّه ومع ذلك لا يقتله كما يُقتَل المرتدّون، يأتي عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول رضوان الله عليه ولعنة الله على أبيه، يقول: يا رسول الله، إنّه ليس أحدٌ أبرّ بأبيه منّي بأبي، وإنّي سمعت ما قال أبي، وإنّي أخشى أن تأمر واحدًا من المسلمين بقتله فلا أتحمّل ولا أطيق أن أرى قاتل أبي أمامي فأقتله ـ لبرّي بأبي أقتل قاتل أبي ـ فأكون قد قتلت مسلمًا بكافر ـ وهو يعترف أنّ أباه كافر، ولكنّه يخشى من حميّة البنوّة ـ، فيا رسول الله إن أردت أن تقتل أبي فمرني أقتله بنفسي، حتّى لا أتعرض لتقل رجلٍ قتل أبي بل أقتله أنا، فيقول عليه الصّلاة والسّلام: ((لا، ولكنْ نحسن إليه ما دام بيننا)). صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين. يمضي عبد الله بن عبد الله رضوان الله عليه إلى أبيه لعنة الله عليه، فيقول له بعد أن أمسك به وهمّ بقتله همّ بضربه، قال له: والله، لا أدعك حتّى تقول: إنّك أنت الذّليل ورسول الله هو العزيز، حتّى إذا اعترف أبوه بذلك تركه، اعترف بأنّه هو الأذلّ ورسول الله هو الأعزّ. تمضي أيّامٌ ـ إخوتي ـ ويموت عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النّفاق، يأتي ابنه إلى رسول الله ويطلب منه رداءه ليكفّن به أباه، فيعطيه رداءه، ويقول له: ((إن فرغتم منه فأعلموني)) ، إذا فرغتم منه فأعلموني، يقول عمر: يا رسول الله، تكفّنه ببردتك وقد نافق! فيقول: ((وما ينفعه بردي إن لم ينفعه عمله؟!)) ، يعلمون رسول الله بأنّهم فرغوا من تجهيزه، من تغسيله وتكفينه، فيأتي النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليصلّي عليه وهو الذّي ذمّه، وهو الذّي سبّه، وهو الّذي اتّهم زوجته بالفاحشة، وهو الّذي قال عنه ما قال، وهو الّذي أيّد اليهود عليه، وحاربه وحارب أصحابه، وهو الّذي قال: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فيقف عمر بن الخطّاب بينه وبينه يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر)) ، يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر، فإنّ الله قال لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التّوبة:80] ، فوالله لو علمت أنّني لو استغفرت لهم واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله له لاستغفرت له)). وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ، لو علم أنّه لو استغفر واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله لابن أُبَيّ لاستغفر له واحدةً وسبعين مرّة، ويصلّي عليه، عندها أنزل الله تعالى تأييدًا لعمر بن الخطّاب: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التّوبة:84]. ارتدّ فلم تُقَم عليه عقوبة الرّدّة لأنّه لم يصرّح بِرِدَّتِه، بل كان يُظهر حبّه للنّبيّ، فعامله النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بالظّاهر مع يقينه من الباطن.
إذًا عقوبة الرّدّة لها شروطٌ وشروط، فإذا توافرت شروطها كلّها عندها لا بدّ من أن تقام حفظًا للإسلام من العبث كما قلت، وحفظًا من أغراض المغرضين، وحفظًا من إيذاء المؤذين.
يقال لنا بعد كلّ هذا الكلام: علمنا أنّ الّذي دخل في الإسلام بمحض اختياره ليس له أن يدع الإسلام باختياره لأنّه تعاقد مع الإسلام وقبل بكل أحكامه، وعلمنا الأحكام المترتّبة على ذلك، ولكنْ ما تقولون في امرئٍ ولد في بيئةٍ مسلمة ونشأ مسلمًا لا باختياره، ولكنّ البيئة اضطرّته إلى ذلك، والمجتمع صيّره مسلمًا دون أن يكون له بذلك خيارٌ أو قرار، هذا إذا اكتشف يومًا من الأيّام أنّ الإسلام فيه شيءٌ من شبهات وأراد أن يدعه، فما تفعلون به؟
نقول: إنّ فضلاً من الله عليه أنّه ولد في البيئة المسلمة لئلاّ يصير عرضةً لتقاذف الأهواء والأمواج الإلحاديّة والكفريّة، لذلك صار مسلمًا بالطّبيعة، بالفطرة، وهذا غالبًا يكون إيمانه أثبت من إيمان غيره، لذلك فإن تعرّض لشبهةٍ يومًا من الأيّام فغالبًا لن تكون شبهةً عنيفةً كشبهة غيره، فيسهل ردّها عنده، قد يكون مرتدًّا كذلك للسّبب الأوّل: لغرضٍ أو هوى، فكم رأينا من شبابٍ يرتدّون عن الإسلام عقيدةً وفكرًا إلى دينٍ آخر؛ لأنّ الدّين الآخر ليس فيه حرامٌ وليس فيه ضوابط وليس فيه واجبات، فهو يريد أن يكون كما يشاء، وأن يفعل ما يحلو له، والإسلام لا يبيح له ذلك، امرؤٌ كهذا لا بدّ من أن توضع أمامه هذه العقوبة الصّارمة حتّى لا تسوّل له نفسه، وأمّا إن ترك الإسلام لشبهة فإنّنا نردّ شبهته كما رددنا شبهة ذلك الرّجل.
ولا بدّ ها هنا من أن نكون حلماء وحكماء وعقلاء وعلماء في التّعامل مع هذه الشّبهات، وبخاصّة مع شريحة الشّباب، وهذا ما أخاطب به الدّعاة كلّهم فأقول لهم: عاملوا الشّباب معاملة الطّبيب للمريض لا معاملة الحاكم للمجرم؛ لأنّهم يحتاجون إلى فهمٍ وعطف، يحتاجون إلى ذلك الصّدر الحاني الّذي يضمّهم، وإلى ذلك العقل الواعي الّذي يفهمهم، فلا تحملوا سيفًا، ولا تُشهروا سوطًا، بل احملوا قلبًا حانيًا وصدرًا دافئًا، واحملوا عقلاً واعيًا وفكرًا فاهمًا، حتّى تستطيعوا أن تردّوا شبهات الشّباب إن كانت عندهم شبهات؛ لأنّ إيمان هؤلاء أعظم من إيمان الّذين نشؤوا كفرة، فالله أنعم عليه إذ نشأ مؤمنًا فردّ الشّبهات عنده أسهل.
لذلك ـ إخوتي ـ انشروا ما قلت وأعلموهم أنّ ديننا هو دين الحرّيّة، وهو دين المنطق، وهو دين الرّأي، الرّأي الّذي ينضبط لا الرّأي الّذي ينعتق من الضّوابط. هو دين الحرّيّة، تلك الحرّيّة، ذلك التّحرّر الّذي هو وسطٌ بين التّحلل والتّحجّر، فليس دينًا إرهابيًّا ثيوقراطيًّا، وليس دينًا متحلّلاً متسيّبًا، بل إنّه دينٌ وسطٌ بين هذا وذاك، وإنّما الكمال يكون في الوسط، و((خير الأمور أوسطها)) أخرجه البيهقي عن مطرف رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة.
تلك شبهةٌ عظيمة نسأل الله أن لا يبقى فيها كلامٌ لمتكلّم أو شبهةٌ لمشبّه، ولكنّ ثمّة شبهاتٍ كثيرةً أُخر، نسأل الله أن ييسّر لنا ردّها والكلام فيها في لقاءاتٍ قادمةٍ بإذن الله تعالى، وليس ذلك من باب الدّفاع عن الإسلام لأنّ الإسلام حقٌّ بذاته لا يحتاج إلى من يدافع عنه، إنّما ذلك تشريفٌ لنا بأنْ نصير مظهرين للإسلام على حقيقته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إقرارًا بوحدانيّته وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشّفيع المشفّع في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووعت أذنٌ لخبر.
أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، وأحثّكم وإيّاي على طاعته، وأحذّركم وبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرّق ولا يجمع إلاّ الله.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنّى بملائكة قدسه وعرشه، فقال تعالى: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد كما صلّيت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، اللّهمّ بارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد كما باركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد.
اللّهمّ أيّد الإسلام وأعزّ المسلمين، وأعل وانصر يا مولانا الحقّ والدّين...
(1/4771)
المخالفة الشرعية في الاحتفال برأس السنة الميلادية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
أحمد المتوكل
تاونات
مسجد الرميلة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المسلمين إذا ابتعدوا عن صراط الله المستقيم. 2- ظاهرة تقليد النصارى. 3- احتفال كثير من المسلمين بأعياد رأس السنة الميلادية. 4- مظاهر الاحتفال برأس السنة الميلادية وما يقع فيها من المنكرات. 5- محالفة الكافرين من مقاصد الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المسلمين إذا زاغوا عن طريق الحق لعبت بهم الأهواء، وساقتهم حيث تشاء، وإذا انحرفوا عن أخلاق الإسلام وفرطوا في قيمهم حلت بهم المصائب والأدواء، وسلكوا طرق الضلال والإغواء، وانهزموا وتسلط عليهم الخصوم والأعداء، وكان مصيرهم التأخرَ والهامشية والانزواء، والسير في ركاب الغالبين الأقوياء. وإن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يرى ذلك تماما، وتظهر له هذه الحقائق جلية.
إن المسلمين المنهزمين اليوم قلدوا الغرب "القوي" في كل شيء سافل تافه من الأقوال والأفعال، ليس في العلم والاختراع والصناعة والابتكار والجدّ، قلدوه في الأخلاق والأكل والشرب واللغة والعادات وفي قوانين الحكم ونظم الحياة. ومن جملة ما قلدوه فيه مصيبة الاحتفال برأس السنة الميلادية، لقد انتشر هذا المنكر الشنيع بين المسلمين وانشغلوا به انشغالا كبيرا، واهتمّوا به وتهيّؤوا له، واتخذوا مناسبته عطلة وعيدا لهم، وذلك بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم وتقليد النصارى واتِّباع سيرتهم ونهجهم في كل ما يفعلونه، وبسبب الانبهار والإعجاب بحضارة الغرب المادية الزائفة والانخداع ببريقها المخدر، وبسبب الغزو الفكري والثقافي والترويج الإعلامي المسموع والمقروء والمرئي الذي يحرّض على هذه الضلالات، ويلفت إليها أنظار الناس وأسماعهم، ويحرك قلوبهم لها، ويثير أهواءهم للاستعداد لها، فما إن تقترب هذه المناسبة حتى ترى المسلمين يستعدون لها وكأنها من أصول الإسلام، بل منهم من يعتبرها أهم وأولى من الأعياد والمناسبات الدينية والأحداث التاريخية الإسلامية، فجعلوها معيارا يسير عليه التاريخ، بدل اعتماد التاريخ الهجري الذي يجعل المسلمين مرتبطين بأصولهم ومطلعين على تاريخهم المملوء بالأمجاد والبطولات والمفاخر، وسبب ذلك أن الناس أصيبوا بخلل في معارفهم الدينية ونقص في زادهم الإيماني، حتى أصبحوا لا يفرقون بين ما هو حلال وبين ما هو حرام، ولا بين ما هو أصيل ولا ما هو دخيل.
أيها المسلمون، إن الله عز وجل هدانا صراطا مستقيما، وهو صراط الصفوة الأخيار من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وجاءت شريعة الإسلام لتقيم لنا هديا مخالفا لهدي الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، فشريعتنا متبوعة لا تابعة، وناسخة لا منسوخة، قال الله عز وجل في سورة الجاثية: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]، والمسلم الذي يصلي لربه عز وجل يدعوه في كل ركعة أن يدُلّه ويُثَبّته على هذا الصراط وفي نفس الوقت يشارك النصارى في احتفالاتهم وعاداتهم يكون صنيعه هذا منافيا لما قررته الآية الكريمة من سورة الفاتحة، ويكون متناقضا مع قوله وفعله، وكاذبا في ادّعائه، وفيه نفاق وخلل في التصور، فهو يصلي ويصوم، ولكن إذا حل رأس السنة الميلادية تبع النصارى وفرح معهم وأقبل عليهم بالوجه الذي يرضيهم، قال النبي : ((إن شرّ الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. وإن الله سبحانه نهانا أن نميل ونركن إلى الذين ظلموا وحادُوا عن سبيله ونشاركَهم في ضلالهم وفجورهم، حتى لا يصيبنا ما يصيبهم، فقال العلي الأعلى سبحانه في سورة هود: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113].
أيها المسلمون، إذا اقترب رأس السنة الميلادية ترى الناس يستعدون لها باقتناء الهدايا والمأكولات والمشروبات الحلال والحرام والملابس ولُعب الأطفال، فيزدحمون أمام أبواب المتاجر وعلى الحلاقين ومحلات التصوير، أما إذا حلت الليلة الموعودة سهروا إلى وقت متأخر من الليل في الفنادق والبارات وفي الشوارع والبيوت على الخمر والرقص والرجس والغناء، ومع البغايا على الزنا والمنكر، وهذه أمور محرّمة دائما، وتزداد حِرمة ونكارة وشناعة حين تُقتَرف تقليدا للنصارى، وعامة الناس يُحْيون هذه الليلة بتناول الحلويات وتبادل الهدايا والتهاني والتبريكات وإقامة الحفلات وتزيين الدور والمحلات بالأضواء الكهربائية والصوَر وكلمات التحية المكتوبة المحبوبة ومتابعة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة المسمومة التي تواكب هذا الحدث الصاخب العاطب، حيث تنظم سهرات الغناء والرقص والفحش والمجون لإغواء المشاهدين وإفساد المستمعين، زاعمة أن ذلك لإسعادهم والترويح عنهم، فترى في هذه الليلة المسهورة المسعورة المنكرات والفواحش والفواجع، ترى الخمر يباع ويُشْرب علانية، يسيل وديانا، وترى الزناة مفضوحين، وتسمع المعربدين يصيحون كالكلاب، يقلقون الناس ويسبّون ويشتمون، ويتلفّظون بالكلام الساقط الهابط، وترى القبلات والعناقات، وتسمع الموسيقى الصاخبة المائعة التي تُؤَرّقُ العيون الهاجعة وتؤذي أصحاب القلوب الخاشعة، وترى الشرّ أينما وليت بوجهك، ترى الناس يَختمون سنتهم الميلادية المنقضية بالشر، ويبدؤون الجديدة بالمنكر والضلال، يقع كل هذا تحت حماية ومراقبة من كلّفوا بتحقيق الأمن في البلاد وحماية الرذيلة وحراسة الأراذل، كي تمرّ الليلة في تمام المعصية دون إزعاج من أحد. فكم يقع في هذه الليلة من مصائب وحوادث وأضرار ومعارك بين السكارى النُّدماء، فتسيل الدماء وتسقط الأرواح وتهتك الأعراض وتضيع الممتلكات وتقع عمليات السرقة والنهب!
أيها المسلمون، إن هذه محرمات وضلالات حرمها الشرع الحنيف، وحذر منها علماء الإسلام من جميع المذاهب، وأفْتَوْا بتحريمها، لما فيها من تشبّه بالكفار والضالين، يقول الله جل شأنه في سورة المائدة: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، ويقول الله عز وجل في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، ومعنى الولاية المذكورة في الآية إظهار النصرة والمحبة والاتباع والتقليد لهم في منهاج حياتهم. عن النبي أنه قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أبو داود عن ابن عمر، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لتتبعن سَنَن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري.
فيجب على المسلمين مقاطعة هذه المنكرات والابتعاد عنها وعدم الاحتفال برأس السنة الميلادية، بل واعتبارها يوما عاديا من أيام الله؛ لأنه ليس من أعياد المسلمين، ويجب حثُّ الأبناء والأهل والجيران على الابتعاد عن كل ما يُرتَكَب فيها وإظهار شناعة ذلك وإبراز سلبياته وأضراره على الدين والأخلاق والحياة، ويجب على المسلمين أيضا أن لا يكونوا إمّعات لا إرادة لهم، إن أساء الناس أساؤوا، وإن أحسنوا يحسنوا، بل عليهم أن يوطنوا أنفسهم، ويستقيموا على دينهم، ولا ينحرفوا مع المنحرفين، كما روي عنه عليه أزكى الصلاة والتسليم أنه قال: ((لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا)) رواه الترمذي عن حذيفة وقال: "حديث حسن غريب". والإمّعة هو من لا رأي له حيث يقلّد كل أحد دون أن يستعمل عقله، ولكثرة ما يقول: أنا مع الناس سمي: إمّعة.
أيها المسلمون، كان رسول الله يحرص كل الحرص على أن تخالف أمته اليهود والنصارى في كل شيء، حتى قال عنه اليهود أنفسهم: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه! رواه مسلم عن أنس. وإذا كان اليهود والنصارى يتجاهلون أعيادنا ومناسباتنا ولا يحتفلون بها، بل يستهزئون بها، فما بالنا نحن نحتفل بمناسباتهم ونحييها على سنتهم؟! ولم يرض عنا النصارى يوما من الأيام ما رضُوا عنا في هذا الزمان مصداقا لما أخبر به الحق سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. ولقد صدق الرسول عليه السلام حينما أخبر بظهور المقلدين من أمته فقال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع)) ، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!)) رواه البخاري عن أبي هريرة.
فكيف يَصحّ في عقل مسلم أن يوافق هؤلاء الضالين في غيهم ويشاركهم في احتفالاتهم وموبقاتهم في بيته ومتجره أو يذهب إلى بلادهم في رحلات سياحية عابثة يضيع فيها المال والأخلاق فيعود فاسدا خاسرا؟! قال عبد الله بن عتبة: "ليتَّق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر".
إن المنهزمين من بني جلدتنا يندفعون إلى تقليد الأوروبيين في كل عاداتهم، فترى المترفين في رأس السنة يهتمون بها اهتماما بالغا، فيلبسون أفخر الألبسة ويتناولون أشهى الأطعمة والأشربة ويتبادلون أثمن الهدايا وأجمل التهاني والتحيات والتبريكات ويأخذون لأطفالهم صورا مع (بابا نويل) بقناعه الكاريكاتوري ولحيته البيضاء وجبته الحمراء وعصاه الطويلة للتبرُّك، الأمر الذي يدل على مسخ الشخصية وذوبانها والانهزامية والتزعزع في العقيدة والدَّوران في فلك التّبَعية الذليلة العليلة للحياة الغربية المادية الطاغية الباغية، وهذا ما لا يرضاه لنا ديننا الحنيف النظيف.
ها أنتم ـ أيها المسلمون ـ سمعتم توجيهات من كتاب ربكم وسنة رسولكم فيمن يقلد اليهود والنصارى في بهتانهم، فماذا أنتم صانعون؟! هل ستستمرون في الاحتفال بضلالهم أم مطلوب منا الأخذ بأيدي إخواننا المنخدعين بالنصارى المتابعين لهم وإسداء النصح لهم وحثهم على اتباع الشرع الحنيف وصراط الله المستقيم؟!
فلا بد من تصحيح تصورنا، ووقفة تأمل فيما نحن سائرون فيه، لا بد من مراجعة النفس وإرغامها على اتباع منهج الله وطريق الحق، فلا عزة لنا ولا كرامة لنا إن نحن سرنا في درب الظالمين والمغضوب عليهم وتنكبنا طريق الصالحين والمنعم عليهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4772)
وصايا للمسلمين في المحن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
10/7/1427
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسن الإسلام. 2- المستقبل لهذا الدين. 3- حاجة المسلمين إلى مراجعة أنفسهم. 4- حاجة الأمة إلى مراجعة نصوص الكتاب والسنة. 5- وجوب التضافر والتناصر والتعاون بين المسلمين. 6- مقتضيات رابطة العقيدة. 7- معاناة المسلمين في هذا الزمن. 8- جرائم اليهود في فلسطين ولبنان. 9- سوء عاقبة الظالمين. 10- شروط النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيَا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقوَاه أقوَى عدّةٍ عندَ البلاء، وأَمضَى مَكيدةٍ عِند البأساءِ والضرَّاء.
أيّها المسلمون، إنَّ نعَمَ الله على عباده كثيرة، ومِنَنَه عليهم كبيرة غزِيرة، وإنَّ من نعمِه الكِبار ومنَنِه الغِزار أن جَعَلَنا من خير أمّة أخرِجَت للناس، وهدانا لمعالم هذا الدّين الذي ليس بهِ التِباس، دينٌ كامِل، وشَرعٌ شامِل، وقولٌ فَصل، وقَضاءٌ عَدل، من تمسَّك به حصَل على المناقب الفاخِرَة، وحصَلت لَه السَّعادةُ في الدّنيا والآخِرَة، دينُ القيِّمة، حِكَمُه بالغة، وحجَجُه دامغة، دَعا إلى كلِّ خير ورشاد، ونهى عن كلِّ شرٍّ وفساد، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أيّها المسلمون، مهما حاول أعداءُ الإسلام ومهما سَعَوا في إنزالِ أَنواعِ الفَشَلِ وَأَلوان الشَّلَل بالإسلام والمسلمين، فلَن يَستطيعُوا أن يطفِئوا نورَ الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، وعن تميمٍ الداريِّ رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله يقول: ((لَيَبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبر إلاَّ أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزّ الله به الإسلام، وذلا يذلّ الله به الكفر)) أخرجه أحمد [1] ، وعَن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله زَوَى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَهَا ومغارِبها، وإنَّ أمتي سيبلغُ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم [2].
أيّها المسلمون، ما أحوَجَ المسلمين اليوم في زمنٍ عظُمت فيه المصيبة وحلَّت به الرّزَايا العصيبة وتخطَّفت عالَمَ الإسلام أيدي حاسديه ونهشته أيدي أعاديه، فالكرامَةُ مسلوبة، والحقوقُ مَنهوبَة، والأراضِي مَغصوبَة، ما أحوَجَ المسلمين في زمَنِ الحوادِثِ والكوارِثِ إلى أن يراجِعوا دينَهم، وينظروا في مواقِعِ الخلَل ومواطن الزلَل، ويصلِحوا ما فسَد، ويكونوا وَحدةً كالجَسَد، ليغسِلوا عنهم أوضار الذلِّ والهَوَان، ويُزيلوا غُصَصَ القَهر والخذلان، فعن ابن عمَرَ رضي الله عنهما قالَ: سمعتُ رسول الله يَقول: ((إذا تَبَايَعتُم بالعينَة وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهادَ سلَّطَ الله عَلَيكم ذلاًّ، لا ينزعه عنكم حتى ترجِعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود [3].
أيّها المسلمون، وما أحوَجَ الأمّة إلى أن تراجِعَ نصوصَ الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمّة، في قضاياها المعاصرة وفِتَنِها المحاصرة؛ لتَفهَمَ جذورَ المشكلات وأسبابَ الوَيلات والنّكَبات، وتقرَأَ المتغيِّرات، وتوجِدَ التحليلات والتعليلات، وتتوقَّعَ المستجدّات، وترجعَ إلى أهل العلم الثقات، وتنهَضَ بالمسؤوليات والواجبات، بصدقٍ لا يشوبه كَذِب، وإخلاصٍ لا يخالطه رِياء، وتجرُّدٍ لا يتخلَّله هوى، وتوحيدٍ لله لا يكدِّره شرك ولا شَكّ، وثِقةٍ به جلّ في علاه لا تهزّها أراجيف المرجفين ولا تخذيل المخذّلين؛ حتى لا تواقعَ الأمّة الأمرَ المحظور أو تَقتَرِف الخطأ المحذور، يقول جلّ في علاه: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيّها المسلمون، إنَّ الواجبَ على أهل الإسلام كلّما اشتدَّت بهم البلايا والرّزايا أن يقوى تضافُرُهم ويشتدَّ تناصرهم؛ لنُصرةِ دِينِهم وحمايةِ بِلادِهم، وأن يَكونُوا صفًّا واحِدًا متعاضِدين متساعِدين متَسانِدين، متعاونين على البرّ والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، نابِذينَ العداءَ والبغضاء؛ حتى يفوِّتوا على العدوّ فرصتَه وبُغيته في زرعِ بذور التمزُّق وجذور التفرُّق، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويكرَه لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكرَه لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال)) أخرجه مسلم [4].
أيّها المسلِمون، إنَّ رابطةَ العقيدةِ والدّين رابطةٌ عظمَى وآسِرة كُبرى، لها مقتضَيَاتها وواجباتها وتكاليفها وحقوقها الثابتةُ في كتاب الله وسنة رسولِه ، رابطةٌ تنكسر تحتَها شَوكةُ أهلِ الكفر والعدوان، وتَنزاح أمامَها قوى الظلمِ والطغيان، يقول جلّ في علاه: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، ويقول جلّ في علاه: وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ويقول رسول الهدى : ((المسلِمون تتكافأ دِماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصَاهم، وهُم يدٌ على مَن سِواهم)) أخرجَه أبو داود [5] ، ويَقول عليه الصلاة والسّلام: ((المؤمن مرآةُ المؤمن، والمؤمن أَخو المؤمن، يكفّ عليه ضَيعَتَه، ويحوطه من ورائه)) أخرجه أبو داود [6].
أيّها المسلمون، إنَّ المجتمعاتِ الإسلاميّةَ على اختلاف أجناسها وألوانها وبُلدانها بنيانٌ واحِد وجسَدٌ واحد، يسعدُ بسعادَةِ بعضِه، ويتألّم لألمه ومَرَضِه، يجمَعُهم دين واحدٌ هو دين الإسلام، وكتابٌ واحد هو القُرآن، ونبيٌّ واحد هو سيّد الأنام نبيّنا محمّد ، يقول ـ بأبي هو وأمّي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((المؤمِنُ للمؤمِنِ كالبنيانِ يشدّ بعضه بعضًا)) ثمّ شبّك بين أصابعه [7] ، وعن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطُفِهم مثَلُ الجسد، إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهَر والحمى)) أخرجه مسلم [8] ، وفي لفظٍ له: ((المسلمون كرجلٍ واحد، إن اشتَكَى عَينه اشتكى كلّه، وإن اشتكى رَأسه اشتكى كلّه)) [9].
أيّها المسلِمون، يلاقي المسلِمون في هذا العَصر في عدَدٍ مِنَ الأمصارِ أعتى المآسِي وأدمَى المجازِر، فظائِع دامِيَة، وجرائم عاتِيَة، ونَوازل عاثرة، وجِراحًا غائِرَة، غُصَصًا تثير كَوَامِنَ الأشجان، وتَبعث على الأسى والأحزان، هَولٌ عاتٍ، وحَقائق مُرّة، تسمو على التصويرِ والتبيينِ، في كلِّ ناحيةٍ صوتُ منتَحِب، وفي كلِّ شِبر باغٍ ومَأفونٌ ومغتصِب. هذه الصهيونية العالميّة، الأمة الخوّانة التي ليس لها عَهدٌ ولا أمانَة تمارِسُ في فلسطين ولُبنان أبشعَ صوَرِ الظّلمِ والقهر والتخويفِ والإرهاب، تفرِض ألوانَ الحصار، وتَقتُل الرّجالَ والنّساء والصِّغار، وتهدِف إلى إبادةِ المسلمين وتَصفِيَتِهم واحتلال بلدانهم. إنّ الصهيونيّة تمارِس أمامَ نظَر العالم وسمعِه الإرهابَ بمختلف أشكالِه وألوانه، وبجميعِ أنواعه وأدواتِه، تمارِسُه عقيدةً وسياسَة، ضارِبَةً بالمعاهَدَاتِ والاتفاقات الدولية عرض الحائط، فأين من يوقِف وحشيّةَ هذا الإرهابِ وبشاعتَه؟! أينَ ميزانُ العدلِ والإنصاف يا مَن تدَّعونَه؟! أين شعاراتُ التقدّم والتحرُّر والحضارة والسلام التي لا نراها إلا حين تَصبّ في مصلحةِ يهود ومَن وراء يهود؟!
أيّها المسلمون، كيف يهنَأ المسلم بعيش أو يرقَأ له دمعٌ أو يُدرِك فرحًا بأمنِية في دارٍ كلُّها قَذى وأذى، المسلمون فيها ما بين قتيلٍ مرمَّل وجريح مجدَّل وأسير مُكبّل.
أيّها المسلِمون، لقد بَلَغ السّيلُ زُباه والكيدُ مَدَاه والظّلمُ مُنتَهاه، والظلمُ لا يدوم ولا يَطول، وسيَضمَحِلّ ويزول، والدّهرُ ذو صرفٍ يَدور، وسيعلم الظالمون عاقِبةَ الغرور، فعن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته)) ، وقرأ: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] متفق عليه [10].
أيّها المسلِمون، مهما بَلَغَت قوّةُ الظَّلوم وضَعفُ المظلُوم فإنَّ الظالمَ مَقهور مخذول، مُصفَّد مَغلول، وأقربُ الأشياء صَرعةُ الظَّلوم، وأنفذ السِّهام دعوةُ المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم فوقَ الغُيوم، يقول رَسول الهدى : ((ثلاثةٌ لا تُرَدّ دعوتهم: الصائِمُ حين يفطِر، والإمام العادِل، ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوقَ الغمام، ويَفتَح لها أبوابَ السماء، ويقول لها الربّ: وعزَّتي وجلالي، لأنصُرنَّك ولو بعدَ حين)) أخرجه أحمد [11].
أيّها المسلمون، إن تنتَصِر هذه الأمّة على نفسِها وأهوائِها وتطبِّق شريعَةَ الله في جميعِ مَنَاحِي حيَاتها ويَستَقِم أفرادها على دين خالقِها تنتصِر على عدوِّها، وتَعْلُ كلمَتها، ويدُمْ عزُّها، وتعظُم قدرتها، وتَزدَدْ قوّتها، وتَنفض الوهنَ عن عاتقها، ذلك الوَهنُ الذي أخبر عنه رَسول الله بقولِه: ((يوشِك أن تداعَى عليكم الأمَمُ من كلِّ أفقٍ كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قلنا: يا رسول الله، أمِن قلّةٍ بنا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئِذٍ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاءِ السّيل، تُنتَزَع المهابَةُ مِن قلوبِ عدوِّكم، ويُجعل في قلوبِكم الوهن)) ، قال: قلنا: وما الوهن يا رسولَ الله؟ قال: ((حبُّ الحياة وكراهية الموت)) أخرجه أحمد [12].
جَعَلَني الله وإيّاكم من الهداةِ المهتدين المتَّبِعين لسنّة سيِّد المرسلين.
أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنّه هوَ الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (28/154-155) (16957)، وأخرجه أيضا البيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح". وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[2] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2889).
[3] سنن أبي داود: كتاب البيوع (3462)، وأخرجه أيضا أحمد (4825، 5007، 5562)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني لمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[4] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (3236).
[5] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2371) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (6691، 7012)، وابن ماجه في الديات (2675)، وصححه ابن الجارود (ص194، 269)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[6] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4272) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (239)، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/252)، وكذا الألباني في صحيح الأدب (178).
[7] أخرجه البخاري في المظالم (2266)، ومسلم في البر (4684) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم: كتاب البر (4685).
[9] هو عند مسلم في البر (4686) كذلك.
[10] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4686)، صحيح مسلم: كتاب البر (2583).
[11] مسند أحمد (2/445) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج أيضا الترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[12] مسند أحمد (22397) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الملاحم (3745)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، اتَّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلِمون، إنَّ وحدةَ الشعور بين المسلمين واجبٌ مُعظَّم وفرضٌ محتَّم، شعورٌ يحمِل على العون والعطف والإشفاقِ، والإحسان والبَذل والإنفاق، وأحَبُّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرورٌ تدخِله على مسلم، أو تكشِف عنه كربة، أو تَطرد عنه جوعًا، أو تَقضي له دَينًا، ومن نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسِرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عونِ العبد ما كان العبد في عونِ أخيه، ومن كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته.
أيّها المسلمون، الدّنيا مناخُ ارتحال، وتأميلُ الإقامة فيها فَرضُ محال، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
واعلَموا أن الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسِه، وأيّه بكم ـ أيّها المؤمنون ـ من جنّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار...
(1/4773)
حقيقة الصراع
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
17/7/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا حضارة في جوّ الحروب. 2- سعي العقلاء لتحقيق الأمن والسلام. 3- استمرار الظلم والعدوان على المسلمين. 4- مصلحة الحكومات الغربية في تطفيف الكيل. 5- سياسة خلق الأعداء. 6- أسباب كره الغرب. 7- واجب المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:28].
أيّها الناس، في منتصَفِ القرن الماضي وحينَ وَضَعَتِ الحروب العالمية أوزارَها وحين عضّت الحروب الأمميّة والأهلية الغربَ وذاقوا أُوارَها أورثهم ذلك كلُّه قناعاتٍ أن لا سيرَ لركب الحضارةِ ولا اندفاعَةَ في سبيل التقدُّم العلميّ ولا رفاهية تنشدُها الشعوب وطلقاتُ النارِ تُسمَع هنا وهناك والمدافعُ تحمِل إلى جَنَبات الأرض الهلاكَ، لا يمكِن لبيتٍ أن يخرِّج عالمًا أو لدارٍ أن تنتِج باحثًا ولا لبلدٍ أن ينشد رقيًّا وأنت ترَى في زواياه نواحًا وقتيلاً وبكاء على شجر كان مثمِرًا وظليلا وبيتٍ كان مشيَّدًا وكان جميلاً. حينئذٍ تنادى عقلاؤهم وتداعى حُكماؤهم لإنشاء منظمات وهيئاتٍ ومجالسَ وجمعيات، وسَعَوا في وضع عهودٍ وعقود ومواثيقَ وبنود تكفل للمنتَمي إليها الأمان وتَعِدُ المنضمَّ إليها النصرةَ على نوائبِ الزمان وعدوان الأباعدِ وطمَعِ الجيران، ودخلَت الدوَل العربيّة والمسلمة في كثير من تلك المنظمات والهيئات، تنشد ما يَرنو له غيرها من الأماني والاستِقرار، راغبةً مشاركةَ الإنسانيّة أمنَها وحَضارَتها. كيف لا وفي تُراثهم أنَّ نبيَّهم قال يومًا لأصحابه: ((لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا ما أُحِبّ أنّ لي به حُمرَ النّعَم، ولو أُدعَى إليه في الإسلام لأجبتُ)) ؟! وهذا هو حِلفُ الفُضول الذي تداعت إليه قبائلُ مِن قريش على أن لا يجِدوا بمكّةَ مظلومًا من أهلِ مكة أو مِن غيرهم إلاّ قاموا معه، وكانوا على من ظلَمَه حتى تُرَدَّ عليه مظلمتُه. كيف ونبيُّهم هو أوّل مَن وقَّع معاهدةَ دِفاعٍ مشتَرَك بينه وبين يهودِ المدينة؟!
إلاَّ أنَّ الناظرَ لحال العالَم بعد قِيام تِلك الهيئاتِ والمنظَّمات لا يحتاج لكثيرِ تأمُّل ليعرفَ أن الظلمَ بعد ذلك لم يخفّ وأنّ الدماء لم ترقأ وتجِفّ وأن الحروب لم تنتَهِ وتقِف، إنّما تغيّرت مواقعُها على الخارِطةِ فَحَسب، فهجَرتِ الغربَ إلى الشّرق واستوطَنَت بِلاد العرَبِ والمسلِمين، لتقفَ تلك المؤسَّساتُ مِن قضايا المسلمين لا في موقِعِ المتَفَرّج فحسب، بل تقوم بدورِ المبرِّر للجريمة أحيانا، وقد يحصل تدخُّلٌ إيجابيّ في مرات قليلةٍ ولكن بعد فوات الأوان وبعد خَلقِ واقعٍ جديد في المنطقة يخدم مصالح الدول النافِذَة. وبِقَدرِ ما تُنتِجُه مؤسَّسات العِلم والفِكر في الغَربِ مِن تنظيرٍ لحقوق الإنسان وإثراءٍ في مفهوم العَدالةِ والمساواة بقدر ما تكون النتائج عكسيّةً على ديار المسلمين، وكأن التناسب عكسيٌّ بين تنظير الغرب وحال الشرق، والهُوَّة غيرُ قابِلَةٍ للرَّدمِ أو التَّجسيرِ بين مبادئ شعوب الغرب التي تفاخر بها وبين مواقف حكوماتهم تجاهَ قضايانا.
وإنَّ العاقلَ ليتساءل بكلِّ دهشةٍ: ما مَصلحةُ الحكومات الغربيّة في تطفيفِ الكيل بل كسرِ الكفَّة أحيانا؟! إنك حين تريد فهمَ كثير من سياساتهم مع العرب والمسلمين على ضوء المصالح والمنافِعِ المتبادلة والتي لم تمنعنا منها شريعتُنا لوجدتَ أن في صالح الغربِ الاقترابَ أكثر من المسلمين؛ فهم أكثر من مليار إنسان، تحوي بلادهم خيرَ العالم ووَقوده، وتتقاطع على أرضِهم الطرُق البريّة والبحرية والجوية والمنافِذُ المهمة في العالم، وقد أسهَمت عقولُ أبنائِها المهاجِرين منها إسهاماتٍ فاعلةً في الجامعاتِ الغربيّة ومراكزِ البحوث والمختَبَرات، وكانوا ولا زالوا راغبِين في التعايُش السِّلميّ مع الآخرين، ومع ذلك تُهدَر كلّ هذه الاعتبارات لصَالح عدوِّهم الذي احتلَّ ديارَهم وشرّد أهلهم؛ عدوُّهم الذي لا يتجاوَزُ عددُه بضعَةَ ملايين، مقدِّمةً رِضا القليل على سَخَط الكثير، مكتسبين عداءَ مئات الملايين في سبيل حَفنَةٍ قليلين، معرِّضين مصالحَهم للخَطَر ومستَقبَلَهم للمجهول لأجلِ شِرذِمةٍ قليلين، يأخذون ولا يعطون، ويستفيدون أكثرَ مما يُفيدون، ويحتقرون كلَّ جنس سِواهم. ولو أنَّ هذه القلَّةَ المغلَّبَةَ مصلحتُها على مصلحةِ الكثرَة كانت صاحبةَ حقٍّ وعَدل في قضاياها لكان الأمر مفهومًا ومعقولاً، لكنّك حين تتأمَّل هذه المعادَلةَ من الحكوماتِ الغربية ترى أنّه لا يمكن أن تستقيمَ على أيِّ فهمٍ مصلحيٍّ ظاهر إلا أن يكون القصد دينِيًّا والمصلحَة عقديّة، وهو ما صرَّح به كثيرٌ منهم مجترِّينَ تاريخًا ملطَّخا بالعداء القديمِ وترادُفِ الحمَلات والحروب، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. وهذه النتيجة هي أخطَرُ ما يثير المسلمين ويرخصون لأجله أرواحَهم ودماءَهم. والمتأمّلُ في التاريخ يرَى أنَّ المسلمين لم يدخلوا حربًا دينيّة في تاريخهم إلا وكانت الغلبةُ لهم وإن مُنُوا بانكساراتٍ هنا وهناك مهما كانت قلّةُ عَدَدهم وضَعفُ عُدَدِهم، فالحجَر في يد أحدهم أمضَى من سلاحٍ في يد غيرهم، والرشاشُ على صدر الواحد منهم أشدُّ من المدفع على أكتاف آخرين، وهذا ما شهد به الأعداءُ قبل الأصدقاء.
إنّه وإن تنادى عقلاءُ الغرب باجتناب الاحتراب الدينيّ بين الأمَم والصدام الحضاريّ بين الشعوب وادّعت حكوماتُهم أنها علمانيّة إلاّ أنّ كثيرًا من المواقف لا يمكن تفسيرها إلا عند استحضار باعثِ الدين ودافِعِ العقيدة؛ مما يجعل المنطقة قابلةً لانفجار لن يسلمَ من شظاياه البعيدُ ولن تختصَّ بضرره بِلادٌ دونَ أُخرَى، وحينئذ ستكون مصالحُ العالم كلِّه في مهبِ الريح.
وإنَّنا لنتابِع بكلِّ أسى ودهشة سياسةَ بعض الحكوماتِ المؤثِّرةِ في العالم، والتي لم تفلح في شيءٍ مؤخَّرًا مَا أفلَحَت في اكتِسابِ الأعداء الجُدُد لها، ولم تُنجِز تاليًا أكثَرَ من تكريسِ الكراهية في النفوسِ لها. ولئن ظنَّت وهي في سكرةِ قوّتها وغطرسة جبروتها أنها في مأمن من انفجار غليانٍ ما زالت تضرِم نارَه وتؤجِّج أوارَه فهي واهِمَة، فَلَقد ذاقت هي كما ذاق غيرها بعضَ نتائجِ سياساتها مِن غير رَغبة من عمومِ المسلمين، فكيف إذا تطوَّر الأمر واختلف الحال واقتُحم العرين. ولقد حذَّر العقلاء من سياسَة خلقِ الأعداء في المنطقة؛ إذ كلُّ قذيفة يطلقها مدفعٌ وأرضٍ تُجرَف أو شَتلَةٍ تُنزَع وكلُّ بيتٍ يُهدَم ويُهال ودَم ينزف ويسالُ محميًّا بتبريرات مؤسّساتٍ كبرى ودَعمِ قِوى عُظمى، كلُّ ذلك هو بيئة خصبَة لولادة جماعات جهاديّة أو منظماتٍ دموية أو تكتّلات عدوانيّة، كلُّ قهرٍ يقع على الشعوب المسلمة يُبحر بمركب الحلول بعيدًا عن شاطئ السّلام ويَئِد محاولاتِ التقريب والانسجام.
أيّها النّاس، كثيرًا ما تُعقَد ندوات وتُشكَّل مؤتمرات لبَحثِ أسبابِ الكُرهِ المتنامي لدى العرَب والمسلمين تجاهَ الغرب، يتساءلون: كيف يكون الكُره ومراكزهم الفكريّة تنظّر لحقوق الإنسان وتدعو للعدلِ والمساواة ونبذِ العنف والإرهاب والتمييز العنصري والتبشيرِ بالديمقراطيّات الحالمة؟! وقد لا يعلم أولئك المنظرون أنّ ثمرات اجتماعاتهم ونتائجَ بحوثهم تصلنا هنا في الشرق ولكن على ظهر دبابة أو عبرَ فوهةِ مِدفع، ورسولهم إلينا بهذه المُثُل ليس وزيرًا ثقافيًّا أو سفيرًا فِكريًّا، إنما يحمِلُها إلينا جنرال عسكريّ أو تلقيها إلينا طائرةٌ حربية.
انظروا إلى أعراس الديمقراطيّة في مآتم بغداد، فتِّشوا عن حقوق الإنسان تحت رُكام قانا وضاحيةِ بيروت، سلوا عن العدل المشردين من أبناء فلسطين، تلمّسوا الحريةَ في قيود الأسرى بأقبية السجون، والذين أوشكت طلائعهم أن تدخل عامها الثلاثين وهم في الأسر مَنسِيّون، شاهدوا نُبَذ التمييز العنصري في حقِّ النقض وفي مؤسَّسات اتخاذ القرار العالمية ضدَّ قضايانا ومصالح المسلمين؛ لتعلموا السبَبَ وتضعوا أيديكم على الداء؛ ازدواجية مقيتَة وظالم سافِرة ودَعمٌ للظالم وكَبتٌ للمظلوم. فهل يعي مفكِّرو الغرب وموجِّهو الرأي فيه الذين يعتزّون بحرّيّة الكلمة واستقلاليّة الفِكر ومن يفاخرون بأنهم شعوبٌ تنصِّب قادَتَها وتصنع حكوماتِها؟! إنَّهم مدعوُّون لإعادةِ النَّظَر في سياسةِ قادَتها وتصرُّف حكوماتها تجاهَ قضايانا، وتتبصَّر الشّعوب المغيَّبَة، فإن كانت صادقةً فلتُعد حساباتِها إذا وقفت أمام صناديق الاقتراع لتشكيل الحكومات واختيار القادةِ ورَسم السّياسَات، وإلا فإنَّ الجميعَ شركاءُ في الأفعال وفي تحمُّل ردودِ الأفعال. كما أنَّ المسلمين مطالبون بالطرح الصادقِ في إعلامهم والعرض النزيه لِقضايا الأمّة، بعيدًا عن التغييبِ والتَّزييف، بدَلَ هذا الغثاءِ الذي تمطِرُنا به قنواتٌ عربيّة لا حصرَ لها، أو تنشغل بشقّ الصفّ وبَثِّ الفرقة بين المسلمين وتوظيف الفتاوَى في غيرِ مَوضِعِها والتَّرويجِ لما يثير الفِتنَ.
بارك الله لي ولكم في الكِتاب والسنَّة، ونفعنا وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي عزّ وقهر، وجعل العاقبة الحسنى لأوليائه والظفَرَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من البشر، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه الميامينِ الغُرَر.
وبعد: أيها المسلمون، لسنا أوّلَ أمّةٍ ابتُلِيَت وفُرِض عليها أن تكافِحَ لتَحيا كما تريد، وإن الأعداءَ لم يفلحوا في النيل من الأمّة إلا حين تفرّقَت وتمزّقت وتنكَّبت طريق رسالتِها القويم وضعُف تمسّكها بالدين. يجِب على المسلمين أن يدرِكوا هذه الحقيقة، وأن المعركةَ معركة بقاء أو فناء، وأنّ الأمّةَ مستهدفة في دينها كما هي مستهدفة في أراضيها. على المسلمين أن يستضيئوا في نهضَتِهم بنورِ الوَحي وشِرعةِ السَّماء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:7، 8]. على المسلمين أن يسلكوا سبيلَ الأخذ بأسباب القوّة، وأعظمُ أسبابها الاجتماعُ والائتلاف ونبذُ الفرقة والاختِلاف وترسُّم سننِ الله في قيام الأمم وتعثُّرها ونهوضِ الدوَل وسقوطِها. والنتيجةُ الحتميَّة التي علَّمنا إيَّاها الزمانُ أنَّه في غيرِ ظلّ الإسلام لا مَبادئَ تُحترَم ولا جنابَ يُهاب إلا بقوّةٍ تحمِيه، خاصّةً في زمَن هيمَنَة القوّة على القِيَم، وقلّما يُضامُ قويّ؛ لذا كان الإسلامُ يحثُّ أهلَه لاكتسَابِ القوّة لصُنع السّلام وحمايةِ السّلام وإقامةِ العَدل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:60-64].
هذا وصَلّوا وسلّموا على الرّحمةِ المهداة والنّعمَة المسداة محمد بن عبد الله.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وارض اللهم عن آله وصحابته أجمعين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشرِكين، واحمِ حَوزَة الدين...
(1/4774)