معجزات النبي
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
علي بن حسن جمال
الدوحة
11/1/1427
جامع سعد بن ماجد آل سعد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخير باق إلى قيام الساعة. 2- المعجزات وأهميتها لصدق الرسالات. 3- معجزات النبي وأنواعها. 4- تكليمه الأموات والبكم والجمادات. 5- شفاؤه للأمراض بإذن الله. 6- دعاؤه وتبريكه.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
عباد الله، حقيقة مهمّة ينبغي أن نعيَها، وهي أنه لا يوجد شرّ محض، فأيما شر وإن تعاظم واشتد فلا بد أن يحمل في طياته خيرا، حتى نار جهنم ـ عباد الله ـ فيها كما يقول أهل العلم نوع من الخيرية وهو إهلاك الكافرين وتعذيبهم انتقاما لأولياء الله عز وجل.
معاشر المسلمين، إن ما حمله لنا حدث الاستهزاء والنيل من أشرف البرية وأزكى البشرية عليه الصلاة والسلام من ألم في قلوبنا وجزع في نفوسنا شيء كبير خطير، غير أنه أثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أنه ما يزال في الأمة عِرق ينبض بالخير إلى قيام الساعة، وأن الأمة لا تزال بخير، نلمس ذلك ـ عباد الله ـ في تلك المسيرات الهائلة والتظاهرات الحاشدة التي عمت العالم الإسلامي بل والغربي مندّدة بتلك الجريمة النكراء، ومن ذلكم أيضا ما رأيناه من عرض ودراسة لسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام سواء في المساجد أو المنتديات وبعض مواقع الإنترنت أو غيرها من وسائل الإعلام.
ومن هذا الباب ـ عباد الله ـ نستكمل في هذة الخطبة المباركة وقفات مع سيرة المصطفى لنتطرّق إلى معجزاته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
معاشر المؤمنين، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه ما بعث الله من نبي إلا جعل له من الآيات والمعجزات ما على مثله آمن الناس، فيأتي النبي ومعه المعجزة، فيراها الناس فيؤمنوا به وبما جاء به، ثم إذا مات النبي يأتي من بعده أقوام سمعوا به وبمعجزته فيؤمنوا، ثم يأتي جيل سمع ممن سمع ممن رأى فيؤمن، ثم يأتي جيل سمع ممن سمع ممن سمع ممن سمع ممن رأى وهكذا... ومع بُعدِ الفترة تضعف المعجزة، وينشط الشيطان فيغوي الناس، فيرسل الله نبيا آخر يجدّد للناس الدين ويقيم الملة ويصحّح الشريعة ويؤيّده بالمعجزات، ولما أراد المولى جل وعلا أن يختم الرسالة أرسلَ رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده تعالى بنوعين من المعجزات: معجزات حسية رآها من صحِبه وعاصره، ومعجزة أخرى أعجزت ذلك الجيلَ وهي معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي القرآن الكريم، كتاب الله الكريم، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فيه نبأ الأوليين والآخرين، قال عنه رب العالمين: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وقال سبحانه: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].
عباد الله، أيّد الله تعالى نبيَّه بكثير من المعجزات الحسية، والتي أثرت في أتباعه، فعلموا أنّ هذا الأمر لا يكون إلا من الله، فأسر ذلك القلوب قبل العقول، فكانت الثمرة ـ يا رعاكم الله ـ إيمانا صادقا ومحبة حقيقية لا ينازعها شك أثمرت: (نحري دون نحرك يا رسول الله)، أثمرت (كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل).
فمن معجزاته عليه الصلاة والسلام أنه كان يكلّم الموتى والبكم والجمادات، فقد جاء في الصحيحين وأبي داود عن أبي هريرة أن يهودية أهدَت للنبي بخيبر شاة مَصْلِيّة ـ مشوية ـ سمّتها، فأكل رسول الله منها وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) ، فكلّمته الشاة وهي ميتة مشويّة. وكان النبي يخطب الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد، فلما صنع له المنبر وقام عليه أوّل جمعة حن الجذع إلى رسول الله كما تحن العِشار، حتى نزل النبي إليه فوضع عليه يده يسكنه حتى سكن. ومن ذلك ما رواه البيهقي بسند مرسل رواته ثقات أن امرأة جاءت لرسول الله بابن لها قد تحرّك، فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا لم يتكلّم منذ ولد، فقال رسول الله: ((أدنيه)) ، فأدنته منه فقال: ((من أنا؟)) فقال الأبكم: أنت رسول الله.
ومن معجزاته ـ عباد الله ـ ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبيّ تفل في عينَي عليٍّ يوم خبير وكان رَمِدًا ـ أي: كان بعينيه مرض الرَّمَد ـ، فلما نفث النبي في عينيه أصبح بارئًا. وفي البخاري أن رسول الله نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خبير فبرئت. وفي صحيح البخاري أن ساق عبد الله بن عتيك انكسرت، فمسح النبي على الكسر، قال عبد الله بن عتيك: فكأنما لم أشكها قط.
نعم يا رعاكم الله، هذا هو رسول الله طبّ القلوب وشفاؤها وروح الأرواح وريحانها.
ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله، فبينما النبي يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه وما تُرى في السماء قَزْعَة ـ أي: سحابة خفيفة ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمُطِرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء وغرق المال فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) ، فما يشير إلى ناحية من السّحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة ـ أي: مثل الحفرة المستديرة الواسعة ـ، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدّث بالجود، وفي رواية: ((اللهم على الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، قال: فأقلعت، وخرجنا نمشى في الشمس.
وأتى أنس إلى رسول الله وهو في جملة من أصحابه قد عصب بطنه من الجوع، فذهب أنس إلى أبي طلحة وهو زوج أمّه فأخبره بما شاهد من النبي، فقال أبو طلحة لأم سليم زوجته: هل من شيء؟ قالت: نعم كسر من خبز وتمرات، إن جاء رسول الله وحده أشبعناه، وإن جاء معه آخر قلّ عنهم. قال أنس: فذهبت إلى النبي فنظر إليّ فقلت: أجب أبا طلحة، فقال النبي لمن معه: ((قوموا)) ، فإذا أبو طلحة على الباب، فقال: يا رسول الله، إنما هو شيء يسير، فقال: ((هاته، فإن الله سيجعل فيه البركة)) ، ثم أمر بسمن فصب عليه ودعا فيه ثم قال: ((ائذن لعشرة)) ، فقال: ((كلوا وسمو الله))، ثم أدخلهم عشرة عشرة ـ وكانوا ثمانين ـ حتى شبعوا، ثم أكل رسول الله وأهل البيت حتى شبعوا، وأهدوا البقية للجيران.
وجاء في مستدرَك الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي أن سفينة مولى رسول الله سمّاه النبي بذلك، وسبب التسمية أنّ رسول الله خرج هو وأصحابه فثقل عليهم متاعهم لم يستطيعوا حمل أغراضهم، فقال رسول الله لسفينة: ((ابسط كساءك)) ، فبسطه، فجعلوا فيه متاعهم الذي لم يستطيعوا حمله، فحملوه على سفينة، ولم يكن هذا اسمه، فقال : ((احمل، فإنما أنت سفينة)) ، قال: فلو حملت من يومئذ وِقْر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليَّ إلا أن يَجْفُوَ، وذلك لأن النبي قال له: ((احمل، فإنما أنت سفينة)).
أيها الإخوة المسلمون، هذه جملة من معجزاته عليه الصلاة والسلام تبين بما لا يدع مجالا للشك صدقّ نبوته ووضوح رسالته، نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن معجزاته ما ذكره القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى: "إن قتادة بن النعمان أصيب يوم أحد بسهم في عينه، حتى سقطت على وجنتيه، فردّها رسول الله، فكانت أحسن من أختها الأخرى".
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله: ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) ، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف ـ أي: مغلق ـ، فسمعتْ أمي خَشَفَ قدمي ـ أي: حركة المشي وصوته ـ فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خَضْخَضة الماء، ثم قال: فاغتسلتْ ولبستْ درعها وعَجِلتْ عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحبّبني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحبّبهم إلينا، قال: فقال رسول الله : ((اللهم حبّب عُبَيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبّب إليهم المؤمنين)) ، فما خُلِقَ مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
ومن الآيات الباهرات أنه أمر الشجرة بالحضور فامتثلت وحضرت بين يديه، ثم أمرها بالرجوع إلى مكانها فرجعت، كما جاء في سنن ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة، فقال: ما لك؟ فقال: ((فعل بي هؤلاء وفعلوا)) ، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم أرني))، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله : ((حسبي)) ، وقاد شجرة بغصن من أغصانها فانقادت معه كما يقاد البعير.
وكذلك قصة الذئب الذي آمن برسول الله وأخبر بذلك الراعي، فلنستمع ـ أيها الإخوة ـ إلى هذه القصة التي رواها الإمام أحمد والبغوي في شرح السنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما راع يرعى بالحرّة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه، فجاء الراعي يسعى فانتزعها منه، فقال الذئب للراعي: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي؟! قال الراعي: العجب لذئب يتكلم، والذئب مقعٍ على ذئبِه يكلّمني بكلام الإنس، فقال الذئب للراعي: ألا أحدثك بأعجب من هذا؟! هذا رسول الله بين الحرتين يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي شياهه إلى المدينة، فزواها في زاوية من زواياها، ثم دخل على رسول الله فقال له ما قاله الذئب، فخرج رسول الله فقال للراعي: ((فأخبر الناس ما قاله الذئب)) ، فقال رسول الله : ((صدق الراعي، ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، يكلّم الرجلَ نعلُه وعذبةُ سوطه ويخبره فخذه بحدث أهله بعده)).
أيها الإخوة المؤمنون، هذا هو نبيكم عليه الصلاة والسلام الذي خصه الله عن بقية إخوانه من الأنبياء والمرسلين والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيره؛ كرامة وتشريفًا لهذا النبي الكريم. أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.
خصه الله يوم القيامة فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة.
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير الأمم أخرجت للناس، وأحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
(1/4575)
حرية الرأي وأثرها على بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
22/10/1426
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الحرية. 2- التضليل في مفهوم الحرية. 3- أثر الإعلام في نشر العقوق. 4- ذم العقوق. 5- تعجيل عقوبة العاق. 6- الأمر بالإحسان إلى الوالدين. 7- قصص من الواقع. 8- وصية للآباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الدين الإسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان، كما أنه دين الحرية التامة للإنسان، الحرية الشاملة الكاملة في إطار ما أباح الله، من غير تعدّ للحدود، ولكن إعلام هذا العصر أفرز علينا حريّات أخرى مزعومة، تفضي بالإنسان إلى الخروج عما شرعه الله وحده، فقالوا بحرية الرأي وحرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار، فبزعمهم أن الإنسان له حرية تامة في اختيار ما يريد من الأديان، وله الحرية التامة في التصرف في نفسه وماله، وله الحرية التامة بزعمهم في قول ما يشاء وفعل ما يشاء حينما يشاء، حتى بثّوا ونشروا بين الشباب والشابات حريةَ الذات والحرية الشخصية، وأمسى الآباء والأمّهات يقاسون الويلات من هذه الحريات، والتي بثّت لقتل منهَج البر بالوالدين، ولذا فقد انتشر ـ والعياذ بالله ـ عقوقُ الوالدين، حتى سمعنا عن ابن يسبّ أباه بل يضربه ويقتله، بزعم أنه حال بينه وبين حريته ولم يحترم شخصيتَه.
إخوتي في الله، لقد أدت القنوات والمسلسلات دورها في هذا العصر ففكّكت الأسر، وغرزت العقوق في نفوس الأولاد والبنات، وفي ظلّ غياب التربية الصالحة أنتجت المجتمعات أبناء عاقين وبنات عاقات، ينظرون إلى بر الوالدين نظرة تعدٍّ على الحرية الشخصية وعدم احترام الذات، فهذا شاب يعترض على أبيه، وتلك فتاة تصرخ في وجه أمها المسكينة، متناسيَين قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
إن العقوق ـ إخوة الدين ـ أمر عظيم، وكبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وذنب جليل لا يغفره الله عز وجل بل يعجّل لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، كما جاء في الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين؛ فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((ما من ذنب أجدرُ أن يعجلَ الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدّخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرحم)) حديث حسن صحيح، وفي الحديث أيضا قال : ((ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟)) وكرّرها ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنّة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)).
إنّ العقوق ـ معاشر البنات والبنين ـ نكران للجميل وجحد للنعم ونكوص عن الفطرة السليمة، إذ كيف يجحَد الإنسان من أسدل له معروفا وأفداه بدنا وروحا؟! وما من أحد أكرم وأفضل في هذا المجال من الوالدين، فهما من بذل الغالي والنفيس من أجل هذا العاقّ الخسيس، ثم تنكّر لذلك بعدما كان نطفة في بطن تلك المسكينة التي حملته وهنًا وكرها، ومن بعد نطفة علَقة ثم مضعة ثم عظاما ثم كسِي لحما، تغذّيه من دمها، وتهديه من لحمها وشحمِها، ثم ولدته طفلا صغيرا ضعيفا لا يملك إلا أن يصرخ، ولدته بعد معاناة شديدة وكربات عصيبة، وكم رأت الموت مرات عديدة، ثم رعته طفلا رضيعا، ثديها ودمها له غذاء، وصدرها له وقاء، وحضنها له فراش وكساء وغطاء، تسهر إن نام، وتحزن إن مرض، وتبكي إن أصيب، حتى نشأ في كنفها وغدا شابا يافعا، فلما طرّ شاربه وقوي عوده كانت الأم المسكينة أولَ من هضم حقّها، وعومِلت بخلاف عمَلها، وأصبح من أفدته روحها يزعم أنّ له حريةً تفوق على أوامرها، وأن له رأيًا سديدا أفضل من رأيها، فهجِرَت الأم لذلك وعوديت، بزعم الحيلولة بين الأبناء وحرياتهم الشخصية.
وكذا الوالد المسكين، كم تعب من أجل فلذة كبده، وكم شقي من أجل كبره وفتوته، وكم عانى وعانى من أجل قرة عينه، فلما بلغ ما يريد أنكَره الجَحود، وعانده ابنه، ورأى رأيا غير رأيه، وادعى أن زمانه يختلف عن زمان الكهول والعجائز، ولم يعد الحال هو الحال السابق.
ألا فليعلم العاقون أنهم على خطر عظيم وهم لا يشعرون، فالعاق إنما يخرب دنياه وأخراه بتمسكه بالحرية الشخصية المزعومة، والتي مفادها الاعتراض على الوالدين وعدم الائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نهيهما، وفي القصص أن الله سبحانه وتعالى امتحن جُريج العبد الصالح لما قدّم صلاته النافلة على أن يجيب على أمه، فكيف بمن يعترض ويسب ويشتم، بل ويضرب ويقتل والعياذ بالله؟!
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، يا جُرَيج، أنا أمّك كلّمني، فقال: يا ربّ، أمي وصلاتي! فأقبَل على صلاته فانصرفت، فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغدِ أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمِته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات)) ، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن))، قال: ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرّضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلمّا ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيتَ بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبيّ؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلّي، فصلّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أن جُرَيجا وهو الرجل العابد التقيّ لما دعته أمه ولم يكن في لهو ولعب وعبث، بل كان في صلاة وعبادة، فلما لم يجبها وغضبت عليه ابتلاه الله وامتحنه، ولولا أنه كان من الصادقين لنكل به أشد تنكيل، ولكن رحمه رب العالمين، فكيف بشباب عصر الحضارة ممن يزعمون الحرية في الرأي والتصرف في الشخصية حتى على الوالدين؟!
إن الأبناء ليس لهم أي حق في رد ما أمِرَا به من ولديهما إلا أن تكون معصية ولو كانا مشركين، قال الله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15]. كما أنه ليس للأبناء أن يتأففوا من الوالدين في أي حال من الأحوال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
يقول العلامة السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، قال: "ثم ذكر بعد حقّه القيام بحقّ الوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان، القول والفعل، لأنهما سبب وجود العبد. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا أي: إذا وصلا إلى هذا السنّ الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ، قال: وهذا أدنى مراتب الأذى نبّه على ما سواه، والمعنى: لا تؤذِهما أدنى أذية، وَلا تَنْهَرْهُمَا أي: لا تزجرهما وتتكلم معهما كلاما خَشِنا أو فاحشا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: بلفظ يحبّانه، وتأدّب وتلطّف معهما بكلام ليّن حسن يلذّ على قلوبهما وتطمئنّ به نفوسهما. ثم قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ أي: تواضع لهما ذلاّ لهما، ورحمة واحتسابا للأجر فيهما، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا".
ألا فانظر وتأمل في تفسير هذه الآية الكريم لتدرك أن الحقّ عليك في والديك عظيم عظيم، وبرهما واجب كبير، والنكران لهما جحود وكفر لنِعَم الجليل.
وإنه لحق على الله أن يجازي العاق بعقوقه إن لم يتب ويسترضي والديه، حق على الله أن يقيض للعاق من يعقوه من أبنائه في قابل عمره، وحق على الله أن يلعن من لعن والديه أو اعتدى عليهما في حقهما، إلا من تاب وآب فإن الله يتوب عليه وهو التواب الرحيم.
وإن ما ذكر من القصص في ذلك لبيّن لا يخفى، وحسبي وحسبكم قصة شاب كان كثيرًا ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي، وكان له أب طالما وعظه ونصحه وذكّره بالله، فلما ألح عليه ذات يوم ما كان من ذلك العاق إلا أن رفع يده ولطم أباه؛ لأنه حال بينه وبين حريته الشخصية، فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعوَ عليه، فأتى البيت الحرام فطاف به ثم أنشأ يقول:
يا من إليه أتى الْحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد
إنِّي أتيتك يا من لا يَخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا مُنازل لا يرتد من عققي فخذ بِحقي يا رحمن من ولدي
وشلّ منه بِحول منك جانبه يا من تقدّس لَم يولد ولَم يلد
قيل: ما أتمّ كلامه حتى يبس شقّ ولده الأيمن جزاء ما فعل بأبيه.
ألا فاحذروا من العقوق كثيرَه وقليله وجدّه وهزله، وابتغوا بالوالدين الجنة، وادعوا المولى القدير أن يوفّقكم لما يحبّ، إنه قريب مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، وهدانا سبحانه ووفقنا لبلوغ الجنة، أقول قولي، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبع الهدى.
وبعد: معاشر الآباء، فإنه كما يوصَى الأبناء بالبر وعدم العقوق كذلك يوصى الآباء بالجدّيّة في التربية.
إن على الأب الكريم أن يربّيَ ابنه تربية صالحة، وينشئه تنشئة جادة سوية، يرعاه بأوامره ونواهيه حال طفولته، ويشاوره ويحاوره في حال فتوّته وكبره، إذ إن التسلّط والتجبر على الأبناء حال كِبَرهم سبب في عصيانهم وعقوقهم، حتى ولو كان الابن مأمورا بالطاعة في جميع الأحوال، ولكن ليكن الأب بتصرفاته وأخلاقه مساعدًا لابنه على برّه والإحسان إليه وتقبّل رأيه وعدمِ الاعتراض عليه.
وإلى جانب ذلك كله ما على الإنسان إلا أن يبذل ما في وسعه لتربية أبنائه متوكلا على الله سبحانه، رافعا يديه إليه آناء الليل وأطراف النهار وفي كل صلاة وعبادة أن يرزقه برّ أبنائه وحسن رعايته حالَ كبره، فالله سبحانه سميع قريب مجيب.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَعُقّ أو نُعَقّ أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا، اللهم ارزقنا بر والدينا واغفر لهما وارحمهما كما ربيانا صغارا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/4576)
حرية الرأي
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, مذاهب فكرية معاصرة
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمّاعة حرية الرأي. 2- الإسلام دين الحرية والعدل والمساواة. 3- موقف الإسلام من حرية الرأي. 4- حرية الرأي عند الغرب. 5- طعن الغرب في الإسلام. 6- مبشّرات بعد جريمة الرسوم المسيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا العمل، وقصّروا الأمل، واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
معاشر المسلمين، إنه الشعار الذي كثُر الحديث عنه في الشرق والغرب، إنه الغِطاء الذي طالما دندن حوله دعاة التغريب على أنه مطلب حضاريّ يجب الإيمان به، إنها الشمّاعة التي اتخذها الغرب عذرًا في الدفاع عن سفهائِه حينما تطاولوا على عرض محمد ؛ حتى أضحى هذا المصطلح مبدأ يفاخر به عند أولئك القوم، إنه مصطلح "حرية الرأي".
أيها المؤمنون، حرية الرأي لفظ جذّاب ومصطلح أخّاذ، يلامس المشاعر، ويحرك العواطف. حرية الرأي كلمة جميل نطقها، تهفو إليها النفوس الأبية، وترنو نحوها الهمم العالية، بَيدَ أن هذا لا يعني القبول به كلّه بحلوه ومره، بل لا بد من عرضِ هذا المصطلح بكل دقّة ووضوح؛ حتى لا يكون سلّمًا لتمرير الأفكار الهدّامة والنظريات المستورَدَة تحت شعار "حرية الرأي".
عباد الله، حرية الرأي من المصطلحات العائمة العامة التي تحمل حقّا وباطلا، ولو رجعنا إلى قرآن ربّنا وسنة نبينا لا نجد مثل هذه التعبيرات، فهي مصطلح حادث لم تعرفه قواميس أهل الإسلام، ولم يستخدمه أئمة الإسلام في العصور الفاضلة، ومع ذا كلّه فلا يمنع من الوقوف مع دلالات هذا المصطلح، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
إخوة الإيمان، إن من المقرر لدَينا أن دين الإسلام هو دين العدل والحرية والرحمة والهداية، وما أصدق ما قاله ربعي بن عامر مخاطبا ملك الفرس: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق لدنيا إلى سعة الآخرة). فديننا الإسلامي دين الرحمة، دين الحرية، دين الرحمة بالخلق والدّعوة إلى الخير، دين الكلمة الطيبة التي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها.
فمن شواهد ذلك قوله للأعرابي الذي جاء يناشد حقّا من حقوقه: ((دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا)). وما ترسيخ الإسلام لمبدأ الشورى والحثّ على النصيحة والحضّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ لونا من ألوان حرية الرأي. بيد أن هذه الحريّة ليست مساحة مفتوحة ليقول فيها من شاء ما شاء، إنما جُعِل لهذه الحرية ضوابط وحدود لا تتعداها حتى لا تُفسِد على الناس دينهم ودنياهم.
عباد الله، إن المتأمل لموقف الإسلام من حرية الرأي يمكن أن يستلهم قواعد عامة تجلي الموقف من حرية الرأي ومساحتها المسموح بها والممنوع، منها:
أولا: أن الإسلام عظّم من مكانة الرأي وأعلى من شأنه، سواء أكان هذا الرأي كلمة منطوقة أم مكتوبة، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)) رواه أحمد في مسنده.
ثانيا: أن هذا الرأي ليس بضع كلمات يلقيها الإنسان ثم يتفلّت من تبعاتها، كلا، بل هي حرية تصاحبها مسؤولية ومحاسبة، يقول الله عز وجل: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول النبي لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
ثالثا: أن الإسلام أمر بالرأي الحسن والقول المؤدّب: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)).
وفي المقابل نهى الإسلام عن إبداء الرأي السيّئ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، ويدخل في هذا أيضا الأفعال السيّئة والأفكار المنابذة للشرع.
رابعا: أن الإسلام جاء بحفظ ضرورات خمس، منها حفظ الأعراض، ومن هذا الباب حرّمت الشريعة جملة من الآفات التي فيها ضرر بالآخرين، كالقذف والغيبة والبهتان والتنابز بالألقاب وغيرها، فلا يجوز الولوغ في أعراض المسلمين أو التهكّم بهيئاتهم تحت شعار حريّة الرأي.
خامسا: أن الإسلام نهى عن إبداء الرأي بلا علم: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]. فليتكلم كل إنسان بما يحسن، وليترك ما لا يحسن، وليحترم كلّ امرئ تخصّصه، ولا يتطفّل على تخصّصات الآخرين فيأتي بالعجائب.
سادسا: أن القضايا العامة والنوازل المتعلّقة بقضايا الناس ومصالحهم لا بد من ردّها إلى الكتاب والسنة لمعرفة حكم الشرع فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة).
وأعلمُ الناس بمراد الله تعالى وفهم الشرع هم أهل العلم الراسخون، فلا بد من أخذ رَأيهم في كلّ معضلة أو نازلة كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
وإن تعجب فعجب من أقزام يتحدثون في نوازل عامة وخطوب مدلهمة، لو رفعت للفاروق لجمع لها أهل بدر وشيوخ الإسلام للنظر فيها، فيتقدم هؤلاء بين يدي علماء الأمة ليدلوا بجهالاتهم تحت شعار حرية الرأي.
سابعا: أن حرية الرأي يجب أن لا تطال المقدّسات الدينية والثوابت الشرعية كأصول الاعتقاد والنصوص القطعية، فلا حرية ولا تسامح مع الآراء المعاكسة للشريعة تحت أي شعار كانت، وإلا لتهدم بنيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء.
فها هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤتى برجل يسمَّى صبيح جعل يثير الشبهات بين الناس ويضرب النصوص بعضها ببعض، فأمر بجلده وجَلَده حتى تأدّب وتاب.
ويبقى باب حرية الرأي مفتوحا في الأمور المباحة والمسكوت عنها وما يتعلّق بمعاش الناس الدنيويّ، وهي أبواب واسعة وكثيرة يصعب عدّها وحصرها.
وحقّ لنا أن نقول بكل فخرٍ وثقة: إنه لا يوجد نظام في الأرض يوفّر للإنسان حريته ويضبط هذه الحرية بقواعد تحميه وتوفّر له الخير والسعادة إلا في الإسلام، وصدق الله عز وجل: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
عباد الله، لقد قامت دعوات حرية الرأي عند الغرب للتخلّص من ديكتاتورية البابوات وسياط الكنيسة التي كانت تستعبِد الناس وتخنق حرياتهم وتعاقبهم على أفكارهم، عند ذلك عظم الغرب هذه الحرية وعمّموها وقدسوها وحموها حتى أضرّت بدينهم ودنياهم، فإعلان الفاحشة والتباهي بها ودعوة الآخرين إليها في ميزان الغرب حرية مقدّسة تسنّ القوانين لحمايتها والدفاع عن أصحابها، وفي ميزان الإسلام جرائم وكبائر يؤدَّب أصحابها والدّاعون إليها.
أيها المؤمنون، أحبابَ المصطفى ، كم آلمنا وأحزَننا هذا التواقح السافر من سفهاء الغرب على مقام النبي ، وزادنا إيلاما موقف حكوماتهم بأن هذا يندرج تحت شعار حرية الرأي التي يتمتّع بها المجتمع الغربي المتحضر. وكلنا يعلم أن هذا التبرير البارد إنما هو لذرّ الرماد في العيون، وأن هؤلاء الذين يتغنّون بالحرية هم أوّل من يطأ تلك الحريات تحت قدمه إذا صادَمت مصالحهم، وإلا فأين حرية الرأي في بلاد تمثال الحرية التي لم ولن تسمع للشيوعيين في عرض مبادئهم؟! فأين حرية الرأي عن مناقشة قضية المحرَقة اليهودية وحقيقة وقوعها؟! فها هي ألمانيا تصدر قانونا بالسجن خمس سنوات لكل من يزعم أن تلك المحرقة كانت فِرية. هل يستطيع الغَرب المتحضّر أن يعبّر في صحفه عن قضية صلب المسيح التي ورَدت في أناجيلهم؟! هل يستطيع الغرب المتحضّر أن يفصح للعالم أن بولس اليهوديّ هو المؤسّس الحقيقيّ للدّين المسيحي الذي تدين به أوروبا والغرب النصراني؟!
إن كان في سبّ الرسول تحضّر فلتفتخر بقريشِها الكفّار
حرّية التعبير ليست دمية يلهو بِها الأوغاد والأشرار
فليشتموا شمطاءهم ويهودهم علنا لنعلم أنهم أحرار
يا دولة الأبقار إن مصيركم شؤم يَحل بداركم وشنار
أيها المسلمون، إنّ هذا العداء الحاقد لنبيّ الإسلام الذي صعّدته الدنمارك ووقفت معهم بعض الدّول النصرانية إنما هو في الحقيقة مؤامَرة مرسومة للطعن في الإسلام وتشويهه، وإن الصحيفة التي نشرت تلك الرسومات الآثمة ليست صحيفة من الدرجة الثانية أو الثالثة، كلا، بل هي من الصحف الناطقة باسم الحاكم اليميني المتطرف المعلن عداوته للإسلام، والذي قال ساساته قبل نشر تلك الرسومات بوقت قصير: "إن من الضروري أخذ التحدّي الذي يشكّله الإسلام محمل الجد". ثم سرعان ما تفاعلت أقلام ورسومات مع هذه الدعوة الملكية.
وقد علّمنا التاريخ أن ملوكَ النصارى هم أشد الناس عداوة للمسلمين، وأن حملاتهم الصليبية التي كانوا يتزعمونها لهي أكبر شاهد على حقدهم الغائر على الإسلام وأهله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى.
أما بعد: فيا عباد الله، فإن المحن قد تحمل في طياتها المنح، وقد تأتي المبشّرات بعد التنغيص بالمكدرات.
وقد تصحو القلوب إذا استفِزَّت ولفح النار يوقد من سبات
وهذه الحملة الأفاكة قد حملت في طياتها مبشّرات للمسلمين، لم يحسب لها العدوّ حسابا، فمن هذه المبشرات:
أولا: أن هذه الحادثة ألهبت روح الغيرة على الدين، وألهبت نار الحمية الإسلامية؛ حتى أصبحت هذه الغيرة حديث العالم في الشرق والغرب.
ثانيا: أن هذه الحادثة أثبتت للعالم صدق محبة المسلمين لنبيهم ، وأن النفوس والأموال لترخص في سبيل الذب عن العرض المحمدي.
ثالثا: أن هذه الهجمة البربرية أزالت غبار الغفلة عن قلوب كثير من المسلمين تجاه حقد النصارى على المسلمين، وأنهم مهما فعلوا معنا من مجاملات مصلحية إلا أن هذه الضغائن ستبين يوما ما، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد:28].
رابعا: اتضح لنا أننا نملك طاقات مدفونة مؤثّرة من حيث لا نشعر، وأن بِيَدنا أقوى الأسلحة الفتّاكة دونما نطلق معَه رصاصة واحدة، إنه سلاح المقاطعة، سلاح بطيء ولكنّه فعّال.
وهذه الدول الرأسمالية أخشى ما تخشاه هَلهلة كيانهم الاقتصادي، وها هي صيحاتُ عقلائهم تستنجد بالاتحاد الأوروبي لحلّ معضلة المقاطعة الإسلامية.
أمنوا مقاطعة الشعوب وما دروا أنّ الشعوب تَجوع حين تثار
هي ثورة شعبية سلمية لا الشّجب يطفئها ولا الأعذار
هذا جواب الشعب رغم هوانه وغدا يجيب الواحد القهّار
وخامسا: في هذه الحادثة رأينا معجزة من المعجزات المحمدية، وهي توحيد الأمة على اختلاف أجناسها وتعدّد لغاتها وتفرّق بقاعها للذّود عن العرض المحمّدي ، ولسان حالِ الأمّة:
فأنت قداسَة إذا ما استُحِلَّت فذاك الموت من قبل الممات
سادسا: مع هذه الحادثة ازداد جانب الدعوة إلى الإسلام وحماس الناس لنشر الدين، فرأينا الكتب تطبع والمواقع تنشأ للدفاع عن العرض المحمدي ولتعريف العالمين بسيرة أطهر من وطئ الثرى عليه الصلاة والسلام، ولعل هذا يكون سببا من أسباب نشر الإسلام في تلك الديار.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة...
(1/4577)
والله يعصمك من الناس
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
قاسم بن عبد الله أبو عامرية
بيش
27/12/1426
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله لهذه الأمة بمحمد. 2- فضل الرسول. 3- جريمة الاستهزاء بالنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، من رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم كتبه، ومن فضل الله على هذه الأمّة أن بعث فيهم خيرَ رسله وخاتم أنبيائه وأفضل خلقه سيد ولد آدم، وأنزل عليه القرآن وأيّده بالحجة والبرهان، أمرنا باتّباعه، وافترض علينا طاعته ومحبّته وتوقيره والقيام بحقوقه، وسدّ الطريق إلى جنته إلاّ من طريقه، فهو رسول مصطفى ونبي مجتبى، نبي عظيم وإمام كريم، قدوة للأجيال وأسوة للرجال ومضرب الأمثال وقائد الأبطال، معصوم قلبه من الزّيغ، ويمينه من الخيانة، ويده من الجور، ولسانه من الكذب، ونهجه من الانحراف، ما سجد لصنم ولا اتّجه لوثن، ما مست يده يد امرأة لا تحلّ له، ولا شارك قومه في لهو ومجون، طهّر الله فؤاده، وحفظ رسالته، وأيّد دعوته، ونصر ملّته، وأظهر شريعته، ختم به أنبياءه، ونصر به أولياءه، وكبت به أعداءه.
أقسم الله العليم الخبير بالنجم إذا هوى على تزكية المصطفى، فزكى عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وزكّى لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم:3]، وزكى شرعه فقال: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وزكى معلمه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]، وزكى قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكاه كله فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. وصفه الله بصفتين من صفاته فقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، نعته بالرسالة فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وناداه الله بالنبوة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الممتحنة:12]، وشرفه الله بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]. شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأتمّ أمره، وأكمل دينه، وأبرّ يمينه، ما ودعه ربّه وما قلاه، بل وجده ضالاً فهداه، وفقيرًا فأغناه، ويتيمًا فآواه، خيره ربه بين الخلد في الدنيا ولقائه فاختار لقاء مولاه، ((بل الرفيق الأعلى)).
هذا هو محمد رسول الله، أزكى البشرية، وخير البرية، أغناه الله تعالى عن مدح المادحين، ونزهه بعصمته عن قدح القادحين.
أيها المسلمون، لعلكم سمعتم وعلمتم ما صدر من أعداء دين الله من دول الغرب الكافرة من المغضوب عليهم والضالين من استهزاء برسول الله واستنقاص لخير خلق الله، هؤلاء الكفرة الفجرة بعض بني قومهم توجّهوا للإسلام أرادوا صدّهم عن ذلك، فشنوا حمله تشويهية استهزائية لتشويه شخصية رسول الله؛ حقدًا وحسدًا وبغضًا ملأ قلوبهم، والله قد قال عن أعدائه: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ولا شك ـ عباد الله ـ أن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم أزلي، وإن عداوة الكفار لهذا الدين ولرموزه مستمرة، ولن يرضى عنا أعداء الله إلا إذا اتّبعنا ملَّتهم كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
أيها المسلمون، ثلاثة أشهر وأعداءٌ في الدنمارك يستهزئون برسول الله ويصرون على ذلك، بل الأمر ليس مجرّد مجلة ذكرت ذلك، وإنما حتى على مستوى رسميّ، ولحق بهم بعد ذلك النّرويج، وستلحق بهم فرنسا وهكذا... فهذا الاستهزاء والنيل من رسول الله كدّر والله خواطرنا وأقلق أنفسنا، وإني على ثقة من أن الغيظَ يغلي في قلوبكم كما يغلي في قلبي، وأعلم مقدار الألم الذي تنطوي عليه قلوبكم، أعلم ذلك لأني أعلم مكانة رسول الله في نفوسكم، كيف ورسول الله حنّ الجذع وبكى على فراقه؟! كيف لا تحترق قلوبنا ونحن نسمع عن سبّ هؤلاء لرسولنا الكريم وهو والله أغلى من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين؟! أمرنا ربنا جلّ جلاله أن نقدّم محبته وحبّ نبيّه على كل محبوب فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وقال في الحديث الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث.
كرم الله نبيه فنهى أصحابه أن يدعوه كما يدعو بعضهم بعضا، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]. ونهى أصحابه أن يقدّموا بين يديه بأي أمر من الأمور، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]. ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. أفيرضى بعد ذلك الله لإخوان القردة والخنازير وعبّاد الأصنام والأوثان أن ينالوا من رسول الله؟! ولكنه والله الابتلاء لنا، قال تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
إن هذا الاستهزاء لن يضر رسول الله بشيء، ولن يهزّ ديننا أبدا، فالله قد قال لنبيه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95].
أيها المسلمون، إن العجب ليس من استهزاء هؤلاء بقدر ما هو ممن يسمع عرض رسول الله ينتهك ولا يغضب ولا يحزن، والله لئن سُبّ آباؤنا أو أجدادنا أو قبائلنا لغضبنا لذلك، أفلا نغضب لرسول الله وهو والله أغلى من أنفسنا ومن أولادنا ووالدينا والناس أجمعين؟! نفديه بأرواحنا، أرواحنا دون روحه، نحورنا دون نحره، أعراضنا دون عرضه.
إمام المسلمين فداك روحي وأرواح الأئمة والدّعاة
رسول العالَمين فداك عرضي وأعراض الأحبة والتقاة
ويا علم الهدى يفديك عمري ومالِي يا نبِيّ المكرمات
فداك الكون يا عطر السجايا فما للناس دونك من زكاة
فأنت قداسة إما استُحِلّت فذاك الموت من قبل الممات
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4578)
تحريم الأنفس المعصومة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/2/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطغيان والعدوان واحد في كل زمان ومكان. 2- عِظم جرم قتل المسلم بغير حق. 3- وعيد قتل المعاهدين والمستأمنين. 4- جريمة الاعتداء على المؤسسات والمنشآت العامة. 5- عقوبة القتل في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أسباب سخطه، وراقبوه.
أيّها المسلمون، إنَّ سنَّةَ الطغيان وطريقَ العدوان واحدَةٌ في كلِّ زمان وفي كلِّ مَكان، إنها مسارَعةٌ إلى الشرِّ في كلِّ دروبه؛ تحقيقًا للأغراض وتوصُّلا للأطماع التي يسلُكون إلى بلوغِها كلَّ سبيل، ويركبون إليها كلَّ مَركب، وهم متَّصفون بأوصافِ مَن ذكرهم الله تعالى بقولِه سبحانه: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، أي: لا يحفَظون في عبادِ الله حقَّ قرابةٍ، ولا يحفَظون عَهدًا، ولا يُبقون على أحدٍ لو كُتِب لهم الظهور، في جرأةٍ على الدّماء لا تعدِلها جرأة، استهانةٍ بالأنفس المعصومةِ التي حرَّم الله قتلَها إلاَّ بالحقّ لا تعدِلها استهانة. إنها سنّة قديمةٌ استنّها أحدُ ابنَي آدم حين سوّلت له نفسُه وزيّن له شيطانُه الاعتداءَ على أخيه وسفكَ دمِه ظلمًا وعدوانا وانسياقًا وراء الأطماعِ وتأثُّرا بسحرِ بريقها الخادعِ الذي يذهَب بالأبصار، ثم يكون مآله الخيبَة والخسران، وقد قصَّ الله نبأَ هذا العدوان في آياتٍ بيِّنات ليحَذِّر الخلقَ جميعًا من سلوكِ سبيل المعتدين كيلاَ ينزل بهم ما نزلَ بأولئك من أليمِ العذاب، فقال سبحانَه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، إلى أن قال سبحانَه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ [المائدة:30].
ولا ريبَ أنَّ شرَّ ألوان الطغيانِ ـ يا عباد الله ـ وأخبثَ أنواع العدوان سفكُ الدّم الحرام المفضي إلى قتلِ مسلم حقَن الله دمَه وحرَّم ماله وعِرضه، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله قال: ((كلُّ المسلم على المسلِمِ حرام؛ دمُه ومالُه وعِرضه)) الحديث؛ ولذا كانَ الاجتراءُ على قتلِه بغيرِ جِناية أو قِصاص محادّةً لله ورسولِه وارتكابًا لكبيرةٍ من كبائرِ الذّنوب، يبوء مقتَرِفها بذلك الإثم الذي بيَّنه الله سبحانه بقولِه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وبيَّن رسولُ الله عِظَم هذا الجرمِ بقولِه: ((والّذي نفسِي بيَدِه، لقَتلُ المؤمِنِ أعظمُ عند الله من زوالِ الدنيا)) أخرجه الترمذيّ في جامعه والنسائيّ في سننه بإسنادٍ صحيح، وأوضَحَ عمومَ عقوبَةِ قتلِ المؤمن بغير حقٍّ لكلّ من كان له مشاركةٌ فيه بقوله : ((لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دمِ مؤمن لأكبَّهم الله في النار)) أخرجه الترمذيّ في جامعه والنسائيّ في سننه بإسناد صحيح. وأرشدَ إلى أنَّ المؤمنَ يظلُّ في سعةٍ مِن دينه وينتَفِع بصالح أعمالِه حتى إذا أَوبَق نفسَه بالقتل المحرَّم ذهبَت تلك السعةُ وضاقَت عليه صالحُ أعماله، فلَم تفِ بهذا الوِزر العظيم، فقال : ((لا يَزالُ المؤمن في فسحةٍ مِن دينه ما لم يُصِب دمًا حراما)) أخرجه البخاريّ في صحيحه؛ ولذا كان من صِفاتِ المؤمن الحقِّ وكريم سجاياه التي أَنشَأها في نفسِه إيمانٌ صَادِق سَلامتُه من الفَتك، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه مسلِم في صحيحِه عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ قال: ((الإيمانُ قَيدُ الفتك، لا يفتِك مؤمِن)).
ويَندَرج في ذلك أيضًا قتلُ المعاهَد والمستأمَن من غير المسلمين، فقد توعَّد رسول الله من اجتَرَأ على قتلِه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) أخرجه البخاريّ في صحيحه.
وإذا كان هذا الوعيدُ واردًا في قتل نفسٍ واحدة معصومةِ الدمِ بغيرِ حقٍّ فكيف بقتلِ يذهَب ضحيّتَهُ رِجالٌ ونِساء وشيوخٌ وأطفال ومَرضى وكلُّ بريءٍ لا جُرمَ لَه؟! لاَ جَرَم أن يكونَ الوعيدُ في حقِّ مقتَرفِه بالغًا مَبلَغًا عظيمًا من الشّدَّة، وأَن يكونَ الجزاءُ عليهِ كَذلك يومَ القِصاصِ العادِل، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111]، وكيفَ بِعدوانٍ يجمَع إلى سفكِ الدمِ الحرام تخريبًا وسعيًا إلى تَدمير مؤسَّساتٍ ومنشآت اقتصاديّةٍ هي من مالِ المسلمين الذي أفاءَ الله به على عبادِه ومنَّ به عليهم ليكونَ لهم عدّةً وزادًا ومَصدر خيرٍ ومَوردَ برّ وسبيلا إلى إحرازِ القوّة وطريقًا إلى استمرارِ نهضةِ الأمّة وبابًا إلى خدمةِ دين الله ونشرِ كتابه والذودِ عن شريعته؟!
إنَّ مثلَ هذا العدوان الذي وقع على هذه البلاد ليبرأ إلى الله منه كلُّ مؤمن صادقٍ يحذَر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ويدعو كلَّ من تلوّث بأرجاسِ هذا العملِ وأمثاله إلى التوبةِ إلى الله تعالى منه وإلى الحذرِ من اتِّباع خطوات الشيطان التي أمَر الله تعالى العبادَ جميعًا به حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، وأن يَربَأ بِنفسِه مِن أن يُتَّخَذ أداةً في يدِ أعداء دينه وخصوم وطنِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون من الشرِّ والأذى والفسادِ.
وإنَّنا لنحمد الله تعالى على ما مَنّ به سبحانَه من توفيقِ إخواننا رجالِ الأمن إلى إحباطِ مسعَى أولئك الذين اقترفوا هذا الإثمَ أوبقوا أنفسَهم في هذا العدوان الذي لا يَستفيد منه سِوى أعداء الأمّةِ والمتربِّصين بالمسلمين الدوائر.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذَروا أسبابَ سخَطه، ومنها التورُّط في كبائِرِ الذّنوب، وفي الطليعة منها قتلُ النفس التي حرّم الله قتلَها إلا بالحق، وترفَّعوا عن الإثمِ في كلّ دركاته، واحذروا العدوانَ في مختَلف ألوانه؛ يَطِب عيشُكم، وتستقم أموركم، وتكونوا من الصّفوَة من عبادِ الرحمن الذينَ وصفهم سبحانَه بأشرفِ أَوصاف الكمالِ في آي الكتاب بقوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الآية [الفرقان:68]، ثم جعَلَ خاتمةَ تلكَ الأوصاف الشريفةِ هذا الجزاءَ الضافيَ العظيم الذي ذكرَه سبحانه بقوله: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:75، 76].
نفعنِي الله وإيَّاكم بهَديِ كتابِه وبِسنَّةِ نَبيِّه ، أَقول قولي هَذا، وأَستَغفِر الله العظيمَ الجلِيلَ لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين من كلِّ ذَنبٍ فاستَغفِروه، إنَّه هوَ الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليّ المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الأوّلين والآخرين، اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ دائرةَ إراقةِ الدّماء المسلمةِ في دين الإسلام قد ضيَّقَها الله تعالى وجعَلَها درءًا لمفسدةٍ أكبر في حالِ ضرورةٍ بهدَف إقامةِ العدل بين الناس وبَثِّ الطمأنينة في نفوسِهم ورفعِ لِواء الأمن على ربوعِهم، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في صَحيحيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسولُ الله : ((لا يحِلّ دَم امرئٍ مسلم إلا بإحدَى ثلاث: الثيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارِك لدينِه المفارِقُ للجَماعة)). كما أهدَرَ دَمَ فريقٍ آخر، منهم من شقّ عصَا الطاعة وأراد تفريقَ جماعةِ المسلمين كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عَرفجة بن شريح أن النبيَّ قال: ((مَن أتاكم وأمرُكم جميعٌ ـ أي: مجتَمِع ـ على رجلٍ واحد يريدُ أن يشقَّ عصاكم أو يفرِّق جماعتكم فاقتُلوه))، وفي رواية: ((فاضربوا رأسَه بالسيف كائنا من كان)) ، ومن يَعيث في الأرض فسادًا بقطعِ الطريق ونحوِه على تفصيل مبسوطٍ في موضعه من كتبِ أهل العلم، فقال سبحانه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، وقد جاءَتْ النصوصُ الصحيحة عن رسولِ اللهِ أيضًا بقتل الساحِرِ ومَن أتى ذاتَ محرَم أو وقع على بهيمَةٍ وبِقتلِ شارِب الخمرِ في المرَّةِ الرابعة ومرتَكِبِ كبيرةِ اللّواط، لكنّها ترجِع جميعُها إلى هذهِ الخِصال الثلاثِ التي جاءَت في حديثِ ابن مسعودٍ رضي الله عنهما كما بيَّنه الإمام الحافظ ابنُ رجب رحمه الله وغيرُه من أهل العلم بالحديثِ، وكلُّه مما يتِمُّ به قمعُ العدوان والحدُّ من الطغيان واستِتباب الأمن في ربوعِ المجتمَع وحِفظُ كيانِ الأمة أن تعصفَ به أعاصير الباطل أو تنالَ مِنه مكائِدُ الأعداء.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وصلّوا وسلِّموا على خاتم رسلِ الله محمد بنِ عبد الله، فقد أمركم بذلك الله فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صَلّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائه الأربعةِ...
(1/4579)
الحرب على الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
3/2/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحرب ضد الإسلام مستمرة إلى قيام الساعة. 2- من صور الحرب على الإسلام. 3- الموقف المشرف للمسلمين تجاه ما نال جناب المصطفى من أذى. 4- أهداف إيقاد نار الفتنة بين المسلمين في العراق. 5- حرمة بيوت الله. 6- نصيحة للمسلمين في العراق. 7- تدارس أوضاع المسلمين في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الناظر إلى ما يجري في دنيا المسلمين يرى مخطّطًا واضحًا يستهدِف الإسلام والمسلمين، في الحرب القديمة الجديدة على الإسلام وأهله، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. وقد اتَّخذت هذه الحرب على الإسلام وأهله وسائل وأساليب متعددة؛ شملت النواحي العسكرية والاقتصادية والثقافية، واستغلت وسائل الإعلام المختلفة وسخرتها لخدمة هذه الحرب الحاقدة التي تستهدف المسلمين عقيدة ووجودا، وتشوّه رموز العقيدة الإسلامية ومقدساتها، من خلال الإساءة إلى النبي ، في رسومات نشرتها تلك الصحيفة الدنماركية وتابعتها صحف غربية أخرى، بنشر تلك الرسومات تضامنا مع تلك الصحيفة، في تكريس هذا العدوان المنافي لأبسط قواعد حق الإنسان في احترام معتقده لدى الآخر. ودافع من دافع عن هذه الحملة المشينة من ساسة الغرب باحترام حرية الصحافة وحرية التعبير في بلدانهم التي تعيش نظام الديمقراطية، هذا النظام الذي تصوره زعيمة العالم الحر بزعمهم من خلال الحروب والاحتلال، كما حصل في غزو العراق وقبلها بلاد الأفغان، وربما يستمر مسلسل الغزو والحرب ليطال سوريا ولبنان وإيران، بعد محاصرة هذا الشعب الصابر ومعاقبته على خياره في الانتخابات التي تتغنى بها دول الاستعمار دويلات الحروب وتجارها. فإلى متى تنطلي على هذه الأمة الكريمة أحابيل أهل الكفر ودسائسهم ومخططاتهم، والله يقول: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، والرسول يقول: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)).؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنها الحرب المستمرة على هذا الدين برموزه ومنهاجه ودستوره الخالد وثقافته وفكره وحضارته، وإن الأحزاب الذين اجتمعوا للقضاء على هذا الدين في حاضرة دولته في المدينة المنورة منذ بدايات نشأة دولة الإسلام ومجتمع المسلمين الذي لم يمض على قيامه أكثر من خمس سنوات في دار الهجرة هم الأحزاب الذين اجتاحوا حاضرة الخلافة الإسلامية بغداد بأشخاص المغول والتتار، وبنفس الهدف والمخطط الذي استهدف هذا الدين ودولته منذ أيامه الأولى، ألم تطرح حضارة المسلمين وعلومهم في مياه دجلة؟! أين ذهبت علوم وكتب دار الحكمة؟! إن مدادها قد صبغ مياه دجلة كما صبغ دم أبناء المسلمين مياه أرض العراق. فما أشبه اليوم بالبارحة! أين متاحف العراق ومكتباته وحضارته وعلماؤه في ظل غزو التحالف الجديد لديار الرافدين؟! إنها لم تكن أوفر حظًا من علوم دار الحكمة يوم غزاها المغول الأوائل الذين لم يدمروا نصبا لمؤسّسها المنصور العباسي، فدمره الغزاة الجدد من جيوش الأحزاب التي حشدت وما زالت تحشد لحرب أهل هذه الديار الذين فرقتهم العصبيات الجاهلية، ولم يأخذوا حذرهم كما أمرهم الله في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. ولله در القائل: "ولن تكونوا خير أمة أخرجت للناس إلا إذا تغيرت حياتنا من الأساس، وإلا إذا تحررت نفوسنا تغيرت تبدلت وأصبحت مثل النجوم في الدجى نبراس، ولن تكون خير أمة أخرجت للناس إلا إذا تغير المقياس، وأصبح الدين عندنا والحب والقرآن منبع الإحساس".
جاء في الحديث الشريف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما خيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، لم يرق لأعدائكم ومن والاهم ما رأوه من موقف صلب شجاع عبرت عنه شعوب أمتكم الإسلامية يوم هبت تدافع عن نبيّها ، وما زالت أمام استهداف مكانة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل من أعماهم الحقد على نبي الإسلام ودعوته. هذا الموقف العظيم المدافع عن عقيدة الأمة ومقدساتها ورموزها، وقد توحّد أبناء الأمة سنةً وشيعة في الذود عن عقيدتهم ونبيهم عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعت الأمة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع تكرار هذه الإساءات لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فكانت المقاطعة الاقتصادية لمنتوجات البلد الذي صدرت منه الإساءة، وكانت الدعوة لسحب السفراء من البلاد التي تسيء أو شاركت في الإساءة للمسلمين ونبيهم ودينهم، وكذلك الدعوة إلى سن القوانين الدولية التي تحظر الإساءة للأديان والأنبياء والعقيدة. وفي مواجهة هذا الموقف الصارم لشعوب الأمة الإسلامية تسلّلت يد الغدر والفتنة إلى مقام ومسجد الإمام علي الهادي لنسف قبته وإلحاق الأذى بمسجده بهدف واضح ومكشوف، وهو بعث فتنة مذهبيّة بين أبناء المسلمين من الشيعة والسنة، وتقسيم أبناء الأمة إلى طوائف متنازعة متخاصمة، وفي ذلك ما فيه من تشتيت جهود المسلمين وتفريق صفهم.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن محبة آل بيت النبي هي محلّ إجماع المسلمين كافة، وإن رعاية مساجد الله هي من واجب المسلمين كذلك، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ [التوبة:18]. فأيّ جريمة نكراء تلك التي تستهدف بيوت الله وتسعى إلى خرابها والله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]؟!
جدير بأبناء الأمة أن ينتبهوا لما يحاك ضدهم من مؤامرات ومخططات، ويوجّهوا جهودهم لكشف هذه المؤامرات وردّ كيد المدبّرين لها إلى نحورهم. وهنا نناشد أبناء المسلمين سنة وشيعة أن يبتعدوا عن كل ما يفرق صفّهم ووحدتهم، ويعملوا بقول الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]. ونقول لإخواننا في العراق: إن المحتلّ لا يريد لكم الخير، بل يريدكم ضعفاء مستكينين، فاحرصوا على وحدة صفكم وكرامة أرضكم التي كانت وما زالت عصية على الغزاة والمحتلين. احرصوا على حقن دمائكم، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، واعملوا على وأد الفتنة في مهدها، واقطعوا الطريق على دعاة الفتنة والفرقة الذين يقودونكم إلى الضعف والهوان، وإلى تحقيق مآرب الاحتلال والاستعمار.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن ما يجري في ديارنا المباركة في ظل الضجة المفتعلة على نتيجة الانتخابات الفلسطينية لهو مؤشر خطير على نوايا الاحتلال وأفعاله ضد الأرض والإنسان، فإجراءات عزل الأغوار وإغلاقها ومنع أبناء شعبنا من الوصول إليها يكشف ويدلل على إمعان الاحتلال في السيطرة على مزيد من الأرض الفلسطينية لصالح الاستيطان الذي يتفشى في أرضنا وينتشر فيها انتشار النار في الهشيم. هذا الاستيطان الذي يحاصر شعبنا ويعزلهم في معازل ضيقة، ضمن السجن الكبير الذي يستوعب الأرض الفلسطينية، كما يستمر الاحتلال من خلال عدوانه في استهداف أبناء شعبنا بالاغتيالات والإعدامات بدم بارد، ويطارد أبناء شعبنا بالاعتقال والسجون، ويسرع وتيرة بناء جدار الفصل العنصري في البر والبحر، ويغلق المعابر، وكل ذلك يجري تحت مظلة الأمن التي أصبحت تستوعب كل جوانب النشاط الإنساني لحياتنا فوق هذه الأرض الطاهرة أرض الرباط إلى يوم الدين.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن هذه الأحوال تستدعي من جميع أبناء هذا الشعب وقواه الفاعلة أن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية لتوحيد الصف ووقف كل مظاهر الفوضى والفلتان الأمني؛ لحماية هذا الشعب الصابر المرابط الذي يقدم التضحيات الجسام وما زال يقدم دفاعا عن حقه في الحياة، وذودا عن مقدرات الأمة ومقدساتها في هذه الديار الإسلامية التي تشرفت بإسراء ومعراج نبينا عليه الصلاة والسلام إليها ومنها، وأصبحت أمانة الأجيال المسلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولله در القائل:
كونوا بني قومي جميعا إذا اعترَى خطب ولا تتفرّقوا آحادًا
تأبى الرماح إذا اجتمعت تكسّرًا وإذا افترقن تكسرت آحادًا
(1/4580)
الأسئلة التي وزعت وكشفت
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
26/4/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأستاذ الذي وزع أسئلة الامتحان. 2- الأسئلة الثلاثة في القبر. 3- الأسئلة الأربعة يوم الحساب. 4- استعداد الناس لاختبارات الدنيا. 5- بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة. 6- مسؤولية الآباء. 7- ضرورة الاستعداد لامتحان الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدم لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهنا يوم نلقى الله، يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضرًا وما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ تودُّ لوْ أنّ بيْنها وبيْنهُ أمدًا بعِيدًا [آل عمران:30].
أيها المؤمنون، إن حديثنا اليوم هو عن أستاذ وزّع الأسئلة على تلاميذه، وأخبرهم أن هذه الأسئلة سوف تأتيهم في الاختبار، وهي سبعة أسئلة، ثلاثة في الفترة الأولى، وأربعة في الفترة الثانية، وأقسم لهم بالله أن هذه هي الأسئلة، ولن يحصل فيها تغيير أو تبديل، ولأنه أخبرهم قبل الاختبار بفترة طويلة انقسم الطلاب والتلاميذ إلى قسمين: القسم الأول كذبوه، والقسم الثاني صدقوه، ولكنهم أيضًا انقسموا إلى قسمين، قسم حفظوها وطبقوها فنجحوا في الفترة الأولى وهم ينتظرون الفترة الثانية، وقسم قالوا: إذا قرب الامتحان حفظناها وطبقناها.
أيها الأحبة، سوف أذكر اسم هذا الأستاذ، وما هي أسئلته لعلّه يعتبر بها معتبر، وكيف لا أذكر اسمه وقد أعلن اسمه على الملأ، بل إني أجزم أنكم كلّكم تعرفونه، إنه الأستاذ الكبير والمعلم الجليل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ، وزّع الأسئلة وما أخذ عليها أجرًا، قال الله تعالى حاكيًا عنه: قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا [الشورى:23]. وزع الأسئلة وما كان توزيعه خيانة، حاشاه عليه الصلاة والسلام، بل كان توزيعه عين الأمانة، قال جل جلاله: يا أيُّها الرّسُولُ بلِّغْ ما أُنزِل إِليْك مِنْ ربِّك [المائدة:76]. أما أسئلته التي وزعها فإن النجاح فيها هو كلّ النجاح، والفوز فيها هو كل الفوز والله، قال الله تعالى: ومنْ يُطِعْ اللّه ورسُولهُ فقدْ فاز فوْزًا عظِيمًا [الأحزاب:71]، وقال تعالى: فمنْ زُحْزِح عنْ النّارِ وأُدْخِل الْجنّة فقدْ فاز [آل عمران:185]، وقال عن الذين دخلوا الجنة: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصافات:60].
أما أسئلته عليه الصلاة والسلام فهي سبعة، ثلاثة في القبر، فكما يدخل الطالب قاعة الامتحان وحده فلا يدخل معه أبوه ولا أمه ولا زوجته ولا ابنه، ولا ينفعه في الإجابة المال ولو كان جيبه قد ملئ منه، كذلك غدًا سيدخل كلّ واحد منا قاعة الامتحان الرهيب، تلك القاعة المظلمة إلا على من نوّرها الله عليه، تلك القاعة المنتنة التي تفسّخت وذابت فيها جثث موتى من قبلنا وجئنا على بقاياهم، تلك القاعة الموحشة، القبر سيدخله كلّ واحد منّا وحده، يضعه أولاده وأحبابه فيه، وما يلبثون أن ينفضوا أيديهم وثيابهم من التراب الذي علق بها من دفنه، مستقذرين له، ولن يدخل معك هناك إلا عملك، كما أن الطالب لا يدخل معه إلا معلوماته التي ذاكرها. أخرج البخاري عن أنس بن مالِكٍ قال: قال رسُولُ اللّهِ : ((يتْبعُ الْميِّت ثلاثةٌ، فيرْجِعُ اثْنانِ ويبْقى معهُ واحِدٌ، يتْبعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعملُهُ، فيرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويبْقى عملُهُ)). وأربعة يوم القدوم على الحيّ القيوم.
أما التي في القبر فهي: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ أما التي في الآخرة فهي كما صح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)).
أما التي في القبر فإن كان العبد مؤمنًا صالحًا تقيًا مصليًا مزكيًا صائمًا صابرًا فإنه إذا قيل له: من ربك؟ فإنه يقول بلسانه: ربي الله، أما لسان حاله فيقول: ربي الله العظيم الحليم الكريم الذي أنعم علي بنعمة الإسلام والإيمان والقرآن الذي حفظني من الشرك والضلال والانحلال، الذي وفقني للخير والهداية وجنبني الشر والغواية، الذي هداني يوم ضل كثير من خلقه، الذي منّ علي وتفضل، ولولاه جل وعلا لكنت ضالاً شقيًا فقد قال: ولوْلا فضْلُ اللّهِ عليْكُمْ ورحْمتُهُ ما زكا مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ أبدًا ولكِنّ اللّه يُزكِّي منْ يشاءُ [النور:21]، وقال تعالى: ولوْلا فضْلُ اللّهِ عليْكُمْ ورحْمتُهُ لاتّبعْتُمْ الشّيْطان إِلاّ قلِيلاً [النساء:83]، وقال تعالى: وما بِكُمْ مِنْ نِعْمةٍ فمِنْ اللّهِ [النحل:53]، ربي الله الذي طالما تلذذت في الدنيا بمناجاته، ربي الله الذي أحببته حبًا لا يعلم مداه إلا هو، ربي الله الذي حبست نفسي عن شهواتها وغيّها ابتغاء مرضاته، ربي الله الذي عبدته يوم عبد الناس أموالهم وشهواتهم، ربي الله الذي سجدت له يوم سجد الكفار لأصنامهم وأوثانهم، وجئته اليوم وأنا أفقر ما أكون إليه، راجيًا رحمته، طالبًا مغفرته، وهو الحليم العليم الحكيم الكريم، الذي لا يردّ من دعاه، ولا يخيب من سأله، ثم ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، من نبيك؟ نبيي محمد.
أما تلك الأسئلة الأربعة فهي أسئلة عظيمة رهيبة، سوف تسأل عنها بين يدي الله الواحد القهار، عن عمرك فيم أفنيته؟ وعن شبابك فيم أبليته؟ وعن علمك ماذا عملت به؟ وعن مالك من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ هذه أسئلة مكشوفة واضحة أمام الجميع، ولكن السعيد من يوفق للإجابة، والتعيس من خسر الآخرة.
معاشر الإخوة، نحن في هذه الأيام على أبواب الامتحانات كما يقال، يوم غد يتهيّأ الآلاف من الأبناء والبنات لدخول اختباراتهم الدراسية بعد شهور من العمل والجد والاجتهاد، فتجدون الكل ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدد مصير صاحبه، فتغمره الفرحة بالنجاح، ويسودّ وجهه أو يعلوه الاكتئاب بالفشل والرسوب إن كان عنده كسل أو تقصير.
قد أعلِنت حالة الطوارئ في البيوت استعدادًا وتجهيزًا وترتيبًا، وهذا أمر لا لومَ فيه ولا عتب، بل هو مما يحمد الناس عليه، خاصة إذا صلحت فيه النية طلبًا للعلم تعلمًا وتعليمًا، لكن ـ عباد الله ـ لا بد أن يذكرنا هذا بالاستعداد للامتحان الأعظم والاختبار الأجل في يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين، يوم تذهل فيه المرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يوم يتذكر فيه الإنسان ما سعى وبرّزت الجحيم لمن يرى، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه على أقدامهم حفاة عراة غرلاً، تقطّعت فيه الأنساب، وانتهت فيه الأحساب، أذلاّء بين يدي ربّ الأرباب، إنه يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين؟! يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله، قال مخبرًا عن ذلك اليوم العظيم: ((أنا سيّد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا عند إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضّلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أمر بقتله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلّمت الناس في المهد، وكلِمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد ، فيأتون فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفس محمد يده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، إن امتحان الدنيا أهون والله من امتحان الآخرة، وشتان ما بين الامتحانين، ولكن المؤمن الصادق يذكره هذا الامتحان بذاك الامتحان.
عبد الله، إن امتحان الدنيا يسعك فيه التعويض، فإن نجحت في الفصل الأول وإلا عوضت في الفصل الثاني، وإن لم يكن ففي الدور الثاني، وإن لم يكن ففي السنة التي بعدها، وإن لم يكن تركت الدراسة وبحثت لك عن وظيفة، وما خسرتَ إلا الشهادة، ولكن يوم القيامة الخسارة أعظم وأجل، إنها خسارة النفس. يخسر الإنسان شهادته، وظيفته، يخسر سيارته، يخسر تجارته، يخسر بيته وعمارته ومزرعته، كل ذلك يهون، لكن المصيبة كل المصيبة أن يخسر الإنسان نفسه، يأتي يوم القيامة يريد أن يدخل الجنة مع المؤمنين فيقال له: أنت حطب من حطب جهنم، قال الله تعالى: اقْترب لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وهُمْ فِي غفْلةٍ مُعْرِضُون [الأنبياء:1].
عباد الله، كلنا في امتحان، فبين راسب وناجح، والمادة هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقنا محبًا منقادًا مستسلمًا، صدّقها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح؟! وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق، وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار.
أيها الآباء، وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، اعلموا وعلّموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى، علِّموهم أن الامتحان والنجاح بقصْر النفس على ما يرضِي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا أنتم أنه لن ينصرف أحد من الموقف وله عند أحد مظْلمة، يفرح ابنك أن يجد عندك مظلمة، تفرح زوجتك أن تجد عندك مظلمة، يأتي ابنك يقف يحاجّك بين يدي الله قائلا: يا رب، سل أبي لِم ضيعني عن العمل لما يرضيك، ورباني كالبهيمة، ما يكون جوابك أيها الأب الحنون؟! أعِدّ للسؤالِ جوابًا.
اللهم إنّا نسألك أن تجعلنا من الفائزين الناجين يوم القُدُوم عليك يا أكرم الأكرمين، اللّهمّ إنّا نسألك التوفيق لأبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا، اللّهمّ لا تضيِّع تعبهم ولا تبدِّد جهدهم، اللّهم ذكِّرهم ما نسوا وعلِّمهم ما جهلوا ووفِّقهم لخيري الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى صحابته الأبرار، وآل بيته الطيبين الأطهار، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والقرار.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن اغتنام العبر وعرضها للاعتبار هو من وسائل التربية الإيمانية الناجحة التي استخدمها نبينا وقدوتنا صلوات ربي وسلامه عليه، وإني أُهيب بالآباء والأمهات والمربين وبوسائل الإعلام لاغتنام هذه الفرص لغرس وتنمية الإيمان في قلوب أبناء وبنات الأمة، فإنه لا يصلح المجتمع بلا دين رادع وقلب معتبر، وموسم الامتحانات الذي نعيشه مليء بالعبر، فما أحرى الأب أن يجلس مع أسرته ليتأمّلوا ما فيه من العبر ويعتبروا بها.
فيا أيها المسلمون، لنتذكر هذه الأيام بمناسبة الامتحانات الدنيوية للأولاد ذكورًا وإناثًا لنتذكر كيف الإعداد والاهتمام من أجل امتحانات دنيوية ومن أجل الحصول على النجاح والفوز كيف يكون الاستعداد من قبل الآباء والأمهات والأولاد ذكورًا وإناثًا، فما بالنا لا نعدّ العدّة في فترة الامتحان والاختبار الطويلة في زمن المهلة وهي عمر كل إنسان منا في هذه الحياة الدنيا سواء طال عمره أو قصر؟! وهي مدة كافية لأداء الامتحان من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار.
فعلينا أن نغتنم الفرصة والمهلة التي أعطانا الله إياها في هذه الحياة الدنيا، وعلينا أن ننتبه ونفيق من غفلتنا ونتذكر ونمعن النظر ونتأمل ونحن نتلو كتاب الله أو تتلى علينا آياته، ولنتذكر الموت ويوم الجزاء والحساب، ولنتذكر الجنة والنار، نقرأ الآيات المشتملة على النعيم الدائم في الجنة وأوصاف ذلك جملة وتفصيلاً فيما ورد في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول ، وكذلك ما ورد عن النار في القرآن الكريم والسنة النبوية.
علينا أن نتأمّل ونتفكّر ونتعظ ونفرق بين النعيم الدائم في الجنة واللّذة العاجلة في الحياة الدنيا، اللذة المحرمة التي يرى صاحبها أنه استمتع بها لدقائق ولحظات لا تطول، وتعقبها ساعات الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، وإلى أي مدى تستمر معه تلك النشوة والفرح بارتكاب ذلك المحرم، لو تدبر وتأمل حاله ذلك المسكين وأفاق من غفلته لأدرك الفرق الشاسع الذي لا مقارنة ولا تقارب معه بين هذا النتن والعفن وبين النعيم الأبدي السرمدي، ولو علم عواقب اتباعه للشهوات وارتكاب المحرمات في الدنيا لو علم مصيره في الآخرة إن مات على ذلك ما هو العقاب الذي سيجره على نفسه لابتعد وانزجر وكفّ نفسه عن إعطائها شهواتها وما تميل إليه وألجمها بزمام التقوى وحبسها عما يوردها المهالك وسجنها ـ خاصة عندما يزين لها الشهوة شياطين الإنس والجن ـ في سجن لا أغلال فيه ولا آصار، بل هو تقرّب إلى الحي القيوم بكف النفس عن المعاصي والآثام لنيل الرضا والفوز بالجنات والبعد عن النيران، يتذكر دائمًا أن الحياة الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ويفعل الأسباب المنجية له من الهلاك والخسران، ويطمع في رحمة الله ويخاف عقابه ويرجو رحمته ويدعو الله تعالى بحسن الخاتمة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26]، وما ?لْحيو?ةُ ?لدُّنْيا إِلاّ متـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
أسأل الله العلي القدير أن يوفقني وإياكم وجميع المسلمين لما فيه الرشد والصواب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله، فقال ربكم جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4581)
الموعد مع الملك
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
27/3/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموعد المحتوم. 2- لا يعلم الآجال إلا الله. 3- الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. 4- ثمار الإيمان بكتب الآجال. 5- الحرص على حسن الخاتمة والتحذير من سوئها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأعدوا للموعد المجهول عدَّتَه، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
عبد الله، إن لك يوما موعودا مع الملك. نعم، الملك وهو الذي يجيئك على غَفلة بدون تحديد موعد، وإنما في يوم موعود، أتدري من هو هذا الملك؟! إنه ملك الموت.
فلا شيء مِما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لَم تغنِ عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تَجري الرياح له والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفِد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يومًا كما وردوا
يا عبد الله، ماذا لو قيل لك: إن جنديًا من جنود الملك سوف يأتيك في موعد محدّد لا محالة، فإن وجدك على ما يرضي الملِك سوف يأخذك لقصور وزوجات ونعيم، وإن وجدك على ما يغضِب الملِك أخذك للسجن والأغلال والعذاب المهين؟! فإذا قلت: متى الموعد؟ قيل لك: الموعد مجهول، لا نحدّده لك وإن كان عندنا محدّدا، فكيف يكون حالك؟! ألا تراقب نفسك حتى في المنام رغبة في النعيم وخشية من العذاب؟!
يا عبد الله، اعلم أن لك موعدًا لن تخلَفه، هذا الموعد مجهول بالنسبة لك، معلوم عند علام الغيوب، حدّده اللطيف الخبير منذ خلَق القلم فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ثم كتب عند الملائكة مع أوّل عهدك بالحياة وأنت في بطن أمك، يوم أن نفخ فيك الملك الموكل بالروح، وأُمر بأربع كلمات، أخرج ذلك الإمام البخاريّ عن عبد الله بن مسعود قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)) ، هذا الموعد لا بد لك منه، أخبر بذلك من لا يخلف الميعاد بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]
يا عبد الله، هذا الموعد المجهول في حياتك موعد الأجل فيه محدّد بدقة متناهية، بأصغر أجزاء الوقت، وإذا جاء الموعد وحضر الرسول لمهمة انتقالك من هذه الدنيا لحياة البرزخ فإنه لا يتأخّر ولو جزءًا من الثانية، ولا يتقدم، أخبر بذلك من حدّد هذا الوقت جل شأنه بقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، ويقول: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [فاطر:45].
يا عبد الله، إذا أيقنت بأن هذا الموعد قد حدّده الذي خلقك وأنه لا يستطيع خلق من الإنس أو الجن أو غيرها مهما بلغت قوته ومهما عظم سلطانه ومهما كانت مكانته أن يقدّم أو أن يؤخر في هذا الموعد كنت إنسانًا قويًا في الحقّ لا تخشى لومة لائم، آمَن بذلك إبراهيم فتحدّى قومَه فألقوه في النار، ولما لم يحضر الأجل ولم يأتِ الموعد خرَج منها سالمًا معافًى بقدرة الله وبتأييد الله، آمن بها موسى، فرجع إلى الذين فرّ منهم قبل الرسالة خشيةَ القتل، رجع إلى فرعون في ملكه وصولجانه وعسكره ليدعوه للتوحيد ويقذف في وجهه بالحجج الدامغات، فظن فرعون بغروره وجهله وسفاهة رأيه أن أجلَ موسى ومن معه بيده، فأراد أن ينهي أجلهم وأن يأتي بالموعد المجهول، فكان في ذلك حتفه وهلاكه، وعاش موسى ومن معه بعده، وآمن به حبيبنا ورسولنا محمد ، فما هاب قريشا وتهديدَهم له بالقتل، بل لما أرادوا تنفيذ ذلك أذلهم الله بأن خرج خير الورى يمشي من بينهم ويحثو على رؤوسهم التراب، وآمن به خالد بن الوليد فشرِب السم الزعاف فما أضرّه، والقائمة تطول، وليس الهدف من ذكر هذه النماذج ـ أيها الأحبة في الله ـ أن لا يأخذ العبد بالأسباب، فنحن مأمورون بذلك، ولكن الهدف تقوية الإيمان وتثبيت اليقين بأنه موعد محدّد، لا يملك أحد من البشر تقديمه أو تأخيره.
يا عبد الله، كم من مسافر ركب الطائرة وهو يمنّي نفسه بالوصول للمحطة التالية فجاءه الموعد المجهول قبل وصوله، وتحطمت الطائرة فوصل للمحطّة ولكن جثّة هامدة محمولة على الأعناق، كم من راكب قطار عاينَ المحطة التي يقصدها بعينه، ثم إذا بالقطار ينحرف عن مساره ويحضر الموعد المجهول، فتغمض تلك العين فلا ترى بعد ذلك من الدّنيا شيئا، كم من زوجٍ ودّع زوجته عند باب المنزل وطلَب منها أن تصنع له طعامًا معيّنًا على العشاء، فصنعت الزوجة واستعدّت لاستقبال زوجها ليذوق طعامها، ولكنه عاد بفم مغلَق عن طعام الدّنيا بأسرها، عاد جثة هامدة ليعلن أنّ الموعد المجهول قد حضر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، أحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله.
أما بعد: فيا عبد الله، هذا الموعد قد ضرِب، وهذا الأجل قد حدِّد، وأنت لا تعلم متى يكون، فماذا أعددت له؟! أما علمت أن من مات على شيء بعث عليه؟! أخرج الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) ، فمن مات وهو ساجد بعث وهو ساجد، ومن مات وهو يتلو القرآن بعث وهو يتلو القرآن، ومن مات وهو يذكر الله بعث وهو يذكر الله، وفي المقابل من مات وهو يزني بعث وهو يزني، ومن مات وهو يغنّي بعث وهو يغني، ومن مات وهو يدخّن بعث وهو يدخّن، ومن مات وهو يتعاطى المخدّرات بعث وهو يتعاطى المخدرات، وكم من رجل بينما هو يقلّب بصره في فاتنات القنوات الفضائية جاءَه الموعد المجهول ليختم حياته بتلك المعصية، كم من شابّ خرج ومعه مومسة من المومسات أو فتاة غرّر بها، وبينما هو في قمة رذيلته جاءه الموعد المجهول ليفضَح في الدنيا هو ومن كانت معه، ويوم القيامة يفضح على رؤوس الأشهاد، كم من فتاة ضحّت بعرضها وشرفها وشرفِ أهلها من أجل شهوة عابرة، فجاءها الموعد المجهول فماتت وهي في قمّة خطيئتها، كم من زوجة خانت زوجَها فأدخلت رجلا على فراشِه، فجاءه الموعد المجهول فمات في بيتِها لتضبطَ متلبّسة بجريمتها، أو جاءَها الموعد المجهول فماتت في أحضان رجل عِربيد فاسق، وستبعث على ما ماتت عليه، والقائمة تطول.
فاحرص ـ يا عبد الله ـ أن يأتيك الموعد المجهول وأنت على طاعة لربك، فتفوز والله فوزًا عظيمًا، واحذر أن يفجأك الموعد وأنت على معصية وذنب، فتخسر خسرانًا عظيمًا.
يا عبد الله، لا تكن كذاك الذي جاءه الموعد المجهول فأخذ يصيح ندمًا وحسرة بما لا ينفعه، يقول سبحانه في وصف ذلك الجهول: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:100- 103].
لا تكن كمن فرط فما جاءه الموعد المجهول طلب التأخير فقد حثك ربك على أن لا تكون مثله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلا دُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
فيا أخي الحبيب، إني أدعوك من هذه اللحظة أن تتوب وتنخلع من ذنوبك في هذا المكان المبارك، فإنك لا تدري أتصل لبيتك سالمًا أم لا، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50، 51].
نسأل الله تعالى أن يحسن الختام للجميع، اللهم أبرد لاعج القلب بثلج اليقين، وأطفئ جمر الأرواح بماء الإيمان، اللهم ألق على العيون الساهرة نعاس أمَنة منك، وعلى النفوس المضطربة سكينة، وأثبها فتحا قريبا، يا رب اهد حيارى البصائر إلى نورك، وضلال المناهج إلى صراطك، والزائغين عن السبيل إلى هداك...
(1/4582)
ستار أكاديمي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
6/3/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإسلام. 2- ذم الإفساد والمفسدين. 3- عقوبة أهل الفساد. 4- التضليل والتشكيك في الدين من أعظم أنواع الفساد. 5- كشف مخططات المنافقين. 6- تسابق القنوات العربية إلى الفساد والإفساد. 7- برامج جديدة من الفساد: "ستار أكاديمي". 8- مقاصد هذا البرنامج الخبيث. 9- وسائل الحرب الجديدة على عقيدة الأمة وأخلاقها. 10- العلاج لهذه القضية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.
أيها المسلمون، إن دينَ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ، دينُ الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا.
الفسادُ في الأرض إجرام، نهى عنه ربُّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُلُ الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءالاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَيا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ لْمُفْسِدِينَ ، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
الفسادُ في الأرض خُلُق اللّئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، وقال تعالى عن موسى ومخاطبته آلَ فرعون: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
أيها المسلمون، لقد رتّب عزَّ وجلَّ على الفسادِ عقوبةً عظيمة، قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206]، وقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
أيّها المسلمون، عندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى فيه نهيًا وتحذيرًا عن أنواع من الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها.
ومن أنواع الفساد إضلالُ الناس وتشكيكُهم في دينهم وصرفُهم عن الطريق المستقيم، وهو خُلُق المنافقين، قال الله عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أيها الأحبة، ولأن الله تعالى أمر بفضح المنافقين وكشفِ خططهم ومؤامراتهم وما يكيدونه للمسلمين فقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] وقال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:29، 30]؛ لذا نرجو منكم العذر في ذكر بعض العبارات غير المألوفة في مثل هذا المقام، والله المستعان.
أيها الأحبة، عندما أدركنا خطورةَ تسخير تقنيَة البثّ المباشر في إنشاء قنوات بثّ فضائية تعبر حدودنا وتغزو منازلنا ركّزنا على التحذير من مخاطر الغزو الفكريّ الغربي لمجتمعاتنا عبر القنوات الفضائية، وتوقّع كثيرون أن تستغلَ الدولُ الغربيةُ هذه التقنية لإفسادِ الصالح من مجتمعاتنا عن طريقِ نشرِ الإباحيةِ والتنصيرِ وأفكارِ التحرّرِ من القيمِ الأخلاقيةِ، وترويجِ ممارسةِ الفاحشةِ بطرقٍ محرّمةٍ مبتذلة. وركّز المصلحون حينذاك على التحذيرِ من الرياحِ القادمةِ من الغرب، لكنَّ الذي حدث وبكلّ أسف هو ما لم يكن في حسبان أحدٍ منا، وهو أن التسابق في عالمِ إفسادِ القيَمِ والأخلاق جاء من قنواتٍ عربيةٍ صِرفة!! عربيةِ التمويلِ واللغةِ والإخراجِ والممثلين والمخططين. الغربُ الكافر بثَّ قنواتِ فسادٍ ومجون، لكنه كعادته جعلها بمقابلٍ ماديّ، أما نحن فمشكلتنا بل مصيبتنا جاءت من رجالِ أعمالٍ عربٍ ومسلمين، لا يهمّهم الربح بقدر ما تهمهم الشهرة، ويكفيهم مردودُ الإعلانِ والاتصالاتِ الهاتفية من البعض ليفسدوا الكل إن استطاعوا، فكانت قنوات مجانيّة متاحة عبر كلّ الأقمار وبمجرّد ضغطة زر الزناد القاتل للقيم والأخلاق.
نعم، ما كدنا نحتج ونحذّر من قنوات الغناء المبتذل والفيديو كليب الملوث بالعري والجنس الرخيص والإغراء وترويج بضائع الغانيات والقَينات باسم الغناء، حتى فوجئنا بقنواتٍ فضائيةٍ عربية تقدم نوعًا جديدًا من الفساد في بث حيّ ومباشر للخلاعة والمجون، في الوقت الذي يُمزّق الإسلام وأهلهُ في كلِ مكان، وتستحلّ ثروات العرب والمسلمين، وتهدر دماؤهم رخيصة في فلسطين وفي كل الأرض، وبينما الإسلام يئنّ ضعفًا وخورًا من أهلهِ ويشتكي ألمًا وقهرًا من تسلط الملاحدة والزنادقة إذ بنا نفاجَأ بانحطاط جديد يخترعه الغرب، ثم يأتي من يزعمون أنهم عرب ومسلِمون ليستنسخوا هذا الانحطاط ويطبّقونه على أولادنا وشبابنا وبناتنا، ويجعلون العالم العربي والإسلامي كلّه مشدوهًا مشدودًا بآخر التقليعات الساقطة والمنكر الفاضح ومبارزة الله بالمعاصي، يقول تعالى في أمثال هذه القنوات السافلة وقيادتها الساقطة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]، ويقول تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]. نعم، يريدون أن نميل إلى الباطل ميلاً عظيمًا عبر برامج سحقت الفضيلة، وزيّنت الرذيلة، ونسفت الأخلاق والقيم.
هذه الفضيحة الأخلاقية التي تعيشها أمّتنا المهزومة روحيًّا وعسكريًّا هذه الأيام أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم, حذو القذة بالقذة, وشبرًا بشبر، وذراعًا بذراع, حتى لو دَخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى? قال: ((فمن؟!)).
تصوروا ـ يا رعاكم الله ـ قناةً عربيةً تبث على مدى 24 ساعة يوميًا، لا تعدو كونها مجموعةَ كاميرات، تصوّرُ إقامةً مختلطةً لمجموعةٍ من النساءِ وأشباهِ الرجال في أحدِ الأوكار، وتَنْقُلُ بالصوتِ والصورةِ سلوكَهم الرخيصَ غيرَ الهادف غير المحكوم بقيم أو أخلاق، تصوّرهم وهم يأكلون، وهم يرقصون، وهم يتبادلون اللهو غير البريء والقُبَلَ والأحضان، يتنافسون على المنكر وعلى كل ما يغضب الله تعالى، فمن يكن منهم أكثر إجادة للرقص يكن فائزًا بالدّرجات العليا! ومن يكن أكثرهم حميميّة مع صديقاته ولطيفًا ورومانسيًا يكن هو الفائز! ومن يجيد المقامات والغناءَ والعزف وكلَّ أنواعِ الغفلةِ يكن هو الأول عليهم! ثم إذا أقبل السحَر ركزت الكاميرا على غرفِ نومهم وهم مستغرقون في نومٍ حقيقيّ بلباسٍ مبتذل. أما الشريط الإخباري أسفلَ الشاشة فيحمل رسائلَ غرامٍ لا تقلّ مجونًا عمَّا تحمله الكاميرا.
كم هي خطّة ساقطة ومهينة تلك التي خطّط لها القائمون على هذا البرنامج الفاضح والمسمى "ستار أكاديمي"، والذي تبثّه إحدى القنوات العربية المشتهرة بالعهر والفساد، فالقائمون على هذه القناة السافلة علاوةً على سحقهم لقيمِ الفضيلةِ والأخلاقِ علانيةً في نفوس الشباب والبنات من خلال برامجهم المختلفة فقد جنوا كذلك الملايين والملايين من وراء الاتصالات التي تصل للبرنامج, فأنتَ من ترشّحُ اليوم ليكون الفائزَ بهذه الرقصة?! وأنتِ ـ يا أيتها الفتاة ـ من ترشحين من الشباب ليكون الفائزَ عندكِ?! ومن هو الشابُ الذي دخل قلبَكِ وتتمنين أن تقضي أوقاتًا دافئة معه?! ساعدي هذا الشاب، وأنتَ ساعد هذه الفتاة التي أُعجبت بقِوامها واتّصل وأعطها صوتك. وهكذا يمزّقون الفضيلة وينحرون الحياء والعفاف، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
برنامج حقير يبيّن طريقةَ هؤلاء الساقطين في تضييعِ وإفسادِ بناتنا وشبابنا، حيث إنهم يجعلونهم يألفون المنكر، وقليلاً قليلاً يعتادون على الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادوا على أن يعيشوا مثل الحياة التي يعيشها المشاركون في "ستار أكاديمي"، وشيئًا فشيئًا يكونون جزءًا من واقعهم وحياتهم الساقطة، ويجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كلُ هذه الرقصات والضم والتقبيل على مرأى ومسمع من العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة، ومع هذا الناسُ يصوّتون لهم ويشجعونهم، فما بالنا نحن لا نفعل مثلهم ولو في الدس والخفاء؟! لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية؟! وهكذا يسعون لتخنيث الشاب، فلا حميّةَ له على أخته أو أهله أو عرضه، والفتاةُ تتعلّم أصولَ العهرِ والفجورِ بالمجان وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تُنحر كلُ فضيلةٍ في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة إلاَّ الشعاراتُ الجوفاء، فأيّ سطوةٍ للخلاعة والدعارة تحدث الآن؟! شعوبٌ ومؤسسات من عدة دول عربية إسلامية تستنفر جهدَها ووقتها ومالها لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر (بسالةً) في الصمود حتى آخر السباق! وتحتفل البلاد التي يقترب (نجومها) من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيّئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمّة قائدًا ربانيًا أو فاتحًا عظيمًا! فأي خلاعةٍ تمارسُ بوقاحةٍ على مستوى الأمة؟! مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكَت عليه الأمة كما لم تبكِ سقوط بغداد! فرحماك رحماك يا رب، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أيها الإخوة، إنّ هذه الحرب الإعلاميّة غير الأخلاقية التي تشنّها الفضائيّاتُ العربية على المشاهدِ العربي المسلم في عمقه الفكري والأخلاقي بدأت تأخذ منحى نوعيًا لم يكن أشدَّ المحذّرين منها ومن خطورتها يتوقّعه، يتّصل هذا التحول النوعي بالخلفيات والأسس التي تنطلق منها هذه الحرب الضروس، خاصةً في جانبها الأخلاقي، فلم تعد مظاهرُ الغوايةِ والعري والفحشِ والغناءِ الماجنِ والاختلاءات الآثمةِ والمشاهد الفضائحية إلى آخر ذلك العَبث الأخلاقي، لم تعد تُعرضُ في سياقِ الاعتراف بمخالفتها الشرعية والأخلاقية والتربوية، وإنما باتت تعرض في سياق عكسي تمامًا، هو سياق التسويغ والتبرير، منطلقةً في ذلك عبر ثلاث وسائل رئيسة:
الوسيلة الأولى: إباحة الباطل، وذلك بنفي أن يكون في تلك المظاهر ما يخالف الدين والخُلُق، والجدلِ بأن تصنيفها في دائرة المحرم لا يستند إلى أدلة متفق عليها بقدر ما يعود إلى اجتهادات ذاتية في معاني النصوص، ومن ثَمَّ يكون هذا الحكم "رأيًا" قابلاً للنّقاش والاختلاف، ومن ثَمَّ أيضًا يكون بالإمكان ـ وفق هذا المنطق ـ جعْلُ تلك المظاهر في دائرةِ المباح، رغم أنها ليست من المسائل الخلافية، سواء كان الخلاف فيها معتبرًا أو غير معتبر، وإنما هي من المحرم القطعي بالنص والإجماع.
الوسيلة الثانية: إيجابُ الباطل، وهذه الوسيلةُ أشدُ خطرًا من سابقتها؛ لأنها لا تقف عند نفي تحريم تلك المظاهر والجدال لإباحتها، وإنما تتجاوزه إلى مدى أبعد وأخطر، وهو محاولة إيجابه بالحكم الشرعي، بنسبة الرضا عنها وإقرارها إلى الله، تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرًا.
ولأنَّ الباطلَ ذو نَسَقٍ واحد فمقولةُ اليوم ليست إلاَّ إعادةً لمقولةِ الأمس؛ مقولةِ الذين أرادوا تشريع باطلهم بأنه أمرُ الله وإيجابُه افتراءً عليه، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف: 28].
في هذا السياق كان ثمةَ من يعلّل حماستَه لإنجاح أحدِ مهرجانات الاختلاط العربية مؤخرًا بأن النبي يحث على الإتقان! وعلّل أحدُ الكتّاب العرب دفاعه عن ظاهرة العري بأن الله خلق الجمال من أجل الاستمتاع به. والحقيقةُ العقديةُ الشرعيةُ التي قفز عليها هؤلاء وأولئك من المفترين أن الله تعالى وإن قدَّرَ الغوايةَ والفاحشةَ والباطلَ كونًا يقتضي الحدوث والوقوع لحكمةٍ بالغةٍ يريدها، فإنه لا يأمر بها ولا يرضاها شرعًا، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].
الوسيلة الثالثة: تحييد الباطل وتجريده عن الحكم الشرعي، بمعني نفي خضوع الأفعال للأحكام الشرعية وضوابطها، فقد نفوا عن الأحكام الشرعية القدسية والعصمة والاطراد والثبات، وذهبوا إلى أنها نتاج ظروف تاريخية غير ملزمة، وأن معايير الحكم على الأفعال يجب أن تكون عقلية صرفة، فما رآه العقل حسنًا فهو حسن، وما رآه قبيحًا فهو القبيح.
وهذا الفكر المنحرف هو فكر المعتزلة في القديم والعصرانيين العقلانيين في الحديث، ووفق هذا المنهج صارت مظاهرُ الباطل نسبية ومتحولة، فما يكون اليوم حقًا من الممكن جدًا أن يكون غدًا باطلا، وما هو باطل اليوم يكون غدًا حقا لدى رواد هذا الفكر المنحرف.
ولأن مشهد الفضاء العربي مفتوح على إبداع وسائل تسويغية أخرى للغواية والباطل فقد ابتكرت هذه القناة أخيرًا وسيلةً رابعةً تقوم على توظيف المصطلحات والدلالات، فعلى حين تعني "الأكاديمية" في الدلالات والأعراف العلمية المكانَ المهيّأ للبحث والتعليم والمدارسة، وهو اصطلاح يتقاطع مع مصطلح الجامعة، صارت بعد توظيفه من قبل تلك القناة مكانًا تسويغيًا لمظاهر أخلاقية سلبية، فهل ثمة أكاديمية حقيقية؟! وهل هناك غايات مجردة في ذلك؟!
إن مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب وتشجيعهم على التفاعل البيني ودعوتهم إلى كسر الحواجز النفسيّة والاجتماعية الحائلة دونه واعتماد الملابس العارية للفتيات وتشجيع وغضّ الطرف عن حالات التماس الصريح بين شباب من الجنسين بالضم والقبلات والنظرات والغمزات والضحكات ثم النقل الفضائي الموجّه على مدار الساعة إضافة إلى حالات الغواية العقدية التي ظهرت بين بعض الشباب من خلال حالات الاستعانة بالأحراز والتمائم والتعويذات، كل ذلك يؤكّد أنه ليس ثمة أكاديمية حقيقية، وليس هناك أهداف مجرّدة، وإنما هي مشروع تقويضي يمثّل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعم، والشباب المشاهد الهدَف، وتظلّ هذه الأكاديمية المستعارة المزعومة ساحة حرب حقيقية، وأولئك الموظفون المسوغون يرمون إلى النيل من العقيدة والأخلاق نيلاً لا هوادة فيه.
هذا التوظيف التسويغي جديد في صورته، إلا أنه من حيث الحقيقة يذكرنا بتوظيف قديم توسّل بالدلالة الاصطلاحية أيضًا، غير أن الفرق أن هذا التوظيف الحادث كان لمكان بحث ومدارسة، أما التوظيف القديم فمكان عبادة وطاعة، إذ وظّف المنافقون مسجدهم للإرصاد ومحاربة الله ورسوله ومضارة المؤمنين، ولهذا سماه القرآن مسجد الضّرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد خلقتنا من عدم، وكبّرتنا من صغر، وقويتنا من ضعف، وبصرتنا من عمى، وأسمعتنا من صمم، وأغنيتنا من فقر، وعلمتنا من جهل، وهديتنا من ضلالة، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، لك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتَّ عدونا، وأظهرت أمننا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد ربي حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، أيها الشرفاء، أيها الأحرار، أيها الرجال، يا أصحاب الغيرة، يا أصحاب النخوة، يا أصحاب الشهامة، لقد عظمت المصيبة، وجلَّ الخطب، وبلغ السيل الزُّبى، واتّسع الخرق على الراقع. لسنا هنا لكي نصرخ ونولول ونبكي عظائم الأمور، بل لوضعِ الحلول والعلاج لهذه القضية العويصة. وفي نظري القاصر أن العلاج لهذه القضية له طرفان: خاص وعام، أما الخاص فعلى مستوى الأفراد، والعام على مستوى المجتمعات.
أما العلاج الخاص لمن أراد الخلاص بصدق وإخلاص فهو:
أولاً: ذكر الله وتلاوة القرآن، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين [يونس:57]، وقال جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]. إن الدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية هو ذكر الله تعالى، وأعظمه تلاوة القرآن الكريم، فإنَّه حياة القلوب، والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن قلب خرب، عشعشت فيه الشياطين، قلب أغلف محجوب عن رحمة الله تعالى.
ثانيًا: صدق التضرع إلى الله ودوام اللجأ إليه والتباكي بين يديه، فعليك بالإخلاص فإنه خلاصك، ودوام الإنابة إلى رب العالمين، واستحضر عظيم جنايتك التي حالت بينك وبين ربك، واستعِن في ذلك بقراءة آيات الوعيد وقراءة الكتب التي تصف لك الدار الآخرة أو سماع الأشرطة التي يخشع لها قلبك، وقم بين يديه جل جلاله مظهرًا فقرك وشدة احتياجك إليه، وابك على خطيئتك، وادع دعاء الغريق، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُو يَقُولُ: ((رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي)) رواه الترمذي.
ثالثًا: حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخويف والترغيب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)) رواه الترمذي.
رابعًا: ذكر الموت، أكثِر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وقد كان رسول الله يتعاهد قلوب أصحابه بتذكيرهم بالموت، قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال الله: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:16].
يا نفسُ توبِي فإِن الموتَ قد حانا واعصِ الهوى فالهوى ما زال فَتَّانا
فِي كل يوم لنا مَيْتٌ نشيعهُ ننسى بِمصرعهِ آثارَ مَوْتانا
يا نفسُ ما لي وللأموالِ أكنزُها خَلْفي وأخرجُ من دنيايَ عريانا
ما بالُنا نتعامى عن مَصارِعنا ننسى بغفلِتنا من ليس يَنْسانا
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ولَم أرَ مثلَ الموتِ حقًا كأنه إِذا ما تخطته الأمانِي باطل
وكلُّ أناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُم دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرّ مِنْهَا الأنامل
الخامس: إيجاد البديل المناسب الموافق لدين الله تعالى، ولن يعدم الإنسان البديل إذا سأل واستشار، المهم هو صدق النية في الخلاص من هذا البلاء المدمر والسيل الجارف، ومن صدق الله صدقه الله.
أما العلاج على مستوى المجتمعات فهو:
أولاً: إيقاف جميع القنوات المشبوهة وما أكثرها، وإيقاف كل قنوات المجون العربية عن طريق قرار سياسي تتخذه القيادات العربية في اجتماعاتها؛ لأن الأمر خطير ويتعلق بمصلحة أمة وشعوب، وله انعكاسات سلبية خطيرة على أجيالنا القادمة، ونحن أمة ذات قيم دينية وحضارة وأخلاق، ولنا قضايا مصيرية ملحة تستوجب إعداد أجيال لنصرتها، ولا يجدر بنا أن ننتظر حتى نؤاخذ بما يفعل السفهاء منا.
ثانيًا: إيجاد القنوات البديلة المناسبة للأسرة والشباب، والتي تخدم قضايا الأمة ومصالحها.
ثالثًا: وضع الخطط والبرامج الملائمة لاحتواء الشباب فكريا واجتماعيًا وثقافيًا.
رابعًا: إبراز القدوات العظيمة التي تمتلئ بها ذاكرة التاريخ من العلماء والنبلاء ورجالات الأمة، وتقديمهم للناس بدلاً من القدوات الساقطة المهينة التي تعلق بها الشباب.
وأخيرًا ما أحوجنا في هذه الأيام إلى كاتب يحمل هم مجتَمعه ناقدٍ صادقٍ بحسِّ المسلم الفطن الكيّس، ما أحوجنا للإعلامي البارع الذي ينتقد الوضع الخاطئ في مجتمعه, نقدا يسكب فيه بلسما يعالج آلام مجتمعه ومآسيه، ما أحوجنا لمثقّف يكشف ببنانه ولسانه زيف المزيفين وحقد الحاقدين، ما أحوجنا لعالم يخرج من مكتبته ودرسه ليرى الخلل في المجتمع ومدى المصائب التي حلت عليه، ما أحوجنا لمن يفتح عقولَ شبابنا على المؤامرات المحيطة به لجرّه بعيدًا عن دينه وهويته وتغريبه عن محيطه الإسلامي.
إن العلاج ليس بالأمر الصعب إذا صدقت النفوس وحسنت النوايا وأريدَ بذلك وجه الله.
رَبِّ أَعِنِّا وَلا تُعِنْ عَلَينا، وَانْصُرْنِا وَلا تَنْصُرْ عَلَينا، وَامْكُرْ لنا وَلا تَمْكُرْ عَلَينا، وَاهْدِنِا وَيَسِّرْ الْهُدَى لِنا، وَانْصُرْنِا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَينا، رَبِّ اجْعَلْنا لَكَ شَكَّارين، لَكَ ذَكَّارين، لَكَ رَهَّابين، لَكَ طائعين، لَكَ مُخْبِتين، إِلَيْكَ أَوَّاهين مُنِيبين، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتنا، وَاغْسِلْ حَوْبَتنا، وَأَجِبْ دَعْوَتنا، وَثَبِّتْ حُجَّتنا، وَسَدِّدْ ألِسنتنا، وَاهْدِ قَلْوبنا، وَاسْلُلْ سَخائم صَدْورِنا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من المصلحين؛ تحظوا برضا الخالق رب العالمين، وتكونوا عنده سبحانه من المفلحين الفائزين.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم احفظ بيوتنا وبيوت المسلمين من كل شر ومكروه، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ألا وصلوا وسلّموا على الحبيب رسول الله، فقد أمِرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألّف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين...
(1/4583)
مشكلاتنا الاجتماعية
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
12/4/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سلوكيات جديدة في المجتمعات الإسلامية. 2- كثرة المشكلات الاجتماعية. 3- صور من المشكلات الاجتماعية. 4- ضرورة الحديث عن هذا الموضوع. 5- أسباب هذه المشكلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله الملك العلام؛ فإن تقواه سبحانه عروة ليس لها انفصام وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1].
معاشر المسلمين، إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية وفي دوامة الحياة المادية ومعترك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي غوار هذه السلوكيات ويشعل هذه السلبيات؛ مما يؤكد أهمية تمسك الأمة بعقيدتها وقيمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.
فلقد كثرت مشكلاتنا الاجتماعية في حياتنا وبلادنا الإسلامية، وجدّت، وقويت، وتعاظمت في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين صورٌ وأنماطٌ وأخلاقٌ، ليست من الإسلام في شيء، وأصبحت تلقي بظلالها على تلك المجتمعات، وتفرض قيمها فيها، وتحكم أوضاعها، وتقوم مسيرتها في كثيرٍ من أحوالها، ولم يكن لكثيرٍ من هذه المجتمعات عهدٌ بمثل هذه المخالفات، ولم يكن لها قبولٌ بينها، بل كانت تعافها القلوب، وتشمئز منها النفوس، وترفضها العقول، وينكرها الصالحون والمصلحون، ولكنها تسللت شيئًا فشيئًا، وبدأت قليلاً ثم صارت كثيرا، وأول الغيث قطرةٌ ثم ينهمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، ولعلنا اليوم لا نحتاج إلى كثير جهدٍ ولا إلى عميق تفكيرٍ لنعدد مثل هذه المشكلات، أو لنضرب الأمثلة عليها، أو لنرى آثارها الوخيمة وأضرارها العظيمة التي تفجرت في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة.
إهمال الآباء وغياب الأمهات شكوى ظاهرة وصورةٌ واضحة، كم من الأبناء تاه، وكم من الفتيات ضِعن لعدم وجود أبٍ مربٍّ، أو أمٍ راعية. تفلّتت الأسرة عندما غاب عنها قائدها وربانها، فهو المسؤول، وهو القائد، وكم رأينا أيضًا من صورٍ أخرى مقابلة؛ عقوق الأبناء وضياع البنات ناتجٌ من أثر ذلك، وكم رأينا صورًا كثيرةً في خارج دائرة الأسرة، إلى دائرة المجتمع، إلى صورٍ كثيرة، ظلم الرجل، وقهر المرأة، تسلّط المرأة، وغياب الرجولة، غيرةٌ جائرة، أو دياثةٌ فاجِرة، طلاقٌ سريع، أو تصدعٌ مريع، أسرٌ مفكّكة، وأجيالٌ مضيّعة، فراقٌ قاتل، وبطالةٌ آثمة، شهواتٌ ثائرة، وفواحش ظاهرة، أمانةٌ زائلة، وأخلاقٌ زائفة، صورٌ كثيرةٌ مريرةٌ دامية، نراها في واقع كثيرٍ من مجتمعاتنا، لم تعد تلك المجتمعات التي تنعم بالصفاء والسلام، لم تعد تلك الأسر التي تظلّلها المحبة والوئام، لم تعد تلك العلاقة التي تمتد من الأبناء إلى الأباء بالاحترام، ومن الآباء إلى الأبناء بالرعاية والإكرام، لم نعد نرى صور الشباب الذي كان يخوض ميادين العلم ليكون مبرزًا متفوقا، والذي كان يخوض ميادين الجهاد ليكون فارسًا مؤثرا، والذي كان يخوض ميادين الحياة الإنسانية ليكون متقدمًا سابقا، لقد صرنا اليوم نشكو من طفولةٍ ليس لها همٌ إلا اللهو واللعب، ومن شبابٍ ضائعٍ ليس له هدفٌ ولا غاية، وليس له منهج ولا رسالة، وكل ذلك يتفرّع منه كثيرٌ وكثيرٌ من الصور، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، سنة الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
عندما غابت هذه السنن لم نفقهها، ولم نحرص على رعايتها، مضت فينا سنة الله، وجرت علينا أقدار الله، فتغيرت القلوب، وتحولت النفوس، وانحرفت السلوكيات، وتغيرت وتبدلت الأخلاقيات، وصرنا نشكو من صورٍ كثيرةٍ ومن أضرارٍ عظيمة، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. ولو أن الله جل وعلا حاسب أمة الإسلام على كل تفريطٍ منها وتقصير وعلى كل جحودٍ ونكود ما ترك على ظهرها من دابّة، ولكنه سبحانه وتعالى يربي الأمة ببعض البلاء، ويربيها بما يقع عليها من أثر مخالفة أمره ومخالفة نهجه سبحانه وتعالى.
إنّ المتأمل يجد هذه الصور، وهي تفرز حقائق واضحة، والذي يدعونا أن نتحدث بمثل هذا الحديث، ونخوض في مثل هذا الموضوع زيادة الظاهرة واتساع الخرق على الواقع، حتى قال أحد الأدباء المربين الذين لهم خبرةٌ عظيمةٌ في مجال التربية والتعليم وفي مجال الأدب والتهذيب معلنًا عن ضخامة هذا الأثر وعن عظم اتساع الخرق، وهو يبين أن مثل قوله وحده وأن مثل كتابته أو خطبته وحده مع نفرٍ قليلٍ لا يجدي نفعا ولا يغير واقعًا، فيقول: "اخطبوا ـ أيها المدرسون ـ ما وسعكم الجهد، واهرؤوا من فسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشباب: كن صيّنًا عفيفًا، إنها لن تجدي عليكم خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم، إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب خطبةً بلغة الطبيعة الثائرة، في السوق على لسان المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجريدة المصورة، والرواية الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين، ثم يقول مسلّطًا الضوء على حقيقة الواقع في حياة أكثر المجتمعات الإسلامية إلا ما رحم الله: بناء الأخلاق فيها وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، وليس هذا مبالغة، وليس هذا خيالا لرجلٍ مريضٍ أو متشائم، وإنما هو رسمٌ لبعض ملامح الواقع الذي تفشّى في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة".
ولعلنا نذكر أيضًا بعض الحوادث التي دعت إلى مثل هذا الحديث عندما كثر حديث الناس، وكثرت شكواهم، وظهرت بعض الصور التي تهزّنا هزًا، وتدعونا ونحن بحمد الله عز وجل في خيرٍ كثير، ونسلم من شرٍ كثير، لكن الفتنة بدأت تطرق أبوابنا، والمشكلات بدأت تطل علينا برؤوسها، ولعلنا إن لم نخش الله سبحانه وتعالى ونتخذ من أسباب الحيطة والحذر ومن أسباب الوقاية والعلاج ما يلزم فلعلنا نصيح يومًا ونقول: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، ولعلنا نعضّ أصابع الندم كما يعضّها غيرنا في بلادٍ إسلاميةٍ وغير إسلامية، عندما انفرط الحبل على غاربة، وعندما ضاعت معالم الأخلاق الفاضلة والمبادئ والقيم السامية، فلننظر إلى بعض الآثار الواضحة التي يعاني منها كثيرٌ من الناس وبدأنا نشعر بآثارها، وبدأ يصلنا لفحها ولهيبها، ألسنا نرى همًا في القلوب وحيرةً في النفوس انعدمت معها طمأنينة القلوب وسكينة النفوس؟! أليس ذلك مصداقًا لحديث النبي الذي روي عن حذيفة مرفوعًا: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا، فأيما قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، فإن تاب واستغفر صقل منها، وإلا أصبح قلبه أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه)) ؟! أليس قد أظلمت القلوب واسودت النفوس وتجهمت الوجوه وغاض ماء الحياة فيها؟! ألسنا نرى تلك الفضاضة والغلظة؟! ألسنا نرى ذلك التكدر والتعصب وذلك السوء في الخلق الذي انعكس من أثر ما على القلوب من الهموم وما ران على النفوس من الغموم؟!
إننا نلمح ذلك، ونتلمس أنفسنا، ونحاول أن نقارن بين القمة السامقة التي ينادي بها القرآن الكريم ويدعونا إليها وبين واقع الحال الذي نعيشه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم من قلوبكم النقية وفطركم السوية ما تميزون به بين الحق والباطل، فتنقبض النفوس وتجزع القلوب من أيّ منكرٍ عارضٍ لو لم يقم عندها عليه دليلٌ من الشرع أو معرفةٌ بحكمٍ من آيةٍ أو حديث، فكيف بنا ونحن نعرف الآيات والحديث؟! لكن القلوب لم تعد منكرة، والنفوس لم تعد متغيرة، بل وإن السلوك أصبح يجاري ويوافق إن لم يمارس ويفعل إن لم يدعُ ويجاهد، نسأل الله عز وجل السلامة.
ألسنا نرى دوامًا في الاضطراب وتزايدًا في القلق؟! ألسنا نرى حال كثير من الناس اليوم لم يعد فيه استقرار؟! وبالتالي فإن كلمةً واحدة كفيلة بأن تفجّر غضبًا، كأنما هو بركانٌ محبوس. إن في النفوس من العلل والأدواء ومن أثر أمراض الشهوات والخروج عن دين الله عز وجل أثرا عظيما أخبرنا الله عز وجل به في شطر آية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
إننا عندما نتأمل نجد أيضًا فحشًا في الأقوال وعنفًا في الأفعال، ألسنا نرى اليوم رجالاً يضربون نساءهم كما يضرب الرجل دابته وبهيمته؟! ألسنا نرى آباء يريدون أن ينهجوا نهجًا من التربية يظنونه قويمًا لكنهم قد اختلطت عليهم الأمور والتوت عليهم المسالك، فإذا بهم يجلدون أبناءهم كأنما هم يريدون قتلهم؟! ألسنا نرى تلك الكلمات من قاموس الفحش والسب واللعن والغمز واللمز والغيبة والنميمة حتى صارت هي الشائعة، فلا تكاد الأذن تسمع غيرها، ولا يكاد القلب يتلقى سواها، حتى أصبحت كما قال عروة بن الزبير رحمه الله: "رأيت ألسنتهم لاغية، وآذانهم صاغية، وقلوبهم لاهية، وأديانهم واهية، فخشيت أن تلحقني منهم داهية"، وحسبكم داهيةً بمثل هذه الدواهي؟! ألسنا نرى أيضًا انحلالاً في الخلق واختلالاً في الأمن بدأ يسري إلى مجتمعات المسلمين ويستحكم فيها، فلم تعد ثمة فضيلةٍ يُحرص عليها، ولا أمنٌ يستتب ويشيع، فإذا نحن نرى للفواحش ظهورًا، بل لها في بعض بلاد المسلمين وللأسف قوانين تحميها ودساتير تنظمها، زعموا ذلك حضارة أو تقدمًا، أو زعموه حريةً شخصيةً، أو غير ذلك؟! ألسنا نرى جريمةً تعدّت اليوم الفواحش من زنا ولواط إلى شذوذٍ، بل إلى اغتصابٍ، بل إلى قتلٍ وسرقةٍ ونهبٍ؟! ألسنا نرى المخدرات تفتك بشباب الأمة وشاباتها؟! ألسنا نرى ونرى ونرى آثارا من آثار تلك المشكلات؟! وكذلك غيابٌ في القيم وفسادٌ في الأعراف، ولعلنا لا نريد أن نكثر الشكوى، ولا نريد أن نعدد صور المأساة، ولكننا أيضًا لا نريد أن نكون كالنعامة تدس رأسها في التراب إذا داهمها الخطر، فالخطر يحدق بها وهي لا تراه، وتظن بأنها بذلك تحسن صنعًا.
إنه ليس لنا بحالٍ من الأحوال إلا أن نصارح أنفسنا بما جدّ في واقعنا، وبما ظهر من انحرافٍ في بيئتنا، وأن نتكاتف ونتعاون جميعًا؛ لأنه كما قال ذلك القائل: "فليخطب الخطباء"؛ فإن خطبهم وحدها لا تكفي، لكنها جزءٌ من تربية الآباء مع رعاية الأمهات، ومع دور المدرسين والمدرسات، ومع تكاتف جهود الصحف والجرائد والمجلات، إلى غير ذلك من تكاملٍ، ما لم نأخذ بأسبابه فإننا نخشى أن تصيبنا تلك الداهية، وأن تعمنا تلك البلايا والرزايا التي عمّت كثيرا من المجتمعات، وبدأت تشكو منها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أحمده على إحسانه، وأشكره على جزيل توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في وحدانيته وربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه والأنبياء إخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يلقونه.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله.
ثم اعلموا أنني ـ أيها الإخوة الكرام الأحبة ـ وأنا أطرح مثل هذا الموضوع على أسماعكم لا أريد أن نتّجه به اتجاه الصراخ والدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور ورفع الصوت عما جرى من تهتكٍ في الأخلاق أو تسيبٍ في المعاملات أو غير ذلك، فإن ذلك لا يجدي نفعًا، ولكننا نريد أن نناقش مثل هذه الموضوعات بموضوعيةٍ، نبحث فيها عن الأسباب، ونتلمس فيها العلاج، ونلقي بالمسؤولية على الجميع، كلٌ بحسبه، وندعو أنفسنا جميعًا إلى التعاون والتكاتف وتبادل الآراء والأخذ بالأسباب العملية؛ فإن الأمر يهمنا جميعًا، وإن خيره يغمرنا بإذن الله عز وجل جميعًا، وإن ضرره لا يسلم منه أحدٌ منا وإن لم يقم به ولم يقترفه، فإن الشر يعمّ أثره ويعمّ ضرره وإن كان الإنسان يتوقى منه؛ ولذلك ليس حديثنا هو إشارةٌ للموضوع، وإنما هو بدءٌ بذكر بعض الصور وذكر بعض الآثار والتعريج على بعض الأسباب، حتى نخلص بعد ذلك إلى كل مشكلةٍ على حدة، ونتعاون جميعًا فيما يتعلّق بعرضها ومعرفة أسبابها وعلاجها، ولا يتم ذلك إلا بمثل هذا التعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك هو سمة الأمة الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى الذي دعانا الله عز وجل إليه، ولست في مقام الإفاضة في الأسباب، ولكنني أذكر أهم الأسباب التي ترجع إليها أكثر المشكلات، وسنعود عند كل مشكلةٍ إلى ذكر أسبابها، وأعظم الأسباب وأهمها:
أولا: ضعف التدين، وهو بداية كل مشكلة وأساس كل انحراف، وذلك يظهر في صورٍ كثيرة، منها: الجهل بالدين، فكثيرٌ لا يعرفون حلالاً وحراما، ولا يعرفون مسؤوليةً وواجبا، وكثيرٌ يجهلون بعض الأحكام والآداب والتوجيهات التي دُعُوا إليها، حتى من كان على مستوى عالٍ من الشهادات العلمية التخصصية؛ فإنه وللأسف تجد كثيرًا منهم لا يعرفون أبسط الأمور من التوجيهات والآداب والسنن النبوية التي رسمها النبي في بناء الأسر وفي تربية الأبناء وفي العلاقات مع المجتمع، حتى أن طبيبًا متخصصًا تدرس ابنته في إحدى المدارس فيعلمونها الأذكار والأدعية الواردة عن خير الخلق عليه الصلاة والسلام عند النوم وعند الاستيقاظ وعند دخول الخلاء وعند الخروج منه وعند ركوب السيارة وعند النزول منها إلى غير ذلك مما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وكانت ابنته الصغيرة تريد أن تدخل إلى بيت الخلاء مرةً ثم خرجت مسرعةً، فارتاب من شأنها فسألها، فقالت له: إني نسيت هذا الدعاء قبل أن أدخل إلى بيت الخلاء، وهو يحكي هذا لزميلٍ له طبيب ويقول له: إنهم يحفّظونهم في المدرسة أذكارًا وأدعية كثيرة، هل هذه كلها قد قالها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لم يسمع بها من قبل، ولم يتصوّر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر لنا في كل حالٍ ووضعٍ ذكرًا نتّصل فيه بالله، ونذكر الله سبحانه وتعالى فيه. وليس هذا فقط من ضعف التدين والجهل بالدين، وإنما أيضًا العمل والالتزام، فكم هي الأمور التي نعلمها ويعلمها كثيرٌ من الناس ثم يخالفونها بأفعالهم، ويرتكبون ما يضادّها ويعارضها، وهم يعلمون علم اليقين بحرمتها أو بكراهتها، وليس ذلك فحسب، بل التأثير، فإن بعض الناس قد يعلم وقد يعمل، ولكن يغيب عنه التأثير الإيماني الذي ينبغي أن يكون من أثر العلم والعمل؛ خوف من الله عز وجل، تعلّق بالآخرة، إيثار لها، زهد في الدنيا، مراقبة لله جل وعلا، عندما لا تترسخ هذه المعاني من أثر العلم والعمل يمكن بعد ذلك أن تنحرف.
ثانيا: المرجعية الإسلامية، كثيرٌ من الناس يتصرّفون قبل أن يرد على ذهنه أن يسأل: هل هذا التصرف يوافق الإسلام أم لا يوافقه؟ فهو لم يعد يتصور أن هذه الأمور وأن كثيرًا من تصرفات الحياة يحتاج فيها إلى معرفة حكم الإسلام، قد صار الناس منفلتين يعملون ما يشاؤون، لا يشعرون أنهم في حاجةٍ إلى مرجعيةٍ دينية، وبعد ضعف التدين فساد الفطرة الذي ظهر كما قلنا من ظلمة القلب ومن أهواء النفوس، فنحن اليوم في زمنٍ أكثر أحوال الناس فيه أهواء النفوس التي تتحكم والشهوات هي التي تحكم وتفصل، لم يعد ثمة ضابط، لم يعد ثمة عقلٍ كابح، لم يعد ثمة فطرةٍ تأنف وتعاف، حتى قد كان أهل الجاهلية فيهم من أثر الفطرة بعض خيرٍ ربما غاب وفُقد عند بعض المسلمين، فهذه هند بنت عتبة وقد كانت من هي في كفرها، وهي التي سعت وفرحت بقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي ، عندما جاءت تبايع النبي فبايع النساء على أن لا يزنين، فجفَلت هند بنت عتبة وهي بين الجاهلية وانتقالها إلى الإسلام وقالت صارخةً مستنكرة: أوَتزني الحرّة؟! أمرٌ غير مقبولٍ قبل أن يكون بالدين بالفطرة السوية، بالنفس البشرية الإنسانية التي لا تقبل مثل هذا الوحل، ولا مثل تلك القذارة والنجاسة والدناءة بفطرتها وطبيعتها.
ثالثا: انحلال الخلق، وأعظمه انعدام الحياء، وحسبنا تلك الكلمات الوضيئة العجيبة المعجزة التي قالها الرسول : ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) ، وكما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)) ، وخص الحياء بالذكر من بين شعب الإيمان كلها عندما قال: ((أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). ما هي السمة التي تجمع بين الرجل الديّوث والمرأة المتبرجة والابن العاق وغير هؤلاء؟ إنه انعدام الحياء الذي لا يجعل تحفظًا في عورة، ولا توقفًا في كلامٍ فاحش، ولا إحجامًا عن فعلٍ رذيل، إنه الحياء الذي إذا انهار انهارت معه سدودٌ وسدودٌ وسدود، يعمّ بعدها سيل الفساد الكاسح الذي يغير ويدمّر كل شيء إلا ما أذن الله عز وجل ببقائه بعصمة إيمان والتزام إسلام وفضيلة خلق.
وأمرٌ ثانٍ في شأن انحلال الخلق هو تغير الموازين، أليس اليوم قد صار العري حضارة وتقدمًا وفنًا، وصار الكذب شطارةً وفهلوةً وحذقا، وصارت الخيانة تدبيرًا وإحكامًا وفنًا، وصار الصدق غباءً وبلادةً، وصار العفاف جبنًا وخوفًا، إلى غير ذلك مما انقلبت به الأحوال؟! فأدى ذلك إلى أن صاحب الخلق القويم يجد نفسه محاطًا بمثل هذه المسميات ومثل تلك الموازين المنعكسة المنقلبه.
ولعلنا نجد من الأسباب ما هو أكثر من ذلك، ولكن هذه أسسها وأعظمها؛ فإن ضعف التدين وفسدت الفطرة وانحل الخلق فكل ما وراء ذلك يأتي تبعًا له.
فنسأل الله عز وجل أن يقوي إيماننا، وأن ينقي فطرنا، وأن يقوي أخلاقنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يسلمنا من الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله عز وجل أن يحفظ أزواجنا وأبناءنا وبناتنا، وأن يحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن يحفظنا بالإسلام في كل أحوالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4584)
وصف جهنم
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
بسام بن محروس باحكيم
الدوادمي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواقف تذكر بالآخرة. 2- قرب الموت. 3- وجوب الاستعداد للموت. 4- عظم هول جهنم. 5- وصف جهنم وما فيها من العذاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإني أسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا على طاعته، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحومًا وتفرّقنا بعده تفرّقًا معصومًا، ولا يجعل فينا ولا معنا شقيًا ولا محرومًا.
عباد الله، لقد مرّت بنا مواقف في ليالي وأيام، كلها تذكّرنا بالجنة والنّار، بالحساب والجزاء، كلّها تذكرنا بيوم الوقوف بين يدي الملك الديّان، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا يَتَنَاصَرُونَ بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26]. مرّت علينا مواقف رأينا فيها جزءًا لا يكاد يبلغ ما في جنّة الله من النعيم المقيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأيضًا نار جهنم والعياذ بالله لا توصَف، روِيَ عن رسول الله أنه قال: ((إن الله سبحانه وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضّت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودّت)) ، ثلاثة آلاف عام وجهنم توقد. كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15، 16]، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى [الليل:14، 15]، فهي سوداء مظلمة، لا يضيء شررها ولا ينطفئ لهيبها.
عباد الله، يقول أحد السّلف: "لو أننا متنا واسترحنا لكان خيرًا لنا، ولكنا إذا متنا بعثنا، وإذا بُعثنا حوسِبنا، وإذا حوسبنا فإمّا إلى جنّة وإما إلى نار"، ولهذا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ومتى يأتي الموت يا عباد الله، كلّ ساعة، كل ثانية، كل لحظة، مؤمّل فيها أن يأتي الموت.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يومًا على آلة حدباء مَحمول
ولهذا يجب على الإنسان عندما يأتيه الموت أن يكون مسلِمًا في غاية إسلامه، ومتى يأتي الموت؟ ذلك غيب عند الله سبحانه وتعالى. فينبغي للعبد الصالح أن يكون في كل لحظة مسلمًا، وفي كل ليله مسلمًا، وفي كل صباح ونهار وليل مسلما، لأنّ الموت متوقَّع أن يأتي في كل لحظة من ليل أو نهار. ويجب على الإنسان أن يحذر الموت ويحذر ما بعد الموت، والحذر إنما يكون بالاستعداد والعمل.
يُروَى أنَّ يعقوبَ عليه السلام قال لملك الموت: إني أسألك حاجة، أطلب منك طلبًا، قال: وما هي؟ قال: أن تعلِمَني إذا حضر أجلي واقترب، قال: نعم أرسل إليك رسولين أو ثلاثة، فلمّا انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتى إليه ملك الموت، فقال له يعقوب: يا ملك الموت أزائرًا جئت أم قابضًا؟ قال: لقبض روحك، قال: أما وعدتني أنك ترسل إليّ رسولين أو ثلاثة؟! قال: يا يعقوب، قد فعلت ذلك؛ بياض شعرك بعد سواده، وضعف بدنك بعد قوّته، وانحناء جسمك بعد استقامته، هذه رسلي ـ يا يعقوب ـ إلى بني آدم قبل الموت.
فالعاقل منّا من استعدّ لهذا اليوم وأعد العدة ليكون من أهل الجنّة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها وأن يجيرنا من النار.
جهنم ـ يا عباد الله ـ لا توصف، وإذا وصفت يكاد وصفها يحير العقول ويذهب بالأفكار، وسنعرض لنماذج من نار جهنم أو صور من نارِ جهنم، وهي صور قليلة، ولو أن الإنسان أراد أن يذكر ما في جهنم من العذاب ما استطاع، نار قعرها بعيد وحرّها شديد.
روى مسلم عن رسول الله أنه يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ـ مربط ـ، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها، ولو تركت جهنم ولو لم يكن هؤلاء الملائكة يقبضونها ويمسكونها لأتت على كلّ بر وفاجر، ما تترك أحدًا، ولهذا تزفر جهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مرسل إلا وجثا على ركبتيه يقول: نفسي نفسي.
كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:21-26].
وفي حديث ذكره أسد بن موسى أنه قال: ((إن في جهنم لواديًا تتعوّذ جهنم من شرّ هذا الوادي كل يوم سبع مرات، وفي هذا الوادي جبّ تتعوّذ جهنم والوادي منه كلّ يوم، وفي هذا الجبّ حية تتعوّذ جهنم والوادي والجبّ منه كلّ يوم، وهذه الحيّة أعدّها الله للأشقياء من حملة القرآن)) ، وعن يعلى أبي منبه في الحديث الذي رفعه إلى النبي قال: ((ينشئ الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال لأهل النار: ما تطلبون؟ فيتذكرون بالسحاب أنه كان ينزل مطرًا فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطر السحاب أغلالاً تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمرًا يلتهب عليهم)) أخرجه الطبراني.
وإذا سألت عن طعام أهل النار فهو كما أخبر الله عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:51-53]، فما هي شجرة الزقوم؟ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات:62-66]، قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه أبدًا؟!)) أخرجه ابن ماجه، وأيضا من طعامهم كما قال الله عز وجل: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12، 13]، ويقول ابن عباس رضي الله عنه: وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ قال: (شوك ينشب في الحلق، لا يدخل ولا يخرج)، وقال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:6، 7]، وقال سبحانه: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:35-37]، والغسلين هو القيح والصديد الذي يسيل من جلود أهل النار.
أيها المسلمون الكرام، وأما إن سألتم عن شراب ساكن النار فشرابهم الحميم الماء المغلي غاية الحرارة، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ [الواقعة:54]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، من شدة حرارته يقطع أمعاءهم تقطيعًا، قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
وأما إن سألت ـ أخي المسلم ـ عن لباس أهل النار فكلّه نارٌ في نار، إنها ثيابٌ وسراويل من نار، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم:50]، قال : ((إن أول من يكسى حلّة من النار إبليس لعنه الله، يضعها على حاجبه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول: يا ثبوره، وهم يقولون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار فيقول: يا ثبوره، ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا)).
وأما إن سألت عن فرش أهل النار فهي من نار، قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41].
وأما إن سألت عن الظلّ الذي يستظلّون به فقال سبحانه: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:41-44]، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].
أما سَمعت بأهل النار فِي النار وعن مقاساة ما يلقون فِي النار
أما سَمعت بأكباد لَهم صدعت خوفا من النار قد ذابت على النار
أما سَمعت بأغلال تناط بِهم فيسحبون بها سحبا على النار
أما سَمعت بضيق في مَجالسهم وفِي الفرار ولا فرار من النار
أما سَمعت بِحيات تدبّ بِها إليهم خلقت من خالص النار
أما سمعت بأجساد لهم نضجت من العذاب ومن غلي على النار
أما سمعت بِما يتكلّفون به من ارتقاء جبال النار في النار
حتى إذا ما علوا على شواهقها صبوا بعنف إلى أسفل النار
أما سَمعت بزقوم يسوغه ماءً صديدا ولا تسويغ فِي النار
يسقون منه كؤوسا ملئت سقما ترمي بأمعائهم رميا إلَى النار
تشوي الوجوه وجوها ألبست ظُلَما بئس الشراب شراب ساكني النار
ولا ينامون إن طاف المنام بِهم ولا منام لأهل النار فِي النار
إن يستقيلوا فلا تقال عثرتُهم أو يستغيثوا فلا غياث فِي النار
وإن أرادوا خروجا ردّ خارجهم بمقمع النار مدحورا إلى النار
فهم إلى النار مدفوعون بنار وهم من النار يهرعون للنار
ما أن يخفف عنهم من عذابِهم ولا تخفف عنهم سورة النار
فهذه صدعت أكباد سامعها من ذي الحجاومن التخليدفي النار
فيا إلَهي ومَن أحكامه سبقت بالفرقتين من الجنات ومن النار
رحْماك يا رب في ضعفي وفي ضعتِي فما وجودك لي صبر على النار
ولا على حرّ شَمس إن برزت لها فكيف أصبِر يا مولاي للنار
فإن تغمدنِي عفو وثِقت به منكم وإلا فإني طعمة النار
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: عباد الله، وإذا سألتم عن حال أهل النار وكيف يكون مآلهم فقد قال الله: إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71، 72]، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32]، إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا [المزمل:12]، والأنكال هي القيود التي لا تحلّ أبدًا، ويقول الحسن البصري رحمه الله: "أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لتذلّ وجوههم في النار"، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:13-16]، لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، وهم في تلك الحال ينادون ملك الموت أن يقبض أرواحهم وأن يتوفّاهم بدون رجعة، مع أنهم في الدنيا كانوا لا يتمنّون الموت، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37]، ينادون ملك الموت ليقبض أرواحهم، ولكن هيهات هيهات، قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، يحاولون الخروج من نار جهنم، فتتلقاهم ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، معهم مطارق من حديد، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:21، 22]، ثم ينادون الملائكة، وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ [غافر:49]، ولكن هيهات، قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر:50]، فلا يبقى لهم منجى ولا ملجأ إلا الله عز وجل، فيتوجهون بالدعاء إليه، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106، 107]، فيأتي الجواب ولا جواب بعده ولا كلام بعده، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، عند ذلك يلقى البكاء على أهل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، فتسيل عيونهم دمًا لو أرسلت فيه السفن لبحرت، نسأل الله العافية.
عباد الله، يقول المصطفى: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشرا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/4585)
جريمة الدنمارك
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
4/1/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظيم أخلاق النبي. 2- دحض فرية الحاقدين. 3- من أقوالهم في نبينا. 4- الحرية لا تسوغ الإساءة. 5- عزاؤنا. 6- واجبنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد امتلأ القرآن الكريم ثناءً على النبي الأمين عليه الصلاة والتسليم، نبي بين الله أخلاقه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، سيد الناس أجمعين، ما حملت ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة منه.
عباد الله، لقد أساءت صحيفة الدنمارك وبعض صحف الغرب إساءة بالغة إلى نبينا ، أساؤوا إلى مليار ونصف مليار مسلم، أساؤوا إلى غيرهم من عقلاء العالم بنشر رسوم كاريكاتورية يشوّهون بها سمعة النبي ويرمزون بها إلى أنه مصدر الإرهاب.
عباد الله، أرى أنَّ من الذب عن عرض محمد أن أوضح جانبًا مشرقًا من حياته قبل أن أدلف إلى الرد على هذه الصحيفة. إن بعثة النبي الكريم كانت رحمة للمسلمين ولغيرهم، رحمة للناس أجمعين، بل باشرت البهائم العَجماوات آثارها. أين الإرهاب من رجل دنَّس رأسُ النفاق عرضَه، واتهم بالزِّنا زوجَه، وقال لمن حوله: ليخرجن ـ أي: من المدينة ـ الأعز ـ يريد نفسه ـ منها الأذل ـ يريد أكرم الخلق ـ فيُشار على النبي بقتله، فيرفض ذلك معلِّلاً : ((لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) رواه البخاري ومسلم؟!
يروي الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ؛ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لا تَلعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).
أما سمع هذا ما جاء في الصحيحين أنَّ النبي أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِل، فَقَالَ : ((وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِل؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ)) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: ((دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)).
لقد وضع المشركون سلا الجزور على جسد النبي وهو يصلّي، وكسرت رباعيته في حربهم له وهو يقول : ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
بالله ليحدِّث كل امرؤ منكم نفسَه بإجابة هذا السؤال: لو أن أحدًا فعل بهؤلاء المستهزئين شيئًا كهذا فهل سيعامل من أساء إليه معاملة نبينا ؟! فمن أحق بهذا النعت؟!
إن رسولنا كان رحمة للكافرين حتى عند النِّزال، فقد أثِر من هديه أنه كان إذا بعث سرية قال لهم: ((لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا)) رواه مسلم.
أين الإرهاب من نبي قال لأسامة بن زيد بعدما قتل مشركًا قال: لا إله إلا الله؛ لظنه أنه قالها تقيةً: ((أَقَتَلتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: ((أَقَتَلتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!)).
أين الإرهاب من رجل قالت له عائشة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَل أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ)) ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((بَل أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) رواه البخاري ومسلم.
فأي أخلاق تداني هذه الأخلاق؟! وأي رجل يماثل هذا النبي الكريم؟!
معاشر المسلمين، لقد اعترف عقلاؤهم بهذه الأخلاق، والحقّ ما شهدت به الأعداء. وأنا سأحدّثكم بشهادتهم كما قرأتها، وعليكم أن تصلّوا على نبيكم إذا سمعتم ذكر اسمه.
يقول رودي بارد الألماني: "كان من بين ممثّلي حركة التنوير من رأوا في النبيّ العربي أدلةَ الله، ومشرّعًا حكيمًا، ورسولاً للفضيلة، وناطقًا بكلمة الدين" (الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص15).
ويقول إيرفنج:"كان محمد خاتم النبيين، وأعظم الرسل الذين بعثهم الله" (حياة محمد ص72).
ويقول إدوارد بيروي الفرنسي:"وعندما قُبض النبي العربي عام 632م كان قد انتهى من دعوته كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبَلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تمّ للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة لم تعرف مثلها من قبل" (تاريخ الحضارات العام 3/11).
أيها المسلمون، الحرية التي أرادوا أن يسوّغوا بها جريمتهم لن يقدِروا على إقناع أنفسهم بها، أيرضى هؤلاء أن يُساء إليهم باسم الحرية؟! أيمكنهم أن يتقبّلوا حديثنا في ثقافتهم أو سياستهم أو بعض عظمائهم بحجة حرية التعبير؟! ماذا سيقولون لو أننا اعتذرنا عمن قام بأحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك مثلاً بأنهم أحرار؟! الحرية لا تعني أن تلحِق ضررًا بغيرك. أيقوى هؤلاء على الكلام عن إسرائيل وخرافات المحرقة النازية، أم أنه الكيل بمكيالين والظلم والمين؟!
ولقد جاء في دساتير العالم وقوانين صحافتها أنه لا يجوز المساس بالمعتقدات والإساءة إليها، ولا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم. فهذه فرنسا التي انساقت وراء الدنمارك جاء في المادة (29) من قانون صحافتها المعدل عام 1944م أنه ليس لصحافي باسم الحرية أن يقذف شخصًا باتهامه بما هو منه بريء، لا برسم ولا صور ولا كتابة. فأين هؤلاء من قانونهم؟! ماذا لو نشر زنديق رسمًا كاريكاتوريًا للمسيح عليه السلام يستهزئ به باسم حرية التعبير؟!
أيها المسلمون، عزاء كل مسلم قول الله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]. يقول السعدي رحمه الله في تفسيره (ص435): " إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ بك وبما جئت به، وهذا وعد من الله لرسوله أن لا يضرَّه المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتله".
وهذا مما لا مرية فيه، وقد جاء في الصحيحين أن رجلاً نصرانيًا َأَسْلَمَ وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلا مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، فَأَلقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلقَوْهُ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية معلقًا على هذه القصة في الصارم المسلول (ص589-590): "فهذا الملعون الذي افترى على النبي أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصَمَه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مرارًا، وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذبًا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب... ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، إذ تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا بما قالوه فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين".
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلعلَّ سؤالاً يدور بخلد الكثيرين منكم: ما واجبنا حيال هذا الحادث الأليم؟ وكيف السبيل لنصرة سيد الأولين والآخرين؟
والجواب: قطع العلاقات معهم التي تبنتها بعض الدول من السّبل التي يُذبّ بها عن رسول الله ، ولقد شكر المنصفون لرئيس هذه البلاد منعه لمجيء وزير الدفاع الدنماركي أو أيّ مسؤول منهم إلا بعد أن يعتذروا رسميًا عن قبيح فعلهم.
وقامت المملكة السعودية بسحب سفيرها، وقامت بمثل هذا ليبيا والكويت، وطالب البرلمان المصري حكومته أن تسحَب سفيرها من هذه الدول.
ولا بد من الاستمرار في مثل هذه المقاطعة لأمور:
1- لأنهم لم يعتذروا إلى يومنا هذا.
2- لأن بإمكان حكومات تلك الصحف أن يعاقبوا المسيئين مستندين إلى نصوص دستورية في قانونهم ولم يفعلوا.
3- لأن رئيس وزرائهم رفض مقابلة السفراء.
4- لِما عزموا عليه من حرق المصاحف يوم غد السبت.
5- لعدم اعتذار الصحيفة.
6- ولأن معظم شعبهم يؤيد عدم اعتذار الصحيفة.
من واجبنا تجديد العهد بمحبة النبي والدعوة إلى إحياء سنته.
من واجبنا تصحيح مفاهيم الغرب حول ما يتعلق بالنبي ، ويتم ذلك بما يلي:
1- توجيه وزراء الخارجية لسفرائهم أن يكونوا دعاة خير وإصلاح بعكس الجانب المشرق عن الإسلام ورسوله.
2- الكتابة في الصحف العالمية حول القصص من السيرة النبوية التي لا يملك الناس أمامها إلا الدهشة والتعجب من كريم الأخلاق ونبيل الصفات.
3- إقامة المنظمات والجمعيات الدعوية (ورش عمل) لوضع أنجع التصورات لدعوة الغرب وتمليكهم الحقائق عن رسولنا محمد.
4- نشر الجاليات الإسلامية للكتب المترجمة ككتب السيرة وغيرها.
5- إقامة المناظرات العلنية فإن فيها خيرًا كبيرًا.
6- السعي لإقامة المؤتمرات وتكثيفها ببلادهم.
7- تفعيل الدعاة من ذوي القدرة على مخاطبة العقلية الغربية.
8- شجب وإدانة أعمال العنف والتفجير والتدمير التي لا يقرها الإسلام، وبيان أن الإسلام بريء منها.
من واجبنا أن ندعو على من آذى النبي بقلوب حاضرة.
فاللهم أرنا فيمن تعرّض لنبيك بالإساءة عجائب قدرتك...
(1/4586)
لماذا يتأخر النصر؟!
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال الناس عند نزول الشدائد والمصائب. 2- أسباب تأخر النصر. 3- أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيّها المسلمون، يتكررُ في فتراتٍ من التاريخ لمن تأملَ انسياح الإسلامِ في الأرضِ وغلبة المسلمين، أو انحسار مدّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثريةُ المسلمين تلتزمُ بالإسلامِ في حالةِ غلبته فإنَّ القلةَ من المسلمينَ من يتمالكُ نفسهُ ويلتزمُ بمقتضياتِ العقيدة والدين ويصبرُ على اللأواءِ والمحن في حالِ غلبةِ أعداءِ الدين، إذ من الناسِ من يُصابُ بالهلعِ وفقدان الثقةِ بنصرةِ هذا الدين، ويُصاب آخرون بالإحباطِ واليأس والقنوطِ من رحمة الله والتسخطِ لأقدارِ الله، وتلك أدواءٌ قاتلة، وهي منافية لحقيقةِ التوحيد من الصبر واليقين والتقوى والتوكل على رب العالمين.
إخوةَ الإيمان، وهذا الشعورُ قديم، وهذهِ الفتنةُ غير مستحدثة، وهذا الهاجسُ تحدثَ عنه العلماء السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة وكادَ اليأسُ يلفُّ بعض المنتسبين للإسلام.
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيميه رحمه الله كما في جامع الرسائل الرسالة الثالثة: قاعدة في المحبة: "وهُنا نكتةٌ نافعة؛ وهي أنَّ الإنسانَ قد يسمعُ ويرى ما يصيبُ كثيرًا من أهل لإيمان والإسلام في الدنيا في المصائب، وما يصيبُ كثيرًا من الكفَّار والفجَّار في الدنيا من الرياسةِ والمال وغير ذلك، فيعتقدُ أنَّ النعيمَ في الدنيا لا يكونُ إلاَّ لأهلِ الكُفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقدُ أنَّ العزةَ والنُّصرةَ قد تستقرُ للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاءَ في القرآن من أنَّ العزةَ لله ولرسولهِ وللمؤمنين وأنَّ العاقبةَ للتقوى وقولَ الله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] وهو ممن يصدّقُ بالقرآن حملَ هذه الآيات على الدارِ الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا فما نرى بأعيننا إلاَّ أنَّ الكفارَ والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين".
وهذا تلميذهُ الشيخُ ابن القيم رحمه الله يعرضُ أمامَ ناظريك ـ أيّها المسلمُ ـ الحكمة من وراءِ تمكين أهل الكُفر والفسوقِ والعصيان، فيقول في كتابه طريق الهجرتين (ص214-215): "وكان في تمكينِ أهل الكفرِ والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمالِ الذي يحصل لهم بمعاداةِ هؤلاءِ وجهادهم والإنكارِ عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإنَّ تمام العبوديةِ لا يحصلُ إلاَّ بالمحبةِ الصادقة، وإنَّما تكونُ المحبةُ صادقةً إذا بذلَ فيها المُحبُّ ما يملكُهُ من مالٍ ورياسةٍ وقوةٍ في مرضاة محبوبهِ والتقرب إليه، فإذا بذلَ لهُ رُوحهُ كان ذلك أعلى درجاتِ المحبة. ومن المعلومِ أنَّ من لوازمِ ذلك أن يخلقَ ذواتًا وأسبابًا وأعمالا وأخلاقًا وطبائعَ تقتضي معاداةُ من يحبه... ـ إلى أن يقول: ـ فلولا خلق الأضدادِ وتسليط أعدائهِ وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبوديةِ من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبّ فيه والبغضُ فيه والعطاء له والمنع له".
أيّها المؤمنون، نستبطئُ النصر أحيانًا ونحنُ بعدُ لم نُقدمُ للنصرِ ثمنا، ونستعجلُ النصرَ وقد لا يكونُ حانَ وقته بعد، ونتطلعُ إلى تغيرٍ مفاجئٍ في العالم ونحنُ بعدُ لم نغيرِّ ما بأنفسنا، وبالجملةِ فهُناك معوّقاتٌ للنصرِ وأسبابٌ لتأخره يعرفها العلماء ويجهلها البسطاء، وأسوقُ لكم طرفًا منها، استَجمعها صاحبُ الظلال يرحمه الله، فاعقلوها وقارنوا واقعَ المسلمين بها.
يقولُ سيد قطب رحمهُ الله في كتابه طريق الدعوة في ظلال القرآن (ص359): "والنصرُ قد يُبطئُ لأنَّ بنيةَ الأمةِ المؤمنة لم ينضجُ بعد نضجها، ولم يتمُّ بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفّزَ كل خليةٍ وتتجمع لتعرف أقصى المدخور فيهما من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكا؛ لعدمِ قُدرتهما على حمايتهِ طويلاً.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكهُ من رصيدٍ، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليا إلاَّ وتبذلهُ هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تجرب الأمةُ المؤمنة آخر قواها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سندٍ من الله لا تكفلُ النصر، إنَّما يتنزلُ النصرُ من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثُمَّ تكلُ الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ البيئةَ لا تصلحُ بعدُ لاستقبالِ الحقِّ والخيرِ والعدل الذي تمثلهُ الأمةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضةً من البيئةِ لا يستقرُ معها قرار، فيظلُ الصراعُ قائمًا حتى تتهيأ النفوسُ من حوله لاستقبالِ الحقّ الظافر لاستبقائه، من أجل هذا كله ومن أجل غيرهِ مما يعلمهُ الله قد يبطئُ النصر، فتتضاعفُ التضحيات وتتضاعفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصرِ تكاليفهُ وأعباؤهُ حين يأذن اللهُ به بعد استيفائه أسبابه وأداءِ ثمنه وتهيؤ الجوِّ حوله لاستقباله واستبقائه.
وقد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تُعاني وتتألم وتبذل، ولا تجدُ لها سندًا إلاَّ الله، ولا متوجهًا إلاَّ إليهِ وحده في الضراء، وهذهِ الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهجِ بعد النصر عندما يأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل والخير الذي نصرها الله به.
وقد يُبطئُ النصرُ لأنَّ الأمةَ المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تُقاتلُ لمغنمٍ تُحققه، أو تُقاتلُ حميَّةً لذاتها، أو تُقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكون الجهادُ له وحدهُ وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأُخرى التي تلابسهُ، وقد سُئل رسولُ الله : الرجلُ يُقاتلُ حميةً، والرجلُ يُقاتلُ شجاعةً، والرجلُ يُقاتلُ ليرى، فأيّها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
كما قد يبطئُ النصرُ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحهُ الأمة المؤمنة بقيةً من خيرٍ يريد اللهُ أنَّ يجردَ الشرَّ منها ليُمحّص خالصًا، ويذهبَ وحدهُ هالكًا، لا تتلبسُ بهِ ذرةٌ من خيرٍ تذهبُ في الغمار.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ الباطلَ الذي تحاربهُ الأمةُ المؤمنة لم ينكشف زيفهُ للناسِ تمامًا، فلو غلبهُ المؤمنون حينئذٍ فقد يجدُ لهُ أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفسادهِ وضرورةَ زواله، فتظلَ له جذورٌ في نفوسِ الأبرياءِ الذين لم تنكشف لهمُ الحقيقة، فشاءَ اللهُ أن يبقى الباطل حتى يتكشفَ عاريًا للناس، ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليهِ من ذي بقية".
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعدُ: إخوة الإسلام، فينبغي أن لا يخامرَ المسلم شكٌ بنُصرةِ الله لهذا الدين، حتى وإن لم يرهُ بأمِّ عينه، وتحققَ لأجيالٍ بعده، فحسبهُ أن يكونَ جنديًا صادقًا في سبيلِ خدمةِ هذا الدين، وحسبهُ أن يموتَ يوم يموت وهو يُحسنُ الظنَّ بربهِ، ويستشعرُ بمسؤوليتهِ تجاهَ دينه، قد حررَ عبوديتهُ لله.
أمَّا النصرُ فلا بُدَّ من اكتمال أسبابهِ وزوالِ معوقاته، واللهُ يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد، ووعدهُ حق ونصرهُ قريب وأمرهُ بين الكاف والنون، ولكن ثَمة أدواء يتلبسُ بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصرُ اللهِ عزيزٌ لا بُدَّ فيه من تمحيصِ الصفوف، ولا بُدَّ من تمييزِ الخبيث من الطيب، لا بُدَّ من سقطٍ لأصحابِ المطامعِ والأهواء، ولا بُدَّ من تجريدٍ للصفوةِ المختارةِ التي يُحبُها الله وتستحقُ نصره، لا بُدَّ من تمييزِ المجاهدين الصادقين من المتقولين المنتفعين.
عباد الله، وليست المسؤوليةُ في هذا على الناس على حدٍ سواء، فكلٌّ بحسبه، ولست العبوديةُ المؤهلةُ للنصر ضربًا من الأماني أو قدرًا محدودًا من العبادات، يظنُّ المرءُ فيها أنَّهُ بلغَ قمَّة الإيمان واستحقَّ النصرَ لولا فساد الآخرين بزعمه، كلا، فالمسؤوليةُ كبيرة، والعبوديةُ المرادةُ لله شاملة، واسمع إلى أحدِ علماءِ السلف وهو يشخِّصُ الحال وكأنَّهُ يعيشُ اليومَ بين ظهراني المسلمين:
يقولُ ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (2/176، 177) وهو يتحدثُ عن نوعي العبوديةِ العامةِ الخاصة: "ولله سبحانهُ على كلِّ أحدٍ عبوديةً بحسبِ مرتبته، سِوى العبوديةِ العامةِ التي سوَّى بين عبادهِ فيها؛ فعلى العالم من عبوديةِ نشرِ السنةِ والعلم الذي بعثَ اللهُ به رسلهُ ما ليس على الجاهل، وعليه من عبوديةِ الصبرِ على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكمِ من عبوديةِ إقامةِ الحقِّ وتنفيذهِ وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغنيِّ من عبوديةِ أداءِ الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادرِ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهادِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت لهُ امرأة: هذا واجبٌ قد وضع عنَّا، فقال: هبي أنَّهُ قد وضَع عنكنَّ سلاح اليدِ واللسان، فلم يُوضع عنكنَّ سلاح القلب، فقالت: صدقت، جزاك الله خيرًا... ـ إلى أن قال الشيخ رحمه الله: ـ وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلقِ بأن حسنَّ لهمُ القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبادات؛ فلم يُحدِّثُوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاءِ عند ورثةِ الأنبياءِ من أقلِّ الناسِ دينًا، فإنَّ الدين هو القيامُ لله بما أمر به، فتاركُ حقوقِ الله التي تجبُ عليه أسوأُ حالاً عند الله ورسولهِ من مُرتكب المعاصي... ـ إلى أن قال: ـ ومن له خبرة بما بعث اللهُ به رسولهُ وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هُم أقلُّ الناسِ دينًا والله المستعان، وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدودهُ تُضاع ودينهُ يُترك وسنة رسولِ اللهِ يرغب عنها وهو باردُ القلبِ ساكتُ اللسان شيطانٌ أخرس؟! كما أنَّ المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليَّةُ الدين إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاةَ بما جرى على الدين؟! وخيارهم المحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعضِ ما فيه غضاضة عليه في جاههِ أو مالهِ بذل وتبذل وجدَّ واجتهد واستعملَ مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء ـ كما يقولُ الشيخ رحمه الله ـ مع سقوطهم من عينِ الله ومقت اللهِ لهم قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليَّةٍ تكونُ وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتهُ أتم كان غضبهُ لله ورسولهِ أقوى وانتصارهُ للدين أكمل".
أيّها المسلمون، في تركِ أمرِ الله وعدم التمعُّر لشيوعِ الفساد والمنكر خطر عظيم، وقد ذكرَ الإمامُ أحمد وغيره أثرًا أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى ملكٍ من الملائكةِ أن اخسِف بقريةِ كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلانٌ العابد؟! فقال: به فابدأ؛ فإنَّهُ لم يتمعَّر وجههُ في يومٍ قط. وذكر صاحبُ التمهيد أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائهِ أن قُل لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدك في الدنيا فقد تعجّلت به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إليَّ فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما ليَ عليك؟ فقال: يا ربي، وأي شيءٍ لك عليّ؟! قال: هل واليتَ فيَّ وليّا أو عاديت فيّ عدوّا؟
هكذا إخوة الإسلام، فَهِمَ السلفُ رحمهم الله حقيقةَ العبوديةِ لله، وكذلك جاءتِ النصوصُ الشرعية والوصايا النبويَّة تُؤكدُ أمرَ القيامِ له بحقهِ عبوديةً عامة يشتركُ الناسُ فيها، وعبودية خاصة كلٌّ بحسبه، تضمنُ قيام أمر الله، تُرسي دعائمَ الخيرِ في الأرض، وتوالي الخيِّرينَ وتحبُ الناصحين، وتسهمُ في اقتلاع الشرِّ من جذوره، وتأخذُ على أيدي السفهاءِ وتأطرهم على الحقِّ أطرا، وتكرهُ المبطلين وتُعادي الكافرين وتبغضُ المنافقين.
وبهذه المجاهدة في الأرض ينساحُ الخيرُ وينكمشُ الباطل ويقتربُ النصر، ولكنَّ ذلك يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة وإيمانٍ ويقين، ومن خطَبَ الحسناءَ لم يغلها المهر، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69], وقال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47], وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وصدقَ رسولُ الله : ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يتركُ اللهُ بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ اللهُ هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزًا يُعزُّ اللهُ به الإسلام، وذلاً يُذلُّ به الكفر)) رواه ابن حبان وصححه الألباني في السلسلة (3).
اللهمَّ انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهمَّ اجعلنا من أنصار دينك والمنافحين عن شرعك يا رب العالمين...
(1/4587)
وقفات مع آيات الصيام
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير, محاسن الشريعة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من تكرار التقوى أثناء آيات الصيام. 2- مفطرات الصيام نوعان: حسية ومعنوية. 3- وقفة مع قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ. 4- رمضان شهر القرآن. 5- الأعذار التي توجب الفطر في رمضان. 6- أثر الصيام في إجابة الدعوات. 7- مظاهر اليسر في أحكام الشريعة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا معاشر المسلمين، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى في سورة البقرة في آيات الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فدعونا نتأمل في هذه الآيات العظيمات، ونجول في معانيها، ونأخذ الدروس منها.
أيها الإخوة، الوقفة الأولى: إن الناظر في آيات الصيام في هذه السورة يجد ولأول وهلة أن التعقيب بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] قد تكرر في أكثر من مرة، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، بينما غيره من التعقيبات لم تتكرر، بل أن التعقيبات الأخرى لتصب في معنى التقوى، فجاء "لعلكم تشكرون" "لعلهم يرشدون"، وهذه وتلك لولا التقوى ما شكر العبد وما رشد. فما الحكمة من تكرار لفظ التقوى ها هنا؟!
أيها الإخوة، إن تكرار التقوى في ثنايا آيات الصيام هو بسبب أن الصوم من أعظم العبادات الجالبة للتقوى، فالذي يهجر الطعام والشراب ويترك الاستمتاع بأهله لله عز وجل وتقربًا إليه فسوف يُوهب التقوى ويوفّق إليها، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي)).
فأعظم مقاصد الصوم هي التقوى الجالبة لكل خير الصارفة عن كل شر، فحين نهاك الله عن الأكل والشرب مدّة صومك والأكل والشرب مباح لك في الأصل لتعتاد نفسك على ترك الحرام، فالذي قدر أن يمنع نفسه من المباح هو أقدر أن يمنعها من الحرام، وهذا سر من أسرار التقوى الجالب للتقوى.
وأما الذين لا يفهمون من الصوم إلا ترك الطعام والشراب فهؤلاء ما فهموا حقيقة الصيام عن الله شيء، ولا انتفعوا بالصيام، ولذا فأنت تجد أحدهم يمسك عن الطعام والشراب ولكن قد أفطر لسانه بالحرام ونطق بالحرام، وأفطرت عينه بالنظر إلى الحرام، وأفطر سمعه على سماع الحرام، ولأمثال هؤلاء يقول النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري. وقول الزور كل قول باطل من الغيبة والنميمة والسب والشتم، وكل قول باطل والعمل به كل باطل يعمل. ولذلك ـ أيها الإخوة ـ فقد ذكر أهل العلم في مفطرات الصائم أنها على نوعين: حسية ومعنوية، أما الحسية فكالأكل والشرب والجماع وغير ذلك، أما المعنوية فكالغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به، فإن أجر الصائم ينقص بحسب ما ألم به من الزور والعمل به، فبعض الصائمين تستغرق ذنوبه أجر صومه كله، فلا يكون له من صومه إلا الجوع والعطش، أعاذنا الله وإياكم من الزور وأهله.
أيها الإخوة، ومن معاني التقوى التعود على شظف العيش وترك ملاذ الحياة والإقلال منها، وليحس المسلمون الصائمون بأن لهم إخوانًا يعيشون الصيام طيلة عامهم، فلا يجدون الطعام والشراب الذي يكفيهم من شدة الخصاصة والفقر، ليبذلوا المال بعد ذلك سخية ببذله نفوسهم.
أيها الإخوة، الوقفة الثانية: وقال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، فمن رحمة الله بعباده أن جعل الصيام أيامًا معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر، ومع هذا أعفى من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرين حتى يقيموا رحمة وتيسيرا، قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
وأيضًا فثمة أمر جليل تؤديه هذه الآية، فقد قال تعالى وهو أعلم بمن خلق، قال عن أيام رمضان: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لأنها سريعة التقضّي سريعة الأفول، فحري بعبد يرجو ما عند الله أن لا تفوته هذه الأيام القليلة باغتنامها في طاعة الله عز وجل، فقد جاء في الصحيحين أن النبي قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، وقال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، وقال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) رواه أهل السنن بإسناد صحيح. فلا يفوتك هذا الفضل العظيم والعطاء الجسيم، فبمجرد قيامك مع الإمام ساعة أو أقل تكتب عند الله قائمًا لليل كله، فمن يزهد في هذا العطاء الإلهي والمنحة الربانية؟!
أيها الإخوة، الوقفة الثالثة: قال تعالى في ثنايا آيات الصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، فرمضان شهر القرآن، وكان السلف رحمهم الله إذا أقبل رمضان أقبلوا على القرآن وتركوا كتب أهل العلم. قال الزهري رحمه الله: "إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام"، وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف. وكان قبلهم المعلم الأول رسول الله يدارس جبريل القرآن في كل رمضان فيعرض عليه، حتى إذا كان سنة وفاته عليه الصلاة والسلام عرض عليه مرتين. فما أحوجنا ـ أيها الإخوة ـ لهذا القرآن العظيم، وخاصة في هذا الشهر الكريم، فأكثروا فيه من تلاوة القرآن وتأمل معانيه وتدبره والعمل به.
آيات من القرآن يلين بها ما قسا من القلوب، وسيشهد بها ما جفّ من المآقي، فوا عجبًا لنفوس لا تستعذب تلاوة كلام الله ولا ترقّ لكلام الله، ولا تلين جلودها وقلوبها لكلام الله، لقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]. نعم، هذا توفيق وهداية لا يوفّق إليها كل واحد، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. ووا عجبًا من قلوب كيف تعيش وليس لها ورد من كتاب الله، وواعجبًا من قلوب ما أقساها وهي لا تحرك قلوبها بتلاوة كلام الله، لقد عاتب الله الصحابة وهم حدثاء عهد بإسلام، فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]. فحري بك ـ أخي المسلم ـ أن تجعل لك وردًا من كتاب الله تتأمل فيه، وتتلوه تحرك به قلبك، وتدرّ به دمعك، وتغير به حياتك، ولا يكن همك آخر السورة، بل اتلُ بتمعّن وتدبر.
الوقفة الرابعة أيها الإخوة: ومما جاء في آيات الصيام قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فكل من أدرك شهر رمضان وهو قادر على صومه فواجب عليه الصوم، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، متعبدًا لله عز وجل بذلك، فمن تناول شيئا من المفطرات مختارًا غير مكره ذاكرًا غير ناسٍ عالمًا غير جاهل لم يصح صومه.
أما المريض فإن كان مرضًا يرجى برؤه وشفاؤه فهذا يفطر مدّة مرضه ويقضي مكان الأيام التي أفطرها، وإن كان مرضه لا يرجى شفاؤه فهذا يطعِم عن كل يوم مسكينًا، لكل مسكين نصف صاع، أي: كيلو ونصف من الأرز ونحوه، أو إن شاء جمع فقراء بعدد الأيام التي أفطرها وأطعمهم، فإن ذلك يجزئه. وأما المسافر فإن كان الصوم لا يشقّ عليه فالصوم أولى إبراء للذمة، وأما إن كان يشق عليه الصوم أو يضره فإنه يجب عليه الفطر.
واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن المريض الذي يضره الصوم لا يجوز له الصوم، والصوم في حقه حرام، فإذا قرر الأطباء أن هذا المريض يضره الصوم فلا يجوز له الصوم، بل يطعم ولا شيء عليه، ومن يغسل الكلى فهؤلاء لا صوم لهم، ولا يصح منهم حالَ غسيلهم، لقول النبي : ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، وغسيل الكلى إخراج للدم من البدن، فإن كان يستطيع الصوم في أيام التي لا يغسل فيها صامها، وقضى مكان الأيام التي أفطرها، وإن كان لا يطيق الصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا.
واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أنّ كلّ ما كان في معنى الأكل والشرب كحقن الدم والإبر المغذية فإنها مفطرة؛ لأنها تقوم مقام الأكل والشرب من حيث استغناء الجسم بها. ومن أراد البسط في هذا فليرجع لكتب أهل العلم، وليسأل عما أشكل عليه.
الوقفة الخامسة: قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186]، لقد جاءت هذه الآية في ثنايا آيات الصيام، يا لها من آية عجيبة، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والطمأنينة والراحة والأنس، فللصيام أثر في إجابة الدعوات، فاعرضوا حاجاتكم على مولاكم وخالقكم، اعرضوا عليه سؤالكم، فإن النبي يقول: ((إن الله تعالى ليستحي من أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيها خيرا فيردهما خائبتين)) ، ويقول : ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليست بإثم ولا قطيعة رحم إلا كان له إحدى ثلاث: إما أن يستجيب الله له، أو أن يصرف عنه السوء مثلها، وإما أن يدخرها له يوم القيامة)) ، فقال الصحابة: يا رسول الله، إذا نكثر؟ فقال: ((الله أكثر)).
تقبل الله منا صيامنا وقيامنا، اللهم أعنا على القيام بطاعتك في هذا الشهر الكريم، واجعلنا من المقبولين، ومن المعتوقين من النار.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الوقفة السادسة: قال تعالى بعدما ذكر فرض الصوم على عباده وإنه وضعه عن المسافر والمريض: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].
إنها القاعدة الثابتة الراسخة في كل ما فرض الله علينا، فليس فيما فرض الله علينا أراده منا لأجل العسر، كلا، فلقد أراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الصلاة فجعلها خمس صلوات في اليوم والليلة ولم يجعلها خمسين صلاة، وأراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الزكاة فجعلها في جزء بسيط من المال، وهي مع ذلك تزكيه وتنميه، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم افترض علينا الصيام فقد جعله شهرًا في السنة، وخفف على المسافر والمريض، وجعل الصوم مدة النهار، ويعود الصائم في ليله كأيام فطره، فيباح له كل شيء مما أباحه الله عز وجل، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الحج، فهو واجب في العمر مرة، ولمن استطاع إليه سبيلا، ولم يكلف العباد ما لا يطيقون في ذلك، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الجهاد في سبيله، فالجهاد مشقة ما في ذلك شك، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فالجهاد مشقة على النفوس، مشقة على الأبدان، لكن من ورائه عِزّ للإسلام وتمكين للمسلمين وحماية بيضة المسلمين، وحفظ أعراضهم وإرغام الكافر المنتفش وإصغار الباطل المسيطر، فمن هنا فالجهاد يسير. ويوم أن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله واعتبرته تطرفًا حاق عليها الذل والصغار، فكانت تنشد من وراء ذلك اليسر، فإذا هي واقفة في العسر، إنما اليسر في إمضاء ما أمضاه الله وتطبيق ما أمر الله به، فبهذا يتحقق اليسر، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].
ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن أمر المرأة أن تتحجب عن الرجال، ولا تبدي زينتها ولا يظهر منها شيء للرجال الأجانب، وليس هذا من العنت الذي فرض الله علينا. وها نحن نرى البلدان الغربية يوم أن أخرجوا المرأة عن مكانها الذي جعله الله لها جروا ويلات لا تحصى، وأصبحوا يعانون من مشاكل اجتماعية تخالف الفطرة السليمة، فقبل أيام أجرِيَ حوار عبر الإذاعة لعلاج ظاهرة، ويستقبل البرنامج اتصالات المتابعين، أتدرون ـ أيها الإخوة ـ ما موضوع الحوار؟! إنه موضوع لا يدور في خاطر أحد إلا من عاش واقع مساواة المرأة بالرجال، وكانت المرأة فيه لها ما للرجال تمامًا ولم يراعوا أنوثتها، والله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، إن موضوع الحوار ـ أيها الإخوة ـ عن ظاهرة بدأت تظهر وتستشري عندهم، وهي ظاهرة ضرب المرأة للرجل، وكانت هذه الإذاعة تستقبل اتصالات المستمعين، ويقترحون حلولاً لهذه الظاهرة، وهذا خلاف الفطرة، ولكن لما أن ترك الناس أمر الله جرى عليهم العسر، وقد كانوا يظنون أنهم يطلبون اليسر، فليس عسر على المرأة أن تكون تحت عناية الرجال وتحت ولايتهم، أما الذين يريدون أن تستقل المرأة بكل شيء فهؤلاء ما أرادوا لها اليسر، إنما حمّلوها مشقة ما هي بحاجتها، فأي عسر في أن تكون المرأة مخدومة مكفيّة عن كل عناء، محفوظة عن كل عين أجنبية؟! إن هذا لهو عين اليسر، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].
(1/4588)
إن الناس قد جمعوا لكم
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, القتال والجهاد, خصال الإيمان
عبد الله بن حماد الرسي
الرياض
جامع ذي النورين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم نعم الله علينا نعمة الإسلام ونعمة القرآن. 2- سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. 3- واجب المسلم عند نزول الأزمات والمصائب. 4- المسلم يصاب بالحزن لكن لا يصاب باليأس. 5- نماذج من أبواب الفرج ومواقف النصرة من الله تعالى. 6- سبل الوقاية من كيد الكافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أمِن نعمةٍ أنعم الله بها علينا أعظم من نعمة الهداية للإسلام؟! أمن منة امتن الله تعالى بها علينا أجلُّ من نعمة القرآن؟! الإسلام حيث يثمر في النفس الطمأنينة والسكينة والأمان والراحة، والقرآن حيث المنهج الواضح والطريق القويم والحجة البالغة، والخبر الصادق عن النفس وعن سنن الله تعالى في الكون وعن أعداء الملة والدين وعن حرب الكفار للحق والهدى.
نعمة القرآن التي لم تقدرها الأمة حق قدرها، ولم تعرف لها مكانتها وأثرها، ولم تجعلها نبراسًا لمسيرتها ولا نورًا لدعوتها، ولا دليلاً تجلي به غشاوتها وحيرتها. القرآن كلام من؟ كلام الخالق العظيم الذي يعلم السر وأخفى، والذي يدبر الأمر من قبل ومن بعد، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:4، 5].كلام من خلق الإنسان ويعلم ما يصلح له وما يصلحه، سبحانه وتعالى.
إخوة الإيمان، آية جليلة عظيمة واضحة، فيها التوجيه والبيان وفيها الرشاد والهدى، آية من كتاب الله تعالى أردت أن أجعل حديث اليوم عنها ومنها وحولها. آية دعا لذكرها واقع، ودفع للتذكير بها ألم، وألزم بضرورة التدبر لما فيها أحداث تحاك للأمة وخطط تدبر للإسلام وحبائل تنصب لأتباع الإسلام، إنها قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
ما خبر هذه الآية؟ هذا الحبيب المصطفى مع أصحابه قد ألمّ بهم ما حدث في غزوة أحد، وأصيب النبي في أصحابه في تلك الغزوة بجروح، وعادت قريش في زهوها، كانت معركة أُحد في يوم السبت لخمسة عشر من شوال، ومن الغد في يوم الأحد خرج الجيش مع رسول الله من أحد إلى حمراء الأسد في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين، وقال: ((لا ينطلق معي إلا من شهد القتال)). خرج في أعقاب قريش ليطاردها ويمنع ما قد يجدُّ من تكرار عدوانها، وعلمت قريش بخبر مسير رسول الله فرأى أبو سفيان أن يغنم الأوبة الرابحة ولا يواجه المسلمين، وأن يبعث إليهم من يقذف بالرعب في قلوبهم، ويخبرهم أن قريشًا عادت لاستئصال شأفتهم بعد أن تبين لها خطؤها في تركهم، وأنها قد حشدت الجيوش للقضاء عليهم.
وعسكر المسلمون بحمراء الأسد، ثم جاءهم دسيس أبي سفيان يغريهم بالعودة إلى يثرب نجاة بأنفسهم من كرّة المشركين عليهم، وهم لا يقدرون على ملاقاتهم. بيد أن المسلمين قبلوا التحدِّي، وظلوا في معسكرهم يوقدون النار طيلة ثلاث ليال في انتظار قريش التي ترجَّح لديها أن النجاة بنفسها أولى، فعادت إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها مرة أخرى أرفع رؤوسًا وأعز جانبًا.
هذا موقف ذكر الله تعالى شيئًا من خبره، وذكر ثبات المؤمنين على التثبيط واطمئنانهم إلى جانب الله وثقتهم بوعده، فنزلت الآيات الكريمة: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:169-176]. والمسارعون في الكفر هم أولئك الذين يقدمون التنازلات من دينهم وإيمانهم وثقافتهم ليرضوا الكافرين وليخطبوا ودهم، وما علموا أنهم لن يرضوا عنهم، ينسون قول ربهم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
ويتصل الخبر الذي يذكر حالهم ويشخص واقعنا ويعالج ضعفنا في هذا الزمان: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:176-178].
ثم بين سبحانه حكمة عظيمة للابتلاءات أن يتميّز صاحب الإيمان الصادق من ضعيفه أو معدومه، فقال جل وعز: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].
عباد الله، إن واجب المسلم عند الأزمات والمصائب الثبات على دينه، والعمل وفق شرعة خالقه، وإن الحشود التي تنهال على أرض الخليج اليوم والأمم من الجنود التي تتكالب على خيرات الأمة في هذا العصر والقوات التي تفوق في أعدادها وإمكاناتها خيال الإنسان تجعل في النفس قناعة أن الأيام القادمة حبلى بالفتن ومليئة بالبلاء، ولا يزداد المؤمن حين يراها إلا تذكرًا لما في كتاب ربه جل وعز وما في سنة نبيه محمد ، يتذكر كيد أهل الكتاب للمؤمنين، ويتذكر مكرهم بالمسلمين، ويتذكر إرهابهم لأهل الحق. هذا هو الموقف أن يزداد المسلم بالخبر عن هذه الحشود إيمانًا، وأن لا يقع في قلبه الرهبة من العدو، وأن لا تتسرب الهزيمة النفسية إلى شعوره وإيمانه، وأن يزداد بذلك ارتباطًا بالله تعالى وقربًا إليه وحرصًا على دينه واتباعًا لسنة نبيه وتدبرًا للقرآن العظيم وعملاً بتوجيهات رب العالمين، فلا نجاة إلا في ذلك.
كان موقف النبي وأصحابه حين كاد له الأعداء وحشدوا له القوات أن زادهم ذلك إيمانًا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا ما ينبغي أن يقع لكل مسلم. روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).
عباد الله، يحزن كل مسلم مخلص غيور ويغتم عندما يرى تداعي الأمم الكافرة من كل صوب على القصعة الإسلامية، ويتذكر أيضًا خبر النبي الذي أوجز فيه خبر واقعنا اليوم في قوله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غناء كغناء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
يحزن ولكنه لا ييأس، يحزن حين يرى الحشود الكبيرة التي تحيط بأمة الإسلام من كل مكان، ويحزن حين يسمع التصريحات الخطيرة التي يتلفظ بها رؤوس الكفر والإرهاب والطغيان، ويحزن حين يسمع ويقرأ ما يكتبه اليهود والنصارى عن بلاد الإسلام، وخاصة هذه البلاد الخيرة موطن الوحي ومهبط الرسالة، ويحزن كذلك وهو يرى صنوف المذابح التي تنتهك فيها الحرمات والأعراض، ويداس فيها على كرامة أمة غفلت عن وعيها. يحزن لذلك ولكن المؤمن الواثق بربه العالم بدينه الواعي بسننه يرى في الغيوم غيثًا واصبًا، ويسمع في صراخ المخاض صيحات الوليد، ويدرك أنه ما أتى فجر إلا بعدما احلولكت الظلمة.
وهذه سنة الله تعالى، وهذا ما علمنا إياه ربنا في كتابه العظيم، ولنقف مع نماذج من أبواب الفرج ومواقف النصرة من الله تعالى ومتى وقعت، نسمعها فلا نتّكئ عليها وإنما نعمل لها وبها.
هذا نبي الله يوسف عليه السلام ، بدأ التمكين له في الأرض عندما كان يباع ويشترى، وحيدًا شريدًا ضعيفًا، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:20، 21].
وهذا نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، جاءته النجاة من الله تعالى عندما كان قومه يتأهبون للتخلص منه بسبب طهره، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ [النمل:56، 57].
وهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه بدأ التمكين لهم وهم في أشد حالات الاستضعاف من فرعون؛ يُذبحُ أبناؤهم وتُسْتَحْيَا نساؤهم، وكان فرعون في أعلى حالات الجبروت والإفساد والاستعلاء، وهو يقول: ما علمت لكم من إله غيري، إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:4-6].
إن أقصى نقطة استضعاف هي أول نقطة تمكين، ولكن بشرط أن تكون الأمة قائمة بشريعة ربها عاملة بأمره بعيدة عن نهيه، لا تخشى سواه ولا تخاف غيره أكثر منه، ولنتدبر قوله جل وعلا: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40، 41].
إخوة الإيمان، لا ننسى قدرة الله تعالى ولا نغفل عن حكمه وقضائه، ولا نخسر ديننا فيما لو اضطرتنا المواقف لخسران دنيانا، نسأل الله السلامة والعافية. ولنتذكر قدرة الله تعالى، ولنتدبر قوله جل وعلا: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [الزمر:36-40].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، هذا هو الواقع وما نسمعه ونقرأ عنه أكثر مما قيل: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فهل نتنازل عن ديننا أم نقتفي أثر نبينا محمد ، فنزداد بذلك إيمانًا ويقينًا وثقة بالله عز وجل؟!
إننا إن بقينا على عزتنا وإيماننا حفظنا لأنفسنا العزة والكرامة في الدنيا، وحفظنا على أنفسنا النجاة والفوز والسلامة في الآخرة، بحفاظنا على ديننا وحرصنا على طاعة خالقنا جل وعلا، وإن تكن الأخرى فنتنازل عن قيمنا ـ كما ينادي أعداؤنا ـ وتنازلنا عن مفاهيمنا وأسس ديننا فهو الذلة والخزي والهلاك في الدنيا، وما في الآخرة أشد وأشق وأنكى، فما يقبل الأعداء منا سوى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
على كل مسلم أن يتذكر ويذكر نفسه ومن حوله بهذه الحقائق القرآنية الواضحة الناصعة الجلية، فيجعل الحدث سببًا في قوة الإيمان، وسببًا في وحدة الصف، وسببًا في رفعة الأمة وعزتها.
على كل مسلم أن يخلص لله تعالى الطاعة، وأن يصدق مع الله تعالى في إطلاق سهام الليل التي لا تخطئ أبدًا، وآثارها عند أهل الإيمان مرئية مشاهدة معلومة. فنصدق في الدعاء أن يحفظ الله دينه وأن ينصر أولياءه وأن يخذل أعداءه، وأن يرد كيد اليهود والنصارى وملل الكفر في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم نكاية وخسرانًا وخذلانًا لهم، وما ذلك على الله القادر بعزيز.
على كل مسلم أن يتدبر كتاب الله تعالى وسنة نبيه ، وأن يقرأ بتمعن وأن يصحب ذلك بالعمل وفق أمر الله ونهيه.
(1/4589)
إن شانئك هو الأبتر
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
4/1/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى لهذه الأمة بالنبي. 2- فضائل المصطفى. 3- استمرار الكفار في تشويه صورة النبي. 4- هلاك المستهزئين بالنبي. 5- دعوة للتمسك بسنة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعةَ المسلمين، أتباعَ النبي ، قالَ ربنا سبحانه في محكمِ التنزيلِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، قال المفسر السعدي رحمه الله: "أي: ليعليَهُ على سائرِ الأديانِ بالحجةِ والبرهانِ والسيفِ والسنانِ، وإن كرهَ المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكرَ السيئ لا يضرُ إلا صاحبهَ، فوعدُ اللهِ لا بدَ أن ينجزه، وما ضمنهُ لا بد أن يقوم به".
إن الله قد أكرمَ هذهِ الأمة ببعثة محمد بن عبد الله سيد ولد آدم لها بعد أن كانت تعيش في الضلال المبين وتتخبط في ظلمات الجهل، قال سبحانه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2]، نبيٌّ تقيّ، ورسول نقيٌّ، زكَّى الباري لسانه فقال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى [النجم:3]، وزكَّى بصره فقال: مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكَّى صدره فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]، وزكَّى فؤادَه فقال: مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكَّى جليسَه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى [النجم:5]، وزكّاه كلَّه فجاءت الشهادة الكبرى له صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول البَرّ الودود: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
بشرت بنوبته جميع الأنبياء والرسل، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، ومنهم نبيّ الله ورسوله عيسى ابن مريم لما قال لقومه: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف:6].
أرسله الله رحمة للعالمين، فقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ؛ ليخرجهم من الشرك والضلال إلى سماحة ونور التوحيد والعبودية لله، فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحديد:9].
أمّةَ الإسلام، أحباب سيّدِ الأنام، ومع كلِّ هذا الجلاء في سيرةِ خير الورَى ومع هذا البهاء لا يزالُ أحلاسُ النّفاق وشُذّاذ الآفاق ومَردَة الكُفرِ والاستشراق ينشرون أباطيلَهم وحقدَهم الأرعن عبرَ الحمَلات والشبكات للنيل من الجناب المحمدّيّ الأطهر، يَرمون من أرسلَه الله رحمةً للعالمين بالقَسوة والجفاء والإرهابِ والغِلظة والشناءَة، في رسومٍ ساخِرة ودِعايات سافِرة وحملات ماكِرة؛ ليشوّهوا صورته مع علمهم بحقيقة هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
ومن ذلك ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة من قيام صحيفة دنمركية بسبّ نبينا في بضع عشرة صورة، يستهزئون من خلالها بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، دونما مراعاة لحرية دينيّة زائفة ينادي بها الغرب الكافر ولا ديمقراطية كاذبة تزعم حفظا لحقوق الأفراد.
إن هذا الفعلَ منهم هو بدايةٌ لسقوطهم كما أخبر بذلك رب العالمين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، قال ابن كثير في تفسيره: "أي: إن مبغضك ـ يا محمد ـ ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره".
وتوعد الله من حارب أنبياءه بالحرب، قال رسول الله : ((قال الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب)). فهذا وعيد من الله عز وجل بالحرب لمن عادى وليّا، فكيف بمن عادى رسولا هو سيد المرسلين وخير البشر أجمعين سيدنا محمد ؟! لهو حريّ أن يقصم ظهره وينتهي أمره إلى وبال وخسارة.
روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: كان رجل نصرانيا، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ، فعاد نصرانيّا، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض ـ أي: طرحته ورمته ـ، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول معلقا على الحديث: "فهذا الملعون الذي افترى على الرسول أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا، وهذا أمر خارج عن العادة.. وإن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وإن الله منتقم لرسوله ممّن طعن عليه وسبّه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يُمكن الناسَ أن يقيموا عليه الحد".
فاللهم يا الله يا قوي يا عزيز يا منتقم، إنا نبرأ إليك مما فعلته تلك الحثالة بنبيّنا محمد ، فاشهد اللهم أنا نحبّ رسولك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وازرع الرعب في قلوبهم، والعنهم في الدنيا قبل الآخرة، اللهم شتّت شملهم، وأغرقهم بالطوفان كما أغرقت قومَ نوح من قبل، اللّهم اجعل أجسادهم كأعجاز نخل خاوية، اللهم أهلك مزارعهم وتجاراتهم وانشر الفقر بينهم، إنك على كل شيء قدير يا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن الله منتقم من أعدائه وأعداء رسوله في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
فمن ذلك: لما بعث النبي بكتاب إلى قيصر وكسرى يدعوهم إلى الإسلام، وكانت دولة كسرى وقيصر من أعظم الممالك آنذاك، فلما وصل عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ومعه الكتاب قال عبد الله: فدفعتُ إليه كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أخذه فمزَّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((اللّهم مَزِّق مُلكه)). قال أهل العلم: "وقد كتب النبيّ إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرمَ كتابَ النبي وأكرم رسولَه، فثبَت ملكُه، فيقال: إن المُلك باقٍٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّق كتاب رسول الله واستهزأ برسول الله ، فقتله الله بعد قليل ومزَّق ملكه كلَّ ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ تحقيق لقوله تعالى: إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ، فكلُّ مَن شنَأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره".
ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية رحمه الله قال: لما حصَر المسلمون بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهرَ أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، إذ تعرَّض أهله لسبّ رسول الله عليه الصلاة والسلام والوقيعة في عرضه، فعجلنا فتحه وتيسّر، ولم يكد يتأخّر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوه فيه. كما حدّثني بعض الأصحاب الثقات أنّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك.
ألا فلنعتز بهذا الرسول الذي نلهج باسمه أكثر من أسماء آبائِنا، بل جعل الله ذكر اسمه مع الصلاة عليه عبادة يتقرّب إليه بها، فلنتعلم سنته وسيرته، وننظر في حياته وحياة أصحابه، فنجعلها طريقا لنا، فتحلّوا بشمائل نبيِّكم وأخلاقِه، وتزيَّنوا بمناقبِه وآدابِه، وتمثَّلوا هديَه، وترسَّموا سنّتَه، وعَضّوا عليها بالنواجذ، تغنَموا وتنعَموا وتسودوا وتقودوا، وما أصابنا الذل إلا لما تركنا سنة نبينا وهديه، قال : ((وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
وها هي ذكرى هجرتِه العظيمة هو وصحبه تمرّ علينا بذكرياتها الغالية ودروسها المستفادة، فلنستفد منها، ولنتعلم منها، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال سبحانه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
(1/4590)
محاولة تفجير معمل أبقيق
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
جاسم المشعل
غير محددة
3/2/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات عباد الرحمن. 2- تحريم القتل بغير حق. 3- عظم جريمة القتل بغير حق. 4- حادث محاولة تفجير معمل أبقيق. 5- الإشادة بجهود رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله، وَ?رْجُواْ ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36].
عباد الله، أثنى الله تعالى في كتابه الكريم على فئة من عباده، فنعتهم بعباد الرحمن, وعباد الرحمن نخبةٌ من أولياء الله تعالى، وطائفة ممن ملأ الإيمانُ قلوبهم، ووقر في أفئدتِهم، وظهر في أفعالهم وتصرفاتهم، ووصفهم بأوصاف عزيزة ونعوت غالية ونفيسةٍ، يسيرون على منهج الله تعالى، ويهتدون بِهدي رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وإن مالت بهم أنفسهم يومًا إلى المخالفة رجعوا إلى خالقهم واستغفروا الله وتابوا إليه من تلك الكبوة الطارئة، وَرَدَتْ صفاتُهم في أواخر سورة الفرقان، وهي صفات تظهرُ في سلوكهم وحياتهم وتعاملهم وأخلاقهم.
ومن أوصافهم تلك ما جاء في قوله جل وعلا عنهم: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]. فنفى الله تعالى عنهم هذا الوصف، وبيَّنَ أنَّهم لا يعتدون على الأنفس البريئة، بل يحفظونها، ويبتعدون عن إيذائها، ولا يتعرضون لها بسوء أو ضرر، وهم حين يمتنعون عن ذلك إنما يسترشدون بالهدي الرباني والتوجيه الإلهي، فإن الله تعالى قد نهاهم عن ذلك وحذرهم منه وقال لهم: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، ثم أكد النهي بتكراره مرة أخرى، قال جل في علاه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فبين الله تعالى أن القتل لا يكون ولا يحلّ إلا بالحق، وهو ما بينه المصطفى بقوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه، وورد عن عثمان أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس فُيقتل بها)) رواه أبو داود.
عباد الله، إن الاعتداء على النفس وإزهاقها بغير حق جريمة عظمى، وعدَّها كثيرٌ من العلماء أكبرَ الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى، ولا أدل على بشاعة هذه الجناية وقبحِ ارتكابِها من أنَّ الجاني باعتدائه على النفس الإنسانية وقتلها بدون حق يتحمل إثمًا عظيمًا؛ إذ هو بفعله هذا كأنما اعتدى على أرواح الناس كلهم وسَفَكَ دماءهم، وقد بين الله تعالى ذلك في قصة ابني آدم، وأن القاتل قد باء بإثم جرمه الذي ارتكبه، قال جل شأنه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
إن جريمة القتل لا يمكن أن تُرتكب من مؤمن صادق الإيمان، ولا يتصور أن يحدث ذلك منه إلا أن يكون عن طريق الخطأ وعدم القصد، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً [النساء:92]. أما القتل العمد من المؤمن والترصد له وتحيّن الفرصة لإزهاق روحه فإن ذلك لا يحدث من مؤمن، وإن حدث فإن الله تعالى قد أعد أشد العذاب وتوعد بأليم العقاب لكل من خالف فاعتدى على نفسٍ مؤمنةٍ فأزهقها، قال جلّ وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وذلك كله تحذير للناس كلهم من الاعتداء على النفوس المؤمنة، إذ لها عند الله تعالى مكانة عظيمة ودرجة سامية كريمة.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك؛ ماله ودمه)) رواه ابن ماجه، وقال : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه ابن حبان في صحيحه.
إن المسلم وهو يسمع هذا الوعيد الإلهي لمن قتل نفسًا بغير حق لينأى بنفسه عن الوقوع في ذلك، ويبتعد عن ارتكاب أي عملٍ من شأنه أن يكون سببًا في إزهاق نفس مؤمنة، وتظهر فظاعة هذه الجريمة وعِظمها بما يتحمله القاتل من الآثام والذنوب من مساواته بقتل البشرية كلها في الآية الواردة في ذكر قتل ابن آدم لأخيه، وما ذكره الله تعالى أنه من أجل تلك الفعلة الشنيعة كتب على بني إسرائيل ذلك الجزاء العظيم على أي قاتل منهم اعتدى على نفسه فقتلها بغير حق، وهذا الحكم يشمل من حصل منه ذلك الجرم العظيم ووقع فيه من هذه الأمة المحمدية فأزهق نفسًا منها؛ لأن نفوس بني إسرائيل ودماءهم ليست أعز ولا أكرم على الله من دماء هذه الأمة التي جعل الله لها الخيرية والأفضلية على سائر الأمم الأخرى، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أمّةَ الإسلام، أمّةَ الأمنِ والإيمان، ولقد فُجِع كلُّ ذي دينٍ ومروءَة، بل كلّ ذي عقلٍ وإنسانيّة بالعمل الجبانِ الإجراميّ والفِعل التخريبيّ والتصرّف الأرعَن الإرهابيّ الذي حدَث مؤخّرًا في مدينة أبقيق، حفظها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين من عبث العبثين ، إنَّ ما حدث يُعدّ جريمةً شنعاء وفِعلة نكراء لا يُقِرّها دين ولا عقلٌ ولا منطقٌ ولا إنسانية، وهي بكلّ المقاييس أمرٌ محرَّم وفعلٌ إجرامي وتصرّف مرذولٌ مقبوح وعملٌ إرهابيّ مفضوح وسابقةٌ خطيرة ونازلةُ شرٍّ مستطيرة، فإنَّ كلّ عملٍ تخريبيّ يستهدِف الآمنين ويروّع المسلمين ويستنزف خيرات المسلمين مخالفٌ لشريعة ربّ العالمين.
وإذا كان هذا الحكمُ عامًّا في كلّ زمان ومكان فكيف إذا كان في بلاد الحرمين ومهبِط الوحي ومنبَع الرسالة ومَهد الإسلام والسلام ومعقِل السنة والقرآن وقِبلة المسلمين ومحطِّ أنظارهم ومهوى أفئدتهم، بل العُمق الدينيّ والعقديّ والبعد الإستراتيجيّ والثِقَل الدولي في الأمّة، بل في العالم أجمع؟! وكيف إذا كان المستهدَفون مسلمين معصومين وأبرياء غافلين مواطنين ومقيمين؟! إنه لأمر مؤلمٌ حقًّا ومؤسِفٌ صِدقًا، قتل للأبرياء وترويع للآمنين، واستهداف خطير لمقدّرات الأمة واقتصادها وإتلاف للممتلكات، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون أنفسهم ولا غيرهم، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية، فوا عجبًا لهم!
أين يذهب هؤلاء القتلةُ المجرِمون من قوله سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! ألم تقرَع أسماعَهم نصوصُ الوعيد والتهديد والترهيب عن مِثل هذه الجرائم المروّعة التي هي قرينةُ الإشراك بالله، بل حتى في ترويع المسلم والإشارة إليه بالسلاح؟! أين هم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أوّلُ ما يقضَى بين الناس في الدماء)) ، وقوله : ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) ، ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله مِن قتل رجل مسلم)) خرجه الترمذي والنسائي وغيرهما؟! أين يذهب هؤلاء من شهادة أن لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّهم يوم القيامة؟! كما في الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله قال له: ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) وغضِب عليه الصلاة والسلام واحمرّ وجهُه كأنما تفقّأ فيه حبُّ الرّمّان وهو يقول لأسامة: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تقيَّةً، أي: خوفًا من القتل، قال: ((أشققتَ عن قلبه؟! كيف تصنعُ ـ يا أسامة ـ بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّك يوم القيامة؟!)) قال رضي الله عنه: فوددتُ أني لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ.
الله أكبر، هذا فهمُ الصحابة الأبرارِ والسلف الأخيار لحرمةِ الدماء المعصومةِ. فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى من نابتةٍ أغرار وشِرذمة أشرار، حُدثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، ركبوا رؤوسَهم، ، فأحدثوا فِتنًا وفواجعَ وشرورًا.
وبكلّ مرارةٍ وأسى أنهم أبناؤنا بغَوا علينا، وشبابُنا خرجوا علينا، وخَرقوا سياجَ أمّتنا ووحدة بلادنا، كفى بهم لؤْمًا ودناءة أن ينشَؤوا على ترابها ويأكُلوا من خيراتها ثم يقلِبوا لها ظهرَ المجَنّ نسفًا وتدميرًا وتخريبًا وتفجيرًا. لقد بلغ السيلُ زُباه، وجاوَز الظلمُ والطغيان مداه، ووصل الأمر منتهاه، وأُميط اللّثام عن خفافيشِ الظلام، واتَّضح الأمر بجلاء عن هذا الفِكر الآحاديّ المنحرف. فيا ويحَ هؤلاء، ألا يفيقون؟! ألا يرجِعون ويرعَوون؟!
إخوةَ الإسلام، إخوةَ الإيمان، لقد وصل الإجرامُ ذروتَه باستهدافِ أهم صادرات البلاد وأهم اقتصادها, بل تجاوز ذلك الاعتداء إلى فئةٍ تسهَر لينام الناس، وتتعَب ليستريح سائرُ الأجناس، إنهم رجالُ أمننا وجنود بلادنا.
فيا رجال أمننا، هنيئًا لكم شرفُ خدمةِ دينكم وعقيدتكم وبلادكم ومقدّساتكم والذود عن حياضكم وأوطانكم ومقدّراتكم. رحم الله موتاكم، وكتبهم في عِداد الشهداءِ الأبرار، وبوّأهم منازلَ الصديقين والأخيار، وعجّل بشفاءِ مُصابيهم وجَرحاهم، ولا أرى البلادَ والعباد أيَّ سوء ومكروه، وحفِظ الله لبلادنا المباركةِ أمنها وإيمانها، فلن تزيدَها تلك الأعمال الإجراميّة بحول الله إلا تماسُكًا وثباتًا.
أيها الإخوة في الله، يجب على جميعِ أفراد المجتمَع أن يكونوا عيونًا ساهرةً في الحفاظ على أمنِ هذه البلاد والإبلاغ عن كلّ متورّطٍ أو داعمٍ لهذه الأعمال الإجراميّة والأفعال التخريبية، حفاظًا على سفينة المجتمع من قراصنة العُنف والإرهاب وسماسرة التخريب والإرعاب. لا بدّ من حراسة الأمن بكلّ صوَرِه، لا سيّما الأمن الفكريّ أمام الأفكار المنحرفة والتيّارات الضالّة، سواءً في جانب الغلوّ والعنف والفِكر التكفيريّ، أو التغريبيّ والعولميّ. وهنا يأتي دورُ البيت والأسرةِ والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، حتى يسلَم العباد وتأمن البلاد.
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، وأدام علينا نعمةَ الأمن والأمان.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4591)
الوقفات الخمس لاستثمار حملة الإساءة لرسول الله
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عماد أبو الرُّب
كييف
المركز الثقافي الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة الاستهزاء بالنبي. 2- وقفة مع الغرب وعقلائه. 3- وقفة مع الإعلاميين. 4- وقفة مع الساسة والحكام. 5- وقفة مع العلماء والدعاة. 6- وقفة مع جميع المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم من عصيانه ومخالفة أمره ونهيه، لقوله عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، ولقوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
فيا أمة الإسلام، يا أمة الإيمان، يا أمة التوحيد، يا أمة لا إله إلا الله، يقول الحق تبارك في علاه في كتابه العزيز: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ويقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
هزّنا كما هزّ العالم أجمع هذه الحملات المشينة والتي تقصد إلى الإساءة لرسول الله محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكم آلمتنا بما فيها من استهزاء وسخرية بمعتقدات أمتنا الإسلامية، بل بقيم الأمم ومثُلها التي لا زلنا ننادي بأهمية حفظها واحترامها وتجنب الإساءة لها.
وبنفس الوقت أقول: رب ضارة نافعة، فعلى رغم رفضنا لمثل هذه الحملات المسيئة لنا ولاعتقادنا إلا أنها أحيت فينا وفي الأمة جمعاء حبَّ نبينا وعزّتنا بديننا بعد أن ذاب البعض أو كاد أن يذوبَ في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها.
وحتى لا نضيِّع فرصة التفاف الجهات الرسمية والشعبية في البلدان العربية والإسلامية في رد وصد هذه الحملة والتي تعتبر بداية خير إن شاء الله نأمل أن تدوم وتتعمّق في مختلف القضايا التي تتعرّض لها الأمّة أفرادًا وجماعات، وحتى نوظّف هبة الأمّة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها لنصرة الحبيب المصطفى عليه السلام، وحتى نفيد من وقفة بعض عقلاء الغرب وحكمائه في نصرتنا وتأييدنا أجد أهمّية أن نقف معًا خمس وقفات نضع فيها النقاط على الحروف:
الوقفة الأولى: مع الغرب وعقلائه:
كم عانينا من تصريحات بعض الغربيّين الذين لا يتكلمون إلا بلغة الفوقيّة والعنجهية، لغة الصدام والكراهية. فرغم ما نسمعه من دعاة الحوار بين الحضارات ومن الدينيِّين الذين ينادون بلغة السلام والتعايش إلا أننا نصدَم بغلة السياسيّين والعسكريين الغربيّين الذين يثيرون بتصريحاتهم هذه قلقَنا حيال مصداقية الغرب وأهله فيما يدعون إليه ويزيّنونه في شعاراتهم ولقاءاتهم التلفازية والصحفية.
وليس أدل على ذلك ما عبر عنه عسكريّو الغرب في حرب البوسنة: "نحن فرسان الصليب"، وحينما دخل القائد الإنجليزي اللنبي سنة 1917م مدينة القدس قال كلمته الشهيرة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية"، وحينما دخل القائد الفرنسي غورو دمشق ووقف عند قبر صلاح الدين قال بشماتة: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". وفي اليوم الحاضر شبّه بوش الابن في ردّة فعله على أحداث سبتمبر الأليمة بالحروب الصليبية!! وقبل أيام يقف وزير الإصلاح الإيطالي روبرتو كالديرولي بكل وقاحة وسخافة ليدعوَ إلى استخدام القوّة ضد المسلمين، وتدخّل البابا بنديكتوس السادس عشر لتنظيم ما يشبه حملة صليبية جديدة.
أقول لعقلاء الغرب ومسالميه: كُفّوا عنا مثل هذه الأصوات التي تحسَب عليكم، بل وربما تغطّي على أعمالكم البنّاءة التي تنادِي للتعايش والتعاون بين الحضارات والثقافات المختلفة. أسمعونا صوتكم وطمئِنونا ببذل كلّ جهد لإلجام تيك الأصوات المعادية لكل خير وأمن وسلم بين الشعوب. اعقدوا المؤتمرات والندوات وانشروا المقالات والدراسات بين ظهرانيكم لتثبتوا صدق مبادئكم ونظرياتكم. ولن تجدوا منا إلا المعاملة بالمثل بالحسنى، بل بما هو أحسن؛ لأننا نلتزم مبادئ ديننا الحنيف ونلزِم به غيرنا.
وأذكركم بمقولة شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحدّ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه" اهـ من الصارم المسلول (ص116-117).
الوقفة الثانية: مع الإعلاميين:
تأكدوا أنكم أول شرارة لإشعال الفتن والاضطرابات بين الناس، وأنكم بنفس الوقت صمام أمان لحفظ الأنفس وصون الممتلكات ونصر القيم. فأرونا ماذا أنتم صانعون، وعن أي المبادئ منافحون، وأيّ الأصوات تنشرون. الأمانة والموضوعية المهنيّة تقتضي منكم أن تكونوا يدًا بانية لا هادمة، وأن تكونوا سدًا منيعًا أمام مثل هذه الإساءات والمهاترات، لا مدفعًا مهاجمًا للمعتقدات والخصوصيات. وتذكّروا أنكم السلطة الرابعة في أي مجتمَع، وبيدكم وحدكم تستطيعون نشر القيَم والدعوة لها والذود عنها، أو نشر الرذيلة والدعوة لها والذود عنها. كونوا أتباع ضمائركم وأبناء عقلائكم وحملة لواء الحرية المسؤولة التي لا تعتدي على معتقدات الآخر ومقدساته، واجعلوا هذه الراية خفاقة تعلو على رايات البغض والكراهية والحقد والإساءة. دلّلوا على تجاوبكم بنشر صورة صحيحة عن الإسلام من أهله لا من غيرهم، وحينها وحينها فقط تكونون بحق أمناء على رسالتكم التي تحملون وحياديّتكم ونزاهتكم ومصداقيتكم التي توفّر مناخًا من الحب والود بين أبناء الثقافات المختلفة.
وأقول لكم كذلك: إن الله صرف عن نبيه إساءة الحاقدين اليوم كما صرفها الأمس، وذلك مصداقا لحديث رسول الله الذي ورد في لصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتِمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّدٌ)).
الوقفة الثالثة: مع الساسة والحكام:
أقولها بداية لكم ـ يا حكام العرب والمسلمين ـ بكل أمانة وشفافية: كم سعدنا بوقفتكم مع نبيكم ورسولكم محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكم سرَّنا التفافكم مع شعوبكم لنصر الدين والعقيدة ونصر القيم والمثل الرفيعة، ورأيتم كم كان الأثر لوقفتكم هذه على المستوى الدولي والعالمي والتي تؤكّد مقولة عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). نأمل منكم أن تتواصلوا مع أمتكم في نصرها في الحق والأخذ على يدها إذا خرجت عن الحق. وما أعظمه من أجر تنالونه عندما تدافعون عن الحق وأهله، وتؤكدون على مبادئ هذا الدين الحنيف الذي جاء به سيد الأنبياء والمرسلين.
الوقفة الرابعة: مع العلماء والدعاة:
أشهدكم الله أنّا بفضل الله أولاً ثم بجهودكم وعلمكم وحكمتكم ومثابرتكم وصبركم نلنا الكثير من الخير الذي أرشدتمونا إليه ونصحتمونا به، وما أجملها من ثمار قطفناها نتيجة توجيهكم للأمة وإرشادكم لها كي تنهج نهج النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أوصيكم بتقوى الله أولاً فيما تحدثون وتقولون، وأوصيكم بتوجيه الناس إلى هذا الدين العظيم حكامًا ومحكومين، كونوا لهم الناصح الأمين والمعلم المتقن والأب الحنون والطبيب المعالج والصديق الوفي. بكم وبهمتكم تنهض الأمة من سباتها، وبسلوككم وأخلاقكم تقتدي الأمة، ومن علمكم وحكمتكم تنهل الأمة. الله الله في عوام المسلمين وحكامهم، إياكم أن تتملقوا لأحد أو تداهنوا على حساب الدين أحدا. اجعلوا آراءكم وأحاديثكم لهم فيها اليسر مع تجنب مخالفة الشريعة، وأدوا أمانة العلم الذي أنعم الله به عليكم من خلال عقلانية الطرح وموضوعية التفسير وأصالة الفعل. اعلموا أنكم رأس الأمة في أزماتها، أقيموا الإسلام في نفوسكم ليقيمه غيركم من المسلمين، وبذلك تكونون قد أسديتم للأمة وللدين الحنيف معروفًا لن يقدر أحد على إثابتكم عليه سوى الجبار الواحد الأحد والذي بيده مقادير كل شيء.
نفعنا الله بعلمكم، وجعلكم ذخرًا لنا وللإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان.
الوقفة الخامسة: مع المسلمين أجمعين:
أقول لكم: الزموا دين الله وسنة نبيّه المصطفى عليه الصلاة وأتم التسليم، كفاكم لهوًا وغفلة وتخاذلاً، سيروا مع علمائكم ودعاتكم للخير والزموه، قدموا أموالكم ووقتكم وأرواحكم فداء لهذا الدين العظيم، عيشوا بالإسلام وللإسلام، وإياكم أن تفضلوا الدنيا الفانية وزينتها على الآخرة الباقية ونعيمها الخالد، قاطعوا إذا دعاكم علماؤكم، راسلوا وابذلوا وقدّموا وأعينوا بكل ما تستطيعون، عوّضوا عن أيام سباتكم السابق بهمة ربما تحيي أمة، كونوا كسلفكم الصالح أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وصلاح الدين وقطز والسلطان عبد الحميد وأحمد ياسين وغيرهم من كوكبة عظماء الإسلام ورواده الصادقين، انظروا كيف ألزمتم العالم كله أن يقف معتذرا لكم عن الإساءة لنبيكم خوفًا على مصالحه ورغبة في تجنب استفزازكم.
تعلموا دينكم، وعلموا أبناءكم في المساجد والمراكز الإسلامية، أنشئوهم على تقوى الله وحب الله والعيش لله، كونوا معهم عبادًا لله منيبين مستغفرين طائعين ملبين، وستجدون كيف أن الدنيا كل الدنيا ستقف تحت أقدامكم خاضعة ذليلة. اقهروا شهواتكم بلذة الطاعة، أذيبوا الشحناء من قلوبكم ببركة الأخوة الإسلامية، أزيلوا الظلام بنور القرآن وهدي السنة بسلوككم الذي يتمثل بهما.
أسأل الله تعالى أن يكتب لنا وقفة صادقة مع نبيه ودينه، وأن يستخدمنا في نشر الخير والدعوة للخير والذود عن الخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4592)
الحياء لا يأتي إلا بخير
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد الرحيم الراوي
غير محددة
12/2/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان كون الحياء شعبة من شعب الإيمان. 2- أنواع الحياء وفضله في خصال الخير والأخلاق. 3- مظاهر الحياء الإيمانية. 4- مظاهر قلة الحياء في النساء والرجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: في جانب تصحيح العقيدة دعا الإسلام إلى التخلق بالحياء وحث عليه، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) متفق عليه، وفي رواية المسلم: ((الحياء كله خير، الحياء خير كله)) ، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان)) متفق عليه. والبضع من الثلاثة إلى العشرة، والشعبة القطعة والخصلة، والإماطة الإزالة، والأذى ما يؤذي كحجر وشجر وشوك وطين ورماد وقذر وزجاج ونحو ذلك.
عباد الله، اتقوا الله، واستحيوا منه حق الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم، يسمع ويرى، فلا تبارزوه بالمعاصي وتظنوا أنكم تخفون عليه، فإنه يسمع السر والنجوى.
عباد الله، إن الحياء خصلة حميدة تكفّ صاحبها عما لا يليق.
عباد الله، الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحق، قال ابن القيم رحمه الله: "والحياء من الحياة، ومنه الحيا للمطر، وعلى حسن حياة القلب يكون فيه قوّة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم".
والحياء يكون بين العبد وربه عز وجل، فيستحي العبد من ربه أن يراه على معصيته ومخالفته، وهذا الحياء بيّنه رسول الله في الحديث الذي في سنن الترمذي مرفوعا أن النبي قال: ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قالوا: إنا نستحي يا رسول الله! قال: ((ليس ذلكم، ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطنَ وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل فقد استحى من الله حق الحياء)).
معاشر المسلمين، فقد بين رسول الله في هذا الحديث علامات الحياء، وأنها حفظ الجوارح ـ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ـ بترك المعاصي، وبتذكر الموت وتقصير الأمل في الدنيا، وبعدم الانشغال عن الآخرة بملاذ الشهوات والانسياق وراء الدنيا، وفي الحديث الآخر: ((إن من استحى من الله استحى الله تعالى منه)). نعم، وحياء الرب سبحانه من عبده حياء كرم وبرّ وجود وسِتر وجلال؛ فإنه سبحانه حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا، ويستحي أن يعذّب ذا شيبة شاب في الإسلام.
ويكون الحياء بين العبد وبين الناس بأن يكفّ العبد عن فعل ما لا يليق به، فيكره أن يطلع الناس منه على عيب ومذمّة، فيكفّه الحياء ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق.
فالذي يستحي من الله يجتنب ما نهاه عنه في كل حالاته، في حال حضوره مع الناس وفي حال غيبته عنهم. وهذا حياء العبودية والخوف والخشية من الله عز وجل، وهذا الحياء من أعلى خصال الإيمان وأعلى درجات الإحسان، وفي الحديث: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
والذي يستحي من الناس لا بد أن يكون مبتعدا عمّا يذمّ من قبيح الخصال وسيئ الأعمال والأقوال، فلا يكون سبابا ولا شتاما ولا صخّابا، ولا يكون فاحشا ولا متفحّشا، ولا مجاهرا بمعصية ولا متظاهرا بقبيح. حياؤه من الله يمنعه من فساد الباطن، وحياؤه من الناس يمنعه من فساد الظاهر، فيكون صالحا في باطنه وظاهره، في سره وعلانيته؛ فلهذا صار الحياء من الإيمان، ومن سلب الحياء لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، وصار كأنه لا إيمان له كما قال النبي : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.
يا أمة القرآن، من لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر، وانغمس في كل رذيلة وشرّ، لا يبالي بالرقيب والعتيد، ولا بمن حوله من الناس، عن ابن عباس قال: (الحياء والإيمان في قرن، فإذا نزع الحياء تبعه الآخر)؛ ولهذا لما قَلَّ الحياء في هذا الزمن أو انعدم عند كثير من الناس كثرت المنكرات وظهرت العورات، وجاهروا بالفضائح، واستحسنوا القبائح، وقلّت الغيرة على المحارم وانعدمت، بل صارت القبائح والرذائل عند بعض الناس فضائل، وافتخروا بها وقلبوا الحقائق؛ الفاسق الداعي إلى الفساد ومحاربة الإسلام وقتل الدين مطربٌ ومغني وفنّان، الفاسقة الفاجرة الداعية إلى التفسّخ والفسق والفجور مغنّيةٌ فنّانة مطرِبة.
يا أمة القرآن، ومن ذهاب الحياء من النساء اليوم ما ظهر في الكثير منهن من عدم التستر والحجاب والخروج إلى الأسواق متطيبات متجملات كاشفات عما أمر الله بستره. ومن ذهاب الحياء من بعض الرجال والنساء شغفهم باستماع الأغاني المختلفة ومشاهدة الأفلام الخليعة والمسلسلات القاتلة للمروءة والحياء، والتي خربت بيوت الغرب والشرق، وعافتها نفوسهم فصدّروها إلى العالم الإسلامي والعربي بأغلى الثمن.
يا أمة الإسلام، فهل من الحياء أن تعرض الأفلام الخليعة في البيت أمام العائلة المختلطة بالضيوف في الغرفة الواحدة من ذكور وإناث؟! اللهم لا. وأين الحياء فيمن يشتري الأفلام الخليعة برزق أولاده وصالح بيته ويعرضها في منزلة أمام أولاده ذكورا وإناثا بما فيها من مناظر الفجور وهتك الأخلاق وإثارة الشهوة والدعوة إلى الفحشاء والمنكر؟! وأين الحياء من المريض الذي ينفث الدخان الخبيث من فمِه في وجوه جلسائه وأمامه ومن حوله؛ يخنق أنفاسهم ويقزّز نفوسهم ويملأ مشامهم من نتنه ورائحته الكريهة؟! وأين الحياء من الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية ويتعب المراجعين ويعطل مصالحهم؟! وأين الحياء من التاجر الذي يخدع الزبائن ويغشهم في السلع ويكذب على الناس؟! وأين الحياء من الذي يتعامل بالرشوة والذي يدعو إلى الربا؟!
أيها الناس، إن الذي هبط بالناس إلى هذا المستوى المذموم هو ذهاب الحياء من الله، كما قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في تصرفاتكم، فإنه يراكم على كل حال.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4593)
مراتب الجهاد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, القتال والجهاد
عبد الرحيم الراوي
غير محددة
8/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. 2- الحياة كلها جهاد وتعب وكدح. 3- مجاهدة النفس والشيطان. 4- مجاهدة الكفار والمنافقين. 5- مجاهدة أهل المعاصي والمنكرات. 6- لكلٍّ جهاده الذي شرع له وأكمل الناس من اجتمعت فيه مراتب الجهاد والمجاهدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:77، 78]، وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال: سئل رسول الله عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
عباد الله، إن الله عز وجل خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا، واقتضت حكمته تعالى في سابق أزله وعلمه أن تكون حياة الناس فيها حياة عبادة وطاعة لله، وأن تكون حياة كدّ وسعي في طلب الرزق والحصول عليه بالعمل الشرعي، وهكذا جعل الله هذه الحياة الدنيا دار إيمان ويقين وعمل، ودار صبر وثبات وجهاد ومقاومة للنفس الأمارة بالسوء والهوى والشيطان، وضدّ كل من أراد أن يمسّ بعزة المسلم وكرامته أو ينال من مقدسات دينه ومقاومات وطنه، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
نعم، وكانت الحياة الأخرويّة حياة ثواب وجزاء عند الله من جنس العمل، قال سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، قال : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) ، وإن منازل المجاهدين من أعلى منازل أهل الجنة، لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة.
نعم معشر المسلمين، فالله أمر عباده أن يتّقوه حق تقاته؛ بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فحقّ جهاده أيضا أن يجاهد العبد نفسه يسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون حاله لله وبالله.
الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين وأصحاب المعاصي والمنكرات. وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلّها، والخلق متفاوتون عند الله في منازلهم كتفاوتهم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان النبيّ أفضل الخلق وأكرمهم وأكملهم؛ لأنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاد حتى أتاه اليقين.
عباد الله، فالمسلم في هذه الحياة بين ثلاثة أعداء، كلهم يحتاج إلى جهاد: النفس والشيطان وأهل المعاصي من الكفار والمنافقين والفساق. وجهاد النفس هو الأساس، وما عداه فَرع منه، وقد سلّط الله على العبد هؤلاء الأعداء الثلاثة ابتلاء وامتحانا، وأمره بجهادهم، وأعطى مددا وسلاحا لمحاربتهم، ولكنه كيف يستعمل هذا السلاح؟
فجهاد النفس يكون بإلزامها بتعليم الهدى من القرآن والسنة والعمل بذلك والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ومنع النفس من شهواتها المحرمة.
وجهاد الشيطان يكون بتكذيب وعدِه وعصيان أمره، فإن الشيطان يعد الأماني ويمنّي الغرور ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وينهى عن التقوى، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم:22]، وقال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، وقال سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
وأما جهاد العصاة وأصحاب المنكرات فهو على ثلاث مراتب: جهاد باليد إذا قدر على ذلك، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بالقلب بأن يبغضهم بقلبه ويبتعد بقلبه عن مخالطتهم، كما قال النبي : ((من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وأما جهاد المنافقين فيكون باللسان، وذلك برد شبههم ودحض مفترياتهم التي ينشرونها بين المسلمين بقصد التحذير والإرجاف والإفساد؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، يظهرون الإصلاح ويخفون الإفساد، ويعيشون بين أظهر المسلمين، فشرهم خطير، وأذاهم للمسلمين كثير، المنافقون دائما يحاولون الإفساد وتفريق كلمة المسلمين وزرع العداوة بينهم، وقد أمر الله بجهادهم، وذلك بالحجة والبيان وتحذير المسلمين من شرهم وبيان صفاتهم الخبيثة حتى يعرفهم المسلمون على حقيقتهم فيحذروهم.
وأما جهاد الكفار فيكون بالقلب واللسان والمال والنفس، فيجب على المسلمين أن يجاهدوا الكفار بأموالهم وأنفسهم؛ لأن الله أمر بذلك في آيات كثيرة، ومن عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، قال سبحانه وتعالى: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:1، 2].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4594)
مكانة لا إله إلا الله
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
عبد الرحيم الراوي
غير محددة
16/11/1419
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الإنس والجن. 2- نعمة الله على عبادة أن عرفهم التوحيد. 3- ثواب من شهد بالحق صادقا. 4- أركانها وشروطها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى أمرًا عباده بإفراده بالعبادة والتوحيد وإفراد رسوله بالاتباع، وذلك يتجلى في تحقيق مدلول لا إله إلا الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وقال : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) رواه الترمذي، وعن عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي أحد الفقهاء بدريّ مشهور قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) أخرجاه.
أيها الناس، إن "لا إله إلا الله" كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها المخلوقات، وبها أرسل الله رسله وأنزل كتبة وشرع شرائعه، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار. فهي منشأ الخلق والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد. فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون.
يا أمة الرسول العظيم، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ جواب الأول يكون بتحقيق لا إله إلا الله معرفةً وإقرارا وعملا، وجواب الثانية يكون بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وانقيادا وطاعة.
يا أمة الإسلام، هذه الكلمة العظيمة هي الفارق بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون، وهي التي شهد الله بها على نفسه وشهد له بها ملائكة وأولو العلم من خلقه، فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:18، 19]. وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق ودعوة الحق وبراءة من الشرك، ولأجلها خلق الله الخلق فقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب فقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال ابن عيينة رحمه الله: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرّفه لا إله إلا الله".
وإن "لا إله إلا الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر. ففي الصحيحين عن النبي قال: ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله)) رواه مسلم في الإيمان. وهي أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام، فإن النبيّ لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) أخرجاه في الصحيحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
يا أمة الإسلام، "لا إله إلا الله" لها فضائل عظيمة، ولها من الله مكانة جليلة، من قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وماله وأحرزت ماله في الدنيا وحسابه على الله عز وجل، وهي كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان. روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)). فالحديث يدل على أن "لا إله إلا الله" أفضل الذكر، ولكن قد شرط أهل العلم شروطا سبعة، وقبل بيان الشروط أبين لكم ركني لا إله إلا الله، الركن الأول: النفي، والركن الثاني: الإثبات. والمراد بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله تعالى من سائر المخلوقات، والمراد بالإثبات إثبات الإلهية لله سبحانه، فهو الإله الحق، وما سواه من الآلهة التي اتخذها المشركون باطلة، قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
معشر المسلمين، "لا إله إلا الله" لا تنفع قائلها إلاّ بتحقيق سبعة شروط:
الشرط الأولى: العلم بمعناها نفيا وإثباتا، فمن تلفظ بها وهو لا يعرف معناها ومقتضاها فإنها لا تنفعه؛ لأنه لم يعتقد ما تدل عليه، كالذي يتكلّم بلغة لا يفهمها.
الشرط الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها النافي للشك والريب
الشرط الثالث: الإخلاص المنافي للشرك، وهو ما تدلّ عليه لا إله إلا الله.
الشرط الرابع: الصدق المانع من النفاق، فإنهم يقولون بألسنتهم غير معتقدين لمدلولها.
الشرط الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه، والسرور بذلك، بخلاف ما عليه المنافقون.
الشرط السادس: الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته، وهذا هو مقتضاها.
الشرط السابع: القبول المنافي للردّ، وذلك بالانقياد لأوامر الله وترك ما نهى عنه.
ملاحظة: الشروط قد استنبطها العلماء من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بخصوص هذه الكلمة العظيمة وبيان حقوقها وقيودها، وأنها ليست مجرد لفظ يقال باللسان.
(1/4595)
القاتلة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/4/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة اعتداء الإنسان على نفسه. 2- انتشار ظاهرة التدخين. 3- أضرار التدخين على البدن والدين والمال والمجتمع. 4- نصائح وتوجيهات للمدخنين. 5- أسرار عن الشركات المنتجة للدخان. 6- إحصائيات عن قتلى التدخين. 7- دراسة حديثة تكشف حجم الإنفاق على التدخين في المملكة ومعالجة أمراضه. 8- الأسباب التي يجب اتخاذها لتقليل مشكلة التدخين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى أباح لعباده كلَّ نافع، وحرَّم عَليهم كلَّ ضارّ، فكُلُّ أمرٍ تحقَّقَ ضرَره وغلَب شرُّه وبَلاؤه فدينُ الإسلام حمَى المجتمعَ منه، فحرَّمه عليهم حمايةً لهم، وأَوجَب على المسلم المحافظةَ على نفسه، وحرَّم عليه التعدِّي عليها، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فحرَّم عليه الاعتداءَ على أيِّ عضوٍ مِن أعضائه؛ لأنها ليسَت ملكًا له، بل هو مُؤتمَن عليها، وإنَّ التعدّيَ عَليها يُعد جريمة متوعد صاحبها بالعقاب من الله جل وتعالى.
أيها المسلمون، إن التغذّي بالطيبات له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك كذلك.
ألا وإن من الخبائث التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين اليوم ظاهرة التدخين الذي فشا شربه في العرب والعجم، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، حتى النساء لم تسلم منه، وصار شُرَّابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء؛ بحيث إن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة، ومصدر ذلك كله فم المدخّن، لا يراعي لمُِجَالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله، ولو أن إنسانًا تنفّس في وجه هذا المدخن أو امتخَط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل، وهو يفعل أقبح من ذلك، ولكن الأمر كما جاء في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
أيها المسلمون، إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع، ومعلوم أن نوعًا واحدًا من هذه المضار كافٍ، فكيف بها جميعًا؟!
أما ضرره على البدن فهو يضعفه بوجه عام، ويضعف القلب، ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر، ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبًا، ويسبب صداع الرأس، ويقلل شهوة الطعام، ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي، ويضعف شهوة النكاح، ويشوّه الوجه بحيث يجعله كالحًا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها؛ وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة، وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين وما ينتج عنه، وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم، وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وما دام قد ثبت أن التدخين من أعظم ما يجلب الأمراض للجسد وأن البعض يسميه بالانتحار البطيء فإنه يخشى أن يكون متعاطيه ممن قتل نفسَه ودخل في قول النبي : ((ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم.
وأما ضرره على الدين فإن الله جل وتعالى يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]. ذكر الله تعالى أن من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة، وهذه العلة تتحقق في الدخان؛ فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة، ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبًا السبب الرئيس لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله، وهكذا سائر العبادات، وما كرّه العبدَ للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، فهذا يكون سببًا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات، نسأل الله السلامة.
وأما ضرره على المال فاسأل من يتعاطاه كم ينفِق فيه من الريالات، وقد يكون فقيرًا ليس عنده قوت يومه وليلته، ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة، ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه من إخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة، لكن من يتذكر ويتعظ؟! فهل ترضى ـ أيها المدخن ـ بأن تودِع النار في صدرك بثمن تدفعه مقدمًا، وأن تشرب نارًا وتدفع مقابل ذلك دينارًا؟!
وأما ضرر شرب الدخان على المجتمع فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه، ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه؛ بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس، يخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم، امتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات، حتى عند أبواب المساجد، بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
ثم كيف يليق بعاقل أن ينفخ الدخان في وجوه من حوله وينفثه بحضرة من هم أكبر منه سنًا وأعلى قدرًا؟! بل كيف يرضى بنفثه في وجوه من يجلسون من أبنائه وبناته وزوجته ويكدّر عليهم صفو جلستهم؟! أليس من حق الزوجة أن لا تجد من زوجها إلا رائحة زكية طيبة أم أن الزوج لا يرى إلا بعين واحدة؟! كيف وقد أكدت آلاف التقارير الطبية أن التدخين يسبب الضرر لغير المدخنين الذين يعيشون مع المدخن مثل الزوجة والأطفال وزملاء العمل؟! والله قد نهى عن أذى الآخرين فقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وقال : ((من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بإسناد حسن. وإذا كان النبي قد نهى من أكل الثوم والبصل أن يغشى المجالس وأن يحضر صلاة الجماعة على أهميتها القصوى بسبب الرائحة فإن رائحة التدخين أشد من رائحة البصل والثوم؟! ناهيك عن أن البصل والثوم من المباحات والدخان ليس كذلك. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر قوله : ((من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)).
ومن مضار التدخين الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث. ومع الأسف تنشر في بلاد المسلمين وفي صحفهم ومجلاتهم دعايات وإعلانات تشجع الشباب والمراهقين على التدخين، ويكتب والخط العريض "تعالَ إلى المتعة". وأقبح من ذلك أن مروجي الدخان من الكفرة وأذنابهم يصوّرون للشباب أن شرب الدخان شعار للرجولة والفروسية، كما هو مشاهد في دعايات بعض أنواع الدخان، يصوّرون رجلاً على فرس يمسك بالسيجارة. فتعجب من قلب المفاهيم وتغيير الحقائق. الفرس الذي هو شعار الجهاد في سبيل الله والنبي قد نص على أن الخير معقود في نواصيها إلى يوم القيامة صار اليوم شعارًا للتدخين والعياذ بالله، لكن يزول عجبك إذا علمتَ أن الذي يمارس هذا العبث الإعلامي هم أعداء الله وأعداء رسوله من اليهود والنصارى وأذنابهم من العلمانيين والشهوانيين، عليهم من الله ما يستحقون.
لقد نجح أعداء الملة وخصوم الشريعة في نشر هذا السم بين المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن التدخين يهدم القِوى ويضعف الأجسام ويقضي على الصحة ويفسد أخلاق الشباب ويستنزف الثروات ويقلل الحياء ويزرع في النفوس اللامبالاة بالآخرين، وكل هذا يصب في صالح الأعداء.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروّعة التي تذهب بالأموال وتخرّب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالاً وأنفسًا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الدينية والاجتماعية والبدنية والمالية، فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟! فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق؟! بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا.
والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة، ولو رأى أحدنا إمامًا أو واعظًا أو رجلاً من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل، ولشهّر به في المجالس؛ وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق، يكفي أن المدخنين يدخلون دورات المياه لكي يقضوا وطرهم منه.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية، إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه، وأن تتركه طاعة لربك وحفاظًا على صحتك ومالك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. ولا تنس ـ أيها المدخن ـ أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدًا، ولتلاميذك إن كنت مدرسا، ولأصحابك ومخالطيك، فتكون قد جنيت على نفسك وعلى غيرك، وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك، فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح، فبادر قبل أن يغلق.
وقد أفتى كثيرٌ من العلماء المحققين بتحريمه؛ لما يترتب عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة، وقد أجمع العلماء على أن كل ما يؤدي إلى الضرر ويوقع في المهالك يجب اجتنابه، وفعله محرم، وقد قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه الإمام أحمد.
وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده، فثمنه سحت، والاتجار به مقت، وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز، وثمنه يحرم أكله، ومن تاجر فيه ـ أي: باعه ـ بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لمّا حُرمت عليهم الشحوم أذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين، فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالاً حرامًا، ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم، وإن دام لا ينفع، وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله، وانظروا في العواقب، فإن في الحلال غنية عن الحرام، وقد ورد في الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
ولو سألت أيّ مدخن عن هذه السيجارة التي يمسكها بين إصبعيه: هل هي من الطيبات؟ لأجابك بكل صراحةٍ واقتناع بأنها ليست من الطيبات، وإنها لا تجلب له منفعة ينفرد بِها عن الآخرين، بل هي كابوس جاثم على صدره، تتولد منه أنواع المآسي والأضرار، يكفيك قبحًا فيه أن جميع من يشربه يود تركه. نسأل الله تعالى أن يعينهم على تركه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن أول ظهور للتدخين في العالم الإسلامي كان في حدود الألف هجرية، وحاربه العلماء والحكام أول الأمر، ثم استطاع تجار التبغ أن يغروا الحكومات بوضع ضريبة على التبغ تشكل دخلاً للدولة، وكانت تلك بداية السماح به، وانتشر التدخين بسبب المصالح المتشابكة المالية للشركات الضخمة ووكلائها المحليين، وبوجود دَخل للدول. وهناك مئات الفتاوى الصادرة من كبار العلماء على تحريمه وتجريمه والمطالبة بوضع عقوبات على بائعه ومورده ومستخدمه، بل إن مستخدم التبغ كان يجلد أربعين جلدة تعزيرًا إلى عهد قريب.
والآن يبلغ عدد المدخنين خُمس سكان العالم تقريبًا، ويدخنون يوميًا أكثر من 18 ألف مليون سيجارة، ووراء هذا كله شركات ضخمة همّها جمع المال ولو كان على حساب صحة الإنسان ودينه وخلقه وماله.
وتفاقم الوضع طبيًا وعلميًا وقانونيًا حينما ثبت بما لا يدع مجالاً للشك العلاقة بين التدخين والسرطان، وقد رفع عدد من مرضى السرطان شكاوى قانونيّة ضد شركات التبغ لاتهامها بتضليلهم وتسويق منتجات مسرطَنة، وقد نجح عدد من الأشخاص في الحصول على تعويضات من هذه الشركات بلغت ملايين الدولارات. وقد أثبتت الأبحاث الطبية وجود سبع وثلاثين مادة مسرطنة في السيجارة الواحدة، ومئات المركبات السامة الأخرى. وبمجرد إثبات هذه الحقائق الطبية وظهور الدعاوى على السطح ونجاح بعض المحامين في إثبات الضرر الحاصل من التدخين فقد انخفض عدد المدخنين في أمريكا إلى النصف تقريبًا، وفي بعض الدول الغربية كذلك، وتزايدت حدّة التحذير الصحي من التدخين، وتزايدت المطالبات القانونية ضدّ شركات التبغ الغربية، مما حدا بمعظم شركات التبغ الغربية إلى القيام ببعض الإجراءات التكتيكية والقانونية لكي تتهرّب من قبضة القانون، ومن تلك الإجراءات نقل مكاتبها الرئيسية إلى دول أخرى وتسجيلها هناك، لكي تتهرّب من تلك الملاحقات القانونية، وقد كان نصيب الدول الآسيوية والشرق أوسطية مع الأسف نصيب الأسد من تلك الشركات، فكانت بعض الدول من العالم النامي تعطي التسهيلات والدعم لشركات التبغ من أجل الحصول على بعض المكاسب المادية.
وإننا لنعجب تمام العجب من غفلتنا وجهلنا بهذه الحقائق! ففي الوقت الذي يتنامى فيه الوعي الصحي لدى الشعوب الغربية بأضراره يزداد لدينا الجهل، وتزداد حملات التسويق، وتنهال على تلك الشركات التسهيلات والدعم.
هل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن الدخان أعظم قاتل للبشر، حيث يقتل سنويًا أكثر من خمسة ملايين شخص؟! إذا كان الإيدز ـ والذي يعد من الأمراض الخطيرة في العالم ـ قتَل خلال العشرين عامًا الماضية ما يقرب من عشرة ملايين شخص فقط، بينما قتل التبغ خلال القرن العشرين أكثر من مائة مليون شخص، القنبلتان الذريتان اللتان ألقيتا على هيروشيما ونكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية قتلتا ربع مليون شخص فقط، بينما قتل التبغ في العام الماضي فقط خمسة ملايين شخص أي: أكثر من عشرين ضعفًا مما فعلته القنابل الذرية.
ففي سبيل المكاسب الضخمة للمبيعات يمكن أن تفعل هذه الشركات العملاقة كل شيء يخطر بالبال؛ ابتداءً من تكوين حكومات في العالم الثالث وشراء مسؤولين وإعلاميين، إنها حرب كاملة بكافة الوسائل، وهي لا تختلف في كثير أو قليل عن "مافيا المخدرات"، سوى أن المخدرات ممنوعة رسميًا، وتعاقب عليها الدول والحكومات عقوبات تصل إلى الإعدام، بينما يدخل التبغ إلى كل دول العالم بدون أي مساءلة.
وتقول الإحصائيات عن ضحايا التدخين في المملكة أنهم يبلغون الآن ثلاثة وعشرين ألف شخص كل عام.
إن قتل إنسان بريء يعتبر من أشنع الجرائم في جميع الأديان والقوانين والأعراف، والعالم كله يرتعب ويغضب ويثور عندما تقوم فئات بقتل عشرات أو مئات من سكان العالم الأبرياء، وهذه شركات التبغ تقتل كل عام خمسة ملايين شخص، وتصيب مئات الملايين بالأمراض والأسقام والعاهات دون أن تحاسب، بل على العكس من ذلك نعطيها مئات البلايين من الدولارات لقاء هذا العمل الإجرامي البغيض.
أيها المسلمون، لقد نهى الإسلام عن إضاعة المال والتبذير، وقد نهى رسول الله عن الإسراف في الوضوء والزيادة على ثلاث ولو كان الشخص على نهر جار، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]. نهى عن إتيان السفهاء أموالهم لأنهم يبذرونها واعتبرها أموال الأمة، ومن المعلوم فقهًا أن من يحرق عشرة ريالات عبثًا يحجر عليه باعتباره سفيهًا، فما بالك بمن يحرق كل عام أكثر من ألفي مليون دولار؟! نعم أكثر من ألفي مليون دولار، وهي ثمن التبغ الذي يستهلك في المملكة سنويًا، وأي تبذير وسرف وسفه أكبر من هذا؟! والأمة كلها تحتاج لكل دولار من هذه البلايين التي تصرف سفهًا في ثمن التبغ والتدخين.
ويؤدي التدخين إلى إصابة الملايين من الأشخاص بالأمراض، وبالتالي التغيب عن العمل وفقدان الدخل، وذلك يقدر بآلاف الملايين من الدولارات سنويًا. وأما ثمن التداوي من الأمراض ودخول المستشفيات فهي بمبالغ خيالية تبلغ التريليونات من الدولارات سنويًا على مستوى العالم، وقد حسب مستشفى التخصصي في الرياض خسائر علاج مرضى التدخين خلال عقدين من الزمن فوجدها تزيد على عشرة آلاف مليون ريال.
والمشكلة أن التدخين في العالم الثالث يزداد سنويًا بنسبة 10 في المائة، بينما تقوم الدول المتقدمة بخفض الاستهلاك بنسبة 5 إلى 8 في المائة سنويًا، وفي المملكة تم استيراد عام 1972م ـ وهي أول إحصائية مسجلة ـ 4.5 مليون كيلوجرام من التبغ، وبحلول عام 1984م ارتفع إلى 42 مليون كيلوجرام. بقي أن تعلم أن الكيلوجرام يساوي 1250 سيجارة. وبحلول عام 1994م وصل الاستهلاك إلى 45 مليون كيلوجرام، بلغ ثمنها الرسمي 1400 مليون ريال.
وهناك دراسة حديثة كشفت أن حجم الإنفاق على التدخين في المملكة ومعالجة أمراضه سنويًا يبلغ 14 مليار ريال. وبحسبة بسيطة فإن ما يصرف على التدخين في المملكة يكفي لبناء 1420 مدرسة، أو 58 ألف شقة سنويًا، وإنشاء 22 كلية في الجامعات بكامل ما تحتاج إليه. كما أن تكاليف التدخين تلك تكفي لبناء وتجهيز 27 ألف سريرٍ إضافيٍ في المستشفيات الحكومية، وإنشاء 7 آلاف كلم من الطرق السريعة المزدوجة، بالإضافة إلى أن تكلفة التدخين السنوية تلك تكفي لميزانية سنوية لأكثر من 14 جامعة، وتكفي لتقديم مساعدة لـ400 ألف عاطل عن العمل بمعدل 3 آلاف ريال شهريًا، عطفًا على توفير عدد كبير من فرص العمل الإضافية. فأين العقلاء؟!
وأخيرًا: فهذه نصيحة مشفق لمن ابتلي بهذا الداء العضال أن يلجأ إلى الله عز وجل أن يخلصه من هذا الإدمان، فكم من مدمن على التدخين لجأ إلى الله في السحر وصلّى ودعا وبكى فاستجاب الله له. وإننا نعرف أعددًا من هؤلاء المدمنين الذين توقفوا تمامًا عن الإدمان بعد صلاة خاشعة أو بعد دعوة صادقة أو بعد عمرة مقبولة أو حج مبرور.
ومع هذا فعلى الدول أن يكون لها دور، على الأقل تمنع الأطفال والمراهقين من الوقوع في مستنقع التدخين، فإذا انغرزوا فيه فمن الصعب جدًا إخراجهم من هذا المستنقع الآسن. وهذا يحتاج إلى دور متكامل من المدرسة ومناهج التعليم، وتكاتف دور الإعلام والمسجد، كما أن كافة دول العالم تضع عقوبات مالية كبيرة للذي يبيع السجائر لمن هم أقل من 18 عامًا، وإذا قمنا بوضع غرامة بخمسة آلاف ريال مثلاً لكل من يبيع التبغ للأطفال والمراهقين وأعطينا الشرطي صلاحية أخذ الغرامة بقسيمة مباشرة وشجعنا الشرطة على هذا النشاط بإعطائهم 10 في المائة مما يجمعونه فإنهم سيطاردون باعة التبغ ليكسبوا دخلاً مهمًا لأسرهم.
كما يجب أن لا ينقطع التحذير من التدخين، فالعلماء يحذرون، والأطباء يؤكدون خطره، ووسائل الإعلام المختلفة تتناول الموضوع بالأرقام.
أسأل الله تعالى أن يجنبنا الشرور والأمراض، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك...
(1/4596)
المفردون
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/4/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة النفس البشرية إلى ذكر الله. 2- أهمية الذكر. 3- شرف منزلة الذكر. 4- الذكر يكون بالقلب واللسان والجوارح. 5- الذكر سبب من أسباب نصر الأمة على أعدائها. 6- فوائد الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وإنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تجلية وري يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب؛ نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكات، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمّنه ويسكن مخاوفه ويطَمئِن قلبه. وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء ويحرز من الأعداء ذكر الله عز وجل، فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء.
فإذا اضطربت النفس فلم تطمئن وحار القلب فلم يسكن وأرقت العين فسهرت ولم تنم فما عسى المسلم حينذاك أن يفعل؟! وإذا ما اشتدت الكروب وأحاطت المصائب والخطوب وتكاثرت الهموم والغموم فبأي عمل نقوم لتنقشع من سمائنا الغيوم وليرجع إلينا صفاء عيشنا؟! أين الدواء المخلّص من عضال هذا الداء؟ إنه ـ يا معشر المؤمنين ـ ذكر الله عز وجل الذي يصف لنا ربّنا في محكم كتابه حال طائفة من عباده فيقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
أيها المسلمون، إن ذكر الله عز وجل من أعظم القربات وأجلّ الطاعات وسبب لرفع الدرجات، قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239]، فذكر الله هو سر الطاعات وروحها.
إن الذاكرين لله هم أهل الانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول، قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190، 191].
إن ذكر الله مصاحب لجميع الأعمال ومقترن بها، بل هو روحها، فإنه سبحانه قرنه بالصلاة في قوله: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وقرنه بالحج في قول النبي : ((إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) رواه الإمام أحمد، كما قرنه جل وعلا بالجهاد في سبيل الله وأمر بذكره عند ملاقاة الأعداء ومنازلة الكفار فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
إن ذكر الله هو ختام الأعمال الصالحة، فهو ختام الصلاة، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهو ختام الجمعة، قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، وهو ختام الصيام، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، وهو ختام الحج، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، بل هو ختام الدنيا بأسرها، فعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه أبو داود.
الذاكرون هم أهل السبق، كما روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمْدَان، فقال: ((سيروا هذا جُمْدَان، سبق المفرِّدون))، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)).
ويكفي في شرف الذكر أن الله تعالى يباهي ملائكته بأهله، روى مسلم عن معاوية أن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)).
ويكفي ـ يا عباد الله ـ شرفًا للذكر أن الذي يذكر الله يكون بمنزلة الحي، والذي لا يذكر الله بمنزلة الميت، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)).
ذكر الله هو غراس الجنة، روى الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
ذكر الله يملأ ميزان العبد يوم القيامة، فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض)) رواه مسلم.
لقد توعد سبحانه من لَهَا عن ذكره بأشدّ الوعيد حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات, ويستكشفون الكربات, وتهون عليهم المصيبات, فإليه الملجأ إذا ادلهمّت الخطوب, وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب, به تنقشع الظلمات والأكدار, وتحلّ الأفراح والمسرّات.
ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين, وهو قرة عيون الموحدين, وهو عدتهم الكبرى وسلاحهم الذي لا يبلى.
ذكر الله منشور الولاية الذي من أعطيه اتّصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنها صارت بورًا، وهو منزل القوم الذي منه يتزودون وفيه يتّجرون وإليه دائمًا يتردّدون، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطّاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
كان السلف إذا أظَلّهم البلاء فإلى ذكر الله ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مَفزعُهم، فهو رياض جنّتهم التي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجِرون.
وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه لسانه نسِي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء.
زيّن الله بالذكر ألسنة الذاكرين، كما زيّن بالنور أبصار الناظرين، وفي القلب خلّة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل.
أيها المسلمون، لقد حثّ الدّين الحنيف على أن يتّصل المسلم بربه ليحيا ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه ويستمدّ منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل والسنة النبويّة المطهرة ما يدعو إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، وقال سبحانه: والذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال جلّ اسمه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر [العنكبوت:45]، وقال جل شأنه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. قال ابن القيم رحمه الله: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا".
عن أبي الدرداء قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)) رواه الترمذي، وعن عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) رواه الترمذي، وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت)) ، وعن سعد قال: كنا عند رسول الله فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كلّ يوم ألف حسنة؟)) فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟! قال: ((يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه)).
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا حادي الشوق فاطو المراحلا
عن معاذ أن رسول الله أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، فقال: ((أوصيك يا معاذ: لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
أيها المسلمون، إن الله قد أمر بالإكثار من ذكره لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم. ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وصدأ القلب بأمرين، بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين، بالذكر والاستغفار. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكمًا على قلبه، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم واسودّ ورَكِبَه الرّان، فلا يقبل حقًا، عياذًا بالله.
ومن أعظم ما يحيي ذكر الله في القلوب حضور المساجد وانتظار الصلاة فيها وقراءة القرآن واستماعه وإقامة الصلوات وحضور مجالس الذكر. ومن أعظم ما يصد عن ذكر الله الابتعاد عن المساجد والتكاسل عن الطاعات وهجر القرآن وكثرة الاشتغال بالدنيا واستماع الملاهي والنظر إليها والقيل والقال وكثرة الضحك، وأعظم من ذلك أكل الحرام.
فاتقوا الله أيها المسلمون، ولازموا ذكر الله، وأكثروا منه لعلكم تفلحون.
إن أقلّ قدر من الذكر يلازمه الإنسان الأذكار المخصصة بأوقات معينة، كالأذكار التي تقال في أول النهار، والأذكار التي تقال في آخره، والتي تقال عند أخذ المضجع للنوم، وتقال عند الاستيقاظ من المنام، والتي تقال عند الأكل والشّرب واللباس، والتي تقال عند دخول المنزل والخروج منه، والتي تقال عند دخول الخلاء والخروج منه، والتي تقال عند نزول المطر وعند سماع صوت الرعد وهبوب الرياح، والتي تقال عند الركوب وعند السفر والقدوم منه، وقد ألّفت في ذلك كتب مختصرة، بإمكان المسلم أن يقتنيها ويحفظ منها.
عباد الله، العلاقة بين العبد وربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلاً لاهيًا، يفعل ما يريد دون قيد ولا حَكم، كلا، هذا تديّن مغشوش، العلاقة الحقة أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيِّدًا مسالكه بالأوامر والنواهي، ومشعرًا الإنسانَ بضعفِه البشري، ومعينًا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.
ذكر الله عز وجل باب مفتوح بين العبد وبين ربّه ما لم يغلقه العبد بغفلته، قال الحسن البصري رحمه الله: "تفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مغلق".
الإكثار من ذكر الله براءة من النفاق وفكاك من أسر الهوى وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه وما أعده له من النعيم المقيم.
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم، وأجمل ما تنطق به الشفتان، وأسمى ما يتألّق به العقل المسلم الواعي، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت.
أيها المسلم، لا تخش غما ولا يصبك قلق ما دام قرينك هو ذكر الله، يقول جل وعلا في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، إن ذكر الله عز وجل له مفهوم واسع شامل في الإسلام غير المعنى القريب المتبادر إلى الذهن، وهو أنه عبارة عن ترديد بعض الأوراد ونحوها.
إن ذكر الله يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح، أما ذكر الله بالقلب فمعناه أن يكون القلب دائمًا يفكر في أسماء الله الحسنى ومعاني صفاته العليا، وأفعاله التي بهرت العقول، وأحكامه التي بلغت من الحكمة غايتها، وأما ذكر الله باللسان فمعناه أن ينطق بلسانه بذكر ربه، فالتهليل والتكبير والتسبيح والحمد والثناء من ذكر الله، ودراسة القرآن والعلوم الدينية وتعليمها وتعلّمها من ذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ذكر الله، وأما ذكر الله بالجوارح فإن كل فعل تفعله متقربًا إلى الله متبعًا فيه رسول الله فهو من ذكر الله، فالطهارة ذكر، والصلاة ذكر، والسعي إليها ذكر، والزكاة ذكر، والصيام ذكر، والحج ذكر، وبر الوالدين ذكر، وصلة الأرحام ذكر، وكل فعل يقربك إلى الله فهو ذكر، لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بنية، ونيتك واستحضارك لها عند الفعل ذكر لله عز وجل.
المسلم الذاكر يصحو وينام ويقوم ويقعد ويغدو ويروح وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار وتنفس الصبح وغسق الليل وحركات الأكوان وجريان الأفلاك كل ذلك بقدرة الله وأقداره، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين حامدين مجاهدين عاملين، قطعوا إغراءات العاجلة وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراضي الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى جعلنا خير أمة أخرجت للناس يوم اتبعنا هداية الله وأقبلنا على ذكره، فجمع شتات العرب بقبائلهم المتحاربة تحت راية واحدة، شعارها التوحيد، ونشيدها التكبير والتهليل، في ظل دولة الإسلام التي أقامها نبينا وقائدنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وسار على هديه الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من الخلفاء والأمراء والسلاطين الذين حافظوا على دولة الإسلام وعلى دستورها الخالد.
فماذا جنت الأمة جرّاء إعراضها عن ذكر الله وابتعادها عن هدايته؟! إن حالها اليوم يعطي الدليلَ الواضح لكل ذي بصر وبصيرة، لا بل لكل من له أدنى اطلاع على تاريخ الأمة، لأن أمتنا تتجرّع اليوم عقاب الله بضيق الحياة وذهاب الهيبة والسلطان، لقد تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وأمعنت في السيطرة على مقدراتنا والعبث في ثقافتنا في غزو عسكري استعماري، يرافقه ويسير في ركابه غزو ثقافي أشدّ فتكًا بقيَم الأمة وأخلاقها، يعمل جاهدًا على طمس معالم حضارتنا، لتعيش شعوب الأمة حالة من ذوبان الشخصية وميوعتها، وهي تلهث وراء سراب المدنية الزائفة وشعاراتها الخادعة.
ولو استعرضنا جانبًا من جوانب حياة الأمة بقياس حالها اليوم وتشخيص دائها لوجدنا الفرق الشاسع بين ماضيها وحاضرها، الماضي الذي أقبلت فيه الأمة على ذكر الله وهدايته فاستحقت وصف الله لها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، والحاضر الذي انكفأت فيه الأمة عن هذه المنزلة، وأصبحت تعيش فيه على هامش الأحداث، تتأثر ولا تؤثِّر في هذه الأمم التي غزت وتغزو بلاد المسلمين اليوم، في حرب لا تخفى أهدافها للقضاء على الإسلام والسيطرة على ديار المسلمين.
إن ما يجري اليوم في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلاد من قتل وتشريد وتنكيل بأبناء شعوب هذه الأقطار داخل السجون وخارجها أوضح دليل على استهداف هذه الأمة ممن يروّجون لحقوق الإنسان ويمنّون الشعوب المستضعَفة باستقرار في أوضاعها السياسية والاقتصادية، فهيهات للمستجير من الرمضاء بالنار، فهل من معتبر؟! وهل من مدّكر؟! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
يا خير أمة أخرجت للناس، أما آن لأمتنا أن تفيق من سباتها وتنهض من غفلتها وتعود إلى رحاب هدي ربها؟! فإنه سبيل الخلاص من هذا الواقع المُرّ والحال الضنك الذي وصلت إليه الأمة اليوم، أما آن الوقت بعد كل هذا الهوان أن تبحث الأمة وأن تتلمس شعوبها سُبل العزة باستئناف الحياة الإسلامية في ظل حكم الإسلام ودولة المسلمين؟! فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
نفعني الله وإياكم بهدي...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، للذكر فوائد كثيرة وعظيمة لا يدركها إلا القلة، ومن ذلك أنه يطرد الشيطان ويرضي الرحمن، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب للقلب الفرح والسرور، ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه ويجلب الرزق ويكسب المهابة، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة، ويورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ويورثه الإنابة، وينجي من عذاب الله تعالى، وهو سبب تنزيل السكينة وغشيان الرحمة.
من فوائد الذكر أنه يورث محبة الله سبحانه وتعالى, فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم, فكلما ازداد العبد لله ذكرًا ازداد له حبًا, فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره.
والذكر يورث ذكر الله تعالى للعبد, كما قال سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وفي الحديث القدسي: ((فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)).
والذكر يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف ووحشة لا تزول إلا بالذكر، وهو سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل, فإن العبد لا بد له من أن يتكلم, فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى تكلم بالمحرمات, ولا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى, والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك, فمن عوّد لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
الذكر يعين على طاعة الله ويسهل المصاعب وييسر العسير ويخفف المشاق، فما ذُكِر الله على صعب إلا هان, ولا على عسير إلا تيسر, ولا على شاق إلا خف, ولا على شدة إلا زالت, ولا كربة إلا انفرجت, وذلك لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها, وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
الذكر يَحُطّ الخطايا ويُذهِبُها، فإنّه من أعظم الحسَنات والله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وثبت عنه أنه قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبَد البحر)) رواه البخاري.
الذكر ينوب عن كثير من الطاعات ويقوم مقامها، كما جاء ذلك صريحا في حديث أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى النبي فقالوا: ذهب أهل الدثور ـ أي: الأغنياء ـ من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، قال: ((ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، أين المتاجر عند ربه بالحسنات؟! أين من يريد تكفير السيئات ورفعة الدرجات؟! أين من يريد انشراح الصدر وطعم الإيمان وحلاوة المناجاة ولذة العبادة ورضا الله؟! أين من يريد الخلاص من معاصيه؟! وأين من يريد حرب الشيطان الذي عشعش في القلوب وغطاها بإغوائه، فأوردها موارد الهلاك والبوار فحرمت رضا الله وصدت عن ذكره وأعرضت عن هديه، فلم تعش حياة المتقين السعداء الذاكرين الشاكرين الذين أنعم الله عليهم بالهدى والرضا واليقين؟! قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126]. فلا عجب أن يرتاح الذاكرون, ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
(1/4597)
بين القوة والضعف
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, التربية والتزكية, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/8/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصادر القوة عند الناس اليوم. 2- مصادر القوة عند المؤمن: قوة العقيدة، القوة في الحق، القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة، القوة في ترك الدعة وحب الراحة، القوة في اقتران العلم بالعمل، القوة في الأخلاق 3- المخرج من الفتن. 4- القوة التي نحتاجها اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
إن هذا الحديث العظيم من جوامع كلمه ، يحمل في طياتها معاني عظيمة ومفاهيم عميقة، ففي كلٍّ منَ القويّ والضعيف من المؤمنين خيرٌ لاشتراكهما في الإيمانِ، وقد يكون المؤمِن ضعيفًا في بدَنه قويًّا في إيمانه وماله، وقد يكون نحيلَ الجِسم ولكنّه قويّ الفِكر والقلَم، وإلى هذا تشير الكلمة النبويّة: ((وفي كلٍّ خير)).
والذلُّ قبيح وفي قَبوله هَلاك، وحينَ يوضَعُ في موضِعِه الصحيحِ يُعتَبر قوّةً وعِزًّا، قال الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
أيها المسلمون، ينطلِق كثيرٌ منَ الناس في مفهومِ القوة والضعفِ من منظورٍ مادّي واعتباراتٍ أرضيّة، فهذا يقدِّر القوةَ والضعف بحسَب إقبالِ الدنيا وإدبارها، وآخرُ يقدِّر القوّةَ بممارسةِ الجبَروت والقهرِ والبغيِ والطغيان، وثالث يظنّ القوةَ لمن كان له جاهٌ أو حَظوة من سلطان، ورابعٌ يركَن في قوّته إلى ماله أو ولدِه أو مَنصبِه، وخامِسٌ يستمدّ قوّتَه من إجادةِ فنون المكرِ والكيد والخِداع والقدرةِ على التلوّن حسَب المواقف والأحوال، والقوّة ليست في ذلك كله. فما المراد بالقوة إذًا؟ وما مجالات القوة المطلوبة من المؤمن ليكون أحب إلى الله من المؤمن الضعيف؟
أن أول ما يجب أن تتمثل قوة المؤمن فيه عقيدته؛ إن صحة العقيدة وسلامتها على ضوء معتقد أهل السنة والجماعة هو المعين الذي لا ينضب للنشاط المتواصل والعمل الدؤوب والحماس في الدعوة الذي لا ينقطع أبدًا.
إن الأمة في حاجة إلى ذلك المؤمن القوي في عقيدته، والتي تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلها. إن الأمة في أوضاعها الراهنة لفي حاجة إلى شباب أقوياء في عقيدتهم، إذا تكلم الواحد منهم كان قويًا واثقًا، وإن عمل كان قويًا ثابتًا، وإذا ناقش كان قويًا واضحًا، وإذا فكر كان قويًا مطمئنًا لا يعرف التردد ولا تميله الرياح ولا تخيفه التهديدات، يأخذ تعاليم دينه بقوة، وينقلها إلى غيره بقوة، ويتحرك ويدعو في مجتمعه بقوة لا وهن معها ولا ضعف، يستشعر قول الباري جل وعلا: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، وقوله جل وعز: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، وقول الله تعالى: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]. إنها قوة المؤمن التي لا رخاوة فيها ولا قبول لأنصاف الحلول مع الخصوم. إن هذا المؤمن بهذه المواصفات لا يعرف الهزال ولا يعرف إضاعة الأوقات، بل كله جد وصرامة وقوة. وبقوّة العقيدةِ والإيمان جعلَ الله لرسوله من الضعفِ قوّةً ومن القِلّة كثرةً ومنَ الفقر غِنى، لقد كان فَردًا فصار أمّةً، وكان أمّيًّا فعلَّم الملايين، وكان قليلَ المال فصار بالله أغنى الأغنياءِ، قال الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8].
ثانيًا: القوة في الحق؛ إن المؤمن القوي يبتعد عن المداهنة والمجاملة المذمومة، يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ واضحة، لا يصانع على حساب الحق؛ لأنه لا يعرف المتاجرة بالباطل. المؤمن القوي غني عن التستر بستار الدجل والاستغلال كأصحاب المبادئ الأرضية، من أجل هذا فإن هذا المؤمن في صدعه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من هذه القاعدة، ينطلق ونفسه وقلبه في سمو، وقوته الإيمانية تنير له طريقة أمره ونهيه. قوة في استمساكه بالحق الذي معه، ثم قوة في مواجهة من يخالف الحق أو يريد الباطل، ((لتأخذنَّ على يدي الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطرًا)).
إن الأمة في حاجة إلى هذه النوعيات، نريد ذلك المؤمن الذي تكون لديه قوة في مصارحة المخلوقين، قوة في تنبيه المخطئين، قوة في نقد العيوب والمثالب المعلنة، لا خوف من وجيه ولا حياء من قريب ولا خجل من صديق، وبعبارة جامعة رائعة: لا تأخذه في الله لومة لائم.
وهنا نقطة يجب أن نقف معها ذكرها أهل العلم، يجب أن تُعرف وتكون واضحة عند من لهم غيرة على محارم الله؛ وهي أن المنكر إذا أُظهر وأعلن وأعلي فإنه يشرع إنكاره علنًا، وإذا أخفيَ وأُسرَّ شرع إنكاره سرًا، وهذا أيضًا نوع من القوة تكون محمودة في معاصي معلنة ومذنبين مجاهرين، أولئك الذين تجرؤوا على الله عز وجل ولم يخجلوا حتى من عباد الله، وجاهروا بمنكراتهم وخرجت روائح جرائمهم، لماذا لا يرضون حتى بذكر أسمائهم أمام الناس فضلاً عن الإنكار عليهم علانية مقابلة بصنيعهم، فيقال لهم: أنتم الذين لا ترضون بذلك لا تعلنوا منكراتكم ولا تبدوا عوراتكم.
ثالثًا: القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة؛ ضبط النفس ومحاولة التحكم بها من الانسياق وراء الشهوات والمغريات والفتن، نريد قوة المؤمن تظهر في التعفف والترفع عن سوء الخصال وعن خوارم المروءة، المطلوب من المؤمن هو القوة مع علو همة وعدم الوقوع في المنكرات والفواحش والمعاصي، وهنا تظهر حقيقة قوته من ضعفه، لاشك بأن الشهوات لها ضغط على النفس أيًا كانت هذه الشهوات، والواقع المزعج حول المؤمن أيضًا له ضغط عليه، فهنا تظهر القوة من عدمها، وهذا لا يعني العصمة، فإنه لا عصمة إلا لأنبياء الله ورسله، ولكن هذه القوة تجعل المؤمن لا ينساق وراء هذه الفلتة لو وقع فيها، بل قوته تجعله يبادر بالتوبة ويرجع إلى ما كان عليه من قبل وأفضل. إن القوة في ضبط النفس في مثل هذه الأمور لا شك أنها تأخذ بصاحبها بالسير في مسالك الطهر ودروب النزاهة والاستقامة على الجادة، وقد قال هود عليه السلام لقومه آمرًا لهم بالاستغفار والبعد عن مزالق الخاطئين: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52].
رابعًا: القوة في ترك الدعة وحب الراحة، وهذه أيضًا لها ضغط على النفس البشرية خصوصًا في واقعنا المعاصر الذي يُسِّرت فيه كلّ سبل الراحة والدعة للناس.
اعلم ـ يا عبد الله ـ بأن حب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم ويفتر العزائم، فهناك شابان يتساويان في نباهة الذهن وذكاء العقل وقوة البصيرة، ولكن قوة الإرادة وعلو الهمة ونفاذ العزيمة عند أحدهما يكسبه التفوق على زميله الآخر، وتبلغ به هذه القوة من المحامد والمراتب ما لا يبلغه الآخر، بل إن هناك بعض الشباب قد يكون أقل من زميله في الإمكانيات ووسائله أضعف وأوقاته أقل، لكنه بقوة إرادته وعلو همته وبإصراره على الإقدام والتقديم يفوق أقرانه، ويكون عطاؤه في الواقع أفضل من الآخر الذي أعطاه الله جل وعلا نباهة الذهن وذكاء العقل لكنه آثر الدعة والراحة والسلامة. إنه لا رفعة لأمة يكثر فيها النوع الثاني، إنه لا قوامة لأمة شبابها وذوو الطاقات فيها لا يُقدّمُون ولا يتحركون، لا لعجزهم وضعفهم بل لدنو هممهم وضعف إراداتهم.
إن المسؤولية تقع على الرجال القائمين على التربية أن يعطوا هذا الدرس مكانه من التوجيه، وأن يعطوا هذه القضية قدرها من الاهتمام من أجل بناء صرح من الشباب المؤمن، صرح من العز شامخ ومن القوة ظاهر، فإن لم يكن كذلك فقد ظلمت الأمة نفسها وخسرت أجيالها وهضمت حق دينها وأضاعت رسالتها، قال الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]. وما اقترن العزم الصحيح مع التوكل الوثيق على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة فوزًا ونجاحًا، قال الله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].
إن من قوة المؤمن أن تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله وليس عبدًا لشهواته، فتعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم. إن من قوة المؤمن أن يفرغ قلبه عن الشهوات القريبة والعواطف السريعة.
اسمعوا ـ أيها الشباب ـ إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ، وذلك حينما عبر عبد الرحمن الداخل البحر أول قدومه على الأندلس، أهديت له جارية بارعة الجمال، وهذه كانت حلالا له بحكم الجواري في ذلك الوقت، لكنه رحمه الله نظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أَهُمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أَهُمُّ به ظلمت همتي، ألا فلا حاجة لي بها" ثم ردها إلى صاحبها. فكم من شاب نشط في حقل الدعوة والعمل لهذا الدين كان شعلة وقادة وعطاء قويًا وهمة عالية وبعد دخوله بيت الزوجية أصبحت تسمع الأعذار والمبررات، ويدخل في ثنايا كلامه حقًا أريد بها باطل مثل: "ولأهلك عليك حق" ونحوها، ولا شك بأن هذه الحالة تتنافى مع القوة المطلوبة في المؤمن.
خامسًا: القوة في اقتران علمه بعمله، الأصل فيمن علم خيرًا أن يبادر إلى فعله، ومن علم شرًا أن يحذر من الاقتراب منه، وإذا لم يفعل الإنسان ذلك فهذا ضعف منه؛ لأنه يعلم الخير لكن نفسه ورغباته تميل إلى غيرها أو ضدها، فيفعل ما تميل إليه نفسه، وهذا ضعف في الإرادة.
إن المؤمن لا تتكامل شخصيته ويستقيم عوده ولا يكون قويًا ويعرف بذلك إلا بالعمل بما علم. إن المعرفة الصحيحة الناضجة والعلم النافع والمبادرة بتطبيق ذلك والعمل به هو استنارة القلوب وتصحيح المسيرة، يقول بعض السلف: "كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله بالعمل بها"، ويقول بعض الحكماء: "إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة فجربها واعمل بها، فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها".
إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن والأفكار المجردة إلى واقع الحياة لا فائدة فيها، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان، وماذا ينفع الطبيب علمه وكراريسه وآلاته إذا لم يمارسها طبًا وعلاجًا، وكذلك الشباب ما فائدة الكم الهائل الذي يُلقى إليه من خلال الدروس والخطب والمحاضرات واللقاءات والندوات والرحلات إذا لم يحوّل هذا كله إلى حياة طيبة ودعوة مباركة ونشاط مستمر لا يتوقف؟! فإذا كنت تسمع وتفهم ثم لا تمارس وتطبق فهذا ضعف وخور، يفترض في مثلك أن تترفع عنه، بل القوة هو أن الشاب إذا تلقى الخير أن يعمل به، قد يحتاج ذلك منه إلى زمن، وقد يحتاج هذا الخير إلى مجاهدة وصبر، وهنا يتميز المؤمن القوي من الضعيف.
ولا يشترط أن يكون الجميع نسخة واحدة، فبلال غير أبي بكر، وخالد غير أبي ذر، وابن عباس غير ابن عمر، ومصعب غير ابن عوف، كانوا مهاجرين وأنصارًا، وكان فيهم أصحاب بيعة الرضوان، فيهم الولاة والحكام، وفيهم العسكريون والقادة، وفيهم أوعية العلم والفقه، لكن كلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وكلهم كان ثغرا من ثغور الإسلام فحفظه وصانه، وهذا هو المهم؛ لهذا فالأعمال كثيرة والواجبات متنوعة والمطلوب تحقيقه ضخم، وبناء عليه فالمطلوب من كل مؤمن يهمه أمر الإسلام أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل أولاً، ثم يكون جنديًا في سرية من سرايا هذا الدين، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الدعوة إليه، وليحرص كل مؤمن أن يعمل بجدّ ومثابرة؛ فإن الباطل يزحف، وسيله جارف، ولا يقابل ذلك إلا إيمان وعمل. ألا فاعملوا فكل ميسر لما خلق له، وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
سادسًا: القوّة في الأخلاقِ؛ لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاق دون أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبعضُ المسلمين اليومَ جمَع من العلمِ فأوعَى وخلاَ من الخُلُق الأوفى. القوّةُ في الأخلاق دليلُ رسوخِ الإيمان، فإلقاءُ السلام عبادةٌ، وعِيادة المريض عِبادة، وزِيارة الأخِ في الله عِبادة، وتبسُّمك في وجهِ أخيك صدقة. ومن القوّة ثَبات الأخلاقِ ورُسوخ القِيَم في الفرَح والشِدّة والحزن والألم، مع الصّديقِ والعدوِّ والغنيِّ والفقير، قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ومن وصايَا الرسول لمن أراد الغزوَ أن لا يقتُلوا طِفلاً ولا امرأةً ولا شَيخًا كبيرًا. رواه أبو داود. لقد فعَل مشرِكو مكّةَ برسولِ الله ما فعلوا، آذَوه وحاصَروه، اتَّهموه وكذَّبوه، أخرجوه ثم شهَروا سيوفَهم ليقتلوه، وتمرّ السّنون، ويعود رسولُ الله إلى مكّةَ فاتحًا متواضِعًا لله متذلِّلاً، ويقول لأولئكَ الذين فعَلوا ما فعلوا: ((ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطّلَقاء)).
((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)).
بارك الله في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن القوة في الدين والقوة في الأخذ به والصبر على البلاء فيه مظهر من مظاهر الرجولة الحقة، وهي حال الأنبياء والمرسلين ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين، فالثبات على دين الله والصدع بكلمة الحق هو شأنهم. ووجود واحد من هذه العينة القوية خير من بقاء طوابير طويلة تعطي الكفرة الفجرة ما يطلبونه وما يريدونه ولو بالقول، وهذه القوة تثمر محبة الله ورضاه، وقد أمر بها سبحانه وتعالى في كتابه فقال عز وجل: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، أي: بجد وحرص واجتهاد، وأمر بها موسى عليه السلام: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]، وأمر بها بنو إسرائيل: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة:63]. وهذا للأسف عكس ما هو واقع في حياتنا وحياة الناس، وكأننا لم نأخذ درسا، فالأزمات والنكبات وتسلط الأعداء على البلاد والعباد يتطلب قوة إيمان وعمق يقين، وهذا هو المخرج من الفتن، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم، ولكننا نأبى إلا أن نكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كما قال الشاعر:
كالعير بالرمضاء يقتله الظما والماء فوق ظهورها محمول
نزداد عصيانًا وتفريطًا في دين الله، ونبدّل في مفهوم الولاء والبراء، ونغيّر شرع الله في مناهج التعليم والإعلام وفي حياتنا الخاصة والعامة إرضاءً لأعداء الإسلام والمسلمين، فنزداد بذلك ضعفًا على ضعفنا، ويزدادون هم طغيانا على طغيانهم، وكأنه لا سبيل عندنا للخروج من الواقع السيئ والأخذ بأسباب القوة الحقيقية وردع الأعداء عن غيهم وضلالهم.
أيها المسلمون، إن القوة لا تُطلب من الخلق، فكلهم ضعيف حتى وإن كان مسلمًا، فكيف ننشدها من أعدائنا وقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر؟! إن القوة الحقيقية تَحدُث عندما نصل الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة وتتعلق القلوب بالقوى المتين، فقوة الله فوق كل شيء: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود:66]، قال الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]. وقد أمرنا سبحانه بإعداد العدة والأخذ بأسباب القوة كائنة ما كانت، معنوية كانت أو مادية، فقال جل وعلا: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُم [الأنفال:60]، وفى الحديث: ((ألا إن القوة الرمي)) رواه مسلم. ومن نظر في السنن والسيرة وطالع قصص الأنبياء والمرسلين وجد أن القوة في الأخذ بدين الله وفي مواجهة الكافرين والدعوة إلى الله رب العالمين سمة واضحة في حياتهم.
المؤمن يأخذ أمره بعزيمةٍ لا رخاوة معها، وقوةٍ لا ضعف فيها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء. المؤمن القوي يثق بما يوقن به ويعرف برهان فعله. إن المؤمن القوي هو عماد الرسالات وروح النهضات ومحور الإصلاح، أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب القوي، وضَع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعًا إذا حُرمتَ الرجل الغيور.
سقطت دول تملك السلاحَ دون أقوياء الرجال، وبقيت مقاومة أقوياء الرجال تثخن في أعداء الله وهي في قلة من السلاح، ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في قوة القائمين عليها.
أيها المسلمون، إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى زرع القوة في أفرادها دينًا وعلمًا وخلقًا. تحتاج الأمة اليوم إلى المؤمنين الأقوياء الذين يحملون في قلوبهم قوة نفسية، تحملهم على معالي الأمور وتبعدهم عن سفسافها، قوة تجعل أحدهم كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو بيته ودينه وأمته. تحتاج الأمة اليوم لأن ترى انتصارات أبنائها في ميادين التحديات الصغيرة، فمن انهزم في الميدان الصغير سيخذلنا في الميدان الكبير، ومن خارت قواه أمام الشهوات فسيخذلنا في الجبهات، ومن هزم في ميدان "حيَّ على الصلاة" فسيهزم قطعًا في ميدان "حي على الكفاح". نريد أن يمتلئ المجتمع بالنفوس القوية والتي تتعالى على شهواتها، وتنتصر على رغباتها، وتتحول إلى نفوس مجندة لخدمة هذا الدين، وليس هذا فحسب، بل نريد القوة المتكاملة بجوار قوة الدين والنفس، نريد قوة البدن وصلابته، ونريد قوة العقل وحدّته. نطالب كل مسلم أن يتحول إلى مؤمن قوي يتكفل بنفسه، وينطلق إلى غيره، معتصمًا بالله متوكلاً عليه قويًا بإيمانه معتزًا بإسلامه، لا ينهزم في الحروب النفسية التي تدير رحاها وسائل الإعلام دون سلاح، لا تكن سماعًا لهم، كن واعيًا كن واثقًا كن حذرًا، لا تكن عاهة مستديمة في أمتك، عالة على مجتمعك، طوِّر نفسك، واحفظ عقلك ووعيك، كن صعب المراس، لا تسهل خديعتك. واعلم أن القوة التي نريد في الدرجة الأولى قوة الإيمان والنفس، وتأتي قوة البدن تبعًا، وليست القوة بعظمة الجسم وطولِ القامة وقوةِ البنية مع ضعف الدين والعقل:
لقد عظم البعير بغير لبّ فلم يستغن بالعِظَم البعير
وتضربه الصغيرة بالْهراوى فلا حسَّ لديه ولا نكير
(1/4598)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغفلة عن الموت. 2- أهمية ذكر الموت. 3- مواعظ في تذكر الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وطاعته في المنشط والمكره، وذكره في الرخاء والشدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20]. طوبى لمن اتقى الله حق التقوى، فحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبِلَى، وترك زينة الحياة الدنيا، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
أيها المسلمون، تمر الجنائز بالناس بين حين وآخر، يجهزونها ويصلون عليها، ويسيرون خلفها ويشيعونها، فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة خاطفة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير، أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف، فيشفقون على الميت ويأسفون عليه، ويتذكرون أنهم صائرون إلى ما صار إليه، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأنّ كل من عليها فان، لكنهم ما يكادون ينفضون أيديهم بعد أن أهالوا التراب على ميتهم ودفنوه، حتى ينفضوا عقولهم مما كانوا فيه وينسوه، فيرجعون إلى سابق غفلتهم وسالف نومتهم، فلا العاصي منهم يرجع أو يتوب، ولا المقصّر يتدارك ما بقي من عمره أو ينيب، وإنما هم كغنم عدا الذئب عليها وأكل إحداها، فهي لا تزال في روعة هجمته لحظات معدودة، ثم ما تلبث أن تنسى فترتع في مرعاها، حتى يأتي الذئب مرة أخرى ليروعها ويخيفها، ثم تعود إلى ما ألفته وإلى ما كانت عليه، وتظل على تلك الحال حتى يقتنصها الذئب واحدة تلو الأخرى. هكذا الدنيا وهكذا هم أهل الغفلة، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون، وينقضون ويبرمون، ويأملون ما لا يدركون، لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يحسنون الزاد لما عليه قد قدموا، أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة، يسيئون في الاكتساب ويسوفون في المتاب، يهجم الموت على من حولهم فلا ينتبهون، ويقتنص أحبابهم فلا يعتبرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، فأنّى له الرجوع وقد انتهى أجله وانقضت مدته؟!
فيا أيها المسلمون، هل يليق بنا أن نكون كالبهائم فلا نعتبر؟! أيجدر بنا أن ننسى الموت الذي هو ملاقينا طال العمر أم قصر؟! أعاقل ينسى هاذم اللذات ومفرق الجماعات؟! ألبيب يغفل عن ذكر مصيبة الموت؟! قال : ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه)). ولقد وقف مرةً على شَفِير قبر فبكى حتى بَلَّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا)). وسأله عليه الصلاة والسلام رجلٌ فقال: من أكيس الناس وأحزم الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكرًا للموت وأكثرهم استعدادًا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)).
يا أهل الغفلة، يا أيها المسلمون، يا أبناء الأموات ويا آباء الأموات، ويا إخوان الأموات ويا أبناء عم الأموات، أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وايم الله ليوشكن الحي منا ومنكم أن يموت فيبلى، والمقيم منا ومنكم أن يرحل فيُنسَى، وأن تأكل الأرض لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمارها وشربنا من مائها. أين الآباء والأمهات؟! أين الأجداد والجدات؟! أين الإخوان والأبناء؟! أين الأمراء والوجهاء؟! أين الضعيف وأين القوي؟! أين الفقير وأين الغني؟! لقد أتى على الجميع أمر الله، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38].
أتى على الكُلِّ أمرٌ لا عَزَاءَ له حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا
لقد أخذ الجميعَ هاذمُ اللذات ومفرّق الجماعات، فاستبدلوا بظهر الأرض بطنًا، وبالأهل غربة وبالنور ظلمة، مساكنهم اللحود وأنيسهم الدود، التراب أكفانهم والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعيًا ولا يسمعون مناديًا، كانوا أطول أعمارًا وأكثر آثارًا، فما أغنى عنهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورًا، وصار ما جمعوا بُورًا، وانتقلت أموالهم للوارثين، وزُفَّت أزواجهم إلى قوم آخرين، حل بهم رَيبُ المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
سل الدهرَ هل أعفى من الموت شائبًا غداةَ أدارَ الكاسَ أم ردّ أَمْرَدَا
وهل أبقتِ الأيامُ للعلم والعُلا وبذل الندى ذاك المليكَ المؤيّدا
هو الموتُ ما منه مَلاذٌ ومهربُ متى حُطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركبُ
نشاهد ذا عينَ اليقين حقيقة عليه مضى طفلٌ وكَهْلٌ وأَشْيَبُ
يقول الحسن رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لُبّ بها فرحًا"، ويقول يونس بن عبيد: "ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال"، ويقول مُطَرِّف بن عبد الله: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه".
أيها المسلمون، اذكروا الموت والسكرات، وحَشْرَجَة الروح والزفرات، اذكروا هول المطلع وشدة المفزع؛ فإن من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة، ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة. والله، ما فينا مرض أشد من الغفلة، ولا داء هو أدوى من طول الأمل، يكبر أحدنا فيكبر معه أمله، ويدنو أجله ولا يزداد عمله، عمره في نفاد وحرصه في ازدياد، يبني القصور المُشْمَخِرّات، ويلهو بالتجارة والعقارات، يغشّ ويرابي، ويكذب ويخادع، ويجادل ويخاصم، يهجر قريبه ويقطع أخاه، ويفسد دينه بإصلاح دنياه، اليوم في المحكمة مع المتخاصمين، وغدًا في الشرطة مع المتنازعين، لا القليل يقنعه، ولا الكثير يشبعه، لو كان له واد من ذهب لابتغى ثانيًا، ولو كان عنده اثنان لتمنى ثالثًا، قال الله تعالى: جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:2، 3].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقَفون، وعلى أعمالكم مجزيون ومحاسبون، وعلى تفريطكم وزلاتكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وارجوا الله واليوم الآخر، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا أو غنى مُطغيًا أو مرضًا مُفسدًا أو هَرَمًا مُفندًا أو موتًا مُجهِزا أو الدجال، فشرّ غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر.
لا تكونوا ـ رحمكم الله ـ ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخّر التوبة لطول الأمل، وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة ويأخذ على غِرَّة. أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهجم عليه الردى وهو لم يرتقبه.
يا أصحاب الدين، ويا ذوي العقول، يا من وحدتم الله واتبعتم الرسول، أعاقل يطمع في البقاء على هذه الدار؟! أمؤمن لا يستعد لدار القرار؟! أيصدّق بالموت مسلم فيترك الصلاة؟! أيوقن بالموت عاقل فيبخل بالزكاة؟! أمقر بالموت يكذب ويغش ويخادع؟! أمصدّق بالموت يظلم الناس في أنفسهم وأموالهم أو أعراضهم؟! فيا من تترك الصلاة، أين أنت من الموت؟! ويا من تبخل بالزكاة، أين أنت من الموت؟! أين أنت من الموت يا آكل الربا؟! أين أنت من الموت يا مستمع الغناء؟! هل نسيت الموت يا قاطعًا لرحمه؟! هل نسيت الموت يا عاقًا لوالديه؟! هل نسيتم الموت أيها المتخاصمون على الدنيا؟! هل نسيتم الموت أيها المتهاجرون من أجل الدنيا؟! يا من أصررتم على الصغائر وألفتم الكبائر، يا من تسهرون على ما يسخط الله وتنامون عما يرضيه، أين أنتم من ذكر الموت؟! يا أهل الدشوش والقنوات، يا من غششتم الأبناء والبنات، يا من تركتم الحبل على الغارب لمن تحت أيديكم ولم ترعوا أبناءكم وبناتكم وأهليكم، أين أنتم من قول رسول الله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ؟! فويل لمن مات وقد امتلأ بيته بأجهزة اللهو والباطل، ويا لخسارة من أُدخِل قبره وحقوق الناس على ظهره، وتبًا لمن قضى نحبه وهو عاص ربه، وسحقًا والله ثم سحقًا لمن لفظ أنفاسه وهو هاجر لأخيه من أجل الدنيا.
ألا فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، واجعلوا الموت نصب أعينكم في كل لحظة وآن، فإن الموت الذي تخطاكم إلى غيركم سوف يتخطى غيركم إليكم، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].
(1/4599)
لا خير في أمة يشتم نبيها
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/12/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة الاستهزاء بالنبي. 2- حقد النصارى على الإسلام وأهله. 3- النتائج السيئة للسخرية من النبي. 3- قِدم التشويه الإعلامي للإسلام وأهله. 4- الدوافع لهذه الحملات التشويهية. 5- وجوب نصرة النبي. 6- حكم ساب النبي. 7- توقير السلف الصالح للنبي. 8- إجراءات يمكن اتخاذها لنصرة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد تسامع الناس ما وقع في صحفٍ دانمركية ونرويجية من إصرارٍ على التطاول والانتقاص لسيّد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين وخير الخلق أجمعين والمبعوث رحمة للعالمين محمد. وهذا الذي حصل ليس بالأمر اليسير، بل هو مصاب جلل وعظيم أن يصل الجرأة بالنصارى وعباد الصليب إلى هذا الحد. لقد أظهروا نبينا في صور آثمة وقحة، وقاحة الكفر وأهله، أظهروا النبي في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه! وكأنهم يريدون أن يقولوا: إنه مجرم حرب، أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]. وأخرى يظهر النبي كإرهابيّ يلوّح بسيفه ومعه سيدات يرتدين البرقع. وصور غيرها لا تقل بشاعة وشناعة عنها.
إن ما فعلت الدانمارك هو استهانة بمشاعر أكثر من مليار و400 مليون مسلم، بالرغم من أن مسلمي الدانمارك والذين يبلغ عددهم 200 ألف مسلم ـ والإسلام هو الديانة الثانية في الدانمارك بعد المسيحية ـ حاولوا الاحتجاج على القرار، وذلك عن طريق رفع مذكرة إلى الحكومة الدانماركية، إلا أن الجواب كان هو الرفض وإصرار الحكومة على دعم حملة الهجوم تحت مسمى "حرية التعبير". بل كان الموقف الحكومي الدانماركي أكثر شراسة برفض المدعي العام تلبية طلب الجالية الإسلامية برفع دعوى قضائية ضد الصحيفة بتهمة انتهاك مشاعر أكثر من مليار مسلم في العالم، وقال المدعي العام الدنماركي: "إن القانون الذي يُستخدم لتوجيه تهم بسبب انتهاك حرمة الأديان لا يمكن استخدامه ضد الصحيفة".
إن حالة العداء للإسلام والمسلمين في الدانمرك تجاوزت كل الخطوط، فهناك تعبئة عامة ضد الإسلام على كافة المستويات، بدءًا من التصريح الذي نقل على لسان ملكة الدانمرك (مارجريت الثانية) والذي قالت فيه: "إن الإسلام يمثل تهديدًا على المستويين العالمي والمحلي"، وحثت حكومتها على عدم إظهار التسامح تجاه الأقلية المسلمة، انتهاءً بمواقع الإنترنت التي يطلقها دانمركيون أفرادًا ومؤسسات خاصة تحذر من السائقين المسلمين؛ لأنهم إرهابيون وقتلة، مرورًا بالحملة العامة في الصحف ومحطة التلفاز العامة التي أعلنت الحرب ضد الإسلام والمسلمين.
فبالله عليكم، ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم يُنال من مقام محمد ثم لا يُنتَصر له ولا يذاد عن حياضه؟! وماذا نقول تجاه هذا العداء السافر والتهكم المكشوف؟! هل نغمض أعيننا ونصم آذاننا ونطبق أفواهنا وفي القلب عرق ينبض؟! فوالذي كرَّم محمدًا وأعلى مكانته، لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسولنا. ألا جفت أقلام وشُلت سواعد امتنعت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن عرضه وتدافع عن حرمته.
مُحمد المبعوث للناس رحمةً يشيِد ما أوهى الضلال ويُصلح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبال مجيبةً لداود أو لان الحديد المصفّح
فإن الصخور الصمَّ لانت بكفه وإن الحصا فِي كفه ليُسَبِّح
وإن كان موسى أنبع الْماء بالعصا فمن كفه قد أصبح الْماء يَطفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعةً سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنَصر نبينا ورعبٌ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظيم وسخِّرت له الْجن تسعى فِي رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها أتته فرَدَّ الزاهد المترجِّح
وإن كان إبراهيم أُعطي خُلةً وموسى بتكليم على الطور يُمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلَّم وخصِّص بالرؤيا وبالحق أشرح
وخصص بالحوض الرَّواء وباللِّوا ويشفع للعاصين والنار تَلْفح
وبالْمقعد الأعلى الْمقرَّب ناله عطاءً لعينيه أَقرُّ وأفرح
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها مراتب أرباب المواهب تَلمح
ولَهْوَ إلى الجنات أولُ داخلٍ له بابُها قبل الْخلائق يُفْتَح
أيها المسلمون، إن القضية ليست قضية قتل أفراد من المسلمين أو هتك لأعراض بريئات أو تعرض لبلد، مع أن هذه الأمور ليست هينة، بل ما حصل أعظم، إنه سبّ واستهزاء بالنبي ، ومِمَّن؟ من دولة حقيرة تسمّى الدنمارك، لا تكاد تُرى على خارطة العالم، وليس لها أيّ ثقل سياسي، لم تعرف إلا بصناعة مشتقّات الألبان، والآن صناعة السخرية بالأديان، حتى الأراذل والأصاغر رفعوا رؤوسهم علينا وتجرؤوا على نبينا!!
تأملوا واعتبروا يا عباد الله، هكذا يفعل النصارى الحاقدون مع نبينا ، وبعضنا ينادي بأن لا نقول للكافر: يا كافر، بل نقول له: الآخر، احترامًا لمشاعره ومراعاة لنفسيته! فهل احترم هؤلاء نبينا؟! وهل قدروا مشاعر أمة المليار مسلم؟! وهل راعوا نفسيات المسلمين؟! هذا هو فعل النصارى الحاقدين مع رسولنا ، وبعضنا ينادي أن لا نبغضهم ولا نظهر العداوة لهم، وربنا يقول لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ [الممتحنة:1]. هكذا يفعل عباد الصليب بنبينا محمد ، وبعضنا يطالب بحذف الولاء والبراء من مناهجنا الدراسية ونزعه من قلوبنا؛ لأننا في عصر الصفح والتسامح بين الأديان.
إن ظهور مثل هذه الأفعال من النصارى على وسائل الإعلام قد يُفقد بعض المسلمين ضبطَ تصرفاتهم، وقد يقدمون على أمور لا تحمَد عقباها، ويفعلون أشياء ويُقدمون على أعمالٍ غير مسؤولة.
ودويلة هزيلة مثل الدنمارك، ماذا تملك من القوة والضبط والمخابرات في مقابل دول تسمّي نفسها بالعظمى وقد حصل فيها من التخريب والدمار ما هو معروف للعالم أجمع؟! وهل هناك شخص أو جهة أو حتى دولة تستطيع أن تتحكّم في مشاعر جميع المسلمين في العالم وتضبط تصرفاتهم؟! والكل يعلم أن ما حصل يثير مشاعر الفسقَة فكيف بأهل الدين والغيرة؟! ولا يخفى الغرب أن الموت في سبيل الله أمنية كل مسلم، وهناك الملايين الآن ممن هم مستعدون أن يموتوا دون هذه القضية.
أيها المسلمون، إن الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدَمَ الإسلام، وهو أحد الأساليب التي اتخذها الكفار للصد عن سبيل الله تعالى، بدءًا من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر، وهذا الهجوم له ألوان كثيرة، ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق الشبهات والمغالطات والطعون، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر انتقل الهجوم إلى لون جديد قذر لم يُعهد من قبل، وهو التعرض لشخص الرسول والنيل من عرضه وذاته الكريمة، وقد اتّسم هذا الهجوم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء، مما يدل دلالة واضحة أن هذا التهجم له منظمات ووراءه دول، وله واستراتيجيات خاصة تتركّز على استخدام وسائل الإعلام، بل ويقوم به أناس متخصصون مدعومون من قساوسة النصارى، وليست القضية أنها عمل فردي من صحفي ونحوه.
وهكذا انتقل الهجوم على الإسلام من طرح الشبهات إلى إلقاء القاذورات، ولم يجد المهاجمون في الإسلام ولا في شخص خاتم الأنبياء ما يرضي رغبتهم في التشويه، ووجدوا أن الشبهات والطعن الفكري من الأمور التي يسهل تفنيدها وكشف زيفها أمام قوة الحقّ في الإسلام، فلجؤوا إلى التشويه الإعلامي، وبخاصة أنهم يملكون نواصيه في الغرب، وهذه القضية تثير غيرةَ كل مسلم، وتدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة والأغراض الكامنة وراءها ومدى تأثيرها.
لقد أزعجهم سرعة انتشار الإسلام في الغرب، والذي أثار غيرة كل المعادين للدين سواء أكانوا من النصارى أو اليهود، أو حتى من العلمانيين والملحدين.
وأيضًا حسد القيادات وخصوصًا الدينية، فإن كثيرًا من هؤلاء يغيظهم شخص الرسول ، بل حتى المنافقين في العالم الإسلامي لما يرون من لمعانِ اسم النبي محمد في كل الأرجاء وكثرة أتباعه وتوقير المسلمين الشديد لنبيهم ، وهذا ما يثير حسدهم.
ولا ننسى عامل الخوف، ليس الخوف من انتشار الإسلام في الغرب فحسب، بل الخوف من عودة المسلمين في العالم الإسلامي إلى التمسك بدينهم، وهم الآن يستغلون ضعف المسلمين في كثير من الجوانب، مثل الجانب الاقتصادي والإعلامي والعسكري، ويريدون أن يطفئوا هذا النور قبل أن ينتشر في العالم.
أيها المسلمون، إنْ تخاذلنا عن نصرة نبينا فإن الله ناصر نبيه، معلٍ ذكره، رافعٌ شأنه، معذب الذين يؤذونه في الدنيا والآخرة، وفي الصحيح عن النبي قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) ، فكيف بمن عادى الأنبياء؟! يقول الله جل وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ويقول الله جل جلاله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95].
إن على كل مؤمن يحبّ الله ورسوله ويغار لدينه أن ينتصر لرسوله، وأن يقدم كل ما في وسعه لرد هذه الهجمة الشرسة. على الدول الإسلامية أن تهبّ لنصرة نبيها، وأن تستنكر ذلك أشد الاستنكار، وأن ترفع عقيرتها بالاستنكار والتنديد والمطالبة الجادة، وذلك في المؤتمرات والمحافل العامة؛ رعاية لحق من أهم حقوقها. وعلى المؤسسات أن تقوم بدورها من خلال كتابة بيانات تستنكر فيه هذا الفعل المشين، وتطالب بمحاكمة هذه المجلات؛ ردًا لاعتبار أكثر من مليار مسلم. ثم على المؤسسات والصحف والمجلات والمواقع الإسلامية أن تكتب ردًا على هذه الافتراءات، وأن تسطر على صفحاتها بقلم يسيل عطرًا شمائل النبي ، وأن تبين الدور العظيم الذي قام به لإنقاذ البشرية وأنه أُرسل رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين.
أيها المسلمون، سَأل الخليفة هارونُ الرشيد الإمامَ مالك بن أنس رحمهما الله في رجل شتم النبي وذكر له أن بعض المتفقهة أفتوا بجلده، فغضب مالك وقال: يا أمير المؤمنين، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ؟! من شتم الأنبياء قُتل.
إن سب النبي من أعظم المحرّمات، وهو كفر وردّة عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك جادًا أم هازلاً، وإن فاعله يقتل ولو تاب، مسلما كان أم كافرًا، ثم إن كان قد تاب توبة نصوحًا وندم على ما فعل فإن هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله له، أما في الدنيا فيجب أن يقتل، هذا هو حكم الله وحكم رسوله في رئيس تحرير الصحيفة التي سخِرت بالنبيّ ، وكذلك راسم تلك الصور.
والشيء بالشيء يذكر، وهو أن يعلم أولئك الكتّاب في العالم الإسلامي والعربي ممن يسوّدون بعض الصحف والمجلات سخريةً بالدين أو بالسنة أو استهزاءً بالعلماء والصالحين ونحو تلك الكتابات الخطيرة، عليهم أن يعلموا أن في بعض كتاباتهم يشمّ منها رائحة الكفر، وأنه قد يحكم على بعضهم بالردة، ولو طبّق حكم الله فيهم لكان حقهم السيف. فعليهم أن يحذروا بعدما رأوا هذا التفاعل الإيجابي من كافة شرائح المجتمع وطبقاته، وليعلموا أنهم نشاز بين عامة المسلمين، والله الهادي إلى سواء السبيل.
أيها المسلمون، من حقّه علينا أن ننصره ونجلّه، فقد أمر الله تعالى بذلك في قوله سبحانه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]. فالواجب أن ننصره ونؤيده ونمنعه من كل ما يؤذيه، كما يتعيّن علينا إجلاله وإكرامه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما انتهاك عرض رسول الله فإنه مناف لدين الله بالكلية، فإن العرضَ متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به من الرسالة، فبطل الدينُ، فقيام المدح والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله، وإن كان ذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه".
أيها المسلمون، وتجاه ما حصل فنقول: أين دور وزارات الخارجية وسفاراتها في جميع الدول الإسلامية في مواجهة هذه الرعونة والصفاقة التي استمرت مدة طويلة مع إصرار وعدم مبالاة بأهل الإسلام؟! قد عهدنا من تلك السفارات ضجيجًا لا ينقطع عندما تُمسّ أو تُنتقد سياسة حكّامها، مع أنها سياسات تغيّرها وتحرّكها المصالح والمطامع والمخاوف، فأين الذبّ عن رسول الله وهو أعظم الثوابت وأجلّ المطالب وفي الانتصار لمقامه وعرضه الشريف خيري الدنيا والآخرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؟! ماذا لو قامت صحيفة بالسخرية بأحد رؤساء أو حكّام إحدى الدول الإسلامية؟! كيف سيكون رد الفعل؟! أين دور وزارات التجارة في تلك البلاد؟! وماذا قدّمت نقابات التجّار والغرف التجارية ونحوها من الهيئات التجارية من أجل الضغط والأخذ على أيدي أولئك الزنادقة السفهاء؟!
أيها المسلمون، لقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في تعظيم وإجلال رسول الله، والقصص في ذلك كثيرة، منها ما رواه الدارمي في سننه عن عبد الله بن المبارك قال: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله، فلدغته عقرب ست عشرة مرة ومالك يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك عجبًا! فقال: نعم، إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله.
فأين نحن مما حصل أيها المسلمون؟! أظنّ والله أعلم لو كانت الخلافة قائمة والمسلمون في قوتهم وعزتهم لأعلن الحرب على الدانمارك من أجل ما حصل، لكن ضعف المسلمين اليوم جعل هؤلاء الجعلان يتجرّؤون.
إن التاريخ شاهد على حوادث ومواقف وقفها المسلمون الأوائل أقلّ بكثير مما فعلته الدانمارك، ففتح عمورية كانت بسبب امرأة أسرها النصارى في تركيا وصرخت ونادت بالمعتصم، فتحرّك المعتصم من العراق، وحرك جيشًا ضخمًا أدب النصارى وخلّص المرأة، وأحرق عمورية عن بكرة أبيها. والحجاج على ظلمه وجبروته يوم بلغه صوت عائلة مسلِمة أسرَها الديبل في أعماق المحيط الهندي فصاحت في أسرها: يا حَجاج، وانطلقت الصرخة تهزّ أوتار الكون حتى بلغت العراق بلد النخوة والكرامة والنجدة، فصاح الحجاج بأعلى صوته والتاريخ أذن تسمع، وأرسل جيشًا عظيمًا جعل عليه أعظم قواده محمد بن القاسم، وتحرك الجيش المسلم يحدوه صوت المرأة المسلمة المظلومة، حتى اقتحم بلاد الديبل وهي كراتشي حاليًا، وقتل ملكها وعاد بالمرأة المسلمة حرة عزيزة.
أيها المسلمون، لا ننسى أن نشكر كل من كان له دور في رد هذه الهجمة في الفترة السابقة من دول وعلماء ومؤسسات وأفراد، نشكرهم على ذلك ونطلب منهم ومن غيرهم المزيد. كما لا ننسى أن نشكر التجار الذين قاطعوا المنتجات الدانماركية وأعلنوا ذلك، فلهم منا الشكر والدعاء، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يصدّون عن سبيلك ويؤذون نبيك، اللهم أهلك مجرمي الدانمارك واجعلهم عبرة للمعتبرين.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أخي محبّ الرسول ، أخي الغيور على دينك المنتمي لهذا الدين العظيم، أنت الذي تطلب من الله أن يرحمك، وأن يجعلك ممن تشملهم شفاعة رسوله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، أنت الذي تطلب من الله أن يسقيك من حوض نبيه شربة لا تظمأ بعدها أبدًا، أنت الذي تقول في كل صلاة: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ماذا قدمت لدينك ولنبيك تجاه ما حصل؟
إن بإمكان كلّ واحد أن يكون له دور في هذه القضية، بل يجب أن يكون له دور، فمن ذلك:
1- الاحتجاج على الصعيد الرسمي على اختلاف مستوياته واستنكار هذا التهجم بقوة.
2- الاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية الرسمية كوزارات الأوقاف ودور الفتيا والجامعات الإسلامية.
3- الاحتجاج على مستوى الهيئات والمنظمات الشعبية الإسلامية وهي كثيرة.
4- إعلان الاستنكار من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والقيادات الشرعية وإعلان هذا النكير من عتبات المنابر في كافة العالم الإسلامي.
5- المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب بالرد على هذه الحملة واستنكارها.
6- المواجهة على المستوى الفردي، وذلك بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة الاحتجاج والرد والاستنكار إلى كل المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال ملايين الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعًا.
7- استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
8- كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف ونشرها على مواقع الإنترنت باللغات المتنوعة.
9- إنتاج شريط فيديو عن طريق إحدى وكالات الإنتاج الإعلامي يعرض بشكل مشوق وبطريقة فنية ملخصًا تاريخيًا للسيرة، وعرضًا للشمائل والأخلاق النبوية، ومناقشة لأهم الشبه المثارة حول سيرة المصطفى ، وذلك بإخراج إعلامي متقن ومقنع.
10- طباعة الكتب والمطويات التي تُعرّف بشخصية النبي ، ويراعى في صياغتها معالجة الإشكالات الموجودة في الفكر الغربي.
12- عقد اللقاءات وإلقاء الكلمات في الجامعات والمنتديات والملتقيات العامة في الدول الغربية لمواجهة هذه الحملة.
13- إصدار البيانات الاستنكارية من كل القطاعات المهنية والثقافية التي تستنكر وتحتج على هذه الإساءة والفحش في الإيذاء والمطالبة بمحاسبة الجريدة ومعاقبة الفاعل.
14- إيجاد رد صريح من قبل العلماء الربانيين والتعليق عليه، وتبيين الموقف الشرعي في قضية التعدي على الرسل والأنبياء والنبي ، مع إقامة مجموعة تنفيذية من العلماء المتخصصين وطلبة العلم للإجابة عن هذه الافتراءات خلال مواقع الإنترنت وغيرها، ولو قام العلماء في كل مكان في المملكة ومصر وفي الجزائر والمغرب العربي والعالم الإسلامي جميعًا ووجهوا لعامة الناس وبخاصة في الغرب خطر هذه القضية وأن هذه الشائعات لا يرضاها أصلا أنبياؤهم كعيسى وموسى فضلاً أن تكون في محمد لكان له تأثير قوي.
15- إيجاد مؤلفات تحمل بين جنباتها حياة النبي وسهولته وسماحته في الحياة بجميع اللغات، حتى يوضح للعالم حياة النبي من جهة، ومن جهة يرد على أولئك الذين تسلطوا على شخصيته وشرفه.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يصدّون عن سبيلك ويؤذون نبيك. اللهم أهلك مجرمي الدانمارك الذين تطاولوا على نبينا. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره واجعل اللهم تدبيره تدميرًا عليه...
(1/4600)
الصلاة
فقه
الصلاة
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
20/12/1426
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقصير الناس في فريضة الصلاة. 2- تعظيم أمر الصلاة في القرآن الكريم. 3- فضائل الصلاة وأهميتها. 4- وعيد تارك الصلاة. 5- حكم تارك الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين، وتمسكوا بالنهج القويم وبهدي خير المرسلين، فإن فيهما النجاة يوم الدين، ومن شذ عنهما فويل له من عذاب يوم الأليم.
ثم اعلموا ـ إخوتي الأكارم ـ أن مما فرّط الناس في أدائه في هذا الزمان وهو من الأهمية بمكان بل عمود الدين وثاني الأركان الصلاة، لقد تهاون البعض في الحفاظ عليها، وتمادى البعض الآخر فأخرجوها عن أوقاتها، أو أدوها في غير أماكنها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
لذا كان لزاما على العبد أن يحاسب نفسه الفينة بعد الفينة على هذه الشعيرة، وعلى الواعظ أن يذكر الغافل وينبّه الوسنان ويوقظ النائم قبل فوات الأوان.
ألا فاسمعوا ـ إخوة الإسلام ـ إلى ما يقوله رب الأنام، قال سبحانه في محكم التنزيل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. إنها الصلاة، وصية الله وأمره للنبيين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وكان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا، وقال عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، وأمر الله محمدًا بقوله: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:78، 79]، وقال له في آية أخرى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أهمية الصلاة.
إنها الصلاة، كيف يضيعها العبد وهي أول ما يحاسب عليه يوم القيامة؟! قال الحبيب : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) وهو في صحيح الجامع.
إنها الصلاة، كيف يتهاون بها العبد وهي الصلة بينه وبين خالقه، ينقطع فيها الإنسان عن مشاغل الدنيا، ويتجه بها إلى ربه، يطلب منه الهداية والعون والرشاد؟!
إنها الصلاة، جعل الله لها أوقاتًا مكتوبة فقال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]. وأمر بإقامتها حين المساء وحين الصباح وحين الإظهار، وقدرها خمس مرات في اليوم والليلة رحمة منه سبحانه، ولتكون فرصة للمسلم يتطهّر بها من غفلات قلبه وكثرة خطاياه، وقد مثَّل هذا المعنى في قوله: ((مثل الصلوات المكتوبات كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)).
إنها الصلوات الخمس، فرصة عظيمة ليعود بعدها المخطئ إلى رشده، ويرجع الغافل الناسي إلى ربه، وجاء في الأثر: "إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه".
إنها الصلاة، سبب في رفع منزلة المسلم في الجنة، ولذلك لما سأل ذلك الصحابي الجليل مرافقة النبي في الجنة قال له: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) ؛ فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط بها عنه خطيئة. وليس هذا فحسب، بل الصلاة بابك الذي تبثّ منه شكواك وهمّك إلى من يفرج الهموم، فإذما أحاطت بك الخطوب أو خانك الصديق وانقلب الحبيب عدوًا وعقك الولد أو أنكرتْ الزوجةُ جميلَك لها فما لك إلا الله، فافزع إلى الصلاة اقتداءً برسول الله ، فقد كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة، وقال لحبيبه بلال: ((أقم الصلاة، ناد بها، أرحنا بها يا بلال)).
ولما ماتت القلوب في عصر الحضارة والمدنِية نودي بالصلاة، فقيل بل قال بعض السذج من بني الإسلام: أرحنا منها، وهذا ما يرى ويُشاهد في هذا الزمان.
إنها الصلاة، أمانة من الله عندك، إذا حفظتها حفظك الله، وإذا ضيعتها ضيعك الله، ومن أدى أمانة الله أدى الله سبحانه عنه، ومن فرط أو ضيع فإنما يجني على نفسه، والأسف كل الأسف أن شبابا من بني الإسلام لا يرى محافظا على الصلاة إلا في مثل هذه الأيام، وتعرفون ماذا تعني هذه الأيام عند الطلبة والطالبات، إنها أيام الامتحان، يومها يلجؤون إلى الله يحافظون على الصلاة، يؤدّون أمانة الله، فإذا ما انزاحت الشدائد عادوا إلى التفريط والتضييع، يخادعون من لا يُخدَع، إنها من صفات أهل النفاق أعاذنا الله وإياكم من النفاق، أولئك القوم يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.
إنها الصلاة، ولأهمّيتها العظمى لما أراد سبحانه فرضها لم يرسل لذلك جبريل عليه السلام، لكنه عرج بحبيبه إلى السموات العلى، وخاطبه بها هناك : وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:3-10].
لذا ـ عباد الله ـ فإنه لا استغراب أبدًا في كون تاركها يعاقب العقاب الشديد ويعذبُ العذاب الأليم، الذي توعد الله به تارك الصلاة أو المتهاون فيها، فتأملوا ـ عباد الله ـ في جواب أهل النار حين يُسألون: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42، 43]، ثم تأملوا أخرى في قوله سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وأولئك هم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها.
أما من تأمل في السنة النبوية على صاحبه وقائلها أفضل الصلاة والتسليم وجد فيها الإشادةَ بالصلاة وبيانَ مكانتها والترغيبَ في المحافظة عليها والتحذيرَ الشديد في تضييعها أو التهاون فيها، قال عليه الصلاة والسلام: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة إلى يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)).
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: "إن في هذا الحديث معجزة نبويّة تدلّ على كرامة رسولنا محمد ، فتارك الصلاة إما أن يشغله عنها ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف".
وجاء في الترغيب والترهيب إن النبي قال: ((لا تترك الصلاة متعمدًا؛ فإنه من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله)) ، وقال: ((من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان))، وفي آخر حياته كانت كلماته ووصاته: ((الصلاة الصلاة، الصلاة الصلاة))، ردّدها وهو يفارق الحياة إلى الحياة.
إنها الصلاة، أمانة الله، ووصية رسول الله، وليس لخطيب أن يبيّن أن أهميتها أكثر مما أبان الله وأوضحه رسول الله صلى وسلم عليه مولاه، ولكن حسبي وحسبك ما تمّ الإشارة إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبع الهدى.
وبعد: معاشر الفضلاء، فإن مما يجب أن يقال في هذا المقام أنه لا عذر لأحد عند الله في ترك الصلاة أبدا، في سِلم أو حرب، في صحة وعافية أو مرض وسقم، في البر أو في البحر أو حتى الفضاء، فمن لم يستطع أن يؤدّي الصلاة قائمًا فليصلها جالسًا، فإن أعجزه ذلك فليصلها على جنبه مضجعا، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فبالإشارة أو على أيّة حال كما قال عليه الصلاة والسلام، إذًا فلا عذر أبدًا لترك الصلاة، إلا فيما أوضحه الشرع في حال رفع القلم عن المرء أو نزول دم الحيض والنفاس في المرأة المكرمة.
أما حكم الشرع في من تارك الصلاة عامدا متعمدا فيقصّه علينا سيد الخَلق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ، وقال أيضا: ((بين الكفر والإيمان ترك الصلاة)) ، وقال: ((بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك)).
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجه ورضي عنه وأرضاه: (من لم يصل فهو كافر)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (من ترك الصلاة فقد كفر)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (من ترك الصلاة فلا دينَ له)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: (من لم يصل فهو كافر)، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له).
وقال الإمام العلامة إسحاق رحمه الله: "صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر"، وعن حماد بن زيد عن أيوب: "ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه"، وعن عبد الله: "كان أصحاب محمد لا يعرفون شيئًا من الإعمال تركه كفر غير الصلاة". فماذا بعد ذلك كله؟!
يقول الشيخ ابن عثيمين: "وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر فإنه يترتب عليه أحكام، منها أنه لا يصح أن يزوّج، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يحل له أن يدخل مكّة المكرمة أو حدود حرمها، ولا حقّ له في الميراث، فلا يرث ولا يورَث، ولا يُغسَّل بعد موته ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، بل يورى في حفرة في الصحراء أو في العراء، ولسوف يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف أئمة الكفر، ولا يدخل الجنة، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر" انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
وبعد: إخوتي في الدين، فالأمر والله خطير جد خطير، ولقد سمعتم قول الكتَاب المبين وحديث الرسول الكريم وأقوال السلف والعلماء الربانيين، فخذوا لأنفسكم، وقوها النار وأهليكم، فمن كان مفرّطا أو متهاونًا بالصلاة فليستغفر الله وإليه يتوب، وليبدأ حياة جديدة أساسها المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة المسلمين، ومن كان محافظا فليحمد الله رب العالمين، وليتفقد نفسه المرة بعد المرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
ثم صلوا وسلموا على الرسول الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/4601)
اليهود العدو اللدود
أديان وفرق ومذاهب
أديان
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
28/7/1426
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شراسة الحرب على الإسلام. 2- سب اليهود لله تعالى. 3- اعتداء اليهود على أنبياء الله تعالى. 4- جرائم اليهود. 5- خيانة بني قريظة. 6- لا رضاء لليهود عن المسلمين. 7- البراءة من اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وبعد: معاشر المؤمنين، فإنّ العقل البشريَ المستنير ليحار أشدّ الحيرة، وإن الفكر الصحيح ليتيه في أودية الاستغراب مما يشاهد هنا وهناك من أصناف الاضطهاد وأنواع الإرهاب على أهل الإسلام، ومنذ أن خلق الله هذه المعمورة والصراع بين الحق والباطل قائم، والنزاع بين الإسلام وبين الإشراك والكفر مستمرّ، لا يوقفه سلام مزعوم أو إصلاح مرسوم، وإن ما يجري في ديار المسلمين شاهد على ذلك، ففي العراق نكبات، وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي فلسطين وفي كثير من ديار المسلمين.
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
وبات أهل الإسلام في ضنك وعوَز حيث أبصرتهم، كبّلهم قيدهم، سفكوا دماءهم وسبوا نساءهم، ويتموا أولادهم، واستباحوا بيضتهم، كل ذلك ـ عباد الله ـ في ظل نشر الحرية بين الشعوب وإحلالِ السلام المزعوم، واليهود هم وراء ذلك كلّه.
ولعلَ الناظرَ في حال اليهود مع مرور الزمان يرى العجب العجاب، فلقد فعلوا وقالوا وزعموا وافتروا أشدّ الافتراء، فقالوا عن ذي الجلال: "يد الله مغلولة"، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، وقالوا: "إن الله ثالث ثلاثة"، تعالى الله عما يقولون، ومما قالوه: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، ثم بعد هذا التزعم والافتراء قالوا: "نحن أبناء الله وأحباؤه"، بل أحفاد القردة والخنازير كما قال الله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].
وهم الذين قتلوا الأنبياء ونشروهم بالمناشير، وجادلوهم وكذّبوهم أشدّ التكذيب، أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. ولما دعاهم موسى إلى الإيمان بالله قالوا: "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، وحينما أمرهم بدخول القرية قالوا: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون". ولما جاءهم موسى بالبيّنات من ربهم قالوا: "مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين".
إنهم كفروا نعمة الله، وافتروا على الله، ونقضوا العهود، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وألبسوا الحق بالباطل، واتخذوا العجل، وتعدوا الحد، وقالوا: "سمعنا وعصينا"، فلعنهم الله، بل هم قوم لا يفقهون، لا يعقلون، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:134-136].
ومنذ بزغ نورُ الإيمان ولدت عداوةُ اليهود للإسلام، وعادوا إلى التنكر من جديد، يبرزون في كل خيانة، ويختفون عند المكرمات، فهم من خذل المسلمين يوم أحد، ونقضوا العهد يوم الأحزاب، ودبّروا الفتن، ونشروا المحن، ومكروا بنبينا جماعات وفرادى، وكادوا يقتلونه.
وما سوف نورِده هنا ـ عباد الله ـ لهو خير شاهد على العداء القديم والحِقد الدفين، ففي السِّيَر عن صفيةَ بنتِ حيي بنِ أخطب قالت: كنت قبل الإسلام أحبَّ ولدِ أبي إليه وإلى عمّي أبي ياسر ـ وهما من يهود المدينة ـ، تقول: لم ألقهما قطّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء في بني عمرو بنِ عوف غدا عليه أبي، حييُ بنُ أخطب وعمّي أبو ياسر بنُ أخطب مغلّسَين ـ أي: بعد الفجر ـ، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع الغروب، فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهُوينى. قالت صفية: فهشَشت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما لما بهما من الغم ـ من قدوم النبي إلى المدينة ـ، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي حيي: أهو هو؟ قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
وكذلك ـ إخوة الإسلام ـ ظلّ هذا اليهودي في عداوته لرسول الله والمسلمين، يكِنّ لهم من العداوة والبغضاء ما يكنّ، ويتمنى لهم الهزيمة، ويتربّص بهم الدوائر. وظل كذلك حتى كان اليومُ الذي نقضت فيه بنو قريظة العهد بينها وبين رسول الله ، وهذا دأبهم لعنهم الله، ينقضون العهود، ويغدرون المرّة تلو المرة، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6].
فلما نقضوا العهد وغدروا حكّم فيهم رسول الله سعد بنَ معاذ، وقد كان حليفا لهم في الجاهلية قبل قدوم رسول الله المدينة، ففرحوا بذلك، وظنوا أن سعدًا سوف يعاملهم بالحسنى، ويحكم فيهم بالسهل اليسير، وأنى لمؤمن آمن بالله وصدق برسوله أن يكون كذلك؟! حتى إذا ما أقبل سعد على رسول الله جعلوا يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله إنما ولاّك عليهم لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه وأرضاه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم قال سعد: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه أن الحكمَ فيهم لما حكمت؟! قالوا: نعم، قال: وعلى مَن ها هنا يعنى رسولَ الله ، وهو معرض عنه إجلالا له، فقال : ((نعم)) ، فقال سعدٌ رضي الله عنه وأرضاه: فإني أحكم فيهم بأن تقتلَ الرجال وتقسمَ الأموال وتسبى الذراري والنساء، فسرّ عن رسول الله ثم قال: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرْقع)) أي: من فوق سبع سموات.
ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة، فخندق فيها خنادق، ثم أرسلوا إليه عشرة عشرة تضرَب أعناقهم في تلك الخنادق، وأتى بعدوّ الله حيي بن أخطب وعليه حلّة فقاحية قد شقّها من كل ناحية قدر أنملة لئلا يُسلبها ويستفيدَ منها المسلمون، حِقدا منه وطمعا وكرها. وإن دل ذلك ـ عباد الله ـ على شيء فهو أبرز شاهد على العداوة الشديدة التي تكنها قلوبهم للمؤمنين والحقدِ دفين الذي تحمله نفوسهم على هذا الدين.
فأتي به ـ لعنه الله ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما أبصر رسول الله قال: أما والله ما لمت نفسي قط في عداوتك، ولكنه من يَخذُلِ الله يُخذل، ثم أقبل على الناس وقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدرُه، وملحمة كتَبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضرِبت عنقه.
أرأيتم ـ معاشر المؤمنين ـ كيف تكون العداوة والكراهيةُ والبغضاء حتى الموت؟! إنها أخلاق من سلف من أحفاد القردة والخنازير، وما زالوا كذلك، والكون خير شاهد على ما يفعلون ويقترفون، فكم من اتفاقية وعهد نقضوا، وكم من ميثاق أبرموه ثم نكصوه، ولكن العالم الإسلامي اليوم أذن لا تعي وأفئدة لا تتفقّه ما يكاد لها ونفوس لا ترعوي إلا من رحم الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120].
نفعنا الله وإياكم بآيات الذكر الحكيم وبهدي خير المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: إخوة الإيمان والدين، فثمة أمور يجب الإيمان بها والتصديق في زمن يصدق فيه الكذوب ويؤمتن فيه الخؤون وتزيف الحقائق وتبدلُ الأمور.
منها أن اليهود مهما أعطَوا من عهود ومواثيق ومهما أُعطُوا من تنازلات وخضوع فلن يرضوا عن المؤمنين، ولن يرضوا إلا بزوال هذا الدين، وهذه حقيقة لا يجحدها إلا المستكبرون، فإن الله يقول وصدق الله وكذب المغرضون: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
وكذلك إخوة الدين، إن ما يذكر من كره اليهود للمؤمنين وبغضهم لهم ما هو إلا داع يدعونا لنكون كما قال الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وفي آية أخرى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1].
إن عداوتنا لليهود ظاهرا وباطنا واجب ديني وركن شرعي، به نتقرب إلى الله، ونرجو به النجاة، وهو اتباع لأمر الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
وإن مما غفلنا عنه ـ معاشر المؤمنين ـ منهج الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين بحبهم ونصرهم والدعاءِ لهم، والبراءةُ من الكافرين بكرههم وتمني الغلبة عليهم، وهذا ما يسعى إلى محوِه أعداءُ الإسلام.
ألا فاستنصروا للإسلام وأهله، واعقدوا النية على الجهاد بالنفس والمال، وحدثوا به أنفسكم، فمن لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق، كما قال سيد الأنام صلوات ربي وسلامه عليه، ثم اجتهدوا في الدعاء، وابذلوا الغالي والنفيس من أجل هذا الدين، وتحملوا هم نشره وتبليغه للعالمين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/4602)
هكذا فلنذب عن الجناب الشريف
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
مكة المكرمة
27/12/1426
مسجد الجود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب ذل الأمم. 2- من مبادئ الإسلام. 3- فضل الإسلام والنبي محمد. 4- شهادة الغربيين للنبي. 5- استمرار حلقات الطعن في النبي. 6- حقوق النبي. 7- من فوائد هذه الحملة التشويهية الشرسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في الليل والنهار، في الجهر والإسرار، فتقوى الله خير زاد للعباد ليوم المعاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
ثم اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أنه ما ذلّ من ذل من الأمم إلا يوم تخلّوا عن مبادئهم السامية وابتعدوا عن تطبيق ما جاءت به كتب السماء، عند ذلك أهلكهم الله وشتت شملهم وأخمد ذكرهم.
ألا وإن مما نعلمه نحن بني الإسلام أن للإسلام أركانا وأسسا ومبادئ ومقدّسات، يجب الإيمان بها حقّا، والالتزام بها صدقا، والتمسك بها قولا وفعلا، وأركان الإسلام ما علمتم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة وصومُ رمضان وحجُ البيت الحرام، تلكم هي أركانُ هذا الدين.
وكما أن للإسلام أركانا فله شرائع أخرى؛ في الإيمان، في الإخلاص، في العبادات وفي المعاملات، في الصفات وفي الأخلاق وفي جميع شؤون الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي كل أمر صغر أو كبر، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12].
ومفاد ما سبق ذكره وخلاصته أن هذا الدين دين الله الذي ارتضاه على الأديان، وهو خير الأديان على الإطلاق، ولما أراد إنزال وحيه إلى من يختار من عباده جعل خيرَ الملائكة وأفضلَهم سفيرا أمينا لتبليغ دينه إلى نبيه، ثم اختار من بين العالمين منذ خُلقت هذه البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، اختار من بينهم محمدا ، فهو خير الخلق وأفضل البشرية، ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، فنبينا محمد خير البشرية وأزكى البرية وأشرف الخلق، اختاره الله عز وجل ليكون خاتم النبوات وتتمة الرسالات، فلا سبيل إلى الله إلا من سبيله، ولا طريق إلى الجنات إلا من طريقه، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فجاء بالدين الحق سراجا منيرا وقرآنا مبينا، به سعدت البشرية وتطورت الحياة وانتظمت الإنسانية، وكان خير قدوة وخير أسوة وخير دليل وخير نبي، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
والعرب والعجم من قبل رسالته العالمية كانوا في جاهلية جَهْلاء وظلام مُطْبِق، في فرقة وشتات، يعبدون الأصنام، ويأكلون المَيْتات، ويشربون الخمور، ويقترفون الفواحش، ويَئدُون البنات، ويُسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويأكل القوي الضعيف، حياتهم قتال وتناحر وفرقة واختلاف، ثم أَذِن الله للّيل أن ينجلي وللصبح أن يَنْبَلِج وللظلمة أن تَنْقَشِع وللنور أن يُشعّ، فأرسل الله سبحانه هذا الرسولَ الكريم والصادقَ الأمين رحمة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. وكان كذلك ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات ربي وسلامه عليه، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
إخوتي الأكارم، وفي العصور الماضيةِ والأحقاب السّالفة عاش كثيرٌ من العظماء ورجالات التأريخ والديانات، نقلتِ الأنباء أخبارَهم، ودوّنت الكتب أوصافهم، غيرَ أنه لم ولن يوجد أحدٌ من العظماء والرجال نُقلت أخباره ودُوّنت صفاته وحُفظت سيرته كما كان لنبينا محمد ، لقد وصَلَ إلينا ذلك بالنّقل المتواتر. سيرة عطرة وحياة نضرة، تضمّنت العدل والأمانة والصدق وعلو المكانة، وشملت الرحمة والرأفة والصيانة، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، زكاه ربه وكفاه، وشهد له القاصي والداني والعدو والحبيب، وإليكم بعضَ ما قاله فيه أعداؤُه وما شهدوه فيه وله، ولسنا بحاجة إلى شهادتهم:
يقول كاتب منهم: "محمّد هو النبي الوحيد الذي وُلِد تحت ضوء الشمس"، يشير إلى دقّة سيرته عليه الصلاة والسلام وصحّتها وتوازنها.
ويقول عالم فرنسي آخر: "لم يكن محمد نبي العرب بالرجل البشير للعرب فحسب، بل للعالم لو أنصفه الناس؛ لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب، وإنّ تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه، عظيم في أخلاقه، عظيم في صفاته، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين" ونقول.
شَهْمٌ تُشِيد به الدنيا برُمّتها على الْمنائر من عُرْب ومن عَجَمِ
أحيا بك الله أرواحًا قد اندثرت في تربة الوهم بين الكأس والصنمِ
مِن نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلّهم
ويقول العالم الإيطالي: "لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون دينًا لكل الأمم؛ لأنه دين كمال ورقي، دين دَعَة وثقافة، دين رعاية وعناية"، ويقول الألماني الآخر: "لقد أخطأ من قال: إن نبي العرب دَجّال أو ساحر؛ لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدًا جدير بالتقدير، ومبدؤه حريّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمدًا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال".
هذه شهاداتهم في النبي الأمي، أنطقهم الله بها، رغما عن أنوفهم، ويأبى الله إلا أن يَنطق الكذوبُ بالصدق من حيث يشعر أو لا يشعر.
إخوتي في الله، يُقال هذا ليس لإثبات ما لنبينا محمد من فضل وشرف ومكانة، إنما يثار ذلك لأنا والمسلمين في أنحاء العالم أجمع نعيش حملةً مسعورة موجّهة نحو ديننا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنها حملة ظالمة آثمة واستفزازات حاقدة تستمدّ قواها من جدّها أبي جهل وابن سلول كبرائهم الذين علّموهم السحر.
وقد قال أهل الشرك والكفر والحقد من قبل في نبينا ما قالوا، قالوا: ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: كذاب، فلما جاء الأبناء والأحفاد لم يكتفوا بذلك، بل قالوا عنه: إرهابي في عصر السّلام، ومتشدّد في دنيا اليسر والسهولة والوئام، وقالوا: انغلاقي في عالم الانفتاح والديمقراطية، وافتروا وزعموا ثم تطاولوا وتطاولوا حتى همزوا ولمزوا وسخروا من شخصيته المقدسة، فرسموه في صحفهم وجرائدهم برسوم حقيرة سفيهة، بدعوى حرية التعبير، فأين هم من ميثاق احترام الأديان وتوقير مقدسات كل دين؟! بل أين هم من احترام حقوق الإنسان بل الحيوان؟! ألا لعنة الله على الظالمين المفترين الأفاكين.
وإن ما جرى ويجري في الدنمرك والنرويج من تشويه لحقيقة النبي الكريم ما هو إلا تتابع لمسلسلات حملات أهل الكفر لهذا الدين العظيم، والحكمة اقتضت أن الذليل لا يرى طريقا لصعود إلا بانتقاص الأكابر والتهكم بالعظماء، ألا لعنة الله على الظالمين المفترين الأفاكين.
يصفونه بالإرهاب والتطرف وهو الذي قال يوم الفتح لكفار قريش لما تمكن من رقابهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ، ويصفونه بسفك الدماء وامتصاصها وهو الذي كان يأمر جنده أن لا يحاربوا قوما حتى ينذروهم ثلاثا، فإن أبوا قاتلوهم، فإن كان ذلك ـ أي: القتال ـ لم يقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا، ولم يحرقوا أرضا ولم يقطعوا شجرا، ألا لعنة الله على الظالمين الأفاكين.
ومن هنا يقال: إنَّ الهجوم على الإسلام ونبيّ الإسلام لا يزيد هذا الدّين وأهلَه إلا صلابةً وثباتًا وانتشارًا وظهورًا، وفي كتاب ربنا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. وإنّ العالم كله يعلم أن الذين يدخلون في دين الإسلام في ازدياد وتنامي على الرّغم من كلّ الظروف والمتغيّرات والأحداث والمقاومات، بل والتهديد والتشويه للإسلام وأهله ونبيِّه وقرآنه.
ومع هذا كله ـ معاشر المؤمنين ـ نقول: إن محمدا أنموذجُ الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة، وحامل لواء الدّعوة العالمية الشاملة. أعطاه ربُّه وأكرمه، وأعلى قدره ورفع ذكرَه، ووعده بالمزيد حتى يرضى، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن بايَعَه فإنما يبايع الله وله السعادة في الدنيا والأخرى، ومن عصاه وكفر به فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإنه لا قدرَ لأحد من البشر يداني قدرَه، صفوةُ خلقِ الله، وأكرم الأكرمين على الله، وحينما قال موسى كليم الله عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى قال الله لمحمد : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ، وحين سأل موسى الوجيهُ عند ربه عليه السلام: رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال الله لمحمد : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وقال سبحانه عنه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:56-58].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد كله، علانيته وسره، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة عبده وابن عبده ومن لا غنى له عن رحمته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته، صلى الله وسلم عليه صلاة وسلاما دائمين بدوامه سبحانه في ألوهيته وربوبيته.
وبعد: إخوتي في الدين، فإن لهذا النبي العظيم علينا حقوقًا، أعظمها الإيمان به واتباعه ومحبته وتوقيره وتَعْزِيره والتمسّكِ بسنته ولزوم منهجه وطريقته والدفاع عنه وعن دينه وشرعته، قال شيخ الإسلام: "إن تَعْزِيرَه عليه الصلاة والسلام نصره ومنعه، وتوقيره إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أولى درجات التَعْزِير والتوقير، فلا يجوز أن نصالح أهل الذمّة على أن يُسمعونا شتمَ نبينا ويُظهروا ذلك، فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعْزِير والتوقير، بل الواجب أن نكفّهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق" انتهى كلامه.
ولئن كان هناك من يستهزئ بنبينا محمد كما حصل في دولة الكفر والعناد دولة الدنمرك أخزى الله من استهزأ بنبينا وحبيبنا محمد ، فالواجب علينا أن نتولّى الدفاع عنه بما نستطيع، ونلتزم ببيان صورته الصحيحة بذكر مواقفَ من سيرته العطرة، وأن نربّي أنفسنا وأبناءنا على ضوء سنته وسيرته ونسيرَ على منهاجها سيرا حثيثا، ولسان حال كلّ منا يقول:
فإن أبي ووالده وعِرْضِي لعِرْض محمدٍ منكم فِدَاءُ
وإنَّ استهزاءَ أعدائنا بشرائع ديننا واستخفافهم بنينا يوقظ في أنفسنا أمورا عدة من أهمها ما يلي:
أولا: أن نرجع بحق إلى معنى الولاء والبراء في شرعنا لنحقّقه في أنفسنا، نعم منهج الولاء والبراء الذي استماتته شعارات السلام والتعايش بين الأديان، نعم منهج الولاء والبراء الذي لا يعرفه كثير من الشباب فضلا عن الأطفال الصغار. إن الواجب علينا أن نقتفي أثر ولاة أمورنا، فلقد سحبت الحكومة السعودية سفيرها من دولة الدنمرك حين استهزأت بسيد المرسلين، وما ذلك إلا تحقيقا لمنهج البراءة من كل من يتهكم بشرائع هذا الدين أو بالنبي الكريم عليه صلوات رب العالمين، ألا فجزى الله حكومتنا الرشيدة على الانتصار لنبينا محمد.
فالواجب علينا ـ أيها الأكارم ـ أن ننتصر لنبينا محمد ، ولقائل أن يقول: وكيف ذلك وأنا فرد واحد لا يسمع صوتي ولا يدرك تأثيري؟! والجواب: كلا، بل أنا وأنت وهو وهي عوامل مؤثرة في الحياة والوجود، فلوا أن كلاّ منا عاد من يومه هذا إلى نفسه فألزمها سنة محمد لكان ممن انتصر له، ولو أن كلا منا عاد من يومه وجدد حبه الصادق لنبينا محمد لكان ممن انتصر له.
فعلى الآباء والمعلمين والدعاة والمفكرين أن يلزموا أنفسهم حبّ محمد وحبّ المؤمنين وحبّ أولياء الله الصالحين، ثم بغض الكافرين وكرههم وعدم اتباعهم أو التشبّه بهم أو الإعجاب بهم، بل ومقاطعة منتجاتهم وتجاراتهم، وما ضرّ المرء أن ينظر إلى مشترياته فإن وجدها من صناعاتهم عدل عنها إلى غيرها نصرة لله ولرسوله وهو القائل: ((من ترك شيئا لله عوضه الله خير منه)). فبهذا والله أستطيع أنا وأنت نصرةَ هذا الدين وإلحاقَ الخسارة والهزيمة والذلة بأعدائه المتربصين.
ثانيا: أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على سيرة النبي محمد ، وأن نجعل لها حيّزا في حياتنا اليومية، فالشباب والأطفال ينشؤون على ما اعتادوا عليه في صغرهم، فلنعرس في سويداء قلوبهم حبّ نبيهم وكره وبغض من عاداه أو افترى عليه، ولعلّ قائلا أن يقول: وما دور الأطفال؟! فأقول: إن أطفال اليوم هم شباب الغد، وهم رجال المستقبل من بعد، فإذا تربوا على الولاء والبراء وحبّ رسول الله وبغض من عاداه أو استخف به كان لذلك أثر في كبرهم وفتوّتهم، وبذلك ننتصر لديننا ونبينا ، وما يقال في حق الشباب والرجال يقال في حق الشابات والنساء من أمهات وزوجات وأخوات وبنات، فلنستنفر جميع الطاقات لمن فِداه أبي وأمي ونفسي والناس أجمعين، وهو القائل عليه صلوات رب العالمين: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان)) ، وذكر منها: ((أن يكونَ الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما)) ، وجاء في السير أن عمر ابن الخطاب قال: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من أهلي ومالي إلا من نفسي أو كما قال، فقال له رسول الله : ((لا يا عمر، حتى من نفسك)) ، فسكت عمر رضي الله عنه وأرضاه ثم قال: لأنت أحب إليّ الآن حتى من نفسي، فقال : ((الآن يا عمر)).
ثالثا: أن نكثر الصلاة والسلام عليه آناء الليل وأطراف النهار وأدبار الصلوات وفي الطرقات وفي ليلة الجمعة ويومها وفي كل وقت وحين، فإن الله سبحانه وتعالى هو وملائكته الكرام يصلون على النبي كما جاء في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا. نعم، فلنكثر الصلاة والسلام عليه، ففي الصلاة والسلام عليه مع الاتباع الصحيح تكفير للذنوب ورفع للدرجات وتفريج للهموم وكشف للكربات، وجاء في كتاب الترغيب والترهيب حديث حسنه الألباني رحمه الله تعالى وفيه أن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه قال: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) ، قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير)) ، قلت: النصف؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)) ، قلت: الثلثين؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير)) ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذا يكفى همُك ويغفَر ذنبك)).
إنها دعوة ـ أيها الأحبة ـ إلى العودة إلى محبة الرسول المحبة الصادقة الخالصة، والتي تقود إلى الاتباع والاقتداء بالإضافة إلى إكثار الصلاة والسلام عليه وتدريب الأبناء صغارا وكبارا على ذلك.
ألا فما أحرانا أن نستفيد من الأحداث والمواقف التي تمرّ بنا في هذه الحياة، ولعلّ ما حدث من استهزاء بالنبي في دولة الكفر يكون لنا حافزا للرجوع إلى سيرة حبيبنا.
اللهم احم حوزة الدين وجِناب الرسول الأمين، وانصر عبادك الموحدين، واخذل من خذَلهم، وانصر من نصرهم. اللهم عليك بأعداء هذا الدين ممن يقاتلون أهله، أو يستهزئون بهم وبدينهم، أو يبيتون لهم في أنفسهم العداء والانتقام. اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/4603)
جيل قرآني فريد
العلم والدعوة والجهاد, فقه, قضايا في الاعتقاد
التربية والتزكية, الحدود, الصحابة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/11/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل الصحابة رضي الله عنهم. 2- نماذج مشرقة من جيل الصحابة. 3- جيل الصحابة رضوان الله عليهم جيل مميز في تاريخ الإسلام كله. 4- من أسباب هزيمة الأمة اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين؛ جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم. هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِّهم وآخرهم. هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، أوصلوا دينَ الإسلام إلى أطرافِ المعمورة، فاتّسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان، فهم أدقّ النّاس فهمًا وأغزرُهم علمًا وأصدقهم إيمانًا وأحسنهم عملاً، كيف لا وقد تربّوا على يدَي النبي ونهلوا من ماء معينه الصّافي وشاهدوا التنزيل؟! روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه يقاتلون على دينه).
إنهم جيله عليه الصلاة والسلام، هو القرن الذي عاش فيه، هم الملأ الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، يُعلّم ويُوجّه، يسقي ويروي ما شاء لهذه الأنفس.
ولنقترب في خشوع وغبطة من أولئك الرجال الأبرار لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية الفاضلة وأبهاها، ولنرى تحت الأسماء المتواضعة أسمى ما عرفت الدنيا من عظمة ورُشد ورجوع إلى الله، في نماذج يعجز اللسان عن وصفها والقلم في التعبير عنها، ولنسرح بخيالنا مع بعض تلكم النماذج السامقة.
أشرقت شمس الرسالة على مدينة الرسول قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، ويجلس الرسول في المسجد وأصحابه حوله، يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل، يُعلّمهم ويُؤدبهم ويزكيهم وإن كانوا من قبل ذلك لفي ضلال مبين، واكتمل المجلس بكبار الصحابة وسادات الأنصار وبالأولياء والعلماء، وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام وسكت أصحابه، وأقبلت تمشي رُويدًا حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه وأخبرته أنها زنت وأنها تريد أن يُطهرها. فماذا فعل الرسول ؟ هل استشهد عليها الصحابة؟! هل قال لهم: اشهدوا عليها؟! هل فرح بذلك لأنها سلّمت نفسها؟! لا، احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دمًا، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئًا. إنها امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها، حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد. هل كانت تظن أن التطهير عنده كلام يُعزّرها به أو سياط وينتهي الأمر؟! كلا، إنها تعلم أن التطهير حجارة تتقاذف عليها، تُقطّع جسدها فتلحقها بالآخرة، ما أعظم هذه المرأة!
لقد ارتفع الإيمان عند ذلك الجيل إلى درجة لا يصل إليها أبرارُنا وأخيارنا هذا اليوم، إن عُصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد أعظم إيمانًا من طائعينا وعُبّادنا وزُهادنا.
فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟! حاول أن ترجع المرأة عن كلامها، لم يُرِد أن يأخذها بكلمة صدرت عنها، قد تكون غاضبة حينما قالتها، وقد تكون هناك شبهة، وهو الذي يُروى عنه قوله: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)). إنه يمنع التجسس والتصنت والاطلاع على عورات المؤمنين، فهو الذي يقول منذرًا ومحذرًا طوائف معلومة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
أخبرته المرأة أنها حُبلى من الزنا فقال: ((اذهبي حتى تضعي طفلك ثم ارجعي)) ، فذهبتْ حتى وضعت طفلها ثم عادت إليه.
وفي هذا الموقف بدائع وفوائد، منها عصمة هذا الجنين، فلا يُقتل معها بغير ذنب، ومنها صبرُها، فإنها لم تتغير عن موقفها أبدًا، ذهبت وبقيت صابرة محتسبة، أكل الأسى قلبها، وسال الدمع الحار على وجنتيها، وتحرّق فؤادها تريد أن تتطهّر، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
حملت طفلها تسعة أشهر ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به وقد لفَّته في خرقة وذهبت به إلى النبي ولم تتأخر خطوة واحدة عن إقرارها الأول، ثم هو لم يَسْتَدعِها عليه الصلاة والسلام، ولم يُرسل إليها عسكرًا ولا شرطةً، ولكن تَرَكَها فأتت بنفسها، تحمل طفلها بين يديها، وقالت: يا رسول الله، طهرني من الزنا، فنظر إلى طفلها وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا؛ لأنه كان يعيش الرحمة للعصاة، فقال لها: ((ارجعي وأرضعيه، فإذا فَطَمْتيه فعودي إليّ)). فذهبت إلى بيت أهلها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًّا كرسوِّ الجبال، كل يوم كانت تقترب من الله، ومن جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين وفُتحت للتائبين والعائدين. ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول وقالت: طهرني يا رسول الله، فأخذ طفلها وكأنه سلَّ قلبها من بين جنبيها، لكنه أمْر الله تعالى الذي يجعل الناس سواسية حتى في باب العقوبة والسيف والحبس، قال عليه الصلاة والسلام: ((من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين)) ، فقام أنصاريٌّ فأخذ الطفل. إنه مشهد مؤثّر، مشهد الإمام وهو لا يتنازل عن حق الله، ولكنه لا يتجسس ولا يُرهب ولا يُرعب، وإنما يُربي الأنفس حتى يأتي الإنسان طائعًا، يُسلّم نفسه بنفسه إلى العدالة، إنها تربية: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. إن القوى العالمية والكيانات الأرضية والحكومات لا تستطيع أن تقول لرعاياها: وَبَاطِنَهُ ؛ لأن الباطن عند الله، لكن محمدًا عليه الصلاة والسلام ربى هذا الباطن، حتى يأتي الإنسان وقد فعل فاحشة، لا يعلم به إلا الله، فيُسلِّم رقبته لتُقطع.
ذهبوا بالمرأة فحجّبوها، وجاء بعض الصحابة يشهد إقامة الحدّ، وأتت الحجارة عليها من كلّ جانب، ثم أقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها بحجر فتنضّح الدم على وجهِ خالدٍ فسبَّها، فسمع النبي سبّه إياها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له)) ، وفي رواية أن النبي أمر بها فَرُجمت ثم صلّى عليها، فقال له عمر : تُصلي عليها ـ يا نبي الله ـ وقد زنت؟! فقال النبي : ((لقد تابت توبة لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)).
هذا هو الإسلام، قوةٌ في تنفيذ حدود الله تعالى، ورحمةٌ إذا نفّذ هذا الحدُّ كما أراد الله، وقبولٌ لتوبة المذنب، وشفاعةٌ عند الله تعالى يوم القيامة.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الدين يقوم بتربية ضمائر الناس وتزكية نفوسهم وتعميق الإيمان في قلوبهم بأن العدالة لا بد أن تسود، وأن المساواة أمام الشرع هي من أكبر أسباب بقاء هذه الأمة وقوتها.
موقف آخر: عندما أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحَده، أي: أنها كانت تستعير أمتعة الناس وأموالهم، فاهتمت قريش بشأن هذه المرأة؛ لأنها كانت من قبيلة ذات نسب وشرف، فقالوا: من يُكلّم فيها رسول الله ، قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله ؟! فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه النبي فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ قام رسول الله فخطب الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وإني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ثم أمَر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها. قالت عائشة رضي الله عنها: فَحَسُنت توبتها بعد، وتزوّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله.
أيها المسلمون، ليس هناك حصانة لأحد في دين الله تبارك وتعالى تمنعه من أن يُعاقب إذا ارتكب ما يستحق عليه العقاب. إن دين الله تبارك وتعالى ليس مُفصّلاً على حسب الأمزجة والأهواء، ولا تدخله الشفاعات ولا الوساطات؛ لأنه إذا لم يُطبق الإسلام على الناس جميعًا فما فائدته إذًا؟! وما الجديد الذي أتى به إذا لم يكن الناس كلهم سواسية أمام الشريعة الإلهية؟!
وهذا رجلٌ آخر كان يشرب الخمر في عهده عليه الصلاة والسلام، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فَجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي : ((لا تلعنوه، فوالله إنه يحبُّ الله ورسوله)).
إنه مجتمع قد امتلأ بالحب لله ورسوله، شارِبُهم يحمل الحب لله ورسوله، ولا تمنعه معصيته من أن يُقدّم روحه رخيصة للواحد الأحد.
إن العصاة في مجتمعنا ليسوا كما يتصوّرهم البعض أنهم انسلخوا من الدين، أو أنهم خَلَعوا "لا إله إلا الله"، أو أنهم لا يؤمّل فيهم صلاح، هذا ليس بصحيح، فعندهم خيرٌ كثير، والمطلوب من الدعاة والمربين استثارة هذا الأصل في نفوس الناس، وأن نُنمّي هذه الفطرة في قلوبهم حتى يزدادوا من الخير ويتركوا ما هم عليه من المعصية.
أيها المسلمون، ولننتقل بعد ذلك إلى العهد العمري، أتى شابّان إلى عمر وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية، فأوقفوه أمام عمر بن الخطاب ، قال عمر: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال دخل بجمله في أرضي فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: القصاص، ولم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل: هل هو من قبيلة شريفة؟ هل هو من أسرة قوية؟ ما مركزه في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر لأنه لا يحابي أحدًا في دين الله، ولا يجامل أحدًا على حساب شرع الله، ولو كان ابنه القاتل لاقتص منه. قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني ليلة لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا، قال عمر: من يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا، إنهم لا يعرفون اسمه ولا خيمته ولا داره ولا قبيلته ولا منزله، فكيف يكفلونه؟! وهي كفالة ليست على عشرة دنانير ولا على أرض ولا على ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف، ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله؟! ومن يشفع عنده؟! ومن يمكن أن يُفكر في وساطة لديه؟! فسكت الصحابة وعمر مُتأثر؛ لأنه وقع في حيرة، هل يُقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك، أو يتركه فيذهب بلا كفالة، فيضيع دم المقتول، وسكت الناس، ونكّس عمر رأسه والتفت إلى الشابين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده وصدقه، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قتلاً، قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟! قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لم يكذب، وسيأتي إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذرّ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك؟! قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل، وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ، يُهيئ فيها نفسه ويُودّع أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي ليقتص منه لأنه قتل. وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد يَعُدّ الأيام عدًا، وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابان، واجتمع الناس، وأتى أبو ذر، وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين، وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرّ سريعة على غير عادتها، وسكت الصحابة واجمين، عليهم من التأثر ما لا يعلمه إلا الله. صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر، وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد، لكن هذه شريعة الله، لا يلعب بها اللاعبون، ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها، ولا تنفذ في ظروف دون ظروف، وعلى أناس دون أناس، وفي مكان دون مكان. وقبل الغروب بلحظات وإذا بالرجل يأتي، فكبّر عمر، وكبّر المسلمون معه، فقال عمر: أيها الرجل، أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك، قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ الطير، لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، فوقف عمر وقال للشابين: ماذا تريان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته، جزاكما الله خيرًا ـ أيها الشابان ـ على عفوكما، وجزاك الله خيرًا ـ يا أبا ذرّ ـ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته، وجزاك الله خيرًا ـ أيها الرجل ـ لصدقك ووفائك. وجزاك الله خيرًا ـ يا أمير المؤمنين ـ لعدلك ورحمتك.
أيها المسلمون، لقد ربى النبي جيلا من الناس ليسوا كسائر الناس، إنهم جيل الصحابة رضوان الله عليهم، جيل مميز في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية كلها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسّمو ثم نذروا لها حياتهم على نسقٍ تناهى في الشجاعة والتضحية والبذل كما شهد في صحابة رسول الله. وقد بارك الله في أوقاتهم، وأتمّ على أيديهم في مائة سنة ما لم يتحقّق لغيرهم، كانوا سبّاقين للنّاس في كلّ خير، في ميدان الجهاد، في ميدانِ الدّعوة، في ميدان البَذل والعطاء، في ميدان النّوافل والعبادة، فرضي الله عن الصّحابة أجمعين. نصَروا رسولَ الله في غزواته وحروبِه، بايَعوا على بذلِ أنفسهم في سبيل الله، أخرج البخاريّ عن أنس قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداةٍ باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم مِن النصَب والجوع قال : ((اللهمّ إنّ العيش عيش الآخرة، فاغفِر للأنصار والمهاجِرة)). نال الصحابة رضي الله عنهم شرف لقاء النبيّ ، فكان لهم النصيب الأوفى من محبّته وتعظيمه، سُئل علي بن أبي طالب : كيف كان حبُّكم لرسول الله ؟ قال: كان ـ والله ـ أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمّهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
حكّم الصحابة رضي الله عنهم رسولَ الله في أنفسهم وأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا بين يدَيك فاحكُم فيها بما شئت، هذه نفوسنا بين يديك، لو استعرضتَ بنا البحرَ لخضناه نقاتِل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، وقال عمرو بن العاص : وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئِلت أن أصفَه ما أطقتُ؛ لأنّي لم أكن أملأ عيني منه.
آمنوا به واتبعوه وآزروه ونصروه، وفدوه بالنفس والنفيس، فكانوا خير صحبة لخير نبي. إنهم صحابة رسول الله ، هذا الجيل العظيم الذي رباه النبي وأحسن تربيته، فأصبحوا صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل، تحقق فيهم رضي الله عنهم ما لم يتحقق في غيرهم منذ بدء الخليقة، ولن يتحقق في غيرهم حتى قيام الساعة. لقد اجتمع فيهم من عوامل الخير ما لم يتجمع في جيل قبلهم ولن يتجمع في جيل بعدهم.
كيف أنجز أولئك الأبرار كلّ هذا الذي أنجزوا في بضع سنين؟! كيف دمدموا على العالم القديم بقيصريّاته وصولجانه وحوّلوه إلى كثيب مهيل؟! كيف شادوا بقرآن الله وكلماته عالما جديدًا يهتزّ نضارة ويتألّق عظمة ويتفوق اقتدارًا؟! وقبل هذا كله وفوق هذا كله كيف استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ويكنسوا منه إلى الأبد وثنية القرون؟! تلك هي معجزتهم الحقة التي تميزوا بها، وتلك هي مفخرتهم التي فاخروا فيها التاريخ.
فما الحال وما الواقع اليوم والأمة تدّعي الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة؟ إن الواقع مرير، وإن الأمة ممزقة، وإن التكالب على المسلمين ورميهم عن قوس واحدة حاصل، وإن الغفلة عظيمة، وما أشبه ليلة بعض من بلدان المسلمين بأندلس البارحة.
أين اللواء وخيل الله يبعثها عمرو ويصرح في آثارها عمر
أيها المسلمون، ألا نملك مثل تلك الطاقات التي كانت في صفوف الصحابة؟! ألا نحيي مثل أمجاد الصحابة رضوان الله عليهم في نفوس شبابنا؟!
عباد ليل إذا جنّ الظلام بهم كم عابد ودمعه فِي الْخد أدراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبّوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا يُشيدون لنا مَجدًا أضعناه
إنه المجد الذي خسرناه يوم تأخّرنا في آخر ركب الأمم، إنه المجد الذي أضعناه يوم تقهقرنا والتَهَى شبابنا بالترهات والأباطيل، إننا نملك من الطاقات ما يوازي طاقات شباب الصحابة رضوان الله عليهم، ولكننا لم نحسن التعامل معها ولا تربيةَ أبنائنا عليها.
كالعيس فِي البيداء يقتلها الظّما والماء فوق ظهورها محمول
وإن النصر لبعيد ما دام هذا حال الأمة مع طاقاتها، وإن النصر لبعيد حين تدمر النفوس ويهان المخلصون، ويرفع المجرمون إلى مرتبة الأتقياء، ولا يُسمع لقول الناصحين، فهل تنفع عندها تلك الطاقات؟!
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي شبابنا إلى سواء السبيل...
(1/4604)
عقوبات الله للأمم
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, الفتن, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/4/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آثار الذنوب والمعاصي في زوال النعم وحلول النقم. 2- طرف مما حدثَ لأمة الإسلام حينَ كفرتْ بأنعمِ الله واستجابت لداعي الهوى والشيطان. 3- أسباب العقوبات. 4- لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل:112، 113].
في هاتين الآيتين الكريمتين يعرضُ القرآنُ الكريم مثلاً مضروبًا مُسَاقًا للعظةِ والعبرة لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش، يأتيها رزقُها من كل مكان، لا يعرفُ أهلُها الجوعَ والخوف، ولا الفاقةَ والحرمان، فهم في أوجِ لذاتِهم وغايةِ سعادتهِم، لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم ومكانتهِم عند الله تعالى، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عن الناس، فتجرأَ المغفلون، تجرؤوا على انتهاكِ محارمِ الله وتجاوزِ حدودهِ سبحانه، مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم ويعترفوا بإحسانِه إليهِم وتفضلِه عليهِم ويلتزموا حدودَه ويعرفوا حقوقَه إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم ويتجرؤون في سفهٍ وغرور على العزيزِ الحكيم الذي يقول: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]. فماذا كانتْ النتيجة؟ وما النهايةُ والعاقبة بعد ذلك الإمهالِ والصبرِ الجميل؟
إنَّ القرآنَ الكريم يختصرُ العقوبةَ المدمّرة والنهايةَ الموجعة في كلمتين اثنتين: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. إذًا فرغدُ العيش وسعةُ الرزق يتحولُ في طرفةِ عين ولمحةِ بصر جوعًا يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأى والأمعاءُ المتخمة يتضورُ أصحابُها جوعا ويصطلون حسرةً وحرمانا، وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا وينسونَ في عجبٍ وغرور المتفضلَ به سبحانه والمنعمَ به جل جلاله إذا به ينقلبُ رعبًا وهلعا، لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه فضلاً عن مالهِ وملكه، فانتشر المجرمون ينتهكونَ الأعراض ويحوزونَ الأموال، وأصبح باطنُ الأرض خيرًا من ظاهِرها في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة.
والقرآنُ الكريم حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء مآلَ تلكَ القريةِ الظالمِ أهلُها ويقررُ أنَّ ما أصابهَم هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم من التمردِ والجحود ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين ويخاطبُ غيَرنا حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي آلوا إليه، ولقد ذاقت هذه الأمة ألونًا من العقوباتِ المدمرةِ التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم هم أئمةُ الإسلامِ المحققون كابن كثير والذهبي وغيرهِما لظننا ذلك ضربًا من الخيالِ والتهويل.
فإليكم طرفًا مما حدثَ لهذه الأمة حينَ كفرتْ بأنعمِ الله واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان؛ لعلنا نتعظ ونعتبر ونلجأ إلى ربنا إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله خبرَ الطاعون الذي أصاب مدينةَ البصرةَ العراقية، قال: "فمات في اليومِ الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفا، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليلا من آحاد الناس. قال أبو النُفيد وكان قد أدركَ هذا الطاعون، قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقوَ على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار وقد مات أهلُها فنسدُ بابهَا عليهم".
وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة من الهجرة ذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، بحيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب لموتِهم وفنائِهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة من قلةِ الطعام، ووجد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد اخضَّر، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت فاحتوشته خمسةُ أنفس فاقتسموه وأكلوه.
ووردَ كتابٌ من بخارى أنَّه ماتَ في يومٍ واحد ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقًا فارغة وطرقاتٍ خالية وأبوابًا مغلقة. وجاء الخبرُ من أذربيجان أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد إلا العددُ اليسير جدا. ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد العشرونَ والثلاثون.
وذكرَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة ما أصابَ بلادَ مصر من الغلاءِ الشديد والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأُكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه. وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهارًا، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً؛ لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل.
وفي سنةِ ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ من الهجرة ورد كتابٌ من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أنه في ليلةِ الجمعة التاسعِ من جمادى الآخرة أتى عارضٌ ـ يعني سحاب ـ فيه ظلماتٌ متكاثفة وبروقٌ خاطفة ورياحٌ عاصفة، فقويَ الجو بها واشتدَّ هبوبُها، فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ، وتلاقتْ على بعدِها واعتنقتْ، وثار السماء والأرض عجاجا، حتى قيل: إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد وعاد منها عادٍ، وزادَ عصفُ الريح إلى أن أطفأَ سُرجَ النجوم ومَزَّقت أديم السماء، فكنا كما قال الله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19]، ويردونَ أيديهَم على أعينهِم من البوارق، لا عاصمَ لخطفِ الأبصار، ولا ملجأ من الَخطْبِ إلا معاقلُ الاستغفار، وفرَّ الناس نساءً ورجالاً وأطفالا، ونفروا من دورِهم خفافًا وثقالا، لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجدِ الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناقٍ خاضعة وبوجوهٍ عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرفٍ خفي ويتوقعون أيَّ خطبٍ جلي، قد انقطعتْ عن الحياةِ عُلَقُهم، وعميتْ عن النجاةِ طُرُقهم، ووردتْ الأخبار بأنها قد كُسِرت المراكبُ في البحار والأشجارُ في القفار، وأتلفتْ خلقًا كثيرا من السُفَّار... إلى أن قال: ولا يحسبُ أحدٌ أني أرسلتُ القلمَ محرفًا والعلم مجوفا، فالأمرُ أعظم، ولكنَّ الله سلم. انتهى كلامه رحمه الله.
أيها المسلمون، إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة ليست ضربًا من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة، فالله يقول: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، لكن الذي نشأ منذُ نعومةِ أظفاره في بحبوحةٍ من العيش لم يذقْ مرارةَ الجوع طرفةَ عين حريٌ به أن يَعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد الذين اصطلوا بنارِ الجوع ولهيبِ الظمأ دهرًا طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطرق وعصاباتِ السطو في وضحِ النهار، يتضح أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها المسلمون، إن للعقوباتِ أسبابًا كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب والتكذيب والإعراض.
فأول هذه الأسباب الكفر بالملك الوهاب وتكذيب الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فقد أهلك الله عز وجل الأمم السابقة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقرونا بين ذلك كثيرا؛ بسبب كفرهم بالله عز وجل وتكذبيهم لرسله، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا [الفرقان:35-40].
ومن أسبابِ العقوباتِ المدمرةٍٍٍٍ والفواجعِ المهلكة إقصاءُ الشريعة عن الحكمِ والتشريع أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق مع المنةِ والأذى، والله يتوعدُ الأمة إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة إشاعةُ الفاحشةِ في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
ومن إشاعةِ الفاحشة الدعوةُ للاختلاط ونزعِ الحجاب وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: ((وما أعلن قومٌ الفاحشة إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم)).
ومن أسبابِ العقوبات منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها لما وجدتَ بين المسلمين فقيرا ولا محتاجا. واسمع إلى عقوبةِ الأمة حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)). وقد يستخفُ أقوامٌ بهذه العقوبة ويستطرفونها لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف لعلموا أنهم كانوا واهمين وعن الصراط لناكبين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد وضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار ويتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق، قال الله تعالى: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139]. وقد حدثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما والى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر وتخربُ البلادُ والعباد. واسمع لعقوبةِ الأمة حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). ألا فضّ الله أفواهًا وأخرس ألسنًا تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد وخربت البلاد وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك انتشارُ الظلمِ في المجتمع وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة والخصالُ المنكرة ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: "أنتَ ظالم" فقد آن أوانُ العقوبة واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناسَ إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)).
ومن أسبابِ العقوبات فشو الربا وانتشارُه، حيث تعاطاه الكثيرون وأَلِفه الأكثرون، وقلّ له الناكرون، واللهُ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، ويقول سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]. وذهابُ بركةِ المال ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون ضمنًا وتصريحا. والعالمُ الإسلامي اليوم يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا وإعراضِه عن الشرعِ المطهر واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا ومدمنيه.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك ظهور المعازف وشرب الخمور، وقد انتشر الغناء بين الناس حتى عد أمرا معروفا، واستمع ـ يا رعاك الله ـ إلى العقوبة المتعودة لأهله، قال عليه الصلاة والسلام: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) , فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟! قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).
ومن أسباب هلاك الأمم التنافس في الدنيا والرغبة فيها والمغالبة عليها، عن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ، فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له، تبسم رسول الله حيث رآهم ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)).
ومن أسباب هلاك الأمم ترك الجهاد والإخلاد إلى الأرض، قال النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
أيها المسلمون، أسبابُ العقوباتِ كثيرة، والموضوعُ متشعبٌ وطويل، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، وما لا يُدرك كلُه لا يترك جُله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فقد جرت سنة الله عز وجل في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم عز وجل خالقهم ورازقهم أنزل الله عز وجل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، وإذا تمرد العباد على شرع الله وفسقوا عن أمره أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال، فمهما كان العباد مطيعين لله عز وجل معظمين لشرعه أغدق الله عز وجل عليهم النعم وأزاح عنهم النقم، فإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية ومن الشكر إلى الكفر حلت بهم النقم وزالت عنهم النعم. فكل ما يحصل للعباد من إحن ومحن فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فالله عز وجل لا يبدل حال العباد من النقمة إلى النعمة، ومن الرخاء إلى الضنك والشقاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى الفسق، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
(1/4605)
عبّارة الموت
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الموت والحشر, جرائم وحوادث
فهد بن سالم الحامد
الأحساء
24/1/1427
جامع ابن درعان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المشركين عند المصائب. 2- شهادات الناجين من الغرق. 3- دروس وعبر من الحادثة. 4- من أسباب النجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكُم ونفسي بتقوَى الله، قَال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يذكر الله لنا حال المشركين في كتابه فيقول سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ويقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67].
أما حالنا اليوم فنعصي الله في الفلك والجو، نحاربه بنعمه، حيث الاختلاط والمعازف والعُري، فلا تكاد باخرة أو طائرة تخلو من هذه المنكرات، فما أحلمه سبحانه، وما أرحمه، يقول سبحانه وتعالى : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45].
عباد الله، إن ما حدث في الأسبوع الماضي من غرق العبارة ـ السفينة ـ المتجهة من السعودية إلى مصر وغرق معظم ركّابها الذين يصِل عددهم إلى 1400 راكب، وما نجا منهم إلا القليل، منهم من بقي في عرض البحر ساعات وبعضهم أيامًا، روى بعض الناجين الساعات العصيبة التي قضَوها في مياه البحر إلى أن انتشلتهم طواقم الإنقاذ، وإن العناية الإلهية وحدَها هي التي أنقذتهم.
عباد الله، لقد استوقفني وأثّر فيّ موقف رواه أحد الناجين لراكِب قبَّل ابنتَه ثم رمى بنفسه في عرض البحر، يقول سعود النفيعي وهو أحد الناجين: إن شخصا لما غرقت زوجته وبقيت ابنتُه وعندما أحسّ بالهلاك لبس طوق النجاة وصلّى ركعتين أمامَنا وقبّل ابنته ثمّ رمَى بنفسه في الماء لينجوَ وترك ابنتَه التي لا يتجاوز عمرها عاما ونصف العام فوق سطحِ الباخرة وهي تغرق.
إن هذا الموقِف لتقشعرّ منه الجلود، وإن المؤمن ليتذكّر قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ، ويقول سبحانه : يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ.
يقول أحد الناجين: إنه بقي يسبح في البحر عشرَ ساعات رغم أنه لا يجيد السباحة، وإنه ركب مع مجموعَة من الركاب في قارِب، وأخذ يصلّي ومن معه في القارب الذي سرعان ما انقلَب قاذفا بالجميع في عرض البحر، وبقي يتخبّط في الموج ويدعو الله أن ينجيَه حتى تم إنقاذه.
وقال آخر: إنه تمكن من اللجوء لقارب بعد أن أوشكت السفينة على الغرق، ثم انتقل إلى قارب آخر، حتى مرت سفينة متجهة إلى الأردن، فقام ملاحوها بإنقاذهم.
ويقول آخر: بعد انطلاق صفارة الخطر بدأ الركاب يقفزون إلى البحر متذكِّرًا منظر طفل رضيع في يدِ أمَه وعددًا كبيرا من الرّكاب البسطاء وهم يهوون داخل البحر.
ويقول أحد الركاب: إنه تشبّث بقارب به أكثر من أربعين راكبا، وبه خرق، إلا أنه تمكّن من تفريغه من المياه أولا بأول، وبقي في البحر ما يقارب ثمانية عشر ساعة تتقاذفه الأمواج، وأضاف قائلاً: إنهم كانوا في منطقة مليئة بأسماك القرش، لكن الله حفظهم.
ويقول ناجٍ آخر وقد غطت فرحته بالنّجاة آثار الكدمات في وجهه: إنه لا يستطيع وصف ما حدث من مأساة حقيقية وهو يشاهد الركاب يهوون في البحر.
ويقول ناصر: إنه بقي وزملاؤه يصارعون الموج أكثر من عشرين ساعة، حيث وجدوا قطعة خشبيّة تشبّثوا بها، حتى استطاعوا ركوبَ أحد القوارب الذي انقلب من كثرة ركابه.
أما عتيق فيقول: أنقذت العناية الإلهية ستة من الركاب، حيث استمرّوا في السباحة لمدة ثلاثة أيّام متتاليّة، إلى أن وصلوا إلى جزيرة نعمان، ومن ثمّ تم إنقاذهم بواسطة الطيران.
ويقول ناج آخر: تشبّثت ومعي ثمانية ببرميل نحو ست عشرة ساعة في عرض البحر، وتوالى سقوطهم واحدًا تلو الآخر بفعل برودَة الجو والأمواج المتلاطمة، إلى أن أصبحنا أربعة، ولقد شارفت على الموت لولا أن تغمدني الله برحمته ونجاني، إنها نعمة كبرى من المولى سأظل أحمده عليها إلى أن ألقاه.
وتقول ناجية عمرها 50 عامًا: إنها وابنها الذي لم يتجاوز عمره خمسة عشر عامًا قفزا في عرض البحر، ثم تعلقا بلوح خَشبي، وتقول: ظللت متشبّثة بيد ابني ودعوته للصمود ولذكر الله، غير أن الأمواج كانت أقوى منه، فأبعدته عني إلى مكان الله وحده أعلم به، وعزائي الوحيد أنّ آخر كلمة سمعته ينطق بها هي: يا ربّ.
وتقول أخرى: لم أجد أمامي سوى القفز في البحر والتعلّق بلوح خشبي طيلة 14 ساعة، من الساعة الثالثة ليلا حتى الساعة الخامسة عصرًا، بعدها لم أستطع المقاومة أكثر أو التشبّث في اللوح الخشبيّ، وشعرت أن جسدي تجمّد تماما إلا من حركة اللسان الذي لهج بذكر الله ومناجاته، عندها لاح الأمل من حيث لا أدري، وجدت بجانبي قاربًا عليه مجموعة جذبوني إليه، بعدها بقيت 25 ساعة، ورغم ذلك لم أيأس من رحمة الله، فأخذت أردد أن يرحمني برحمته.
ويقول ياسر: قفزت إلى مياه البحر، وتشبثت بقارب عليه ما يقرب من خمسة وعشرين راكبًا، ظللنا عليه مدة 4 ساعات تقريبًا، لكن مع الحمولة الزائدة على القارب ومع الأمواج انقلب في المياه وفارق الحياة أمامي عشرة أشخاص. واستطرد قائلاً: لم أجد أمامي سوى لوح خشبيّ مسَكت به، وظللت كذلك إلى أن شاهدت من بعيد سفينة هنديّة سبحت باتجاهها، فأنقذني الله.
عباد الله، في المحنِ والمصائِبِ يعرِف الناسُ عِزَّ الرّبوبيّة وقهرَها، وذلَّ العبودية وكسرَها، وأنّ الخلقَ كلَّهم ملكُه وعبيده، راجِعون إلى حكمِه وتدبيره، لا مفرَّ لهم منه، ولا محيدَ لهم عنه، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93]. أما المؤمِنون فعلى يقينٍ أنّ أفعالَ الله عز وجل تتضمَّن الحكمةَ وإن غابت عن عقولِنا المحدودةِ.
عباد الله، إنَّ المصائب تنزل بالبَرّ والفاجر، فمن سخِط فله السّخطُ، ومن رضِيَ فله الرضا، والمؤمِنون يتعامَلون مع الأحداث بالعِظةِ والاعتبار، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26]، ويأخذون منها الدروسَ والعبر التي تفتح الآذانَ وتوقِظ القلوب وتحرِّك المشاعر، قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43]. فهذه المصائب لها مغزًى وعِبرة ورسالة لمن اغترَّ بلعمه وخُيِّل إليه أنّه بلغ الآفاقَ وقدر على كلِّ شيءٍ أنّه ضعيف أمام قدرة الله، عاجزٌ هو وعِلمه عن دفع أمرٍ كتَبَه الله عليه، فهو ضعيفٌ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، قال الله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
هذه الأحداثُ تبيِّن للإنسانِ قيمةَ هذه الدنيا وقدرَها ومِقدارها ومآلها، فهي معرَّضَة للزوال، صائِرةٌ إلى الفناء، وأنها مَتاع الغرور، وأنها ظِلّ زائل ونعيم خادِع. هذه الدّنيا التي عليها يتقاتَلون وخلفَ حُطامها يلهثون لا تساوِي شيئًا، قال الله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، وقال تعَالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. إنها حياةُ مؤقَّتة وأجل قريب مهما طالَ العمر والأمل.
إن الإنسان لا يعلم بأي أرض يموت، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
لقد قرأنا وسمعتم بعض قصص الناجين من غرق العبارة اليسير، مَن ذَهل من هولِ الفاجِعة عن زوجهِ وأولادِه، فقفز في عرض البحر وقد ترك وراءَه أهله وأبناءه وماله، فقد شغِلَ بما هو أعظم، وفي القيامةِ يقول الرسول كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ((يحشَرُ الناسُ يومَ القيامَةِ حُفاةً عراة غُرلاً)) ، فقالت: يا رسول الله، النساءُ والرجال ينظر بعضُهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمرُ أشدُّ من أن ينظرَ بعضُهم إلى بعض)) أخرجه البخاري ومسلم.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيمِ، أقول قولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، أحمده سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومَن سلك سبيلَهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، إن سبيل النجاة والمخرَج منَ الكرب والفِتنة والشِدّة والمحنة هو اللّجوء إلى الله تبارك وتعالى وحدَه والفزَعُ إليه والصلاة، قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، وعن حذيفة رضي الله عنه رفعه قال: ((يأتي عليكم زمانٌ لا ينجو فيه إلاّ من دعا دعاءَ الغريق ))، وقال : ((لا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاء)) ، وقال أيضًا: ((من سرَّه أن يستَجَاب له عند الكربِ والشّدائدِ فليكثِرِ الدعاءَ في الرخاء)) رواه الحاكم وصححه، ودعوةُ المضطرِّ مجابَةٌ، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مِن أسبابِ النجاةِ التوبةُ والاستغفار، وذلك بتركِ الذنوب والعَزم على عدَم العودةِ إليها، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
مِن أسبابِ النّجاةِ الإصلاحُ والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
الصّدقةُ وبَذل المعروفِ مِن أسبابِ النّجاةِ، قال : ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء، وصدَقَة السِرّ تطفِئ غضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرحم تطيل العمرَ)).
هذا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابِهِ فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الأربعةِ الرّاشدين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4606)
ومن يحول بينك وبين التوبة؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
10/11/1426
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة القاتل مائة نفس. 2- التحذير من اليأس والقنوط. 3- سعة رحمة الله. 4- فضل التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى البخاري واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فكمَّل به مِائَةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحولُ بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرضِ كذا وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعْبدِ اللهَ معهم، ولا ترجع إلى أرضِك، فإنها أرضُ سوءٍ، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموتُ، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكة ُالعذاب، فقالت ملائكة ُالرحمةِ: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذابِ: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قِيسوا ما بين الأرْضَيْنِ، فإلى أيَّتِهِما كان أدْنَى فهو له, فقاسُوهُ فوجدوه أدنَى إلى الأرض التي أرادَ، فقبَضَتْه ملائكة الرحمةِ)).
عباد الله، هذه قصةٌ تفتح بابَ الأمل لكل عاصٍ مهما عظمَت ذنوبُهُ وكبُر جُرْمُهُ، قتل مائةَ نفسٍ، ونفسُهُ لم تخل من نوازِعِ الخيرِ ودوافِعِهِ، بل في أعماقِها بصيص من نورٍ وقليل من أمل وبقية من مخافة الله، ولعله تساءل فيما بينه وبين نفسِه: هل انقطعت علاقتُه بربِّهِ؟ لم يستطع أن يفتي لنفسهِ، فبحث عن عالمٍ يفتيه وهو يعلمُ أنَّ مسألتَه كبيرةٌ لا يستطيعُ أن يفتِيَه فيها إلا مَنْ عَظُم علمُهُ؛ ولِذا لم يسأل عن عالِم، بل سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ، ولم يُقدَّر لمَن دلَّه على من يُفتيهِ أن يدُلَّهُ على أعلم أهل الأرض فعلاً، وإنما دلّوه على راهبٍ؛ والرهبانُ كثيرو العبادةِ قليلو العلم، فاستمَع الراهِبُ لمسألتَهُ فاستعظمَ ذنبَه، وظنَّ أنَّ رحمةَ اللهِ تضيق عليه، وأن مثلَ هذا الرجل لا تسعَه رحمةُ اللهِ، وحسْبُك بذلك جهلاً, فمدَّ هذا القاتلُ يدَه إلى هذا الراهبِ فقتله وأتمَّ بقتلهِ المائة لأنه لم يقتنع بجوابهِ، ومع ذلك الأملُ عنده بالله عظيم، فكانت الفتوى من العالم المربي المرشد، فقال له مستغربًا: ومن يحول بينك وبين التوبةِ؟! ودلَّه على الطريق الذي يجبُ عليه أن يسلُكَهُ، فكانت النتيجةُ أن قبضتْهُ ملائكةُ الرحمةِ، وغُفِرت ذنوبه العظيمةِ.
فيا عبد الله، لا تدع لليأس إلى قلبك طريقًا بسبب ذنب وقعتَ فيه وإن عَظُم، فقد دعا الله إلى التوبة أقوامًا ارتكبوا الفواحش العظام والموبقات الجسام، فهؤلاء قومٌ قتَلوا عبادَه المؤمنين وحرّقوهم بالنار ذكر الله قصتهم في سورة البروج، ومع ذلك دعاهم إلى التوبة: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]. وهؤلاء قوم نسبوا إليه الصاحبة والولد، فبين كفرَهم وضلالهم ثم دعاهم إلى التوبة: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]. وهذه امرأة زنت فحمَلت من الزنا لكنّها تابت وأتت النبي معلنة توبتها طالبة تطهيرها، فلما رجمها المسلمون قال رسول الله : ((لقد تابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)).
واستمع معي إلى هذا النداء الرباني الذي يفيض رحمة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. فماذا تنتظر بعد هذا؟! فقط أقلع واندم واعزم على عدم العودة واطرق بابَ مولاك، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]. اذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل:
أنا العبدُ الذي كَسِب الذنوبا وصَدَّتهُ الأمانِيُّ أن يتوبَا
أنا العبد الذي أضحى حزينا على زلاّته قلِقا كئيبا
أنا العبد المسيءُ عَصَيْتُ سرًا فما لِي الآن لا أبدي النحيبَا
أنا العبد المُفَرّطُ ضاع عمري فلم أرْعَ الشَّبيبةَ والمشيبَا
أنا الْمقطوعُ فارحمني وصِلْنِي ويسِّر منك لِي فرجا قريبا
أنا الْمضطرُّ أرجو منك عفوًا ومن يرجو رضاك فلن يَخيبَا
وتذكر قول الله عز وجل: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
أخي الحبيب، لا تقل إني ارتكبتُ من الذنوب الكثيرَ وتُبْتُ إلى الله، ولكن ذنوبي تُطارِدُني، فأقول لك: أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعرَ هي دلائلُ التوبة الصادقة، وهذا هو الندمُ بعينه، والندمُ توبةٌ، فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله، والله يقول: وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَحُمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأس من روح الله). والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يغلب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلب جانب الرجاء لطلبِ عفوِ الله.
يا نفسُ توبِي فإنَّ الْموتَ قد حانا واعصي الهوى فالْهوى ما زال فتَّانا
أما ترَيْنَ الْمنايا كيف تلْقُطُنا لقطًا وتلحِقُ أُخْرانا بأُولانا
فِي كل يومٍ لنا مَيْتٌ نُشَيِّعُه نرى بِمَصْرَعِهِ آثارَ موتانا
يا نفسُ ما لي ولَلأَمْوالِ أترُكُها خلفي وأخْرُج من دنياي عُريانا
يا راكضا في ميادين الهوى مَرِحًا ورافلاً فِي ثياب الغَيِّ نَشْوانا
مضى الزمانُ وَوَلَّى العُمُرُ فِي لَعِبٍ يكفيك ما قدْ مضى قد كانا ما كانا
اللهم اقبلنا من عبادك التائبين، اللهم ارزقنا التوبةَ النصوحَ قبل الممات يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ِغافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديدِ العقاب، أحمدُه سبحانه وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضله وكرمِه، عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله المُختارُ من أشرفِ الأنساب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآلِ والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتذكَّروا سَعةَ رحمةِ الله وعَظيمَ فضله وحلمِه وجوده وكرمه، حيث قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابه على التّوبة، وفتح له أبوابَ الطهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه مسلم.
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَعَسَى? أَن يَكُونَ مِنَ ?لْمُفْلِحِينَ [القصص:67]. وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فَرَحُ الرّبّ بها فرحًا شديدًا، قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم أضلَّ راحلتَه في فلاة عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت شجرة، فإذا هي واقفةٌ فأخذ بخطامها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح)) رواه مسلم، فاللهُ أشدّ فرحًا بتوبة عبدِه من هذا الذي أضلّ راحلتَه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرَ اللهُ بالصلاة والسلام عليه...
(1/4607)
كارثة العبارة سلام 98
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الموت والحشر, جرائم وحوادث
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
25/1/1427
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الفتن والمصائب. 2- كارثة عبارة السلام. 3- الإيمان بالقضاء والقدر. 4- دروس وعبر من الكارثة. 5- من شهادات الناجين. 6- سفينة المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله حق التقوى، فإن تقوى الله تعالى خيرُ زادٍ يُتزوّدُ به للدار الآخرة، وهي أساس النجاة، وبها يحصل التفاضل بين العباد، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131].
عباد الله، إننا في زمن قد كثُرت فيه الفتنُ والمحن، وعمَّت فيه الكوارثُ والبلايا بشتَّى أنواعِها؛ حربٌ ودمار، اغتيالاتٌ وخطف وتفجير، تعذيبٌ وانتهاكاتٌ لحقوقِ البشر, حرائقُ وزلازلُ وفيضانات، عواصفُ ثلجية وانهيارات أرضية وتحطمُ طائرات وتصادمُ قطارات، انتشارٌ لأمراضٍ لم تكُن في أسلافِنا، وآخِرُ تلك الكوارثِ ما شاهدَهُ الصغيرُ والكبير والقريب والبعيد عبْرَ وسائلِ الإعلام المختلفة، ألا وهي كارثةُ غرَقِ العبَّارةِ سلام؛ تلك الكارثةُ التي خلَّفت وراءَها ألفَ غريقٍ في مشْهَدٍ تقْشَعِرُّ منه الجلود، وتَحْزنُ له القلوب، وتدْمَعُ عند مشاهدتِهِ العيون، ويعْجِزُ اللسانُ عن وصْفِ ذلك المشهد.
نارٌ تحترِق، وأمواجٌ كالجبال، وأنفسٌ تتساقط، كلٌ يريد النجاة، رجال ونساء وأطفال؛ منهم القويُّ الصحيح، ومنهم المريض والكفيف والمعاق، غَرِقَ منهم من غَرِق، ونجا منهم من نجا بعدما أمضى أيامًا في البحر يصارِعُ لأجْل البقاء؛ نجا ليَقُصَّ علينا قِصَّةَ نجاتِهِ، وكأنها من نسجِ الْخَيال.
عباد الله، لستُ بِصَدَدِ ذِكْرِ أسبابِ غرَقِ السفينةِ؛ فقضاءُ الله وقدرُهُ فوق كلِّ سببٍ؛ إذْ لا يحدُثُ شيءٌ في هذا الكوْنِ من خيرٍ وشرٍّ إلا بإرادَتِهِ ومشيئتِهِ؛ مشيئتُهُ نافِذةٌ، وقدرتُهُ شامِلَةٌ، إذا أراد شيئًا فَلَنْ يحولَ دونَهُ شيءٌ، كتب في اللوح المحفوظِ قبل أن يخلُقِ السموات والأرضَ بخمسِينَ ألفَ سنةٍ ما سيكون إلى يوم القيامةِ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، كتب الله لهؤلاءِ أن يموتوا في هذا المكان وفي هذه الساعةِ، فلا نقولُ: لو كان كذا لكان كذا، فيَضْعُفُ عندنا الإيمانُ بقضاء الله وقدرِهِ؛ ولكن نقولُ: قدَّر الله وما شاء فعل، وما حدث فهو مقدَّر ومكتوب.
عباد الله، من هذه الكارثة نستخْلِصُ دروساٍ وعِبَرًا، من أهمِّها أنَّ الموتَ يُلاقي من انتهت أيامُهُ في برّ أو بحْرٍ أو جوٍّ، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ، وأنَّ الله بقدْرتِهِ سوف يجمعُهم في ساحةِ المحشر عند حشْرِ الخلائق، ولو تفرَّقت أجسادُهُم في بطون السباعِ أو الحيتانِ أو الديدان أو الأشجار، قُل إِنَّ الأوَّلِيِنَ والآخِرِيِنَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيِقَاتِ يوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49، 50].
ومن الدروسِ والعِبَر: أسرةٌ كاملة لا ينجو منها أحدٌ، وأُخرى لا ينجو منها سِوى طِفْلٌ رضيعٌ على الرغم من كثرة الأمواج وشدّتها وكثرة الأسماك وخطَرها؛ نجا لأنَّ اللهَ لم يكتب له الموت، فأيامُهُ لم تنته بعد، ويذكّرنا هذا الطفل بقصة موسى عليه السلام وهو طفل رضيع ولدتْهُ أمُّهُ في ذلك العام الذي أمر فرعون بقتْل كلِّ مولودٍ ذكرٍ يولد بهذا العام، وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم عن إبراهيم عليه السلام أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل؛ حذرًا من وجود هذا الغلام، فأمر الله تعالى بقولِهِ: وَأوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاِعلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَاْلتَقَطَهُ آلُ فرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وَحَزنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامانَ وَجُنُودَهُمَا كانوا خاطِئِينَ. وكتب الله لهذا الطفل أن يمر على دار فِرْعونَ ويراه فرعون ويأْمُر بقتلِهِ، فيُقَيِّض المولى من يدافِعُ ويحمي هذا الطفل من القتل، وَقاَلتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِى وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرونَ [القصص:7-9].
ومن الدروس والعبر: تفاوُتُ الناس في أفكارِهِم وتصرُّفاتِهِم أثناء الكارثة كما سمع البعض منَّا مِمَّنْ نجوا مِن الغرق؛ فبعضُهُم ينادي أُمَّهُ، وآخر ينادي زوجَتَهُ وأولادَه، وبعضُهُم ينادي ربَّه وخالِقَه.
يقولُ أحدُ الناجين: "أمضيْتُ عِدَّةَ ساعاتٍ أصارعُ الأمواجَ التي كالجبال، أمْضيْتُ ساعاتٍ طِوال فتذكّرتُ أنني في يوم الجمعة، فقلتُ: اللهمَّ إنِّي مُؤمنٌ برسولِكَ ، ومُصَدّقٌ بما أخبر، وقد أخبرنا أن في يوم الجمعة ساعة لا يُوافِقُها عبْدٌ مسلم يسْألُ اللهَ شيئًا إلا أعطاهُ إياه، اللهم إني أدْعوكَ وأرجُوكَ أنْ تُعَجِّل لي ولإخواني الفرج"، يقول: "فما هي إلا لحظات حتى انتشلني قاربٌ، فنجوتُ بفضل الله، ولم أفقد أيَّ شيءٍ من ممتلكاتي الشخصية: مِحفظتي ونُقُودي وساعتي وهاتفي وسواكي".
وآخرُ كُتِبَ عليه الغرق فيقولُ من شاهدَهُ قبل موته: "كان رحمه الله يؤذّن ويصلي إذا حان وقت الصلاة وهو يصارِعُ الأمواج".
ومِمَّن كُتِبَ له النجاة شابّ مُعاق لا يستَطِيعُ المشيَ على الأرض فضلاً في البحار العميقة ذات الأمواج المتلاطمة، أراد الله له النجاة لأنّ أيامه لم تنته، يقول: "لقد أنقذت بفضل الله أحدَ النصارى من الغرق طمعًا في اعتناقِه الإسلام".
فالذي أنقذَ هؤلاء هو الذي أنقذَ موسى عليه السلام ومن معه مِنْ فِرْعون وجنده عندما لحِقوا بموسى ومن معه، البحرُ أمامهُم والعدوّ من خلفِهِم، فتفاقم الأمرُ على موسى ومن معه، وضاق الحال، واشتدّ الأمر، واقترب فرعون وجنوده في جِدِّهِم وَحَدِّهِم وحديدهم وغَضَبِهِم وجَبَرُوتِهِم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فعند ذلك أوحى الحليم الكريم ربُّ العرش العظيم إلى موسى الكليم: فأوْحَيْنا إلى مُوسى أَنِ اضْرِب بِعصاكَ الْبَحْرَ فانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطَّوْدِ العظِيم وَأزْلَفْنا ثَمَّ الآخَريِنَ وَأنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعهَ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنا الآخَرِينَ إِنَّ في ذلك لآيَةً وَمَا كان أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْرَّحِيمُ.
ومن الدروس والعبر: أن الله يثبّت أهلَ طاعتِهِ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ويربط على قلوبهم، فالحياةُ غاليةٌ، والقلوب عند مفارقتِها ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان بالمرصاد، فهو مفتقِر إلى تثبيت الله تعالى لا سيما في اللحظات الأخيرة من حياتِهِ، فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66]، وقد كان أكثر دعاء النبي : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد.
اللهم إنا نسألُك الثبات في الدنيا والآخرة، اللهم أفْرِغْ علينا صبرًا وثبِّت أقدامنا وانصُرْنا على القوم الكافرين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليما كثيرا.
عباد الله، هذه كلمات مختصرةٌ نبحِرُ فيها على سفينة النجاة؛ سفينةٌ اختار الله رُكابَها، وطهَّر أصحابَها، سفينةٌ تبْحِرُ في مهب الشهوات وتهُبُّ عليها رياحُ الشُّبُهات، من ركِبَها نجا، ومن تخلَّف عنها هلك، إنها سفينةُ النجاة.
رُكَّابُها أقوامٌ طهَّروا أنْفُسَهُم من الفساد، وابتعدوا عن ظلم أنفسهم وظُلْمِ العباد؛ شِعارُهُم فيها: وَلا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها ، ومبدؤهُم: وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفسَادَ. يشعُرُ كلُّ واحِدِ منهم أنه مسؤول عن أمن هذه السفينة، وأنهُ سِرُّ نجاتِها من الغرق؛ لا يرضى أن يَخْرِقَها فاسِدٌ، ولا يقودُها حاقِد؛ لأنَّ في شريفِ عِلْمِهِ أنَّ الفساد إذا وقع عمَّ الصالِحَ والطالِح.
روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير قال: قال : ((مَثَلُ القائمِ على حدود اللهِ والواقِعِ فيها كَمَثَلِ قوْمٍ اسْتهَمُوا على سَفينةٍ، فصار بعضُهُم أعلاها، وبَعْضُهُم أسْفلِها، وكان الذينَ في أسْفلِها إذا اسْتقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَنْ فَوْقِهِمْ فقالوا: لَوْ أنّا خرقْنا في نصيبِنا خرقًا ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا على أيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
فنبي الله يضرب لأمّته هذا المثل حين يشبّههم بركّاب السفينة، فهذه سفينة النجاة تبحر وسطَ أمواج الفتن والشبهات والشهوات، وكلّما كانت السفينة سليمة وركابُها عقلاء يمنع عاقلُهم سَفَهَ سَفِيههم كانت حَريّة بالسلامة والنجاة، ولكن الخوف إنما يأتي من قبل أناس قلَّت عقولهم وهانت عليهم سلامةُ مجتمعهم وغَلَّبوُا أهواءَهم وحَكَّمُوا شهواتِهم، فتنادوا إلى الوقوع في المحرمات والولوغ في المعاصي والسيئات، ودافعوا عن أمثالهم ممن رتع في الموبقات أو تساهل في أداء الواجبات، فهؤلاء هم الذين يخرقون سفينة المجتمع بمعاول شهواتهم ما لم تردعهم البقيةُ الباقية من المجتمع.
وإنَّ أمضى سلاح يُصان به المجتمعُ المسلم وتحفظ به كرامته أداءُ شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبها تُصَانُ الأعراضُ ويُحْتاطُ للدين، وبها يأمنُ المسلمُ على عِرُضِهِ، وأما إن تُرِكَ الحبلُ على الغارب وانطلق كلُّ مفتون بشهواته بِلاَ حياء ولا خوف وكَثُرَ الخبثُ وعمّ فهنالِك تأتي السُّنَّةُ الربانيةُ التي تستوجبُ العقوبةَ والهلاكَ للمجتمع الذي يفشو فيه المنكر، وصار مصيرُ سفينةِ النجاةِ الغرق، وهلك الجميع، نسأل اللهَ السلامةَ والعافِيةَ.
ألا فصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/4608)
الخوف على الأمة لا على رسول الله
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
25/1/1427
مسجد نوري باني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استنكار المسلمين لجريمة الاستهزاء بالنبي. 2- حقيقة نصرة النبي. 3- صبر النبي وجهاده في سبيل نشر دين الله. 4- شهادات الغربيين للنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى في كتابه العزيز: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ، ويقول سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ.
أيها المسلمون، إن مقام رسول الله مقام عظيم، ومكانته مكانة عالية، لم يبلغها ولن يبلغها بشر فيما سبق ولا فيما يلحق على الإطلاق. ولقد آلم المسلمين ما حدث أخيرا من طعن واستهزاء بهذا النبي الكريم، وعبروا عن سخطهم ورفضهم لهذا الأسلوب المتخلِّف الرخيص من دولٍ تزعم أنها تريد أن تصدِّر إلينا العلم والحضارة، فإذا بها تنزل إلى درك لا ينمّ إلا عن الجهل والكبر والانحطاط الأخلاقيّ.
ولكني ـ أيها الأحباب ـ لا أريد لهذه الخطبة أن تكون هجوما حماسيا غير متعقِّل على ما حدث؛ لأنني أعلم تمامَ العلم وأوقن كلَّ اليقين بأن مكان محمد عليه الصلاة والسلام أسمى وأعلى وأعزّ وأشرف من أن يمسّه أو يطاله أو يقترب منه أو يؤثّر فيه حقد أو حسد أيّ مخلوق كائنا من كان.
إنّ هذا الذي فعله المسلمون من استنكار وغضب أمر جميل وغيرة محبوبة، ولكن يجب أن نعلم أن أكبر نصرة لهذا الرسول الكريم أن تسير الأمة على دربه ونهجه القويم، وأن تعرِّف الناس بهذا النبي وسيرته العطرة، كما يجب أن نعلم أن هذا الهجاء وهذا الهجوم على رسول الله وعلى الإسلام لم يتوقف منذ أيام الإسلام الأولى، ومع هذا لم يؤثر على هذه الشخصية العظيمة الرحيمة الفذّة، ولم تزدد مع الأيام إلا توهّجا ونورا وتأثيرا على الناس في كل مكان؛ لأن الذي يسيء إلى أرحم إنسان في الوجود إنما يسيء لنفسه، والذي ينال من أكرم البشر إنما ينال من نفسه، والذي يستهزئ ممن أثنى عليه رب السموات والأرض إنما يستهزئ من نفسه، وقد أحسن وأجاد شاعر رسول الله حسان بن ثابت رضي الله عنه حينما ردّ على أحد المشركين الذين هجوا رسول الله ، رد عليه بأبيات خالدات لا زال التاريخ يسردها والأيام تسمعها، عبّر فيها عن حبه لهذا النبي الكريم، وبين فيها أن محمدًا أسمى من أن يُعاب أو يُذم، يقول رضي الله عنه:
هجوتَ محمّدا فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتَهجوه ولست له بكفء فشرّكما لخيركما الفداء
هجوتَ مباركا برًّا حنيفا أمين الله شيمتُه الوفاء
فإن أبِي ووالدَه وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيبَ فيه وبحري لا تكدِّره الدِّلاء
صدق حسان، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
المطلوب ـ أيها الإخوة ـ أن تنظر الأمة نظرة تعقّل وتبصّر لما حدث، المطلوب أن تؤتي هذه الهزّة أكلها وتبين لنا مواضع أقدامنا وموقعنا من الأرض، موقعنا من التاريخ، موقعنا من الأحداث.
لكم أن تغضَبوا لنبيّكم أيها المسلمون، ولكن لا تخافوا عليه؛ فلم يُنزل الأعداء من مقامِه شيئا، فقد تكفّل الله بعصمته ورَفَع ذكره وتعهّد ببتر شانئه، شاء من شاء وأبى من أبى، يقول سبحانه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ. لا تخافوا عليه لأنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حقَّ جهاده، بل خافوا على أنفسكم، وانظروا في أعمالكم، علينا أن نخاف على أنفسنا، ما الذي أدّيناه لهذا الدين؟ وما الذي أديناه لهذا الرسول الكريم؟
لقد بلّغ هذا الرسول دين الله سبحانه، ولم يترك هذه الأمة إلا وقد بيّن لها كل أمورها وتركها على أوضح محجّة وأبين سبيل، يقول : ((قد تركتكم على البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) أخرجه أحمد. وشهد على هذا التبليغ أصحابه الكرام، فأقروا بذلك حينما سألهم بماذا سيشهدون يوم القيامة، يقول في حجة الوداع: ((وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة إلى السماء وينكبها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات. أخرجه ابن ماجه عن جابر.
لقد بلغ رسول الله دين الله، فهل بلغنا دين الله سبحانه كي نعذر أمام الله؟! هل دعونا الناس إلى الله وإلى دين الله؟! لقد قال لنا : ((بلغوا عني ولو آية)) أخرجه البخاري عن ابن عمرو، وقال لنا الله سبحانه قبل ذلك في كتابه الكريم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، بل إن رسول الله عليه الصلاة والسلام يرغّبنا في هذا الأمر ويعدنا بالجوائز الجليلة إذا نحن دعونا الناس إلى دين الله، فيقول كما عند الشيخين من حديث سهل بن سعد، يقول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وللأمة من بعده: ((فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)). هذا هو بلاغ رسول الله وتبليغه، وهذا أمره لنا بالبلاغ، فأين نحن من ذلك؟!
لقد صبر هذا الرسول الكريم على البلاء، وصبر على الأذى في سبيل دينه وفي سبيل مرضاة ربه، صبر أمام المغريات وأمام المنغّصات والملمّات، أغراه قومه بالملك والمال والجاه لكي يترك هذا الدين، قالوا له كما عند البيهقي في الدلائل: "إن كنتَ إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريد به شرفًا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا"، لكنّه رفض كلّ ذلك من أجل تبليغ الرسالة الخالدة. كما صبر على قومه وهم يؤذونه ويضيقون عليه، لم يتزعزع ولم يتذبذب وثبت ثبات الجبال الرواسي، أغروا به سفهاءهم وغلمانهم في مكة والطائف يؤذونه ويرمونه بالحِجارة فصبر، وعندما عرض عليه ملَك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين وهما جبلان يحيطان بمكة فيهلكهم رفض ذلك وقال قولة الرحيم العفو الكريم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا)) أخرجه الشيخان. فهل صبرنا ونحن أتباع هذا النبي الكريم أمام مغريات الحياة ومتاعبها ومنغصاتها طلبا لما عند الله؟!
لقد جاهد هذا الرسول في سبيل إبلاغ دين الله، وشج وجهه وجرح وكسرت رباعيته وهو النبي المرسل من الله، وفقد الكثير من أهل بيته وأصحابه لكي تكون كلمة الله هي العليا، كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل)) أخرجه مسلم. هذا هو جهاده وبلاؤه من أجل أن يخرجَ العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، بينما الأمة الآن تجاهد على ساحات الأسواق والملاعب وصالات القمار ودور الرقص والخلاعة.
لقد جاع هذا النبي وهو الذي عرضت عليه الخزائن وسيقت له الكنوز والغنائم، ولكنه كان يؤثر الناس على نفسه ويضحّي من أجل دين الله سبحانه، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما في سنن ابن ماجه: لقد كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان، يقول الراوي: قلت: فما كان طعامهم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء، بل إنه تمر به أوقات لا يجد فيها حتى من رديء الطعام ما يملأ به بطنه، عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟! لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه، والدقل هو رديء التمر. أخرجه الترمذي. نعم لقد جاع محمد من أجل أن يطعم الناس، ومن أجل أن يواسي الفقير والمحتاج، ومن أجل أن يعلمنا الصبر عند العوز والاحتياج، فهل جعنا من أجل ديننا وصبرنا على هذا الجوع؟! هل واسينا الفقراء والمساكين؟!
هذه جوانب مضيئة من حياة هذا النبي، كل جانب منها يبين لنا أن هذا النبي سيظل مرفوع المكانة موفور الجانب مهما حاولت الرويبضات والنكرات، فهل تكون أمته أيضا مرفوعة المكانة موفورة الجانب؟! هل تتحقق فيها هذه الملامح التي كان عليها النبي ؟! هذا متوقف ـ أيها المسلمون ـ على بلاء الأمة وسعيها، هل تبلي ما أبلاه نبيها من صبر وزهد ودعوة وجهاد، أم تركن إلى الدنيا وتتثاقل إلى الأرض وهي المأمورة باتباعه واتخاذه أسوة وقدوة ومثلا؟! يقول تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ويقول عز من قائل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
أسأل الله سبحانه بمنه وكرمه أن يجعلنا من المتّبعين الصادقين لنبيهم ، وأن يميتنا على هديه وسنته، وأن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: أيها المسلمون، لا يحتاج محمد بن عبد الله أن نثبت له الفضلَ والخير والإحسان ومكارم الأخلاق إلا إذا احتاجت الشمس في رابعة النهار إلى إثبات على وجودها، ولم يعرف منصف من الغرب أو الشرق من المسلمين وغير المسلمين لم يعرف أحد منهم هذا الرجل العظيم وهذا النبي الكريم وهذه الشخصية الفذة إلا احترمها وأحبّها، فلن تراعوا أيها الناس، واطمأنوا.
وأحب أن أذكّر هنا ثناء بعض المفكرين الغربيين على رسول الله ، ونحن لا نحتاج إلى أن نعرف مقدار نبينا منهم، ولكن أحببتُ أن أبيّن اعترافهم بمنزلة هذا النبي، وأحببت أن أبين لكم أن الكثير ممن يطعن في هذا النبي من سفلة الغربيين هو لا يجهل مكانته ولا تعاليمه، ولكنه يطمسها حسدا وبغيا وظلما وجحودا.
يقول المفكر النمساوي شبرك: "إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيّته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمّته".
ويقول المفكر الإنجليزي برنارد شو: "إنّ رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجةً للجهل أو التعصّب قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصّلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليهما".
ويقول المستشرق الكندي زويمر في كتابه الشرق وعاداته: "إن محمدًا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيّين، ويصدق عليه القول أيضًا بأنه كان مصلحًا قديرًا وبليغًا فصيحًا وجريئًا مغوارًا ومفكرًا عظيمًا، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".
أما جوتة الأديب الألماني فيقول: "إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدّم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى للإنسان فوجدته في النبي محمد".
ويقول الفرنسي ساديو لويس: "لم يكن محمد نبي العرب بالرجل البشير للعرب فحسب، بل للعالم لو أنصفه الناس؛ لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب، وإن تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدلّ على أنه عظيم في دينه، عظيم في أخلاقه، عظيم في صفاته، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين".
هذا ـ أيها المسلمون ـ قليل من كثير من الأقوال والآراء الغربية المعجبة بشخصية رسول الله ، قالها أناس قرؤوا عن محمد بتمحيصٍ، فاعترفوا بفضله.
نسأل الله سبحانه أن يُبصِّرنا بمكانة نبيّنا، وأن يعيننا على توقيره وتقديره حقّ قدره واتباع سنته ونهجه، اللهم وفقنا جميعا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم انصر دينك وسنة نبيك وعبادك الصالحين في كل مكان.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وأفضل خلقك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4609)
عقيدة النصارى
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/7/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداء النصارى للمسلمين. 2- عقيدة الإسلام سهلة ميسرة لكل أحد. 3- شرح موجز لبعض عقائد النصارى. 4- المستقبل للإسلام وأهله. 4- قصيدة ابن القيم في عقيدة النصارى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد كشر النصارى عن أنيابهم علانية في هذا الموقف، وإن كان عداء النصارى للإسلام وأهله عداء قديما، لكن بروزه وظهوره العلني صار يتّضح لكل من كان غافلاً أو مستغفلاً في الماضي. ومن أسباب هذا الظهور أيضًا هو سقوط دولة الاتحاد السوفيتي، فصار لا منافس لهم بالساحة، فأصبحوا يعيثون في الأرض فسادًا دون رقيب ولا حسيب، وأصبحت تجد لهم في كل مكان إما تدخلا مباشرا أو غير مباشر أو اعتداء علنيا على إنزال أو أية صورة من صور الاعتداء. ولعل من أبرز الصور الواضحة في وقتنا هذا هذا الإجرام الوحشي في البوسنة والهرسك على يد الصرب النصارى، وحشية في الإجرام لا مثيل لها، تُضرب العاصمة ويقتل البشر نساءً وأطفالاً، كبارًا وصغارًا، على مرأى ومسمع من العالم كله، دون تحريك أي ساكن. فهل هناك دليل على تكشير النصارى عن أنيابهم وإظهار حقدهم وعداوتهم للإسلام وأهله أكثر من هذا؟! وهناك صور أخرى كثيرة تدل على هذا.
أيها المسلمون، هذه هي عقيدة القوم، وهذا حقيقة عيدهم هو ما سمعت، لكن الأعجب من هذا أن هؤلاء هم الذين تقلدوا زمام الأمور في العالم، وصاروا يديرون الدفة، متمثلة في دولة عادٍ الكبرى ومن تدور في فلكها، وعلى نفس عقيدتها وسياستها. ماذا سيقدم هؤلاء النصارى للبشرية من خير ومن نفع؟! إن قيمة الإنسان بعقيدته لا بشكله ولا مظهره ولا بماله، إنما بعقيدته. وهؤلاء النصارى الذين يتحكمون في العالم اليوم عقيدتهم خاوية سخيفة، يمجها صاحب العقل الصحيح وصاحب الفطرة السليمة. فكيف بهؤلاء وهم يتحكمون في عقول الشعوب وفي أفكار الناس؟! ماذا عساهم أن يقدموا؟!
إن دين الإسلام ـ أيها الإخوة ـ دين سهل ميسر لكل أحد، إن عقيدة الإسلام عقيدة سهلة ميسرة لكل أحد، كل فرد من المسلمين يستطيع أن يفهم عقيدة الإسلام بكل سهولة، صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، عالمًا أو أميًا. فإن من خصائص هذا الدين ومن مميزات عقيدة الإسلام أنه لا يشترط التعمق في فهمها وتعلمها، سواء كان الفرد من المسلمين يكتب أو لا يكتب، يقرأ أو لا يقرأ، بإمكانه أن يفهم عقيدته ويعبد ربه حق العبادة. فإن العقيدة في الإسلام ليست قاصرة على العلماء، وليس فهمها من خصائص أحد من الناس، بل الكل يفهمها ويطبقها في يسر وسهولة.
أيها المسلمون، لا يمكن لنا أن ندرك هذه الحقيقة تمام الإدراك إلا بأن نتعرض ونشرح لكم بإيجاز عقائد بعض الملل والديانات الأخرى غير الإسلام، لتعرفوا تعقيداتها وقبحها وسخافة عقول من يعتقدون بها، مع اختلاف وتباين المتمسكين بهذه العقائد في فهمها وتطبيقها، وكذلك الاختلاف في سلوكهم.
لنأخذ مثلاً ـ أيها الإخوة ـ أمة النصارى، ولنشرح بإيجاز بعض معتقداتهم، ثم لتحكموا أنتم عليهم، وتقارنوا بين ما يعتقدون وما تعتقدون.
أيها المسلمون، بعث الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فحدد لهم الدين بعدما حُرف، وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من تلك المحدثات والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله فطهره الله تعالى منهم ورفعه إليه، فلم يصلوا إليه بسوء. وأقام الله تعالى للمسيح أنصارًا دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة. ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا دينًا بين دين المسيح وبين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم في النصرانية.
إن النصارى الآن يعتقدون في الله أنه نزل من العرش من كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والأذى، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعًا صغيرًا يمص الثدي، ولُف في القمط وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه، وصقعوا قفاه وصلبوه جهرًا بين لصين، وألبسوه إكليلاً من الشوك وسمروا يديه ورجليه وجرعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله لدى بقية النصارى، سبحانه وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا.
وهل تدرون ما هو اعتقاد النصارى في الأنبياء عليهم السلام؟ يعتقد النصارى أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
عباد الله، ما رأيكم وماذا تقولون في أناس هذه معتقداتهم وهذه تصوراتهم عن الله عز وجل وعن الأنبياء؟ قارنوا ـ رحمكم الله ـ في اعتقاد المسلمين في الله عز وجل وفي الأنبياء، معرفتنا بالله عز وجل يفهمها كل صغير وكبير، كل عالم أو غير متعلم؛ أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وأن الله له عظمة في قلوبنا ننزهه سبحانه عن الولد والوالد وعن أن يدخل في فرج امرأة ونحو ذلك من الكلام الفاسد الباطل الذي لا تقبله عقول العقلاء.
المشلكة في أن النصارى أنفسهم متفرقون في اعتقاداتهم، وليس كلهم بإمكانه أن يتصور هذه العقيدة عندهم، فلو سألت أهل البيت الواحد منهم عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين؟!
أيها المسلمون، إنه لمن العجب أنك تجد بعض النصارى قد بلغ في العلوم الدنيوية منتهاه، فقد يكون من كبار الأطباء أو من كبار المهندسين أو مستشارًا أو خبيرًا، وقد جمع من العلوم والشهادات كل مجمع، وعقله من أرجح العقول في مجاله، لكن لو جئت تسأله عن ربه واعتقاده فيه وعن دينه الذي يعتقده لوجدته أخس من الحمار، فأتعجب من هذا العقل كيف لا يفكر في دينه ومعتقده، وكيف يمكن لعقله أن يتصور أن ربه دخل في فرج امرأة بعدما كان في السماء ثم ولد من جديد ثم صار رضيعًا وذاق الجوع والعطش، سبحان الله! أي عقول هذه؟!
المصيبة ـ أيها الإخوة ـ أن هذه العقول هي التي تمسك بسياسات العالم اليوم، المصيبة أن من يحمل هذه الاعتقادات السخيفة التي هي زبالة الأفكار والاعتقادات هم الذين يوجهون سياسات العالم، وهم الذين يديرون دفة دول العالم، وقراراتهم هي التي تنفذ، وخططهم هي التي لا بد أن تسير، فأسألكم: هل هذه العقول بهذه التصورات الحقيرة والاعتقادات الخاطئة الجاهلة مؤهلة لأن تقود العالم؟! هل مثل هذه العقول مؤهلة لأن توجه البشرية؟! نعم إذا غاب الإسلام عن الساحة فلا بد أن يحل محله نفايات الأذهان وخرافات العقول، إذا تخلى المسلمون عن دورهم فلا عجب أن يلعب غيرهم ممن هذه عقولهم وتصوراتهم.
نسأل الله جل وتعالى أن يقيض لهذه الأمة من يعيد لها مكانتها وقيادتها للبشرية، وهذا حاصل بإذن الله عز وجل، فإن المستقبل لهذا الدين، والمستقبل للإسلام كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق في غير ما حديث، يقول عليه الصلاة والسلام: ((وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) ، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها)) ، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]. تبشرنا هذه الآية الكريمة بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده وعهد الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق كما أشار إلى ذلك النبي بقوله فيما رواه مسلم في صحيحه: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن ذلك تام، قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، فقد أعجبتني قصيدة جميلة للعلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو يحاور النصارى ويناقشهم في اعتقادهم بالله عز وجل، ويوجه لهم بعض الأسئلة التي لا يمكن لهم الإجابة عنها إلا بالتخلي والتنازل عن اعتقادهم. فيقول رحمه الله تعالى:
أعُبَّادَ الْمسيح لنا سؤال نريد جوابه مِمّن وعاه
إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فما هذا الإلهُ
وهل أرضاه ما نالوه منه؟ فبشراهم إذا نَالوا رِضاه
وإن سخِط الذي فَعلوه فيه فقوّتهم إذًا أوهَت قواه
وهل بقي الوجود بلا إلهٍ سَميع يستجيب لِمن دَعاه
وهل خَلتِ الطِّباق السبعُ لَما ثوى تَحت التراب وقد علاه
وهل خلتِ العوالم من إلهٍ يدبّرها وقد سُمِّرت يداه
وكيف تَخلّت الأملاك عنه بنصرهم وقد سمِعوا بكاه
وكيف أطاقتِ الخشباتُ حمل الـ إلهِ الحق شُدَّ على قفاه
وكيف دنا الحديد إليه حتى يُخالطه ويلحقه أذاه
وكيف تَمكنت أيدي عِداه وطالت حيث قد صفعوا قفاه
وهل عاد الْمسيح إلى حَياة أم الْمحيي له ربّ سواه
ويا عجبًا لقبرٍ ضمّ ربًا وأعجَب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعًا مِن شهور لدى الظّلمات من حيضٍ غذاه
وشقّ الفرج مولودًا صغيرًا ضَعيفًا فاتِحًا للثدي فاه
ويأكل ثُم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله
تعالى الله عن إفك النصارى سُيسأل كلهم عما افتراه
أَعُبّادَ الصليب لأيِّ معنى يُعظَّم أو يقبَّح من رماه
وهل تقضي العقول بغيْر كسرٍ وإحراقٍ له ولمن بغاه
إذا ركب الإله عليه كرهًا وقد شُدّت لتسميرٍ يداه
فذاك المركب الملعون حقًا فدُسه لا تبسه إذ تراه
يُهان عليه رب الخلق طرًا وتعبده فإنك مِن عداه
فإن عظمتَه من أجل أن قد حوى ربَّ العباد وقد علاه
وقد فُقِد الصليب فإن رأينا له شكلاً تذكّرنا سَناه
فهلاَّ للقبور سجدتَ طرًا لضَمِّ القبر ربَّك فِي حشاه
فيا عبدَ المسيح أفِق فَهذا بدايتُه وهذا منتهاه
أيها المسلمون، حكي أن جماعة من النصارى تحدثوا فيما بينهم، فقال قائل منهم: ما أقلَّ عقول المسلمين! يزعمون أن نبيَّهم كان راعيَ غنم، فكيف يصلح راعي الغنم للنبوة؟! فقال له آخر من بينهم: أمّا هم فوالله أعقلُ منا، فإن الله بحكمتِه يسترعي النبيَّ الحيوان البهيم، فإذا أحسن رعايته والقيام عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق حكمة من الله وتدريجًا لعبده، ولكن نحن جئنا إلى مولود خرج من امرأة يأكل ويشرب ويبول ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلق السماوات والأرض، فأمسك القوم عنه.
أيها الإخوة في الله، كم نحمد الله عز وجل على سلامة اعتقادنا في ربنا، كم نحمد الله عز وجل ونشكره أن سهل لنا ويسر لنا فهم ديننا، فإنا ـ ولله الحمد ـ لا ينقصنا الفهم، نفهم ونعي ما فيه الكفاية، لكن بقي التطبيق والعمل والإخلاص والاجتهاد لله عز وجل، وبقي علينا كذلك أن نشكر الله عز وجل على سهولة هذا الدين ويسره باتباعه وتنفيذه.
أسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وطاعته وحسن عبادته، اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا وتجمع شملنا وتلم شعثنا، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك...
(1/4610)
كمثل الكلب
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أمثال القرآن والسنة, المسلمون في العالم, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/2/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أحكام الكلاب في الفقه الإسلامي. 2- مثل عالم السوء. 3- عناية الغرب الكافر بالكلاب. 4- الكلب من جنود الله. 5- المواجهة بين المسلمين وكلاب الأمم الكافرة مستمرة إلى قيام الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ورد ذكر الكلب في ثلاث سور من كتاب الله تعالى، في المائدة والأعراف والكهف، وورد ذكره في السنة أكثر من ذلك.
والكلاب أمة من الأمم، لنا معها أحكام كثيرة، فالملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، وخمس يقتلن في الحل والحرم منها الكلب العقور، والكلب إذا ولغ في الإناء فإنه يغسل سبعًا إحداهن بالتراب.
ونهى النبي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وشبه المصطفى عليه الصلاة والسلام من يرجع في هديته بالكلب الذي يرجع في قيئه فقال: ((ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) رواه البخاري، ونهى عن بسط الذراع في الصلاة فقال : ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)).
ومن اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراطٌ. واختُلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة كحفظ الدور والدروب، والراجح جوازه قياسًا على الثلاثة عملاً بالعلَّة المفهومة من الحديث وهي الحاجة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود)) ، وقال : ((الكلب الأسود شيطان)) ؛ ولذلك أمرنا بقتله في قوله: ((اقتلوا منها كل أسود بهيم)).
والإحسان إلى الكلب يستجلب رحمة الله، قال كما في البخاري: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟! فقال: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)).
وسُئل عن كلاب الصيد فقال: ((إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليكم وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل)) ، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
والكلاب كلها نجسة المعلمة وغير المعلمة، الصغير منها والكبير، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم الأدلة.
أيها المسلمون، والعرب قديمًا كانت تسمي بالكلب بعض أبنائها، وكلاب اسم رجل من أجداد النبي ، وهو كلاب بن مرة بن كعب. سُئل أعرابي: لم تسمّون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟! فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا ونسمي عبيدنا لأنفسنا. وكأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدو وقهره.
والكلب حيوان عجيب؛ فهو شديد الرياضة، وفي طبعه الاحتلام، وتحيض إناثه وتحمل ستين يومًا، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة، ومن طبعه أنه يحرس صاحبه شاهدًا وغائبًا، ذاكرًا وغافلاً، نائمًا ويقظانًا، وهو أيقظ الحيوان عينًا، وغالب نومه في النهار، وإذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها، وذلك لخفة نومه، ومن طباعه التودد والتألّف بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع، ويقبل التأديب والتلقين والتعليم كما قال تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4]. والكلب إذا عُلّم تحصّل له فضيلة على غير المعلَّم، فكيف بالإنسان إذا كان له علم فهو أولى أن يكون له فضل على غيره.
أيها المسلمون، شبه الله جل وتعالى ذلك الشخص الذي ينحرف عن منهج الله عز وجل وهديه بعد معرفته بالكلب، مع الخذلان والهبوط والانسلاخ من آيات الله والعياذ بالله. ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره، ولكنه انسلخ منها وتعرى عنها، ولصق بالأرض واتبع الهوى، فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية، فاستولى عليه الشيطان، وأمسى مطرودًا من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن، ولا يسكن له قرار، قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:175-178].
عجيب أمر هذا الإنسان! يؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والارتفاع، ولكن هذا الإنسان وباختياره ينسلخ من هذا كله، كأنما الآيات لباس له متلبس بلحمه، فينسلخ من آيات الله ويتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، فإذا هو مُسخ في هيئة الكلب، يهبط عن مكان الإنسان إلى مكان الحيوان، مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد.
هل هناك أسوأ من هذا المثل؟! وهل هناك أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟! وهل هناك أسوأ من الالتصاق بالأرض واتباع الهوى؟! وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا، من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضًا للشيطان يُلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاهث لهاث الكلب؟!
ما أكثر الذين يُعطَون علم دين الله ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه واتباع الهوى به. كم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة والفتاوى المقلوبة، والأخطر إذا كانت الفتاوى مطلوبة. فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فعالم السوء مشبه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة وأسقطها نفسًا وأوضعها قدرًا، ليس هذا فحسب بل هو صريع الشيطان وفريسته، قد اتخذ هوى نفسه إمامًا مستبدلاً به هدى الله، فلحقارة همته ومقصده آثر الدنيا على الآخرة، بل أخلد إلى الأرض بكليته فما كان أنفه بأعلى من سطحها، وإذا كان هذا مثل من باع آخرته بدنياه فما عساه يكون مثل من باع آخرته بدنيا غيره؟! إنه مثل لكل من آتاه الله من العلم فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعًا ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان.
ومصيبة الأمة اليوم من هذا النوع من علماء السوء، الذين يلبّسون على الناس دين الله، عن هوًى في قلوبهم والعياذ بالله، ليدركوا شيئًا من حطام هذه الدنيا الفانية. ولا أبلغ من وصف الله جل وتعالى لهؤلاء بالكلب، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
أيها المسلمون، ومع معرفة نجاسة الكلب وثبوت ذلك علميًا إلا أنك تستغرب وأنت ترى الغرب اليوم لهم عناية غير عادية بالكلاب، من جهة اقتنائها وتربيتها وملاعبتها، بل والنوم معها والاعتناء الشديد بها، يصل أحيانًا أنهم يقدمونها على أولادهم، وأنشؤوا لها أماكن مخصصة، من أندية ومستشفيات ومحاضن خاصة، بل ويكتب بعضهم لها شيئًا من الميراث، فتسأل: أين هي عقول القوم؟! ألم يجدوا حيوانًا آخر يعتنون به سوى الكلب؟! وهذا الاهتمام ليس من العامة فقط، بل تشاهد ذلك من بعض زعمائهم ورؤسائهم، ولهذا لم نستغرب عندما أعلن البيت الأبيض نبأ وفاة كلبة رئيسهم وضجّ الإعلام وقتها وكتبت الصحف عن ذلك، وقد أحسن شاعرنا عندما نظم قصيدة عزاء له قال فيها:
نعزّيك فِي الكلبة الرَّاحله عزاء تُسَرُّ به العائلَه
نعزيك فِي كلبةٍ ودَّعت وغابت عن الأعين الذاهلَه
نعزيك فيها وقد فارقت حياة برحمتكم حافلَه
لقد فارقت داركم لم تعد هنالك خارجة داخلَه
فقدتم عزيزًا بفقدانِها فكفكف دموع الأسى الهاطلَه
نعزِّيك فِي حُسْنِ هندامها وفِي شعر قَصَّتها المائلَه
نعزِّيك في لون أنيابِها وفرشاة أسنانها الناحلَه
نعزِّيك فِي جنبها لم تعد تَحكّ به أرجل الطاولَه
تُعزيك أشلاء أطفالنا وجدران أوطاننا الفاصلَه
تُعزيك أم رأت ابنها قتيلاً ودوحتها ذابلَه
يُعزِّيك طفل العراق الذي تشرّد فِي أرضه القاحلَه
يُعزِّيك ماء الفرات الذي رأى قسوة الضربة القاتلَه
رأى القاذفات التِي أَرسلت إلى الناس غازاتُها السائلَه
رأى الطائرات التِي أَسرفت غدوًّا رواحًا إلى الحاملَه
تُعزِّيك أقفاص أسرى الردى ببَرقية بُعثت عاجلَه
نعزِّيك فاصبر على فقدها فدنيا الورى كلها زائلَه
فإن العزاء لكم واجب وإن العزاء لنا نافلَه
عجيب ما يحصل في عالمنا اليوم، كلب يتمتع باللحم وشعوب لا تجد العظم، كلب يتحمم بالصابون وشعوب تسبح في الدم، كلب في حضنك يرتاح يمص عصير التفاح وينال القُبلة بالفم وشعوب مثل الأشباح تقتات بقايا الأرواح وتنام ولا يحصل نوم. والقارئون للتاريخ والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية وأغزرها دمًا وأشدّها دمارًا.
إن من المفارقات العجيبة والمقارنات اللافتة أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكور ما يعيشه العالم كلُّه من تقدم ماديّ له منجزات خيّرة وآثار نافعة في الاتصالات والمواصلات والآلات والتقنيات والصحة والتعليم وأسباب المعيشة، في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كلّ هذا النفع المشهود يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوةً ووحشية. غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير، ولكن يزول العجب وترتفع الغرابة إذا استرجع المسلم قول الله عز وجل: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهِلوا حقيقة مهمَّتهم، شرّعوا لأنفسهم، واستبدّوا في أحكامهم، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21]. لقد كَدّوا ذكاءهم وسخروا علومهم ووظّفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل والصراع على موارد الخيرات والتنافس غير الشريف.
إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يُبذل على وجه هذه الأرض من كلاب الأمم في هذه الميادين لو بُذِل أقل من نصفه في الأدب مع الله وتوقيره وابتغاء مرضاته لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعًا، لأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كلاب اليهود والنصارى كذَبوا وظلموا وآذوا وأفسدوا وأوقدوا حروبًا وأشعلوا صراعات وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية واستضعفوا أممًا واستنقصوا حقوقًا، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبًا من دارهم. نسأل الله أن يدمرهم تدميرا، وأن يفجرهم تفجيرا، وأن يعجل بهلاكهم، كما نسأله أن يعجل بفرج أمة محمد ، فرجًا عاجلاً غير آجل.
أيها المسلمون، والكلب قد يكون جنديًا من جنود الله عز وجل، ينتقم من أعداء الملة وخصوم الشريعة، فيرسله الله على من كفر بالله أو استهزأ بدينه، والنبي دعا على عتبة بن أبي جهل عندما جاءه وهو في جمع من الناس يسخر منه ويتمادى في السخرية ويأخذه غرور الجبابرة وهو يقول: يا محمد، أشهد أني قد كفرتُ بربك وطلقت ابنتك، وكان النبي قد زوجه ابنته رقية قبل البعثة، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك))، قالها في يقين ممزوج بالأسى، وعيناه وقلبه إلى السماء يستنصر الله. فخرج عتبة في قافلة تجارية إلى الشام، وليس نصب عينيه وأذنيه ومشاعره إلا دعوة محمد: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)). بدأ الركب مسيره إلى الشام وفي الليل بلغوا واديًا يسمى وادي القاصرة، وهو كثير السباع، فنزلوه للاستراحة، فأصر عتبة أن لا ينام إلا وسط رفاقه خوفًا من دعوة النبي ، فلم يفق القوم إلا وأسد يشم رؤوس القوم رجُلا رجلاً حتى انتهى إلى عتبة، فأنشب مخالبه في صدغيه فقتله، فصرخ عتبة: يا قوم، قتلتني دعوة محمد.
والعالم الإسلامي اليوم يعج بالذين يسخرون بآيات الله ويستهزئون بالدين وأهله ويلمزون العلماء والدعاة والمصلحين ويكتبون عن المرأة ما يخالف أحكام الله عز وجل صراحة، عبر كتابات عفنة تُسود بها أوراق الصحف اليومية، يشم من بعضها رائحة الردة والعياذ بالله. ألا فليتق الله هؤلاء في أنفسهم وفي مجتمعهم، وإلاّ فنسأل الله جل وتعالى أن يسلط عليهم كلبًا من عنده، يمزقهم شر ممزق، كما يمزقون هم اليوم أخلاق الأمة وفكرها ومعتقدها.
أيها المسلمون، ومن طرائف ما ذكر حول الكلب ما ذكره ابن خلكان في تاريخه أن الرافضي الحسين بن أحمد المعروف بابن الحجاج لما حضرته الوفاة أوصى بأن يدفن عند رجلي الإمام موسى بن جعفر أحد الأئمة الاثنى عشر عندهم، وأن يكتب على قبره: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. ولا أظن أن الخبر يحتاج إلى تعليق، فهذه هي منزلة القوم "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد". نسأل الله السلامة والعافية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، عندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرأ على غزو ديارها، وإن كلاب الأمم بعامة وكلاب اليهود والنصارى لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر، ولا يردعها سوى لغة: ((خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم)) ، ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]، ولا يقطع دابرها سوى مقولة: ((مَنْ لِكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله)) ، ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق "الجواب ما ترى لا ما تسمع".
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد رحمه الله، يوم أطلقها مُدوّية من بغداد عندما تجرأ نقفور ملك الروم، فكتب مُجرّد كِتابة إلى هارون ملك العرب: "أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا". فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفًا من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه". ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينتهم وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً، فقتل وسبى وأذل نقفور كلب النصارى، فطلب الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك. لله در هارون الرشيد، ألا يوجد مثلك اليوم رَجُلٌ رشيد؟!
إن الأمة اليوم بحاجة إلى مُخاطبة كلاب الروم اليوم بهذا الخطاب وبهذه القوّة وبهذه اللغة، وكم هم بحاجة إلى من يُعرّفهم قدرهم. إن كلاب الروم تعيث اليوم في الأرض فسادًا ولا هارون.
يا ألف مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالْحرب دائرة على الإسلام يا قومي فهل منكم أبِيٌّ يثأرُ
إنا سئمنا من إدانة مُنكرٍ إنا مللنا من لسانٍ يزأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا ترى شعبًا يُباد وبالقذائف يُقبَرُ
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ
ما دام أنّ الشعب شعب مسلمٌ لا حلّ إلاّ قولهم: نستنكرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الْجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي رُبى أوطاننا إلا الْجهاد ومصحف يتقدّر
لقد تعادت علينا كلاب الرّوم، لقد عَوَت بنا كلاب الروم.
تعدو الذئاب على مَن لا كِلاب له ويتّقين صولة المستأسد الضاري
فمتى نسمع زئير المستأسد الضاري؟! قل: عسى أن يكون قريبا.
إنّ المواجهة بين المسلمين وكلاب الأمَم لم تتوقّف منذ فجر الإسلام، مصداقًا لقول الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. فالمعركة مستمرّة وإن تعدّدت ساحاتها وتبدّلت أسلحتها؛ لأنَّ الشرّ من لوازم الخير، يقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، فسنة التداول الحضاري من طبيعة الحياة، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، ولعل ذلك من أقدار الله الغالبة ومن ابتلاءات الخير والشر، فالمسلمون مستهدفون بأصل إيمانهم، وليس بسبب كسبهم أو فِعلتهم في كثير من الأحيان، قال الله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. وسوف تتداعى عليهم كلاب الأمم لتأكل خيراتهم وتستنزف طاقاتهم وتتحكّم ببلادهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وسوف تجتمع عليهم، ولن ترضى عنهم حتى يتخلوا عن دينهم ويصبحوا أتباعًا لليهود والنصارى، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
وهذا قد يكون طبعيًا من الأعداء، لكن المشكلة في غالب الأحيان إنما تتمثل في غفلة المسلمين وسُبَاِتهم، وعدم اليقظة إلى مكر عدوهم، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102].
وهذا الذي أتينا على ذكره من القرآن يشكّل قانونًا أو سنة من سنن النهوض والسقوط، والتاريخ شاهد على ذلك في القديم والحديث، وكم غفل المسلمون أو تغافلوا عن هذا القانون، وركنوا إلى الذين ظلموا، ووالوا أعداء الله، واتخذوا بطانة من دونهم لا يألونهم خبالاً، وخدِعوا بعهود ووعود، فكان السقوط وكان التخلف وكانت الهزيمة الثقافية والسياسية والعسكرية، لكن من نعمة الله على المسلمين أن تسليط عدوهم عليهم ليس تسليط استئصال وإبادة؛ لأنهم أمة النبوة الخاتمة، وإنما تسليط إيذاء وعقوبة على المعاصي الفكرية والمعاصي السياسية والمعاصي الأخلاقية التي يقَعون فيها، قال الله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111]. هذا الأذى ليس هو شرًا دائمًا، بل هو في كثير من الأحيان خير، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]؛ لأنه أشبه بالمحرّضات والمنبهات الحضارية التي تشعر الأمة بالتحدي وتبصَّرها بمواطن التقصير، وتقضي على الجوانب الرخوة في حياتها، فتستعدّ للإقلاع من جديد. فالغريب أن تتوقف المعارك ويتوقف الأذى، والغريب أن لا يدرك المسلمون ذلك حقّ الإدراك وهم يتلون القرآن ويقرؤون التاريخ.
(1/4611)
من وحي مكة
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/12/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجه إلى مكة. 2- وقفات مع حجة المصطفى. 3- الدروس والعبر المستفادة من أعمال الحج. 4- الفوائد المستنبطة من مواقيت الحج المكانية. 5- محظورات الإحرام. 6- من معاني الحج العظيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمرًا، ثم انطلق إبراهيم عليه السلام، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! قالت ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات: ربَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَر ا تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، ثم تسمّعت فسمعت أيضًا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه. رواه البخاري في صحيحه.
وتمضي الأيام وتمر السنون ويبني الخليل عليه السلام وابنه البيت، ويأمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذّن في الناس بالحج إلى ذلك البيت: وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. ومنذ ذلك الحين وجموع الناس تفِد إلى ذلك المكان شوقًا وحنينًا.
قف بالأباطح تسري فِي مشارفها مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كل فج أتت لله طائعة أفواجها ترتَجي عفوا الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا
فما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب. فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعز وأكرم من رؤوس المحلّقين والمقصرين؟! وهل مرّ بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟! وهل سمعتَ نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبّين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!
أيّها الإخوة المسلمون، لنتذكر جميعًا أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبي الحنيفية ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوّي بالتهليل والتكبير: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتُطرِبُ الزمان وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديّان، ويقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبّله قبلة ترتسِم على جبينه درّة مضيئة على مرّ السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدرارًا، وتتحدر على خده الشريف المشرق ، كان عمر بن الخطاب يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله، لماذا تبكي؟! يكفكف دموعه الطاهرة ويجيب عمر بعباراتٍ هادئة خاشعة باكية قائلاً: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)).
أيها المسلمون، حجّ المصطفى حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كلّ فج، لتنال شرف الصحبةِ مع رسول الله. وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وأعظِم به من فقه عُمَري لأنه استشعر وفاة النبي ، وسمِّيت حجة الوداع. روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني ـ والله ـ لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)). وكان يقول في كلّ موطن: ((خذوا عني مناسككم)). إنها وصية النبي لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، ((خذوا عني مناسككم)). وصية النبي لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتّقوا الله فيهم ويسلكوا بهم هدي المصطفى ، إحرامًا وتفويجا، إفاضةً ومبيتا، طوفًا وسعيا، نصحًا وإرشادا، بيعًا وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة وبالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.
أحبتي عاد ذهني إلى زمنٍ معظمٍ في سويدا القلب مستطرِ
كأنني برسول اللَّه مرتديًا ملابس الطهر بيْن الناس كالقمر
نور وعن جانبيه من صحابته فيالقٌ وألوف الناس بالأثر
ساروا برفقة أزكى مهجةٍ درجت وخير مشتملٍ ثوبًا ومؤتزر
ملبيًا رافعًا كفيه في وجل لله فِي ثوبِ أوّابٍ ومفتقر
مُرنمًا بجلال الحق تغلبه دموعه مثل وابل العارض المطر
يمضي ينادي: خذوا عني مناسككم لعل هذا ختام العهد والعمُر
وقام فِي عرفات الله مُمتطيًا قصواءه يا له من موقف نضِر
تأملَ الموقف الأسْمى فما نظرت عيناه إلاّ لأمواج من البشر
فينحنِي شاكرًا للَّه منّتَه وفضله من تمام الدين والظفر
يشدو بِخطبته العصماء زاكيةً كالشهد كالسلسبيل العذب كالدرر
مجليًا روعة الإسلام في جملٍ من رائع من بديع القول مختصر
داعٍ إلى العدل والتقوى وأن بِها تفاضل الناس لا بالْجنس والصور
مبينًا أن للإنسان حرمته ممرغًا سيّئ العادات بالمدر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا مُمَتَّع القلب والأسماع والبصر
وأنبري لرسول الله ألثُمُهُ على جبينٍ نقي طاهر عطر
أقبِّل الكف كف الجود كم بذلت سحّاء بالخير مثل السلسل الهدر
يا رب لا تحرمنا من شفاعته وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
أيها المسلمون، نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من الصحابة حجة الوداع، ونظر رسول الله إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق واهتداؤها إلى الإسلام، فعزم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وينتهز تجمعهم ليقول كلمات تبدّد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات في النفوس، فيلقي خطبته الجامعة الشاملة يوم عرفة، فيبين فيها حرمة دم المسلم وماله وعظم الأمانة وخطر الربا، حتى المرأة لم تُنسَ في هذه الخطبة الجامعة، فيقول : ((واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عوان عندكم))، وكان يشهدهم على قوله فيقول: ((ألا هل بلغت؟)) فيقول الصحابة: نعم، فيقول: ((اللهم فاشهد)). لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة، وهو الذي ظل ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء ويغسل أدران الجاهلية. لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].
أيها المسلمون، إن المتأمل في أعمال الحج يستلهم دروسًا خالدة ومعاني سامقة، منها أن المسلم يتعود في الحج الاستسلام لله رب العالمين والاستجابة والخضوع له والطاعة، فهاجر تقول لخليل الله عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فأعلنت استسلامها وأذعنت لأمر ربها وخضعت لخالقها قائلة: إذًا لا يضيعنا الله. وأكرم بها من طاعة في أرض مقفِرة لا أنيس ولا ماء، ولا طعام ولا أخلاّء. ويَأمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه حين بلغ السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ولو أُمر غيره بالذبح لكان أهون، فكيف إذا كان الذابح للولد أباه؟! يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]. فيعلن الوالد والولد استجابتهما وانقيادهما وخضوعهما، فتأتي أعمال الحج لتركز هذا المفهوم وتعمّق هذا المدلول، ولهذا لا غرابة أن تجد أن المتمردين هنا مطيعون هناك. فهناك يقف الحاج في عرفة ولو تأخر عنها أو تقدم بطل حجه، ويطوف حول الكعبة وهي أحجار مغطاة بستار، ويقبّل الحجر الأسود الذي لا يضر ولا ينفع؛ يؤدي ذلك ليتربى على الاستسلام والاستجابة، ويتعود على الخضوع والطاعة قائلاً في كل نسك وفي كل أمر ونهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى إذا عاد إلى بلده وبيته وعمله وتعامله وسمع الأوامر الإلهية والزواجر الشرعية قال: "لبيك اللهم لبيك". يعلنها في سائر شؤون حياته كما كان يصدح بها هناك على صعيد عرفات؛ إذ كيف يستجيب لله في تقبيل حجر ولا يستجيب فيما يجلب الخير ويدفع الضرر. إذا سمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أرخى لها سمعه واستحضر قلبه مستسلمًا لله خاضعًا منقادًا، فهو إمّا خيرًا يؤمَر به، أو شرًا ينهى عنه. إذا سمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. وهكذا كلما سمع أمرًا ربانيًا أو توجيهًا نبويًا قال دون تلكّؤ أو ترّدّد: "لبيك اللهم لبيك"، قال ذلك دون أن يعرض الأمر على العادات والتقاليد، أو يستجيب لأهواء العبيد: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير".
أيها المسلمون، ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقّت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل اليمن يلملم، وقال: ((هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ لمن أراد الحج والعمرة)). هذا الحديث متى قاله النبي ؟ قاله عليه الصلاة والسلام والشام والبصرة والكوفة ومصر كلّ تلك البلاد لم تفتح بعد، كلّ تلك البلاد لم تفتح إلاّ بعد وفاة النبي. قال الرسول هذا الحديث في الوقت الذي كانت فيه تلكم البلاد بأيدي الكفار وتحت حكمهم. فها هنا عدة دلالات:
الأولى: أن هذا يدلّ على معجزة من معجزات الرسول ، حيث أخبر بأمر غيبي لم يقع بعد.
الثانية: أنَّ الرسول وقّت هذه المواقيت لأهلها وأهلها لم يسلموا بعد، فدل ذلك على أنهم سيسلمون، وأن بلادهم ستفتح وسيسلم أهلها، وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول.
الثالثة: وهذا مما نعتقده وهو أنه كما أخبر الرسول بهذه المواقيت قبل فتح بلادها وفتحت، فكذلك أخبر الرسول بفتح بلاد أخرى كالقسطنطينية، وهذه أيضًا فتحت بعد عدّة قرون من إخبار الرسول ، وأسلم أهلها وحجّوا إلى بيت الله الحرام.
كذلك أخبر الرسول بفتح روما، وهذه أيضا ستفتح بإذن الله عز وجل وسيسلم أهلها، وإن كانت هي الآن في أيدي الكفار كما كانت الشام والعراق ومصر في أيدي الكفّار في الوقت الذي حدّد فيه الرسول المواقيت. فكل ما أخبر به الرسول في الخبر الصحيح أنه سيقع فسيقع، لا نشكّ في ذلك.
ومنه أيضًا أنه في آخر الزمان سيمكّن لهذا الدين، وأنه ما من بيت على وجه الأرض إلا وسيدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. وتأمّل في قوله : ((ما من بيت)) ، ولم يقل: بلد أو دولة أو مجتمع بل: ((ما من بيت)). وإن كانت الفترة الحالية التي تمرّ بها أمة الإسلام من أصعب فتراتها، لكن هذا لن يستمر، بل سيكون له نهاية، وللكفر حدّ سيقف عنده، وللظلم حدّ سيقف عنده، بل للدنيا كلّها حدّ ستنتهي إليه، وستكون الغلبة للإسلام وأهله، وللدين وأعوانه، ولجند الله وأوليائه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها المسلمون، المحرِم عليه أن يتجنب تسعة محظورات ذكرها العلماء، وهي اجتناب قصّ الشعر والأظافر والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس وقتل الصيد والجماع وعقد النكاح ومباشرة النساء. كل هذه الأشياء يُمنع منها المحرِم حتى يتحلّل. فمن عزم على الدخول في مؤتمر الحج العظيم وجب عليه أن يستعد له، إذًا يجب عليه قبل مجاوزة الميقات أن يحرِم، وأن يتجنّب هذه المحظورات، وهذا يعني أنه يدخل منطقة الحرم في سلام، فلا يتعرض للصيد بأذى، ولا يتعرض لآدمي أيضًا بأذى، ولا يتعرض لشجر بقطع، إنه سلام كامل، حتى شعره وأظافره لا يقص شيئًا منها، فهذا فضلاً عن كونها علامة على التقشّف، إلا أنها تشير إلى معنى السلام، إنه سلام حقيقي لا سلام مزيف.
يدخل المسلم نسك الحج، يتعلم ويدرك من خلاله قيمة المسلم مهما كانت درجة حياته، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحد، ولا يبغي على أحد. يدرك المسلم من خلال هذا المؤتمر السنوي قيمته الحقيقية التي وضعه الله فيها فضلا عن قيمته الإنسانية كإنسان، فيتبيّن له زيف تجهيل الإعلام العالمي، ويتبين له كذب منظمات حقوق الإنسان التي لا تعنى إلا بالإنسان الغربي، أما الإنسان المسلم فحوادث التاريخ وأحداث الزمان كشفت عن مدى جرم هذه الدول التي تسمى بالعظمى والكبرى، وإلا فكيف يفسر ما تفعله دولة ما تسمى بإسرائيل في فلسطين اليوم، بل ما تفعله الصليبية الحاقدة اليوم في العراق؟! قصف للمدنيين ولمواقع سكنية ولأسر ونساء وشيوخ وأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، أين السلام الذي يدعيه الغرب وتدعو له دولة إسرائيل؟! بل أين منظمات الرفق بالحيوان عن البهائم التي أهلكت في بلاد الرافدين وغيرها من البلاد إذا كان الإنسان ليس له قيمة في أجندة هذه المنظمات وهذه الدول والحكومات؟!
إن الوحشية والهمجية التي تمارس اليوم في العراق لا تقره شريعة ولا نظام؛ ولهذا فلا يتصور أمان ولا وئام ولا سلام في ظل هذه المنظمات وتحت هذه الأنظمة. إنّ كل عاقل ومنصف ـ فضلا عن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله ـ يدرك بأن السلام الحقيقي والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع إلا في الإسلام وفي تاريخ الإسلام، أما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات فإن أقوالهم معسولة مسمومة، وأفعالهم في غاية الفحش والدناءة والفظاعة والبشاعة. فما أحوج البشرية في هذا العصر وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والنزاعات الوحشية، ما أحوجها إلى الدخول في الحج إلى بيت الله الحرام، لتتخلص نفوس أبنائها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام، فتتعلم الحياة بسلام ووئام كما أراد الله لعباده المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن فريضةَ الحجّ فريضة عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها. فريضة الحج عظيمةُ المنافع جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان. وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى والمصالح التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا: ليَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ [الحج:28].
تمر السنون وتتوالى القرون ووفود الله يتزايدون في لقاء إيمانيّ واجتماع سنوي، يقدمون من أماكن بعيدة وبلدان سحيقة ومن كل فج عميق، إلى واد غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: "لبيك اللهم لبيك". والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفًا وفضلا.
أيها المسلمون، من معاني الحج العظيمة وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، يجتمعون في مكان واحد، وفي زمن واحد، على تباعد ديارهم وتباين ألوانهم واختلاف ألسنتهم، تجردوا من ثياب الزينة، وطهّروا قلوبهم من الضغينة. ففي صعيد عرفات الأسود والأبيض الأحمر والأصفر جميعًا مسلمون، بربّ واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتّبعون، ولأعمال واحدة يؤدّون، فأي وحدة أعمق من هذه؟! كلهم في مظهر واحد، فما أعظم وأحوج المسلمين أن يحققوا وحدة المظهر والمخبر والظاهر والباطن. ومهما علت النداءات وتكررت الخطابات لتحقيق الوحدة الإسلامية فلن تتم دون أن نحقق مقوماتها ونوجد أركانها، ومنها تصحيح المنهج والمسار والسير على هدي سيد الأبرار وحب الصالحين الأخيار.
هذا واقع المسلمين لما تفرّقوا، تأمّل أحوالهم وقد تبدّد شملهم، تفرّق جمعهم، تباين أمرهم، اختلفت آراؤهم، تنافرت قلوبهم، تمزّقت ألفتهم، خمدت نارهم وركدت ريحهم، بل أصبحوا غثاء كغثاء السيل كما أخبر الصادق المصدوق. وأفظع من هذا وأعظم أن ترى الدماء الجارية من أجساد المسلمين الطاهرة بأيد مسلمة. ونتساءل بكل حيرة وعجب: أيقتل المسلم أخاه المسلم بلا سبب؟! هذا الذي كان يمتنع حال إحرامه عن قتل الصيد في الحرم، بل عن تنفيره وإثارته، وهناك تراه يسعى لقتل أخيه وإبادته، دون وازع من دينه، أو رادع من إيمانه وعبادته.
قلّب بصرك أنّى شئت تر العجب العجاب، ولن ينفع العويل ولا الصراخ والعتاب. ولقد بيّن الرسول حرمة دم المسلم للأمة، وذلك في خطبة حجة الوداع العظيمة فقال: ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) أخرجه الترمذي.
قدّر الله جل وعلا لهذه الأمة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة جدًا، من لين وشدة، وحرارة وقسوة، ونشاط وركود، ومصارعة ومقاومة، وإغراءات مادية وسياسية، وتقدم في الحضارة وتوسع في المال والمادة، وضيق وضنك، وبذخ وترف، وعسر ويسر، وتسلط عدو قاهر وسلطان جائر، وكانت الأمة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فكان الحج ربيعًا تزدهر فيه هذه الأمة، وتظهر بالمظهر اللائق بها. فكما أن الدولة تحتاج إلى تصفية بعد كلّ مدة ليتميّز الناصح من الغاش والمنقاد من المتمرد فكذلك الملة تحتاج إلى حج؛ ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا.
وقضى الله جل وعلا أن لا يخلو الحج في أشدّ أيام هذه الأمة وأحلكها من الربانيين المخلصين ومن الصالحين المقبولين ومن الدعاة المرشدين ومن الداعين المبتهلين ومن الخاشعين المنيبين ومن العلماء الراسخين، الذين يملؤون جوّ الحج روحانيةً وخشوعًا، فترق القلوب القاسية، وتخشع النفوس العاصية، وتفيض العيون الجامدة، وتنزل رحمة الله، وتغشى السكينة، فينتفع الذين جاؤوا من كلّ صوب بعيد وفج عميق، ويأخذون زادًا من إيمان وحبًا وحماسةً وعلمًا وفقهًا، يعيشون عليه حياتهم، ويقاوِمون به كلّ ما يواجهونه من إغراء وتزيين، ويشاركهم في هذا الزاد إخوانهم الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو، فيتعلم الجاهل، ويقوى الضعيف، ويتحمس الخامد، وتكتسب الأمة بذلك قوّة جديدة على تأدية رسالتها، وتستأنف كفاحها من جديد.
والحج انتصارٌ للمناهج الصحيحة في الأمة على القوميات الوطنية والعنصرية اللسانية التي قد يصبح كثير من الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرّد جميع الشعوب عن جميع ملابسها وأزيائها الإقليمية التي يتعصب لها أقوام، وتظهر كلّها في مظهر واحد هو الإحرام، وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرةً رؤوسها، تهتف كلّها في لغة واحدة بتلبية رسول الله التي رواها الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)).
(1/4612)
وصايا عند المصائب
الإيمان, موضوعات عامة
القضاء والقدر, جرائم وحوادث, خصال الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/1/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال الدنيا وتقلباتها. 2- فضل الصبر. 3- عشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب. 4- نماذج من صبر الصالحين على البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، المصائب أمر لا بد منه، من منّا ـ أيها الأحبة ـ لم تنزل به مصيبة أو يتعرض لمشكلة؟! من لم يفقد حبيبًا أو يخسر تجارة أو يتألم لمرض ونحوه؟! لقد ضرب النبي مثلاً معبرًا للمؤمن في هذه الحياة، فقال: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ، لا تهتزّ حتى تُستحصد)) رواه مسلم. لقد اختلطت جذور الزرع في الأرض وتماسكت، فالريح وإنْ أمالته لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه، وكذلك المؤمن فإنّ المصائب وإنْ آلمته وأحزنته فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئًا، ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك.
وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع والأمراض والقواصم، فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدّر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال أو وظيفة تذهب معه طموحاته وتفسد مخططاته ورغباته.
في هذه الدنيا منح ومحن وأفراح وأتراح وآمال وآلام، فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بترح وحذر. وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!.
هكذا هي الدنيا وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلكم دواء أدوائها. قال الحسن رحمه الله: "جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره". وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر، وكان أمر المؤمن من بين الناس أمرًا عجيبًا؛ لأنّه إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، كما صح ذلك عن رسول الله.
أيها المسلمون، أمرنا الله بالصبر وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. ثم أخبر مؤكِّدًا أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم، فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. فالصبر سبب بقاء العزيمة ودوام البذل والعمل، وما فات لأحد كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال، وبمفتاح عزيمة الصبر تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.
أيها المسلمون، ونظرًا لحاجة الناس جميعًا إلى هذه الخصلة وافتقارهم الشديد إليها لعلنا نذكّر بعشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب، وهي:
أولاً: إعداد النفس:
فعلى المسلم أن يهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأنْ يدرِّبها عليها قبل حدوثها، وأنْ يعمل على صلاح شؤونها؛ لأنّ الصبر عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى دربة عليه. عليه أنْ يتذكّر دومًا وأبدًا زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأنْ ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة ومُددًا منقضية، وقد مثَّل الرسول حالَه في الدنيا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها.
فلا تغترّ ـ أيها المسلم ـ برخاء، ولا تؤمِّلْ أنْ تبقى الدنيا على حال أو تخلوَ من تقلُّب وإصابة واستحالة، فإنّ من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها، وقد قال بعض الحكماء: "من حاذر لم يهلع، ومن راقب لم يجزع، ومن كان متوقِّعًا لم يكن متوجِّعًا". ومن أحبَّ البقاء فليُعِدَّ للمصائب قلبًا صبورًا.
ثانيًا: مما يعين على الصبر على المصائب الإيمان بالقضاء والقدر:
من آمن بالقضاء والقدر وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر وأنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل اطمأنت نفسه وهان أمره. ومن المشاهَد المعلوم أنّ المؤمنين هم أقلّ الناس تأثُّرًا بمصائب الدنيا، وأقلُّهم جزعًا وارتباكًا، فالإيمان بالقضاء والقدر صار كصِمَام الأمان الواقي لهم بإذن الله من الصدمات والنكسات. إنهم مؤمنون بما أخبرهم به الصادق المصدوق : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف)) رواه الترمذي، وبأنّ الآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه، فعن أنس بن مالك عن النبي قال: ((وكَّل الله بالرَّحِم مَلَكًا، فيقول: أيْ ربِّ نُطفةٌ؟ أيْ ربِّ عَلقةٌ؟ أيْ ربِّ مُضغَةٌ؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أيْ ربِّ أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أمه)) رواه البخاري.
قالت أم حبيبة زوج النبي يومًا: اللهم أمتعني بزوجي رسولِ الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، فقال النبي : ((قد سألتِ الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاقٍ مقسومة، لن يعجّل شيئًا قبل حِلّه، أو يؤخر شيئًا عن حلّه، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار أو عذابٍ في القبر كان خيرًا وأفضل)) رواه مسلم. وأتى ابنُ الديلميِّ أُبَيَّ بنَ كعب فقال له: وقع في نفسي شيء من القَدَر، فحدِّثْني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: (لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه عذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحُد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمنَ بالقدر وتعلمَ أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار) رواه أبو داود.
ثالثًا: تذكر حال الرسول والسلف الصالح:
الرسول الله أسوة لكل مسلم كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وفي تأمُّل حاله عليه الصلاة والسلام عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته كلها صبرًا وجهادًا، ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ومات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال وقد دمعت عيناه: ((إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) رواه البخاري. ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
ومن تأمَّل أحوال السلف الصالح وجدهم رضي الله عنهم قد حازوا الصبر على خير وجوهه. تأمَّلوا حال عروة بن الزبير رحمه الله وقد ابتلي في موضع واحد بقطع رجله مع موت ابنه فلم يزد على أنْ قال: (اللهمّ كان لي بنون سبعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتلَيْتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت). ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فدفنه أبوه، ثم استوى على قبره قائمًا فقال وقد أحاط به الناس: "رحمك الله يا بُنيّ، قد كنتَ برًا بأبيك، والله ما زلتُ مذ وهبكَ الله لي مسرورًا بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ بك سرورًا ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنْزل الذي صيَّرك الله إليه".
رابعًا: مما يعين على الصبر عند المصائب استحضار سعة رحمة الله وواسع فضله:
المؤمن الصادق في إيمانه يُحْسِن ظنَّه بربه، وقد قال الله كما أخبر رسول الله : ((أنا عند ظن عبدي بي)). فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وأنّ أقداره خير في حقيقة أمرها وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، وقد قال الله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وقال رسول الله : ((عجبًا للمؤمن! لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له)) رواه الإمام أحمد. ثمَّ تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء، وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم والحادثة أجل وأفدح، واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.
خامسًا: التأسي بغيره من أهل المصائب:
تأسَّوْا بغيركم وتذكَّروا مصائبهم، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم، فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى ويخفف الألم ويقلِّل الهلع والجزع. وتذكَّروا أنّ مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله.، ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ أصيب بما هو أشدّ، وليتذكَّرْ من فجع بحبيب مَن فُجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناء، وليتذكَّرْ مَن فقد أبناءً مَن فقد عائلة كاملة.
ليتذكَّر الوالدان المفجوعان بابنٍ آباءً لا يدرون شيئًا عن أبنائهم، فلا يعلمون أهم أحياء فيرجونهم أم أموات فينسونهم، وقد فقد يعقوبُ يوسفَ عليهما السلام ومكث على ذلك عقودًا من السنين، وبعد أنْ كبِر وضعف فقد ابنًا آخر، فلم يزد على أنْ قال في أول الأمر: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، ثمّ قال في الحال الثاني: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]. جاء رجل كفيف مشوَّه الوجه إلى الوليد بن عبد الملك فرأى حاله، ولم ير عليه شيئًا من علامات الجزع، فسأله عن سبب مصابه، فقال: كنت كثير المال والعيال، فبتنا ليلة في واد، فدهمنا سيل جرّار، فأذهب كل مالي وولدي إلا صبيًّا وبعيرًا، فذهب بعيري والصبيُّ معي، فوضعته وتبعت البعير لأمسك به، فعدت إلى الصبي فإذا برأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وتبعت البعير فرمحني رمحة حطَّم بها وجهي وأذهب بصري، فأصبحت بلا مال ولا ولد ولا بصَر ولا بعير، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلَمَ أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه.
سادسًا: تذكّر أنّ المصائب من دلائل الفضل:
المصائب ـ عباد الله ـ من دلائل الفضل وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك وقد سأل سعد بن أبي وقاص رسول الله فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) رواه الترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَن يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه)) رواه البخاري.
سابعًا: تذكّر حُسن الجزاء:
ليتذكر كل منا حُسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه، فإنّ الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور من التعب، وما أقدم أحد على تحمُّل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجّلة، والصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل، وإنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء.
سَأل أبو بكر رسولَ الله مستشكلاً وجلاً فقال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؟! فكل سوء عملنا جُزينا به، فقال رسول الله : ((غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟! ألست تنصَب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟!)) قال: بلى، قال: ((فهو ما تجزون به)) رواه الإمام أحمد.
تذكَّروا ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب وتكفير السيئات ورفعة الدرجات وحسن الخلف والعوض، فأمّا الأجر والثواب فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثوابًا، وقد وعِد بها كثير من الصابرين، فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرع إذا ما صبرت، كما حدَّث بذلك عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشَّف، فادْعُ الله لي، قال: ((إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك)) ، فقالت: أصبر، وقالت: إني أتكشَّف، فادع الله لي أن لا أتكشّف، فدعا لها. رواه البخاري. ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة)) رواه البخاري.
وكان لمن فقد ولدًا نصيب كبير من البشارة بالجنة لعلم الله بعظم مصيبته وكونه بعباده رحيمًا، فبشّر عليه الصلاة والسلام المرأة التي مات لها ثلاثة من أولادها بأنها احتمت بحمًى منيع من النار، فقد أتته ومعها صبي لها مريض وقالت: يا نبي الله، ادعُ الله له فلقد دفنت ثلاثة، قال: ((دفنتِ ثلاثة؟!)) ، قالت: نعم، قال: ((لقد احتظرت بحظار شديد من النار)) رواه مسلم.
وإليكما ـ أيُّها الوالدان المكلومان ـ حديثًا آخر، وحسبكما به عزاءً وتفريجًا، قال : ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسَمُّوه بيت الحمد)) رواه الترمذي.
ثامنًا: كفّ النفس عن تذكر المصيبة:
على من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها وتردادها في ذهنه، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، ولا ينمّيها ويعايشها، فإنها تصير أماني لا نفع منها ولا غنًى وراءها، وأمثال هذه الأماني رؤوس أموال المفاليس؛ لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ، وقد روي عن عمر بن الخطاب قوله: (لا تستفزُّوا الدموع بالتذكُّر).
وممّا يقع فيه كثير ممّن أصيب بفقد حبيب أو قريب أنه يسعى إلى الاحتفاظ ببعض أشياء الميت التي تذكِّره به في كل حين، مما يحول دون برء جراحه، ويجدِّد همومه وأحزانه.
تاسعًا: مما يعين على الصبر عند المصائب الابتعاد عن العزلة والانفراد:
ابتعد ـ أيُّها المصاب ـ عن العزلة والانفراد، فإنّ الوساوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره. وأشغل نفسك بما فيه نفعك، واحزم أمرك، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات، واجعلها أنيسك ورفيقك، فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، مما يعين أيضًا على الصبر عند المصائب وهو الأمر العاشر ترك الجزع والتشكي:
إيّاكم عند المصائب والجزعَ وكثرةَ الشكوى، فإنّ من غفل عن أسباب العزاء ودواعي السلوة تضاعفت عليه شدّة الأسى والحسرة، وهو بهذا كمن سعى في حتفه وأعان على تلفه، فلا يطيق على مصابه صبرًا، ولا يجد عنه سُلُوًّا، ولئن كان الصبر مستأصِلَ الحَدَثان فإنّ الجزع من أعوان الزمان. من علم أنّ المقدَّر كائن والمقضيَّ حاصل كان الجزع عناءً خالصًا ومصابًا ثانيًا، وقد قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22، 23]. حُكي أنّ أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صُراخًا في دار، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان، فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون.
تذكَّروا أنّ الجزع لا يردّ الفائت، ولكنه يُحزن الصديق ويسرّ الشامت، ولا تقرنوا بحزن الحادثة قنوط الإياس، فإنهما لا يبقى معهما صبر ولا يتّسع لهما صدر. وقد قيل: "المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين". مات لرجل وامرأة ابنٌ يُحِبَّانِهِ، فقال الرجل لزوجته: اتقي الله واحتسبيه واصبري، فقالت: مصيبتي أعظم من أنْ أفسدها بالجزع.
وأخيرًا: فإنّ الصبر على المصائب يُعقب الصابرَ الراحة منها، ويُكسبه المثوبة عنها، فإنْ صبر طائعًا وإلا احتمل همًّا لازمًا، وصبر كارهًا آثمًا. قال علي بن أبي طالب : (إنّك إنْ صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور)، وقال عمر بن الخطاب : (إنا وجدنا خير عيشنا الصبر)، وروي عن علي قوله: (اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له). جعلنا الله جميعًا من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1/4613)
فاحشة الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/5/1426
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة الزنا. 2- آ فات مصاحبة لجريمة الزنا. 3- أسباب جريمة الزنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، جاء الإسلام حريصا بتشريعاته على سمو الأنفس وطهارتها، ناهيا عن مواطن الرِيَب وأماكن الخنا، فبين الحلال وشرّف صاحبه، ونهى عن الحرام ووضع الحدود الزاجرة لمقارفته، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].
أجل، لقد قضت سنة الله أن الأمم لا تفنى والقوى لا تضعف وتبلى إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها، فتتحول أهدافها من مثل عليا وغايات نبيلة إلى شهوات دنيئة وآمال حقيرة متدنية، فتصبح سوقا رائجا للرذائل ومناخا لعبث العابثين، وبها ترتفع أسهم اللاهين والماجنين، فلا تلبث أن تدركها السنة الإلهية بالهلاك والتدمير، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
أي مسلم يرغب أن يخان في أهله،؟! وأي عاقل يرضى أن يكون سببًا في اختلاط الأنساب من حوله؟! وأي مؤمن يرضى بالخيانة والخديعة والكذب والعدوان؟! ومن ذا الذي يتبع عدوه الشيطان ويحقق حرصه على انتهاك الأعراض وقتل الذرية وإهلاك الحرث؟!
تلكم ـ معاشر المسلمين ـ وغيرها أعراض وآفات مصاحبة لفاحشة الزنا، هذه الجريمة التي جعلها الله قرينة للشرك بالله في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء، فقال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، ويقول في الجزاء والعقوبة وهو يقرن بين الزنا وغيره من الموبقات: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69].
أيها المؤمنون، وقاني الله وإياكم الفتن والشرور، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي فهو سلعة غالية، وهو مكانة عالية، وهو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، لكنه جهاد ونية وصبر وتضحية وضبط لزمام النفس وتعال عن الشهوات المحرمة، والإيمان بإذن الله يحرس المرء عن الوقوع في المحرمات، وهو درع يحمي صاحبه عن المهلكات، لكن الزنا ـ معاشر المسلمين ـ يخرم هذا الحزام من الأمان، ويدك هذا الحصن الحصين، وينزع هذا السياج الواقي بإذن الله إلا أن يتوب. إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء من عباده، فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان، فإن تاب رد عليه، ولا يجتمع الإيمان مع الزنا، والمصطفى يقول: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ، ويقول : ((إذا زنا أحدكم خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان)).
أيها المسلمون، كم أذل الزنا من عزيز، وأفقر من غني، وحط من الشرف والمروءة والإباء، عاره يهدم البيوت ويطأطئ عالي الرؤوس، يسود الوجوه البيضاء، ويخرص ألسنة البلغاء، ينزع ثوب الجاه عمن قارفه، بل يشين أفراد الأسرة كلها، إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال.
ما أقبح جريمة الزنا، إنه يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل، ويُهبط بالرجل العزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية ما لها من قرار، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما ارتفع. إن جريمة الزنا لطخةٌ سوداء إذا لحقت بتاريخ أسرة غمرت كل صفحاتها النقية، إنه قبيح لا يقتصر تلويثه على فاعله، بل إنه يشوه أفراد الأسرة كلها، خصوصًا إذا صدر من أنثى، إنه يقضي على مستقبلهم جميعًا، إنه العار الذي يطول ولا يزول، يتناقله الناس زمنًا بعد زمن. إنه الزنا، يجمع خصال الشر كلها، من الغدر والكذب والخيانة، إنه ينزع الحياء ويذهب الورع ويزيل المروءة ويطمس نور القلب ويجلب غضب الرب. إنه إذا انتشر أفسد نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الأوضاع وصيانة الحرمات والحفاظ على روابط الأسر وتماسك المجتمع. بانتشاره تضمر أبواب الحلال ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة تحقد على المجتمع، وتحمل بذور الشر إلا أن يشاء الله، وحينها يعم الفساد ويتعرض المجتمع للسقوط.
أيها العقلاء، فكروا قليلا في الصدور قبل الورود، وتحسبوا لمستقبل الأيام وعوادي الزمن قبل الوقوع في المحظور، واخشوا خيانة الغير بمحارمكم إذا استسهلتم الخيانة بمحارم غيركم، وكم هي حكمة معلمة تلك الكلمات التي قالها الأب لابنه حين اعتدى في غربته على امرأة عفيفة بلمسة خفيفة، فاعتدى في مقابل ذلك السقّاءُ على أخته بمثلها، وحينها قال الأب المعلم لابنه: "يا بني، دقّة بدقّة، ولو زدتَ لزاد السقّاء"، ورحم الله الشافعي حيث قال:
عفُّوا تعفّ نساؤكم في المحرم وتَجنّبوا ما لا يليق بمسلم
يا هاتكًا حُرم الرجال وتابعًا طرق الفساد فأنت غيْر مُكرّم
من يزنِ في قوم بألفَي درهم في أهله يزنى بربع الدرهم
إن الزنا دَين إن استَقرضتَه كان الوَفا من أهل بيتك فاعلم
لَوكُنت حرًّامِن سلالة ماجد ما كنت هتّاكًا لحرمةِ مسلم
من يزنِ يُزنَ به ولو بجداره إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافهم
وإياكم إياكم أن تلوّثوا سمعتكم، وفيما قسم الله لكم من الحلال غنية عن الحرام، وتصوروا حين تراودكم أنفسكم الأمارة بالسوء أو يراودكم شياطين الجن والإنس للمكروه، تصوروا موقف العبد الصالح حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. أجل، لقد رأى الصديق عليه السلام برهان ربه، وصرف الله عنه السوء والفحشاء، وعدّه في عباده المخلصين.
في مثل هذه المواقع يبتلى الإيمان، وفي مثل هذه المواقف يمتحن الرجال والنساء، وفي مثل هذه المواطن تبدو آثار الرقابة للرحمن، وهل تتصور ـ يا عبد الله ـ أنك بمعزل عن الله مهما كانت الحجب وأيًا كان الستار؟! كلا، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يعلم السر وأخفى، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
أيها المسلمون، ومستحلّ الزنا في الإسلام كافر خارِج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنًا، ويجلد ويغرّب إن كان غير محصن، لا ينبغي أن يدخل فيه الوساطة والشفاعة. إن بعض الأخطاء إذا وقعت من الشخص أو فعل بعض الكبائر أو ارتكب بعض المعاصي فإن المصلحة في بعض الأحيان يقتضي الستر على هذا الإنسان والتغاضي عنه والنظر إليه بعين الرحمة إلا الزنا، فإن الله جل وتعالى نهانا أن تأخذنا بالزناة رأفة في دين الله، فقال جل وتعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
إن الزاني لم يرحم نفسه، ولم يرحم التي أوقعها في جريمته، ولم يرحم الأسرة التي هو منها، ولا أسرة التي زنى بها، ولم يرحم كذلك المجتمع المسلم الذي يعيش فيه، وفوق هذا تجرأ على محارم الله وخالف شرع الله فكان لا يستحق الرحمة.
أيها المسلمون، وإذا كان ما مضى جزءا من شناعة وعقوبة الزنا في الدنيا فأمر الآخرة أشد وأبقى، ولو سلم الزناة من فضيحة الدنيا فليتذكروا عظيم الفضيحة على رؤوس الأشهاد، هناك تبلى السرائر ويكشف المخبوء، وما لإنسان حينها من قوة ولا ناصر، بل إن أقرب الأشياء إليه تقام شهودا عليه، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]. وهل تغيب عن العاقل شهادة الجلود؟! وهل دون الله ستر يغيّب عنه شيئًا وهو علام الغيوب؟! وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:21-23].
عباد الله، ولا يقف الأمر عند حد الفضيحة على الملأ مع شناعته، بل يتجاوز إلى العذاب وما أبشعه، جاء في صحيح البخاري وغيره عن سمرة بن جندب في الحديث الطويل في خبر منام النبي : أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: ((فانطلقا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب صاحوا من شدة الحر، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الزناة والزواني، فهذا عذابهم إلى يوم القيامة)).
أيها المسلم، وفي يوم عظيم أنت فيه أشد حاجة إلى الظل تستظل به من حر الشمس حين تدنو من الخليقة والعرق يلجمك على قدر أعمالك، هل علمت أن من أسباب ظل الله للعبد يوم لا ظل إلا ظله البعد عن مقارفة الزنا؟ وتصور عظمة الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله، ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).
أيها المسلمون، إن عذاب الله شديد وعقابه أليم، وهو يمهل ولا يهمل، فلا تؤخذوا بالاستدراج، ولا ينتهِ تفكيركم عند حدود الحياة الدنيا، فإن يومًا عند ربكم كألف سنة مما تعدون. ولو عدنا مرة أخرى للدنيا لوجدنا من الزواجر والروادع غير ما مضى ما يكفي للنهي عن هذه الفاحشة النكراء، فالأمراض المدمرة يجلبها الزنا، وقد جاء في الحديث أن النبي أقبل على المهاجرين يوما فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن)) ، فذكر منها: ((ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)). وهنا نحن اليوم نشهد نبوة النبي في المجتمعات التي ينتشر فيها الزنا، فما ذنب المجتمع في أن ينتشر فيه الأمراض؟! ذنبه أنه لم يقاوم تيار الفساد، ولم يقاوم ولم يغير الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الزنا، ذنبه أنه لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، ذنبه أنه يقاوم تيار الصلاح ويعترض على نشاط الدعوة والاستقامة ويمنع من كثرة الخير وبروز الدين، فكان ذنب هذا المجتمع أن يذوق مرارة الوجع مع الزناة والزواني الذين أصابهم الزهري والسيلان وأمراض العصر الشهيرة من الإيدز وغيرها التي هي وليدة القاذورات.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتِها من الحرام ويبقى الخزي والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وليس شيء يقع إلا وله أسباب، ومعرفتنا بالأسباب والعوامل المؤدّية لفاحشة الزنا تضع أيدينا على الداء، والوقاية منها وسدّ الطرق الموصلة إليها يكمن فيها العلاج والدواء، والعاقل من وعى هذه الأسباب، وأبعد نفسه عن مخاطرها، وتأمّل طرق العلاج وألزم نفسه فيها.
وأول الأسباب المؤدية للزنا ضعف الإيمان واليقين؛ فإذا ضعف هذا العامل نسي المرء أو تناسى الوعد والوعيد، وأمن العقوبة، وتباعد الفضيحة، وقلّ في حسه ميزان الرقابة، وانحسر الخوف من الجليل.
السبب الثاني النظرة المحرمة؛ إذ هي سهم من سهام الشيطان، تنقل صاحبها إلى موارد الهلكة وإن لم يقصدها في البداية، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]. وتأمل كيف ربط بين غض البصر وحفظ الفرج في الآيات، وكيف بدأ بالغض قبل حفظ الفرج؛ لأن البصر رائد القلب. وفي السنة بيان لما أجمله القرآن في أثر النظرة الحرام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان تزنيان وزناهما النظر)). فاتقوا ـ يا عباد الله ـ زنا العينين، وكم نظرة محرّمة قادت إلى نظرات أخرى، وقادت النظرات إلى همسات، ثم إلى مواعيد، ثم إلى لقاء، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والْمرء ما دام ذا عين يقلبها فِي أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
السبب الثالث من الأسباب الداعية للزنا كثرة خروج المرأة وتبرجها وتكسرهن في المشية وإلانتهن القول، فهذه وتلك فواتح للشر تُطمع الذي في قلبه مرض. وقد نهى الله نساء المؤمنين عن ذلك كله حماية لأعراضهن وصونا لغيرهن عن مواطن الريَب، قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، ويقول تعالى مخاطبا نساء النبي وغيرهن من باب أولى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
إن مما يؤسف له أن تملأ نساء المسلمين الأسواق العامة، وأن تظهر المرأة بكامل زينتها، وأن ينزع الحياء منها، فتخاطب الأجانب وكأنما هم من محارمها، وربما ساءت الأحوال فكانت الممازحة والمداعبة، وتلك ـ وربي ـ من قواصم الظهر، ومن أسباب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
السبب الرابع استقدام الخدم والسائقين، تلك المصيبة التي عمت وطمت، وامتلأت بها البيوت لحاجة ولغير حاجة، واعتاد الرجال على الدخول مع النساء المستخدمات وكأنهن من ذوات المحارم، وربما تطور الأمر عند الآخرين فجعلها تستقبل الزائرين وتقدم الخدمة للآخرين. وليس أقل من ذلك إتاحة الفرصة للسائقين الأجانب بدخول البيوت دون رقيب.
إن أحداث الزمن وواقع الناس يشهد بكثير من الجرائم والفواحش من وراء استقدام السائقين والخدم، ولكن التقليد الأبله والثقة العمياء ربما حجبت الرؤية عند قوم وأصمت آذان آخرين.
السبب الخامس من الأسباب الداعية لفاحشة الزنا سماع الغناء والخنا والعكوف على مشاهدة المسلسلات الهابطة والنظر إلى الأفلام الخليعة، تلك التي تبثها وسائل الإعلام بمختلف قنواتها. إن هذه المشاهد المؤذية تروض البنين والبنات على الفحش، وتذهب عنهم ماء الحياء، وإذا نزع الحياء من أمة فقد تُودّع منها. وإني لأعجب كيف لكلمات الآباء وتوجيهات الأمهات أن تصل إلى الأولاد وهم يستقبلون كل يوم عشرات المشاهد والكلمات التي تنسخ بالليل ما سمعوه منهم بالنهار، ويظل الشيطان بالإنسان يغريه ويغويه حتى ينتقل به من مرحلة إلى أخرى. أما ما تحويه هذه الدشوش من بلاء وفتنة وما تحمله من سموم مبطّنة فتلك آخر ما يفكر فيها. وأما ما تحمله هذه المادة المبثوثة من غزو للأفكار فهي أمور مقصودة، ومن تدمير للأخلاق مبرمجة ومدروسة فذلك ما تغيب عن باله في سبيل اللذة الآتية والنهم في معرفة ما لدى الآخرين. ومن العجب أنك لا تجد أحدا حين المناقشة يخالفك الرأي في الأثر السيئ لسماع الغناء والخنا، والنظر إلى المشاهد المثيرة للغرائز والعواطف في أي وسيلة وعبر أي قناة، ومع ذلك تحسّ بالإصرار على الخطأ أحيانا، وتحس بالتجاهل لنتائج الدراسات العلمية لهذه البرامج على النشء مستقبلا، والقضية ضعف في اتخاذ القرار وانشطار في القوامة بين الرجل والمرأة في البيت.
السبب السادس السفر للبلاد الإباحية باسم السياحة في الصيف، والتردد كثيرا على البلاد التي ينتشر فيها الفساد وتُعلن الرذيلة أسباب جالبة لوقوع الزائر في الشراك وإن لم يقصدها، وضعف رقابة الآباء والأمهات على البنين والبنات، وضعف التوعية في مدراس البنين والبنات عن مخاطر جريمة الزنا، كل هذه وتلك إذا وجدت فهي أسباب من الأسباب المؤدية إلى الزنا، نسأل الله السلامة لنا ولسائر المسلمين.
ويبقى بعد ذلك دور الجهات المسؤولة في تنفيذ الأحكام، فلا تأخذ المسؤول لومة لائم في تطبيق الحدود وإقامة شرع الله كما أمر، فالله تعالى يزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وبعض الناس يخيفه عذاب الدنيا ويخشى العار من الخلق أكثر من خوفه من عذاب الله، وخشيته من الفضيحة في الدنيا أكبر من خشيته من الفضيحة الكبرى، وهؤلاء لا تردعهم إلا القوة، ولا يصلح معهم الضعف والمسامحة، والله تعالى وهو أرحم الراحمين يقول في تطبيق الحدود على الزناة: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].
(1/4614)
الغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
5/11/1417
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الغضب المحمود. 2- تعريف الغضب المذموم. 3- كيفية علاج الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي : أوصني، فقال له: ((لا تغضب)) ، فردد مرارًا: ((لا تغضب)).
عباد الله، هذه وصيّة النبيّ لرجل أتاه سائلاً مستنصحًا، فأوصاه بعدم الغضب وكررها عليه، وما ذلك إلا لأن الغضب يجمع الشر كله، والغضب عكس الرضا، وهو في حق البشر خُلُقٌ يداخل قلوبهم، كما يقول الإمام الغزالي: "إن الغضب شعلةُ نارٍ مستكنةٌ في طيّ الفؤاد استكنانَ الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد".
والغضب منه محمود ومنه مذموم، فالمحمود الذي يكون في الحق وانتصارًا لله، وأما المذموم فهو الذي يكون للنفس أو الجماعة والقبيلة، يقول تعالى: إِذْ جَعَلَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ?لْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ [الفتح:26].
وقد مدح الله تعالى المتقين ووصفهم بالحِلم وعدم الغضب فقال: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، ويقول أيضا : وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقد قال النبي لأشج بن عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) ، ولقد وصفت عائشة النبي فقالت: وما انتقم النبي لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى.
والغضب عادة ما يجلب على صاحبه ما يندم عليه إن لم يتحكم فيه، هذا إن لم يكن غضبًا لله ولدينه، واقتلاع الغضب من جذوره أمر يكاد أن يكون مستحيلاً؛ لأن الغضب شيء فطري طبيعي، أما الممكن فهو أن يكبح الإنسان آثار غضبه القولية والفعلية، فيتحكم في مشاعره، فيوقفها عند حدود الله، وذلك بالتفكّر في عواقب الغضب في الدنيا والآخرة، وبالترغيب والترهيب، وبالإكثار من مجالسة الصالحين والحلماء الذين ينصحونه ويعينونه على مقاومة أسباب الغضب.
ولقد أرشد نبينا الغضبان بقوله: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) ، والإنسان إذا غضب فإن الشيطان يستحوذ عليه ويلعب به كما يلعب الأطفال بالكرة، جاء في الصحيحين أن رجلين استبا عند النبي ، فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقام رجل فقال للغضبان ما قال النبي ، فقال له: أمجنون تراني؟!
فهذا الرجل لم يقبل نصيحة النبي لاستحواذ الشيطان عليه، وكم من الناس من إذا غضب شتم وتشاجر وتعارك مع الناس، وربما طلق امرأته، ثم بعد ذلك يطرق أبواب العلماء بحثًا عمن يعيدها إليه، بل وربما قال كلمة الكفر في لحظة الغضب، فكفر بالله تعالى والعياذ بالله، وهذا كله غضب مذموم، يأثم صاحبه عليه.
أما الغضب المحمود فهو الذي يكون لله تعالى، فهذا نبينا عندما سمع رجلا يقول: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، يقول ابن مسعود: فما رأيت النبي غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: ((يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أمّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة)) ، كذلك عن عائشة أن النبي غضب وتلون وجهُهُ عندما رأى ستارًا معلقًا في بيته وعليه تصاوير، فهتك الستار وقال: ((يا عائشة، إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) ، ولا يخفى علينا حديث المخزومية التي سرقت، فطلبوا من أسامة بن زيد أن يكلم النبي في شأنها، وأن يتوسط عنده كي لا تُقطعَ يدُها، ولكن النبي لم يكن يقبل الواسطة التي تضر بالدين أو تؤثر على المجتمع، فغضب منه، وقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: عباد الله، كلنا يغضب، ولكن يجب علينا أن نصنف غضبنا، هل هو مما يُرضي الله أم مما يغضبه؟ وبحسب ذلك التصنيف يتحدد إيمان العبد ومكانته عند الله، فمن الطبيعي جدًا أن يغضب الإنسان إذا ما صُدمت سيارته أو فقد محفظة نقوده أو رسب ابنه في مادة من المواد، ولكن هل يعادل ذلك غضبَه على فوات فريضة مع الجماعة، أو على رؤيته ابنه وقد شابه الكفار في كل شيء تقريبًا حتى في ترك الصلاة، أو على رؤيته أهل بيته يذهبون إلى أماكن السوء كالكبائن والأسواق الموبوءة في نهاية الأسبوع؟!
يا عبد الله، إن كان غضبُك لله أعظم من غضبك للدنيا فأنت مؤمن، وإن كان غضبك لله مساويًا لغضبك للدنيا فأنت على خطر عظيم، وأما إن كنت تغضب للدنيا وتحزن على فقدانها وفواتها أكثر من غضبك رؤية محارم الله وهي تُنتهك فأنت منافق مغموس في النفاق.
وإن من النفاق أن يغضب الرجل من صلاح إخوانه وأبنائه، ويكره التزامهم وما هم عليه من اتباع لسنة النبي الظاهر منها على وجوههم وثيابهم والباطن كالذي في تعاملاتهم وأخلاقهم.
فاتقوا الله عباد الله، واسعوا في ابتغاء مرضاته، واغضبوا الغضب الذي يرضاه الله لعباده المؤمنين، واكبحوا جماح الغضب الذي لا يُرضي الله تعالى، وكونوا في أمور الدنيا من أهل وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].
اللهم كملنا بأحب الأخلاق إليك، وأجرنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا...
(1/4615)
مثل القائم على حدود الله
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
17/7/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرب الأمثال منهج قرآني نبوي. 2- شرح حديث: ((مثل القائم على حدود الله)). 3- ضوابط الحرية الشخصية.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي قال: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
عباد الله، إن ضربَ الأمثال للتوضيح والاعتبار والتفكر منهج قرآني، قال الله تعالى: وَتِلْكَ ?لأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت:43].
وفي هذا الحديث العظيم ضرب لنا نبينا مثلاً هامًا ينبغي على كل مسلم أن يعيه ويعلمه، فلقد شبّه نبينا المجتمع الذي نعيش فيه بسفينة من طابقين، فأما العصاة وأصحاب المنكرات فكان نصيبهم القسم السفلي، وهذا هو مكانهم الطبيعي في الدنيا والآخرة؛ إذ إن الذي يعصي الله تعالى ويجاهر بذلك ليس له أيّ كرامة كما قال تعالى: وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]، أما بقية أفراد المجتمع من الصالحين والمصلحين ففي القسم العلوي من سفينة المجتمع.
ثم أخبرنا نبيّنا أن الواقعين في حدود الله كانوا إذا أرادوا أن يشربوا الماء اضطرّوا أن يستأذنوا من أصحاب الطابق العلوي لعدم وجود منفذ مباشر على الماء في القسم السفلي، فأشار بعضهم على بعض بخرق الأرض في نصيبهم من السفينة لكي يصلوا إلى الماء ولا يؤذوا أصحابهم في الأعلى، وهذا بلا شكّ لو تم سيؤدّي إلى غرق السفينة ومن فيها؛ لذا قال النبي : ((فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)).
عباد الله، إن الله تعالى ما بعث الرسل إلا ليأمروا الناس بالمعروف الأعظم وهو التوحيد، ولينهوهم عن المنكر الأكبر وهو الشرك، ولقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]. ولقد بشر نبينا الآمرين بالمعروف بقوله: ((إن الدال على الخير كفاعله)) ، وبشر الناهين عن المنكر بقوله: ((إن من أمتي قومًا يعطون مثل أجور أولهم؛ ينكرون المنكر)).
أما المنافقون فهم على العكس من ذلك، ينكِرون المعروف ويأمرون بالمنكر، كما قال تعالى: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67]. فالذي ينكر على الصالحة حجابها وعفتها وعدم اختلاطها بالرجال والذي ينكر على من ينفق ماله في سبيل الله بحجة أن ذلك إضاعة للمال أو ينكر على من يريد الصلاة مع المسلمين ويثبطه ويؤخره عن أدائها في وقتها والذي ينكر على الصالحين عدم وضعهم أموالهم في البنوك الربوية وأخذهم الربا عليها، فلا شك أن في أولئك خصالا من النفاق إن كانوا يعلمون الحكم الشرعي ويصرون على مخالفته، أما إن كانوا جهالاً فهم آثمون لتركهم السؤال والاستعلام عن أمور دينهم، وآثمون لفتواهم في دين الله بغير علم، وهكذا كل من يأمر بالمنكر ولو كان صغيرًا أو ينهى عن المعروف؛ لأن تلك من خصال المنافقين الذين وصفهم الله تعالى لنا في القرآن كي نحذر منهم؛ لأنهم يعملون جاهدين لهدم الإسلام وإبدال العلمانية والتحلل الخلقي والتسامح الديني بحيث يكون المسلم واليهودي والنصراني سواء، وهم قد نجحوا في بعض بلاد المسلمين نجاحًا قويًا، حتى أصبحت تلك البلاد حربًا على الإسلام وأهله، ونحن إن لم نفق من سباتنا سنصبح مثلهم، والعياذ بالله، وما هي من الظالمين ببعيد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن الذين أصابوا القسم السفلي من أصحاب المنكرات كانت حجتهم في خرقهم السفينة أنهم يخرقون نصيبهم لا نصيب غيرهم، وهذا هو ما يعرف اليوم باسم الحرية الشخصية، فالفساق في أيامنا هذه يجاهرون بالمعصية في كل مكان، وإذا أنكر عليهم غيور قالوا: هذه من الحرية الشخصية التي كفلها الإسلام لأفراده، وهذا كذب وزور وبهتان، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَ?للَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].
إن الإسلام لم يبح الحرية الشخصية بالمعنى الذي يفهمه الفساق وإخوانهم، ففي الإسلام باب عظيم من أبواب الفقه وهو باب الحَجْرِ، وفيه يتمّ الحجر على السفيه الذي يبذّر أمواله بغير حق، بل إنه ليس هنالك في الإسلام وغيره من الأديان بل ولا حتى في الدول الغربية الكافرة حرية شخصية كاملة، بمعنى أن لك أن تفعل ما تشاء، فليس لمن أراد الانتحار وقتل نفسه فعل ذلك بحجة الحرية الشخصية، بل يمنع بحكم القوانين الوضعية ويحاكم ويسجن، وليس لأحد في تلك البلاد الكافرة أن يخرج من بيته عاريًا كيوم ولدته أمه بحجة الحرية الشخصية، حيث لو فعل فإنه يقبض عليه ويودع في السجن لانتهاكه ما يعرف عندهم بالآداب العامة.
ونحن كمسلمين قد دخلت هذه المفاهيم الخاطئة أذهان الكثيرين منا، فأنت ترى من يترك الصلاة مع المسلمين في المساجد، وترى المرأة السافرة المتبرجة، بل وربما دون عباءة في الأسواق والشوارع والمستشفيات، وترى مَنْ نزع الله الحياء من وجهه يخرج في الطرقات وقد لبس الشورت أو أطال شعره كالفتيات أو قصّه متشبهًا بالفساق أو الكفار، وتدخل المستشفيات والعيادات بل وبعض المحلات فتجد شاشات التلفاز تعرض الأفلام والمسلسلات والأغاني والراقصات، فإن أنت أنكرت عليهم قالوا لك: حرية شخصية، سبحان الله! أيُعصى الله جهارًا نهارًا بحجة الحرية الشخصية؟!
هل لي أن أقابل أولئك بنفس المنطق فأصطحِب معي مسجّلاً ضخمًا فأقعد في غرفة الانتظار بالمستشفى مثلاً وأستمع إلى القرآن الكريم بأعلى صوت ممكن وهم يشاهدون تلفازهم؟! هل لي أن أقبع أمام بيت ذلك الذي أضرّ بالمسلمين بلباسه ومنظره المقزّز ومعي آلة تصوير فأصوّر أهل بيته في خروجهم ودخولهم بحجة أن ذلك من الحرية الشخصية التي كفلها الإسلام لي؟! هل لأحد أن يدخّن سيجارًا أو غليونًا في الطائرة أو المستشفى في أماكن غير المدخنين؟!
إن الحرية الشخصية ـ عباد الله ـ تتوقف عندما يصل الضرر إلى الآخرين، ونحن كمسلمين نحدد الضرر لا بأهوائنا ورغباتنا، بل بما يوافق الشرع من كتاب وسنة مطهرة، فالذي لا يصلي مع المسلمين قد أوشك نبينا أن يحرق عليه بيته لتخلفه عن الصلاة، وكذلك غرف الانتظار في المستشفيات، يجب أن تُغلق فيها شاشات التلفاز، وإلا فأين ينتظر الصالحون وأهلوهم الذين لا يشاهدون هذه المنكرات في بيوتهم؟!
إن المنكرات قد ظهرت وفشا أمرها، فإن لم ينكرها المسلمون أوشك الله أن يعمّهم بعقاب.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ قبل غرق السفينة، وأنكروا المنكر قبل أن يغرقكم الله.
(1/4616)
العفو والعافية
الإيمان
الجن والشياطين
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
18/7/1417
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرق بين العفو والعافية والمعافاة. 2- فضيلة العفو. 3- الإكثار من سؤال الله العفو والعافية.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أسماء الله تعالى العَفُوَّ، وهو مشتق من العَفْو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، يقول تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ?لسَّيّئَـ?تِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]. والله عز وجل يحب أن يُسأل، وأفضل ما يسأله العبد العفو والعافية والمعافاة، قالت أمّنا عائشة: يا رسول الله، أرأيتَ إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ فقال: ((تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني)).
أمّا العافية فهي أن يعافيه الله تعالى من سقم أو بلية، وهي الصحة ضد المرض في الدنيا، ويدخل في معناها عفو الله تعالى عن الذنوب، وأما المعافاة فهي أن يستغني عن الناس ويستغني عنه الناس، وأن يعفو عنهم ويعفوا عنه، ولقد أرشدنا نبينا إلى سؤال الله تعالى العفو والعافية والمعافاة، فعن العباس أنه قال: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال له: ((سل الله العافية)) ، قال العباس: فمكثت أياما ثم جئت فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أسأله الله، فقال: ((يا عباس، يا عم رسول الله:، سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) ، وعن أبي بكر أن رسول الله قال: ((سلوا الله المعافاة، فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرًا من المعافاة)).
واعلموا ـ أيها الأحبة ـ أن من أفضل الأدعية التي يُدعى بها الله تعالى سؤاله المعافاة، فقد قال النبي : ((ما من دعوة يدعو بها العبد أفضل من: اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة)) ، ومن الناس من يبتليه الله تعالى ببلاء فلا يدعو الله أن يكشفه ويرفعه عنه ظنًا منه أن ترك الدعاء من الصبر، وهذا خطأ، فقد عاد النبي رجلاً قد جهد حتى صار مثل فرخ، فقال له : ((أما كنت تدعو؟ أما كنت تسأل ربك العافية؟ )) فقال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال : ((سبحان الله، إنك لا تطيقه، أفلا كنت تقول: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟!)).
والله تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بصفاته، فهو رفيق يحب الرفق، رحيم يحب الرحماء، عفو يحب العفو، ولذلك جاء في وصف النبي أنه لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولذلك عفا عن أهل مكة بعد أن فتحها الله تعالى له، على الرغم مما فعلوه به وبأصحابه، وهو القائل: ((ما زاد الله رجلا بعفو إلا عزًا)).
والعفو من صفات المؤمنين المتقين، يقول تعالى: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، ويقول تعالى: وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:40]، يقول الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا"، ولكن من الذي ينال هذا الأجر العظيم بعفوه عن الناس؟ يقول تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
وإن أحق من عفوت عنهم أهلك وزوجك وأبناؤك؛ لأنهم بشر، والبشر قد تزل يده أو لسانه، فإن كنت حليمًا رحيمًا ترحم من أخطأ وتعفو لوجه الله فإنه يُرجى لك الخير، وكم من كربات فرجها الله عن أُناس عاملوا الآخرين باليسر وبالغض عن الإساءة، فمن عفا عن أقرب الناس إليه وتجوز عن زلته عفا الله عنه لذلك، وكما لغيرك أخطاء فلك أنت أيضا أخطاء، فمن عفا وأصلح عفا الله عنه وغفر له، ولذلك عندما قذف مسطح بن أثاثة أمنا عائشة في حادثة الإفك وهو ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه شيئًا، وكان من فقراء المهاجرين، فنزل قوله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22]، فقرأها النبي على أبي بكر فقال رضي الله عنه: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فأعاد ما كان ينفقه على مسطح الذي قذف ابنته واتهمها بالزنا، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: جاء في سنن أبي داود عن ابن عمر أن النبي لم يكن يدع هذه الكلمات حين يصبح وحين يمسي: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي)) ، فسؤال الله تعالى العافية من السنة المطهرة.
ومن السنة المطهرة أيضا أن يحمد الله تعالى على النعمة التي هو فيها، فقد جاء عند الترمذي أن النبي قال: ((من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاء)) ، فمن المشروع إذًا أن تسأل الله تعالى العافية صباح مساء، وأن تحمد الله تعالى على العافية إذا رأيت مبتلى في بدنه وماله أو في أشد من ذلك وهو الدين والعياذ بالله، وكم يمر الناس على أهل المعاصي والذنوب ولا يحمدون الله على العافية، فهذا الذي يتعامل بالربا أو يأخذ الرشوة أو يبيع المحرمات أو يتعامل بها كالدخان والأفلام والأغاني فهؤلاء وغيرهم كثير مبتلون، نحمد الله تعالى أن عافانا مما ابتلاهم به، ونسأله تعالى العافية.
فاتقوا الله عباد الله، وسلوا الله تعالى العافية، واعفوا عمن أساء إليكم ابتغاء وجه الله تعالى، وإياكم أن يستزلكم الشيطان فيجعلكم تقطعون أرحامكم في لحظة غضب، فتقع بينكم العداوة والبغضاء، وماذا عليك ـ يا عبد الله ـ لو أن أحدًا أساء إليك بكلمة في مجلس فتجاوزت عنه وعفوت؟! وقد قال الصادق المصدوق: ((وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزًا)).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة...
(1/4617)
التبرك
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, فضائل الأزمنة والأمكنة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
5/4/1418
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف البركة. 2- أنواع التبرك المشروع. 3- كيف تحصل البركة في الطعام. 4- البركة في بعض الأماكن والأزمنة. 5- الرزق والبركة فيه. 6- نماذج من التبرك الممنوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما من مسلم إلا ويرجو البركة في أفعاله وأقواله وأهله وماله، فهو يدعو الله لنفسه فيقول: اللهم بارك لي فيما أعطيت، ويدعو لأخيه إن هو تزوّج بقوله: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير.
والبركة هي الزيادة والنماء، وأن تُبَرِّك لإنسان بمعنى أن تدعو له بالبركة والزيادة والنماء والخير، والبركة لا تكون إلا من الله تعالى، فهي من أفعاله ومن صفاته، فتبارك الله بمعنى: تعالى وتعظم وارتفع عز وجل، وإن البركة تُكسب وتُنال بذكره وفضله، فالله تعالى هو المُبارِك، ورسوله مُبَارَك، وكذلك كتابه وبيته مُبارَكان.
ولقد جاءت نصوص الشرع بجواز التبرك بأمور محدودة معينة، ولا يجوز الزيادة عليها، فلقد كان أصحاب النبي يتبركون بجسده وعرقه وشعره وثيابه وأوانيه، وكل ذلك لأن الله تعالى جعل فيه من البركة ما يُستشفى به ويُرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، مع الاعتقاد الجازم أن واهب البركة وخالقها هو الله تعالى لا النبي. وأما الآن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإن ذلك انقطع وزال لعدم ثبوت نسبة شيء من الأمور الموجودة الآن إليه، كنسبة شعره أو ثوبه أو سيفه، فهذا كله غير ثابت ولا صحيح، فلا يُتبرك بشيء من ذلك.
ومن الأمور التي يُتبرك بها قراءة سورة البقرة، كما قال النبي : ((اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حَسْرَة، ولا تستطيعها البطلة)).
ومما يُتبرك به مجالس الذكر التي يَغفر الله تعالى فيها لجميع الحاضرين، كما جاء في الحديث أن الله تعالى يقول للملائكة بعد إخبارهم عن مجلس للذكر مروا به: فأُشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: فيهم فلانٌ ليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
ولك ـ يا عبد الله ـ أن تسأل نفسك عن آخر مجلس من مجالس الذكر جلسته متى كان، فإن أكثر المسلمين اليوم يعرضون عن مجالس ذكر الرحمن ويقبلون على مجالس ذكر الشيطان والعياذ بالله.
عباد الله، لقد أخبر النبي أن الله تعالى يبارك الطعام، فمن أسباب مباركة الطعام الاجتماع عليه وأن لا يأكل القوم وهم متفرقون في المجلس، لقول النبي للصحابة حينما اشتكوا له أنهم يأكلون ولا يشبعون: ((فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يُبارك لكم فيه)). والسنة أن يأكل الإنسان من أمامه مما يليه لقول النبي : ((البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حَافَتَيْهِ، ولا تأكلوا من وسطه)) ، ولقد أمر النبي بلعق الأصابع والصحفة فقال: ((إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) ، وفي رواية أخرى: كان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه. وكم فرط المسلمون اليوم في هذه السُنَّةِ.
ومن الأماكن المباركة المساجد، وفي أولها الحرمان الشريفان والمسجد الأقصى ومسجد قباء، ولكن التبرك فيها وبها لا يكون بما يفعله الجهال من التمسح بجدرانها وأخذ شيء من ترابها، فإن ذلك كله بدعة وضلالة، أما التبرك المشروع فهو بالصلاة فيها والاعتكاف وحضور مجالس الذكر.
ومن الأماكن المباركة أيضا مكة والمدينة وبلاد الشام وعرفة ومزدلفة ومنى، لكثرة الخير الذي ينزل فيها على الناس.
وهنالك أيضا أوقات مباركة كشهر رمضان، وخاصة ليلة القدر التي وصفها تعالى بالبركة بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. كذلك العشر الأول من ذي الحجة ويوم عرفة ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي، فهذه كلها أزمنة مباركة يتعرض فيها العبد لنفحات ربه بالأعمال المشروعة رجاء البركة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة وعلى رأس ذلك الصدق تؤدي إلى جلب البركة الدينية والدنيوية، قال النبي : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)) ، فالكذب وهو من الذنوب مزيل للبركة، وكذلك الحلف في البيع والشراء، يقول النبي : ((الحَلِف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إن من الأمور الشرعية التي أرشد النبي أمته لجلب البركة في الرزق التبكير في طلب الرزق، وهو مما يغفل عنه كثير من أهل السهر ونوم النهار، فعن صخر بن وداعة الغامدي أن النبي قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) ، ولقد طبق الصحابي هذا الحديث رجاء البركة، فكان رضي الله عنه تاجرًا، وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله.
ومن أسباب زيادة الرزق صلة الأرحام، وهذا من بركة الأعمال الصالحة، إذ يقول النبي : ((من أحب أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه)).
عباد الله، إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم ليرى ضلالاً مبينًا وانحرافًا عن هدي الإسلام في مسألة التبرك، فالبركة كالرزق والعافية من الله، فطلبها من غيره شرك، والتبرك أمر شرعي لا يُدرك بالعقل، إنما يتوقف وجوده على نصوص الشرع، فما جاءت النصوص بجواز التبرك به تبركنا، وإلا توقفنا وامتنعنا.
وما يفعله الجهال اليوم عند مقام إبراهيم عليه السلام أو عند قبر النبي من التمسح والتقبيل وإلصاق البطن والوجه أو الظهر طلبا للشفاء والبركة كل هذا من البدع المنكرة المغلظة التي قد تصل إلى الشرك الأكبر إن اعتقد فاعلها أن النفع والضر لغير الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا حكم تقبيل الجمادات: "ليس في الدنيا من الجمادات ما يُشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يقبل الحجر الأسود: (والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)".
فاتقوا الله عباد الله، واتبعوا سنة الخليفة المهدي عمر ترشدوا، وتجنبوا البدع والضلالات تهتدوا، وإياكم والتبرك بالصالحين أحياءً كانوا أم أمواتًا، فإن ذلك من المحدثات، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة...
(1/4618)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
8/4/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرق بين الحسد والحقد. 2- تأثير العين حق وواقع. 3- علاج المعيون. 4- كيف نتقي العين والحسد؟ 5- الحسد المحمود.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن من معتقد أهل السنة والجماعة أن العين والحسد حق، فالحسد المذموم هو تمني زوال النعمة من المحسود، مع ما يصحب ذلك الحسد من الكراهية والحقد، بينما تكون العين مع الاستحسان والإعجاب والاستعظام لشيء بلا كراهية أو بغض، والعين تدخل ضمن الحسد، فالحسد أعمّ، إذ يشترط للعين أن يرى العائن ما يعجبه من جماد أو حيوان أو مال، فتنقدح نظرة العين فتصيب المحسود، بينما الحسد قد يكون في الغائبات والموجودات، بل قد يقع الحسد في الأمور المتوقعة والتي لم تحصل بعد، والعياذ بالله.
ولقد كان أنبياء الله تعالى من قبل يؤمنون بالعين، فهذا يعقوب عليه السلام يقول كما في سورة يوسف : وَقَالَ يابَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَ?دْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ ?للَّهِ مِن شَىْء إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67].
قال جمهور المفسرين أنه عليه السلام خشي عليهم من أعين الناس؛ لأنهم كانوا ذوي هيئة وجمال ومنظر حسن، ولقد جاء في الصحيحين أن النبي قال: ((العين حق)) ، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين)) ، فما ينبغي للمسلم أن يتهاون بالعين وأثرها، ولقد قال النبي : ((إن العين لتولِعُ بالرجل بإذن الله ـ أي: تلازمه ـ حتى يصعد حالقًا فيتردى منه)) ، إذًا العين من أسباب الهلاك والدمار، قال النبي : ((العين تُدخل الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر)).
وسبب وقوع العين هو نظرة الإعجاب المشوبة بخبث النفس مع قوة سُمِّيَّة تنطلق من عين العائن لا تُدرك حقيقتها، ولكن واضحٌ أثرها ومشاهد، فإن للأرواح تأثيرًا على الأبدان، كما يحمر وجه الإنسان إذا نظر إليه من يستحيي منه ويخجل، وكما يصفر وجهه إذا نظر إليه من يخاف بطشه وسطوته، وكما يتثاءب الإنسان إذا تثاءب من بجواره.
والعين ـ عباد الله ـ لها علاجان، فالعلاج الأول أن يُعرف الذي أصابه بالعين، روى الإمام مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه أن سهل بن حنيف وهو من أهل بدر اغتسل بالخرار، فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ـ وهو أيضًا من أهل بدر ـ ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم جلدا ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل واشتدّ وعكه، فأُخبر النبي بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون فيه أحدا؟)) فقالوا:عامر بن ربيعة، فدعاه وتغيظ له فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برَّكت؟! اغتسل له)) ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صُبَّ عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته ليس به بأس.
ومن هذا الحديث نعلم أن أفضل علاج للعين أن يغتسل العائن بالصفة المذكورة في الحديث، ولا يحلّ لأحد أن يرفض الاغتسال لو طُلب منه ذلك، فلقد قال النبي والحديث في صحيح مسلم: ((العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استُغسِلتم فاغسلوا)).
فإن لم يُعرف العائن أو امتنع عن الاغتسال تكبرًا منه وظلمًا فلا علاج إلا بالرقية الشرعية، وهي التي تكون باللغة العربية المفهومة وبالآيات والأحاديث الصحيحة وبأسماء الله وصفاته، وأن يصاحبها اعتقاد جازم أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى، ولقد كان نبينا يأمر بالرقية من أعين الجن وأعين الإنس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قديمًا قيل: "درهم وقاية خير من قنطار علاج". والوقاية من الحسد والعين تكون بالمحافظة على أذكار الصباح والمساء والمحافظة على قراءة آية الكرسي والمعوذات دبر كل صلاة وقبل النوم بالصفة التي كان يفعلها نبينا ، كذلك يجب على كل منا إذا رأى ما يعجبه أن يقول: بارك الله له، أو أن يقول: اللهم بارك عليه، كما أرشد إلى ذلك نبينا.
أما ما درج على لسان العوام من قولهم: "الله أكبر عليك" أو قولهم: "صَلّ على النبي" لرد ودفع شر العائن فهذا كلّه لا أصل له ولا يصح، وأما قول: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" فقد ذكره ابن كثير في تفسيره وابن القيم رحمهما الله وجماعة من أهل العلم.
وإن الكثيرين من المسلمين اليوم يقعون في الشرك بالله بتعليقهم التمائم والخرزات الزرقاء أو صورة الكفّ ذي الخمسة أصابع لدفع شرّ العين عنهم، فينبغي للمسلم أن يحذر من ذلك.
عباد الله، قال نبينا والحديث في البخاري وغيره: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) ، قال أهل العلم: الحسد هنا المراد به حسد الغبطة، وهو تمني النعمة للنفس دون زوالها ممن هي عنده، وقلّ في أيامنا هذه من يتمنى حفظ القرآن لكي يتلوه آناء الليل وآناء النهار وليعلمه الناس، وقلّ من يتمنى المال ليتصدق به ويفنيه في طاعة الله، إذ الغالب على الناس اليوم التقاعس عن مدارسة القرآن الكريم وحفظه والحديث الشريف، وانشغالهم بالملهيات من أمور الدنيا المباح منها والمحرم، وكثير ممن يعمل ويجمع المال إنما يجمعه ليسافر بأهله به إلى بلاد الكفر أو بلاد الفسق والفجور أو لينفقه على شهواته وملذاته، أما أن يُساعد المجاهدين المضطهدين أو الفقراء المحتاجين أو المستضعفين المشردين فأولئك كما يقول لهم الله رب العالمين، قال تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ?لله قَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ?للَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47].
فاتقوا الله عباد الله، فقد مضى من أعمارنا الكثير، ولم يبق إلا القليل، سارعوا إلى الإنفاق في سبيل الله، ولا تُعطوا أموالكم لمن احترف التسوّل في المساجد، فإنهم من أكذب خلق الله، وبادروا إلى تعلم القرآن والحديث الشريف وعلموه، فإن خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وشركم من ترك تعلم القرآن ولم يأمر أهله به.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم...
(1/4619)
عيد الأضحى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعمال يوم الحج الأكبر. 2- نعم الله الكثيرة تستوجب الشكر. 3- الحذر من المنكرات التي تستنزل العذاب وزوال النعمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا.
عباد الله، إن هذا اليوم هو يوم الحج الأكبر، فهو الذي تتم فيه أكثر أعمال الحج كرمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق وطواف الإفاضة، وهو أيضا عيد الأضحى، أحد عيدي المسلمين، وفيه يذبح المسلم القادر أضحية خالية من العيوب، يريق دمها بعد صلاة العيد تقربًا إلى الله واقتداء بنبينا محمد ، فإن لم يتسر للمسلم أن يذبح يوم العيد فله الفرصة طيلة أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي العيد، وهي أيام أكل وشرب وذكر الله كما قال نبينا ، ويحرم صيامها إلا لمن حج ولم يجد الهدي.
عباد الله، إن الله تعالى هو الجواد الكريم الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وقد جرت العادة أن من أسدى إليك معروفًا أن تشكره، فكيف لا تشكر الله وأنت قلبك لا يخفِق إلا بإذنه، ونفَسُك لا يتردد في صدرك إلا بإذنه، وبصرُك لا ينطلق إلا بإذنه؟! أليس هو تعالى أحق بالشكر؟!
ونعم الله كثيرة كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. ولقد أمرنا ربنا عز وجل بالشكر كما أمر أنبياءه بذلك، وأخبر تعالى أن أكثر الناس لا يشكرون، يقول تعالى: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
ولقد كان نبينا أعظم الشاكرين، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).
عباد الله، إن شكر الله حق في رقابنا للمنعم المتفضل تعالى، وأقلّ القليل هو أن نظهر هذا الشكر ونشيعه بين الناس، ونتواضع لله الذي فضلنا على كثير من خلقه، يجب علينا إظهار شكرنا لله تعالى في الخلاء وبين الملأ، لأن ذلك يذكر الناس بربهم ونعمه، فلعلهم ينتابهم شيء من الحياء والخجل من ربهم، قال النبي : ((التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله)).
والله تعالى بتكليفه لنا شكره بالقلب واللسان والجوارح لم يكلفنا ما لا نطيق، فيكفي لكي تشكره بقلبك أن يخفِق قلبك بالثناء عليه فتقول مناجيًا معترفًا بنعمه: ربي أصححت جسدي وما أكثر الأسقام في الناس، أحييتني لعبادتك والمقابر مليئة بالموتى، هديتني للحق والإسلام وأكثر البشر كالأنعام بل هم أضل، أغنيتني من فضلك وكم من معدم فقير، عافيتني في جسدي ومالي وأهلي وديني وكم من مبتلى، رزقتني السمع والبصر والفؤاد فلك الحمد حتى ترضى.
وإن حقيقة الشكر أن نفعل ما أمر الله وأن نجتنب ما نهى الله عنه؛ لأن الذي يستعمل نعمة الله في معصيته فذلك هو أكبر الجحود والكفر بالنعمة، فما شكر الله من أعطاه الله المال فأنفقه في معصيته، وما شكر الله من رزقه الصحة فأتلفها بمسكر أو مخدر أو دخان، وما شكر الله من كان عنده زوجة جميلة ولم يأمرها أن تغطي وجهها ومفاتنها عن أعين المسلمين، وما شكر الله تعالى من رزقه الله ولدًا فما زال يمده بالمال ويعينه على السفر ويسهل له وسائل الفساد حتى أغرقه في مستنقع الانحراف والرذيلة، وما شكر الله من يسمع المؤذن ينادي للصلاة وهو يرى الناس يمشون إلى المسجد ومع ذلك هو يتولى معرضًا عن الصلاة مع المسلمين، وما شكر الله من رزقه سمعًا وبصرًا فهو يسمع الحرام وينظر إلى الحرام، فهؤلاء ما شكروا نعمة الله عليهم.
ولقد توعد الله من كفر بالنعمة بالعذاب، وتعهد بالزيادة لمن شكر، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. ولعل ما نحن به من قحط واحتباس المطر بسبب ذنوبنا التي بلغت عنان السماء، فاللهم عرفنا نعمك بدوامها علينا، ولا تعرفنا إياها بالزوال.
عباد الله، إنه ما من أمة تركت إنكار المنكر إلا سلط الله عليها صنوفًا من العذاب والذل والمهانة الذي لا يرفعه عنها حتى تراجع دينها، ولقد أصبحنا نرى المنكرات وقد أخرجت رأسها، وقل أن نرى من ينكرها ويحتسب عند الله تعالى، فأصبحنا نرى النساء يعملن في المستشفيات بل وفي بعض الشركات سافرات متبرجات يختلطن بالرجال ويعملن معهم، وأصبحت البنوك الربوية تعلن صراحة عن قروضها الشخصية الربوية في كل مكان بدون وجل ولا خجل، وصارت الدشوش في كل بيت تقريبًا، وكَثُرَت محلات بيع الأغاني والأفلام، وكلها أمور محرمة، أدت إلى انتشار الزنا واللواط والعنف والجريمة بين الشباب خاصة وبين الناس عامة، وكل ذلك بسبب تركنا إنكار المنكر، حتى كاد المنكر أن يدخل بيوتنا، ولقد تهددنا نبينا فقال: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجيب لكم)) ، وكم ندعو الله تعالى أن يفرج هم المسلمين وأن ينصرنا على أعدائنا وأن يصلح ذريتنا وأن يسقينا الغيث، ولكن الدعاء محجوب لا يرفع إلى السماء بسبب تركنا إنكار المنكرات، ولقد بشر نبينا الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأن من أمته من يُعطى مثل أجور الصحابة وذلك بإنكارهم المنكر، فهل ننكر المنكر في أسواقنا وبيوت معارفنا وفي كل مكان نمر به كي يرفع الله عنا سخطه؟
عباد الله، يجب أن لا تنسينا فرحتنا بالعيد واجبات فرضها الله تعالى وحدودًا حدها الله تعالى، فما ينبغي للمسلم أن يترك الصلاة مع الجماعة وهو يعلم أن الله هو الذي أوجبها عليه، ولا يجوز ما يفعله الكثيرون من اختلاط النساء بالرجال غير المحارم في الزيارات للمعايدة أو لتناول الطعام، ولا ينبغي إهدار الأموال وحرقها تحت مسمى الفرح واللعب، فكم من أموال ترمى في الملاهي وتحرق في المفرقعات النارية وإخواننا في الشيشان يبادون ويشردون ويضطهدون، وهم يستغيثون بإخوانهم المسلمين، ولكن لا حياة لمن ينادون، لأننا مشغولون بشهواتنا وملذاتنا وبجمع المال من أجلها، وأهملنا الجهاد ونصرة المسلمين، فهل نظن أن الله لن يسألنا عن هذه الأموال من أين اكتسبناها وفيم أنفقناها؟!
إن الكثيرين منا قد عششت الأحقاد والضغائن في قلبه، وفرخت قطيعةً للرحم وتعاسةً ونكدًا، أفلم يأن لقلوبنا أن تصفح وتسامح وتغفر؟! أليس الوقت مناسبًا لوصل ما انقطع من أرحام وإصلاح ما فسد من وشائج الصداقات والقربى؟! فلنغتنم فرصة العيد ولنكن نحن أول من يبدأ بالسلام، لعل الله أن يدخلنا جنته بهذا العمل الصالح.
يا معشر المؤمنات، ما قيل للرجال يقال لكن، لأنكن شقائق الرجال كما أخبر نبينا ، فاشكرن نعمة الله عليكن بالقلب واللسان والجوارح، واحمدن الله تعالى على نعمة الأمن والعافية، فقد عافانا من فيضانات أصابت غيرنا، ومن تشريد وتقتيل قد وقع واستحر بإخواننا في الشيشان وكشمير وفلسطين، وعليكن بإنكار المنكر في الأسواق والمستشفيات والأفراح والمدارس، فالمرأة تستطيع الإنكار على النساء أفضل من الرجال. وعليك ـ يا أمة الله ـ أن تتأكدي من أداء زوجك وأبنائك الصلاة في المسجد حيث أمر الله تعالى، واجتهدي في تطهير بيتك من وسائل الإفساد كالدش وآلات اللهو والمعازف، فإن هذا أهم بكثير من محافظتك على صحة أولادك ودراستهم، إذ ليس بعد مصيبة الدين مصيبة، وتأكدي من إخراج التماثيل والتصاوير من بيتك، وعدم وجودها على ملابس أبنائك، لأن الشياطين تحل في المكان الذي لا توجد فيه الملائكة. وعليك ـ أيتها المؤمنة ـ بالإكثار من سماع الأشرطة الإسلامية وقراءة الكتيبات التي تزيد في إيمانك وترسخ عقيدتك وتكون لك حصنًا حصينًا من شبهات العلمانيين ودعاة التحرر من الإسلام.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وتولنا برعايتك ولا تحرمنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تجعل لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا همًا إلا نفسته، ولا كربًا إلا فرجته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا أسيرًا إلا فككت أسره، ولا مظلومًا إلا نصرته، ولا ظالمًا إلا دحرته وقصمته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4620)
اقرؤوا التأريخ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
8/1/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القضايا الحولية والموضوعات الموسمية. 2- الاتعاظ بمضي عام واستقبال عام. 3- دعوة لقراءة التأريخ الإسلامي. 4- محاسن الإسلام. 5- لا اجتماع ولا وحدة إلا برابط العقيدة الإسلامية. 6- الإصلاح من الداخل أولاً. 7- تعزيز جانب الحسبة في الأمة. 8- التبعية والانهزامية. 9- جواز عقد المعاهدات والمهادنات. 10- أين دروس الهجرة وعبرها؟ 11- لا تمكين إلا بجماعة. 12- نداء للشباب والمرأة المسلمة المعاصرة. 13- لا بد من وقفات تأمل ومحاسبة. 14- فضل شهر الله المحرم. 15- الترغيب في صيامه. 16- التأكيد على صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيرًا غفيرًا، ورزقًا وفيرًا، ومقامًا كبيرًا، فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجدًا أثيرًا، وفي الآخرة جنة وحريرًا، وروحا وعبيرًا.
أيها المسلمون، في ظل ازدلاف الأمة إلى عام جديد، وتطلعها إلى مستقبل مشرق رغيد، تبرز بجلاء قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علّها تكون محركا فاعلاً يستنهض الهمم، ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة، لتستعيد الأمة تأريخها المجيد، ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوّأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جميعًا.
معاشر المسلمين، إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمرًا هيِّنًا، لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل، وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجرًا، وموعظة ومدّكرًا، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة. ولئن أُسدل الستار على عام مضى، فإن كل ماض قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنوٌّ في الآجال.
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تُطوى وهن مراحلُ
وإذا كان آخر العمر موتًا فسواء قصيره والطويلُ
فكم من خطوات مشيت، وأوقات صرفت، ومراحل قطعت، ومع ذلك فالإحساس بمضيّها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها وعظمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله، إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضي بسرعة فائقة، لا يتوقف عند غافل، ولا يحابي كل ذاهل، كم ودّعنا فيما مضى من أخ أو قريب، وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزّنا خبره، وفجعنا نبؤه، حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقتُ بالريق حتى كاد يشرق بي.
لقد كانوا زينة المجالس، وأُنس المجالس، سبقونا إلى القبور، وتركوا عامر الدور والقصور، فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، واللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان، وإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! ماذا ران على قلوبنا؟! وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟! إن الموفّق الواعي من سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإن الكيِّس الملهم من أدام المحاسبة وأكثر على نفسه المعاتبة، وتفقّد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية ليحيى حياة السعداء، ويُبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.
إخوة العقيدة، ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تتفيأ ظلال عام جديد مليء بالتفاؤل والتطلعات للخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحديات والنكبات، أن تقرأ تأريخها.
اقرؤوا التأريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
اقرؤوا التأريخ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام ووقائعه الجسام نقطة تحول كبرى، لا في تأريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في تأريخ البشرية قاطبة، اقرؤوا التأريخ الإسلامي لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفًا مهمًا غيّر مجرى التأريخ الإنساني برمّته، اقرئي ـ يا أمتي ـ تأريخك المجيد لتعلمي كيف أرست مصادره وأحداثه مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، وكم رسّخت وقائعه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان مضامين الحوار الحضاري الذي يتنادى به العالم اليوم.
أيتها الإنسانية الحائرة، لتسلمي من الأحكام الجزاف الجائرة، اقرئي تأريخ حضارتنا الإسلامية، لتَرَيْ بأم عينيك كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان بجدارة، أزال الطبقات والعنصريات، وألغى الفوارق والتمايزات، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، في وحدة تتضاءل أمامها الانتماءات العنصرية، والأواصر والعلاقات الدنيوية، بل تضمحل بها كل دعاوى الجاهلية.
إخوة الإيمان، الارتباط التأرخي الوثيق، والانتماء الحضاري العريق يؤكد أن ليس غير العقيدة الإسلامية جامعًا للعقد المتناثر، ومؤلفًا للشتات المتناكر، وناظمًا للرأي المتنافر، فهل تعي الأمة ذلك بعد هذا التمزق المزري والتخلف المخزي والتيه في الأنفاق المظلمة وسراديب الغواية المعدمة؟!
إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة والتساهل بأمر الشريعة والتفريط في الثوابت والمبادئ والتقصير في المثل والقيم مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاد، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول التبار، وتحقق الدمار؟! فهل يدرك أصحاب الرأي والنظر في الأمة أن التحديات السابقة والمعاصرة وصور التصادم الحضاري والعداء الثقافي والفكري إنما مردُّه إلى ثوابت عند الغير، لا يتحقق الانتصار عليها إلا بالتمسك بموروثنا الحضاري العريق الذي ينضح خيرًا وسلامًا للبشرية، وأمنًا وإسعادًا للإنسانية في بُعد عن مسالك العنف والإرهاب العالمية، التي أقضَّت مضاجع الإنسانية، وهنا ينبغي أن يتنادى العقلاء والمنصفون في العالم بإعلاء القيم الحضارية والأخلاقية والمثل الإسلامية والإنسانية، والتأكيد على مبدأ الحوار الحضاري، بلا تميُّع ولا انهزامية.
اقرؤوا التأريخ ـ أيها المنهزمون من بني جلدتنا ـ لتدركوا أن الحوار مع الآخر يجب أن يُبنى أولاً على الإصلاح من الداخل، حين تمتلئ النفوس محبة ومودة وحنانًا، حينما توضع الكوابح المرعية، وترسم الضوابط الشرعية لحركة الانفتاح الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي المتسارعة التي لا تعرف التمهّل، فقنوات وفضائيات، وتقانات وشبكات معلومات، واللهم حوالينا ولا علينا. يجب أن تُعاد الثقة إلى الذات، ويُعالج الانهزام النفسي لدى كثير من المعنيين في مجالات التربية والثقافة والإعلام، الذين لهثوا وراء عفن الأمم، عبُّوا منها طويلاً، فلم تغنهم ولم تغنِ أمتهم فتيلاً ولا نقيرًا ولا قطميرًا، وهنا يتأكد تعزيز جانب الحسبة في الأمة، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، كما يجب الذبّ عن أهلها، وعدم الوقيعة بهم، وتضخيم هناتهم، والكف عن التمادي في اتهامهم، والطعون في أعراضهم، في وشايات مأفونة، أو مقالات مغرضة، أو أقلام متشفية، فأي شيء يبقى للأمة إذا انتقصت معالم خيريتها؟!
أمة الإسلام، حينما تتقاذف سفينة الأمة أمواج الفتن فإن قوارب النجاة وصمامات الأمان مرهونة بولاء الأمة لدينها وتمسكها بعقيدتها، وحينما يُجيل الغيور نظره في واقع أجيال من المنتسبين إلى أمتنا اليوم، ويرى التبعية والانهزامية أمام تيارات العصر الوافدة ومبادئ المدنية الزائفة، ويقارن بينهم وبين جيلنا التأريخي الفريد يدرك كم كانت وقائع تأريخنا المشرق الوضاء وحوادث سيرتنا العطرة سببا في عزة الأمة وكرامتها، وبذلها وتضحياتها، وإن تنكُّر فئام من الأمة لمبادئ دينهم ولهثهم وراء شعارات مصطنعة ونداءات خادعة لهو الأرضية الممهدة للعدو المتربّص، مما جرّأ علوج صهيون على العبث بمقدسات الأمة وممارسة إرهاب الدولة بكل ما تحمله من معنى الصلف والوحشية ضد إخواننا في الأرض المباركة فلسطين تحت سمع العالم وبصره.
كما أن من الدروس المستفادة لتحقيق مصالح الأمة جواز عقد المعاهدات والمهادنات، لا الاستسلام والمداهنات.
يا أمة التوحيد والتأريخ، في خضم هذه الظروف الحوالك، التي اختلطت فيها المسالك، يتأمل قُراء التأريخ ويتساءلون: أين دروس الهجرة وعبرها من شعارات العصر بإنسانيته الزائفة وديمقراطياته المزعومة التي تُحسب على دعاتها مغانم وعلى غيرهم مغارم، في غياب المنهجية الشورية المصطفوية؟! أين دروس التأريخ وعِبَر الهجرة وأخوة المهاجرين والأنصار من أناس مزّقهم التفرق والتشرذم، وأحلُّوا العداوة والخصام محلّ المحبة والوئام، وترسّبت في سويدائهم الأحقاد، وتأجج في قلوبهم سعير الحسد والبغضاء، والغل والشحناء، حتى تمزقت الأواصر وساد التفكك الأسري والاجتماعي في كثير من المجتمعات؟! فرحماك ربنا رحماك.
اقرؤوا التأريخ لتجدوا كم تحتاج العقيدة إلى دولة وسلطان ينافح عن كيانها، ويذود عن حماها، كما هي منة الله سبحانه على بلاد الحرمين ومدارج الهجرة وأرض التأريخ والرسالة حرسها الله. ألا فليتيقن دعاة الإصلاح في الأمة أن لا عقيدة ولا تمكين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بولاية، ولا ولاية إلا بسمع وطاعة، لتدرأ عن الأمة غوائل الشرور والفتن، وعاديات الاضطراب والمحن.
وفي الميدان التربوي يجب أن يقرأ التربويون تأريخنا ليروا كيف تربى المرء المسلم عبر كافة قنوات التربية على نصرة العقيدة والولاء للقيادة.
وليقرأ التأريخ شبابُنا المعاصر الذين خدع كثير منهم ببريق حضارة مادية، أفرزت غزوا في الصميم، تنكب من خلاله كثير من شباب الأمة طريق الهداية الربانية، وعاشوا صرعى حرب الشهوات، وضحايا غزوا التفرق والشبهات، ويبرز ذلك في مجال التشبه والتبعية والتقليد والمحاكاة للغير في كثير من المجالات، وقد قال فيما أخرجه أحمد وأبو داود: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1].
لتقرأ التأريخ وتستلهم دروسه وعبره المرأةُ المسلمة المعاصرة، لتدرك أن عزَّ المرأة ومكانتها في تمسكها بقيمها ومبادئها، حجابًا وعفافًا، احتشامًا وقرارًا، وأن وظائفها ومسؤولياتها التربوية والأسرية والاجتماعية في الأمة كبيرة التبعة، عظيمة الجوانب والآثار، لا كما يصوِّرها أعداؤها الذين يوحون إلى أوليائهم ومولياتهم أن الحجاب والعفاف فقدان للشخصية، وسلب للحرية، فأخرجوها دمية تفتش عن سعادة موهومة، وحرية مزعومة، كان من نتائجها دوس العرض والشرف، والعبث بالعفة والكرامة، من ذئاب مسعورة لا ترعى الفضائل، ولا تبالي باقتراف الرذائل.
تلك ـ أيها المسلمون ـ إلماحة عابرة إلى شيء من وقائع التأريخ ودروس السيرة وعبرها، تظهر في حدث الهجرة النبوية والتأريخ بها، تُقدَّم للأمة اليوم وهي تعيش مرحلة من أخطر مراحلها علّها تكون نواة لمشروع حضاري إسلامي، يسهم في صلاح الحال، وتقويم المسار لسعادة المآل، ويمثل بلسمًا شافيًا لعلاج الحملات الإعلامية المسعورة وسهام الحقد الطائشة ضد ديننا وأمتنا وبلادنا، التي ما فتئ أعداء الإسلام يصوبونها تجاهنا مستغلين نقاط الضعف في الأمة، متصيدين في الماء العكر أخطاء بعض أبنائها.
ألا ما أشد حاجتنا ـ ونحن نستشرف آفاق العام الهجري الجديد ـ إلى وقفات تأمل ومحاسبة، ومراجعة جادة لاستثمار كل ما يعزز مسيرة أمتنا، لتزدلف إلى عام جديد وهي أكثر عزمًا وأشد مضاءً لفتح آفاق جديدة لإسعاد الإنسانية لتتبوأ مكانتها الطليعية، ومنزلتها الريادية فوق هذا الكوكب الأرضي الذي ينشد سكانه مبادئ الحق والعدل والسلام، ويرومون الخير والأمن والوئام، ولن يجدوه إلا في ظل الإسلام، وتعاليم الإسلام، زادُنا في ذلك موروث حضاري وتأريخي وعقدي وقِيَمِي لا ينضب، ونهلٌ من مُعطيات العصر وتقاناته في خدمة دين الأمة ومُثُلها وقيمها.
والله المسؤول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، ورزقنا التمسك بسنة المصطفى من ولد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:100]، وَ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
[1] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/321): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
_________
الخطبة الثانية
_________
حمدًا لك اللهم، أنت الملك القدوس السلام، تجري الليالي والأيام، وتجدِّد الشهور والأعوام، أحمد ربي تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، تمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصرتكم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، تعيشون ـ يا رعاكم الله ـ هذه الأيام فاتحة شهور العام شهر الله المحرم، شهر من أعظم الشهور عند الله تبارك وتعالى، عظيمة مكانته، قديمة حرمته، هو غرة العام، وأحد أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى والمؤمنين معه على فرعون ومن معه، وقد ندبكم نبيكم إلى صيامه، فقد قال فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) [1] ، لا سيما يوم عاشوراء، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه [2] ، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [3].
الله أكبر، يا له من فضل عظيم، من مولى كريم ورب رحيم، وقد عزم على أن يصوم يومًا قبله مخالفةً لأهل الكتاب، فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) [4] ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصيام" [5].
فينبغي للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلبًا لثواب الله، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى ، وعليه فمن أراد الصيام هذا العام فالأفضل أن يصوم يوم السبت والأحد والاثنين، وإن صام السبت والأحد فهو السنة، ولا بأس بصيام الأحد والاثنين، ويليه يوم الأحد، وهو يوم عاشوراء.
وإن صيام ذلك اليوم لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاحِ هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثواب الله عز وجل، فهنيئًا للصائمين، ويا بشرى للمشمرين، ويا خسارة المفرطين، ويا ندامة المقصرين، فاتقوا الله عباد الله، واستفتحوا عامكم بالتوبة والإنابة، والمداومة على الأعمال الصالحة، وخذوا من مرور الليالي والأيام عبرًا، ومن تصرم الشهور والأعوام مدّكرًا ومزدجرًا، وإياكم والغفلة عن الله والدار الآخرة.
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار...
[1] أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[4] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] زاد المعاد (2/76).
(1/4621)
سنة الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
2/2/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اضطراب الناس وحيرتهم عند المحن. 2- غفلة الناس عن سنة الابتلاء. 3- عموم سنة الابتلاء. 4- صور مما لاقاه نبينا من البلاء. 5- صبر النبي. 6- حِكم الابتلاء وفوائده. 7- خير العطاء الصبر. 8- العبودية في السراء والضراء. 9- واجب المسلم عند البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، وتوكّلوا عليه وأنيبوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطمَعًا، واذكروا وقوفَكم بين يدَيه، في يومٍ يجعل الولدانَ فيه شيبًا، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلِمون، عندَما ينزِل البلاء وتحُلّ المِحن وتدلهمّ الخطوب وتعمّ الرزايا تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاثُ عقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، هنالك تقَع الحيرة ويثور الشكّ وتروج سوقُ الأقاويل وتهجَر الحقائق والأصول وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير، وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم، وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه بالغداة والعشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال سبحانه: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال عزّ وجلّ: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [آل عمران:186]، وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تقدّست أسماؤه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31].
إنّها ـ يا عبادَ الله ـ سنّة ربانيّةٌ عامّة لم يستثنِ الله منها أنبياءَه ورسلَه مع علوِّ مقامهم وشرفِ منزلتهم وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً كما جاءَ في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم وأحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة)) [1].
وقد نَزَل برسول الله مِن هذا البَلاء ما هو معلومٌ لكلِّ من وقَف على طرفٍ من سيرتِه وتأمَّل أخبارَها، وحسبُكم ما ناله مِن أذى قومِه، وتكذيبِهم له، واستهزائِهم به، وصدِّهم الناسَ عن سبيلِه، وحملِهم له على مفارقةِ وطَنه ومبارحةِ أرضه، وإعلانِ الحرب عليه، وتأليبِ النّاس حتى يُناصبوه العداءَ ويرموه عن قوسٍ واحدة، وغزوِهم دارَ هجرتِه ومقرَّ دولتِه ومأمنَ أهلِه وصحابتِه للقضاء عليه ووأدِ دينه واستئصالِ شأفته، وممالأةِ أعدائه من اليهود والمنافقين في المدينة عليه، وكيدِ هؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي واثقهم به، والتحالفِ [مع] المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله غيلة وغدرًا، بعدَما استَيأسوا من بلوغِ ما يريدون من ذلك في ساحاتِ الوغى وميادين النّزال، فكان مثلُه صلوات الله وسلامه عليه كمثلِ من سبقه على دربِ الابتلاء من إخوانِه النبيّين ثابتًا للمحن، صابرًا على البلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودخل النّاس في دِين الله أفواجًا، وغمرت أنوارُ الهداية أقطارَ النّفوس، وخالطت بَشاشة الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومضى إلى خالقِه راضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفس قريرَ العين، تاركًا في أمّته مِن بعده شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضلّوا بعده أبدًا: كتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام كما صحّ بذلك الحديث [2].
عبادَ الله، إنّه لم يكن عجبًا أن ينهَج رسول الله هذا النهجَ بالصّبر على البلاءِ هو والنبيّون من قبله وأتباعهم من بعدهم، فإنّهم يستيقِنون أنَّ الله تعالى لم يكتُب هذه السّنّةَ على العبد ليهلكَه أو يقتلَه أو يوردَه الموارد، حتّى تضيق عليه نفسُه، وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وحتّى تورِثه فسادَ الحال في العاجلة وسوءَ المآل في الآجلة، وإنّما كتبها لحِكمٍ عظيمة وفوائدَ جليلة ومقاصدَ جميلة تكاد تربو على الحصرِ وتجلّ عن العدِّ، فمِن ذلك أنَّ هذه البلايا إنّما جاءت ليمتحِن الله بها صبرَ عبدِه وليبتليَه فيتبيَّن حينئذ صلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائه وحزبِه المفلحين، فإن ثبتَ للخطوبِ وصَبر على البَلاء اصطفَاه واجتباه، وخَلعَ عليه خِلَع الإكرام، وألبسَه ألبسةَ الفضل، وكساه حُللَ الأجر، وغشَّاه أغشيةَ القبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أولياءه وحزبَه خدمًا له وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عقِبيه طُرد وأقصِي وحجِب عنه الرّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء وهزمَته جيوشُ الشقاء، وهو لا يشعرُ في الحال بتضاعُفٍ ولا بهزيمة، لكنه يَعلم بعد ذلك أنَّ المصيبةَ صارَت في حقِّه مصائب، وما بين هاتَين المنزلتين منزلةِ الصّبر ومنزلة السّخط كما قال العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله: "ما بينهما صبرُ ساعة، وتشجيعُ القلبِ في تِلك السّاعة، والمصيبَة لا بدَّ أن تقلِع عن هذا وهذا، ولكن تقلِعُ عن هذا بأنواعِ الكراماتِ والخيرات، وعن الآخرِ بالحِرمان والخِذلان؛ لأنَّ ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم" انتهى كلامه يرحمه الله [3].
فعطاءُ الصبر إذًا هو خيرُ ما يُعطى العبد من عطاء كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصّبر)) [4].
ومِن حِكم الابتلاء ـ أيها الإخوة ـ تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تعالى يُربِّي عبدَه على السّرّاء والضّرّاء والنّعمة والبلاء، حتّى يستخرجَ منه العبوديّة في جميع الأحوال، إذِ العبد على الحقيقة هو القائمُ بعبوديّة الله على اختلافِ أحوالِه، أمّا عبدُ النّعمة والسّرّاء وهو الذي يعبُد اللهَ على حرف، هو الشكّ والقلقُ والتّزلزل في الدين، أو على حالٍ واحدة، فإِن أصابَه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهه، فهذا ليسَ من عبيده الذين اختارَهم سبحانه لعبوديّته وشرّفهم بها ووعدَهم بحسنِ العاقبةِ عليها.
فالابتلاء ـ يا عباد الله ـ كيرُ القلوب ومحكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاص ودليل التسليم وشاهدُ الإِذعان للهِ ربِّ العالمين، وهُو كالدّواء النافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رحيمٌ به ناصحٌ له عليمٌ بمصلحتِه، فحقُّ المريض العاقِل الصبرُ على تجرّع صابِه وعلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسّخَط والشّكوى لئلاّ يتحوّل نفعُه ضررًا، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
فعلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ ووقوعِ المحن ونُجومِ الخطوب أن يثبُت لها ثباتًا لا يتزلزَل مهما اشتدَّت ريحها واضطرمَت نيرانُها، وإنَّ لهذا الثّبات ـ أيّها الإخوة ـ أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السبيلَ إليه، منها صدقُ اللجوء إلى الله تعالى، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضراعة وتمامُ الإنابة إليه، وصِدق التوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عن الذنوب، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفِع إلا بتوبة) [5].
وكذا تحسينُ الظنِّ بالإخوَة في الدين عامّة، وبولاة الأمرِ وأهلِ العلم والفضلِ خاصّة، وذلك بحملِ أقوالِهم وأعمالِهم على أحسنِ المحامل وأجملِها، وكذا الرّجوع إلى الراسخين في العلم باستيضاحِ ما يُشكل والسؤالِ عما يُجهَل.
وعليه أيضًا الحذر من الإعجاب بالرأي، والبعدُ عن التعجّل في إطلاقِ الأحكام، وعن التسرّع في تفسير المواقف بمجرّد الرّأي أو بالوقوع تحت تأثير ما يسمَّى بالتّحليلات على اختلافِ موضوعاتِها وتعدُّد مصادرِها، لا سيّما حين تصدُر عمّن لا يُعلَم كمالُ عقلِه ولا صحّة معتقَده ولا سلامَة مقصده ولا صِدق نصيحتِه ولا صفاءُ طويّته، ثم هي ـ أي: هذه التحليلات ـ مبنيّة في الأعمّ الأغلَب على المصالِح والمطامِح والأهوَاء، ولذا يشيعُ فيها الكذِب والخطأ والظلم. ويجبُ أيضًا تركُ القيل والقال الذي كرِهه الله لعبادِه كما أخبر بذلك رسول الله بقوله في الحديث الصحيح المتّفق عليه بين الشّيخين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوقَ الأمّهات ووأدَ البنات ومنعًا وهات، وكرِه لكم قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال)) [6] ، ويدخل فيه التحديثُ بكلِّ ما يسمعُه المرء، فقد زجرَ النبي عن ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع)) [7] ، وفي لفظٍ لأبي داودَ في سننِه بإسنادٍ صحيح: ((كفى بالمرء إِثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)) [8].
وإنَّه إذا كان حَريًّا بالمسلم اتِّباعُ هذا النّهج الراشدِ السديد كلَّ حين فإنَّ اتباعَه له في أوقاتِ الشّدائدِ وأزمِنة المِحن أشدُّ تأكّدًا وأقوى وجوبًا، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41)، والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
[2] وهو قوله : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وسنتي)) ، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغًا، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
[3] طريق الهجرتين (ص417).
[4] أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053).
[5] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[6] أخرجه البخاري في الاستقراض (2408)، ومسلم في المساجد (593).
[7] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5)، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
[8] أخرجه أبو داود في الأدب (4992) وقال: "لم يذكر حفص أبا هريرة، ولم يسنِده إلا هذا الشيخ"، يعني: علي بن حفص المدائني.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا اللهَ واعلَموا أنّكم ملاقوه، وراقبوه وتوكّلوا عليه، وأخلِصوا له، وحقِّقوا توحيدَكم، فإنَّ توحيدَ العبدِ ربَّه صمامُ الأمان وضمانُ الفوز وأصلُ السعادةِ وسببُ دخولِ الجنّة والنّجاة من النّار.
واعلموا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى قد أمركم في كتابه الكريم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4622)
الأمة الإسلامية آلام وآمال
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
4/1/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بانصرام العام. 2- كيف تستقبل الأمة الإسلامية عامها الجديد؟ 3- درس الهجرة النبوة. 4- سبيل القوة والعزة. 5- التحذير من التغريب. 6- حراسة العقيدة والفضيلة. 7- التنديد بالحملات الظالمة على الإسلام والمسلمين. 8- دعوة للاتحاد والائتلاف. 9- نداء لعقلاء البشرية وللعلماء وللدعاء ورجال الحسبة والتربويين. 10- أهمية الزمان. 11- الحث على الجدّ والمثابرة في العمل الصالح. 12- فضل شهر الله المحرم ويوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عبادَ الله، على إثرِ الوصيّة بالتقوى نبتهلُ إلى المولى جلَّ وعلا أن يُهلَّ هذا العامَ على أمّة الإسلام بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، فإنّه إذا استُعين أعان، وأن يجعلَ من هذا العامَ نصرًا للإسلام والمسلمين في كلّ مكان، وأن يعمَّ بالخير والعدل والسلام كافةَ بني الإنسان، وأن يجعلَ حاضرَ أيّامنا خيرًا من ماضيها، ومستقبَلها خيرًا من حاضرِها، وأن يحفظَ أمةَ الإسلام من شرور الحوادِث والفتَن وغوائلِ الكوارث والمحن، إنّه سبحانه وليّ الجود والإحسان والكرم.
أيّها المسلمون، ويدور الزمانُ دورتَه، وليسَ تمّة معتبِرٌ في زحمَة الأحداث إلا مَن أنار الله بصيرتَه، فتفتّقت قريحتُه عن موارد الرِّفعة، فمضى يلتقط سُويعات عُمره، لا يلوي إلا على مجالاتِ العمل الصالح وميادينِ البرّ والطاعة، والتجافي عن دروب التفريط والإضاعة.
وها هي الأمّة الإسلامية قد ودّعت عامًا هجريًّا مضى وتولَّى، ولم يبقَ منه إلا ذكرَى ما تبدّى فيه من الخير وتجلَّى، ودّعْنا العامَ الماضي كما يودِّع المرء يومَه عند انقضائه وقد تذكَّر ما لقي بين صباحه ومسائه، وما تقلّب عليه من حالَي كدرِه وصفائه، حزنٌ وسرور، ضعةٌ وظهور، سعادة وابتلاء، شدَّة ورخاء، فطوبى ثمّ طوبى لمن عمرَه بجليل الطاعاتِ والقربات، ويا بشرَى لمن أودَع خزائنَه الحسناتِ وحاذرَ فيه المعاصيَ والسيئات.
معاشرَ المسلمين، العامُ الهجريّ الجديد ضيفٌ محبَّب لطيف ومغنَم آهِل وريف، فيه الأمَل والانشراح، والتفاؤل والارتياح، بهجر المآسي والجراح، ولكن بكلِّ أسًى انبلَج صبحُ هذا العامِ الجديد ولم تختَطَّ أمتُنا الإسلامية بعدُ سبيلاً يبلغ بها معارجَ العزّة والصلاح، ولم تقِم لها عزًّا يعصِمها من تطاول الطامِع والمجتاح، ومع هذه الخطوبِ الوشيكة الملمَّة والعواصف المحْدقة المدلهمَّة يبقى التفاؤل ديدنَنا، والأملُ المشرق رائدَنا، أمَّا دِماء الأمة فبالتوحيد تجري، وأمَّا قلوبُها فبالإيمان تنبض وباليقين تثري، وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
وإنّنا لنرجو أن تكونَ مناسبة الهجرةِ النبوية خيرَ أوانٍ للتصحيح والمراجعة، وأفضلَ زمان للتصفية والمحاسبة، لتدركَ الأمة أن تأسيسَ الأمور وإحكامَها وتمهيدَ القواعد وإتمامها رهينُ استعصامها بكتاب ربّها واستمساكها بسنّة نبيّها ، كيف وفيهما الفلَقُ والسناء، والفرقُ بين النعيم والشقاء، في معتقدٍ صحيح ومنهج سليم، ليس يعروهما ريبٌ ولا امتراء، ومن تطلّب المجدَ والكمالَ في سواهما فقَد رامَ المحالَ، وباء بالوبالِ، ولم يكن له من الله نصيرٌ ولا وال.
إخوةَ الإيمان، إنَّه لن تستبدلَ الأمة ضعفَها بقوَّة وهوانها بعزةٍ إلا إذا عادَت إلى ذلك الطراز العالي الذي سطّره السلفُ في العصور الخوالي، أعني إبرازَ الحقائق والمحاسن لهذا الدين التي سعِد بها المصطفى وأصحابُه رضي الله عنهم، وأسعَدوا بها العالَم قرونًا من الزمان، وسيُصلح الله شأنَنا إذا نظَرنا في مرآة الشريعة ما شانَنا، وممّا يعين على امتثال ذلك لزومُ المصداقيَّةِ مع النفس والمجتمع والأمّة في القول والعمل والملّة، لّيَجْزِىَ ?للَّهُ ?لصَّـ?دِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]، وما ازدهارُ الأمَم ورفعتُها إلا ثمرةُ الأعمال الصادقة المخلِصة التي يقدّمها رجالُها البررة المخلصون وبنوها الأوفياء الصادقون.
وهنا لفتةٌ إلى رجالِ الفِكر وحملَة الأقلام وأربَاب الثقافة والإعلام أنَّهم لن يجِدوا في أعطاف الأمّة ارتياحًا لطرحٍ وانعطافًا لعرضٍ مهما تدفَّقت من حروفه الجدّة والإثارة إلا إذا كان مُفعَمًا بالنفع والحكمة، وما الحكمةُ إلا لزومُ المصداقية في الحوار، والدعوة إلى الحقّ بالحقّ، وسلوك مسالك الإصلاح بالبرهان والرويَّة والرفق والأناة، وعدم الوقيعة في ثوابت الأمَّة وحملة الشريعة إذكاءً لتماسك جبهة الأمّة الداخلية، وحفاظًا على أمنِها الشامِل بكلّ مضامينه، واليقين بأنَّ عمقَ الطرح في عموم الوسائل والقضايا وجميع الشؤون والشجون دليلٌ على توجّه الأمة إلى ميادين البحثِ الجادّ في أسباب العِلل والأدواء، والتأكيد على المحافظة على معالِم شخصيّة الأمّة وعدم المساس بثوابتها، والاعتزاز بتأريخها وحضارتها، وعدَم شَوْبها بما يعيبها من الثقافات الدخيلة، ومتى أعظمتِ الأمة تأريخَها وثوابتَها نالت السؤددَ والكرامة، وفوّتت الفرصةَ على الخصمِ المتربّص أن يستجرَّها إلى ألوانٍ من الإرهاب الفكري، فيقضي على مكامِن القوّة في حضارتها، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
إخوة العقيدة، ومن معارِج الرّقيّ في سلّم النجاةِ للأمة العنايةُ بحراسة العقيدة والفضيلة، والتركيزُ على جوانب التربية الإسلامية للنشء والأجيال، وانتشالهم من مباءات الرذيلة ومستنقعات المخدرات، تحصينًا لهم من التحدّيات الفكرية المعاصرة.
فليتَ شعري هل تحسنُ الأمّة الإسلاميّة استثمارَ وسائل العصر وتِقاناته؟! وهل تقف بحزمٍ ومواثيقِ شرفٍ أمامَ تلك الفضائيات الوبيئة الحالقة للدين والفضيلة، ومبلغِ ما تنضح به من السموم والهموم التي استطار شررُها إلى السماء، فرشقت كثيرًا من الشباب والفتيات بوابلٍ من سهام الضياع والفناء؟! ولئن أجَلْنا النظرَ في بناءِ هيأة كثير من الأسَر والمجتمعات ظهرَت الثُلمة الواسعة بين أفرادِها جرّاءَ الانتكاس في حنادِس الرذيلة، فانتزعت منهم الرشدَ والصواب، وألقت بهم في بيداءِ الضياعِ والمعرَّة والاضطراب، ويلفُّك الأسَى أن كان بعضهم مستبِقًا إلى أثارةٍ من فكرٍ أو ثقافة، وزُيّن له أنَّ هذه الأصباغ والمكاييج الخادعة هي المدنية المبتغاة والحضارة المرتجاة، وإذا كانت الأمة ـ يا عباد الله ـ في نزواتها تحترِق فيوشِك الغيور أن يرى أنَّها تحتَ رِقّ.
أمّة الإسلام، ومن غيوم الفِتن التي تصاعدَ دخانُها في سماء الأمّة ويرجى مع بداية العام انقشاعُ هذه الغمّة ما مُني به الإسلام من حملاتٍ ظالمة وهجمات عاتية من أقوامٍ غلا الكيدُ من مراجِل قلوبهم، فطفح زبدُ أقلامهم، وعلا فحيحُ إعلامهم، ولم يهتدوا للوقوف على معاني الإسلام وحقائقِه، فناصبوه الهجوم، وبدا على سُبُحات وجوههم الوجوم [1] ، وتلقَّفهم بكلِّ أسًى وأسف ببغاوات من بني جلدتِنا، فانثنَوا في نشرِ سلبيّات المدنية الغربيّة بين ظهرانَي الأمّة، رافعين عقيرتَهم أن الداء آتٍ من الإسلام، مطالبين بتغيِير مناهجِه وتشويه مباهِجه، ولهؤلاء يقال: اربعوا على أنفسكم، واعلَموا أنَّ الإسلام في الذؤابة من الكمال والجمال والجلال لكلِّ من سلِمت فطرته، ولم يعْشُ قذى الانهزاميّة والتبعية عينيه فطُمست بصيرتُه، ولعلَّ الفرصةَ جدُّ مواتية لكم للفيأة إلى حياض الحقّ والولاء، لينهض الجميع إلى ميادين الإصلاح والبناء والإعمار والنماء. إن عرضَ الإسلام بمحاسنِه وعالميَّته طوقُ النجاة للأمة من تحدّيات تيّار العولمة المعاصرة.
أمّة الإسلام، ومن الأصول المهمّة التي يجب أن نتنادى بها ونتواصى ـ والأمة في بداية عامها ـ الدعوةُ الحرّاء إلى الاتّحاد والائتلاف، إلى العُروة الجامعة الإسلامية المتينة، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، والتحذيرُ من الشعارات الضيّقة والولاءات المحدودة الآسنة التي كانت ولا تزال منبعَ الشقاء ومبعثَ العناء، وحالُ الأمة الراهنُ ـ أيها الكرام الأماجد ـ أجلى برهان، تدابرٌ وتنافر، فرقة وتناحرٌ، عشوائيّة وفوضى، اتحادٌ على الاختلاف، وعزوف عن الترابط والائتلاف، واتفاقٌ على عدَم الاتفاق، ولسان الحال: أطويلٌ طريقُنا أم يطول؟!
وكلّما انبَرى عبدٌ لله موفَّق رشيدٌ لغَرس هذه الركيزة وتأسيسها في الأمّة انثنى بعضُ الموتورين شوكةً في لهواتنا وطعنةً في خاصراتنا، يقذِف بالمهازِل والمزايدات، ويهرِف بالسَّفه والمهاترات، متغافلاً عن كونِ الأمّة الإسلاميّة تكابِد الشدائدَ وتعاني المرائر في عالمٍ متغيِّر، وفي مرحلة عصيبة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه.
وحينما يستمرّ الهذيانُ ويُستمرَأ الكذِب والبهتان يُقيِّض الحقّ عبدًا لله مُلهَما، ينصر الحقَّ، ويوضّح للخلق بحزمٍ وحقّ مَن هؤلاء الأقزام ربائِب الغرب وأفراخُ الاستعمار، بَلْ نَقْذِفُ بِ?لْحَقّ عَلَى ?لْبَـ?طِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18].
فيا أيّها القادة والزعماء، ها قد أظلّكم عامٌ هجريّ جديد، والعالَم في توجُّسٍ والمنطقة في احتِراب، وحبل استقرارِها في قلقٍ واضطراب، فاستجلوا في حادث الهجرة النبويَّة عبرةَ الاتّحاد والتناصر، والتخطيط الواعي للنهوض بالأمة من كبوتِها، والدفاع عن مقدَّساتها، من إرهابِ الدّولة الصهيونيّة الغاشمة، وصونًا لها عن ويلات المحن التي ذرّ قرنُها في الأفق، ولا يفوتنّكم أنَّ الخصوم هم الخصومُ بل ألدّ، وأنَّ التحدياتِ هي التحدياتُ بل أشدّ.
ويا عقلاء البشريّة وشرفاء الإنسانية، لا بدَّ من الاستيقان أنَّ اتباعَ الرّسالات والشرائع وذوي العقولِ الحجى في العالم يرومون دوامَ الأمنِ والاستقرار والسلام، وينادون بضبط النفس وتحكيم صوت العقل والمنطق، حتى تُجنَّب المنطقة مخاطرَ الكوارث والحروب وويلاتِ الحوادث والخطوب.
وما الحربُ إلا ما علمتُم وذقتمُ...............................
................................... والرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ
أيّها العلماء، أنتم الأمناءُ على وحي السماء، ركّزوا في مجتمعاتِكم بوجوبِ الائتلاف ونبذِ الفرقة والاختلاف، اجمَعوا الأمَّة على كتابِ الله وسنّة رسوله ، اسلُكوا مسالكَ التيسير للأمة على ضوء النصوص والقواعد والآداب والمقاصد، جِدُّوا في الذَّود عن حياض دينكم وجناب نبيّكم باللسان والبيان، وجِّهوا الأجيالَ إلى ميادين الرفق والحكمة والأناة والتحصيل العلمي الأصيل، علِّقوا آمالَ الأمَّة بربّها بعدما دبّ اليأسُ والإحباط والخوف والهلع والقلق والفزع في قلوبِ كثيرين، فما من يدٍ إلا يدُ الله فوقَها.
دعاةَ الإسلام، جدِّدوا ما اندَرس من الأخلاق والآداب والفضائل المثُل العليا، أحلّوا بين جنباتِ المجتمع الترابطَ والتراحم والتعاون والتفاهمَ، واجمَعوا قلوبَكم على الاعتصامِ بالوحيين تسعَدوا وتُوَفَّقوا في الحياتَين، ألم يئِنْ الأوانُ ـ يا دعاةَ الإسلام ـ لإغمادِ سيوفِ المعارك الوهميّة الموجّهَة لصدور الإخوة والأحبَّة؟!
أيّها المحتسبون، بوركَت جهودكم، ونِعم الدِّرع للأمّة أنتم، فاللهَ اللهَ في الأساليبِ الشرعية والآداب المرعيّة، إظهارًا للصورة المشرقة للإسلام وأهله.
أيّها التربويّون، اللهَ اللهَ في الرقيّ بالمرأة المسلمة في معارج العفَاف والطّهر، ودونَكم الشّباب، أحيُوا نفوسَهم بالأمَل والثقة بحقيقةِ الدّين، واغرِسوا في صدورِهم علاءَ المراشد والشموخ ومعاليَ الأمور وعزائمها، أكِّدوا في أطروحاتِكم بالفيأة إلى كلِّ ما يُرضي خالقَكم وبارئَكم، ملتزمين المنهجَ الوسط حيث لا غلوَّ ولا شطَط، مظهِرين سماحةَ الإسلامِ وما يدعو إليه من معالي الأخلاق والقيَم وفضائل المثُل والشيَم.
والله المسؤول أن يصلحَ الحال، ويوفّق الجميع لما فيه خيرُ الحاضر والمآل، إنّه كريم العطاء جزيل النوال.
نفعني الله وإياكم ورفعنا بالقرآن العظيم وبهدي سيّد المرسلين، أقول ما سلف، وفي ما عند الله عِوَض لي ولكم من كلّ خلف، فاستغفروه توبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
[1] وجَم بالفتح يجِم وجوما، وهو ظهور الحزن وتقطيب الوجه منه مع ترك الكلام. قاله في مشارق الأنوار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مقدِّر الأزمانِ والآجال، ومبدِع الكون على غير سابق مثال، جلّ ثناؤه يعجز عن وصفِه بليغ البيان والمقال، أحمده تعالى وأشكره وهو أهلٌ للشكر على كلّ حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعَال، وأشهد أن نبينا محمدًا أزكى الخليقة محتِدًا وأكرمهم في الشمائل والخصال، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، المخصوصين بالرضا وأفضل الخلال، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، واعلَموا أنَّ الأعمارَ سريعة الانقضاء فلا تبقَى، وتزوَّدوا من التقوى تزكو أحوالكم وفي معارج القبول ترقَى.
أيّها الإخوة المسلمون، إنَّ عامَكم الجديدَ قد استهلّ، فاستصفوا له من صالحِ الأعمال ما جلّ، ورحِم الله امرًا حاسَب نفسَه، وتابَ ممَّا يوجب يومَ العرض على الله بخسَه.
إخوَة الإيمان، إنَّ الإسلام يعظِّم من شأنَ الزمان، ويقرِن ذلك بصفتَي التقوى والإيمان، إِنَّ فِى ?خْتِلَـ?فِ ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ?للَّهُ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لآيَـ?تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6]، أولئك ـ يا رعاكم الله ـ من جعلوا الحياةَ الدنيا معبَرًا لرفعتِهم، وقنطرةً لصلاحهم واستقامتِهم، وذلك باكتساب المآثر والحسنات والبُعد عن المعاصي والسيئات، ورفعة أمتهم وسؤددها بدفع الأعاصير عنها والشّبهات وردِّ الحملات والهجمات.
أمَّا الذين استكانوا إلى الحياة ونفَروا عن العلياء وعلوّ الهمَّة وبلوغ الجوزاء فقد أصيبوا ـ عياذًا بالله ـ بالذلة والمذمّة، وإنَّهما لملقيان في دياجير الخسران، ويوم القيامة يُسألون فيشخصون، وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
ألا وإنَّ من النِّعم التي لا ينهض بشكرها اللسان أن النَّصفَة قاطبةً لمْ ولمّا ولنْ يجِدوا بلادَ الحرمين الشريفين رعاةً ورعية على تجدّد الأعوام بإذن الله إلا في ميادين الدّفاع عن الحقّ والعدل والإسلام والسّلام بمنّ الله وكرمه.
أيّها الأحبّة في الله، اشكُروا الله على ما بلّغكم غرّةَ هذا العام، ولعلّه يكون غرّة انطلاقةٍ للجدّ والاجتهاد في الأعمال الصّالحة، وعلى ما تعيشون هذه الأيام من فاتحة شهور العام شهر الله المحرّم، فمكانتُه عظيمة بين الشهور، وأفضلُ أيامِه يومُ عاشوراء الذي نصر الله فيه نبيَّه موسى عليه السلام على فرعون وقومِه، فصامه شكرًا لله عز وجل، وصامه نبيّكم وحثّ على صيامه، ففي صحيح مسلم أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسبُ على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبله)) [1].
فبادِروا ـ عباد الله ـ إلى اغتنام هذا الأجرِ العظيم اقتداءً بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام مع صومِ يومٍ قبله أو بعدَه، فهنيئًا لمن شمّر لعامِه عن ساعدِ الجد والاجتهاد، وأجرى في ساحات القربات سابِقات الجيَاد، ويا لفوز المشمِّرين، جعلنا الله وإياكم منهم بمنّه وكرمه.
هذا، وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير الورى كما أمركم الباري جل وعلا فقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على النبيِّ المصطفى من بني هاشم، الحبيب المجتبى أبي القاسم، ما تجدَّدت الأعوام وتعاقبت المواسم، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...
[1] أخرجه مسلم في الصوم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(1/4623)
قبسات من سراج الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
1/12/1424
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إهلال شهر الحج الأكبر. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- أجواء الحج الإيمانية. 4- مظهر الوحدة في الحج. 5- قضية التوحيد. 6- نعمة الأمن في بلاد الحرمين الشريفين. 7- الحج المبرور. 8- ضرورة التفقه في مناسك الحج. 9- فضل عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ التقوى خير مرقاةٍ لبلوغ المرام، وأمنعُ عاصم لاجتناب الأوزار والآثام، بالتّقوى تنجلي حُلَك السبيل، وتُستنزَل مرضاة العليّ الجليل، فاعمُروا بها ـ رحمكم الله ـ قلوبكم وأوقاتَكم، واستدركوا بها من الطاعات ما فاتكم، مستثمرين شرَفَ الزمان والمكان والمناسَبة.
أيّها المسلمون، ها قد دارَ فلكُ الزمان دورتَه، وأهلَّ علينا شهرٌ عظيم، وأظلَّنا فيه موسم بالخيرات عميم، تبدّى لنا هلالُ شهر ذي الحجة الوليد، ليسكب في قلوبنا نورًا من أنوارِه، وليُتلِع أرواحَنا [1] بفيضٍ من منافعه وأسراره، إنّنا على أعتابِ الموسم الأشهَر وأيّام الحجّ الأكبَر، معدِن الحسناتِ وتكفير السيئات، وكنز الخيراتِ والطاعات، وينبوع المنافع المتكاثرات، أيامٌ قلائل وأمّة الإسلام قاب قوسين أو أدنَى من ميقاتٍ زمانيّ ومكانيّ محبَّب لأداءِ فريضةِ الحجّ إلى بيت الله الحرام، الركنِ الخامس من أركان الإسلام، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
أيّها الحجّاج الميامين، قدِمتم خيرَ مقدَم، طِبتم وطاب ممشاكم، وحقّق الباري سؤلَكم ومُناكم، خِدمتُكم لبلاد الحرمين تاجُ فَخار يتلألأ على صدور أهلِها، ووسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقد جيد أبنائها، لقد كابَدتم عناءَ الأسفار وفِراق الديار، ومسّكم الرّهق والوَصَب، وأصابكم التّعَب والنّصَب. وإنّ هذه الأعراضَ الهيّنةَ لتتهاوَى أمام صلابةِ الإيمان وتطلُّب الأجرِ والثّواب مِن الواحد الدّيّان. إنّ الشوقَ إلى هذا البيتِ العتيق والانعطافَ إلى هذه العرصاتِ المقدَّسة والنّزوع إلى هذه المشاهدِ المُنيفة والبِقاع الشّريفة إذا عاينها المحِبّ المعنَّى تبدّدَت لديه كلُّ المشاقّ واللأواء، نعمةً من الله وفضلاً، ولقد خالَطكم ذلك النّفح الإيمانيّ وزايلتموه، كيف والمسجدُ الحرام نصبَ الأعينِ قرّة ومِلءَ القلوب إجلالاً ومسَرّة، ومن رُزق تَفيُّؤ ظِلال هذه الأرجاءِ فقد أنعمَ الله عليه نعمةً كبرى وامتنّ عليه منّةً عُظمى، فحقٌّ على كلِّ قاصدٍ شُكر الباري على ما أولاه وحمدُه على ما خصَّه به وأولاه، ومِن شُكر النعمة أداءُ هذه الفريضة وإتمامها كما شرع الله، قال جلّ في علاه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
حجّاجَ بيتِ الله، ها أنتم أولاءِ في رحابِ الحرمين الشّريفين، تهفو نفوسكم لأداءِ المناسك على التّمام والوقوف بهذه المشاعر العِظام، قلوبُكم خاشعة، أعينُهم دامِعة، أكفُّكم ضارعَة، تجأرُون إلى الله بالإنابةِ والدعاء، وتلهجون بالاستغفارِ والحَمد والثّناء، فلِلّه درُّكم من إخوةٍ متوادّين متراحمين، وأحبّةٍ على رضوان الله متآلفين متعاونين، وصفوةٍ لنسائِم الإيمان وعبيرِه وعبقِه متعرِّضين، ذَوَت في جليل مقصدِكم زينةُ الأثواب، وتلاشت عزّةُ الأنساب، واضمحلّت زخارفُ الألقاب والأحساب، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28]. وتأمّلوا ـ يا رَعاكم الله ـ الأسلوبَ التنكيريّ في سياق الامتِنان ليعمّ كلَّ منافع الدين والدنيا والآخرة.
حجّاجَ بيت الله الحرام، وفي هذه المواكبِ المَهيبة والحشود المباركةِ الحبيبةِ التي اتّحدَت زمانًا ومكانًا شعائرَ ومشاعرَ يعقِد الإسلام وفي أحكمِ ما يكون العَقد بإحدَى منافعِ الحجِّ الجُلَّى مناطَ الوحدة الجماعيّة والروحيّة الصّلبة التي تنحسر دونَها كلُّ المِحَن والمآسي التي ارتكسَت فيها أمّتنا، يقول سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
ولئِن تبصَّر المسلمون أحوالَهم في هذا المنعطَف الخطيرِ مِن تأريخهم لأيقَنوا بأنّ ما لحِقهم مِن ذلٍّ وضَعف وهوان وما مسَّهم من لُغوب وضنَى فِي كثير مِن المجتمعاتِ إنّما يعود إلى تمزُّق عراهم وتفرُّق هواهم وقواهم. وما شعيرةُ الحجّ ـ أيها الحجّاج الأماجد ـ في مجمعها العتِيد ومظهرِها وجوهرِها الفريد إلاّ ترجمة فعليّة ودعوةٌ عمليّة للمسلمين إلى وجوب الوحدةِ والاتّحاد وثنيٌ لهم عمّا مُنوا به في هذه الحقبةِ المعاصرة من تقاطُع وضعفٍ وتدابر. لقد آن الأوان أن تجعلَ أمّة الإسلام من هذا الموسم الوحدويّ فرصةً لاجتماعها ومناسبةً لاتّحادها بعدما فرّقتها الفتن والأهواءُ وشتّتتها المِحَن واللأواء، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
إخوة الإيمان، ضيوفَ الرحمن، وكُبرى القضايا التي قام عليها ركنُ الحجّ الركين، بل قامت عليها جميع الطاعات والعباداتِ هي تجريد التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد، وإفراده سبحانه بالعبادةِ دونَ سواه، ونبذ الشّرك وما ضاهاه، يقول جل في علاه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، ويقول جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فأعظمُ مقاصِدِ الحجّ ومنافعه ـ يا عباد الله ـ تحقيقُ التوحيد الخالص لله كما قال جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وما التلبيةُ التي يلهَج بها الحجيج وتهتزّ لها جنباتُ البلدِ الأمين وتجلجِل بها المشاعر القِداس إلاّ عنوان التوحيد والإيمانِ ودليلُ الطاعة والإذعان، وقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلالَ رسول الله قائلاً: أهلَّ رسول الله بالتوحيد: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك [2]. ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعد هذا البيت المعظّم من أوّل وَهلة، يقول سبحانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
ومع تقرُّر ذلك كلِّه ووضوحه وضوحَ الشمس في رابعة النهار فإنّ البعضَ يأبى إلا أن يشوبَ هذا التوحيدَ بما يُفسد صفاءه ويخدِش بهاءه، فهل يغني شيئًا، هل يغنِي فتيلا أو نقيرًا أو قطميرًا دعاءُ القبور والتمسُّح بالأحجار والستور وسؤالها قضاءَ الحاجات ودفعَ الشرور؟! كلاّ ثمّ كلاّ.
إنّ الغيورَ ليذرِف الدموع الحرّاء السِّجام على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الإسلام، فالله المستعان.
إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا وقاصِدي المسجدِ الحرام خصوصًا أن يكونوا مثلاً عاليًا في إسلام الوجه لله وإفراده بخالص التوحيدِ وصحيح العبادة، مع التمسُّك الجادّ بالسنة ومجانبة البدَع والأهواء المضلَّة والأفكار المنحرِفة والتحلّي بمنهج الإسلام الحقِّ في الوسطية والاعتدال كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
إخوةَ العقيدة، وهذه الرِّحاب الطاهرةُ التي تقضُون فيها أيّامًا معلوماتٍ ومعدودات مباركات قد خصَّها المولى سبحانه بخصائصَ ليست لغيرها، أظهرُها نعمة الأمنِ والأمان والاطمئنان، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35]، وهذا الأمن الربانيُّ المعجِز لكلّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام ممتدٌّ أثره إلى قيام الساعة لا ينفكّ عن هذا البلد الأمين بحالٍ من الأحوال، ومن همَّ بالإخلال به أذاقه الله عذابًا أليمًا، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. ولئن كان خَلاه لا يُختَلى وشوكُه لا يُعضَد وصيده لا ينفَّر والطير والحيوان والنبات والجماد يعيش فيه في أمنٍ مستمرّ وأمان دائم فكيف بالمسلم حرام الدمِ والعرض والمال؟!
أفرأيتم ـ يا رعاكم الله ـ بعد هذا الأمنِ المطبِق المحكَم دعوةً أبلغ من دعوة الإسلام للرحمة والشَّفقة والسلام والمحبّة والتسامح والوئام ومراعاته المثلى لحقوقِ الإنسان؟! على حين يصطلي العالم بأسرِه بلهيبِ القلق والهلَع والعُنف والفزع والإرهاب والإرعاب. وليس ما يقوم به الصهاينة المعتدون على ثَرى فلسطين المسلمة وعلى مقرُبَة من المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة دموية قاتمَة للصَّلف والإرهاب، وما جدار الفصلِ العنصريّ المزمَع إقامتُه هذه الأيام إلا نموذج أسود كالِح لكلّ صوَر التمييز والعنصريّة وإذكاء أعمالِ الحِقد والكراهية بين الشعوب إمعانًا في الكيلِ لمقدّسات المسلمين ومقدّراتهم.
فيا أيّها الحجّاج الكرام، اللهَ اللهَ في الحفاظِ على هذه العرصَات الطاهِرة والنعَم الظاهرة، والبدارَ البدار إلى تعظيم هذه البقاعِ الشريفة، تأدّبًا وتوقيرًا، محافظة وتطهيرًا، حذارِ من كلّ ما يُعكّر أمنها وأمانَها وسكينتَها واستقرارها، ولا يعزُب عن الأذهان أنّ قضيّةَ قدسيّة الحرمين الشريفين وأمنِ الحرَم والحجيج قضيّة من الأسُس والثوابت التي لا تقبَل الجَدل والمساومات، ولا تخضع للتنازلات والمزايدات، فلا يجوزُ أن يُصرَف الحجّ والمشاعر مطلقًا إلى شعاراتٍ ومهاترات، والله عزّ وجلّ يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، ويقول فيما أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمه)) [3].
ولإحرازِ هذا الفضلِ العظيم والظّفَر بهذا الأجرِ الجزيل ينبغي للحاجّ الكريمِ المبارَك مراعاةُ تحقيق الإخلاص لله والتجرّد من الرياء والسّمعة، منتهِزًا صفاءَ روحه واستعدادَ نفسِه وغِبطتَه بأداء هذا الرّكن العظيم في الطاعة والقرَب واللّهج بذكر الله عزّ وجلّ.
وممّا يوصَى به الإخوة الحجّاج الكرام ـ لا زالوا مكلوئين بالخير والإكرام ـ الاستعدادُ للمناسك بالعِلم النّافع والتفقُّه في الأحكامِ وسؤالِ أهل العلم عمّا يشكل عليهم، مع التحلّي بالأخلاق الحميدةِ والسّجايا الكريمة والآداب القويمة مع إخوانهم المسلمين، والتخلّي عن كلّ ما ينبو عن الخُلُق والآداب مع الله سبحانه أو مع عبادِه ويوقِع في الأذَى الحسِّيّ والمعنويّ.
وممّا ينبغي أن يحرصَ عليه الحاجّ المباركُ الكريم ويتّجِه إليه بكلّيَّته الإقبالُ على الله سبحانه والحِرصُ على أداء الصلاة والمحافظة عليها وتلاوة القرآن والإكثار من ذكرِ الله عزّ وجلّ والاشتغال بما جاء من أجلِه.
تلك ـ أيّها المؤمنون ـ قبساتٌ من سراج الحجّ الوهّاج وإضاءات للحجيجِ وذكرى ومنهاج، وإنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة أن تستلهمَ مِن هذه الفريضة العظيمةِ دروسَ الوحدةِ والعزّة والإباء ومعانيَ الألفة والإخاء والمودّة والصّفاء والمحبّة والنّقاء وإن شطّت بهم الديار واختلفت بينهم اللّغاتُ ونأت الأمصار؛ إذ الحجُّ وما اشتمل عليه من روحانيّة أخّاذةٍ ودروس وعِبَر نفّاذة أنجعُ دواء لعِلل الأمّة وأدوائها ومقاومَة تيّارات النّزاعات والشّقاق فيها، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، كما أنّه خيرُ سبيلٍ للصّدور بالأمّة إلى محاضِن عزِّها وأمجادها وعريق حضارتها ومقوِّماتِها.
فاللهَ اللهَ ـ حجّاج بيتِ الله ـ في تعظيم هذه الشعيرةِ كما أراد الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وأدائها كما سنَّ المصطفى رسولُ الله القائل: ((خذوا عنّي مناسككم)) [4] ، والحذرَ الحذرَ مِن تعريضِها للنّواقض والنواقص في أركانها وواجباتها وآدابها وسائر أحكامها، والله من وراء القصد، وهو المسؤول سبحانه أن يجعلَ حجَّكم مبرورًا وسعيَكم مشكورًا وذنبَكم مغفورًا، وأن يعيدَكم إلى بلادكم سالمين غانمين مأجورين غيرَ مأزورين، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول ما سمِعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أي: يرفعها ويسمو بها.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله فاطرِ الأرض والسموات، له الأسماء الحسنَى وكاملُ الصّفات، خصَّ موسمَ الحجِّ بمزيدٍ من الطاعات والقُرُبات، والبلدَ الأمين حُرمةً وقداسات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ بأعلى الجنّات والنجاةَ من مهاوي الدركات، وأشهد أنّ نبيّنا وحبيبنا وقدوتَنا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والبيّنات وأحكام الحجِّ النيِّرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الهداةِ التُّقاة، والتابعين ومن تبِعهم واقتفى آثارهم يرجو من الله جزيلَ الثواب والصِّلات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ وأطيعوه، وازدلِفوا إليه بالشّكر ولا تعصوه، لا سيّما في هذه الأزمنة الفاضلةِ والأمكنَة المباركة.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، ومِن فضل الله سبحانه وكريم ألطافِه ما منَّ به علينا من حلول هذه الأيّام العشرِ الأُوَل من ذي الحجّة التي عظَّم شأنَها ورفع قدرَها وأقسم بها في محكَم كتابه المبين، فقال جلّ جلاله: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "المرادُ بها عشرُ ذي الحجّة كما قاله ابن عبّاس وابنُ الزّبير ومجاهد وغير واحد من السّلَف والخَلَف وهو الصحيح" [1] ، وقال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28].
وقد ظاهَرَت السنّة القرآنَ في بيان فضلِها والحثِّ على اغتنامها، أخرج البخاريّ في صحيحه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((ما مِن أيّام العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله عزّ وجلّ مِن هذه الأيّام)) يعني أيّامَ عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثمّ لم يرجع من ذلك بشيء)) [2].
الله أكبر، يا له من فضل عظيمٍ وموسمٍ بالخيرات عميم، فيستحبُّ في هذه العشر المباركة الإكثارُ من جميع الأعمالِ الصالحة، مِن صيام وقيامٍ وصدقةٍ وإطعام، وبرّ الوالدين وصِلةِ الأرحام والتّحميد والتّهليل وتلاوةِ القرآن والتواصي بالحقِّ والصّبر عليه والدّعوة والحِسبة، ويُؤكَّد على الإحسان للحجيج ورحمتِهم والرأفة بهم وبذلِ المعروف والخير لهم، لأنّهم وفدُ الله مِن جميع الأنام، فحقٌّ علينا إكرامهم وأداءُ حقوقهم، لا سيّما من القائمين على حملاتِ الحج والعُمرة.
فبادِروا ـ أيّها المؤمنون ـ إلى انتهازِ هذه الفُرَص الثمينةِ والمواسمِ العظيمةِ، فإنّما هي أيّام قلائل، ولكنّها حافلةٌ بالأعمال الجلائل.
كما يُستحبّ في هذه العشر التكبير المطلق، روى الإمام أحمد من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((فأكثِروا فيهنّ من التكبير والتهليل والتحميد)) [3] ، قال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهم يخرجان للسّوق ويكبِّران، فيكبِّر الناس بتكبيرها" [4].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحكمَ الكلام وأبلغَه كلامُ من أنزل القرآنَ على عبده فبلَّغَه، النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى، خير من أدّى المناسك وأوضَحَها لكلّ ناسك، وقد أمرنا المولى سبحانه في محكمِ القيل وأصدقِ التنزيل بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين...
[1] تفسير القرآن العظيم (4/506).
[2] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[3] أخرجه أحمد (2/75، 131)، وعبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3750، 3751)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[4] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
(1/4624)
محبة الرسول
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
خالد بن تركي الضويحي
الرياض
27/12/1426
جامع عبد الله الموسى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الرسول تابع لحب الله. 2- فضائل المصطفى. 3- حب سن الرسول. 4- كيف نحب الرسول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
حب الرسول تابع لحبّ الله تعالى ولازم من لوازمه؛ لأن النبي حبيب ربّه سبحانه، ولأنه المبلغ عن أمره ونهيه، فمن أحب الله تعالى أحبّ حبيبه وأحب أمره الذي جاء به؛ لأنه أمر الله تعالى.
ثم إنّ النبي يُحَبّ لكماله، فهو أكمل الخلق، والنفس تحب الكمال، ثم هو أعظم الخلق فضلاً علينا وإحسانا إلينا، والنفس تحب من أحسن إليها، ولا إحسان أعظم من أنه أخرجنا من الظلمات إلى النور، ولذا فهو أولى بنا من أنفسنا، بل وأحبّ إلينا منها.
هو حبيب الله ومحبوبه، هو أوّل المسلمين وأمير الأنبياء وأفضل الرسل وخاتم المرسلين، صلوات الله تعالى عليه. هو الذي جاهد وجالد وكافح ونافح حتى مكّن للعقيدة السليمة النقيّة أن تستقرّ في أرض الإيمان، ونشر دين الله تعالى في دنيا الناس، وأخذ بيد الخلق إلى الخالق سبحانه.
هو الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه وجمّله وكمّله، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وعلّمه، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، وبعد أن رباه اجتباه واصطفاه وبعثه للناس رحمة مهداة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وكان مبعثه نعمة ومنّة، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164].
هو للمؤمنين شفيع، وعلى المؤمنين حريص، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. على يديه كمل الدين، وبه ختمت الرسالات.
هو سيدنا وحبيبنا وشفيعنا، رسول الإنسانية والسلام والإسلام، محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وسلام. اختصه الله تعالى بالشفاعة، وأعطاه الكوثر، وصلى الله تعالى عليه هو وملائكته، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. صلّى الله عليك يا سيدي يا حبيب الله، يا رسول الله، يا ابنَ عبد الله ورسول الله.
هو الداعية إلى الله، الموصل لله في طريق الله، هو المبلّغ عن الله، والمرشد إليه، والمبيّن لكتابه، والمظهر لشريعته. ومتابعة الرسول من حبِّ الله تعالى، فلا يكون محبًّا لله عز وجل إلا من اتبع سنّة رسول الله ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بما يحبّ الله تعالى، ولا يخبر إلا بما يحبّ الله عز وجل التصديقَ به، فمن كان محبًّا لله تعالى لزمَ أن يتبع الرسول ، فيصدقه فيما أخبر، ويتأسَّى به فيما فعل، وبهذا الاتباع يصل المؤمن إلى كمال الإيمان وتمامه، ويصل إلى محبة رسول الله. وهل محبة الرسول إلا من محبة الله تعالى؟! وهل طاعة الرسول إلا من طاعة الله عز وجل؟! قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الشريفة: "إن هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله تعالى وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمديّ والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) ؛ ولهذا قال الله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء: ليس الشأن أن تحبّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ".
وحبّ سنّة رسول الله من حبّ رسول الله ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) ، ويقول رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) أخرجه البخاري في الإيمان (15) ومسلم في الإيمان (60)، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أبغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) أخرجه أبو داود (1594) والنسائي (3179) والترمذي (1702) وقال: "حسن صحيح" وصححه الألباني في صحيح الجامع (41).
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((اللهم أحيني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين)) أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1261).
أتاه شابّ من شباب مكة وقد أخذ أهله كل شيء عنده لأنه أسلم، جريمته الكبرى أنه أسلم، أخذوا ماله، وخلعوا ثيابه، فما وجد إلا شملة قسمها نصفين: نصف لأعلاه، ونصف لأسفله، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أجهش بالبكاء في وجهه، وقال: ((رأيته من أغنى شباب مكة، ومن أطيب شباب مكة، ثم ترك ذلك كله لله)) ، إنه عبد الله ذو البجادين، وسمي بذي البجادين لأنه قسم الشملةَ على نصفين ليستر بها جسده، وأتى جائعًا طريدًا معذّبًا يحمل "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
وتمر الأيام والرسول عليه الصلاة والسلام يملأ قلبه حبًا وحنانًا وعطفًا ورحمة، ويخرج معه في غزوة تبوك، وينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل يستيقظ ابن مسعود رضي الله عنه فيرى نارًا تضيء في آخر المعسكر، فيلتمِس الرّسول عليه الصلاة والسلام فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام حفر قبرًا ونزل في القبر وسطَ الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذا أخوك عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة)) ، ويجعل عليه الصلاة والسلام ساعده تحت خدّ عبد الله ودموعه تتقاطر على خدّ عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله قبره رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: ((اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض)) ، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة. قال الهيثمي في المجمع (9/372): "رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد، وهو متروك".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا حمدًا، والشكر لله شكرًا شكرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المعلّم الأمين والمبعوث رحمة للعالمين والبشير النذير والسراج المنير والقائد النحرير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نحب النبي ؟
إن حبه يكون بتعظيمه وتوقيره واتباع سنّته والدفاع عنها ونصرة دينه الذي جاء به، وبمعنى آخر أن نحبه كما أحبه أصحابه رضوان الله عليهم.
هذا خبيب بن عدي رضي الله عنه مصلوبًا على خشبة القتل عند قريش، يقولون له: أتحبّ أنك سالم في أهلك وأن محمدًا مكانك؟ فيقول: والله، ما أحب أني سالم في أهلي وتصيب محمدًا شوكة. إنه لا يجعل قتله كفاء لقتله، ولكنه يرى موته هو أهون عليه من أن يصاب رسول الله بأدنى أذى حتى الشوكة.
والحسن البصري جاءنا بمثلٍ جميل في حب الجمادات لرسول الله ، ذكر قول النبي في جبل أحد: ((أحد جبل يحبنا ونحبه)) ، والجذع الذي كان يخطب النبي عليه، فلما بني المنبر طلع يخطب على المنبر فإذا الجدع يحنّ إلى رسول الله ، وسمع له الناس حنينًا، فنزل النبي من على المنبر فوضع يده على الجدع فسكّنه فسكن. كان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر حنين الجذع وبكائه يقول: "يا معشر المسلمين، الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه".
(1/4625)
تحذير العباد من ضروب الفساد
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
17/2/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الشريعة الإسلامية للبناء والتعمير. 2- حقيقة الإفساد. 3- الشرك بالله أعظم الفساد في الأرض. 4- الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي. 5- الإعلام الهدام. 6- أسلحة الدمار والخراب. 7- المعاملات الربوية. 8- إفساد الفئة الضالة. 9- الحروب واحتلال الشعوب. 10- انتهاك حرمة الكتب والرسل. 11- دعاوى حقوق المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ خير ما يُوصى به ويدَّكر ويوعَظ به يزدجر تقوى الإله الذي عزّ واقتدر، ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذروا سوء العقبى والردى، واجتنبوا الغفَلات فإنها للطاعات مُدى، واسعوا لأُخراكم كأنّكم تنقلبون غدًا.
أيّها المؤمِنون، أوانَ هَدأةِ الفكر وانبِلاج المسالِكِ وشَفافيّة الروح وسَبحِ المدارك وسَاعةَ استلهامِ النفس المسلِمة مَعاقِدَ الشّريعَة ومراميَها وجُلَّ مقاصدِها ومعانِيها تدركُ في غيرِ ما لغوب ولا نُضوب أنها جاءَت بالتّعمير والإسعادِ حاثَّةً على مهايِع النهضةِ والرّيادة حاضَّةً على كلّ رُقيٍّ وإِفادَة، في تَناسقٍ بَديع بَينَ استشرافاتِ العقلِ وأشواقِ الرّوح، فالإعمارُ غَرِيزةٌ أودَعَها الله البَشرَ لِتكون رَائدةَ العمَل وبَاعثةَ الأمَل في نَشرِ العُمران وتثبيتِ دعائم التّحَضُّرِ والأمان، وكلُّ تقدُّم تِقانيٍّ وتَفوُّقٍ علميّ في العالَم أَكتَع يجِب أن يُسخَّر لقَمعِ الفساد والاستبدادِ، وأن يَكونَ مِرقاة لراحةِ الإنسانِ وهِدايته وطمأنينتِه وأمنِه واستقرارِه، ولن يتمَّ ذلك إلاّ في ضَوءِ عالميّة الإسلام الساطِع الذي يُوجِّه الحياةَ بعُمومها وشمولها وِجهةَ الخيرِ والسّؤدَدِ والحقّ والسلام، خُصوصًا بعدَ أن افتَضح إفلاسُ الحضارةِ الغربيّة في جوهَرِها ومخبرِها.
مَعاشرَ المسلمين، وما الحضارةُ القعساءُ التي وَطّدَتها شَريعتُنا الغرّاء وسعِدَت بها الدُّنَا عَبرَ التأريخِ إلاّ صُوّةً وقّادةً فوق التّحليل والإبراء، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. وهَذه المحجَّة المباركَة أجَّجَت حَربًا ضَروسا حِيالَ الطغيانِ والإفساد، وكانت وَجهًا عَبوسا تِئضالَ التّخريبِ والتقويضِ والاستباد، فشريعتُنا إعمارٌ لا دَمار، بِناء ونماءٌ لا هَدم وفناء، إِشادَة لا إِبادة، وهل إلا الفَسادُ والإِفساد بِشرورِه وجوائِحِه وحَوازبِه وفَجائعه مَن يحيلُ الدّنيا البَهِجةَ النضِرة إلى أَرضٍ مُصوِّحة قَفِرة؟! وهل إلا الفسادُ يهوي بالذِّمَم والقِيَم والأمجادِ إلى ساهِرةِ الحسَكِ والقَتاد ويُقيم على الأمَم المآتمَ والحِداد؟! يقول الكَفَويّ رَحمه الله: "الإفسادُ جَعلُ الشّيءِ فاسِدًا خارجًا عن حالتِه المحمودةِ لا لِغرضٍ صَحيح".
فالسّعيُ ـ يا عبادَ الله ـ بالفَسادِ بين مطاوِي البلادِ والعباد هوَ مستَنقَع الداءِ والبلاء وأُسُّ الفناءِ والأرزَاء ومُبيد النِّعَم والآلاء، مُؤذِنٌ بالخراب، معلِن بالتَّباب، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
إخوةَ العقيدة، وفي هذَا العَصرِ المحتَدِمِ بالكشوفاتِ والمخترَعات والملتَهِبِ بالصّراعات والتوسُّعات كثُرَت ضروبُ الفسادِ وأمَّت، واندَاحَت كُرَب العُتوِّ وعمَّت، وإنَّ أعظمَ فسادٍ في الأرض بعدَ أن أَصلَحَها الله بإنزال الكتب وإرسالِ الرسُل هو الإشراكُ بالله عزّ وجل، يقولُ الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في قوله سبحانه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]: "قال أبو العالية: بالإشراكِ بالله"، وفي الحديثِ عند مسلمٍ وغيره: ((وإني خَلقتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإِنهم أتَتهم الشياطينُ فاجتَالتهم عن دينِهم، وحرّمَت عليهم ما أحلَلتُ لهم، وأمرَتهم أن يشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطانا)). يقول الإمامُ العلاّمة ابنُ القيّم رحمه الله: "فإنّ عِبادةَ غير الله والدّعوةَ إلى غيره والشّركَ به أعظمُ فساد في الأرض، بل فسادُ الأرض في الحقيقة إنما هو بالشركِ به ومخالفةِ أمره، ومَن تدبَّر أحوالَ العالم وجَد كلَّ صلاحٍ في الأرض فسببُه توحيد الله وعبادتُه وطاعةُ رسوله " انتهى كلامه رحمه الله.
فمَن ألحدَ في أسماء الله وصفاتِه وحَرَّف آياتِه وكلماتِه فقد عتَا وأفسَد، ويلتَحِق بذلك مَن أحدَثَ في شرعِ الله وابتَدَع وزَادَ وما ارتدَع، فإنّه لَلفسادُ وأيُّ فساد الَّذي يجعل الدّينَ القويمَ نُهبةَ العقولِ والآراء ومِزَق الأفكارِ والأهواء؟!
إخوةَ الإسلام، ومِن لوثاتِ الفَساد الذي يُنذِر بعظيمِ الخطَر ويتَستَّر به الألدّاء في كَيدٍ وبَطَر ذَلكم الغزوُ الفكريّ الغَامّ والثّقافيّ والأخلاقيُّ السّامّ، الذي أجلبَ بتيّاراتِ الانحراف، وهملَج بمذاهِب الإتلافِ والإرجافِ، فأفسدَ كثيرًا من الناس لا سيّما من الشّبابِ والفتيات، ولوَّث أفكارَهم، وشابَ عقائدَهم، وسلَخَهم عن قِيَمهم الاجتماعيّة، وورَّاهم عن أصولهم الدّينيّة والأخلاقيَّة، وأسلَمَهم إلى عَواصِفِ الحيرةِ والتَّميُّع والذوَبَان والانهزاميّةِ، وخَلَص بهم إِلى لُجَج الانحِدارِ والبَوار. وهذا الإفسادُ والضّيَاع دهَم من أسفٍ مُضِن كثيرًا من الأسقَاع، نحتسِي غصَصَه في فَجيعةٍ والتِياع، ويتّخذُ العَدوّ الماكِر لِذلك أرقَى التّقانَاتِ وأحدَث المختَرَعات، الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقد دَعَوا في نهجِهم إلى الفسادِ في الكَونِ والشّرّ والإلحادِ والشّرّ فَساد. ولله أيُّ ثَمَدٍ مِن قوّة تُبقِي عليها الأمّة إن نِيلَ مِن نَوط رجائِها ومَعقِد آمَالها؟!
أيّها الأحبّة في الله، وأمّا المِعوَل الهدّام الذي وضَع وخَبّ بين هذه الشّريحةِ خُصوصًا وعجّ من إفسادِه وتدميرهِ الفَضاءُ وارتجّ ذيّاكم الإعلامُ الذِي يضخّ عُبابًا من الفسادِ وأَصنافًا مِن الانحراف في بعض قنواتِه الماجِنَة وشبكاتهِ الآسنة وفَضائيّاته القاتمة، التي رنّقَت نميرَ الفضيلَة، وهصَرت في بطشٍ باطش أركانَ المجتمعات والأسَر بما تبثُّه من حرائقِ الرذيلة ومنكَرات الأخلاقِ والبُهتان، في قِحَةٍ وصفَاقةٍ كأنهما الصُّوَّان. أوّاه أوّاهُ من ذلك الفسادِ، ورحماك ربَّنا مما إليه كثيرٌ من المجتمعات تَنقاد، واللهمّ سلِّم سلِّم.
ومما يلهِب الأسَى بين الأضلُعِ وتهمي له سِجام الأدمُع ذلكم الإفسادُ السافِر والكَيد الماكِر عبرَ صَفَحات الإعلامِ بأقلامِ فِئَة ضلَّ عَن السَّدادِ فهمُها وطاشَ عن القَرطَسة سهمُها، لا تفتَأ تبهَضُ الشريعةَ الغرّاء وتغمِز الخِيَرَة والصّلَحاءَ ورجال الحِسبةِ الأكفياء والجمعيّاتِ الخيريّة القَعساء والمؤسساتِ الدعويّة ذات السّنا والسناء، وما درَى هؤلاءِ أنهم بفعلِهم ذلك يَشرَخون المناهجَ والصَّفَّ ويتطاوَلون على الجَمعِ الملتَفّ.
في كلِّ يومٍ مَنزلٌ مستوبِلُ يَشتفّ ماءَ مهجتي أو مُجتَوَى
أيّها المؤمِنونَ، ومِن ضُروبِ الفسادِ الذي تنامَى وزادَ ولم يَغفل عن رتقِه الألِبّاء من العِبادِ ما لوَّث صفاءَ البِيئةِ وجمالَ الطبيعةِ المتدفِّقَة بالبَهجَةِ والرُّواء، وذلك بنشرِ الموادّ الكيماويّة المدمِّرة والتّجارب النوويّة الفتّاكَة والنّفايات الغازِيّة السامّة، وما يعمَد إليه العالم من سِباقِ التسلُّح وأَسلِحَة الدّمار الشامِل التي تنجُم عنها الإبَادَةُ والأمراض والأوبِئَة، وتُفسِد البيئةَ وتلوِّثها، وتخرِجها عن سنَنِها الخلاّب، ولعَمرو الحقِّ إنَّ النفسَ التي حُرِمت تذوُّق الجمالِ ورَشفَ شهدِه العذب بزينةِ الأرض وحُسنِها وسلامتِها وأمنِها وقصَدَت إلى إفسادِ الطبيعةِ وتلويثِ البيئة لهي نفسٌ باغيَة ومُهجة طاغِيَة.
إخوةَ الإيمان، ومِن صوَرِ الفسادِ الخطيرةِ المستَشريَة في كثيرٍ منَ المجتمعات ما يَنال اقتصادَ الأمّة مِن المعاملاتِ الرّبوية المحرَّمَة ماحِقةِ البركةِ جالِبةِ سَخطِ الله ومَقتهِ المؤذِنةِ بحربٍ من الله ورسولِه، ومَا السّعارُ المادّيّ الذي يتابِعُه المراقِبون لكثيرٍ مِن صالاتِ تداوُلِ الأسهمِ العالميّة وأسواقِ البورصَةِ الدوليّة وما آلَ إليه أمرُ كثيرٍ منها من أزَماتٍ خانِقَة إلا نذرٌ وعِبر لمَن يعتَبِر، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. ولَولاَ لُطفُ الله ثمّ مَأثرَةُ وَليّ الأمرِ وفّقه الله لحصَل ما لا تحمَد عقباه، غيرَ أن الغَيورِين يتطلَّعون إلى أَسلمَة هذه الأسواق الماليّة والتِزامِها في تعاملاتها الضوابِطَ الشرعيّة.
إخوةَ الإيمان، ومما ينتَظِم في سِلسِلة الفَسادِ الذي فرَى الأكبادَ ما تَعمد إليهِ الفِئةُ الضالّة المارِقة من إيقاظِ الفتنِ النائمةِ في أفكارٍ حَالمة ومناهجَ هائِمة، تَعمد إلى سَفكِ الدمِ الحرام والعُتوِّ في الأرض والإجرام، مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. وَبِأَخَرةٍ محَاولةُ تفجيرِ مكتَسبات هذه الديارِ وتَدمير منشَآتها ومقدَّراتها التي هي رَمزُ قوَّتها [وعَصب] سَطوتها المتين ورَهبتها بين العالمين. فلَيتَ شِعري هل هذه الدِّيار الآمنةُ للإسلام إلا مدَارِس، ولصدّ نكبات المسلمين وأرزائهم إلا مَتارس؟! أيُّ تنكُّرٍ شَنيع لفضلِ أمّتهم؟! وأيُّ جَهلٍ فظيع بمآلاتِ رقيِّ مجتمَعِهم وقوّة اقتصادِه ومصدَر مكتسباته وثرواته؟! ولكن استدراكٌ يمزِّق النياطَ حينما جفَّت القلوب من الرحمةِ والإيمانِ، وصدَأَت بالجحود والنكران، وانتَضَت أسِنَّة الطيشِ والعدوان، وسلَكَت مسالكَ الإجرام والطّغيان، عادَت كلَّ نهضَة، وشنَأت كلَّ رقيٍّ وعمران. فيا لله، أيّ ناسٍ هؤلاء الذين نبَذوا الرّحمةَ والإحساسَ وهاموا بمآسي كلِّ الناس؟! إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
أمّةَ الإسلامِ، وينسَلِك في طُغيانِ التدمير والتّتبِير اللّذَين حرَّمهما الله أشدَّ تحرِيم وتوعَّد آتيَهما بالعذابِ الأليم شنُّ المعارِكِ والحروب وإضرامُ النيرانِ والخطوب وتقتيلُ الأبرياءِ والعُزَّل واحتلالُ الشّعوب، بغيةَ إذلالها وطمسِ حضَارتها وثَلمِ نخوَتها واستِنزافِ خيرَاتها وثَرَواتها، في عَصرٍ تتعالى فيه دَعاوَى الإصلاحِ والسّلام وصرَخاتُ التعايُش والوِئام ومحارَبَة الإرهاب والإرعاب. نعم، تِلك هي الهالات البرّاقة والشّعاراتُ الرّقرَاقة التي تفضَحها وقائِعُ العنجهيّة كلَّ آن، ومَا وقائِعُها المخزِيةُ إلا نارُ الحِقد الدفين من محوَرِ الشرّ الكمين، تُذكي ضِرامَها الصّهيونيَّة العالميّةُ رَائِدةُ الإرهابِ الدوليّ بلا مُنازِع، لا سيّما في أرضِ فلسطين والأقصَى، وقَد قال الله فيهم وفي أسلافهم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
وكذا الإِفسادُ الذي يَقتاتُه دونَ تموِيه ولا مَينٍ إخوانُنا في بلادِ الرافدَين، مِن صنوفِ المآسي والتنكيلِ والحِصار والتشريدِ والتقتيل.
وَحروبٌ طاحِناتٌ كلَّما أطفِئَت شبَّ لظاها واستَعر
ضجّت الأفلاكُ من أهوالها واسعَاذ الشمسُ منها والقمر
ومِن نَكباتِ هذه الحروبِ وإفسادَاتها عقابِيلها وويلاتها التي خرَقَت الأعرافَ الدوليّة والمواثيقَ العالميّة والقِيَمِيّة التَّطاولُ على بيوتِ الله والإضرارُ بالمساجدِ ودُور العبادةِ وانتهاكُ حُرماتها وتَرويعُ الساجدين الآمنين، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]. ويحهم، أيّ حَضَارةٍ إِنسانيّة وإِعمارٍ زعَموا؟! قاتَل الله الإفسادَ الجالبَ للخزيِ والبوار، ولَحَا النّكثَ للمواثيق وكلِّ عرفٍ وقرار، يقول المنتقم الجبار جلّ جلاله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205]. الله أكبر، ها هوَ القرآنُ غَضًّا نديًّا يُنَبِّئُنا من أخبارِهم، فأين المتذكِّرون؟!
أيّها المسلمون، ومِن أفانينِ الفساد الذي تَستَّر بمروطِ الحريّة العرجاء فجاءَ شيئًا إدًّا تكاد تخِرّ له الجبالُ هدًّا انتهاكُ حُرمةِ الكُتُب المنزَّلة والأنبياءِ المرسَلَة، وأعظمُهم أفضَلهم إمامُ الأنبياء ورَسولُ ربِّ الأرض والسّماء صلوات ربي وسلامُه عَليه، مما أجّجَ مَشاعر الحقدِ والغضَبِ والكراهية، ودَقّ بين المجتمعات عِطرَ مَنشَم. ولا تسَل ـ يا رعاك الله ـ عن حرّيّة الغرائزِ والشّذوذ والارتخاص التي أنشَبت الإنسانيّةَ في مهاوِي البهيميّة.
لذلك كلِّه مِن أصولِ الفساد وغيرها كان جزاءُ أهل الفسادِ والزيغ والعنادِ حكمةً وعدلا أشدَّ التقتيل وأوبَلَ التنكيل، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وبعدُ: عبادَ الله، فلَن تقومَ حضارة إنسانيّة ونهضَةٌ عمرانيّة وسَعادة بشريّة وأمنٌ ورَفهَنِيّة والفسادُ يسقِي حُمِّيّاه كثيرًا من الأرجاءِ والعالَمُ يَلتوي ويُداجِي بالشعارات المفلِسَة في الضّحى والدّياجي، وهنا نفثةُ مَصدور ونأمَة غَيور تفيض من نبعِ الشّجَى والشّجَن وتهطِل من سُحُبِ اللوعة والحزن أن يا أيّها القادةُ والعلماء، يا أيها الدعاة والصلحاءُ، يا أهلَ الإعلام ويا حملةَ الأقلام، توارَدوا على ميثاقِ شرَفٍ واحدٍ وسنَنٍ لاحِد، وأصلِحوا ما اختلَّ من المجتمعات وفسَد، وقوِّموا ما انثلَمَ مِن عزَّتِكم وهيبَتِكم وكسَد، وارتُقوا ما انآدَ مِن الأفكار واعوجّ، وجدِّدوا ما رَمّ من وَحدَتكم ونهج، هبُّوا لميادين الصلاحِ والإصلاح بفعلٍ أسدّ ومُنَّة أسَد؛ تفلِحوا وتغنَموا وتسعَدوا وتأمنوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
بارك لله لي ولكم في الوَحيَين، ونفعنا جميعًا بهدي سيد الثقلين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله مِلءَ الأرضِ والسّماء، جلّ ربًّا وعَزّ إلهًا تفرَّدَ بجليل الصفاتِ والأسماء، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، حرّم الفسادَ وأمر بالتعمير والنّماء، وأشهد أنَّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله إمامُ الأتقياء وسيّد الأصفِياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه البررةِ الرحماء، أعلام السؤدَد والهناء، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا اقترافَ الشرور الأكدار، واجتَوُوا الآثامَ والأوزار، واسعَوا لكلّ صلاح وإعمارٍ؛ تدرِكوا بإذن الله أسمى المنازل والأقدار.
أيها المسلمون والمسلمات، ومِن الخداع الباتِك الذي مدّ طِوَل الفسادِ الهاتِك التباكِي المستأذِب علَى حقوقِ المرأة وقَضاياها وإنسَانيّتِها، وهو زَيفٌ مَكشوف ومَكر مألوف يَرمِي به الأعداء الألدّاء إلى تأليبِ المرأة المسلمةِ علَى إسلامِها وقِيَمها ومُثُلها وتمرُّدِها على حجابها وعَفافِها وحيائها، في قَرصنةٍ فكريّة وثقافيّة وسمسرةٍ عولميّة وأخلاقيّة، تخرِق سفينة المجتمعاتِ الإسلاميّة، وكَأَن قدٍ، لتصبِح أداةً طيِّعة في براثِن العلمنةِ والتغريبِ، ودُميةً سائِغة لمطامع الذّاتِ والعَبِّ من الملذّات، وبريدًا مأمونا لأفكارِه ومبادئِه المنحلَّة، يشايعهم في ذلك جهّالٌ أصلال من بَني وبناتِ جِلدتنا ومَن يتكلّمون بلغتِنا ممّن أغرَوا العدوَّ بنا، وقد غَشِي أبصارَهم تبعيّةُ الغَرب المهينَة، ولكن في وكِيدِ الثقةِ بحمدِ الله أنَّ المرأة المسلِمة ـ لا سيّما فتاة هذِه الجزيرةِ الشماء ـ على حصافة ونباهةٍ مِن تلك الدّسائس القمِيئة والآراب الدّنيئة. وإنَّ العجبَ ليطوِّح بك حينَما يتصارَخون ويتَباكَون بمصطلحاتِ الحقوقِ والقّضايا والتحرير والحريّات، ويحشدُون لذلك المؤتمراتِ والمنظّماتِ وأعمدةَ الصّحف والمقالات والمجلاّتِ والفضائيّات والمنتدَيات وشبكاتِ المعلومات، أمّا فضايا الشعوبِ التي تُطحَن وتُباد والأراضي المقدّسة التي تُنتَهك ولاَ تُعاد فتِلك صرخةٌ في وادٍ ونفخَة في رماد، فالله المستعان.
وهُنا إلماحةٌ حانِية بالحبّ الشّفوقِ هاميَة تستَشرف الماضي بإشراقاتِه واعتزازاته والحَاضرَ بجراحاته وملِمَّاتِه والمستقبَلَ بآمالِه الفِساح وتطلّعاتِه أن لاَ استعلاءَ لأمّتنا في معامِع المتغيرات وميادينِ التقدّم وإِعلاء صُروح الحضارات إلاّ باعتِصامِنا بالوحيَين النيِّرين ولِياذِنا إلى وَحدَتنا ورَابِطتِنا التي تنجِينا بإذن الله من الفِتنةِ والفساد الذي حذَّر منه المولى وأنذر في قولِه سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، أي: أَيتّحِد أهلُ الكفرِ المناكيدُ ويتفرَّقُ المسلِمون أبادِيد؟! إنّه لفسادٌ في دينِكم ودنياكم كبيرٌ، ولن ينتهِيَ المفسِدون عن نحتِ أثلةِ العزّة والسيادة والحقّ والسعادة والرِّيادة على مدِّ البسيطةِ إلا بالعلماءِ الجهابِذ والدّعاةِ الصياقِل الذين نوَّه بهم المولى عزّ وجلّ في قولِه: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].
ألا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، وتوارَدوا على الإصلاحِ والإعمار، وتنَاءَوا عن دُروبِ الفَساد والدّمار؛ تحقِّقوا مِن السؤدَدِ آمالَه الكِبار، وتأمَنوا بمنِّ الله البروارَ والتّبار.
ثم صلّوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على نبي الهدى والصلاحِ الذي دحر ضروبَ الفساد وأزاح، وحمى حوزةَ الدين أن تُفسَد وتستباح، فقد أمركم بذلك ربّكم فالق الإصباح، فقال تعالى قولا كريمًا في قرآنٍ يُتلَى آناءَ الليل والصّباح: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيِّ المصطفى والحبيبِ المرتضى والهادي المجتبَى نبيِّنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/4626)
وفاة ملك وبيعة ملك
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الموت والحشر, تراجم
رضوان بن ياسين الشهابي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- عظة الموت. 3- موقفنا من مصيبة وفاة الملك فهد رحمه الله. 4- مآثر خادم الحرمين الشريفين. 5- كلمة الملك عبد الله يوم البيعة. 6- بيان المفتي العام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى؛ فإنّ تقواه أقوى ظهير وأوفى نصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:28].
أيّها المسلمون، إنكم في دارٍ ليست للبقاء وإن تراخى العمر وامتدَّ المدى، أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل. شبابُها هرَم، وراحتُها سَقَم، ولذّاتُها نَدَم. الدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر، وعبرةٌ لمن استبصَر واعتبر، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
حكم المنية فِي البرية ساري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها سائرًا حتَّى يكون خبرا من الأخبار
قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكِ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، وقال رسول الله : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)) ، وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).
أيّها المسلمون، الدنيا قد آذنت بالفِراق، فراق ليس يشبهُه فراق، قد انقَطع الرجاءُ عنِ التلاق، وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29، 30]. فطوبى لمن فرَّ من مَواطِن الرِّيَب ومواقِع المقتِ والغضَب، مستمسِكًا بدينه، عاقدًا عليه بكِلتا يدَيه، قد اتَّخذه من الشّرور ملاذًا ومن الفِتنِ مَعاذًا. ويا خسارَ من اقتَحَم حِمى المعاصي والآثام، وأَرتعَ في الموبقاتِ العِظام، وأحكَم عَقدَ الإصرارِ على الذنوبِ والأوزار. هلك المصِرّ الذي لا يُقلِع، وندِم المستمرُّ الذي لا يَرجِع، وخابَ المسترسِلُ الذي لا ينزِع، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
وما أقبحَ التفريطَ في زمن الصِّبا فكيف به والشيبُ نازل؟!!
ترحّل عن الدنيا بزادٍ من التُّقى فعُمرك أيّام تُعَدّ قلائل
عباد الله، كم شيّعنا من الأقران، كم دفنّا من الإخوان، كم أضجعنا من الجيران، كم فقدنَا من الخِلاّن. فيا مَن يُقصدُ بالموت ويُنحَى، يا من أسمعته المواعظُ إرشادًا ونُصحًا، هلاّ انتهيتَ وارعَوَيت، وندمتَ وبكَيت، وفتحتَ للخير عينَيك، وقُمتَ للهُدى مَشيًا على قدمَيك، لتحصُل على غايةِ المراد، وتسعَد كلَّ الإسعاد، فإن عصيتَ وأبيت وأعرضتَ وتولّيت حتى فاجأك الأجل وقيل: "ميْت" فستعلم يومَ الحساب مَن عصَيت، وستبكي دمًا على قُبح ما جَنيتَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23، 24]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً.
أيّها المسلمون، أين مَن بلَغوا الآمال؟! أين من جمَعوا الكنوز والأموال؟! فاجأهم الموتُ في وقتٍ لم يحتسبوه، وجاءهم هولٌ لم يرتقِبوه، تفرّقت في القبورِ أجزاؤُهم، وترمّل من بعدهم نساؤهم، وتيتّم خلفَهم أولادُهم، واقتُسِم طريفُهم وتِلادهم، وكلُّ عبدٍ ميّت ومبعوث، وكلُّ ما جمَّع متروك وموروث.
يا مَن سينأى عن بَنيه كما نأى عنه أبوه، مثِّل لنفسِك قولَهم: جاءَ اليقينُ فوجِّهوه، وتحلَّلُوا من ظلمه قبل الممات وحلِّلوه. مثّل لنفسك قولَهم: جاء الأجلُ فأغمضوه وغسِّلوه، وكفِّنوه وحنِّطوه، واحملوه على أكتافكم وادفنوه، يقول رسول الهدى : ((إذا وُضِعت الجنازةُ فاحتمَلها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحةً قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غيرَ صالحة قالت: يا ويلَها أين تذهبون بها؟! يسمَع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) أخرجه البخاري.
يا هاتِكَ الحرمات لا تفعَل، يا واقعًا في الفواحشِ أما تستحي وتخجَل؟! يا مبارزًا مولاكَ بالخطايا تمهَّل، فالكلام مكتوب، والقولُ محسوب، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.
أيها الإخوة المؤمنون، وإن ما أصيبت به هذه البلاد من وفاة إمامِها لهو فاجعة كبيرة ومصاب جلل، يحس به كلّ مسلم، لكنّ عزاءنا أننا أمة عظيمة لها كتاب وسنة، لا يحملنا حزننا على أن نقع فيما حرمه الله علينا، فها هو قد مات وودّعته الأمة قاطبة، شاهدةً له بما قدم، داعيةً له بحسن الوفادة على ربه، لم يحملنا حبّنا له أن نرفعه فوق قدره الذي له، فلسنا أشدّ حبًّا من صحابة رسول الله لرسول الله ، وما لنا أن نفعل شيئًا يكرهه الله ورسوله، فلقد قال : ((إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
عباد الله، إن من النصوص الشرعية التي جاءت بوعيد شديد وتغليظ في العبارة ما ورد في البخاري ومسلم أن النبي قال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ، وفي صحيح مسلم أنه قال: ((ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)). يقول شُرّاح الحديث: "معناه أن هاتين الخصلتين قائمتان بالناس، لا يسلم منهما إلا من سلمه الله ورزقه علمًا وإيمانًا يستضيء به".
وإن من أعظم ما قدم الملك الراحل للإسلام تشييدَ المراكز الإسلامية في مواقع عديدة من العالم، ومن ذلك ما قدم للحرمين الشريفين من خدمة عظيمة وأكبر توسعة عرفها التاريخ، فاستحق لقب الحقيقة والواقع: "خادم الحرمين".
ومن الأعمال الجليلة والعظيمة النفع خدمته للمعجزة الخالدة، ألا وهو القرآن الكريم، خير كتاب أنزل على خير نبيّ أرسل، فلا تجد بقعة في الأرض إلا ووصلها كلام ربنا عز وجل، وقد تمّ ترجمة معانيه إلى عدة لغات في العالم. إنه الأثر العظيم والباقي، فلا يزال مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف يخرج تلكم الطبعات الفاخرة على مختلف أحجامها، ويشهد بالدور الكبير في خدمة كلام رب العالمين.
فنسأل الله أن يجزيه على ما قدم للمسلمين خيرا، وأن يجبر مصاب المسلمين به، وأن يخلف على المسلمين خيرًا منه؛ لأن الإنسان مهما بلغ من الملك والرفعة فإنه لن يبقى معه بعد وفاته إلا ما حدّده فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدًا صالحا تركه، أو مصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه واللفظ له وابن خزيمة والبيهقي بإسناد حسن.
وإن من أحق حقوقه على المسلمين الدعاء له وسؤال الله له المغفرة والرحمة، فأكثروا من الدعاء لإمامٍ كان عطاؤه كثيرًا، وشواهد أعماله تذكر فتشكر ولا تنكر، فلقد أفضى إلى رب رحيم، فاللّهمّ عالم الغيب والشهادة ربّ كل شيء ومليكه، أحسن وفادته، وأكرم نزله، وأسكنه منازل الصديقين والشهداء، وأخلفه في أهله وماله.
أيها المسلمون، الموتُ في كلّ حين ينشُر الكفنا، ونحن في غفلةٍ عمّا يُراد بِنا. سهوٌ وشرود، وإعراضٌ وصدود، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ، فاستعدوا لذلكم اليوم الموعود، واعلموا أن الموتَ يأتي على الصغير والكبير والرئيس والمرؤوس والملك والمملوك، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
أقول ما سمعتم، وأستغفر ربي إنه كان غفارا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه تواب رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيّها المسلمون، احذَروا المعاطِبَ التي توجِب في الشقاء الخلودَ، وتستدعي شَوهَ الوجوه ونُضجَ الجلود، واعلموا أنّ الدنيا سُمُّ الأفاعي، وأهلُها ما بين مَنعيٍّ وناعي، دُجُنّةٌ ينسَخُها الصباح، وصَفقةٌ يتعاقبها الخسارُ أو الرباح، ما هي إلا بقاءُ سَفرٍ في قَفرٍ أو إعراسٌ في ليلةِ نَفر، كأنّكم بها مُطّرحةٌ تعبُر فيها المواشي وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي، فلا تغترُّوا فيها بقوّة أو فُتُوَّة، فما الصحّةُ إلا مركبُ الألم، وما الفُتُوّة إلا مِطيّة الهرَم، وما بعد المقيلِ إلا الرّحيل إلى منزلٍ كريم أو منزلٍ وَبيل، فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى.
لما ولي الخلافةَ عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فليفارقنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابنّ عندنا أحدا، ولا يعرضن فيما لا يعنيه"، فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت معه الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله. وعن عمرو بن مهاجر قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفّذ، وإني لست بمبتدع ولكني متّبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم إلا أن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل"، وفي رواية أنه قال فيها: "وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني لأثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعتُ".
عباد الله، إن مما يفرح كل مسلم أن هذه البلاد المباركة تسير وفق أسس متينة وثوابت أصيله، ومن تلك الأصول ما قاله الملك عبد الله بن عبد العزيز في يوم البيعة: "أيها الإخوة، إنني إذ أتولّى المسؤولية بعد الراحل العزيز وأشعر أن الحمل ثقيل وأن الأمانة عظيمة أستمدّ العون من الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه أن يمنحني القوّة على مواصلة السير في النهج الذي سنّه مؤسس المملكة العربية السعودية العظيم جلالة الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه، واتبعه من بعده أبناؤه الكرام رحمهم الله، وأعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتّخذ القرآن دستورًا والإسلام منهجًا، وأن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافّة بلا تفرقة، ثم أتوجه إليكم طالبا منكم أن تشدّوا أزري، وأن تعينوني على حمل الأمانة، وأن لا تبخلوا عليّ بالنصح والدعاء".
إن هذه الكلمات لتذكّرنا بسير الخلفاء الأوائل، وإنها لكلمات تنبئ عن النهج القويم، ألا وإن الناس تبع لأهل الحلّ والعقد، فبهم تتمّ البيعة، وفي صحيح مسلم عنه أن النبي قال: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجةَ له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) ، ومن كلام أهل الحل والعقد ما أصدره سماحة المفتي العام للملكة إذ يقول: "من عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ إلى عموم إخوانه المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن الله تعالى يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، ويقول سبحانه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنْ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ، ويقول عز وجل: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ، فالموت حقّ، وقد كتبه الله على جميع الخلق، والمؤمن ينتقل برحمة الله من هذه الدنيا الزائلة إلى دار البقاء والخلود، إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين. لقد آلمنا وآلم أهل هذه البلادِ خاصّة وأهل الإسلام عامّة نبأ وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز غفر الله له ورحمه وأسكنه فسيح جنّاته وخلفه على الإسلام والمسلمين بخير الخلف، وإني لأعزي نفسي وسائر إخواني المسلمين في وفاته غفر الله له، فلِلَّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، فاصبروا إخواني واحتسبوا. وليكن دعاؤكم إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها، يقول الله عز وجل: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
ثم إن من عاجل البشرى والخلف الصالح ما حصل ولله الحمد والمنة من اجتماع الكلمة ومبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله وأمده بعونه وتوفيقه وتابع عليه ألطافه ملِكا للمملكة العربية السعودية، حيث بايعه أفراد الأسرة المالكة، ونحن قد بايعناه على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله بالسمع والطاعة بالمعروف في المنشط والمكره، وما حصل أيضا من اختيار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وفقه الله وأعانه وسدّد خطاه وليًّا للعهد ومبايعة الأسرة على ذلك، ونحن قد بايعناه وليّا للعهد على كتاب الله وسنة رسوله ، فالحمد لله ظاهرا وباطنا، والوصية تقوى الله عز وجل والحرص على اجتماع الكلمة ووحدة الصف والالتفاف حول القيادة الرشيدة طاعة لله عز وجل، حيث يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وطاعة لرسوله حيث يقول: ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك)).
أسال الله عز وجل أن يديم علينا عزّ هذه البلاد بعزّ الإسلام، وأن يوفق أئمتنا بتوفيقه ويحفظهم بحفظه، ويتابع عليهم أفضاله ويمتعهم بإمداده وعونه، ويجعلهم مباركين أينما كانوا، وينصر بهم الإسلام والمسلمين، إنه سبحانه سميع مجيب".
عباد الله، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة...
(1/4627)
الكبير: ما له وما عليه
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
أحمد بن عبد العزيز المنصور
الرياض
19/8/1426
جامع عبد الرحمن الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غريزة حب الدنيا. 2- عناية الإسلام بالمسنين. 3- حقوق الكبير. 4- ضرورة التزود للآخرة. 5- أهمية التفرغ للعبادة في آخر العمر. 6- محاسبة النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، الإنسان مفطور على حب الحياة، بل يحب أن يطول في هذه الحياة عمره، ويتمنى أن يخلد فيها، ولكن هيهات هيهات أن يخلد أحد في هذا الدنيا، فقد حكم الله عز وجل لهذه الدّار بالفناء، وكل مخلوق مآله إلى الموت والانتقال إلى دار القرار، والسعيد هو من اغتنم هذه الحياة وعمَرَها بطاعة الله تبارك وتعالى، وليست العبرة في طول العمر، وإنما العبرة والشأن كلّ الشأن في الاستفادة من السنين والأيام التي يعيشها العبد في هذه الحياة، فطول العمر نعمة إذا استخدم في طاعة الله وعمل الخير والبعد عن المحرمات، سئل الرسول : من خير الناس؟ وفي رواية: أي الناس أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((من طال عمره وحسن عمله)) رواه الترمذي.
ولذلكم اهتمّ الإسلام بالكبير، وجعل له حقا على من دونه، فأوجب احترامه وتوقيره، قال رسول الله : ((ما أكرم شابّ شيخًا من أجل سنّه إلا قيّض الله له عند سنه من يكرمه)) رواه الترمذي، وقال : ((إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم)) رواه أبو داوود والبيهقي، وقال : ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)) الحديث رواه الترمذي.
فالكبير له حقّ الاحترام والتقدير، كيف لا وهو قد سبق من دونه لعمل الصالحات وتعلم العلوم وممارسة أعباء هذه الحياة، وهو المكافح، فهو الأستاذ لمن بعده والمعلم والمربي، فكل ما يتمتّع به الشباب هو من نتاج الكبار، والمثل الشعبي السائد يقول: "أكبر منك يومًا أعرف منك سنة". نعم، الأيام مدارس، فمن ولجها قَبلَك أصبح لك أستاذًا فيها، الشيوخ قد جربوا كثيرا، عرفوا الأيام، وعاشوا تقلبات الأحوال، فأصابوا الحكمة، ونفعتهم الخبرة، ملكوا العقل الراجح والفكر الرزين، يقدرون الواقع، وينظرون بواقعية نحو المستقبل، يرون الحسنات كما يرونَ المحاذير، إنَّ لهم من طول التعامل والمراس ذخرا من الحكمة ورصيدا من الرزانة تجعلهم أصحاب رويّة وتثبّت، أولئك هم الشيوخ، تاج الوقار، ومنابع الأخبار، إذا رأوك في قبيح صدّوك، وإن أبصروك على جميل أيّدوك وأمدّوك، وقد قيل: "عليكم بآراء الشيوخ؛ فإنهم إن فقدوا ذكاءَ الطبع فقد مرّت عليهم تجارب الحياة"، جاء في منثور الحكم: "من طال عمره نقصت قوّة بدنه وزادت قوة عقله". والأيام لا تدع جاهلا إلا أدّبته، فكفى بالتجارب مؤدّبا، وبتقلب الأيام واعظا، وكفى عبرا لأولي الألباب ما جربوا.
فينبغي على الشباب أن يوقروا الشيوخ، ويستنيروا بآرائهم، ويستفيدوا من خبراتهم. نظرَ إبراهيم عليه السلام في المرآة فرأى شيبة بيضاء، وكان أول مرة يرى إبراهيم الشيب، فقال: يا رب، ما هذا البياض؟! قال: هذا وقار يا إبراهيم، قال: اللهم زدني وقارًا.
عباد الله، جاء في الحديث أن الرسول يقول: ((إن الله يستحي أن يعذّب شيخًا في الإسلام)) ؛ وذلك لأن الكبير في الغالب يكون أكثر إقبالا على الله وحبّا للخير، فيستحي من الله أن يراه على معصية أو مقصّرا في طاعة، فيستحي الله منه. أما إذا لم يستح من الله فإنّ عذابه عند الله أشدّ وأنكى، كما في الحديث الصحيح أن الرسول قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) وفي لفظ: ((ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) منهم: ((أشيمطٌ زانٍ)) ، شيخ كبير في السن زانٍ، هذا ليس له عند الله قبول، ولا يكلمه الله يوم العرض الأكبر، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، فشيخ أخذ في عمره ما أخذ ثم أتى إلى الله فختم صحيفته بالزنا لا قبول له عند الله. ((وملك كذاب)) ، ملك ويكذب؛ لأنه لا داعي له، لأن الإنسان إنما يكذب خوفًا أو رغبة أو رهبة، والملك ليس عنده لا رغبة ولا رهبة. والثالث: ((عائل مستكبر)) ، رجل يلصق بطنه بالثرى وينام على التراب وليس عنده درهم ولا دينار ويتكبّر على عباد الله. يقول شيخ الإسلام في كلام ما معناه: "ملوم الغنيّ إذا تكبر وغير الملك إذا كذب والشاب إذا زنى، لكن هؤلاء لقلّة دواعي هذه الأمور فيهم كان عذابهم أشدّ وأنكى عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى".
عباد الله، إن مَن مَنَّ الله عليه بطول العمر ولم يستفد منه لعمل الآحرة أو ضيّع أيامه ولياليه في الغفلة أو انهمك في جمع حطام الدنيا الفاني وألهته دنياه عن عمل أخراه ولم يزدَد من عمل الصالحات في آخر حياته فإنه سيندم حين ينتقل من هذه الدار إلى دار القرار، ولات ساعة مندم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن المفرطين: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ، قال أهل العلم في هذه الآية: "يقولون: يا ويلتنا على ما ضيّعنا في حياتنا من الأوقات الثمينة".
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله)) ، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بخياركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا)) رواه البيهقي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ قال: (ستين سنة)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ )) ، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أعذر الله إلى امرئ أخّر عمره حتى بلغ ستين سنة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من عمره الله ستين سنة أعذر إليه في العمر)) يريد أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)) رواه الترمذي وغيره، وجاء عن قتادة رضي الله عنه قوله في الآية: (اعلموا أن طول العمر حجّة، فنعوذ بالله أن نعيّر بطول العمر).
أيها الشيخ الكبير، لقد تعبت في هذه الحياة كثيرا حتى احدودب منك الظهر وتقاربت الخطى وضعف البصر وتساقطت الأسنان، أليس من حق نفسك عليك أن تريحها بقيّة عمرك من أعباء هذه الحياة ومشاكلها، وتقنع بما أعطاك مولاك وجمعته أثناء شبابك، وتتّجه إلى راحة بدنِك بالإقبال على الطاعات والتزوّد من عمل الصالحات من قراءة للقرآن وصدقة وصيام وتبكير إلى صلاة الجمعة والجماعات؟! واعلم أن ذلك مما يكفّر الله به الخطيئات ويرفع به الدرجات، يقول الرسول : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((كثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
عباد الله، على الإنسان أن يحرص على الإكثار من طاعة الله تبارك وتعالى خاصة في آخر عمره، وأن يكثر من الاستغفار والحمد، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ الآية، فكان بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) كما روت ذلك عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ حيث إنه علم أن نزول هذه السورة علامة على قرب أجله.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وقنّعنا بما أعطيتنا، واجعلنا هداة مهتدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، أوقات الإنسان محدودة وأنفاسه معدودة، وسوف يسأل عنها ويحاسب عليها، ويجزى على ما عمل فيها من خير أو شر، قال الرسول : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه)). فليعدّ الإنسان لنفسه جوابا صحيحا على هذه الأسئلة، فيحاسب نفسه فيما قال أو فعل أو سمع أو نظر أو تكلم أو مشى، يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]. فينبغي للمسلم أن يغتنم أوقاته فيما يقربه إلى ربه، فهنيئا لمن وفقه الله لطاعته وطاعة رسوله.
وصلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على نبيكم الهادي البشير.
اللهم هب لنا عملاً صالحًا يقربنا إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردّنا...
(1/4628)
وقفة للتأمل
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
عبد العزيز بن محمد الصديقي
الرياض
جامع المطلق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتأمل. 2- التفكر في مخلوقات الله تعالى. 3- التأمل في النفس. 4- آية النوم. 5- آيات في الكون. 6- عظمة الملائكة. 7- البحر وما فيه من آيات.
_________
الخطبة الأولى
_________
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191].
أيها المؤمنون، إنها دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة العابدة الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون ويسمعون ويعقلون، وهي كذلك دعوة إلى الغافلين السَّاهين اللاهين المعْرِضين، دعوة إلى التأمّل في بديع صنع الله وخلق الله، وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
أخي الحبيب، تأمل إلى السماء ثم اسأل نفسك: بغير عمدٍ من رفعها؟ بالكواكب من زيَّنها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها وذلَّلها وقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ؟
وتأمل إلى الطبيب من أرداه؟ المريض من عافاه؟ الصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ من يرعاه؟ الوليد من أبكاه؟ الثعبان من أحياه والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد من حلاَّه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفَّاه؟ النَّبت في الصحراء من أرْبَاه؟ النخل من شقَّ نواه؟ الجبل من أرساه؟ الصخر من فجَّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ النحل من هداه؟ الطير في جوّ السماء من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ ثم تأمل، الجبّار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطرّ من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ الجائع من يشبعه؟ الفقير من يغنيه؟
أنت، أنت مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من هداك؟ إنه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ. أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته، هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.
أخي الحبيب، هل تأمّلت نفسك وأنت جنين في بطن أمك، تتغذى أمك فيصِل إليك طعام خاص ملائم؟! هل تأملت في بدنك وفي سمعك وبصرك وسائر جوارحك؟! انظر إلى يديك، لو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعا آخر للأصابع سِوى ما وضِعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا، تأمل في تركيب العظام والمفاصل وربط بعضها ببعض، تأمل في مجاري الطعام والغذاء وتحوّله من حال إلى حال؛ لقمة تدخل، فأسنان تقطع، وأخرى تطحن، فلسان يدفع، ثم تدخل إلى المعدة عبر المريء، فيتحول إلى أشكال أخرى، هل تحس بذلك من شيء؟!
أعضاء تسمع وأخرى تبصر، وأعضاء تحس، وأعضاء تتحرك بإرادة وأخرى بلا إرادة. أجهزة متكاملة، وأعضاء متناسقة، وحركات متوافقة، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ، أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَه.
فيا أيها العبد العاصي، تتكبّر على مولاك وقد هداك، وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟! بئس العبد عبد سها ولها، ونسيَ المبدأ والمنتهى. من أنت حتى تتكبر على ربك جل وعلا؟! يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ.
أخي الحبيب، النوم، وما أدراك ما النوم؟! هل تأمّلته يومًا من الأيام؟ أنت تمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. أما الله جل وعلا فلا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، لا تأخذه سنه ولا نوم، لا إله إلاّ هو. هل تأملت ما يجري لإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم كيف يتسرب إليه النوم ثم يستولي عليه؟! يأتي النعاس يصحبه تثاؤب، ثم سمع بلا فهم، ثم يتنقل في درجات النوم إلى أن يصل إلى الغطيط.
في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالا، يتوقف البصر أولا بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، أما السمع فهي الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم، فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد.
هل تأمّلت نائمَيْن متجاوريْن، فأحدهما ربما ينعَم بالرؤى الصالحة بودِّه أن لا يستيقظ الدهرَ كله، والآخر يجاوره يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة بودِّه لو لم يَنَم، فهل يعلم هذا عن جاره أو تعلم أنت ما يدور بذهنهما؟! ولكن هل تأملت حال الموتى صنوفًا بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إذًا فاستمع إلى مَا هو أعظم وأكبر: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. تأمل إلى السماء ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر، لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها، موضوعة في الفضاء بدقَّة وإتقان؛ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا.
تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا. إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ. أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. تأمل كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا، يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون.
أحبتي في الله، ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء، تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم والكواكب المنتشرة في الكون. إن السماء وتناثر الكواكب فيها مشهد بديع تقع عليه العين، ولا تملّ طول النظر إليه؛ ولهذا ـ أخي المسلم ـ اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، ثم تأمّل عالم النجوم، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من ملايين المجموعات قد عرفت، وكثير منها لم يعرف. ثم انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه إلى قيام الساعة. ثم انقل نفسك أخرى وتأمل عظمة عرش الرحمن، فما السماوات بملائكتها ونجومها ومجرَّاتها ومجموعاتها، وما الأرضين بجبالها وبحارها وما بينهما بالنسبة للعرش إلا كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة. فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون ويحمدون ويقدسون ويكبرون ويتنزلون بأمر الله، يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُرّ، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرّم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرّة من خزائنه، لا إله إلا هو، ذلكم الله ربكم، فتبارك الله ربّ العالمين.
ثم تأمل هذه الأرض بينما هي هادئة ساكنة، قرار وذلول، إذا بها تهتزّ، تتحرك، زلازل وبراكين، خَسْف وهدم، آية من آيات الله، يخوّف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون، تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون، أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:15-17].
تأمل الهواء تجده آية من آيات الله الباهرة، وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى، يحركه الله بأمره فيجعله رياحًا رخاءً وبشرى بين يدي رحمته، ويحركه أخرى فيجعله عذابا عاصفًا قاصفًا في البحر وعقيمًا صرصرًا في البر، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:5].
تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله وعجائب مصنوعاته، تأمل ما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجبًا وقدرة القادر جل وعلا، قال ابن القيم: "وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلا، مع ما فيه من اللآلئ والجواهر والمرجان، فسبحان الخالق الرحمن".
انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقّه وتمخر عبابه، سائقها الريح الذي سخّره الله لإجرائها، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:32، 33]، عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله.
أما عالم النمل أو مملكة النحل فعبر وعظات لا منتهى لها، وكذلك بقية الكائنات والمخلوقات، حياة غريبة وأسرار عجيبة، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:3].
كل الكون بكائناته يوحِّد ويسلم وينقاد لله رب العالمين ويستسلم، ثم يبقى هذا الإنسان في هذا الكون يعصي ويتكبر، يلهو ويلعب! إنه لظلوم مبين، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، الكون بكائناته جميعًا يسبح الله ويثني على الله تمجيدا وتسبيحا لا نفهمه، لكنه سبحانه وتعالى يعلمه، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
_________
الخطبة الثانية
_________
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:1-13].
(1/4629)
المال بين قسمة الأرزاق وكسب العباد
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
حسن بن عبد الحميد بخاري
مكة المكرمة
17/2/1427
جامع باصمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف البشر. 2- فتنة المال. 3- حقيقة الملك. 4- قسمة الأرزاق. 5- إقبال الناس على سوق الأسهم. 6- حرص ابن آدم على المال. 7- المال وسيلة وليس غاية. 8- من زهد السلف. 9- ضرورة العمل للآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مركب الحياة سائر ببني آدم حتى يقطع بهم هذا البحر الهائج، بحر الحياة الدنيا الفاتن، ليصل بهم إلى شاطئ الآخرة، حين يأذن الله ربُنا لدنيانا هذه بالانقضاء والزوال، فسبحان الله! كم حمل هذا المركب على ظهره من صنوف البشر، فعابدٌ لله طائع، وعاصٍ لله فاجر، تقيٌ أواه منيب، وشقيٌ أفاك أثيم. كلٌ قد أخذَ حظه من هذه الدنيا، ليلقَى الله سبحانه وتعالى فيحاسبه على ما عمل.
ألا وإن من حظوظ هذه الدنيا خيراتِها وأرزاقَها وملذّاتِها، يقتسمها العباد وِفق ما كتبه المَلََك لكل واحد منهم بأمر الله وهم أجنة في أرحام الأمهات. فوالله الذي لا إله غيره، ما يأخذ أحدهم فوق ما كُتب له حبة شعير، ولا ينقص من رزق أحدهم قبل موته مثلُ ذلك.
ومن تأمل ـ عباد الله ـ رأى أن الله عز وجل جعل المال عصب الحياة الذي تقوم عليه، وجعله من زينة هذه الحياة، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وجعل النفوس توّاقة إليه، مُحِبةً لجمعه، حريصةً على تحصيله، فبالمال تسعد النفوس، وبه تفرح، وبفقده تغتمّ وتحزن، بل قيل: إنما المال سمي مالاً لأن النفوس تميل إليه، وإن نظر أحدنا في نفسه ومن حوله رأى مصداق ذلك.
ولكن جاء الإسلام فلم يترك هذا الميل إلى المال سيلاً جارفًا يلعبُ بالنفوس ويُقلّبها في مواطن الهَلَكة، بل ضبطه بضوابط شرعية وأحكام فقهية تحكم موقف المسلم من المال، وتحسم هذه القضية التي طالما عاش البشر في صراع محتدم حولها، فمن أجل المال تقام حروب، ومن أجله تَفنى أمم وتُباد شعوب، ومن أجله رمى بعض المسلمين بدينهم وراء ظهورهم اتباعا لأهوائهم وشهواتهم، بل ومن أجله حورب ربنا الجبار جل وعلا.
إن الحقيقة العظمى في قضية المال التي ينبغي أن يعيها كل مؤمن ـ معشر المؤمنين ـ هي أنه ليس لعبد من عباد الله كائنًا من كان، ليس له حقيقة المِلك فيما تحت يديه، وأنّ تصرفه فيه وتحكّمه به ليس لأنه المالك له، بل العباد وما ملكت أيديهم والدنيا بأسرها مِلْك لمَلِك الملوك ورب العالمين، وهذا المال قد آتاه الله من شاء من عباده رزقًا وفضلاً ومنّةً، وما تصرّف العباد فيما جُعل بأيديهم من هذا المال إلا بإذن الله لهم بالتصرّف فيه، فهم بمنزلة النُوّاب والوكلاء.
تأملوا ـ إخوتي ـ قول الحق سبحانه: آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ. نعم، فما نحن إلا مستخلفون في هذا المال الذي بأيدينا, لسنا مُلاّكًا له, ولا أصحاب حق مطلق فيه وإن اكتسبناه بعرق جباهنا أو بإرثٍ من آبائنا. مرّ بعض السلف بأعرابي له إبل، فقال له: لمن هذه الإبل؟ فقال الأعرابي: هي لله عندي.
إنها حقيقة غائبة عن أفهام كثير من المسلمين اليوم، فغاب معها كثير من الضوابط الشرعية في حياتهم، حتى أفرز ذلك صورًا من الانحراف. فما طغى الأثرياء ولا تجبّر المترفون ولا فسقوا بأموال الله التي بأيديهم إلا بغياب هذه الحقيقة، وصدق الله: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى.
وسبحان الله! يُعصى الله وتُنتهك محارمه بماله الذي رزقهم إياه، بل ويحارَب الله فيؤكل الربا بالمال الذي منحهم إيّاه، وتُحبس الزكوات وتُمنع الصدقات من مال الله الذي أعطاهموه، ويَطرق المحتاج والملهوف والمكروب أبوابَ الموسرين لمواساتهم وكشف كرباتهم فيُدفَعون بالتأفّف والانتهار وإغلاق الأبواب, استئثارًا بمال الله الذي جعله في أيديهم حين حرم منه هؤلاء، وهو القادر سبحانه على أن يسلبه منهم فيعطيه لغيرهم، وصدق الله: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].
أيا مسلمون، وأما الحقيقة الأخرى المتعلقة بالمال والتي كان لها بين الناس نصيب وافر من ترديدها بالأفواه ولَوْكها بالألسُن، لكن في معزل تام عن يقين القلوب بها، فلا ترى لذلك أي أثر في واقع حياتهم، فهي الحقيقة التي طالما لقّننا إياها الآباء والأجداد وهم يرددون على مسامعنا مُذ أن كنا في مدارج الصبا قائلين: "إن الأرزاق مقسومة كما أن الآجال محتومة". نعم، فقسمة الأرزاق المقدّرة منذ الأزل لكلّ نفس ذَرَأها الخالق سبحانه عقيدةٌ مستقرة في ديننا معشر المسلمين، فكلٌ محصّلٌ في حياته هذه ما قسمه الله له قبل أن يخلقه، غنيّنا وفقيرنا في ذلك سواء، موجِدُنا ومُعدَمنا سواء، ومهما سعى الخلق في طلب الأرزاق وضربوا في الأرض يبتغون من فضل الله فلن يأخذ أحد رزق غيره، ولن يقوى البشر مجتمعين على منع لقمة كتبها الله لعبد من عباده: ((واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَك، فيَنفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن في هذا الحثَّ القوي على القناعة والزجرَ الشديدَ عن الحرص لأن الرزق إذا كان سبق تقديره لم يُغن التعنّي في طلبه، وإنما شُرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا".
أوليس من العجب بعد هذا ـ عبد الله ـ أن ترى من حولك من يؤمن بذلك ثم هو يعيش حياة ملؤها فراغ القلب والشح القاتل والحرص المهلك؟! يظن أنه بسعيه الحثيث وكدْحه المستمرّ سيجني مزيدًا من الأرباح والأموال، وأنه يضاعف بذلك رزقه، فيهيم على وجهه في الأسواق والتجارات، يقوده جشعه، ويُعميه لُهاثه المسعور خلف حطام الدنيا الزائل، ورسول الله يقول فيما أخرجه ابن حبان وصححه (3238): ((إن الرزق ليطلب العبدَ كما يطلبه أجلُه)) ، بل ثبت بسند حسن عند الطبراني بلفظ: ((إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله)) وهو في صحيح الجامع (1630).
فو الله، لو لم تذهب ـ عبد الله ـ إلى لقمة كتبها الله لك لأتت هي إليك. أخرج أبو نعيم في الحلية بسند حسن عن جابر أن النبي قال: ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)) وهو في صحيح الجامع (5240).
فما بال الناس أصبحوا وأمسوا في شغل شاغل بالحديث عن الأسهم والأرباح وكسب الأموال؟! لا حديث لهم إلا ذاك، ولا همّ لهم إلا هو، فهو حديث المجالس والمدارس والأعمال والشارع والإعلام، وكأنما وَكَل الله إلى العباد أرزاق أنفسهم، فركب الناس من أجل ذلك الصعب والذَّلول، وتحمّلوا الديون، ويمّموا وجوههم شطر تجارة الأسهم والاشتغال بها، فتعلّقت بها القلوب قبل الأبصار، فمن أجلها هجر الناس أعمالهم، وعطّلوا مصالحهم، وعلّقوا أفكارهم، بل ومن أجلها يمرض أناس ويموت آخرون! فسبحان الله! أخَوَت القلوب من إيمانها بالله، أم نسيت عقيدتها الأزلية بقسمة الأرزاق من الرب الرزاق؟!
ألا إن الحرص الأعمى لن يزيد العبد إلا طمعًا، وقديما قالوا: "الطمع فرّق ما جمع"، بل دعونا من أمثال البشر إلى مثل ضربه سيّد البشر ، وهو يصف حال المقبل على الدنيا في استكثار منها بلا حدود حتى ولو كان فيها هلاكه، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، فقال رجل: يا رسول الله، أوَيأتي الخير بالشر؟! فسكت النبي , فقيل للرجل: ما شأنك تكلم النبي ولا يكلمك؟! فرأينا أنه يُنزَل عليه ـ أي: الوحي ـ، قال: فمسح عند الرُحَضَاء ـ أي: العرق الكثير ـ فقال: ((أين السائل؟)) وكأنه حمِده فقال: ((إنه لا يأتي الخير بالشر, وإن مما يُنبت الربيعُ يَقتل أو يُلِمّ ـ أي: قارب الهلاك ـ إلا آكلةَ الخضِراء، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها ـ أي: انتفخ بطنها ـ استقبلت عين الشمس فثَلَطَت ـ أي: ألقته رجيعًا سهلاً رقيقًا ـ وبالتْ ورتعَتْ، وإن هذا المال خَضِرةٌ حُلوةٌ، فنِعم صاحبُ المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)).
وجاء فيما أخرجه البخاري عن ابن الزبير : ((لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانيًا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).
فقولوا لكلّ من يسعى خلف بريق الأموال ولمعان الأسهم لاهثًا بيده ورجليه: رويدًا رويدًا، فلن تأخذ أكثر مما خُطّ لك قبل أن تلدك أمُّك. أوَمثلُ ذلك ـ عباد الله ـ وقد قُضي فيه الأمر يستحق أن يُرتكب من أجله الحرام ويتورط العبد في مسالك الشبهات ويقع في الربا والريبة، فينغمس في الحرام أو يحوم حول الحرام؟! والحائم حوله موشكٌ أن يقع فيه، ورسول الله يقول: ((يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحمٌ نبَت من سُحت إلا كانت النار أولى به)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/335).
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ليأتينّ على الناس زمان لا يُبالي المرء بما أخذ المال, أمن حلال، أم من حرام)) ، عياذًا بالله من مال الحرام ومسالكه.
فالأناةَ الأناةَ، والقناعةَ القناعةَ، ولتملؤوا صدوركم ـ رعاكم الله ـ من قول نبيكم : ((لا تستبطؤوا الرزق, فإنه لم يكن عبدٌ ليموتَ حتى يبلغه آخرُ رزقٍ هو له, فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، أخذِ الحلال، وتركِ الحرام)) حديث صحيح أخرجه الحاكم والبيهقي وهو في صحيح الجامع (7323).
إخوة الإسلام، وتمةَ حقيقة أخرى في الإسلام تجاه المال، ليست بأقل شأنًا من سابقتيها، وهي أن المال إنما سُخر لنا في هذه الحياة وسيلة لا غاية، ومطية نَركب عليها لا حِملاً يركب علينا. فشتان بين من سعى في دنياه يكتسب من حلال، باحثًا عن الكفاف؛ ليُطعم أهله ويكسوَهم، قلّ المال في يديه أو كَثُر, غير ناسٍ فيه حق الله عز وجل, باذلاً له في أوجه الخير, معطيًا كل من سأله منه حاجة لله, يُقرض ها هنا, ويتصدق هناك, همّه في المال الذي يجتمع عنده كيف يؤدي حق الله فيه، وأن لا يلقى الله فيسأله عنه سؤالاً لا يجد له جوابًا: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ شتان بين هذا وبين من قضى عمره لاهثًا في الدنيا متطلعًا إليها, حاسدًا كل ذي نعمة على نعمته، قد استولى حب المال على قلبه، فأطلق لنفسه العنان، ولم يُبال بما أكل، أمن حلال أم من حرام، غايته الاستكثار من المال، وهمه مضاعفة أرصدته وزيادتها, وليته مع هذا أدى حق الله فيه، لكان نِعم المال الصالح للرجل الصالح، لكنه منوعٌ كنودٌ، أهلك الشحُّ قلبه، فتراه ربما ضيّق حتى على نفسه وأهل بيته. فشتان بين من كانت الدنيا بيديه وبين من كانت بقلبه، وقد قال الله لنبيه : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
وهو القادر عز وجل أن يجعل له جبال مكة ذهبًا، لكنه يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أحبّ أن أُحُدًا تحوّل لي ذهبًا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث إلا دينارٌ أرصُده لدين)) أخرجه البخاري.
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أُتيت بمال كثير، وهي يومئذ صائمة، فدعت مولاتها بريرة وجعلت تبعثها بالمال تقسمه لفلان ولبيت فلان وفلان، فما أبقَت منه دينارًا، حتى إذا نفِد قالت مولاتها: يا أم المؤمنين، رحمك الله، إنا صائمون اليوم وليس عندنا ما نفطر به، فقالت لها: فهلا أخبرتيني من قبل.
أما اليوم وقد دخلت الدنيا قلوب بعضنا فركبوا من أجلها كل مركب حتى عُبد المال، فأريقت من أجله دماء وقطعت من أجله أرحام، وحُلِف بالله على ظلم وفجور، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ألا فتعس عُبّاد الدنيا والدراهم والدنانير.
عباد الله، إن المال غادٍ ورائح، ومقبل ومدبر، فطوبى لعبد أقبل عليه المال فأخذ منه كفايته، واستعان بالله عليه, فلما اجتمع عنده وكثُر حوّله إلى رصيده في الجنة. ويا خيبة عبدٍ اجتمع له المال فاحتبسه عنده حتى مات، فمات محرومًا من لذّته في الدنيا، ومن أجره في الآخرة.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن الله جل جلاله قد أخبرنا في كتابه الكريم أن رزقه موهوب، وعطاءه في هذه الدنيا ممنوح لمن شاء من عباده، مؤمنهم وكافرهم، بَرّهم وفاجرهم، لكنه سبحانه جعل الآخرة حرثًا والدنيا حرثًا، يختار منها المرء ما يشاء، فمن أراد الآخرة عمل في حرثها، وزاده الله في حرثه وأعانه وبارك له، وكان له مع ذلك رزقه المكتوب له في هذه الأرض، لا يُحرم منه شيئًا. ومن أراد حرث الدنيا أعطاه الله من عَرَض الدنيا رزقَه المكتوب لا يزيد عليه مثقال ذرة، ولكن ليس له نصيب في الآخرة، فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئًا ينتظر عليه ذلك النصيب. فذلكم قول ربكم سبحانه: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:19، 20].
إن من الحماقة ـ عباد الله ـ أن يغرق الغافلون في بحر الدنيا ووَحْل المادة وأمرُ أرزاقهم محسوم، لا يزيدون منه ولا ينقصون، بل الأدهى من ذلك والأمرّ ما يجلبه ذلك لهم من شتات الفكر وتفرّق الشمل وارتفاع السكينة وحلول السَقَم.
ألا فلنعِ جميعًا ـ أيها العقلاء ـ هذا الحديث النبوي الجليل المشتمل على حكمة نبويّة بديعة، وحُقّ لنا أن نجعله نصب أعيننا صباحَ مساءَ:، في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له)) وهو في صحيح الجامع (6561).
فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، والقصدَ القصدَ تبلغوا، واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.
اللهم أنا نسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء. اللهم وسّع لنا في أرزاقنا، وبارك لنا فيما رزقتنا، وقنّعنا بالقليل منه يا أكرم الأكرمين. اللهم إنا نسألك أن ترزقنا رزقًا يزيدنا لك شكرًا وإليك فاقة وفقرًا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقرهم إليك يا أرحم الراحمين...
(1/4630)
ونزل المؤشر
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
فهد بن سالم الحامد
الأحساء
24/2/1427
جامع ابن درعان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- كثرة طرق لكسب المال. 3- أنواع أسواق الأسهم. 4- حقيقة سوق الأسهم. 5- مصيبة نزول سوق الأسهم.6- دروس وعبر من هذا الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسى بتقوى الله حيث يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، يبتلي الله عباده بالسراء والضراء، والنعمة والبأساء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، يقول سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، ويقول المصطفى : ((لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال)) أخرجه ابن حبان.
وقد انتشرت طرق كثيرة لكسب المال وتحقيق الثراء السريع، من أشهرها أسواق الأسهم المالية، أصلها غربي، أخذه المسلمون عن الدول الغربية التي يحكم أسواقها القانون المدني، وقد قامت هيئات شرعية في عدد من البنوك في البلاد الإسلامية بضبطه وتعديله ليتوافق مع الأحكام الشرعية، لكن بقي فيه فجوات كبرى طالما حذّر منها الناصحون والغيورون، مثل المضاربات العشوائية والتضخم اللامعقول والكذب والتغرير والنجش، وغير ذلك مما اختلط بأسواق الأسهم وأفسدها.
أيها المسلمون، ينبغي أن نعي لعبةَ الأسهم، فهناك مجموعاتٌ لا تخافُ الله تعالى ولا ترجو الدارَ الآخرة، يتحكمون في السوق، يعقدون الصفقات مع بعضِ الشركاتِ التي يرغبونَ في رفع قيمة أسهمِها، وبالمقابلِ يكسرونَ أسعارَ أسهمِ شركاتٍ أخرى بما يملكون من سيطرةٍ ماليةٍ؛ ولذا فهم يتلاعبون بأسعارِ الأسهم كما يفعلُ لاعبو اليانصيبِ، وها نحن اليوم نرى نتائج تلك اللعبة.
عباد الله، ومما ينبغى التنبيه له أن تلك الشركات منها ما هي محرمة بلا خلاف كالشركات الربوية أو التي أصل نشاطها محرّم كالبنوك التي تتعامل بالربا، ومنها شركات مختلطة أصلُ نشاطها مباح ولكنها تُقرض أو تقترض بالربا، وقد أباحها بعض أهل العلم بضوابط معينة، والصحيح أنها محرّمة لا يجوز الدخول فيها على الراجح من أقوال جماهير العلماء المعاصرين والمجامع واللجان الفقهية والشرعية، والقسم الثالث شركات مباحة يجوز المساهمة فيها، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، وهي التي أصل نشاطها مباح وسلِمت من القروض الربوية.
أيها المسلمون، في هذه الأيام نزلت أسواق الأسهم وهبطت المؤشرات في كثير من الدول المجاورة، فذهل الناس وأصيبوا بحالة من الذعر والخوف، ثم بدأ مسلسل الخسائر المتتالية، فحلَّت بالمساهمين خسائر فادحة، فترى القوم صرعى، يتجرعون مرارة البلوى، ويرفعون بسببها الشكوى، فكم ترى من مهموم مغموم مثقل بالديون، وتسمع عن آخرين ارتفع عندهم ضغط الدم أو السكري أو كلاهما، فأدخلوا المستشفيات والمصحات، وسمع الناس عن حالة وفيات، ومنهم من أصيب بانهيار عصبي لأجل فقده جميع ما يملك وتصفية جميع محفظته التي كان قد اقترض نصف رأس المال فيها من أحَد البنوك، فاستوفى البنك مستحقاته وبقيت الخسارة يتجرعها هذا المسكين لوَحده، إلى غير ذلك من مسلسل المصائب والنكبات التي أفرزتها هذه الأزمة وهذا الانهيار السريع.
ولا ينكر أحد أن المال محبَّب إلى النفوس فطرةً، فهو عصب الحياة وشقيق الروح، وبقدر ما يتمنى المرء الحياة والبقاء فهو يتمنى المال كما قال النبي : ((يهرم ابن آدم وتشبّ معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر)) ، وعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول: ((لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا في اثْنَتَيْنِ: في حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ)) رواه البخاري.
وفي هذه المصيبة المالية والنقيصة الدنيوية نذكّر أنفسنا والمسلمين بعدة أمور:
أولاً: إلى كلّ مصاب بخسارة في هذه الأسهم، اعلم أن الله ابتلاك في المنع كما ابتلاك في العطاء، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [آل عمران:186]، وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
ثانيًا: تذكر ـ أخي المسلم ـ أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان، قال عُبَادَةُ بن الصَّامِتِ لابْنِهِ: يا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حتى تَعْلَمَ أَنَّ ما أَصَابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول: ((إِنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ الله الْقَلَمَ، فقال له: اكْتُبْ، قال: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كل شَيْءٍ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ))، يا بُنَيَّ إني سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول: ((من مَاتَ على غَيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي)) أخرجه أبو داود. وعَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: قال لي رسول اللَّهِ : ((يا غُلامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ما أَصَابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلائِقَ لَوِ اجْتَمَعُوا على أَنْ يُعْطُوكَ شيئا لم يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَ لم يَقْدِرُوا عليه، أو يَصْرِفُوا عَنْكَ شيئا أَرَادَ أَنْ يُصِيبَكَ بِهِ لم يَقْدِرُوا على ذلك، فإذا سَأَلْتَ فَسَلِ اللَّهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مع الْكَرْبِ، وَأَنَّ مع الْعُسْرِ يُسْرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قد جَرَى بِمَا هو كَائِنٌ)) رواه الطبراني في الكبير.
عباد الله، إن الصبر جميل، وعاقبته حميدة، فلا تتسخط على أقدار الله، ولا تقع في سبّ الدهور والأزمان، واحذر أن تفتَح على نفسك باب الشيطان بكلمة "لو"، فتقول: لو أني ما فعلت، لو أني ما ساهمت. إنه أمر قضي وانتهى، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ : ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللَّهِ من الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ولا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وما شَاءَ فَعَلَ، فإنّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) رواه مسلم.
والمؤمن يصبر اختيارًا، ومن لم يصبر صبرَ الكرام سلا سلوَ البهائم. يقول عمر رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر)، وقال علي بن أبى طالب رضى الله عنه: (الصبر مطية لا تكبو). وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه، وتطلع بعده إلى الرضا، وهو أعلى درجة من الصبر التي يحفظه الله بها عما هو أشد منها. يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/174): "الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين وقرة عيون المشتاقين". ويقول أيضا (2/208): "من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غِنى وأمنا وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظّه من الرضا امتلأ قلبه بضدّ ذلك واشتغل عمّا فيه سعادته وفلاحه، فالرضا يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله.
إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببليّة على الناس تخفى والبلايا مواهب
ثالثًا: إنّ في هذا الحدث عبرةً وعظةً تستوجب الخروج من المظالم والتوبة من المآثم، فكم ماطل أقوام بحقوق غيرهم، بل وتحايلوا على أموال النّاس أو أسمائهم رغبة في الثراء السريع والتجارة العاجلة، فمنعوا حقوقًا لأصحابها طمعًا في المال، وربما كتموا عنهم مقدار الأرباح واستأثروا بها عنهم مستغلّين جهلم بحقيقة الاكتتاب وحركة الأسهم، وكم ولغ الناس في الأسهم المحرمة الربوية منها أو المختلطة، وتساهلوا في ذلك ولم يبالوا بأي تحذير أو توجيه، أليس الربا شؤما وبلاء مؤذنا بالحرب من رب الأرض والسماء؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، أليس الربا يمحق الخيرات والبركات؟! قال تعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]؛ لذلك اشتد خوف السلف من الحرام، وحذروا منه أشدّ التحذير، امتثالاً لقوله : ((لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ ولا صَدَقَةٌ من غُلُولٍ)) رواه مسلم، وقال رسول اللَّهِ : ((وَلاَ يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالا من حَرَامٍ فَيُنْفِقَ منه فَيُبَارَكَ له فيه، وَلاَ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَيُقْبَلَ منه، وَلاَ يترك خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلاَّ كان زَادَهُ إلى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل لاَ يمحو السيئ بالسيئ، وَلَكِنْ يَمْحُو السيئ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لاَ يمحو الْخَبِيثَ)) رواه أحمد. وكانت المرأة توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له: "يا هذا، اتق الله فينا؛ إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
عباد الله، للذنوب عقوبات وبليات وأزمات ونكبات، وقد تساهل الناس بالربا والمشتبهات إلى حدّ كبير، نسأل الله السلامة والعافية، حيث تطلّب بعض الناس المالَ والتجارة من أي طريق، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي قال: ((يَأْتِي على الناس زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ ما أَخَذَ منه أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ من الْحَرَامِ)) رواه البخاري. وكم من قضايا ومخالفات شرعية حصلت في زحمة انشغال الناس في أسواق الأسهم، فمنها ترك الصلاة بالكلية أو تأخيرها عن وقتها في صالات الأسهم وأمام الشاشات، وكم من قضايا الكذب والتزوير والإشاعات والتوصيات الكاذبة. أليست كلها ذنوبا ومعاصي وبعضها موبقات وكبائر؟!
عباد الله، والمخيف في الأمر أنّ العقوبة إذا حلّت ونزلت شملت الجميع إلا من رحم ربك، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، وفي البخاري: "باب: إذا أنزل الله بقوم عذابا بعثوا على أعمالهم"، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (13/61): "وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن؟! فكيف بمن رضي؟! فكيف بمن عاون؟!". يقول ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد (2/432): "من عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتحلّ النقم، ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسى بتقوى الله حيث يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، إن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارةَ الدين والأخلاق وخسارة الأنفس والأرواح، اسال نفسك يا عبد الله: هل تساوي أموالك كلها أن تسهر ليلة على السرر البيضاء؟ ماذا لو أصيبت إحدى أطرافك بألم شديد وقرّر الأطباء بتر هذه الطرف؟ أرأيت لو قيل: إن هناك علاجًا في أقاصي الدنيا وقيمته جميع ما تملك، أتراك تدفع هذا المال لصحتك؟! قطعًا، لا أظن عاقلاً يتردد في ذلك. إذًا ألا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك، فلقد أعطى كثيرا وأخذ قليلا، ورزق وأنعم ووسَّع في الرزق، فله الحمد على ما أعطى، وله الحمد على ما منع.
أخي المسلم، لا تنظر إلى النعم المفقودة، وإنما انظر إلى النعم الموجودة، واستمتع بها، واشكر الله على أن أبقاك صحيحًا مسلِمًا، والخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بالكفر والمعاصي، إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
رابعًا: من دروس هذه الحادثة أن لا ينظر المسلم إلى الأسباب المادية وحدها ويعتمد عليها وينسى سؤال الله تعالى وطلب الرزق منه وتعليق الأمور بمشيئته تبارك وتعالى، وكم نرى من يجزم بأخبار مستقبليّة دون تعليق ذلك بالمشيئة، وتذكر جميع الأمور والمحفزات والتوصيات وكون مستوى السوق بفضل كذا وكذا وبسبب كذا وكذا وليس لمشيئة الله وذكر الله وفضل الله وعطائه أيّ ذكر على لسان الكثيرين من رجال الأعمال وأهل الاقتصاد والمال، وقد عد العلماء ذلك نوعًا من كفر النعم قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83]، يقول مجاهد: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي"، وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا". وقال تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، قال ابن عباس في الآية: "الأنداد هو الشركُ أخفى من دبيبِ النملِ على صَفاةٍ سوداء في ظُلْمَةِ الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كُليبة هذا لأتَانا اللصوص، ولولا البطُّ في الدار لأتانا اللصوص".
ومن دروس هذه الحادثة أن لا يتعلق الإنسان بأخبار شائعة ويبني تجارته على توصيات خادعة لم تبنَ على أسس مالية واقتصادية صحيحة.
خامسًا: الواجب أن يقتصد الإنسان في طلب الدنيا ولا يصاب بالسعار والهيام وراءها، فكم رأينا ورأى الجميع الأسراب المتكاثِرة في الاكتتابات، وازدحام الطرقات والمصارف، بل والقيام بالأسفار إلى دول مجاورة مع العنت والمشقة وترك الأهل والأولاد والوظيفة لأجل لمعان المكاسب وبريقها، وكم تساهل الناس في الطاعات والعبادات، ورأينا أقواما تركوا صلة الرحم والاجتماع بالقرابة وقضاء حقوق الوالدين لأجل العكوف في صالات الأسهم أو أمام جهاز الحاسب، يقول : ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه)). والقناعة أعظم كنز، وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة، قال الشافعي رحمه الله:
وإن القناعة كنز الغنى فصرت بأذيالِها مُمسك
فلا ذا يراني على بابه ولا ذا يرانِي به منهمك
وصرت غنيًا بلا درهم أمرّ على الناس شبه الملك
سادسًا: لا يجوز أن تنعكس آثار هذه الحادثة على الأسرة والأولاد أو الزوجة أو الإخوان بسبب الديون وتداخل الأموال وحصول الخسارة؛ لأن هذا أمر خارج عن قدرة الإنسان، فلا تضاعف خسارتك فتغضب من أيّ موقف ويتغير مزاجك وتتبدل أخلاقك على والديك وزوجتك وأولادك.
وبهذه المناسبة نذكر إخواننا الدائنين والمقرضين أن يتقوا الله ويرحموا المعسرين وينظرونهم أو يتجاوزوا عنهم، قال : ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
سابعًا: لنعلم أن ما يقضي الله قضاءً للمؤمن إلا كان له فيه خير، كما ثبت بذلك الخبر عن المعصوم ، فكم في هذه المحنة من منحة، وفي هذه النقمة من نعمة، ففيها عبر وعظات ودروس للجميع، وفيها تقوية للمؤمن وتدريب له على الصبر، وفيها النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية، وفيها خضوع الإنسان لربه وانطراحه بين يديه، ولولا هذه النوازل لم يُرَ الإنسان على باب الالتجاء والمسكنة، والله تعالى يبتلي خلقه بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به، فهذه من النعم في طي البلاء:
كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طيّ المكاره كامنة
سبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، وكما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
عبد الله، الدنيا حقيرة، فهي عند أدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكّر صفوه وتنغّص حياته وتنسيه ملاذّه السابقة، والكيس الفطن لا يغترّ بالدنيا، بل يجعلها مزرعة للآخرة.
وفقني الله وإياكم لاغتنام هذه الحياة بالباقيات الصالحات والتزود من أعمال الخير والبر، قال تعالى: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
وسبحان ربك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1/4631)
حال المجتمع مع الأسهم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن محمد السميح
الرياض
10/2/1427
جامع العزيزية مول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدين شامل ومنظم لجميع شؤون الحياة. 2- استثمار الأموال في الشريعة. 3- الحذر من الدنيا. 4- حال المجتمع عند الإعلان عن الاكتتاب. 5- استثمار المال الضروري. 6- الاقتراض بالطرق الشرعية أو المحرمة. 7- الاستثمار بالأسهم المحرمة أو المختلطة وعواقب ذلك. 8- حالهم عند الربح والخسارة. 9- الانشغال عن الواجبات والمسؤوليات. 10- تأخير الصلاة عن وقتها. 11- نقص البركة من الرواتب. 12- انتشار الكذب والغش والاحتكار. 13- ظاهرة تقسيط الرواتب. 14- آثار سلبية بسبب الأسهم. 15- وفيات نتيجة هبوط الأسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد جاء الدين الحنيف شاملاً ومنظمًا لجميع شؤون الحياة، فما من جانب إلا وللدين فيه توجيهات وحدود ومعالم وتعليمات، وهذا من كمال الدين ولله الحمد والمنة.
ومن الجوانب التي جاءت الشريعة بتنظيمها ما يتعلّق بالأموال وتنميتها واستثمارها، والناظر في حال مجتمعنا هذه الأيام ليرى العجب العجاب، كيف يتحدث الصغار قبل الكبار في الاستثمار، وانشغلوا بثقافات اقتصادية لم يسبق لها مثيل على مستوى جميع الفئات العمرية.
عباد الله، حثّنا الدين الحنيف على أن نجمل في طلب الرزق الحلال، ولا نتجاوزه إلى الحرام فنقع في الخسارة والنكال، ولأن الدنيا حلوة خضرة تلهي طالبها وتنسيه التحري فيها فإن رسولنا قد حذّرنا منها فقال : ((فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) ، وقال : ((من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله مثل الذي يأكل ولا يشبع)) ، وقال : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؛ أمن حلال أم من حرام)).
فما حال المجتمع مع هذه الطفرة المالية لا سيما في الأسهم المحلية؟! فعند الاكتتاب في بعض الشركات يتسارع الناس جميعا إلى تحريم ما لم يحرمه الله أو تحليل ما حرمه الله عز وجل، وهذا أمر لا يجوز لأنّ التحريم والتحليل لله تعالى وحده، قال سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. والتحليل والتحريم جزء من التشريع للأمة، فهل ترضى أن تكون مشرِّعًا مع الله تعالى؟! فالتحليل والتحريم مردّه إلى أهل العلم المختصّين الخبيرين بالأمور المالية شرعًا وواقعًا؛ لأن المعاملات تعددت وتنوَّعت وتفرَّعت، وأصبح من الصعب على الفقيه أن يستوعب كل أنواع المعاملات. وهذا ليس لنقص الفقه عياذًا بالله، ولا نقصًا في العلماء، ولكن هذه الأمور تحتاج إلى خبرة خاصة في كيفية فهمها ومعرفة أنظمتها. والأولى في ذلك اعتماد قرارات المجامع الفقهية واللجان الشرعية، فإنها أقرب إلى الصواب من غيرها. وإذا وُجِد قولٌ لغيرهم من الفقهاء فهو رحمةٌ من الله؛ لأن في اختلافهم سعةً على الأمة، فبعد وفاة النبي أصبح اختلاف العلماء رحمةً للخلق وفسحةً في الحق وطريقًا بيِّنًا إلى الرفق، وهذا لا يعني جواز التشهي في الأخذ بما يروق للمسلم من أقوال أهل العلم، بل الواجب اتّباع الأقرب إلى الصواب من غيره لمعرفة الناس بسعةِ علمه وشدّة ورعه وتقواه.
فالواجب على الناس عندما يعلن عن الاكتتاب في شركة ما، الواجب عليهم أن تتَّسع صدورهم لاختلاف المفتين، وعدم تنقيص أحد العلماء سواء قال بالجواز أو الحلال أو الحرام، وما يشاهد من اختلاف وتنازع لا ينبغي أن يتطوّر ويورث البغضاء بين المسلمين.
أيها المسلمون، ومن أحوال بعض الناس مع الأسهم اليوم استثمار أو استقمار المال الضروري في الأسهم، المال الضروريّ كبيع ما يملك من مسكن أو مركب وما يدّخره لمستقبله ليستثمر أو يستقمر في هذه الأسهم، وينسى أو يتناسى أن التجارة كما أن فيها ربحًا ففيها خسارة، ناهيك عمّن أخذ قروضا بنكية بطريقة شرعية أو محرّمة، جعل كل ما يملك وما يدّخره في الأسهم، فبخل على نفسه وأهل بيته ولم يقم بواجباته. واستهان بعض الناس بالمضاربة في الأسهم المحرّمة، فما بالك بالمختلطة؟! والبعض الآخر لا يرى وجودا لأسهم تتعامل بالحرام في سوقنا المالية، فكلها حلال، وكأن مجتمعنا سلم من كلّ العيوب والذنوب.
تذكر ـ يا عبد الله ـ عواقب أكل الحرام، ففي الدنيا الاكتئاب والقلق والضيق والأمراض النفسية والاجتماعية، وفي الآخرة قال : ((لا يدخل الجنة لحم ولا دم نبت من سحت، النار أولى به)). فعلى المؤمن أن يتّقي الله، ولا يعرّض نفسه وأهله لأكل الحرام والشبهة، فإنّ استجابة الله للدعاء مقرونة بأكل الحلال، قال : ((يا سعد، أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)).
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الصدقة تطهّر المال من الشبهات، قال سبحانه في قصة أصحاب البستان: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:17-20]؛ وذلك بسبب أنهم تعهّدوا أن لا يدخلنها عليهم مسكين، فمنعوا الصدقة، فاحترقت المزرعة. وقال : ((ما نقص مال من صدقة)) ، وقال : ((يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشُوبوه بالصدقة)). فالبركة تلتمس بالصدقة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله موزع أرزاق العالمين، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ، والحمد لله الذي كتب الأرزاق وقدرها في السماء، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الذي كان يدعو الله تعالى ويطلب منه السعةَ في الرزق، فكان يقول : ((اللهم ارزقني واهدني)) ، وكان يقول : ((اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني وانقطاع عمري)) ، وكان يقول: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)).
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتعلقوا بخالقكم لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون، إن الناظر في حال بعضنا مع الأسهم؛ إذا ربح في سهم ما وسّع الله عليه في رزقه ذلك اليوم نسي نفسه، ونسي قول الله: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وينسى قول الله: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةْ فَمِنَ اللهِ ، أما إذا خسر فتراه يولوِل ويهدّد ويزمجر ويطالب المسؤولين بالتدخّل لحمايته وتعويض خسارته، وينسى أن هذه الخسارة هي من ربحه في الاستثمار أو الاستقمار، وليست من رأس المال، ولا يحمد الله على ذلك أبدا.
تذكروا حديث الأبرص والأقرع والأعمى الذين ابتلاهم الله تعالى بكثرة المال، فجحَد الأبرص والأقرع نعمة الله، وأقرّ بها الأعمى، فقال له الملك: إنما هو ابتلاء، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
عباد الله، أشغلت المتاجرة بالأسهم البعض عن ذكر الله وعن أعمالهم ومسؤولياتهم وواجباتهم اليومية، في حين أثنى الله على فئة من الناس بقوله: رجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار. انتشرت ظاهرة تأخير صلاة المغرب عن وقتها أو التخلّف عن صلاة الجماعة في فرض المغرب أو جمعها مع العشاء أحيانا، انتشرت ظاهرة الخروج من العمل وزيارة صالات الأسهم بالبنوك، ألا ترى أن الرواتب قد نقصت فيها البركة أو ربما محقت بركتها تماما؟! ألم تضيّع الأمانة فمحقت بركة الرواتب؟! الجميع يتحدّث عن الأسهم، الرجال والنساء، الكبار والصغار، يتفنّنون في التحليل الاقتصادي صعودًا وهبوطا، الجميع وبقدرة قادر أصبح خبيرا اقتصاديّا ومحلِّلا ماليّا، ساعد في انتشار ذلك وسائل تقنيّة فاختلط الحابل بالنابل، فانتشرت الإشاعات والأقاويل والكذبات عن أسهم وشركات، وربما أكِّدَت بالأيمان المغلَّظة، والرسول يقول: ((من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله وهو عليه غضبان)). وهل تخلو هذه الأسهم من الاحتكار أو من الغش أو من النجش؟! ظواهر عديدة خرجت لنا وبقوّة مع ارتفاع شأن الأسهم؛ انتشرت ظاهرة الأقساط الشهرية فأصبح الإنسان رهنها، فما يستلم من راتبه إلا الشيء القليل؛ لأنه موزّع على من أقرضه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن حال المجتمع وهذا الوضع ينذر بخطر عظيم، فانتشار مثل ظاهرة الاستثمار أو الاستقمار وبهذا الحجم له آثار سلبيّة كبيرة، آثار سياسية واقتصادية واجتماعية لم يظهر منها على السطح إلا القليل. وراجعوا واقرؤوا التأريخ، واسألوا من حولنا من الدول المجاورة: كيف فعلت بهم الأسهم وبمجتمعاتهم صعودا وهبوطا؟ وخذوا العبرة والعظة.
ومما يؤسف له ما يحدث للبعض من وفيات نتيجةَ هبوط الأسعار، وصحيح أنه بقضاء الله وقدره وأنه مقدَّر عليهم، ولكن الأمر استفحَل، وظاهرة قد انتشرت، وما لم ينبر عقلاء ووجهاء المجتمع للمعالجة فإن الأمر ينبئ عن خطر عظيم وآثار سلبية كبيرة.
اللهم ارزقنا واهدنا، اللهم اجعل أوسع رزقك علينا عند كبر سننا وانقطاع عمرنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم أطب مطعمنا واجعلنا مجابي الدعوة، اللهم اجعلنا ممن يأخذ مالاً بحقّه فيبارك له فيه، اللهم لا تجعلنا ممن يأخذ مالاً بغير حقه فنكون مثل الذي يأكل ولا يشبع، اللهم لا تجعلنا من الذين لا يبالون بما أخذوا المال أمن حلال أم من حرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين...
(1/4632)
الفرج بعد الشدة: رؤية حول الأسهم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
17/2/1427
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلبات الدنيا. 2- أزمة سوق الأسهم. 3- من قصص تفريج الكروب. 4- فوائد الشدائد. 5- من درس الأزمة وعبرها. 6- خطورة الربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يومًا كدّرت أيامًا، وإن أضحكت أبكت، فلا تدوم على حال، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. فقر وغنى، عافية وبلاء، صحّة ومرض، عزّ وذل. وحيث لا يزال قلب ابن آدم شابًا في اثنتين: حب الدنيا وطول الأمل فقد طرأت على الناس أنماط تجارية لم يألفوها وقفزات في الأرصدة أطارت الأفئدة، زاد في الأزمة تأرجح في الموقف الشرعيّ، على أن الورعَ والسلامة لا يعدِلهما شيء.
أيها المؤمنون، لقد مرّ كثير من الناس بأزمة في سوق الأسهم كادت تعصف بهم، بل عصفت ببعضهم، وربما انجرَّ شرها إلى من هم حول الشخص المصاب كما سيأتي، وها قد جاء الفرج، فماذا بعد المصائب؟!
لقد قص الله سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكروب، فنجَّى نوحا ومن معه في الفلك، ونجّى إبراهيم من النار، وفدى ولده بذبح عظيم، ونجّى موسى وقومه من اليمّ، وقصّة يونس وقصص محمد عليه وعلى جميع الأنبياء المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم مع أعدائه، كقصة الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين.
يقول الضحاك بن قيس رضي الله عنه: "اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله تعالى، فلمّا وقع في بطن الحوت قال الله تعالى عنه: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]".
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن رزين أن النبي قال: ((عجب ربنا من قنوط عباده وقُرب غيِرَه؛ ينظر إليكم أزلين قنطين فيظلّ يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)).
إن الشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان يعلمها المؤمن في نفسه إلاّ تحت مطارق الشدائد، فالالتجاء إلى الله وحدَه حين تهتزّ الأسناد كلّها وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده، لا يجد سندًا إلا سنده، وفي هذه اللحظة تنجلي الغشاوات وتتفتّح البصيرة وينجلي الأفق، وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. من هنا يأتي الفرج، وعند المضائق يأتي دور الاستخارة وأهمّيتها، مع تقليل الاستشارة التي تذبذب القرار.
عباد الله، إنّ على المسلم العاقل أن لا يجعل من الأزمات سببًا لتوسيع دائرة المشكلة، ويجرّ إليها أسرته: زوجةً وأولادًا وأهلاً وأقارب، فيصبح جاهزًا لافتعال أيّ مشكلة بمجرّد قليل من الاستفزاز غير المقصود ممن حوله، فالمشاكل الأسريّة قنابل موقوتة وألغام مدفونة تثيرها الأزمات، فالحذر الحذر، وقد عاشت بعض الأسر شيئا من الأذى بلا ذنب.
وإن من الدروس والعبر التي يقطفها الفطناء ويستقيها أولو الألباب من كوارث الدهر أن لا يجعل البيض في سلّة واحدة، وليضرب من كلّ غنيمة بسهم، وكما هو التنويع في الأعمال الصالحة والقرب يكون ذلك في الجانب المادّي أيضا، وكذلك التنويع في المهن والنواحي الاجتماعية حتى في الأصدقاء، فصديق للاستشارة، وآخر للمناصحة، وثالث ملاذ بعد الله في الأزمات، وبهذا تكتمل شخصيّة العاقل بتنوّع المؤثّرات من حوله ما لم يجنِ ذلك على التخصّص والتميز في فنٍّ يليق به.
عباد الله، أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي غرز عودًا بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعد، فقال: ((أتدرون ما هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا الإنسان، وهذا الأجل ـ أراه قال: ـ وهذا الأمل، فيتعاطى الأمل، ويختلجه الأجل دون الأمل)). قال علي رضي الله عنه: (إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصدّ عن الحق). كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
وإن من الدروس التي يستفيدها الإنسان أن لا يبالغ في الأمل والخيال كما لا يبالغ في اليأس والقنوط، ومتى فرح الإنسان بنعمة وهبها الله له فليتذكر أصحاب المآسي والمصائب من حوله حتى يعتدل فرحه.
إن فرح الإنسان للآخرين حتى كأنّه يعيشه هو فرح له يعوّضه عن الخسائر، ويقضي على ضغناء القلوب وحسدها والفرح والشماتة بمصائب الآخرين، ويدفعها إلى الاستبشار بالخير سواء وقع في يدك أو يد أخيك، وبهذا تطيب للمستبشرين، حين تحبّ لأخيك ما تحب لنفسك كما هي صفات المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: عباد الله، الربا شحّ وقذارة ودنس وأثرة وفردية، ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا. والبشرية الضالّة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة جراء هذا النظام الربوي؛ في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، فالله تعالى مالك الكون، استخلف الجنسَ الإنساني في هذه الأرض، ومكّنه مما ادخر له فيها من أرزاق على عهد منه وشرط، ولم يترك له الأمر فوضى، وإنما في إطار من الحدود الواضحة، منها أن يلتزم في تنمية أمواله وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، يقول الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، ويقول سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، فما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادَة وطمأنينة، وقد ترى العين هذا في ظاهر الأمر، لكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيّب الآمن بهذه الموارد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، وقال: ((هم سواء)) أخرجه مسلم وأحمد.
لقد ترك الله لآكل الربا ما سلف إن هو تاب، وحثّه على التوبة، وأوكل ذلك إلى إيمانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، حرب رهيبة معروفة المصير مقرّرة العاقبة، فأين الإنسان الضعيف الفاني من هذا الوعيد؟!
ألا وإن الاحتيال على الربا لا يقلّ خطورة عنه، بل الاحتيال صفة من صفات اليهود الذين ذمّهم الله عليها في كتابه، بل جعل عاقبة أصحاب السبت أن مسخهم قردة خاسئين بسبب تحايلهم وعدوانهم، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]. فرصدوا شباكهم يوم الجمعة ليقع فيها صيدُ السبت، ثم أخذوها يوم الأحد وقالوا: لم نصِد يوم السبت، قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:65، 66]، ويقول : ((قاتل الله اليهود، لما حرّم الله عليهم شحوم الميتة جملوه ـ أي: أذابوه ـ ثم باعوه ـ ودكًا ـ فأكلوا ثمنه)) متفق عليه.
إن الحيلة على الأمور المحرّمة لا تقلبها حلالاً؛ بل تزيدها شدة وقبحًا. وفي الربا تكريس البطالة وفيض المال بلا عناء والزهد بالعمل الجادّ المثمر وإغلاق أبواب التجارة المادية الملموسة إلى معنوية رقمية وهمية مغشوشة.
أيها المسلمون، إن وقوع المصائب المادية والكوارث الاقتصادية محطات يحاسب المرء فيها نفسه عن مصداقية التكسب وشرعية التعامل والإجمال في الطلب, ولا يخفى على كلّ مسلم أن طيبَ المكسب سبب لإجابة الدعاء، وأيما جسَد نبت من سحت فالنار أولى به.
عباد الله، لكل تجارة ومهنة فنّ وتخصّص وأصول تجري عليها، فالتجارة العشوائية التي يدخل فيها المستثمر دون أي استعداد سابق يتم فيه تعلم أصولها وقراءة واقعها ومتغيراتها مؤشر كاف لخسارة المال. فهل يُعنى المستثمرون الجدد في سوق الأسهم بأخذ دورات في فنونه قبل الخوض في مغامراته المُرَّة؟! وما مدى مسؤولية الجهات المختصّة في تثقيف الناس وبيان خطورة الخوض في ميدانها دون سابق علم ونشر ثقافة التعامل مع متغيراتها والتحلي بأخلاقياتها؟! عسى أن تسموَ كلّ جهة بحماية مرتاديها والحيلولة دون ابتزاز الأقوياء للضعفاء والأذكياء للمغفَّلين، وقد قال رجل للنبي : إني إذا بايعت غُلبت لعدم فقه التجارة أو الخرق فيها، فقال : ((إذا بايعتَ أحدا فقل: لا خلابة)).
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4633)
وفاة الملك فهد بن عبد العزيز
فقه
الجنائز
محمد بن علي القيسي
تبوك
جامع صلاح الدين الأيوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصيدة في رثاء الملك فهد. 2- فضل الولاة العادلين. 3- المؤمنون شهود الله. 4- مشهد جنازة الملك فهد. 5- منكرات وسائل الإعلام عند وفاة الملوك. 6- صلاة الجنازة على الغائب. 7- واجب البيعة وكيفيتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
مَضَى عَنْكِ يَا دُنْيَا نَبِيٌّ وَمُرْسَلُ وَكلُّ عِبَادِ اللَّهِ للهِ رُحّلُ
قَضَى اللهُ أن َلاَّ خُلْدَ إلاّ لِوِجْهِهِ وَكلٌّ لَهُ في سَاحَةِ المَوْتِ مَنْزِلُ
هوَ المَوْتُ فتّاكٌ عَلى حِينِ غَفْلةٍ وَمَا للمَلا عَنْ وِرْدِهِ مُتَحَوّلُ
أَيَا فَهْدُ قَدْ شُيّعتَ فِي سُننِ الْهُدَى مَضَى أوّلٌ منَّا عَليْهَا فأوّلُ
جِنَازَتُك السُّنيّةُ اليَومَ عِبْرةٌ يُجَلّلُهَا الإيمَانُ والدَّمعُ مُسْبَلُ
تُظَلِّلُها سُحْبُ الخُشُوعِ كأنَّهَا مَوَاعِظُ يَتْلُوهَا الرَّدى الْمُتَرَجِّلُ
تَسِيرُ عَلى الأكْتَافِ مِثْلَ غَمَامةٍ وَخَلفَكَ مِنْ شَوْقِ المُحبّينَ جَحْفَلُ
فللّهِ كَمْ فَاضَتْ عَلَيْهَا مَدَامِعٌ وَأشْجَانُها للحُبِّ والبِرِّ مَحْفَلُ
وَمَا شَابَهَا فينَا غُلُوٌ وَبِدْعَةٌ وللوَحْي فِيَهَا مَشْهَدٌ مُتَسَلْسِلُ
وَمَا قُرِعَتْ فِيهَا طُبُولٌ ومَا جَرَتْ خُيُولٌ وهَدْيُ اللهِ أَزْكَى وأَجْمَلُ
وَمَا نُصِبتْ فِيَهَا قِبَابٌ وَمَرْمَرٌ وإنَّ عَطَاءَ اللهِ للعَبْدِ أَجْزَلُ
وَمَا جُصّصَ القَبْرُ الوَطِيُّ وإنمَا يَسُرُّ الفَتَى في القَبْرِ مَا كانَ يَعْمَلُ
رَحَلْتَ وللبَيْتَينِ بَعْدَكَ أَمْنَةٌ يَؤمُهُمَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ مُؤَمِّلُ
رَحَلْتَ وللدَّاعِينَ للهِ حُظْوَةٌ وهُمْ فِي دَيَاجِينَا سِرَاجٌ وَمِشْعَلُ
رَحَلْتَ وللآراءِ حَوْلَكَ مَجْمَعٌ وَلِلحَالِ إِصْلاحٌ هُنَا وتَجَّمُّلُ
ففي ذِمَةِ الرَّحْمَنِ جُوْدًا وَرَحْمَةً لَهُ الأَمْرُ جلَّ المُنْعمُ المُتَفَضِّلُ
وَقَفْنَا نُدَارِي فِي العَزَاءِ قُلُوبَنَا وفي البَيْعَةِ العَصْمَاءِ نَرْجو ونَأملُ
نُبَايعُ عَبْدَ اللهِ سَمْعًا وَطَاعَةً مَليكًا بإذن اللهِ نِعْمَ المُؤَمَّلُ
حَمَلتَ لِوَاءَ العَهْدِ في الدَّهرِ حِقْبَةً وَحِمْلُكَ فِينَا اليومَ أعْتَى وَأَثْقَلُ
معاشر المسلمين، لقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم، وكتب أعمارهم وأعمالهم، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً [آل عمران:145]، والموت مصيبة عظيمة وجرعة مُرّة، كل سيتجرعها يومًا، سواء كان عزيزًا أو وضيعًا، صغيرًا أو كبيرًا، وإنما يتنافس الناس في أعمالهم الصالحة وما يزرعونه في دار الدنيا ليحصدوه في الآخرة، وخير الناس من طال عمره وحسن وعمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
ولقد قسم الله رحمته بين عباده وجعلهم في مقامات متفاوتة ليتخذ بعضهم بعضًا سِخريًا، فمنهم الصغير والكبير، ومنهم الغني والفقير، ومنهم المرؤوس والرئيس، وهذا تفضيل حقيقي لبعضهم على بعض. وأجَلُّ الناس قدرًا وأعظمهم أجرًا عند الله الولاة المقسطون لقول النبي : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) رواه مسلم وغيره. وما نالوا هذه المنزلة الرفيعة إلا لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل وجلب المصالح، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مظالم كثيرة، أو يجلب بها مصالح كثيرة، فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة كان له أجرٌ بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة وما زجر عنه من المفاسد، ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتها.
وفي المقابل فإن ولاة السوء من أعظم الناس وزرا، وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام، وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم وأكثر، على حسب عموم تلك المفسدة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين.
وإذا علم هذا فإن الناس شهود الله في أرضه، وهم الذين يشهدون على ملوكهم بعد موتهم عندما لا يرجونهم ولا يرهبونهم، فإذا شهدوا لهم بالخير والعدل والدفاع عن حوزة الدين وحياطته والوقاية لجانب العرض وحمايته والقيام على الحرم الشريف وخدمته والاهتمام بكتاب الله وطباعته، إذا شهد لهم بكل هذا رجي لهم الخير في الدنيا والآخرة؛ لأن النبي لما مر عليه الصحابة بجنازة أثنوا عليها خيرًا فقال النبي : ((وجبت)) ، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: ((وجبت)) ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)) رواه البخاري وغيره.
ومن علامات الخير لهم محبة الناس لهم وحزنهم لفراقهم، قال رسول الله في حديث عوف بن مالك الأشجعي: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
معاشر المسلمين، ولكن هذه المبشرات الخيِّرة لا تجيز لنا أن نحكم للأموات أو نشهد لهم بجنة أو نار كما تفعل بعض وسائل الإعلام، فإن النبي كان ينهى عن ذلك؛ لأنه من التكلم في الغيبيات، فعن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: اقتُسِمَ المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوجِع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي : ((وما يدريك أن الله أكرمه؟)) فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: ((أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي))، قال: فوالله، لا أزكي أحدًا بعده أبدًا. رواه البخاري وغيره.
معاشر المسلمين، لا تزال الأمة بخير ما رفعت كتاب الله وأعلت من مقام سنة رسول الله وفق فهم سلفنا الصالحين، ونحن نحمد الله في هذه البلاد المباركة أن هيأ لنا من يعاهدنا على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله، ويجعل الإسلام دستورًا وحيدًا في البلاد، ويحمي جناب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فهذه نعمة من أجل النعم التي نحمد الله عليها حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
وإن من معالم ذلك ما شاهده العالم في الصلاة على الجنازة ودفنها على سنة رسول الله ، محمولة في نعش من المستشفى يحمل عليه جميع الناس، ثم قبرت في قبر من قبور المسلمين لا يتميز بشيء، حتى استغرب ذلك الإعلاميون في القنوات العالمية وظنه البعض عادة لنا، ولم يعلموا أنه دين ندين الله به، فالقبر لا يجصص، ولا يبنى عليه، ولا يحجب عنه أحد، ولا تقرأ عليه الفاتحة، ولا توضع عنده الزهور، ذلك أن النبي نهى عن الغلو في القبور بالتجصيص والبناية عليها، ونهى عن الجفاء فيها بالقعود أو التخلي عليها، وقد رأينا في جنائز الملوك من حولنا وقريبًا من دارنا ما يبنى عليها، وما تزخرف به وما يلقى عليها من الورود، وهذا من أعظم وسائل الشرك؛ لأن من يزوره في عصره يزوره كما يزور الأموات دون توسل ولا هتاف باسمه حتى ينقرض من يعرفه فيأتي من بعدهم فيجد قبرًا قد شيد عليه البناء وأرخيت عليه الستور وألقيت عليه الزهور فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع، وقد نص قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالإجماع على تحريم التعرض للمقابر، لا بتشجيرها، ولا بإنارتها، ولا بأي شيء من أنواع التجميل؛ لأن ذلك يصرف عن الاتعاظ والاعتبار، ويقوي جوانب الاغترار بالدنيا، وينافي الحكمة من زيارة القبور، وهو تذكير الآخرة والتزهيد في الدنيا.
معاشر المسلمين، وقد جرت عادة الكثير من الدول الإسلامية في هذا العصر بالأمر بالإحداد على من يموت من الملوك والزعماء لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر مع تعطيل الدوائر الحكومية وتنكيس الأعلام، ولم نر شيئًا من ذلك بحمد الله في هذه البلاد؛ لأنه أمر مخالف للشريعة المحمدية، وفيه تشبه بأعداء الإسلام، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله تنهى عن الإحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرًا، كما جاءت الرخصة عنه للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل، أما ما سوى ذلك من الإحداد فهو ممنوع شرعًا، وليس في الشريعة الكاملة ما يجيزه على ملك أو زعيم أو غيرهما، وقد مات في حياة النبي ابنه إبراهيم وبناته الثلاث وأعيان آخرون فلم يحد عليهم عليه الصلاة والسلام، وقتل في زمانه أمراء جيش مؤتة: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم فلم يحد عليهم، ثم توفي النبي وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيد ولد آدم والمصيبة بموته أعظم المصائب ولم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم، ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحدوا عليه، ثم قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم، وهكذا مات الصحابة جميعا فلم يحد عليهم التابعون، وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من علماء التابعين ومن بعدهم فلم يحد عليهم المسلمون، ولو كان خيرًا لكان السلف الصالح إليه أسبق، والخير كله في اتباعهم، والشر كله في مخالفتهم.
ومن وسائل الإعلام عند وفيات الملوك من يبث تلاوة لكتاب الله عز وجل ويمتنع عن مبارزة الله بالمعاصي في فترة معينة، وهذا من الإحداد غير المشروع، وكان عليهم أن يمتنعوا عن مبارزة الله بالمعاصي في كل حين وآن، وأن يعطوا كتاب الله حقه في كل الأوقات، ولا يجعلوه شعارًا للموت ونحوه؛ لأنه كتاب يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا.
معاشر المسلمين، وتروج المناهي اللفظية عند كثير من الإعلاميين في مثل هذه المواقف، فمنهم من يعبر بالانتقال إلى المثوى الأخير، مع أن القبر هو أول منازل الآخرة، ويعرف ذلك كل من يؤمن باليوم الآخر، ولكن العبارة تنتشر عند بعضهم دون فهم لمعناها، وبعضهم يتجرأ فيحكم بالجنة للميت أو يهنئه بدخولها، ومنهم من يجزم بمغفرة الذنوب فيعبر بالمغفور له، والصواب أن يدعو له بالمغفرة والرحمة دون جزم بأنه مغفور له، فإن الدعاء للميت أنفع له من بيان أنه مغفور له أو ليس مغفورًا له.
معاشر المسلمين، والصلاة على الميت إنما هي دعاء له، ولا يشترط أن تكون الجنازة ماثلة أمام المصلي، وقد صلى النبي على النجاشي في اليوم الذي مات فيه صلاة الغائب، ولم يرد ما يخصص الجواز بأن يكون الغائب خارجًا عن البلد، أو يبعد مسافة قصر، أو أن يكون الغائب لم يصلِّ عليه أحد؛ فتجوز الصلاة على الغائب ولو كان في المدينة نفسها إذا وجد سبب لذلك، كما حصل من خوف التزاحم وعدم كفاية الأماكن، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
نسأل الله أن يغفر لولي أمرنا المتوفى، وأن يجعل في خليفته خير خلف لخير سلف، ونسأل الله أن يعين من تحمل الأمانة على حملها، وأن يوفقه للسير فيها بالسيرة الحميدة والطريقة المستقيمة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن أكثر شعائر الدين لا يمكن أداؤها على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة تحكم بالإسلام وتنفّذ شريعته كالزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وقد عمل النبي على تحقيق هذه الغاية وهو في مكة حتى هاجر إلى المدينة وأنشأ الدولة الإسلامية، ولا يمكن أن تقوم الدولة الإسلامية بلا إمام وحاكم يديرها، فيجب على المسلمين تنصيب إمام عليهم، وهذا بإجماع العلماء، قال شيخ الإسلام: "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتمّ مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمّ ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة".
وإذا علمت منزلة الإمامة والإمارة من الدين فليعلم أنها لا تتم شرعًا دون عقد البيعة، فالعلاقة بين الأمة والإمام تقوم على أساس عقد بين طرفين تكون الأمة فيه هي الأصيل والإمام هو الوكيل عنها في إدارة شؤونها، فالحكم والسلطة ليسا بالتفويض الإلهي، وليسا بالحق الموروث، بل بعقد البيعة بين الأمة والإمام، وبهذا سبق الإسلام الغرب في تحديد الأساس الذي يتم بموجبه ممارسة الحاكم لصلاحياته، حيث يتنازل أفراد المجتمع عن بعض حرياتهم وحقوقهم مقابل تنظيم شؤونهم وإدارتها بما يحقق المصلحة للجميع، وقد عقد النبي مع أهل المدينة بيعتين مختلفتين: أما البيعة الأولى فهي على الإيمان بالله وعدم الإشراك به وطاعته، وأما البيعة الثانية فهي على إقامة الدولة الإسلامية والدفاع عنها، وعلى هذا الأساس المتمثل في عقد البيعة قامت الدولة الإسلامية في المدينة، فلم يدخلها النبي بانقلاب عسكري ولا بثورة شعبية، وإنما بعقد وتراض وهو البيعة، وهذا المنهج الشرعي في تنصيب الإمام، وهو الذي حصل في هذه البلاد بحمد الله، ونحن نحمد الله عز وجل على ما يسر من انتقال الحكم بيسر وسهولة دون خلاف ولا شقاق كما يحدث في كثير من الدول التي تضطرب بموت ملوكها وتستشرف جميع النفوس للحلول في منصبه، وينشغل جميع الناس بهذا الأمر وتسيل الدماء وتثور الدهماء لأجله؛ لأن طرقهم ما أنزل الله بها من سلطان.
إخوة الإسلام، والبيعة المباشرة باليمين يقوم بها أهل الحل والعقد وهم العلماء والأمراء، والناس لهم تبع، وتكون على السمع والطاعة على كتاب الله وسنة رسوله ، وهذه المصافحة بيعة على ميثاق غليظ، وحكمها ومعناها عام لازم للرعية كلها، من باشرها بمصافحة يمينه وصفقة يده فقد أعلن وباشر، ومن لم يمكنه ذلك فعليه أن يعقد قلبه على ما بايعت عليه جماعة المسلمين ليدخل بقلب سليم في مضمون حديث النبي : ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) ، وأن يعتقد البيعة ودخوله فيها ولزومها له بما عهد به النبي إلى أصحابه في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق حيثما كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم). وفي ذلك عصمة ومنجاة من الوعيد المضمن في قوله : ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)).
ولذا فإن استبطان عقد البيعة ينبغي أن يكون مستكنًا بإخلاص في ضمير كل مسلم في هذه البلاد اتباعًا لمنهاج النبوة وملازمة لجماعة المسلمين ونصحًا لولاة أمرهم، مع صادق الدعاء أن يجمع الله الكلمة على الحق، وأن يوفق ولاة الأمر لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ويبعد عنهم بطانة السوء.
اللهم اغفر لعبدك فهد بن عبد العزيز آل سعود وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم جازه بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وصفحًا وغفرانا، اللهم انقله من ضيق اللحود ومراتع الدود إلى جنات الخلود...
(1/4634)
بين الشكر والصبر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
2/3/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلب المؤمن بين الشكر والصبر. 2- صبر السلف الصالح وشكرهم لله تعالى. 3- نتيجة صبر السلف. 4- قلة الصبر والشكر في الناس. 5- وعيد جريمة الانتحار. 6- فضل التسليم لأمر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، فإنَّ التقوى خير زادٍ ليوم المعاد.
أيّها المسلمون، دَيدنُ المؤمن الحقّ وسِمَته التي يمتاز بها ونهجُه الذي لا يحيدُ عنه شكرٌ على النّعماء وصَبر على الضراء، فلا بَطَرَ مع النعَم، ولا ضَجر مع البلاء، ولِمَ لا يكون كذلك وهو يتلو كتابَ ربه الأعلى وفيه قوله سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وفيه قولُه عزّ اسمه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقولُه سبحانه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، إلى غير ذلك من الآياتِ الكثيرة الدالّة على هذا المعنى.
وبيَّن رسول الله جميلَ حال المؤمن في مقامِ الشكر والصبر وكريمَ مآله، فقال: ((عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابَته سرّاء فشكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له)) أخرجه مسلم في صحيحه. فالعَبد ما دام في دائرة التكليف فمِناهج الخير مُشرَعَةٌ بَين يديه، فإنّه متقلّبٌ بين نِعمةٍ وَجب شُكرُها ومُصيبة وجَب الصبر عليه، وذلك لازمٌ له في كلِّ أشواط الحياة.
ولقد كان للسَّلف رضوان الله عليهم أوفَرُ الحظّ وأروع الأمثال في الشّكر والصبر، ممَّا جعل منهم نماذجَ يُقتَدَى بها ومناراتٍ يُستَضاء بها وغاياتٍ يُنتهَى إليها في هذا البابِ، حيث كان لهم في صدرِ الإسلام وقفاتٌ أمام صولةِ الباطل وما نالهم منه من أذى ونكال وما صبَّ عليهم هذا الباطل من عَذاب، فلم يزِدهم الأذى والنّكال والعذاب إلا صبرًا وثباتًا على الحقّ وصمودًا وإصرارًا على مقارعةِ المبطلين.
وكان رسول الله يشحَذ عزائِمَهم ويحفز هممَهم إلى لزومِ الجادّة والاستمساك بالهدى وعدَم الحيدة عن صراطِ الله مهما اعترَض سبيلَهم من عوائق ومهما نزلَت بهم المحن ونجمَتِ الخطوب، فلمّا سأل خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه حين اشتدّ عليه وعلى أصحابه الأذى، حين سألَه أن يدعوَ لهم ويستنصرَ لهم، قال صلوات الله وسلامه عليه: ((لقد كان من قَبلكم يؤخَذ الرجل فيحفر له في الأرض حفرة، فيجعَل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضَع على رأسه فيجعَل نصفين، ويمشَط بأمشاطِ الحديد ما دونَ لحمه وعَظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه)) أخرجه البخاري في صحيحه.
وأورثهم ذلك تمكينًا في الأرض وعزًّا وانتصارًا تهاوَت معه عروش الأكاسرَة والقياصِرة تحت أقدامهم، فكانت لهم الحياة الطيّبةُ التي كتَبها الله لهم كِفاءَ ثباتهم وصبرهم وشكرِهم على ما خوّلهم ربهم من وافرِ النِّعَم وكريم الآلاء.
ثم خلف من بعدهم خلفٌ فَتّ في عضدهم صروفُ الدهر ونوائب الأيام، ونالت من عزائِمهم وحادَت بهم عن الجادّة مضلاَّت الفِتن، فإذا هم لا يعرَفون بشكر إزاءَ نِعمة، ولا بصبرٍ أمام محنةٍ، فهم داخلون فيمن وصف سبحانه واقعَه بقوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
فترى منهم الذي يجوِّز على الله الظلمَ في حكمه ويتَّهمه في عدلِه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لا حديثَ له في غير الاعتراض على ربِّه أن أغنى فلانًا أو أفقرَ فلانًا أو رفَع هذا ووضَع ذاك، وربما قال: لِمَ هذا يا ربّ؟! وكأنّه يتغافل أو يغفل عن قوله سبحانه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، وعن قوله عز من قائل: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وترى منهم من استولى عليه اليأسُ واستبدَّ به القنوط، فحين تنزل به نازلة أو تؤرِّق ليلَه مشكلةٌ أو تثقل كاهِلَه ديونٌ أو يصاب بخسارةٍ ماليّة في صفقة عقَدَها أو أسهمِ شركة أو مؤسَّسَة اكتتبَ فيها أو حكِمَ عليه بحكمٍ في قضية أو مُنِيَ بفشل في حياته الزوجيّة أو فَقدَ حبيبا في سقوطِ طائرة أو غرق سفينة أو حادثِ سَير فربما مضى مندفِعًا بقصدِ وضع حدٍّ لشقائِه في زعمِه ونهايةٍ لمتاعبه وآلامه، ويتبعُ خطوات الشيطان، ويقَع فريسةً لتزيِينه وتسويله، ويقتل نفسَه، ويتجرَّع كأس الموت بيده، إمّا بشنقٍ أو باحتساءِ سمٍّ أو بالتردّي من شاهق أو بغير ذلك من الوسائل، ولا يكون من وراء ذلك إلا غضَب الله سبحانه وسخَطه وأليم عقابه؛ إذ ظنَّ هذا أنّه بقتل نفسه يفضِي إلى عيش لا نغصَ فيه وحياةٍ لا كَدَر فيها، لكن الله تعالى بمقتضى عدله وحكمته عامَله بنقيض مقصودِه، فأعدّ له عقابًا من جنس عمله، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ((من قتل نفسَه بحديدة فحديدتُه في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها أبدًا، ومن شرب سمًّا وقَتل نفسَه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقَتل نفسَه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلَّدا فيها أبدا)) ، وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((كان فيمن كان قبلَكم رجلٌ به جُرحٌ فجزِع، فأخذ سكّينًا فحزّ بها يدَه، فما رَقأ الدّم حتى مات، فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسِه، حرّمتُ عليه الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وإنه ـ يا عبادَ الله ـ لوعيدٌ تقضّ له مضاجعُ أولي النهى وتهتزّ له أفئدة أولي الألبَاب، فأيُّ وعيدٍ وأيّ حِرمان أعظم من هذا الوعيد وهذا الحرمان؟!
فاتّقوا الله عبادَ الله، واقطعوا أشواطَ الحياة بإيمان راسخٍ ويقين ثابتٍ وتوكّل على ربّكم الأعلى وتسليمٍ له وإنابةٍ إليه وتصدِيق بأن كلّ قضاءٍ يقضي الله به ففيه الخير لعبده عاجلاً كان ذلك أو آجلا، فإنّه سبحانه أرحم بعبادِه من الأمّ بولدها، وأعلَمُ بما ينفعُهم على الحقيقةِ ممّا يضرُّهم، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
واذكروا أنَّ من آياتِ الإيمان الصبرَ على البلاء والشكرَ على النعماء، وصدَق سبحانه إذ يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابهِ وبسنّة نبيِّه ، أقول قَولي هَذَا، وأَستَغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هوَ الغَفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمَده ونستَعينه ونَستغفِره، ونَعوذ بالله مِن شرورِ أنفسِنا وسيِّئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلاَ مضلَّ لَه، ومَن يضلِل فلا هادِيَ له، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريك لَه، وأشهَد أنَّ محمّدًا عَبده ورَسوله، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبك ورسولك محمد، وعلى آله وصَحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، جاء في تفسير قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، جاء في تفسيرِها قولُ بعضِ السّلَف: "هو العبدُ تصيبه المصيبةُ فيعلَم أنها من عند الله فيرضَى ويسلّم".
إنّه ـ يا عباد الله ـ معيارُ الإيمان الصادِق الذي لا يتزلزَل واليقينِ الكامل الذي لا تُضَعضِعه صروف الدّهر وفواجعُ الأيام.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدَّوام أنَّ الله تعالى قَد أمَركم بالصّلاةِ والسّلام على خير خلقِ الله محمد بن عبد الله، فقال سبحانه في كتاب الله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عَبدِك ورَسولِك محَمَّد، وَارضَ اللَّهمَّ عَن خلَفائهِ الأربعة...
(1/4635)
نحن والكافرون
الإيمان
الولاء والبراء
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
خميس مشيط
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتن الشبهات. 2- الهجوم على عقيدة الولاء والبراء. 3- منهج المسلمين. 4- تعريف الولاء والبراء. 5- الولاء والبراء من أصول الإيمان. 6- عدم تعارض الولاء والبراء مع السماحة والرحمة. 7- الواجب تجاه تيارات التمييع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عنوان موعظة هذا اليوم: نحن والكافرون.
إن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها، في هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل.
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة وبالغ في تصويرها محبّي الشهرة والبروز عقيدةُ الولاء والبراء.
ازداد الأمر خطورةً عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطًا أو تفريطًا، وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات.
نحن المسلمون أصحابُ دين ومنهج، ربنا وخالقنا هو الله، ونبينا وقدوتنا محمد.
نحن المسلمون أصحاب عقيدة صافية تدَكدِك كلَّ معلم أو إشارة تنبئ عن الميول والروغان عنها.
نحن المسلمون لا ينقطع بنا الدّرب، ولا يفوتنا الركب، ولا تنهار بنا القوى، ولا تيبس لدينا أوراق الهدى.
نحن المسلمون أنصار الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة مهما علا صوت الباطل، ومهما ظهرت نواقيس العداء.
نحن المسلمون خرج منا علماء ربانيون، أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كلّ التائهين، وهدوا كلّ الحائرين، وتميّز في صفنا علماء جهابذة في العلوم الطبيعية والعلوم التقنية وفي العلوم الأخرى.
نحن المسلمون رزقنا الله بالتوحيد الخالص الذي نوّر الله به كلّ أفقٍ وبقعة في هذه الديار، فازدهرت الأرض به بعد قحْط، وارتوت به بعد ظمأٍ وهَلكة، وأنقذ الله به عبادَه من ظلمات الجهل والشرك والتذلّل لغيره سبحانه. وكان ذلك على يد الإمام المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعاونه على ذلك ويشدّ أزره الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى.
نحن المسلمون أصحاب لا إله إلا الله، نرجو بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
نحن المسلمون مصابون بدعاةٍ من بني جِلدتنا يهاجموننا ويغزوننا في الصميم، ويتعرّفون على نقاط الضعف فينا؛ حتى يؤصّلوا في مجتمعاتنا الولاء للكافرين والبراء من الصالحين. ونحن واجبٌ علينا أن نقدِّرَ لهذا التحدي قَدْرَه، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة لعقيدة الولاء والبراء.
نحن المسلمون لا يخفى علينا أن الولاء والبراء محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ كل دين أو مذهب.
وعلى هذا فالولاء شرعًا هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين. والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى من الأصنام الماديّة والمعنويّة كالأهواء والآراء، وبُغْضُ الكفر بجميع ملله وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه. هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام.
فهو معتقدٌ قلبيٌّ، لا بُدّ من ظهور أثره على الجوارح كباقي العقائد التي لا يصحّ تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِها. وعلى قَدْر قوّة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة، وعلى قَدْرِ ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة، فإذا زال هذا المعتقد من القلب بالكلية زال معه الإيمانُ كُلّه.
يقول فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء: "فمن أصولِ العقيدةِ الإسلاميةِ أنَّه يَجبُ على كلِ مسلمٍ يَدينُ بهذه العقيدةِ أنْ يواليَ أهلهَا ويعاديَ أعداءَها، فيحبُ أهلَ التوحيدِ والإخلاصِ ويواليهِم، ويُبغِضُ أهلَ الإشراكِ ويعاديهِم، وذلك من ملةِ إبراهيمَ والذين معه الذين أُمِرْنَا بالاقتداءِ بهم، حيث يقولُ سبحانه وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]. وهو منْ دينِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. وهذه في تحريمِ موالاةِ أهلِ الكتابِ خصوصًا، وقال في تحريمِ موالاةِ الكفارِ عمومًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]. بل لقد حرَّم على المؤمنِ موالاةَ الكفارِ ولو كانوا من أقربِ الناسِ إليه نَسَبًا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [التوبة:23]، وقال تعالى: لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]" انتهى كلامه حفظه الله.
واسمع إلى هذه الآيات التي تُنبِّهُ بمطالبة المؤمنين بعدم موالاة اليهود والنصارى، وذلك لأن اليهود لا يوالون إلا اليهود، وأن النصارى لا يوالون إلا النصارى، وأنهم جميعًا يتبرؤون من المسلمين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
وقد يشكك المرجفون بأن عقيدة الولاء والبراء تمثّل العنف وتمثّل الصورةَ المشوهة للإسلام، ولا شكّ في أنها إحدى أُسُس الدّين الإسلامي العظام، وهذا يعني أنّها لا بُدّ أن تصطبغ بصبغة الإسلام الكبرى، وهي الوسطيّةُ والسماحة والرحمة، فقد قال الله تعالى عن نبيّه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
فالولاء والبراء ما دام أنه من الإسلام فهو وَسطٌ وسَمْحٌ ورحمة، لا يشك في هذه النتيجة مسلم ولا غير مسلم إذا كان منصفًا.
ومع ذلك فلا بُدّ من بيان عدم تعارض معتقد الولاء والبراء مع مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة، وذلك يظهر من خلال تعامل الرسول وأصحابه مع الكفار.
وهذا مثال على سماحة منهج الرسول وعلى عدم تعارض معاملته في عقيدة الولاء والبراء:
عن أبي رافع رضي الله عنه ـ وكان قبطيًّا ـ قال: بعثتني قريشٌ إلى رسول الله ، فلما رأيت رسول الله أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا. وهذا يدل على حسن تعامل الرسول.
وهذا مثال آخر:
قال الرسول : ((من قَتَل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري، وقال : ((أيُّما رجلٍ أمنَ رجلاً على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتولُ كافرًا)).
ولمّا أهدى النبيُّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه حُلّةً ذاتِ قيمة أهداها عمر رضي الله عنه أخًا له بمكة كان مشركا. رواه البخاري.
قال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
وبيان عدم تعارض تلك الآداب مع الولاء والبراء أن تلك الآداب إذا أردنا أن تكون شرعيّةً محبوبةً لله تعالى فيجب أن نلتزم بها طاعةً لأمر الله تعالى وأمر رسوله ، مع بُغض الكفار لكفرهم، ومع عدم نُصرة غير المسلمين على المسلمين، فنحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أُمرنا به. فهل يعقل أولئك الذين لا يفقهون في دين الله عز وجل؟! ولو عقل أولئك كتاب الله وسنته كما عقلوا العلمانية والليبرالية والديموقراطية لسلمت أمة الإسلام من حقارة أفكارهم ودناءة فهمهم للكتاب والسنة.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العلي العظيم، المنان الكريم، الواسع الحكيم، الرؤوف الرحيم، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، أرسل إلينا محمدا بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وكل من على منهجهم سار.
مما يجب علينا ـ أيها المسلمون ـ تجاه تيارات الإفساد التي تنفث تذويب هذه العقيدة مع إظهار اللباقة والسماحة في أساليبهم ما يلي:
1- وجوب ترسيخ معتقد الولاء والبراء بين المسلمين على الوجه الأكمل؛ لأنه بغيره لن يبقى للمسلمين باقية، فهو سياجُ أمانهم من الذوبان في الأديان والعقائد الأخرى.
2- وجوب تفقيه المسلمين بحقيقة الولاء والبراء، وأنه لا يُعارضُ آدابَ التعامل بالرفق واللطف المنضبطَين بالضابط الشرعي مع غير المسلمين.
3- ضرورةُ التأكيد على عدم تعارض الولاء والبراء مع سماحة الإسلام ورحمته ووسطيّته، ونَشْرُ ذلك في وسائل الإعلام المختلفة.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله...
(1/4636)
الصراط
الإيمان
اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/12/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البعث من القبور ثم الحشر ثم العرض والحساب والمناقشة ثم يُضرب الصراط ليَمُرّ الناس عليه 2- صفة الصراط وحال الناس عند عبوره 3- مكانة الأمانة والرحِم في ذلك الوقت. 4- حال المنافقين عند مرور الصراط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إذا كان يوم القيامة بُعث الناس من قبورهم، ويكون ذلك بالنفخ في الصور، يأمر الله جل جلاله إسرافيل فينفخ، فيقوم الناس لرب العالمين، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
فإذا قام الناس من قبورهم بدأ الحشر، يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85، 86]، وْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا [طه:108] فلا تسمع إلا همسًا من هول الموقف وخوف الناس من المصير الذي سيؤولون إليه.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97]، قال رجل: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟! قال: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!)).
قال رسول الله : ((يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)).
فيقف الناس في الموقف في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم، يكون بعدها العرض والحساب والمناقشة، قال الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ [النمل:83-85]، عندها يبدأ المساءلة، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]، ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة)).
بعدها توزع الشهادات وتظهر النتائج، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].
ثم يضرب جسر جهنم ليمر الناس عليه، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ويضرب جسر جهنم)) ، فقال رسول الله : ((فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو)).
إنها والله لمواقف سوف نمر بها، يؤمر بك ـ يا عبد الله ـ لكي تعبر الصراط، وهو الجسر المضروب على متن جهنم، تمشي على جسر وتحتك نار جهنم، نارٌ أُحمي عليها ألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، ثم يطلب منك أن تعبر هذا الجسر، وكما سمعت في حديث أبي هريرة أن هناك كلاليب، تشبه شوك السعدان، لكن لا يعلم عظمها إلا خالقها، مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه، كما في صحيح مسلم: ((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به)) ، فما أنت فاعل ـ يا عبد الله ـ والمرور والعبور كما سمعت في الحديث بحسب العمل في الدنيا؟! فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل، ومنهم الناجي.
أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم)) ، قلنا يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: ((مدحضة مزلّة، عليه خطاطيف وكلاليب مفلطَحة، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجد يقال: لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلَّم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا)).
إن الناس على الصراط كما سمعتم، منهم من يُسلّمه الله تعالى، فلا يحس بألم تلك الخطاطيف والكلاليب، وهؤلاء الناجون أيضًا ليسوا على درجة واحدة، فمنهم من يكون عبوره كلمح البصر كالطرف، ومنهم من يكون عبوره كالبرق، ومنهم كسرعة الريح، ومنهم كأجاويد الخيل، وهكذا حتى إن آخرهم يسحب سحبًا، ومنهم من ينجو لكن يصيبه شيء من خدوش تلك الكلاليب، فتؤثّر في جسده، ومنهم والعياذ بالله من تأخذه تلك الكلاليب فلا تدعه حتى تنتهي به في قعر جهنم، مكدوسًا فيها، مسوقًا بشدة وعنف من ورائه ليكون فوق من سبق، يكدّسون كما تكدّس الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضًا.
هذا حال الناس ـ أيها الأحبة ـ يومئذٍ على الصراط، وينفع العبد يومئذٍ الأمانة والرحم، كما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، أخبر النبي أن الأمانة والرحم تقومان على جنبتي الصراط، فقال: ((وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق)) ، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق؟ قال: ((ألم تروا البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟! ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشدّ الرّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيّكم قائم على الصراط يقول: رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا)) ، قال: ((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا)).
إن الأمانة والرحم، ترسلان فتقومان جنبتي الصراط، ما السّبَب في قيامهما ذلك؟ السبب هو أداء الشهادة للشخص أو عليه بما كان يفعله تجاههما، من القيام بهما، وأداء الواجب الذي أمر الله به نحوهما، والوفاء والتمام الذي كان يسير عليه في حياته الدنيا، أو تشهدان عليه بالخيانة والغدر وعدم القيام بالواجب نحوهما.
إن الناس على الصراط تجاه الأمانة والرحم قسمان وفريقان لا ثالث لهما: إما أمين فتشهد الأمانة له، أو خائن فتشهد عليه، وإما قاطع فيشهد الرحم عليه، وإما واصل فيشهد له.
فيا من في أعناقكم أمانات، وكلنا كذلك، وكل بحسبه، أدِّ الأمانة قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها في موطن تكون الزلة تحتها قعر جهنم، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. الوضوء أمانة، والغسل أمانة، والعمل أمانة، والبيت والأولاد أمانة، والدعوة أمانة، والعلم أمانة، والولاية أمانة، ألا فليؤد كل مُؤتَمَن أمانته.
أما الرحم فيوم خلقها الله تعلقت به عز وجل وقالت: هذا مقام العائذ يا ربّ، فقال لها: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك.
فليحذر قاطع الرحم من خطورة الموقف، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
ثم إن دعوى الأنبياء يومئذٍ على الصراط: اللهم سلِّم سلِّم، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثم يوضع الصراط بين ظهري جهنم، والأنبياء بناحِيَتَيه، قولهم: اللهم سلِّم سلِّم، اللّهم سلِّم سلِّم)).
إذا كان هذا دعوى الأنبياء: "اللهم سلم سلم" فماذا يقول غيرهم؟! ماذا عساه أن يقول قاطع الرحم أو مضيع الأمانة أو مهمِل الصلاة أو تارك الزكاة؟! ماذا عساه أن يقول آكل الربا وظالم العمال وشارب الخمر؟! إذا كان الأنبياء الذين عملهم الدعوة إلى دين الله دعواهم يومئذٍ: اللهم سلم سلم فماذا يقول من همه محاربة الدعوة ومنابذة الشريعة ومخاصمة الملة؟! عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يُحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فَتَقَادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)) ، قال: ((فينجي الله تبارك وتعالى برحمته من يشاء)) رواه الإمام أحمد، وعن أنس رضي الله عنه قال: حدثني نبي الله : ((إني لقائم أنتظر أمتي تعبر على الصراط)) رواه أحمد.
فإذا عبرت الأمم وسقط من سقط ونجا من نجا وكلٌ أخذ مكانه جيء بالموت، فيوقَف على الصراط ويذبح هناك. أخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فيطّلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود فيما تجدون، لا موت فيها أبدًا)).
أيها المسلمون، إن الصراط ممر رهيب وعقبة خطيرة، عليه من أنواع التعذيب ما لا يعلمه إلا الله، عليه كلاليب كشوك السعدان، لا يتكلم عليه أحد غير الرسل من هول الموقف، ودعاؤهم عليه: اللهم سلم سلم، وهو دحض مزلّة، ينزلق فيه المارّة بسرعة، أوّل من يجيزه رسول الله وأمته إكرامًا وتشريفًا لهم، والناس عليه حسب أعمالهم.
فيا أيها المؤمنون، استعدوا لخطورة الصّراط والمرور عليه؛ إذ هو مظنة الهلكة إن لم يكتب الله السلامة لمن يجتازه. فهذا يسقط، وهذا يزحف، وهذا يمرّ مسرعًا، وهذا تصيب جوانبه النار، وهذا تخطفه الكلاليب، حقًّا إنه لممرّ عصيب ومسلك رهيب، أعاننا الله عليه بفضله ورحمته.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد أنه قال: بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف.
ثم إن الصراط ـ أيها الأحبة ـ يكون مظلمًا، تخيّل تسير على جسر أدق من الشعر وأحدّ من السيف والطريق مظلم، وتحتك جهنم، وعندها تقسم الأنوار على العباد أيضًا بحسب أعمالهم ليروا الطريق أمامهم، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة، ويطفأ مرة، إذا أضاء قدّم قدمه، وإذا أطفأ قام)) ، إلى أن قال: ((فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمرّ الذي نوره على إبهام قدمه، تخرّ يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار)) أخرجه الحاكم في المستدرك.
وأهل النفاق الذين كانوا يتظاهرون في الدنيا بالصلاح ويظهرون الحرقة على الدين وربما نسبوا لأنفسهم مشاريع إسلامية وهم في الحقيقة منافقون إنما يفعلون ما يفعلون لمصالح شخصية، هؤلاء ينكشفون عندما تقسم الأنوار، فيعطى المؤمن نورًا، ويترك ذلك المنافق الذي قد انطفأ نور الإيمان في قلبه في الدنيا، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، فيريد المنافق أن يستضيء من نور المؤمن، لكن لا حيلة، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15].
وهناك نوعيات من البشر بمجرد ركوبهم على الصراط فإنهم يمنعون من عبور الصراط، فتخرج عنق من النار تلتقطهم وترميهم في جهنم والعياذ بالله. أخرج الإمام أحمد بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين)) ، وفي رواية أبي سعيد: ((ومن قتل نفسًا بغير نفس)) بدل المصوّرين.
اللهم هوّن علينا عبور الصراط، واجعلنا اللهم ممن يسوقه عمله كالطرف...
(1/4637)
الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أهمية التوحيد
عمر بن تهامي شويمت
باتنة
18/1/1427
الشهيد الحاج عبد القادر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الإخلاص. 2- وجوب الإخلاص وأهميته. 3- الإخلاص في العبادات. 4- النية في المعاملات والعادات. 5- الجزاء على النية الصادقة. 6- فوائد الإخلاص. 6- خطورة الرياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن الإخلاص هو صدق النية مع الله، وهو شرط أساس في قبول الأعمال، يقول تعالى: أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].
فإن الواجب على المسلم أن يقصد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة في قوله وعمله، وذلك لا يكون إلا بإخلاص النية والقصد والإرادة لله وتخليصها من كل غرض دنيوي، قال الله تعالى مُخاطبا نبيَّه الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وقال أيضا: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]، وقال أيضا: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]، وهذه الآية بيّنت أنّ ركن العمل وشرط صحّته إنما هو في الإخلاص.
عباد الله، إنَّ العمل إذا كان لله فهو مقبول، وصاحبه مأجور عليه، وإن كان لغير الله فهو مردود على صاحبه، ويكون عليه وزرا، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، وفي الحديث القدسي : ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم.
وتصحيح النيّة لله شرط في صحّة العمل وقبوله، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) متفق عليه.
عباد الله، إنَّ الإخلاص واجب في العبادات والطاعات التي يُقصَد بها التقرّب إلى الله فقد، ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا)) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.
إنّ الصلاة مع الرياء جريمة، فبعدما فقدت روح الإخلاص أصبحت صورةً ميتة لا خير فيها، يقول تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].
نعم، عندما يفقد المسلم الإخلاص في صلاته تصبح عبارة عن حركات وسكنات وهمهمات غير مفهومة، لاشيء فيها، فترى المُصلّي لا يعي شيئا ويفقد خشوعه ويسيطر عليه وسواسه، فلا يتذوّق حلاوة العبادة.
كذلك الزّكاة والصدقة، فإذا أخرجها المسلم مرضاةً لله قبِلت منه، وإن أخرجها رياء وسمعة أو ليستَميل بها قلوبًا أو يكسِب أنصارا فإنه لن ينال من ماله الذي أخرجه إلا ما كسبه من جزاء الدنيا، والله تعالى يمدح المتصدقين الذين لا يبغون من صدقاتهم جزاء ولا شكورا، ولا ينتظرون من الناس المدحَ والشكر، يقول تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9]، وقال أيضا: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:18-21].
كذلك الصوم فإن لم يقصد بصومه العبادةَ والتقرب إلى الله تعالى كان صومه جوعا وعطشًا أو إضرابا عن الطعام، ولم ينل من صومه إلا ما أصابه من جوع وعطش، يقول النبي فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: ((ربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) أخرجه ابن ماجه وأحمد والدارمي. فإن أخلص صومه لربه أجزَل له الثواب وأعطاه أجرا عظيما، يقول النبي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
كذلك الحج، فإن قصد بحجه السياحة أو التجارة أو الحصول على مكانة دينية في نظر الناس فلن ينال من حجه إلا التعبَ وخسارة المال، وإن أخلص وبرّ في حجه فإن الجزاء يكون مضاعفا، يقول النبي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.
عباد الله، اعلموا أنّ العبادة ليست وحدها تحتاج إلى صدق نية وإخلاص، بل إن المعاملات والعادات تحتاج إلى نيّة، وتصير طاعات وقربات إذا ارتبطت بنيات صادقة وأُريدَ بها وجه الله، فقد قال النبي لسعد بن وقاص رضي الله عنه وهو يزوره في مرضه: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ، حتى ما تجعل في في امرأتك)) متفق عليه من حديث عامر بن سعد.
وإن الله يعلم خبايا النفوس ويطّلع عليها، فيرفع المُخلصين بنياتهم إلى مراتب الصالحين.
عباد الله، إن الله ليجازي الصادقين بمجرّد نياتهم الصادقة حتى ولو لم يوفّقوا إلى العمل، فقد حدث في غزوةِ تبوك ـ وتسمى العُسرة ـ أن أتى قوم حبسهم الجُهد إلى رسول الله ، وطلبوا منه الذهاب معه والخروج للجهاد، فردهم النبي لأنهم عاجزون بدنيّا وماليّا، فعادوا وأعينهم تفيض من الدمع حزَنا على تخلّفهم عن الجهاد، فنزل فيهم القرآن كلاما يتلى: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]، وقد سجل لهم ثواب المُجاهدين لصدق نياتهم، فقال فيهم المصطفى : ((إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شِعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه؛ حبسهم العذر)) رواه البخاري وابن ماجه.
اللهم اجعلنا من المُخلصين الصادقين، وصلى وسلم على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا خير مبعوث للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
وبعد: عباد الله، إن في الإخلاص فوائد كثيرة منها:
1- أن الله تعالى يرفع به درجات المؤمن، يقول المصطفى لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما مرّ بنا: ((وإنك لن تُخلَّف فتعملَ عملاً تبتغي به وجهَ الله إلا ازدَدتَ به درجةً ورفعة)) متفق عليه.
2- المخلصُ لربّه مجابُ الدعوة, يقول النبيّ : ((انطلقَ ثلاثة نفرٍ ممّن كان قبلَكم حتى آواهم المبيتُ إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنّه لا ينجّيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كلّ واحدٍ منهم متوسّلاً إلى الله بصالح عملِه وإخلاصِه: اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجَت فخرجوا يمشون)) متفق عليه.
3- وبه تزول أحقادُ القلوب وضغائن الصدور، يقول النبيّ : ((ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين)) رواه أحمد.
عباد الله، إن الرياء مهلك للعمل ومُحبط له، بل إن العمل ولو كان في ظاهره قربة يصير بالرياء وبالاً على صاحبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أذلَّ الناس يقضَى يوم القيامة عليه ـ أي: يحكم عليه ـ رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمتَه، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك ـ أي: في سبيل الله ـ حتى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمتُ العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمت ليقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: قارِئ، فقد قيل: ثم أمِر به فسحب على وجهه حتى ألقِي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمِر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)) رواه مسلم.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، ونسألك أن ترضى عنا وأن تجنّبَنا الرياءَ في كل شؤوننا ما علمناه وما لم نعلم، اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا...
(1/4638)
المنافقون والإصلاح (1)
الأسرة والمجتمع, الإيمان
المرأة, نواقض الإيمان
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
17/11/1424
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث القرآن عن المنافقين. 2- المنافقون أخطر عدو. 3- دعاوى المنافقين. 4- المنافقون وقضية المرأة. 5- المنافقون والمناهج الشرعية. 6- قدم الغلو. 7- تهجم المنافقين على المؤسسات الشرعية. 8- المنافقون جسر الأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان، لقد تحدّث القرآن الكريم عن طوائف من الأعداء ليحذر المسلمون صنيعهم، وليتّقوا شرورهم، ولتستبين سبيل المجرمين، لكنه خصّ بالعداوة قومًا، وحذّر وأنذر واستوعب الحديث فئةً اندسّت قديمًا، ولا تزال تندسّ بين صفوف المؤمنين حديثًا؛ خِداعًا وكَذبًا وتزويرًا، قال الله فيهم: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]. وحذر النبي منهم، واشتدّ خوفه على أمته منهم، فقال: ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)).
وفي الحديث ـ أيها المسلمون ـ عن النفاق والمنافقين حديث يبدأ ولا ينتهي، كيف لا وقد جاء الحديث عنهم في أكثر من نصف سوَر القرآن المدنيّة؟! حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كلّه في شأنهم".
عباد الله، أعداء الأمة الإسلامية كثر، ولكنه حصر العداوة بالمنافقين في قوله تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، يراد به إثبات الأولويّة والأحقّية للمنافقين في هذا الوصف، ولا يراد منه أنه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًا من الكفار المجاهرين بكفرهم، فإنّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي، ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء ـ أي: المنافقون ـ معكم في الديار والمنازل، صباحًا ومساءً، يدلّون العدو على العورات، ويتربّصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل يصعب مناجَزتهم.
فيا ويح المنافقين! يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، وخابوا وخسروا وإن زعموا الإصلاح، فهم مفسدون بشهادة العليم الخبير: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. ومهما تطاولوا على أهل الإيمان ورموهم بالسفاهة أو غيرها من رديء الألفاظ فهم أهل السفاهة بشهادة القرآن: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].
أيها المسلمون، لا يغترّ المؤمنون بنصح المنافقين لهم وإن زعَموا النصح، وإن حلفوا وأقسموا بالله أنهم ناصحون وأنهم ينصحون لأجل أن يخلوا مسؤوليتهم وأمانتهم أمام الله، فإنهم كذَبَة كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:1، 2]، فهم يستتِرون بالحلف الكاذب ليثقَ بهم الناس، ولكن الله قد حذّرنا منهم فقال عنهم: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.
أيها المسلمون، أكبر قضية يدندن حولها المنافقون قضية المرأة وإصلاح المرأة، والعجيب أن الله بعد أن أمر بالحجاب للمرأة في سورة الأحزاب بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، بعد هذه الآية مباشرة حذر الله من المنافقين فقال: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب:60، 61] فهم يرون أن صلاح المرأة في خروجها من بيتها والله جل وعلا يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، ويرون أن صلاح المرأة يكون بتبرجها وقيادتها للسيارة وخروجها بدون إذن وليها، ويزعمون أن المرأة لن تصلح إلا إذا أخذت حريتها بالكامل، وذلك من خلال فصلها عن قوامة الرجل عليها، ومن خلال اختلاطها بالرجال وجلوسها معهم على طاولة العمل ونحو ذلك. وفي الحقيقة أن هؤلاء المنافقين يريدون الإفساد وليس الإصلاح، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وقضية المرأة هي قضية المنافقين الكبرى، فبفساد المرأة يفسد المجتمع، والرسول حذر من فتنة النساء فقال: ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
أيها المسلمون، إن الأمر المزعج هو ما يفعله المنافقون اليوم بالذات مع الأحداث الأخيرة، فالمتابع للصحف يجد كتابات كثيرة ضدّ العلماء وضدّ الجهاد، بل ضدّ السنة كذلك، فلم يسلَم هيئة كبار العلماء ولا العلماء ولا الدعاة ولا طلبة العلم من لمز المنافقين وهمزهم. وإن هذه الكتابات الصريحة ضدّ الصحوة الإسلامية لهي تزيد الأمر سوءًا وبلاءً، بل والعجيب أنهم يحمِّلون ما حدث المناهجَ، وأي مناهج يقصدون؟! طبعًا المناهج الشرعية، حتى إن أحدهم يقول: "إن المناهج التي يدرسها أبناؤنا هي السبب في ظهور الغلو والتكفير". وهذا شأن الذين في قلوبهم مرض، المناهج الآن عليها هجوم شرِس، وبالذات فيما يتعلق بالولاء والبراء، فأحدهم يقول: "إن المشكلة من داخلنا"، كيف؟! قال: "بسبب كتب أئمة الدعوة"، وأوصل الأمر بطريقة إلى منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعني أن الذي ينشئ الغلوّ والتكفير هي كتب الدعوة وكتب أئمة الدعوة.
وكلنا يعلم أن أعظم نعمة امتن الله بها على هذه البلاد هي نعمة الدين الصحيح، نعمة التوحيد، عقيدة أهل السنة والجماعة، وكلنا ولله الحمد تعلّم ودرس هذه المناهج، وأبناؤنا الآن يدرسون وليس عندهم غلو وتكفير، بل نجد عندهم العكس تمامًا من تفريط ومعاصي وتقليد للغرب وسخريّة بالدين وترك للصلاة وتساهل بالعبادات والتشبّه بالغرب مع دراستهم أن التشبّه لا يجوز، فهذا أكبر دليل أنه يوجد تفريط في الجانب العملي وليس الغلوّ كما يزعم المنافقون، بل أقول: إن كتاب التوحيد الذي ألّفه إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيه تحذير من الغلوّ، وقد قال : ((إياكم والغلو)). وقد حدث الغلوّ في عهد الرسول عندما حرّم أحدهم على نفسه اللحمَ، والثاني حرم على نفسه الأزواج، والثالث حرم على نفسه النوم، والرابع حرم على نفسه الإفطار، فبيّن النبي أن هذا مخالف لسنته وأنه غلوّ، فإذا وجد الغلوّ في عهد الرسول وفي عهد الخلفاء الراشدين فمن الطبيعي أن يوجد الآن، فالغلو موجود، ولكن بشكل شاذّ ولله الحمد، فالغلو ولله الحمد ليس سمةً ظاهرةً في طلاّبنا ولا معلّمينا ولا مجتمعنا حتى تحارب هذه المناهج، فهؤلاء الذين يطرحون هذه القضايا هم أكذب الناس في بحثهم عن حلّ المشكلات وإن أقسموا الأيمان أنهم يريدون الإصلاح.
ما جاء المنافقون بحلّ مشكلة أبدًا، فهم الذين أثاروا الفتن في عهد النبي ، وهم الذين يثيرون الآن الفتن في مجتمعنا، وهم الذين يسبِّبون الغلو في الحقيقة. لماذا تتَّهَم المناهج؟! لماذا تتَّهَم كتب أئمة الدعوة؟! لماذا يُتَّهم العلماء؟! لماذا يتَّهَم طلاب العلم؟! لماذا يتَّهَم الخطباء؟! لماذا يلمَز بالسنة وبالمتمسكين بالسنة؟! أين نحن أيها الإخوة؟! فيجب أن نكون على مستوى الوعي، وأن نحذر من هؤلاء المنافقين الذين لا ترتفع رؤوسهم إلا عند الفتن والعياذ بالله؛ ليخرجوا ما في صدورهم من غلّ وحقد على كتُب السنة وعلى هذا البلد وعلى أهله ومجتمعه وإن زعموا الإصلاح، فإنه لا يوجد أحد أبدًا يدّعي الإفساد، حتى فرعون يقول لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، بل ويخاف على قومه من موسى فيقول لقومه عن موسى: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]. ففرعون يرى أنه هو المصلح، وأن موسى هو المفسد، وكذلك المنافقون يقول تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، فهم يدعون الإصلاح وهم المفسدون حقيقة كما قال الله عنهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة، تعلمون تلك الحملة الغربيّة الأمريكية الشرِسة على هذه البلاد المباركة وعلى مناهجها الشرعية ومحاكمها القضائيّة، وهؤلاء الغرب يتمنّون أن يجدوا من يطبّل لهم، وهؤلاء الذين يلمزون السنة ويتهمون المناهج ويتّهمون كتب أئمة الدعوة ويطعنون في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويتّهمون هذه الدولة بالوهابية، فهؤلاء يتفقون مع أسيادهم في أمريكا وغيرها، فالطعن في علمائنا ومناهجنا وبلادنا معناه أن الغربَ الكافر على حق وأننا على باطل، وبهذا فإننا نتحمّل ما ليس لنا، ونحن أبدًا أبدًا أبدًا لن نرضى بهذا، فالطعن في ديننا وبلادنا لمصلحة من؟! لا شك أنه في مصلحة أمريكا واليهود قبل ذلك.
أيها المسلمون، يبقى سؤال مهم وهو: ما واجبنا تجاه هذه الحملات الشرسة وتجاه هذه الفتن؟ كنت سأجيب عن هذا السؤال في هذه الجمعة، ولكن الوقت يطول بنا، وأبناؤنا الطلاّب بحاجة إلى كسب مزيد من الوقت ليجدوا فرصة أكبر للمذاكرة، فلذلك فإني سأجعل الحديث في الجمعة القادمة بإذن الله عن دورنا وواجبنا تجاه هذه الحملات.
وأسأل الله الإعانة والتوفيق، ونسأله سبحانه أن يوفق أبناءنا في اختباراتهم، وأن ييسر لهم أمورهم، والله يرزقهم التوفيق والنجاح، وأن يوفّقهم للهداية والصلاح.
عباد الله، صلّوا وسلموا على رحمة الله للعالمين...
(1/4639)
المنافقون والإصلاح (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, محاسن الشريعة
مرسال بن عبد الله المحمادي
جدة
24/11/1424
جامع ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كذب المنافقين. 2- العدو الخارجي والعدو الداخلي. 3- واجب المسلم تجاه هاتين العداوتين. 4- أهمية الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، كان الحديث في الجمعة الماضية يدور حولَ المنافقين ودورِهم في الإصلاح، وعرفنا أن المنافقينَ يدّعون الإصلاح ولكنهم في حقيقة الأمر كما قال تعالى عنهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12]، فهم أهلُ الخراب والفساد، فهم الملعونون الذين قال تعالى عنهم: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً [الأحزاب:61]، وهم الذين ينبغي أن نحذرهم أشدَّ الحذر كما قال تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
أيها المسلمون، نحن الآن وفي هذا العصر نعيشُ بين عداوتين: عداوةٍ خارجية وهم أولئك الكفار من اليهود والنصارى والصليبيين الحاقدين الذين يخططون لغزو بلاد المسلمين دينيًا وفكريًا وسياسيًا، ونعيشُ كذلك بين عداوةٍ داخلية متمثلة في المنافقين والعلمانيين والحداثيين ونحوِهم الذين أخبرنا عنهم النبي أنهم من بني جلدتِنا ويتكلمون بألسنتنا، فينبغي أن نحذرَهم، ويبقى السؤال: ما واجبُنا وما دورُنا في مواجهةِ هاتينِ العداوتين؟
الجواب: أُلَخِّصه فيما يلي، ونسأل اللهَ الإعانةَ والسداد:
أولاً: إن هذه الأحداثَ الأخيرة ما هي إلا فتنةٌ وقانا الله شرها، وقد سلّمكم الله أن تقعوا فيها بأيديكم، فلا تقعوا فيها بألسنتِكم ولا بقلوبِكم، فهذه فتنةٌ عظيمة ولا بد أن نَضْبِطَ ألسنَتَنَا، وأن نُحَكِّم قلوبَنا وعقولَنا، وأن نبتعدَ أن نقع في مثلِ هذه الأمورِ بأيدينا، وقد نجانا الله من الوقوعِ فيها، وقد رُويَ في الحديث قولُه : ((إن السعيد من جُنّبَ الفتن)).
ثانيًا: المسلم لا يُستخف، قال تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60]، ولا بدَّ من التَّثَبُّتِ وعدمِ الاستعجال؛ حتى لا نرمي بريئًا بذنب لم يَثْبُتْ عليه. تثبَّتوا ولا تَسْتَعْجِلوا، وانتبهوا لخطورةِ الإشاعات في مثلِ هذهِ الأيام، فعليكم بالتثبُّت، وهذا منهجٌ شرعيٌ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
ثالثًا: يَنْصَحُ أهلُ العلمِ بعدمِ الخوضِ في هذهِ المسائل إلا من أَجْلِ الاستفادةِ من الدروسِ والعبر والبيانِ للناس والوعظِ والإرشادِ والتحذيرِ مما قد يقع فيه المسلمون، وبخاصةٍ وأن المجالسَ اليوم شُغِلَتْ بكلامٍ قد لا يُفيد، بل يَضُر. فاحرصوا على إغلاقِ منافذِ الشرِ وسدِّ الذرائع، واحذروا من التأويلِ الفاسد.
رابعًا: أخي المسلم، لا تُقْدِمْ على أمرٍ أو على خُطورَةٍ إلا بَعْدَ أن تكونَ قد حَرَّرْتَها شرعًا، هل هي جائزة أو لا؟ فنحن لا نَتَعَبَّدُ اللهَ إلا بما شرع، فلا بد من الرجوع إلى العلماء الموثوقين، ولا بد أن نبحثَ المسائلَ شرعًا قبل الإقدامِ عليها، فبحثُ المسائل من الناحيةِ الشرعية يُجَنِّبُنَا الكثيرَ من الفتنِ والبلاءِ والمُشْكِلات. واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن التقليد في هذه المسائل لا يجوز، مسائل الغلو وقضايا التكفير، هذه قضايا كبرى لا يتصرَّف بها مجردُ أفراد، وإنما يُرْجَعُ فيها إلى العلماءِ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
خامسًا: لا بد أن نَفْهَمَ معنى الوسطية التي جاء بها الإسلام فهمًا صحيحًا، فاللهُ عز وجل قد مدح هذه الأمة بقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا [البقرة:143]، فالوسطية بمعناها الصحيح هي ما جاء به الرسول ، وليست الوسطية بمعنى التنازُل والتساهُل وتمييع القضايا، إنما منهجُ الوسطية كما بيَّنه القرآن الكريم وبينته سنة المصطفى ، وسطية هذه الأمة بين الأمم، وسطية هذه الأمة في عقيدتها وتشريعها ومعاملاتها وسلوكها وأخلاقها، فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره يَرْسُمُ منهجَ الوسطية إما تصريحًا أو تلميحًا.
ومن أمثلةِ الوسطية في القرآن قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ، فحذَّرَنَا سبحانه أن نكونَ من المغضوبِ عليهم الذينَ يعلمون ولا يعملون، وحذرنا من الضالين الذين يعملون على جهل ولا يعلمون، واختارَ لنا المنهج الوسط الذي سماه بالصراط المستقيم، وهو سبيلُ المؤمنين الذين يعلمون ويعملون.
ومن الأمثلة أيضًا على منهج الوسطية الوسطيةُ في الأكلِ والشرب، قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
وأيضًا من الأمثلة على منهج الوسطية الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى في مدح المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال سبحانه في النفقة أيضًا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ كناية عن البخل، ثم قال: وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ كناية على الإسراف والبذخ.
وكذلك القرآن بيَّن منهج الوسطية في التعامل مع الكفار المحاربين، ومع الكفار المعاهدين المستأمنين، فقال سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8، 9].
فمنهج الوسطية منهج متكامل، نحتاج أن نصوغَ عليه حياتَنا وأن نُرَبِّي عليه أبناءَنا, فالإسلام هو منهجُ التيسير كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال : ((إنما بعثتم ميسرين)) ، وقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا))، فالتيسير هو سمةُ هذه الشريعة، فالتيسيرُ هو منهج الوسط، ومنهج الوسط هو منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج أهل السنة والجماعة هو ما جاء به الرسولُ ، وهو المنهج الصحيح بعيدًا عن الإفراط والتفريط.
أيها المسلمون، ثم لماذا إذا تُكُلِّمَ يُتَكَلَّمُ عن الغلوِ وعن الإفراط ولا يُتَكَلَّمُ عن التفريط؟! لماذا إذا أُطْلِقَ لفظُ التطرُّفِ يُطْلَقُ على فئةٍ معينة؟! فلماذا دائمًا نُرَكِّزُ على طرفٍ ونَتْرُكُ الطرفَ الآخر؟!
نعم، أصحاب الغلو والإفراط عندهم تَطَرُّف، وكذلك أصحابُ المعاصي والتفريطِ عندهم تطرف، لماذا وسائلُ الإعلام إذا ذَكَرَتْ التطرّف لا تَذْكُرُ إلا أصحابَ الغلو فقط بينما الأمر له طرفان؟! فليس من العدل أن نَتَكَلَّمَ في طرفٍ ونتركَ الطرفَ الآخر، فأصحاب الغلوِ متطرّفون، وأصحابُ الذنوب والمعاصي كذلك متطرّفون، الذين يدعُون إلى التفجير داخل البلاد متطرّفون، والذين يدعون كذلك إلى العلمانية ونبذ الدين أيضًا متطرفون.
فإذًا أيها المسلمون، منهجُ الوسطية وتربيةُ الأمةِ على هذا المنهج باعتدالٍ واتزان يُبْعِدُهَا عن كثيرٍ من هذا البلاء، وعلى الآباء مسؤوليةٌ عظيمة تجاهَ أبنائهم وبناتهم، وعلى الإعلام والعلماء، وعلى المعلمين والمربين، وعلينا جميعًا أن نربّي النشء على طاعةِ اللهِ عز وجل وعلى البعد عن الانحراف أيًا كان، فالمسؤوليةُ جَمَاعية، ومسؤوليتُنا عن هؤلاءِ الشباب في المقاهي وفي الشوارع، مسؤوليتنا عن الشباب الذين يسافرون بحجة الجِهاد، وكذلك مسؤوليّتنا عن الشباب الذين يسافرون للدعارة والفساد، علينا أن نُشْغِلَ الشبابَ بالعلمِ والتعليم، وأن نُشْغِلَهُم بما يَنْفَعُهُم ليكونوا شبابًا مُنْتِجِين لأمتهم مدافعينَ عن دينهم حريصينَ على أمن بلادهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، الأمن الأمن، إن محافظتَنَا على الأمن عبادةٌ وليست وظيفةً نَقْتَاتُ من ورائِها، فالله عز وجل امتنَّ على قريش بالأمن فقال: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، وقد بين سبحانه أن من العقوبات نَزْعَ الأمن: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. ولا بد من تحقيقِ الأمنِ في القلوب والأجسامِ معًا، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الأمنُ ـ أيها الإخوة ـ واجِبُنَا في جميعِ بلادِ المسلمين وفي غيرِها، فالأمنُ عبادة، ونحن نَتَعَبَّدُ الله عز وجل بمحافظتِنَا على أمنِ المسلمين في كلِ مكان. ومن الأمن إبعادُ وسائلِ الانحراف، من الأمن محاربةُ الرذيلةِ والفساد، ومنَ الأمن تحكيمُ شريعة الله عز وجل، ومن الأمن تعليمُ الناسِ كتابَ الله وسنةَ رسوله ، ومن الأمن وجودُ رجالِ أمنٍ يحمونَ الناسَ في بيوتهم ويسهرونَ بالليل لحمايةِ بلادِ الإسلام، ومن الأمن وجودُ رجالٍ يُطَارِدُونَ الجناةَ والمجرمينَ والمفسدين في الأرض، فكل هذا من الأمن.
نسأل الله عز وجل أن يجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين، ونسأله سبحانه أن يوفقنا جميعًا للحفاظ على أمن بلادنا وأهلينا وأنفسنا، وأن يوفق ولاة أمرنا لشكر نعمة الأمن وأن يعينهم على الحفاظ عليها.
عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله...
(1/4640)
الشقاق بين الزوجين: أسبابه وآثاره وعلاجه
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
عبد الله بن فهد الواكد
حائل
18/5/1424
جامع الواكد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الإسلام على تماسك الأسرة. 2- الخلافات بين الزوجين أمر طبيعي. 3- أسباب الخلاف. 4- مآل الخلاف ونتائجه. 5- توسع دائرة الخلاف بين الزوجين. 6- تضرر الأولاد بالخلافات الزوجية. 7- الطريقة الشرعية لحل المشكلات الزوجية. 8- كلمة للأب.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد حرص هذا الشرع المطهر على تماسك الأسرة المسلمة واستئصال شأفة الشقاق والنزاع من كنف البيت المسلم، في ضوابط وأحكام شرعها الحكيم الخبير، نقف وإياكم اليوم على شقاق الزوجين: أسبابه وآثاره وطرق علاجه.
أيها الأحبة المسلمون، طبيعي أن تكون الخلافات بين الزوجين، وما سلمت من ذلك بيوت الأنبياء والمرسلين. مطالب الحياة.
ومعترك النفوس في غاياتها، والتعثّر دون المقاصد، والتباين في الرغبات، وغياب الإيثار، وتضارب الأهواء، والتقصير في الواجبات، وهضم الحقوق الزوجيّة، كل أولائك طلائع زوابع وصفارات إنذار لحدوث عاصفة زوجيّة، تهبّ من ناحية المرأة، فيبدأ النشوز من قِبَلها، فتظهر الكراهية للزوج، وتعلن العصيانَ، وتجنح للتمرّد على القوامَة، فتنتهج أسلوبَ التنغيص والتكدير، تحت حمأة لا يهدأ لهيبها، قاصدةً بذلك استدرار غيظه وكراهيته، واجتذابه من طور الهدوء إلى حال المشاقة والمنابذة، فيبدأ بذلك النزاع، فيحيف الزوج عليها ببخس الحقوق وغليظ القول وقبيح الفعل وسيئ العشرة وقوارع اللفظ وقوارس الكلام والضرب والشتم، حتى تنفر منه وتبغِضَه.
وهنالك ـ أيها الأحبة ـ تنطمس نجوم الألفة، وتنكدر كواكب المودّة والرحمة، ويبدأ الشقاق يشقّ طريقه إلى حياة الزوجية، فتبدأ الآثار النفسيّة على حياة الزوجين، وتطفح المكنونات على السطح الأسري، فيعود سالب ذلك على الأسرة من الدّاخل، بل ويتعدّى الأمر إلى علاقة الزوجين بالأهل والأصدقاء، وتنقلب روح المودة والوئام إلى شقاق ونزاع وخصام، حتى يصبح البيت ومع تطاول الزمن قناةً لجلب المشكلات وموئلا لنشوء المعضلات، وهنالك يبحث كلا الزوجين إلى سبيل الخلاص من صاحبه، موضِّحا للآخرين كماله وسلامة موقفه، فيتعرّى البيت، وتنهتك أسرار الأسرة، وتنفتح خزائِنها واحدة تلوَ الأخرى، فيعمد كلا الزوجين إلى بعثرة حفائظ الأسرار، علَّه يظفر في ركامها بمثلب يعيب به صاحبه أو تقصير يرمي به شريك حياته، كل ذلك والملأ من حولهم ينظرون، ولك أن تتصور عظيمَ النتائج المزعجة في هذا المسلك المهلك، إلى أن يحتدم الأمر فيَعْلَقِمّ، فتنهتك الكرامه، وتنهدر الشهامة، وتهراق المودّة في بقاع النزاع.
ثم لا وربك، لا تقف آثار الشقاق عند هذي فحسب، بل تنال اللأواء أولادا أبرياء، ليس لهم في ذلك داء ولا دواء، تتأزّم حالتهم النفسية، وتقشعر عواطفهم الحسية؛ إذ يشاهدون وما عساهم يشاهدون؟! بل يا لقسوة ما يشاهدون، خفقت قلوبهم، وانجرحت أحاسيسهم، وانكدرت أفئدتهم، يرون أعزّ من لديهم وأغلى من نظرت أعينهم، يرون من غرقوا بدمعها، ومن غاصوا في حنانها، يرون الأم والحضن والحنان في خصام مع من؟! مع أعز إنسان، يرون من وَضَع الريال في جيوبهم وزرع الأسوة في قلوبهم، يرون ذلك الطودَ العظيم، ذلك الجبل الأصمّ الأشمّ، يرون ذلك البيت الذي كان ملكا يترامون في آفاقه، يرون ذلك البناء الشامخ الذي رضعوا فيه، وانفطموا فيه، وذرعوه وباعوه، وظنّوا أن الأرض تنخسف وذلك البيت شامخ لا يتزعزع، يرونه يتصدّع أمام أعينهم، ويتأرجح عيانا، فلا يشكّون بسقوطه، يرونَ أباهم، يرون أمّهم، يختصمان، يتعالجان، فيغرقون في تطلّعات تمجّ في المستقبل دماء جروح داخلية، وتنظر في مقبِل الأيام نظرات أشبعت بعقد نفسيّة.
يغيب عن الزوجين في وطيس الشقاق أن لهم أبناء وبنات يراقبون بأسى وحسرة معركة أسرية، الرابح فيها خاسر ولو كان سبعا كاسرا، يصاب الأولاد بالتشنّج والانطواء، ينظرون لما حولهم نظرة تضجر وسخط، تتضارب مشاعرهم، وتضطرب عواطفهم، بين فرح وترح، وحيرة وغيرة، فلا يجدون متنفسا إلا بما شذ من القول والفعل، فتكون التأزّمات النفسية والاختلالات التربوية، ثم إذا كان الفصال صار هؤلاء الأولاد المساكين محطة نزاع ومادة خلاف بين أم تطالب بالحضانة وأب يطالب بالرعاية، ليغيض كل منهما الآخر، ويكويان بعضهما بأولادهما، ويطرفان أعينهما بأيديهما. ثم إذا اتسعت دائرة الخلاف بين الزوجين وتجاوزت حدود البيت والأولاد وصعدت المشكلة إلى خارج الأسوار وخرجت من البيت والدار فلا تسل بعد ذلك عنها، إذ لا يخفى أمرها على أحد، فتقع في أيدي المحتسبين من الأهل والأقارب والجيران المشفقين، هذا يتقدم بالنصيحه، وذاك يسعى بالصلح، وذلك يبذل المال سعيا وراء تقويم مسار الحياة الزوجية ودرءِ مصابها ورتق فتقها، وقلَّمَا تفلح الجهود إذا تفاقمت المشكلة، فتتسع دائرة الخلاف، حتى يهوي في خضَمّها عائلتا الزوجين، فتبدأ القطيعة وتتعمّق جذور الخصام، ويصعب الحلّ مع هذا التمدّد، وتنعدم جدوى الصلح مع تبعثر المشكلة وتزايد أطرافها وأفرادها، ثم تستمر في أطوارها النهائية، حتى تصل إلى المحاكم والقضاء، وبعد ذلك تتعثر الخطى في الرجوع إلى الوراء، فتصبح الأسرة كجنّة أصابها إعصار فيه نار فاحترقت.
أيها الأحبة المسلمون، لننظر كيف جاء الشرع بحلّ هذه المشكلات، وكيف أرشدنا ربنا إلى معالجة ذلك الشقاق والنشوز، فهناك إجراءات مرتبة ومدرَّجة نصّ عليها الرب سبحانه وتعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34].
أتدرون ـ أيها الأحبة ـ أن معدل حالات الطلاق في المملكة بلغ ثلاثين حالة طلاق في اليوم؟! كل ذلك سببه عدم الانضباط بمنهج الشرع، وعدم التدرج في معالجة الأمور. إن خطوات معالجة النشوز ينبغي أن تكون مرتّبة حسب ما أمرنا بذلك ربّ العالمين.
فأولها الموعظة، وهي أول خطوة لكسر النشوز ونبذِه وطرح جموح المرأة، والوعظ فنّ يحتاج إلى صاحب عقل وحكمة، ويختلف باختلاف حال المرأة، فمن النساء من يؤثر فيها التخويف بالله والترغيب في ثوابه، ومنهن من يؤثر فيها تذكيرها بسوء العاقبه وشماتة الأعداء وبقائها بدون زوج، ومنهن من يؤثّر فيها التهديد بمنعها من الرغائب الدنيويه كالثياب والزينة، فالزوج اللبيب هو الذي يختار الموعظة التي تتناسب وحالة زوجته، موضِّحا لها المحاسن والعواقب، حتى تتنازل عن كبريائها ونشوزها.
فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا عمد إلى الطريقة التي تليها، وهي الهجر، قال تعالى: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، والمضاجع هي المراقد، فينبغي للزوج في هذه المرحلة أن يولّيها ظهره في المنام، وأن لا يجامعها، فالهجر حركة استعلاء من الرجل على المرأة، يبين لها فيه أنه غنيّ عن إغرائها، وليس محبوسا على ما عندها، والهجر إيماءة على أن منزلتها عنده بدأت تهتزّ، وقيمتها آيلة للسقوط، فالهجر مناورَة نفسيّة تجعل المرأة وهي في الفراش تتظاهر بالنّوم، وتبدو وكأن الأمر لم يؤثّر فيها، وهي في الحقيقة في حساب دقيق مع نفسِها، على أن يكونَ الهجر في البيت وفي الغرفة لقوله : ((لا تهجروا إلا في البيت)) ؛ ذلك لأن بعض الأزواج ـ هداهم الله ـ إذا صار بينه وبين زوجته شقاق ظن أنّ الهجر أن ينام في البر أو في الاستراحة أو في المجلس، وهذا كلّه سوء فهم لمقاصد الشريعة، ويجب أن لا يشعر أحدٌ بذلك من الأولاد والغرباء، لكي لا تشعر الزوجة بالثورَة لكرامتها، فتزداد بذلك نشوزا ومشاقّة؛ إذ المقصود من الهجر هو الإصلاح وليس الإفساد، وله أن يهجر زوجته بالكلام إذا رأى في ذلك مصلحة، شريطة أن لا يزيد ذلك على ثلاثة أيام لعموم النهي عن ذلك.
ثم إذا لم ير جدوى من الهجر يعمد إلى المرحلة التي تليها، وهي الضرب لقوله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ ، على أن يمارس الضغوط التي هي دون الضرب، فمتى ما قام الإيهام مقامَ الفعل عدل إلى الإيهام بدل الفعل للقاعدة الشرعية، ولما يسببه الضرب من النفرة وإفساد حسن المعاشرة، وقد نهى النبي عن ضرب النساء فقال: ((لا تضربو إماء الله)) ، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول الله في ضربهن.
والضرب له شروط: أن يكون ضربا غير مبرح، فهو ضرب تأديب وليس تعذيبا، ولا يضرب الوجه لعموم النهي عن ذلك، وأن يكون عشَرة أسواط فأقلّ لقوله : ((لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله)).
هكذا ـ أيها الأحبة ـ علمنا شرعنا كيف تحسم الخلافات الزوجية، فسلوا من تفرّقوا وسلوا من تطلقوا وسلوا من غرّبوا وشرّقوا حينما احتدم الخلاف بينهم: هل عبروا هذه القنوات الربانية والتعاليم القرآنية لحلّ مشكلاتهم؟ هل طبقوا هذه الخطوات حسب ترتيبها؟ فلا ضرب قبل الهجر، ولا هجر قبل الوعظ، بل إن الشقاق والفراق والطلاق جاء نتائج زوبعة اختلط حابلها بنابلها، وتشنج أعصابها ببذيء ألفاظها؛ حتى كان الطلاق والانفصال وتشتّت البنات والعيال.
اللهم إنا نسألك جمع الشمل ولمّ الشعث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب عليّ وعليكم، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
كم من الأبناء والبنات والفتيان والفتيات، كم من فلذة كبد يتقطع ألما وحسرة، ويتجرع مرارة الحياة، في التنقل بين أمه وأبيه، لا يدري أي بيت هو بيته، وأي كنف هو كنفه، بسبب انفصال الأبوين عن بعضهما.
أيها الأب الفاضل، يا من فرقت بينك وبين زوجتك نزوة سابحة وثورة جامحة، أما آن لك أن تكسر حواجز الشموخ والكبرياء؟! فإن الشيطان دلَّى أبويك بغرور، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
إن لك أطفالا وزوجة ينتظرونك على أحرّ من الجمر، لو أن صاحب سيارة تعطّلت سيارته في الطريق وعليها أغراضه ومتاعه، ثم ساح في الأرض وتركها ولم يعد إليها ويصلحها، ماذا تقول عنه أنت؟ ألست تتهم عقله؟! فكيف بك أنت تترك عائلتك وأطفالك، ولم تحاول أن تصلح ما فسد وترتق ما انفتق؟!
أيها الأب الكريم، عد إلى عقلك، وثب إلى رشدك، وفّقك الله وهداك، واعلم أن المسلم هيّن ليّن، وتنازلك عن حقوقك الشخصية في سبيل قلوب تتفطّر وأفئدة تتقطّع في سبيل أولادك لهو غاية الفخر ومنتهى التضحية، لا يقف الشيطان بينك وبين الإصلاح، فهو خير النجوى، قال ربكم سبحانه وتعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فإن من فعل ذلك فهو كمن يجبر الكسور ويضمد الجروح، فهو يسعى في جروح جسد الأمة حتى تلتئم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/4641)
الزواج
فقه
النكاح
سلطان بن عبد الرحمن العيد
الرياض
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الزواج. 2- آداب قبل الزواج. 3- آداب الخطوبة. 4- الواجب على ولي المرأة. 5- آداب عند الوليمة. 6- آداب عند البناء. 7- حقوق الزوج على زوجته. 8- حقوق الزوجة على زوجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد سنَّ الله الزواج لعمارة الكون، وجعله من آياته الباهرة، فقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًَا لِّتَسْكُنُواْ إِليْهَا وَجعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحمةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفكرُونَ. فمن وجد ما يتزوّج به فليفعل خشية الفتنة وطاعةً لرسول الله حيث قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لا فالصوم له وِجاء)) خرّجاه في الصحيحين.
وليعلم المؤمن أن تيسير أمر النكاح بيد الله، فليلجأ إلى ربه وليستعن به وليبشر؛ فقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثةٌ حق على الله عونهم: المُكَاتَبُ يريد الأداء، والناكح يبغي العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) رواه النَّسائي والترمذي وقال: "حديث حسن".
فإذا عزم فليستخر الله في ذلك؛ يقدّر له الخير إن شاء عز وجل.
ومما جاءت به سنة رسول الله النظر إلى المخطوبة، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) أخرجه أبو داود، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خطبتُ امرأةً فقال لي النبي : ((هل نظرت إليها؟)) قلت: لا، قال: ((فانظر إليها، فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما)) أخرجه النسائي.
وإذا أراد خطبة امرأةٍ فليراع أمورًا، منها أن تكون صالحة لقول رسول الله : ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) أخرجه مسلم وغيره.
وليحرص المسلم أن تكون ولودًا، ويُعرف ذلك بالنظر إلى أمها وأختها؛ وذلك لقول رسول الله : ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم)) أخرجه أبو داود والنسائي.
ثم ليتقدم إلى خطبتها من وليها، ولا يصح النكاح بغير وليّ؛ لقوله : ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل)) أخرجه أبو داود.
وعلى وليها أن يراعي أمورًا، منها أن يتخيّر لها من يتوسّم فيه الصلاح والتقوى، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يهنها؛ وذلك لقوله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض)) أخرجه الترمذي وابن ماجه.
ومنها أن لا يغالي الولي في المهر؛ لقول رسول الله : ((من يُمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها)) أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال عمر رضي الله عنه: (ألا لا تُغلوا صُدُقَ النساء؛ فإنه لو كان مَكْرُمةً في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي ، ما أصدَق النبي على امرأة من نسائه ولا أُصْدِقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقيّة، وإن الرجل ليُغلي بصَدُقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه) أخرجه الأربعة وقال الترمذي: "حسن صحيح".
ومنها أن يأخذ رأي ابنته في ذلك، ويأثم إن أرغمها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنه دخلت عليها فتاةٌ فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسِيسَته وأنا كارهة، فقالت عائشة: اجلسي حتى يأتي رسول الله ، فجاء النبي فأخبرته عائشة، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزتُ ما صنَع أبي، ولكن أردت أن أعلَم أللنّساء من الأمر شيء. خرجّه النسائي، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((لا تُنكح الثيِّب حتى تُستأذن، ولا تُنكح البكر حتى تُستأمر)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: ((إذنها أن تسكت)).
فإذا خطبها فلا يجوز له أن يخلوَ بها حتى يعقِد؛ لقوله : ((لا يخلُونَّ أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
فإذا جاء موعد البناء فليفعل ما يلي:
أولاً: يصنع وليمةً؛ عملاً بسنة رسول الله ، قال أنسٌ رضي عنه: ما أولم النبي على شيء من نسائه ما أولم على زينب؛ أولم بشاة. متفق عليه. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله قال له: ((أولِم ولو بشاة)) متفق عليه.
ثانيًا: أن يدعو إليها الفقراء والمساكين؛ فإن ذلك أجدر لقبولها إن شاء الله عز وجل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((شرّ الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويُترك المساكين)) متفق عليه.
ثالثًا: أن يتجنّب الإسراف والمفاخرة والتكلف، وليقصد العمل بالسنة، لا مراءاةَ الناس والترفع عليهم؛ قال الله جل وعلا: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ.
رابعًا: لا يجوز له أن يتساهل في يوم زواجه؛ فيفعل أو يأذن ببعض المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء، والغناء المحرم والموسيقى والتصوير وجلوسه مع زوجه أمام النساء؛ فإن هذا من المنكرات، ولربما عوقب بفشل زواجه وعدم التوفيق، قال الله جل وعلا: وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَنْ أَمْرِهِ يُسْرًا. وهذا لم يتق ربه فكيف ييسّر أمره؟!
وعلى من دعي إلى الوليمة أن يراعي أمورًا، منها أن يُجيب إذا دعي؛ لقول رسول الله : ((إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها)) أخرجه البخاري ومسلم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: من لم يأتِ الدعوة فقد عصى أبا القاسم. متفق عليه.
وإذا كان له عذر فلا بأس أن يتخلّف؛ لما روى عطاء أن ابن عباس رضي الله عنهما دعي إلى طعام وهو يعالج أمر السِقاية فقال للقوم: أجيبوا أخاكم، واقرؤوا عليه السلام، وأخبروه أني مشغول. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وقال الحافظ: "إسناده صحيح".
ومنها أنه إذا رأى منكرًا فليرجع؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: اشتريت نُمرُقة فيها تصاوير، فلما رآها النبي قام على الباب فلم يدخل، فعرفتُ في وجهه الكراهية. متفق عليه.
ومنها أن يدعو للعروسين بالبركة؛ وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان النبي إذا رفَّأ الإنسان إذا تزوج قال: ((بارك الله فيك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: "حسن صحيح".
وإذا كان يوم الزفاف فلهم أن يضربوا بالدّف؛ وفيه فائدتان: إعلان النكاح، وتطييب خاطر العروس؛ لقوله : ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح)) أخرجه النسائي والترمذي وحسنه، وعن عائشة رضي الله عنها أنها زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي : ((يا عائشة، ما كان معكن له؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو)) خرجه البخاري. ولا يجوز استعمال غير الدفّ من المزامير وآلات الموسيقى؛ لأن الحديث ورد في الإذن بالضرب بالدف لا غير.
فإن دخل بها فيستحب له أمور منها:
أولاً: أن يلاطفها؛ كأن يقدم لها شيئًا من الشراب ونحوه؛ لحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها في دخوله بعائشة؛ قالت: فجاء فجلس إلى جنبها، فأُتي بعُسٍ فيه لبن فشرب، ثم ناولها فخفَضت رأسها واستحيت، قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذي من يدي رسول الله ، فأخذت فشربت شيئا. الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
ثانيًا: أن يضع يده على رأسها ويدعو؛ لقول رسول الله : ((إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا فليأخذ بناصيتها وليسمّ الله وليدعُ بالبركة، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)) أخرجه أبو داود وحسنه العلامة الألباني.
ثالثًا: أن يصلّيا ركعتين معًا، قال العلامة الألباني: "لأنه منقولٌ عن السلف، وفيه أثران: الأول عن أبي سعيدٍ مولى أبي أُسَيدٍ قال: تزوجتُ وأنا مملوكٌ، فدعوت نفرًا من أصحاب النبي فيهم ابن مسعود وأبو ذرٍ وحذيفة رضي الله عنهم، فعلموني وقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصل ركعتين ثم اسأل الله من خير ما دخل عليك، وتعوذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك. والثاني عن شقيقٍ أنه قال: جاء رجل يقال له: أبو حريفٍ فقال: إني تزوجت جارية شابّة بكرًا، وإني أخاف أن تفركني أي: تُبغضني، فقال له عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الإلف من الله، والفرك أي: البغض من الشيطان؛ يريد أن يُكرِّه إليكم ما أحل الله لكم، فإذا أتتك فأمرها أن تصلي وراءك ركعتين. زاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: وقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لهم في، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير، وفرِّق بيننا إذا فرَّقت إلى خير. أخرجه ابن أبي شيبة وسنده صحيح".
ويُنهى عن نشر أسرار الاستمتاع وما يحدث بين الرجل وامرأته؛ لقوله : ((الحياء كله خير)) متفق عليه، وروى أبو سعيدٍ عن رسول الله أنه قال: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) أخرجه الإمام أحمد، وقالت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: كنت عند رسول الله والرجال والنساء قعودٌ، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فسكت القوم، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون، قال : ((فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثل شيطانٍ لقي شيطانةً في طريق فغشيها والناس ينظرون)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
وعلى الرجل أن يحرص على أداء حقّ زوجه في هذه الناحية، ولا يشغله عن ذلك صلاة ولا صوم، فضلاً عن غيرهما، وإلا فهو مخالفٌ لهدي رسول الله ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ خُويلة بنت حكيم بن أمية، وكانت عند عثمان بن مظعون رضي الله عنه، قالت: فرأى النبي بذاذة هيئتها فقال لي: ((يا عائشة؛ ما أبذَّ هيئة خولة!)) قلت: يا رسول الله، امرأة لها زوج يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمن لا زوجَ لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال: ((يا عثمان، أرغبةٌ عن سنتي؟!)) فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال : ((فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفُطر، وأنكحُ النساء، فاتق الله يا عثمان؛ فإن لأهلك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وصم وأفطر، وصلّ ونم)) أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
وإذا وجدت المرأة زوجها كذلك فالعاقلة هي التي تتزيّن وتتودَّد إليه، فعند النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأةً قالت للنبي : يا رسول الله، إن المرأة إذا لم تتزيّن لزوجها صلفت عنده أي: ثقلت، وكره النظر إليها. وصحَّ أن عائشة رضي الله عنها كانت تفعل ذلك؛ فقد دخل عليها النبي فرأى فتخاتٍ من ورِقٍ فقال: ((ما هذه يا عائشة؟)) قالت: صنعتهن أتزيّن لك يا رسول.
ويحرم عليها أن تمنع حقّ زوجها؛ لقوله : ((إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) متفق عليه.
هذا بعض ما ورد في سنته صلى الله عليه وآله وسلم في النكاح.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمما حضّ عليه الشارع حسن العِشرة، فعلى الرجل أن يحسن عِشرة زوجه وأن يرفق بها، ولا سيما إن كانت صغيرة السن؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله، لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد ورسول الله يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي حتى أكونَ أنا الذي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو. متفق عليه.
وذات مرّة خرجت عائشة مع النبيّ في بعض أسفاره، قالت: وأنا جاريةٌ ولم أُبدِّن، فقال للناس: ((تقدموا)) ، فتقدموا، فقال لي: ((تعالي حتى أسابقك)) ، فسابقته فسبقته، فسكت عني، حتى إذا حملتُ اللحم وبدَّنتُ ونسيت خرجتُ معه في بعض أسفاره فقال للناس: ((تقدموا)) ، فتقدموا، ثم قال: ((تعالي حتى أسابقك)) ، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: ((هذه بتلك)) أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي يقول لي: ((إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية، وإذا كنتِ عليّ غضبى)) ، قلت: من أين تعرف ذلك؟! قال: ((أمّا إذا كنتِ عني راضيةً فإنك تقولين: لا وربّ محمد، وإذا كنتِ غضبى قلت: لا وربّ إبراهيم)) ، قالت: أجل يا رسول الله؛ ما أهجر إلا اسمك. متفق عليه.
ومن أخلاق العقلاء مداراة النساء والصبر عليهن، فإن المرأة كما قال رسول الله : ((خُلقت من ضلع، وإنَّ أعوج ما في الضلع أعلاه، فإذا ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركتَه لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا)) خرجه الشيخان في صحيحيهما.
والغيرة طبعٌ في المرأة جُبلت عليه، فعلى الرجل أن يراعيَ ذلك ولا يتعفّف في تقويمها، وقد كنَّ نساء النبي يغِرن، فكيف بغيرهنّ؟! فعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله ذات ليلة فظننت أنه ذهبَ إلى بعض نسائه، فتحسّسته فإذا هو راكعٌ أو ساجدٌ يقول: ((سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت)) ، فقلت: بأبي وأمي، إنك لفي شأن، وإني لفي شأنٍ آخر.
وعند مسلم أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: التمستُ رسول الله فأدخلتُ يدي في شعره يعني ظنّت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فأدخلتُ يدي في شعره، فقال: ((قد جاءَكِ شيطانك؟!)) فقلت: أما لَك شيطان؟! قال: ((بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم)).
ويجوز للرجل أن يكذب على امرأته إرضاءً لخاطرها وتعميقًا للمودّة بينهما؛ لحديث أمّ كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: ما سمعت رسول الله يرخّص في شيءٍ من الكذب إلا في ثلاث، كان يقول: ((لا أعده كاذبًا: الرجل يصلح بين الناس؛ يقول القول لا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدِّث امرأته والمرأة تحدث زوجها)). قال النووي في المراد بالكذب بينهما: "هو إظهار الودّ والوعد بما يلزم والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك. وأما المخادعة في منع حق عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين".
وأما حقوق الزوج على امرأته فكثيرةٌ جليلة؛ وذلك لعظم حقه عليها، كما قال النبي : ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان.
فمن حقوق الزوج على امرأته طاعته في غير معصية الله واستئذانه إن أرادت التطوع بالصوم وأن لا تُدخل بيت الرجل في غيابه من ليس من المحارم أو من يكره دخوله وإن كان من المحارم أو النساء.
ومن حقه أن لا تخرج من بيته إلا بأذنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغفر له: "لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه ويحبسها عن زوجها، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزةً عاصيةً لله ورسوله ومستحقةً للعقوبة، وقد قال النبي : ((لا يحل لامرأة أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره، ولا تخرج وهو كاره، ولا تطيع فيه أحدًا)) أخرجه البيهقي".
ويجوز لها أن تشهد الصلاة في المسجد ولا يمنعها، ولكن بيتها خيرٌ لها.
وعليها أن تحفظ مال زوجها ولا تسرف، فإنها راعية في بيت زوجها وماله، ومسؤولة عن ذلك يوم القيامة.
وعليها أن تخدمه في الدار، وتعينه على أموره، ولا سيما إن كان مشتغلاً بالعلم، وإذا عجزت عن شيء فلا يكلّفها فوق طاقتها وليعنها؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يخيط ثوبه ويخصف نعله ويصنع ما يصنع الرجل في أهله. أخرجه مسلم.
وعليها أن تشكر لزوجها حسن صنيعِه إليها، وأن لا تجحدَ فضله؛ فإن ذلك مدعاة لسخط الله جل وعلا، فقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)) أخرجه النسائي في الكبرى. ومشهورٌ أن أكثر أهل النار النساء؛ لكفرانهن العشير وكثرة اللعن.
ولتحذر المؤمنة من كثرة الشكوى وإيذاء الزوج؛ فإن رسول الله قال: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ الله؛ فإنما هو عندكِ دخيلٌ يوشك أن يفارقك إلينا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
وأما حقوق الزوجة فكثيرةٌ، منها أن يكون عونًا لها على طاعة الله؛ فيعلمها التوحيد والعبادات، ويكفها عن الشرك والبدع والمحرمات.
ومنها أن يغار عليها ويحفظها ويبعدها عن مواطن الرِيَب، وليس معنى الغيرة أن يسيء الظن بها ويتخوَّنها ليلاً ليطلب عثراتها؛ فإن ذلك منهيٌ عنه.
ومن حقها أن يحسن عشرتها ويلبي حاجتها بالمعروف، وأن يرفق بها وينفق عليها وعلى أولادها، ولا يبخل ولا يقتِّر عليهم. وعليها أيضًا أن لا ترهقه من أمره عسرًا؛ فقد روى ابن خزيمة في كتاب التوحيد من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنّ أول ما هلك بنو إسرائيل أنّ امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب والصيغ)) أو قال: ((من الصيغة ما تكلّف امرأة الغني)) والحديث في السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني.
ومهما يكن من غضب الزوجة فلا تطلب الطلاق من زوجها؛ لقوله : ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
وعلى أولياء الزوجة أن يتقوا الله جل وعلا، وأن يرشدوا ابنتهم ويحثوها على طاعة الزوج ومعاشرته بالحسنى والصبر، وأن لا يتدخّلوا فيما لا يعنيهم؛ فقد قال عمر رضي الله عنه في وصيته ونصيحته لابنته حفصة زوج النبي : أي حفصة، أتغاضِب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم، فقال رضي الله عنه: قد خبتِ وخسرتِ؛ أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تستكثري النبي ، ولا تراجعيه في شيء، وسليني ما بدا لكِ. متفق عليه.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
(1/4642)
عيد الفطر 1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
مازن بن شحاده جبالي
الطيبة المثلث
1/10/1426
مسجد أبي هريرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان واستقبال العيد. 2- حال السلف في توديع رمضان. 3- التذكير باليوم الآخر. 4- استحباب صيام ست من شوال. 5- موعظة عامة. 6- من سنن العيد. 7- التحذير من المصافحة بين الجنسين. 8- موعظة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام، فإن ذلك من أكبر النعم، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
أيها المسلمون، منذ أيام استقبلنا شهر رمضان، وبالأمس ودعناه مرتحلاً عنا، شاهدًا لنا أو علينا، وفي صبيحة هذا اليوم الأغر يوم عيد الفطر المبارك غدوتم إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم من رب كريم، ويوم القيامة ينادَى عليكم: أيها الصائمون، ادخلوا الجنة من باب الريان.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع: ((إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض، فيقومون على أفواه السكك، ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس يقولون: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم، يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول: إني أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، انصرفوا مغفورًا لكم)).
سبحان الله الكريم المنان، يا رب اجعلنا ممن رضيت عنهم وغفرت لهم. تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن سيئاتنا، اغفر لنا يا الله.
سبحان الله، تمر أيام هذا الشهر سريعة، بالأمس استقبلنا هذا الشهر، واليوم نودعه. هذا هو حال كل غالٍ علينا، يحضر سريعًا، ويمضى سريعًا، ولا يبقى لنا إلا أن نقول: وداعًا يا شهر الخير.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهرالصيام فإنه أمان من الرحْمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبِي عليك بفانٍ
نودعك ـ يا خير الشهور ـ ونحن لا نعلم هل سنلقاك في العام القادم أم سيكون آخر شهر نصومه مع المسلمين. هل سنستقبله مرة أخرى أم هو الوادع الأخير؟ حقًا علينا أن نبكي عليه، فوالله إنه شهر كريم عظيم، قضينا به أقدس الأوقات وأجلها.
أي شهر قد تولَّى يا عباد الله عنَّا
حق أن نبكي عليه بدماء لو عقلنا
كيف لا نبكي لشهر مرَّ بالغفلة عنا
ثم لا نعلم أنّا قد قُبلنا أم حُرمنا
ليت شعري من هو المحروم والمطرود منا
كيف لا نبكي ونحن نودّع من أتانا يحمل الخير لنا من عمل صالح؟! رحل شهر رمضان، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذّ عيش المقبولين، وما أذلّ نفوس العصاة المذنِبين، وما أقبح حال المسيئين المفرطين.
في حديث ابن عباس المرفوع: ((لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار، كلهم قد استوجبوا النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره)). هذا هو شهر الخير، انقضى ولم يبقَ لنا إلا الدعاء أن يتقبله منا جميعا.
ذكر بعض السلف أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان وستة أشهر أن يتقبّل منهم. أين نحن منهم الآن؟! يمضى رمضان وبعده آخر ونحن لا نشعر بذلك. اللهم لك الحمد والشكر أن بلّغتنا شهر رمضان، اللهم تقبّل منّا صيامنا وقيامنا، اللهم اجبر كسرنا على فراق هذا الشهر الكريم، وأعده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، اللهم اجعله شاهدًا لنا لا علينا، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين يا رحمن يا رحيم.
أيها الناس، تذكّروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر، حين تقومون يوم القيامة من قبورِكم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]. يوم تفرّق الصحف ذات اليمين وذات الشمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى? سَعِيرًا [الانشقاق:7-12]. يوم توضع الموازين، فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ?لنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ?لِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَـ?تِى تُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ [المؤمنون:102-105]. يوم ينصب الصراط على جهنم، فتمرون عليه على قدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعا في الدنيا في مرضاة الله كان سريعا في مروره على الصراط، ومن كان بطيئا في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلا فيها كان مروره على الصراط كذلك، جزاءً وفاقا. فاستبقوا الخيرات أيها المسلمون، وأعدّوا لهذا اليوم عدّته لعلكم تفلحون.
عباد الله، هذا يومٌ يُظهر فيه المسلمون ذكرَ الله وتعظيمَه والثناءَ عليه، وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الله أكبر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. الله أكبر كلما رجع مذنِب وتاب، الله أكبر كلّما ندم عبدٌ وأناب. والحمد لله الذي منّ علينا بشهر رمضان وتمامه، ونسأله المزيد من توفيقه في شوال وسائر أيام زمانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من زكى وصام وصلى بالليل والناس نيام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها المسلمون، لقد شرع لكم نبيّ الهدى بعد رمضان صيام الست من شوال، قال النبي : ((من صام رمضان وأتبعه بستّ من شوال كان كصيام الدهر)).
فصوموها يا عباد الله، وحافظوا على الصلاة في وقتها، فإنها أول ما تحاسبون عنه يوم القيامة، ومن لم يؤدّ فريضة الحجّ بعدُ فليؤدّها قبل أن يحالَ بينه وبينها، ثم استوصوا بالوالدين خيرًا، وترحّموا على من مات منهما، تحبّبوا إلى أبنائكم، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم، واحذروا قطيعتها، فإنّ صلتها من الإيمان، والرّحم معلّقة بالعرش يقول الله: ألا ترضَين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: نعم، قال: فذلك لك.
أحسنوا إلى الأيتام والأرامل والفقراء، وأوفوا المكيال والميزان، واجتنبوا الغشّ والكذب في البيع والشراء، وابتعدوا عن الغيبة والنميمة والكذب والغشّ والخداع.
مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، كلّ بحسب طاقته وقدرته، فقد قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقال : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم، وقال : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي.
عباد الله، في الحديث الثابت عن النبي قال: ((من أصبح آمنا في سربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) وهو في صحيح الجامع الصغير. فبالأمن يأمن المسلم على دينه وعلى ماله وعلى عِرضه، ويتفرّغ لعبادة الله، ويسعى في إصلاح دينه ودنياه، فهذا الأمن مسؤوليةُ كل فرد منا.
ونحن بأمسِّ الحاجة إلى اجتماع الصفِّ ووحدة الكلمة والوقوف ضدَّ من يهدّد ديننا وأمنَنا، فعلينا تبديل مظاهر العنف بمظاهر العفو والتسامح التي تعلّمناها من رمضان، إذ كيف تناجي الله تعالى فتقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا وأنت لا تريد أن تعفو عمن أساء إليك من أقاربك وأهل بلدك؟! أمَا تعلم أن الرحماء يرحمهم الرحمن؟! ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). كنتَ في رمضان إن سابّك أحد أو شتَمك قلت له: إني صائم، فاستمرّ ـ أخي المسلم ـ على هذا الخلق، واعفُ عمّن ظلمك، تمالك نفسك عند الغضب، ولا تجعل للشيطان عليك سبيلا.
عباد الله، اعلموا أن السنةَ لمن خرج إلى صلاة العيد من طريق أن يرجع من طريق آخر.
معاشر المسلمين والمسلمات، لقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنّئ بعضهم بعضا في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودّة وتزيل البغضاء، فتصافحوا فإن النبي قال: ((إذا تصافح المسلمان تحاتّت ذنوبهما كما تتحاتّ أوراق الشجر)).
عباد الله، سأتكلم اليوم عن قضية المصافحة بين الجنسين: الذكر والأنثى، وقد كنت قد أرجأت الحديث عنها حتى يأتي وقتها المناسب، ورأيت أن اليوم هو وقتها.
إن معظم كتب الفقه تحرّم هذا الفعل وتعتبره مخالفًا لسنة النبي القولية والفعلية، حيث ثبت عنه أنه لم يكن يصافح النساء، وأنه نهى عن هذا الفعل بقوله: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير لكم من أن يمس امرأة لا تحل له)).
ممكن أن يأتي إنسان ويستشهد بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وبما أن نية المصافح سليمة وصافية تجاه الطرف الآخر ولا وجود لديه للشهوة ولا يخشى الفتنة من وراء ذلك فإنه لا مانع من المصافحة، والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: إذا كان مثل هذا الشخص قد أمن على نفسه الفتنة وعدم وجود الشهوة فهل يأمن ذلك من الطرف الآخر؟ وماذا يفعل هذا الشخص في حال صادَف وجود عدة أشخاص، فهل ينتقي من بينهم من تنتفي الشهوة ضدّه فيصافحه ويترك الآخرين؟! ثم ألا يمكن أن تتبدّل النية بعد الملامسة؟! خاصة إذا حدث أثناء الملامسة ما يستوجب هذا التغيير مثل تلاقي العيون والشد على اليد مثلاً؟!
يقول الدكتور عبد المجيد الزنداني مبينًا أحدَث النتائج التي جاء بها علم التشريح الحديث حول ما يحدث أثناء المصافحة بين الرجل المرأة: "إن هناك خمسَة ملايين خلية في الجسم تغطي السطح، كل خلية من هذه الخلايا تنقل الأحاسيس، فإذا لامس جسم الرجل جسم المرأة سرَى بينهما اتصال يثير الشهوة".
وهذا كلام رجال التشريح المادي من الطب يبيّنونه ويدرسونه تحت أجهزتهم وآلاتهم، ونحن نقول: سبحان الله الحكيم الذي صان المؤمنين والمؤمنات، فأغلق عليهم منافذ الشيطان وطرق فساده، قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
ثم إذا كان مقياس الحكم هو أمن الفتنة وسلامة النية، فلماذا لم يصافح الرسول ؟! فهل يمكن لمسلم أن يشك بسلامة نية رسول الله في هذا المجال؟! يقول الشيخ الصابوني مبينًا هدف الرسول عليه الصلاة والسلام من وراء الامتناع عن مصافحة النساء: "ورسول الله عندما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لسلوك طريق الاستقامة، وإذا كان رسول الله وهو الطاهر الفاضل الشريف الذي لا يشكّ إنسان في نزاهته وطهارته وسلامة قلبه لا يصافح النساء ويكتفي بالكلام في مبايعتهن مع أن أمر البيعة أمر عظيم الشأن، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة مع أن الشهوة منهم غالبة والفتنة غير مأمونة والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟!".
فابدأ ـ أخي المسلم ـ من اليوم وصاعدًا، لا تصافح امرأة من غير المحارم حرمة مؤبدة، وأنتِ كذلك أيتها المرأة المسلمة، وإن تسبّب ذلك لكم بالضيق والحرج والاتهام بالرجعية، فدين الله أحق أن يتبع.
فبذلك يخدم الإسلام ببيان حكم الشرع في هذه المسألة، ويعتذر بلباقة من الطرف الآخر، ويظهر له بأنه لم يقصد الإهانة والاحتقار، وإنما هو ينفّذ أحكام دينه، وفي هذه الحالة يكون موقف الطرف الآخر المؤكّد أنه لن يمدّ يده في المرّة القادمة كي يسلم عليه أو على أيّ شخص ملتزم.
معاشر الإخوة، لنرفع الأصوات بالتحميد، ولنرسل التهاني لكل قريب وعزيز وجار وحبيب، لنظهر الأفراح ويهنئ بعضنا بعضا بقول: تقبل الله منا ومنكم، أو عيد مبارك، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة.
أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات فلم أعلم لها أصلا من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت، ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها.
أيها الناس، قبل انتهاء خطبتنا هذه أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي يعظهنّ في صلاة العيد بعد الرجال، فأقول:
أيتها النساء، إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وأن تحفظن حدوده وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
أيتها النساء، حافظن على لباس الحجاب والعفاف، واحذرن التبرج والسفور، فلقد قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد)) ، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)).
وإذا مشيتن فعليكن بالسكينة، ولا تزاحمن الرجال، ولا ترفعن أصواتكن، ولا تلبسن بناتكن ألبسة مكروهة، ولا تتشبّهن بالرجال، فإن النبي لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وقال للنساء: ((رأيتكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)).
اللهم إن عبادك خرجوا اليوم لصلاة العيد يرجون ثوابك وفضلك ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو، وأمِّنا مما نخاف، اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا، اللهم انصرنا على عدونا واجمع كلمتنا على الحق، ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، إنك جواد كريم...
(1/4643)
أهمية الوقت بالنسبة للمسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت في القرآن الكريم. 2- الحث على اغتنام الأوقات. 3- الندم على فوات الأوقات حين الاحتضار. 4- الندم على فوات الأوقات في الآخرة. 5- من صور إضاعة الوقت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، أوصيكم وإياي بتقوى الله عز وجل، وأدعوكم في هذه الأيام التي تتمتّعون فيها بإجازة الصيف والتي يستعدّ فيها أبناؤكم في مراحل الدراسة المختلفة أو تستعدّون أنتم لدخول الاختبارات المدرسية بعد أشهر من العمل والجهاد، أدعوكم إلى معرفة نعمة من نعم الله تعالى علينا، وهي نعمة الوقت في حياتنا ووجوب استغلالها في الخير والطاعة.
فقد اعتنى الإسلام ببيان أهمية الوقت في حياتنا، فقد قال الله تعالى ممتنا علينا: وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:33، 34].
وأقسم الله تعالى في مطالع سوَرٍ عديدة من القرآن بأجزاء من الوقت كالليل والنهار والفجر والضحى والعصر، فقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1، 2]، وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]. وإذا أقسم الله تعالى بشيء من خلقه فإنه بذلك يلفت أنظارنا إليه وينبهنا على جليل منفعته وآثاره.
وجاءت السنة النبوية تؤكّد قيمة الوقت وتقرّر مسؤولية الإنسان عنه أمام الله يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل أن النبي قال: ((لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟)) الحديث. وهكذا يسأل الإنسان عن عمره عامّة، وعن شبابه خاصّة، والشباب جزء من العمر، ولكن له قيمة متميّزة باعتباره سنّ الحيوية الدافقة والعزيمة الماضية، ومرحلة القوة بين صنفين: صنف الطفولة وصنف الشيخوخة، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم:54].
وجاءت شعائر الإسلام وفرائضه وآدابه تثبت هذا المعنى الكبير، وهو قيمة الوقت والاهتمام بكل مرحلة منه وكل جزء، وتوقظ في الإنسان الوعي والانتباه، فحين ينصدع الليل ويسفر نقابه عن وجه الفجر يقوم داعي الله يملأ الآفاق ويصدع بالأذان والدعوة إلى الفلاح: (حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم)، فتجيبه الألسنة الذاكرة والقلوب الشاكرة والأيدي المتوضّئة الطاهرة قائلة: صدقت وبررت، وعندئذ تحلّ كل عقدة كان عقدها الشيطان على قافية رأس كل إنسان عندما ينام، كما جاء في الحديث الصحيح.
ويتكرّر النداء عندما يقوم قائم الظهيرة، وعندما يصير ظل كل شيء مثله في العصر، وعندما يغيب الشفق، وقبله حين يختفِي قرص الشمس عند الغروب، وفي كل أسبوع يوم جمعة، وفي كل شهر هلال ينبزغ ويستقبله المسلم بالتكبير والدعاء والمناجاة.
ذاك كله يذكّر الإنسان بقيمة الوقت، ويوقظ فيه الإحساس بأهمية الزمن، فإن هذا الزمن إذا مضى لا يعود، وسرعان ما يمضي وينقضي، وما أحسن ما قاله الحسن البصري يرحمه الله في قوله البليغ: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
وكم يتمنى الناس وكم يتلهف الشيوخ على الشباب وأيامه:
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وما الْمرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر
ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين من الدهر يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان. وفي هذا يذكر الله تعالى موقِفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
أولهما: ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو منح مهلة من الزمن ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات: يا أيها الذين آمنوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:9، 10]، ويكون الجواب على هذه الأمنية: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
ثانيهما: في الآخرة حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هنالك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الحياة ليبدؤوا من جديد عملا صالحا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:36، 37].
وإذا عرفنا ذلك ـ يا معشر المسلمين ـ فلنحرص على الاستفادة الكاملة من الوقت، فإن إضاعة الوقت علامة من علامات المقت، وما أحسن ما قاله الحسن البصري: "أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم".
فلنحرص على الوقت، ولنحافظ عليه، ولنستفد منه كله فيما ينفعنا في الدين والدنيا، وفيما يعود على الأمة بالخير والسعادة والنماء الروحي والمادي.
ولنحذر من إضاعة الوقت أو قتله كما يقول بعض، الذين يجلسون على اللهو واللعب ساعات طويلة من ليل أو نهار حول مائدة من موائد النرد أو رفقة الشطرنج أو لعبة الورق، أو غير ذلك من حرام، عابثين لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة وعن واجبات الدين والدنيا، فإذا سألتهم عن ذلك قالوا بصريح العبارة: إنما نريد أن نقتل الوقت، وهم في الحقيقة يقتلون أنفسهم.
واغتنموا فرصة الفراغ فإنها نعمة يغفل عنها كثير من الناس ويجهلون قدرها ولا يقومون بحق شكرها، فعن ابن عباس عن النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)).
وسارعوا إلى الخيرات ولا تنهضوا إليها في تثاقل وتكاسل، فقد أمر الله تعالى باستباق الخيرات قبل أن تشغل عنها الشواغل أو تعوق العوائق، فقال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة:148]، ولا تؤجّلوا الخير والطاعة إلى سنّ الكبر، فقد كان يأمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول العوائق والفتن فيقول فيما روِي عنه: ((هل تنتظرون إلا غنى مطغِيا، أو فقرًا منسيا، أو مرضا مفسِدا، أو هرما مفنّدا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، إن الله غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4644)
صيغ الصلاة على النبي
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, الدعاء والذكر, فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
10/11/1416
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صِيَغ الصلاة على النبي. 2- معنى صلاة الله على نبيّه. 3- من هم آل النبي ؟ 4- معنى (إنك حميد مجيد). 5- إضافة لفظة "سيدنا" في الصلاة الإبراهيمية. 6- الحث على الاتباع والتحذير من الابتداع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، ذكرنا في خطب ماضية فضائل الصلاة على النبي وفوائدها وثمراتها، ونذكر اليوم الصيغ الثابتة عن النبي في أداء هذه الصلاة عليه.
فمن تلك الصيغ ما صحّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وفي بعض الصيغ الثابتة: ((اللهم صلِ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)).
وفي بعضها: ((اللهم صلِ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد عبدك ورسولك وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)).
وفي بعضها: ((اللهم صلِ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وفي بعض الصيغ الثابتة عنه أيضا: ((اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
قال ابن القيم رحمة الله عليه: "لا خلاف بين أهل العلم أن لفظه (اللهم) معناها: يا الله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، يقال: اللهم اغفر لي، أي: يا الله اغفر لي"، قال: "وأصل الصلاة في اللغة يرجع إلى معنيين أحدهما: الدعاء والتبريك، والثاني: العبادة، وهذا بالنسبة للعباد، أمّا من الله جل وعلا فقد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية رحمة الله عليه قال: ((صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة)) "، قال ابن القيم: "فصلاة الله على نبيه هو ثناؤه عليه وعنايته به وإظهار شرفه وفضله وحرمته، وصلاة العباد عليه والملائكة هي دعاؤهم له ".
وللعلماء في المراد بآل النبي أقوال، فبعض أهل العلم قال: إن آل النبي هم ذريته وأزواجه خاصة، قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرجل وأهله أزواجه وذريته. وقال بعض أهل العلم: آل النبي هم أتباعه إلى يوم القيامة، وأقدَم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ورجحه الإمام النووي في شرح مسلم. وقال بعضهم: إن آل النبي هم الأتقياء من أمته كما قال سبحانه لنوح عليه السلام لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:45، 46].
وأما الحميد المجيد وهما الاسمان اللذان ختمت بهما الصلوات الإبراهيمية فالحميد المجيد هو المحمود بكل حال ولو لم يحمده الجهال، محمود على السراء، ومحمود على الضراء، وصح عنه أنه إذا أصابَه خيرٌ قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)) ، وإذا أصابه ضر قال: ((الحمد لله على كل حال)).
والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كلّه، لأن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، والمجد يستلزم العظمة والسعة والجلال. قال ابن القيم رحمه الله: "ولما كانت الصلاة على النبي وهي ثناء الله عليه وتكريمه والتنويه به ورفع ذكره وزيادة حبه وتقريبه كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له وهما اسما الحميد المجيد".
وقد سُئل الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبيتها: هل يشترط فيها أن يصفه بالسيادة كأن يقول مثلاً: اللهم صل على سيدنا محمد أو على سيد الخلق أو على سيد ولد آدم أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة تابعة له لما صح عنه: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) أو عدم الإتيان بها لعدم ورود ذلك في صيغ الصلاة على النبي ؟ فأجاب رحمة الله عليه بقوله: "نعم، اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولو كان ذكر السيادة راجحًا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة"، يقول ذلك ابن حجر وهو من أوسع الناس اطلاعًا: "ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم"، قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، إلى أن قال: "والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة لم يقع في كلام أحد منهم سيدنا، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع والله أعلم".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، قد سمعتم فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والآثار المترتبة عليها، وسمعتم الصيغ الثابتة عن النبي ، فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، ففيما ورد عنه من الصيغ التي علمنا إياها لنصلي بها عليه غنية عما ابتدعه المبتدعون وغنية عما جدّ في العصور المتأخرة مما أدرج فيه شِرك بالله جل وعلا، لذلك فإني أوصي نفسي وأوصي إخواني جميعًا أن نتبع، فكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) هكذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن آية المحبة الاتباع، ولما ذكر الله جل وعلا محبته قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، فآية المحبة لله جل وعلا وآية المحبة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي اتباعه في كل ما يأتي وفي كل ما يذر، فما من خير إلا ودل الأمة عليه، ولا من ضر إلا وحذر الأمة منه، فصلاة ربي وسلامه عليه، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لذلك فإن من أعظم آية المحبة له أن نتبع سننه ونقتفي أثره ونتعلم العلم الذي جاء به من عند ربه ونعمل به وندعو إلى ما تعلمنا ونصبر على الأذى في كل ذلك على حدّ قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وقلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعوة لا تسمع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع. اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم إنا نسألك البر والتقى والعفاف والغنى، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها...
(1/4645)
الأدب مع الله
الإيمان
الله عز وجل, خصال الإيمان
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
1/2/1426
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نِعَم الله تعالى على عباده. 2- علم الله تعالى بالعبد واطلاعه عليه. 3- قدرة الله تعالى على العبد. 4- لطف الله تعالى بعباده. 5- بطش الله تعالى وقوته. 6- حسن الظن بالله تعالى. 7- بماذا تعلو درجة المؤمن؟ 8- الفرق بين الأسلاف والأخلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَ تقاته، فإنّ الله خلقكم لمعرفته وعبادته، فطوبى لمن قامَ بحقّ مولاه وأدَّى الذي أمرَه به وما عنه نهاه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
معاشرَ المسلمين، المسلمُ ينظرُ إلى ما لله تعالى عليه من مننٍ لا تحصى ونعم لا تستقصى، اكتنفته من ساعة علوقه نطفةً في رحم أمِّه، وتسايره إلى أن يلقى ربَّه عز وجل، فيشكرُ الله تعالى عليها؛ بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في مرضاته وطاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله سبحانه وتعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفرانُ النعم وجحودُ المنعم والتنكرُ له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ، ويقولُ سبحانه وتعالى: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاِ تُحْصُوهَا ، ويقول جل جلاله: فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ.
وينظرُ المسلمُ إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله، فيمتلئُ قلبه منه مهابةً ونفسه له وقارًا وتعظيمًا، فيخجلُ من معصيته، ويستحي من مخالفته والخروج عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى، إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبدُ سيِّده بالمعاصي أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشاهده وينظرُ إليه، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13، 14]، وقال جل ذكره: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]، وقال سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
وينظرُ المسلمُ إلى الله تعالى وقد قَدِرَ عليه وأخذ بناصيته، وأنه لا مفرَّ له ولا مهرَبَ ولا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفرُّ إلى الله سبحانه، ويطَّرحُ بين يديه، ويفوّضُ أمره إليه، ويتوكلُ عليه، فيكونُ هذا أدبًا منه مع الله ربِّه وخالقه؛ إذ ليس من الأدب في شيء الفرارُ ممن لا مفرَّ منه، ولا الاعتمادُ على من لا قُدْرةَ له، ولا الاتكالُ على من لا حولَ ولا قوةَ له، قال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال عز وجل: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
وينظرُ المسلمُ إلى ألطافِ الله تعالى به في جميع أموره وإلى رحمته له ولسائر خلقه، فيطمعُ في المزيد من ذلك، فيتضرعُ له بخالص الضراعةِ والدعاء، ويتوسّلُ إليه بطيِّب القول وصالح العمل، فيكونُ هذا أدبًا منه مع الله مولاه، إذ ليس من الأدب في شيء اليأسُ من ربٍّ رحمته وسعت كلَ شيء، ولا القنوطُ من إحسان قد عمَّ البرايا وألطافٍ قد انتظمت الوجود، قال تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19]، وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وقال: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:153].
وينظرُ المسلمُ إلى شدة بطشِ ربِّه وإلى قوةِ انتقامه وإلى سرعةِ حسابه، فيتقيهِ بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله؛ إذ ليس من الأدب عند ذوي الألباب أن يتعرضَ بالمعصيةِ والظلمِ العبدُ الضعيفُ العاجزُ للربِّ العزيزِ القادر والقوي القاهر، وهو القائل: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11]، والقائل: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، والقائل: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4].
وينظرُ المسلمُ إلى الله عز وجل عند معصيته والخروج عن طاعته، وكأنَّ وعيده قد تناوله، وعذابَه قد نزلَ به، وعقابَه قد حلَّ بساحته. كما ينظرُ المسلمُ إليه تعالى عند طاعته واتباع شريعته، وكأنَّ وعده قد صدقه له، وحلةَ رضاه قد خلعها عليه، فيكونُ هذا من المسلم حُسْنَ ظن بالله.
ومن الأدب حُسنُ الظنِّ بالله عز وجل؛ إذ ليس من الأدب أن يُسيءَ المرءُ ظنَّه بالله تعالى فيعصيه ويخرج عن طاعته، ويظنُّ أنه غير مطّلع ٍ عليه ولا مؤاخذٍ على ذنبه، والله يقول: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:22، 23]. كما أنه ليس من الأدب مع الله أن يتقيه المرءُ ويطيعه ويظنُ أنه لا يجازيه بحسنِ عمله، ولا هو متقبّلٌ منه طاعته وعبادته، وهو عز وجل يقول: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52]، ويقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ويقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسُنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيّناتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: معاشر المسلمين، إن شكرَ المسلمِ ربَّه تعالى على نعمه وحياءَه منه تعالى عند الميل إلى معصيته وصدق الإنابة إليه والتوكل عليه ورجاء رحمته والخوف من نقمته وحُسن الظن به في إنجاز وعده وإنفاذ وعيده فيمن شاء من عباده هو أدبه مع الله، وبقدر تمسكه به ومحافظته عليه تعلو درجته، ويرتفعُ مقامه، وتسمو مكانته، وتعظمُ كرامته، فيصبحُ من أهلِ ولاية الله ورعايته ومحطِ رحمته ومنزّل نعمته، ومن عاداه فقد آذنه اللهُ بالحرب.
وهذا أقصى ما يطلبه المسلمُ ويتمناه طولَ حياته، كان بعضُ التابعين يدورُ قبيل الفجر ليسمعَ أصواتَ العُباد الذاكرين التالين لكتاب الله، كما كان دأبُ الصحابة رضوان الله عليهم، ومضى زمانٌ فطافَ بالفسطاطِ الذي كان ينزلُ فيه، فلم يسمع داعيًا ولا تاليًا، فقال: ما بالُ أهلِ هذا الفسطاط قد أمنوا ما خافه أسلافهم؟!
إنها كلمةٌ من عيون الحكمة، تصوَّر المفارقة بين حال الأسلاف والأخلاف، الأسلافُ خافوا غضبَ الله وانتقامه، فاستحقوا العزةَ والكرامة في الدنيا والآخرة والأمنَ يوم القيامة، أما الأخلافُ فقد أمنوا واطمأنوا إلى الحياة الدنيا، ولم يزعجهم خوفُ العذاب في الآخرة، ولم يبالوا بعواقب الذنوب وآثارها المدمّرة في المجتمع، فسلّط الله عليهم من الأعداء من ينتقصُ أطرافهم ويجوسُ خلالَ ديارهم. ومن هنا كان الخليفةُ الراشدُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لجنوده: (إنما أخشى عليكم ذنوبكم أكثرَ من خشيتي عليكم من أعدائكم). كان استشعارُ الخطرِ والإعداد للسفر طريقَ الصالحين من أسلافنا الذين كانوا يرون أعمالهم الصالحة مهما كثرت قليلة، وذنوبهم مهما قلَّت عظيمةً وبيلة.
عن عبد الرحمن بن زياد أن أباه اشتكى وجعًا، فكتب إلى بكر بن عبد الله المزني أن ادعُ الله لي، فكتب إليه بكرٌ يقول: "إنه أتاني كتابُك تسألني أن أدعوَ لك، وحُقَّ لعبدٍ عملَ ذنبًا لا عذرَ له فيه وخافَ موتًا لا بُدَّ له منه أن يكون مشفقًا، وسأدعو لك، ولستُ أرجو أن يُستجابَ لي بقوةٍ في عملي ولا براءة ٍمن ذنب. والسلام".
هكذا كانوا حذرين، مشفقين، مع كثرةِ أعمالهم الصالحة وشدةِ اجتهادهم في طاعة الله سبحانه واقترابهم من منهج القدوة الصالحة، فما بالُ الذين يأمنون على أنفسهم مع كثرةِ ذنوبهم وشدة تقصيرهم وانشغالهم بالتنافس على المظاهر والأعراض الفانية؟! لقد كان تعليلُ سقوط بعض المدن الإسلامية خلالَ تاريخنا المحزن بكثرة ِما كان فيها من ذنوبٍ وآثامٍٍ مقبولاً لدى أهل البصائر والتدبر في كتاب الله، فهموه من قوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكف:59]، وقوله عزَّ من قائل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ولكنَّ البعض كان يُماري في ذلك، حتى ليقول ابنُ شرفٍ القيرواني في رثائه للقيروان حين خرَّبها بنو هلالٍ في القرن الخامس الهجري:
تُراها أصيبتْ بالكبائرِ وحدها ألم تكُ قِدْمًا في البلادِ الكبائرُ
ونقولُ له: نعم، إنَّ كلَ مدينةٍ تفشو فيها الكبائرُ، فلا يأمنُ أهلُها غضبَ اللهِ وعقابَه، (فلا تأمنوا ما خافه أسلافكم).
اللهم ارزقنا ولايتك، ولا تحرمنا رعايتك، واجعلنا لديك من المقربين.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...
(1/4646)
ويتفكرون في خلق السموات والأرض
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, الربوبية, مخلوقات الله
علي بن عبد الرحمن الهوني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خشوع النبي وتعبده لله تعالى. 2- التفكر في خلق الله تعالى. 3- صفات أولي الألباب. 4- فضل التفكر وأقوال السلف في ذلك. 5- ذم أهل الغفلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها، فسلّمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟ قال: فقلنا: هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير، قالت: يا عبيد بن عمير، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غبًّا تزدَد حبًّا، ثم قالت: إنا لنحبّ زيارتك وغشيانك، قال عبد الله بن عمر: دعينا من بطالَتكما هذه، أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله ، قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلده بجلدي، ثم قال: ((يا عائشة، ائذَني لي أتعبَّد لربي)) ، قالت: إني لأحبّ قربَك وأحبّ هواك، قالت: فقام إلى قِربة في البيت فما أكثر صبَّ الماء، ثم قام فقرأ القرآن، ثم بكى حتى رأيت أنّ دموعه قد بلغت حقوَيه، قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت دموعَه قد بلغت حجره، قالت: ثم اتَّكأ على جنبه الأيمن ووضع يدَه تحت خده، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، فدخل عليه بلال الفجر ثم قال: الصلاة يا رسول الله، فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر! فقال: ((يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا؟! وما لي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] ؟!)) ثم قال: ((ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها)) رواه ابن حبان في صحيحه.
عباد الله، على المسلم الكيّس الفطن أن يدرك معنى خلق الله الأشياء وابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لم تكن شيئا، فيعلم معتقدًا فيما لا مجال للشكّ فيه أن الله هو مالك الملك ومدبر الكون وخالقه، وأنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء، وأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن فيها دقّة وإتقانا وحكمة وتقديرا، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وأن الله على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار والإعزاز والإذلال والإحياء والإماتة والشقاء والسعادة.
فقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، خلق السماوات وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها وما فيها من نجوم مصابيح وشمس وقمر وما يحدث فيهما من تعاقب وكسف وخسف، وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:164]، وخلق الأرض، وهذا يشمل كل ما في الأرض، تحتها أو فوقها من اتّساع رقعتها وارتفاع جِبالها وأنها رواسي، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل:15]، ومسالكها وأوديتها وأنهارها وبحارها، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ، في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بها، وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]، وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ أي: فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرّقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الجنوب، وتارة شرقية، وتارة غريبة.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر، ويعقبه لا يتأخّر عنه لحظة، كما قال تعالى: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وتارة المطلوب هذا، ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا، ثم يتعاوضان، كما قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد:6] أي: يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا.
لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ أي: في هذه الأشياء دلالات بينة لأصحاب العقول المستنيرة والمتبصرة على وحدانية الله تعالى، فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كلّ شيء وخالق كل شيء، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ، وهذه إشارة إلى أن كلّ ذي عقل متفكر متبصّر ذاكر لله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين أنّ رسول الله قال: ((صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)) ، أي: لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: يفهمون ما فيهما من الحِكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وحكمته واختياره ورحمته.
قال الشيخ أبو سليمان الداراني: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة" رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار. وعن الحسن البصري أنه قال: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، وقال: "الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"، وقال سفيان بن عيينة: "الفكر نور يدخل قلبك"، وربما تمثل بهذا البيت:
إذا الْمرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: (طوبى لمن كان قيله تذكّرا وصمته تفكّرا ونظره عبرًا)، وقال لقمان الحكيم: (إن طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة)، وقال وهب بن منبه: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل"، وقال عمر بن عبد العزيز: "الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة"، وقال مغيث الأسود: "زوروا القبور كل يوم تفكّركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها"، وكان يبكي حتى يقع صريعا من بين أصحابه. وعن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: (أين أهلك؟!) ثم يرجع إلى نفسه فيقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ، وعن ابن عباس أنه قال: (ركعتان مقتَصِدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه)، وقال الحسن البصري: "يا ابن آدم، كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة"، وقال بعض الحكماء: "من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة"، وقال بشر بن الحارث الحافي: "لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه"، وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال: كان أصحاب النبي يقولون: (إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر)، وعن عيسى عليه السلام أنه قال: (يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلّم عينيك البكاء وجسدك الصبر وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غدٍ"، وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه بكى يوما بين أصحابه، فسئل عن ذلك فقال: "فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها؛ ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إنَّ فيها مواعظَ لمن ادّكر".
نزهة الْمؤمن الفكر لذة الْمؤمن العبَر
نحمد الله وحده نَحن كل على خطر
رُبَّ لاه وعمره قد تقَضَّى وما شعر
ربَّ عيش قد كان فوق المنى مورق الزهر
فِي خرير من العيون وظلّ من الشجر
وسرور من النبات وطيب من الثمر
غيَّرته وأهله سرعة الدهر بالغيَر
نَحمد الله وحده إن فِي ذا لَمعتبر
إن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبَر
نسأل الله أن يبصرنا بديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:105-106]، وقال رسول الله في الحديث: ((ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها)). قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ وما أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن؟ وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هنيهة ثم قال: "يقرؤهن وهو يعقلهن".
ومدح الله عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً، أي: ما خلقت هذا الخلق عبثا، بل بالحق لتجزى الذين أساؤوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]، ثم نزّهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: سُبْحَانَكَ، أي: عن أن تخلق شيئا باطلا، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائض والعيب والعبث، قِنا من عذاب النار بحولك وقوتك، وقيّضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم.
(1/4647)
خطبة استسقاء 6/1/1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/1/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار المعاصي والمنكرات. 2- نتائج ذلك وآثاره. 3- أحوال الناس مع الماء. 4- صلاح حال السلف. 5- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها الملتزَم، وعليها المعوَّل والمعتَصم، فبتقوى الله سبحانه تصلُح الأحوال وتحسُن العاقبة ويحلو المآل.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّكم وما تأمَلون من هذه الدنيا ضعفاء مؤجَّلون ومدينون مطالبون، ومِن المعلوم شرعًا أنّ مطلَ الغنيّ ظلم، فإنّ الأجلَ منقوص والعملَ محفوظ، فلِلَّه كم من دائب مضيِّع، وكم من كادِح خاسر.
وإنّكم ـ أيّها المسلمون ـ قد أصبحتم في زمنٍ لا يزداد الخير فيه إلا قلَّة، ولا الشرّ فيه إلا كثرة، ولا الحقّ فيه إلا خفاءً، ولا الباطل إلا شيوعًا. لقد كثر الطَّمَع، واشتدَّ الجشع، وظهر الربا، وكثُر الغشّ، وشاعتِ الرِّشوة، وعمَّ الغُلول.
ألا إنَّ الواحدَ منّا يرى في غير ما سبيلٍ طغيانَ النفاق، وانتشارَ الكذب والرياء والسمعة، واعتلاءَ صيحاتِ المتمرِّدين عن دينهم والمستهترين بشريعتهم، ومَن قلَّب طرفَ الرامِق بعين بصيرته فإنّه لا يبصر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدّل نعمة الله كفرًا، أو بخيلاً اتَّخذ البخلَ بحقِّ الله وفرًا، أو متمرِّدًا عن حدود الله كأنَّ من أذنيه من سمع المواعظ والزواجر وقرًا، إلاَّ من رحم ربّي وقليلٌ ما هم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
لقد رجَع فئامٌ من الناس على أعقابهم، فغالتهم السُبل، واتَّكلوا على الولائج، فاتّخذوا من دون الله ورسولِه والمؤمنين وليجة، ولقد وصل أقوامٌ غيرَ الرَّحم، وهجروا السبَب الذي أمرهم الله أن يوصَل، فنَقلوا البناءَ عن رَصِّ أساسِه، وبنَوه في غير موضِعِه، فمِن منقطعٍ إلى الدنيا راكن، أو مفارقٍ للدنيا مباين.
ومحصِّلة تلك الأمور ـ عبادَ الله ـ خفاءٌ في الحقّ، وخمولٌ في الذكر، وقسوةٌ في القلب، ووحشةٌ بين العبد وبين ربِّه، ومنعٌ لإجابة الدعاء، وكسفٌ في البال، وضنكٌ في المعيشة، ومَحْقٌ في البركةِ والرزق والعمُر، وحرمانٌ في العلم؛ إذ تتولَّد هذه كلُّها من معصيةِ الله ومِن الغفلة عن ذكره، كما يتولَّد الزرع من الماء والإحراق عن النار، فاستبدَل أقوامٌ شرًّا بالذي هو خير، وجهلاً بما هو عِلم ونُور، وانتظَروا بسُوء أفعالهم الغِيَر انتظَارَ المجدِب المطرَ من السماء، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، هو المستعانُ وعليه التّكلان.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنَّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
أيّها المسلمون، إنَّ اللهَ جلّ وعلا جعل للنّاس مع الماء أحوالاً متعدِّدة، فقد جعل من الماء كلَّ شيء حيّ ليختبر عبادَه ويبتليَهم؛ أيشكرون أم يكفرون؟ فأنزله سبحانه من المزنِ ليشربُوا امتنانًا من الباري سبحانه على عباده، أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]. وجعل سبحانه الماءَ مِحنةً وبلاءً وعقوبةً يُرسلها للعاصين من عباده والمعرضين عن هديه وشريعته كما فعل جلّ وعلا بقوم نوح وقوم سبأ، كما قال سبحانه عن قوم نوح: فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11، 12]، وقال عن قوم سبأ: فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ [سبأ:16]، وقد جاء في مسند أحمد أنّ النبيَّ قال: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يمطَر الناسُ مطَرًا لا تُكِنُّ منه بيوت المدَر، ولا تُكِنّ منه إلا بيوتُ الشعر)) [1]. كما جعل سبحانه من أحوالِ الماء أن ينزَّل من السماء فتكونُ الأرض له كالقيعان، لا تحبسُ ماءً ولا تنبِتُ كلأً، وهذه الحالُ هي السَّنَة التي ذكرها النبيّ بقوله: ((إنّ السَّنَة ليس بأن لا يكون فيها مطر، ولكنَّ السّنة أن تمطِر السماء ولا تنبتُ الأرض)) رواه أحمد في مسنده [2] ، كما جاء في المسند أيضًا ما يدلّ على أن قلَّة الأمطار وشحَّها وعدمَ الإنبات من علامات الساعة، فقد قال أنس رضي الله تعالى عنه: كنّا نتحدَّث أنه لا تقومُ الساعة حتّى لا تمطِر السماء، ولا تنبتَ الأرض، وحتى يكون لخمسين امرأة القيّمُ الواحد [3]. ثمّ إن البركةَ كلَّ البركة ـ عبادَ الله ـ في نزول المطر الذي تَنبُت به الأرض وتحيى به الموات، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?مًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا [الفرقان:48، 49].
عبادَ الله، إنّكم شكوتُم جدْبَ دياركم واستئخارَ المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعُوه، ووعدَكم أن يستجيبَ لكم، ولقد كان آباؤنا وأجدادنا يخرُجون للاستسقاء تائبين منيبين راجين، فكان لا يخلُفهم المطرُ غالبًا، ولربّما نزل عليهم وهم في مصلاَّهم، ولقد كانوا مع فقرِهم وقلَّةِ ذات اليد عندهم أكثرَ بركةً منَّا وأوسعَ عافية، وذلك بسبب قربهم من الله وقلّة معاصيهم وشيوع العدلِ بينهم والفرار من الظُّلم فرارَ الصحيح من الأجرب، فلذلك حصل لهم ما حصَل من سَعَةٍ في الدين وبركةٍ في الرزق، ولقد قال أبو داود صاحب السنن في سننه عن نفسه: "شبرتُ قثّاءَةً بمصر ثلاثةَ عشر شبرًا، ورأيتُ أترجَّةً على بعير بقطعتين، قُطعت وصُيِّرت على مِثل عِدلين" [4] ، وذكر المحدِّث الحافظ معمر بن راشد أنّه رأى باليمن عنقودَ عنب ملءَ بغلٍ تامّ [5] ، وقد جاء في مسند أحمد أنه وُجد في خزائن بني أميّة حِنطةٌ الحبَّةُ بقدر نواةِ التَّمر، وهي في صُرَّة مكتوب عليها: "هذا كان ينبُت في زمنِ العدل". فالخيْر والبركة والوفرة أمورٌ مرهونة بالعدل والحكمِ بشريعة الله ورفع المظالم عن الناس وإقامة الحدود كما أوجب الله جلّ وعلا، ولذلك جاء في صحيح مسلم حكايةُ ما يكون في آخر الزمان عند خروج المهديّ حينما يملأ الأرضَ قِسطًا وعدلا كما مُلئت ظلمًا وجَورًا، فتحصلُ البركات وتكثر الخيرات، حتى إنَّ قشرةَ الرمانَةِ يستظلّ بها الجماعة من الناس [6].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفّارا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارًا.
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله يفعل ما يريد.
اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا طبقًا غدقًا مجلِّلاً، عاجلاً غير رائث، اللهمّ أسق عبادك وبهائمَك، وانشُر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهمّ إنا خرجنا إليك من بين البيوت والأستار والأكنان بعد عجيج البهائم والوديان، راغبين في رحمتك، وراجين فضلَ نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك، اللهمّ فأسقنا غيثَك، اللهم فأسقِنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا يا أرحم الراحمين.
اللهمّ إنا خرجنا نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرَة، وأجاءتنا المقاحِط المجدِبة، وأعيتنا المطالبُ المتعسِّرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعَبة.
اللهمّ انشر علينا غيثك، اللهم انشر علينا غيثَك وبركتك ورزقَك ورحمتك، وأسقنا سُقيًا نافعة مُرويةً مُعْشِبةً، تنبتُ بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافِعةَ الحيا، كثيرةَ المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البُطنان، وتستورق الأشجار، وترخِص الأسعار، إنّك على كلّ شيء قدير.
اللهمّ إنّك تشاهدنا في سرّائنا، وتطّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلغَ بصائرنا، أسرارُنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، إن أوحشَتنا الغربةُ آنسَنا ذكرُك، وإن صُبَّت علينا المصائب لجأنا إلى الاستجارة بك، إنّنا عبيدُك، بنوعبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عدلٌ فينا قضاؤنا، نسألك اللهمّ أن تنزّل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، واجعل ما أنزلتَ لنا قوّةً وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ صلِّ على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربِّك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. اللهمّ إنا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموالٍ وبنين، واجعل لنا جنّاتٍ، واجعل لنا أنهارًا.
[1] مسند أحمد (2/262)، وصححه ابن حبان (6770)، وقال الهيثمي في المجمع (7/331): "رجاله رجال الصحيح"، وصحح إسناده أحمد شاكر، وهو في السلسلة الصحيحة (3266).
[2] مسند أحمد (2/342، 363) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم: كتاب الفتن (2904).
[3] أخرجه أحمد (3/286)، والبزار (3418 ـ كشف الأستار ـ)، وأبو يعلى (3527)، وصححه الحاكم (8515)، وقال الهيثمي في المجمع (7/331): "رجاله رجال الصحيح"، وجزؤه الأخير في الصحيح.
[4] سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: صدقة الزرع، تحت حديث (1599).
[5] انظر: سير أعلام النبلاء (12/217).
[6] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2937) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بخبر الرمانة، وليس فيه ذكر المهدي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4648)
حسن الخاتمة وسوؤها
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
إبراهيم الغامدي
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة ساعة الاحتضار. 2- صور لحسن الخاتمة. 3- أحاديث في حسن الخاتمة. 4- علامات حسن الخاتمة. 5- سوء الخاتمة وأسبابه. 6- النصيحة بعدم التشهير بمن توفي من المسلمين على خاتمة سوء. 7- بيان تغرير وسائل الإعلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، فإن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيمًا على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرًا وتسبيحًا وتهليلاً وعبادة وشهادة، فهلموا ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح.
لما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله من الكرب الشديد الذي يتغشاه عند الموت قالت: واكرب أبتاه، فقال لها : ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)).
وهذا عبد الله بن جحش عندما خرج لمعركة أحد دعا الله عز وجل قائلاً: (يا ربّ، إذا لقيت العدوّ فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، فأقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد الله، من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت)، وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا.
وطعن جبار بن سلمي الكلبي عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فنفذت الطعنة فيه، فصاح عامر قائلا: فزت ورب الكعبة.
وكان بلال بن رباح يردد حين حضرته الوفاة وشعر بسكرات الموت قائلا: غدًا نلقى الأحبة: محمدًا وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وابلالاه واحزناه، فيقول : وافرحاه.
وعندما خطب رسول الله في أصحابه حاثًا لهم على الاستشهاد في سبيل الله في معركة بدر قال : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فسمع عمير بن الحُمام هذا الفضل العظيم وقال: والله يا رسول الله، إني أرجو أن أكون من أهلها، فقال : ((فإنك من أهلها)) ، فأخرج عمير تمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى قتل.
وعندما حضرت الوفاة معاذ بن جبل قال: مرحبًا بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء عند حِلَق الذكر.
ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال لمن حوله: اخرجوا عني فلا يبق أحد، فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، ثم قُبض رحمه الله.
ولما حضرت آدم بن إياس الوفاة ختم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما انتهى قال: اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أؤملك لهذا اليوم وأرجوك. ثم قال: لا إله إلا الله، وقضى.
ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل بكى أهله، فقال لهم: لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته.
قال أنس بن مالك : ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن؟ أول يوم يجيئك البشير من الله إما برضاه وإما بسخطه، واليوم الثاني يوم تعرض فيه على ربك أخذًا كتابك إما بيمينك وإما بشمالك، وأول ليلة ليلة تبيت فيها بالقبر، والليلة الثانية ليلةٌ صبيحتُها يوم القيامة.
وقال المزني دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله تعالى واردًا، فلا أدري: روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى.
ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون.
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟! ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟! يا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟!
وكثير من السلف الصالح مات وهو على طاعة داوم عليها فترة حياته:
فهذا أبو الحسن النساج لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد ومات.
وهذا ابن أبي مريم الغساني لم يفطر مع أنه كان في النزع الأخير، وظل صائمًا، فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء، فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن، قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات.
ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: أسفًا على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وهذا أبو حكيم الخبري كان جالسًا ينسخ الكتب كعادته، فوقع القلم من يده وقال: إن كان هذا موتًا، فوالله إنه موت طيب، فمات.
وعن الفضل بن دكين قال: مات مجاهد بن جبر وهو ساجد.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: فإن حسن الخاتمة هي أن يوفّق العبد قبل موته للتوبة عن الذنوب والمعاصي والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
ومما يدل على هذا ما روى أحمد في مسنده قال : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله))، قالوا: كيف يستعمله؟ قال : ((يوفقه لعمل صالح قبل موته)).
ومن العلامات التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته ما يُبشّر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاقه كرامته تفضلاً منه تعالى، كما قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم وفي قبورهم وعند بعثتهم يوم القيامة. وفي الصحيحين قال : ((المؤمن إذا بُشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)).
ومن علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح لما رواه أحمد في مسنده قال : ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله وختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة)).
ولكي يدرك العبد المؤمن حسن الخاتمة فينبغي له أن يلزم طاعة الله وتقواه والحذر من ارتكاب المحرمات فقد يموت عليها، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب.
أما الخاتمة السيئة فهي أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه جل وعلا، مقيم على ما يسخطه سبحانه، مضيع لما أوجبه الله عليه، ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.
ومن أسباب سوء الخاتمة أن يصر العبد على المعاصي ويألفها، فإن الإنسان إذا ألف شيئًا مدة حياته وأحبه وتعلق به فالغالب أنه يموت عليه، قال ابن كثير رحمه الله: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله.
إخواني، فالواجب علينا إن مات أحد المسلمين ميتة سوء وهو على معصية من المعاصي أن نستعيذ بالله من ميتةٍ كميتته، وأن ندعو له، وأن لا نشهر به في المجالس، فقد أفضى إلى ما قدّم. ولكن مع ذلك يجب علينا أن لا نمجد ميتته هذه، وأن لا نتكلم في وسائل الإعلام بأنه مات في ساحة النضال وميدان البطولة والشرف، وأن ميتتة كانت من أجمل الميتات؛ لأن هذه الأمة لا تعرف إلا ساحة نضال واحدة وميدان بطولة واحد، وهو جهاد أعداء الله عز وجل، ولأن أجمل ميتة في التاريخ هي الموت على طاعة الله عز وجل.
ولكن وسائل الإعلام كعادتها درجت على خلخلة المفاهيم الصحيحة في عقول الناس، وجعلت المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وخاصة تلك الفضائيات التي أمسك بزمامها من لا خلاق لهم ولا أخلاق، وحملوا على عاتقهم إفساد هذه الأمة وتغيير ثوابها، فبئس ما يقولون وما يفعلون.
ألا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4649)
حرية التعبير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, الإعلام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
23/3/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإصلاح وعلاقته بحرية الكلمة. 2- خاصية النطق في الإنسان. 3- خطورة الكلمة وأهميتها. 4- فضل كلمة الحق. 5- المفهوم الصحيح لحرية الكلمة. 6- ضوابط الكلمة الحرة. 7- أهمية النظر في الآثار والمآلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واسلكوا طريق العارفين، وامتطوا مراكب المتّقين، كونوا على وجل من هجوم الأجل، ولا تُطغِكم الدنيا، ولا يلكم الأمل. استعدّوا ـ وفقكم الله ـ بتقوى الله وصالح العمل، ما أثقلَ رقادَ الغافلين، وما أغلظ قلوبَ المستكبرين، الأيام تمرّ مرّ السحاب، والأعمار آخذة في الذهاب، والأعمال محفوظة في كتاب، والموعد يوم الحساب، فاحذروا ـ رحمني الله وإياكم ـ حسرة النادمين وصفقةَ الخاسرين، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
أيّها المسلمون، الحديثُ عن الإصلاح حديثٌ ذو شُجون، وميادينُ الإصلاح كثيرةٌ؛ في إصلاحِ الفرد وإصلاح المجتمَع وإصلاح الدين وإصلاحِ الدنيا، في شؤونِ الاقتصاد والاجتماعِ والسياسةِ والتعليم والعِلم والعمل والرِّجال والنساء والأُسَر والبيوت. وإنَّ من أهمّ بوَّابات الإصلاح وأوسعِها وأعظمها أثرًا بوّابة الحوار والنقاشِ وما يتداوله الناس مما أطلقوا عليه: "حريّة الكلمة" و"حرية التعبير" و"الانفتاح"، وما تولّد عن ذلك مِن حديثٍ عن الإقصاءِ والتهميش والمصادَرَة والتصنيف وغيرها من الكلمات والمصطلَحات والتعبيرات، ممّا يتداوله الكاتِبون ويوظِّفه الموظِّفون، بحقٍّ وبغير حقّ، وبحُسن قصد وسوءِ قصد، وبفهمٍ وبغير فهم.
الموضوع كبيرٌ وخطير، تدور عليه مصائِرُ أفراد وأمَمٍ وبناء بيوتٍ ودول.
معاشرَ الإخوة والأحبّة، أخصّ خصائصِ الإنسان أنّه وحدَه المخلوق الناطق، الإنسان ينفرِد بالنطق، ويتميّز بصوتِ الكلمة، والكلمة هي لَبوس المعنى وقالَبُه، والإنسان هو المخلوق الفريد القادِر على التعبير عمّا بداخله من عواطفَ وانفعالاتٍ وأشجان ومقاصدَ ورغبات وإرادات، يعبِّر عنها بالقولِ وبالكتابة، باللّسان وبالقلم وبالمشاعر، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، بل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يطلِق الحرّيّاتِ ويكبِتها بعدلٍ وبظلم، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!). والرابط بين الإنسان والإنسانِ هو الحوار وتبادلُ الكلام، ومن تكلَّم وحدَه أو خاطب نفسَه عُدّ من الحمقى وناقصِي العقول، إن لم يكن من المجانين وفاقدِي الأهليّة. والمرء حين يتكلَّم لا يكلِّم نفسه، ولا يتكلَّم من أجلِ نفسه، ولكنه يتكلَّم ليسمِعَ الآخرين ويسمَع منه الآخرون، يتكلّم ثم ينصِت، أو يتكلّم بعد أن ينصت. إنَّ الناس تتبادَل الكلام فيما بينها للبناءِ والتفاهم، وليس للمواجهة والتصادُم.
من أجلِ هذا كلِّه ـ أيها المسلمون ـ فإنَّ الكلمة هي عنوان العقلِ وترجمَان النفس وبرهان الفؤادِ، فالكلمةُ لها مكانتُها، بل لها أثرُها وخطرُها. ومن أجلِ هذا فيجب أن تكونَ لها حرّيّتُها، كما يجِب أن تضبط حرّيّتها؛ فالحرية مسؤوليةٌ.
عبادَ الله، ليس من المبالغة إذا قيل: إنَّ الحياة البشرية بناؤها على الكلمةِ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، بسم الله الرحمن الرحيم، الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4]، وآدمُ تلقى من ربِّه كلمات فتاب عليه، وابتَلى إبراهيمَ ربّه بكلمات فأتمهنّ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وعيسى عليه السلام رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، ومحمّد أوتي جوامعَ الكَلِم واختُصِر له الكلام اختصارًا، وما نطَق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
بل إنَّ دين الإسلام الذي جاء به محمّدٌ قام على الكلمةِ وأسِّس عليها، بسم الله الرحمن الرحيم، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، بسم الله الرحمن الرحيم، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]. الإسلام استَقبَلَ الكلِمةَ من السماء بأمانة، وأرسَلها إلى الناس بالحقّ. الرسالة والدعوةُ والتبليغ كلُّ ذلك بالكلِمة، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:2-4]. والسِّفر العظيم الذي تنزَّل على قلبِ محمد هو كلام الله عز وجل وكتابُه، وهو القرآن الكريم، كتابٌ عزيز، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
أيّها المسلمون، بكلمةِ الحقّ الصادقة النزيهة تُبنى العقول وتُشاد الأوطان، وهي عِماد التربية، إن صلَحت الكلمة صلَح المجتمع كلُّه، والصدقُ يهدي إلى البرّ، وللكلمةِ قوّةُ السيف في البناء والتغييرِ والإصلاح، والعاقل من الناس لا يتكلّم إلا لحقٍّ يبيِّنه أو باطلٍ يَدحَضه أو علمٍ ينشره أو خيرٍ يذكره أو فضلٍ يشكره، وتركُ الفضول من كمالِ العقول. بكلمة الحقِّ يظهر البيانُ وتوصَف الأشياء، والكلمةُ تنبِئ عن الضمير وتفصِل في القضاء وتشفَع في الحوائج وتعِظ عندَ القبيح. الكلمةُ تفرِح وتحزِن، وتجمَع وتفرِّق، وتبني وتهدِم، وتُضحك وتُبكي. كلمةٌ تنشرح بها الصدور، وأخرى تنقبِض لها النفوس. بالكلمةُ تكون التربية والتعليم، وتنتشِر الدعوة والفضيلة، ولقد كان من دعاء موسى الكليم عليه السلام: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27، 28]. ومن اتَّقى الله ولزم القولَ السديد أصلح الله عملَه وغفر ذنبَه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70، 71]، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتَّفق عليه عن نبيِّكم محمّد أنه قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجاته، وإنّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنّم)) نسأل الله السلامة، ((والمسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه)) ، ومن يضمَن ما بين لحيَيه وما بين رِجلَيه تُضمَن له الجنة.
أيّها المسلمون، هذا هو الإنسان، وهذه هي الكلمةُ في حقيقتِها وطبيعتها وأثرِها، فكيف تكون حرّيّة الكلمة؟ وكيف تُفهَم حرية التعبير؟ الحرية مسؤوليةٌ، والغاية هي الإصلاحُ والبناء وليس الهدم والإفساد، والتعاونُ والتفاهم وليس الشّقَاق والتّصادم. حرّيةُ التعبير وحرّيَّة الكلمة والكَلمةُ الحرّة قِيَمٌ حضاريّة عالية، بل إنها منجَز من منجزات البشرية الخلاّقة، لها المكان الأرفَع والاحتفاء الأَسمى. ومنَ المعلوم لدى العقلاء أن الإنسان يوزَن بكلامه، ويحكَم عليه من لسانه، فالساكتُ مَوضِعَ الكلام محاسَب، والمتكلِّمُ في موضعِ السكوتِ محاسَب، والساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرَس، وكلامُ الزور إثمٌ وفجور، والكذِب يهدي إلى الفجور، وكفَى بالمرء إثما أن يحدِّث بكلّ ما سمِع، وكَم كلمةٍ قالت لصاحبها: دَعني.
عبادَ الله، إذا كان ذلك كذلك فلا بدَّ لهذه الحرّيّة من ضوابط، ولا بدَّ لهذه المسؤوليّة من معايير، وبغيرِ الضوابطِ والمعايير تنبُت الفوضى العَمياء التي تُعلِي شأن الظلم والظالمين، وتزيِّف الحقائق، وتقود إلى النتائجِ العكسيّة، فيخنَق الضمير وتموت الحرية.
إنَّ مما ينبغي أن يُراعى في ضوابط حريّة التعبير وحرية الكلمة والكلمةِ الحرّة الإخلاصَ وقصدَ الحق والتجرّد من نوازِع الهوى وحظوظ النفس والحذَر من توظيف الكلمة للانتصارِ للنفس والعصبيّة لفئةٍ أو مذهب أو فكرة، فهذا بغيٌ وظلم. يجِب مراعاةُ ظروفِ الزمان والمكان والأحوال في الحوارات والمناقشات والردود وخطاب الناس، تتأكَّد أهمية الكلمة ودقّةُ اختيارها في الحوادث والمناقشات والردود وخطابِ الناس، تتأكّد أهمية الكلمة ودقَّة اختيارها ورعايةُ أدب الخلاف وأصول الحوار، فلا يتكلَّم متكلّم إلا بدينٍ وإخلاص وعِلم. يراعَى أحوالُ المخاطبين علمًا وثقافة وخَوفًا وأمنا، تُراعى أجواءُ الفِتن وأحوالُ الاضطراب والحِفاظ على الأمة في اجتماعِ كلمتها وهدوئِها والحِفاظ على الجمَاعة والوحدة. يجب تخفيف أجواء التوتُّر وبسطُ ثقافة التعاوُن والمحبَّة وحُسن الظنّ وابتغاء الحقّ والتجرّد له وقَبوله ممن جاءَ به وحقّ الاختلاف، مع التأكيد واليقين أن هذا لا يتعارض مع حقِّ الدفاع عن القناعاتِ والردّ على المخالف بأدبٍ وسلامة قصدٍ وصدر وتلمُّسٍ للحق في علمٍ وبصيرة وهُدى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24-27].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، تجلّى بدلائل قدرته وإتقان صنعته، واستتر عن الأبصار بجلال عظمته، أحمده سبحانه وأشكره، آلاؤه ظاهرة، ونعمُه متكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، المرسَل بالدين القيّم فلا عوج، والمبعوثُ بالحنيفية السمحة فلا حرج، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أهل التقى ومصابيح الدجى ومعالم الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم فاهتدى.
أما بعد: أيها المسلمون، في حرّيّة الكلمة وحريّة التعبير تقدَّر الكلمة بآثارِها وما يترتَّب عليها من مصالح ومفاسِد، فكلمة الصّدق والحقِّ مطلوبةٌ ممدوحة، وكلمة الباطل منهيٌّ عنها ومذمومة، و((من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
المرءُ يدخل في الإسلام بالكلِمة، ويخرج من الملَّة بكلمةٍ، وضبطُ الكلام ووَزن الحديث من سمات أهل العَقل والعِلم والإيمان، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].
وبالنظرِ إلى الأثر والمآلات فقد تجوز الكلمةُ الباطلة تحقيقًا لمصلحة راجِحة أو درءًا لمفسدةٍ متحقِّقة أو حِفظا للنفس أو صيانةً للعرض أو جمعًا للكلمة، فيجوز النطقُ بكلمة الكفر في حال الإكراهِ مع اطمئنان القلب بالإيمان، ولا مانعَ من الغِيبة لغرضٍ صحيح، وفي جميع الأحوال لا تجوز السخريةُ بالناس ولا الاستهزاءُ بهم ولا التطاولُ على الحقّ، فهذه ليست حرية تعبيرٍ ولا حريةَ رأي، ولكنها فوضَى وهمجيّة، بل سلوك لا يلِجُه مَن يحترم نفسَه ويحترم الآخرين.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83].
هذا، وصلّوا وسلّموا على نبيِّكم محمّد المصطفى ورسولكم الخليل المجتبى...
(1/4650)
ويؤثرون على أنفسهم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/3/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آية في مدح الأنصار. 2- سبب نزول الآية. 3- مناسبات الآية ودروسها. 4- وجوب مناصرة الشعب الفلسطيني. 5- وصية الشعب الفلسطيني بالثبات والصبر. 6- المخططات اليهودية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه مدحا للأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة الحشر وهي مدنية، وفيها مدح للأنصار رضي الله عنهم، وهم من صحابة رسول الله ، ولهذه الآية سبب نزول ذكرته كتب التفسير والحديث النبوي الشريف، ومفاده: أتى رجل رسول الله فقال: أصابني الجهد ـ أي: الفقر والجوع ـ، فأرسل عليه الصلاة والسلام إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال : ((ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟)) ، فقال الصحابي الجليل طلحة رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله، قالت: والله، ما عندي إلا قوت الصبية، قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي الليلة لضيف رسول الله ، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد عجب الله الليلة من صنيع فلان وفلانة)) قصد بذلك طلحة وزوجته، فأنزل الله فيهما: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. والإيثار هو تقديم وتفضيل الآخرين على نفسه، ومعنى "خصاصة" حاجة وعوَز وفقر.
أيها المسلمون، تحمل هذه المناسبة في طياتها الشيء الكثير، من ذلك أن الرسول كان متقشّفا في حياته؛ حتى إنه لم يوجد في بيته ما يقدمه للضيف. وهذا درس بليغ للمسؤولين ولِذوي الشأن المتخَمين في العالم الإسلامي بأن يتّقوا الله في الرعية، وأن يتقوا الله في أموال المسلمين، هذه الأموال التي هي أمانة في أعناقهم. هذا وقد وضع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعدة عامة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم: (إذا شبع الحاكم جاعت الرعية، وإذا جاع الحاكم شبعت الرعية)، وهذه القاعدة الإيمانية طبّقها الخليفة العادل عمر بن الخطاب في عام الرّمادة حينما أصاب الجزيرة العربية قحط وجدب، فحرّم على نفسه أكل اللحم والدسم حتى حلّ مشكلة المجاعة خلال أشهر معدودات، فأين نحن من عدل عمر ومن سياسته الحكيمة؟!
أيها المسلمون، يؤخذ من مناسبة الآية الكريمة التي وردت في سورة الحشر بأن الإيثار بين الصحابة زاد في إيمانهم وعقيدتهم، كما زاد الترابط المجتمعي فيما بينهم، وأن المؤاخاة الفريدة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة النبوية الشريفة كانت أصدق مثال عملي على ذلك، ويقول رسولنا الأكرم محمد : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فالإيمان الصادق يدفع بالمسلم أن يحبّ لأخيه كما يحب لنفسه، فكيف إذا آثر المسلم أخاه على نفسه؟! فيزداد إيمانه على إيمان، فالإيثار من الإيمان، فأين نحن من هذا الإيمان؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وهنا مناسبة أخرى للآية، ومفادها بأن أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان فقير الحال، ولكنه أحسّ بأن جاره أشد منه حاجة، فأرسل رأس الشاة له، فإذا بجاره يحسّ بنفس الشعور تجاه جار ثالث، فيرسل رأس الشاة له، وهكذا فكلّ جار يرسله إلى أقرب جار له، فتداولت رأس الشاة سبعة بيوت من الجيران؛ حتى رجع رأس الشاة إلى الأول، فنزلت الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، فأين نحن من هذا الإيثار؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، يؤخذ من هذه المناسبة عدّة دروس بليغة، من أبرزها القناعة، وهي كنز لا يفنى، وحب الخير للآخرين، فلم يطمع أحدهم برأس الشاة، بل هو الإيثار في أبهى صوره، والإيثار من الإيمان، والإيمان ما وقر في الصدر وصدقه العمل، وأي عمل أفضل من الإيثار؟! فلا مجال للأنانية، لا مجال لحب الذات في رحاب الإيمان، وأي مسلم يريد في مجتمعنا أن يعرف قوة إيمانه فليسأل نفسه: ماذا قدم لأمته من خدمات وإنجازات؟ وماذا قدم للآخرين من المعوزين والمحتاجين والفقراء والمساكين؟ وهل شعر مع غيره أم استحكمت فيه الأنانية وحبّ الذات؟
أيها المسلمون، إن الشعب الفلسطيني والذي هو جزء من الأمة الإسلامية يحارب في قوته وفي رزقه، ويحاصر من قبل أعداء الإسلام والمسلمين بشكل سافر واضح، ونتساءل: أليس تجويع النساء والأطفال هو إرهاب بالمفهوم الغربي؟! فأين الذين يتشدقون بالعدالة والديمقراطية؟! وأين الذين يحاربون الإرهاب؟! أليسوا هم الإرهابيون؟!
إنه يتوجب على المسلمين في أرجاء المعمورة أن يقفوا إلى جانب الشعب الفلسطيني المحاصر، ويأثم كل من يستطيع مدّ المساعدة إلى هذا الشعب المرابط ولا يبادر بالمساعدة. إننا لن نتسوّل ولن نركع ولن نساوم ولن نتنازل عن حقوقنا الشرعية التي قرّرها لنا رب العالمين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا ندرك أن الملوك والرؤساء والأمراء في العالم العربي والإسلامي هم في امتحان كبير أمام الله عز وجل، فإما أن يخضعوا للضغوط الأمريكية ويتخلوا عن تقديم الواجب الملقى على عاتقهم تجاه المرابطين في أرض الإسراء والمعراج، وإما أن يستجيبوا لنداء الإغاثة الذي ينطلق من الأيتام والأرامل والمحتاجين والمعوزين، فينجوا من مساءلة الله ربّ العالمين لهم يومَ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، اللهم هل بلغت؟!
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، الثبات الثبات على الحق والإيمان، وليكن رسولنا الأكرم قدوتنا حينما حوصِر في شعب مكة هو وأصحابه مدة ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر، فقد ازدادوا ثباتا كما ازدادوا إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق:2، 3]، وعلى الموسرين والمقتدرين من شعبنا المرابط أن ينجدوا إخوانهم المجتاجين، ولتكن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نبراسا لكم في أعمالكم ومواقفكم وتضامنكم لتنالوا رضوان الله. وتحية وتقدير ووفاء ومحبة لكل من بادر وتبرّع من داخل فلسطين وخارجها، فلن ينسى الله أعمالهم.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)). اللهم امنحنا رضوانك يا كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن موضوع القدس درّة فلسطين كان ولا يزال قائما غير قاعد، وساخنا غير بارد، فما من يوم يمر إلا ونقرأ أو نسمع أو نشاهد إجراءات سلبية تجاوزية بحقّ مدينة القدس من قبل الاحتلال الإسرائيلي بهدف خنق هذه المدينة ومحاصرتها وتهويدها، والذي يحاول أن يدافع عن هذه المدينة وعن مقدساتها يتّهم بالتحريض والتطرف والإرهاب زورا وبهتانا، حتى الذي يدافع عن مقابر المسلمين يتّهم بالتحريض، فانقلبت الموازين، وأصبح المعتدى عليه متّهما بعدة تهم جاهزة ومفبركة.
أيها المسلمون، إن المخطّطات المبيّتة لهذه المدينة المباركة المقدسة حسب برنامج الحكومة الإسرائيلية الجديدة يتمحور بتكثيف عدد السكان اليهود، وذلك بضم الكتل الاستيطانية الاستعمارية الواقعة في ضواحي القدس إلى مدينة القدس، وبالمقابل فإنهم يقترحون سلخ الأحياء ذات الكثافة السكانية العربية عن مدينة القدس. بهذه المخطّطات العدوانية يعالجون حسب تصوّرهم المشكلة السكانية الديمغرافية، والتي تقلق الساسة الإسرائيليين بشكل مستمر، ويرون أن الوقت ـ كما يقولون ـ ليس لصالحهم، فإن التزايد العربي في مدينة القدس مستمرّ، وإنهم يتوقعون أن تصل نسبة اليهود عام 2020م إلى 56 في المائة، وأن نسبة العرب 44 في المائة، وفي حين أن الاحتلال الإسرائيلي يخطط لأن تكون نسبة اليهود بالقدس 75 في المائة، وأن نسبة العرب 25 في المائة فقط.
أيها المسلمون، يصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة بأنه يرفض المساس بيهودية المدينة المقدسة الكبرى. هكذا يقول، ولا يتحقق هذا الحلم إلا بأمرين: بضم المستعمرات إلى مدينة القدس، وبسلخ الأحياء العربية عن مدينة القدس؛ بحيث تصبح الكثافة السكانية في القدس من اليهود. وهكذا يتآمرون علينا بعنصرية وبسياسة عِرقية، بالإضافة إلى إجراءات التهويد الأخرى بحقّ هذه المدينة المقدسة وبحقّ سكانها العرب الأصليّين. وإن هذه الإجراءات غير شرعية ومخالفة للقوانين الدولية.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يتوجب علينا أن نحافظ على وجودنا في أرضنا المباركة المقدسة، وأن نرابط فيها؛ ذلك تنفيذا لقرار ربّ العالمين بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي توجب علينا المرابطة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وتحرم الخروج منها، ولما لنا من جذور تاريخية في مدينة القدس عبر آلاف السنين، وعليه فنحن لسنا غرباء في هذه الديار، فالذين يتهموننا بأننا غرباء هم في الحقيقة الغرباء، وعليهم أن يسألوا أنفسهم: من أين أتوا؟ ومتى أتوا إلى هذه الديار المباركة المقدسة؟
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
(1/4651)
الصدقة وفضلها
فقه
الزكاة والصدقة
سعد بن عبد الله السبر
الرياض
11/9/1426
جامع الشيخ عبد الله الجار الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين الإسلامي. 2- الإسلام دين التكافل والتراحم. 3- وجوب الزكاة. 4- فضل الصدقة في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي وآثار السلف. 5- وصف حال المساكين والمحتاجين. 6- الحث على الإخلاص لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي ـ أيها الناس ـ بتقوى الله عز وجل؛ فهي الحصن المكين والثبات وقت تطاير الدواوين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إن الله شرع لنا الدين فأكمله ورضيه لنا، فجعله مكينا وحصنا حصينا لمن تمسّك به، وخسرانا مبينا لمن نبذه وراء ظهره، أقامه الله فجَعل له أركانا وبنيانًا، فقوامه المحافظة على أركانه، وثباته ودوامه تحقيق واجباته، وصحته تكميل شرائطه.
ديننا دين شمَل الحياة بجميع جوانبها، ما مات رسول الله وطائر يقلب جناحيه إلا وعلمنا منه علما، علمنا كيف نتعبّد ونصلي، وكيف نحجّ ونتصدّق، وكيف نزور ونتقرّب، وكيف نهدي ونتحبّب، رغب في احترام الصغير وأمر به وعطفِ الكبير على الصغير، ورغّب في رفق الغنيّ بالفقير، وشدّد على حق المحتاج والسائل والمسكين، وجعله من وصف المؤمنين: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، وأمر بحفظ مال اليتامى حتى يصبحوا مميزين.
فديننا دين التكامل والتكافل والتعاطف والتوادّ والتراحم، قال في الحديث الصحيح: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
عباد الله، ديننا صالح لكل الأماكن والعصور، من ميزاته أنه أوجب الزكاة وتوعّد تاركها بالكيّ في النار: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، ورغّب في الصدقات رحمة بالفقراء والضعفاء والمحاويج والمساكين: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، ومدح المتصدقين وذم المقترين: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265].
بل إن الله حث على الإنفاق والتصدق في كثير من آي القرآن الكريم، ووصف المنفِقين أنهم يطعمون ابتغاء مرضاة الله وخوفا من عقاب الله، لا رجاءَ الجزاء ممّن يطعمون: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:9، 10]، فكانت نتيجة خوفهم: فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11]. جعلني الله وإياكم منهم.
جعل المتصدقين من المقربين الفائزين الناجين يوم الدين، في ظلّ صدقتهم يتظللون، ومن خيرها ينهلون، وليسوا يتحسّرون، فهم الفرحون المسرورون المضعفون، وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الرم:39]. المنفقون هم المسارعون للخيرات، يسارعون للعقبة ويفكّون الرقبة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:12-16]. يطعمون البعيد والقريب والصديق والحبيب، يعطون من منعهم، ويصِلون من حرمهم.
أيها الإخوة، لقد أمر الله بالإنفاق في سبيله، وبيّن فضله وتضعيف الأجر للمنفقين: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]. قال ابن القيم رحمه الله معلّقا على هذه الآية: "صدّر الله سبحانه وتعالى هذه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن معنى الطلب، وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر، والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافا مضاعفة؟!".
أيها المؤمنون، لقد حثّ نبينا على الصدقة والإنفاق في أغلب مجالسه وأحاديثه، بيّن حق الفقير المسكين وفضل المنفقين وأثر المزكّين في مجتمعهم، أخبرنا عن دعاء الملَكَين للمنفقين في كلّ يوم يقولان: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفًا. وقال صلوات ربي وسلامه عليه فيما يرويه عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : ((من استطاع منكم أن يستتِر من النار ولو بشق تمره فليفعل)) رواه مسلم. قال عمر رضي الله عنه: (إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكن)، وقال أنس رضي الله عنه: (باكِروا بالصدقة؛ فإنّ البلاء لا يتخطّى الصدقة)، وقال عمر بن العزيز رحمه الله: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه".
أيها الناس، الصدقة تكامل وتكافل ودرع لصاحبها تقيه غضب الديان ومصارع السوء، بها نماء المجتمع وألفته وتعاطفه، قال ابن أبي الجعدِ: "إن الصدقة لتدفعُ سبعين بابًا من السوء"، فهي لك ـ أنت أيها المتصدق ـ دفعًا وحفظًا من البلاء والمحن، بل إنها رفعة لك وزيادة في مالك، ((ما نقص مال من صدقة)).
الصدقة والإنفاق شهادة لك بالإيمان وبراءة لك من البخل والنفاق. الصدقة بناء للأمة وتوثيق للصِّلات وأفضل شيء تخرجه، قال يحيى من معاذ: "ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة". الصدقة لباس لك وكساء يوم التّعرّي، قال عبيد بن عمير رحمه الله: "يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قطّ وأعطش ما كانوا قطّ وأعرى ما كانوا قطّ، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن كسا لله عز وجل كساه الله"، قال الحسن رحمه الله: "لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض".
عباد الله، المسلم يعلم أنه محتاج لأجر صدقته أكثر من احتياج الفقير إليها، قال الشعبي رحمه الله: "من لم ير نفسه إلى ثواب صدقته أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضُرب بها وجهه".
المؤمن يبكي ويتحسّر عندما يرى من هو مشرّد جائع محتاج ضائِع بائسٌ، المسلم لا يشبع وأخوه جائع، ولا يرتاح وأخوه ضائع. كيف ننام فرحين وبين أظهرنا فقراء محاويج؟! تدخل امرأة على عائشة رضي الله عنها ومعها بنات، فتعطيها تمرة، فتقسمها بينهنّ. ونحن قبل أسابيع تدخل امرأة ببناتها فلا يجدون لقمة يأكلونها، بيتهم خاوي، ليس به زاد إلا رحمة ربّ العباد، أبناؤهم وبناتهم لا يلبسون للعيد والدراسة، فضلاً أن يكتسوا من البرد والحرارة. ذرّيّتنا لهم أدوات للدراسة وذرياتهم لا يستتِرون من الحرارة، أمهاتهم يضعن الماء في علَبِ الزبادي الفارغة حاوِيات لأبنائهم وبناتهم، والأخرى زوجها مسجون وقلبها مكلوم، فهي مطرودة منبوذة، الحسرة كساؤها ودثارها، والبكاء بعد الله عزاؤها، فهل تجد من يحفظ وكاءها؟! أيعقل وجود هذا أم يصدق؟! فمن أراد فليأتِنا ليتأكّد. والأخرى أرمله مغمومة مهمومة، يتلوّى صغارها، ويتقطع خمارها، ولكن هيهات أن تجد مغاثها إلا من الرحمن الرحيم، ونحن متفرّجون ولها مكذّبون، نظنّ حالهم أعلى من حالنا، والله أعلم بما تخفي وتكِنّ من فقرها. وتلك نبذها أهلها ومعها أبناؤها لأنهم من غير بَلدهم وأصلهم، فهل ربهم يبعدهم ويأمر بنبذهم لأصلهم وفصلهم أم لدينهم؟! إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. وهؤلاء أيتام مَن لهم؟! فقدوا أباهم وأخوهم الأكبر أصمّ أبكم، لا يكدّ ولا يعمل، فمن لهم إلا ربهم؟!
أينَكم أيها المسلمون؟! هل يهنأ لكم عيش وتفرحون وهم يتجرّعون غصص الجوع؟! انظروا المحاويج والمعسرين، ما أكثر من أثقلته الديون، فأصبح سجينا طريدا حسيرا كسيرا، لا يأويه بيتٌ، ولا يسعه حيٌ، فأين نحن منه؟! ألا نستحي من الله؟! أعطانا الكثير وأمرنا بإخراج القليل، كسانا وعافانا وآوانا، وهم يستجدون ولا مجيب.
كم متعفّف بات خاليًا، وكم من آيسة ضائِقة بائسة استهواها الشيطان وحزبُه لفقرها وحاجتها وبكاء صغارها، والذئاب يريدون أن يفتكوا بعرضِها، أينكم يا مسلمون؟! بيوتهم أوهى من بيت العنكبوت، الرياح تسقطها والمطر مصدَر بؤسها. لا يفرحون بالغيث لأنه زوال بيوتهم، وأنتم في الصحاري عن الغيث تَبحثون لتفرحوا وتلهوا.
أينكم ممن أحرقت ابنتَها من فقرها؟! فهل ترعَوون؟! أينكم يا من بالملذات تفتخرون وتتنعمون ولها تنوِّعون؟! موائدكم متعدّدة، وبطونهم متيبّسة من خواها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والعاقبة للتقوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون.
أيها الأحبة، المنفق يعيش في فرح ولذة ببيعه ماله مرضاةً لربه، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
المنفق لا يبطل صدقته بالمن والأذى، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].
المنفق يعلم أن الشيطان في طريق الصدقة، كلما أراد أن يتصدق وقف له الشيطان بالمرصاد، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
(1/4652)
ذكرى الهجرة النبوية والدفاع عن خير البرية
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الفتاح بن سعد عياش
المدية
18/1/1427
مسجد الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع عام واستقبال عام. 2- قصة بدء التأريخ الهجري. 3- ضرورة التأريخ بالتقويم الهجري. 4- خلل التقويم الشمسي. 5- عبر وعظات من الهجرة النبوية. 6- دلائل جريمة الاستهزاء بالنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عبادَ الله، ها نحن في شهر الله المحرم، وقد ودعنا عامًا واستقبلنا آخر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيرًا، وكم من حوادث عظام مرت بنا، ولكن أين المعتبرون المبصرون؟! وأين الناظرون إلى قول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) ؟!
هذا، وقد ذكر أهل الأخبار أنَّ المسلمين لم يكونوا يعملون بالتاريخ السنوي في أوَّل الأمر حتَّى كانت خلافة عمر بن الخطاب، فإنَّه جمع الناس فاستشارهم، فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها، كلَّما هلك ملك أرَّخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة هذا الرأي، وقال آخرون: أرِّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرِّخوا من مولد النبيِّ ، وقال آخرون: بل من مبعثه، وقال آخرون: بل من مهاجره، فقال عمر وكان ملهمًا: (الهجرة فرَّقت بين الحقِّ والباطل، فأرِّخوا بها).
واليومَ نرى معظم الأمَّة الإسلاميَّة قد عدلت عن التأريخ بالتاريخ الإسلامي الهجريّ القمري إلى التأريخ بتاريخ النصارى الميلادي الشمسيّ الجريجوري، نسبةً إلى البابا جريجوري، وهو تأريخ كما لا يخفى لا يَمتُّ إلى ديننا بصلة. وإذا كان لبعض الناس شبهةٌ من العذر حين استعمَر النصارى بلادَهم وأرغموهم على أن يتناسَوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي، وقد علمتم أنَّ الصحابة كرهوا التأريخ بتاريخ الفرس والروم، والهدى في اتِّباعهم، والضلالة في مخالفة سبيلهم، قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، فقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: هذا هو الشرع المستقيم.
فالعجب من أمَّة الإسلام تترك هذا الشرع القويم في باب التأريخ، وهذه أمَّة اليهود لا تزال تؤرِّخ بتاريخها منذ أزيدَ من خمسة آلاف سنة، وهذه النصارى لا تؤرِّخ إلا بتاريخها منذ ألفَي عام، مع ما في تأريخهم من اختلالٍ علمي وديني. فمن المؤسف حقًّا ومن المحزن المخزي ما صارت إليه هذه الأمَّة في مجموعها إلاَّ قليلا منهم من التوقيت بتاريخ النصارى الميلاديّ بدلاً من تاريخهم الإسلاميّ الهجري الذي اتّفقت عليه كلمة السلف، الذي شهوره هلاليّة كما شرع الله وكما كتب في كتابه الأوَّل، وهي الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للناس كما قال عزَّ وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]. فهي مواقيت للناس كلِّهم، عربهم وعجمهم، ذلك لأنَّها علامات محسوسة وآيات مشهودة؛ ظاهرةٌ لكلِّ مبصر، يعرف بها دخول الشهر وانقضاؤه، فمتى رئي الهلال من أوَّل الليل دخل الشهر الجديد وانصرم السابق، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]. فجعل سبحانه الليل آية أي: علامة يعرف بها، وهي الظلام وظهور القمَر فيه، وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس فيه، وهذا كما في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ [يونس:5]. فأخبر سبحانه أنَّه علَّق معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازل، وعلى آية النهار، وهي الشمس، فبالشمس يعرف الأسبوع والليل والنهار والأيَّام، وبالقمر تعرف الشهور والأعوام، وبهما يتمُّ الحساب. وإنَّما جعل الله تعالى الاعتبار بدور القمر؛ لأنَّ ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يشاهد بالأبصار، بخلاف سير الشمس، فإنَّ معرفته تحتاج إلى حسابات دقيقة، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النبيُّ : ((نحن أمَّة أمِّيَّة، لا نعرف الكتاب ولا الحساب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)).
أمَّا الشمس فإنَّما علَّق الله تعالى عليها أحكام الليل والنهار من الصلاة والصيام، فالصلاة تتعلَّق بطلوع الفجر وطلوع الشمس وزوالها ودلوكها وغروبها وغياب الشفق، والصيام موقَّت بمدَّة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فبالشمس يتمُّ حساب مواقيت اليوم المتعلِّقة بالصلاة والصيام. وأمَّا حلول شهر الصيام والفطر والأشهر الحرم والحجِّ وعِدَد النساء ومُدد الإيلاء وحلول آجال الزكاة والدّيون وغير ذلك من الأحكام والشرائع فهي موقَّتة بالأهلَّة. فبالشمس يتمُّ حساب الليالي والأيام، وبالقمر يتمُّ حساب الشهور والأعوام.
هذا هو الدين القيم الذي شرعه الله للناس أجمعين، ليس كالشهور الإفرنجيَّة، فإنَّها شهورٌ وهميَّة، فلا هي ممَّا شرع الله في كتاب صريح، ولا هي ممَّا بني على حساب علميِّ صَحيح، بل هي شهورٌ اصطلاحيَّة مختَلفة، بعضها واحدٌ وثلاثون يومًا، وبعضها ثمانية وعشرون يومًا وبعضها بين ذلك، ولا يُعلم لهذا الاختلاف من سبب حقيقيّ محسوس أو معقول، ولا مشروع على لسان رسول؛ ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغييرِ هذه الأشهر على وجه ينضَبط، لكنَّها عورضت من قبل الكنيسة ورفضها القسِّيسون رفضًا شديدًا، تعصُّبًا منهم لباطلهم وتقليدًا لجهالهم.
فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ كيف يعارض رجال الدين من النصارى في تغيير أشهر وهمية مختلقة إلى اصطلاح علميّ يكون أحسَن وأضبط، وأهل الإسلام فعامَّتهم سالكون لسبيلهم المعوجَّة، منحرفون عن سبيل سلفهم الصالح الواضحة المحجَّة. وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل فقيل له: إنَّ للفرس أيَّامًا وشهورًا يسمُّونها بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشدَّ الكراهة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، لقد عشنا في الأيام الماضية ذكرى حادثة عظيمة من حوادث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانا بعهد جديدٍ وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، وقيامه ببناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له وتبلّغ دينه الحنيف إلى الناس جميعًا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وصح أن رسول الله قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
فيا أخي المسلم، لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، واهجر الكسل والأمل الباطل إلى الجد والاجتهاد فيما يرضي مولاك، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((عبادة في الهرج كهجرة إليّ)) يعني وقت الفتن.
وإن حادث هجرة المصطفى تمدّ المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، يتزوّد فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به أمته، فينصر المسلم دينه بما يسّره الله من الأسباب. وأعظم واجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تنصر دين الله في نفسك، بأن تستقيم على طاعة الله، وأن تنصره في بيتك، بالعمل به والدعوة إليه في مجتمعك والصبر عليه.
وإن حال المسلمين في العالم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح، من الإيمان الحق والتوحيد الخالص والخلق الكريم والصدق مع الله والتوكل عليه والصبر على المكاره وإحسان العبادة على وفق ما جاء به النبي في السنة المطهرة.
وإننا لنؤمّل خيرًا في هذه الأمة بأن تعود إلى ربها ودينها حتى يكون لها التمكين والظهور على أعدائها، خاصة في هذه الأيام مع الهجمة الشرسة والسخرية والاستهزاء الذي يتعرّض له صاحب الهجرة ، ذلك أن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله أنه إن لم يُجازَ في الدنيا بيد المسلمين فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عَهد النبوة كثيرة، وقد قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [الحجر:94، 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]. فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره. ومن الكلام السائر الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟! وفي الصحيح عن النبي أنه قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة)) ، فكيف بمن عادى الأنبياء؟!
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ـ ولا سيما من تواتر فضله ـ فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبيًا من الأنبياء؟! فكيف بمن آذى محمدًا؟! إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه مبينا تكفّله بكفاية شر هؤلاء: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:136، 137]. فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم وبين غيرهم الذين ناصبوا رسلهم العداء قديمًا وحديثًا، وورثوه كابرًا عن كابر. ولا شك أن ساسة الدول الذين يغضّون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض الأنبياء ليسوا عن الذمّ بمعزل، فإن الله سبحانه تأذّن بإهلاك المدن والقرى الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف التشريعات السماوية، كما أنّه مخالف للنظم والقوانين الوضعية الكافرة الأرضية.
والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير أعمدة، ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعِر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرؤوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجّة أهل الإسلام البالغة وبراهين دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجارونها به غير الخروج إلى حدّ السخرية والاستهزاء والسب والشتم، تعبيرًا عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا يعبّر أيضًا عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان والرد بمنطق وعلم وإنصاف.
وإنك لتعجب من دول يعتذّر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي يستحقها به، كما قال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، وقال عز وجل: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
أيها الإخوة، كونوا على يقين أن الله منتقم لنبيه ، وأن المجرم إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في أمثاله فإن وراءه يوما عبوسا قمطريرا، شره في الخلق منتشر، عظيم الشأن، وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم الدين، فإنّ المسلمين قد ينسَون أمورًا كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم لا ينسَون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم وإن تعلق بأستار الكعبة، وخاصة بعد موته ، وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا، والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه ، وأن يعزّ الإسلام وأهله، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1/4653)
معجزات ودلائل وأعلام نبوة محمد
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالرسل, القرآن والتفسير
عبد الفتاح بن سعد عياش
المدية
25/1/1427
مسجد الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأييد الله تعالى أنبياءه بالمعجزات. 2- المعجزة الخالدة. 3- تكذيب المشركين للنبي. 4- من أوجه إعجاز القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عبادَ الله، لقد أجرى الله تبارك وتعالى المعجزات والبراهين الساطعات والدلائل القاطعات والحجج الواضحات على أيدي أنبيائه ورسله حسب ظروفهم وعندما يحتاجون إليها، مما يدل على صدق دعواهم وأنهم رسل من قبل الله جل وعلا؛ كي تقوى بها قلوب المؤمنين التابعين لهم، وكي تقوى الحجة البالغة على الناس، فلا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وقال جل في علاه: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ، وقال سبحانه وتعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.
وقال : ((ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) متفق عليه. أفاد هذا الحديث أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضرّه من أصر على المعاندة. والمعنى أن كل نبيّ أعطي آية أو أكثر من شأن من شاهدها من البشر أن يؤمن بذلك مغلوبا عليه، بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. وقوله : ((وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي)) يعني أن معجزتي التي تحدّيت بها الناس وحي أنزله الله على قلبي؛ لأن كل نبي أعطي معجزة خاصّة به لم يعطها بعينها غيره، وتحدّى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاء موسى عليه السلام بالعصا على صورة ما يصنع السحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره، وكذلك إحياء عيسى عليه السلام الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عمَلهم بما لم تصل قدرتهم إليه؛ ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك، والقرآن لم يؤتَ أحد قبله مثله، وهو باق بإعجازه إلى يوم القيامة، بخلاف معجزات من قبله، فإنها قد انقرضت؛ ولذا قال : ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)).
فأول دلائل النبوة وأعظمها وأظهرها ظهورًا يفوق ظهور الشمس والقمر هو القرآن الكريم المنزّل على قلب الرسول الأمين بلسان عربي مبين، تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثل سوَرِه فعجزوا إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله ومن عليها، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
فقد جاء القرآن من جنس ما نبغ فيه العرب القوم الذين نزل فيهم، فقد عُرفوا بالبلاغة والفصاحة وحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير، فتحدّاهم القرآن في هذا، فلما سمعوه انبهروا، ولكن العناد أوقفهم عن الاتباع، قالوا عن النبي : إنه ساحر، والردّ هنا بسيط جدًا؛ هل يملك المسحور اختيارًا مع الساحر؟! إن المسحور لا يخضع للسّاحر بإرادته، ولا يأتي ليقول له: سأصدق هذا السحر وأكذّب هذا السحر، إنما المسحور مسلوب الإرادة أمام الساحر، فكونكم تقولون: إنه ساحر ولا تؤمنون به دليل على أنكم كاذبون.
ثم قالوا عنه : إنه شاعر، وهو أصلاً لم يقل الشعر في حياته، وهم يعرفون ذلك جيدًا، فلماذا فجأة يتهمونه بذلك؟!
ثم قالوا: مجنون، ولكن هل المجنون يكون على خلُق؟! وهم كانوا يلقّبونه قبل الرسالة بالصادق الأمين، وكانوا يودعون عنده الودائع ويأتمنونه حتى بعد البعثة وحتى يوم الهجرة، فكيف يكون مجنونًا وهو الذي أنقذهم من حرب كادت تنشب عند وضع الحجر الأسود؟!
الذي حدث أنهم انبهروا، ذهلوا، هم ملوك البلاغة والفصاحة وأساطينها، فجاءهم كلام أعجزهم، وجدوا أنفسهم عاجزين، فتخّبطوا، قالوا: ساحر، قالوا: مجنون، وقالوا أشياء لا تخضع لأيّ منطق؛ لأنهم من قوّة المفاجأة فقدوا الحجة والمنطق.
وهناك أمر آخر جعلهم لا يقتنعون بهذه المعجزة، ولم يؤمنوا بها، وهو أن أكثر الناس في كل العصور هم همج رعاع أتباع كل ناعق، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
والمعجزة البيانية في القرآن الكريم ثابتة بأقصر سورة منه، والبشر عاجزون منذ نزل القرآن وإلى يومنا في تأليف سورة من مثل سور القرآن بيانًا وإبداعًا وحلاوة وطلاوة وبلاغًا، وعجزُ البشر منذ نزول القرآن وإلى يومنا هذا عن معارضة كلام الله بكلام مثله أو قريب منه هو من أعظم الدلالات على نبوة الرسول عليه السلام؛ إذ ليس من شأن بشَر أن يأتي بكلام لا يستطيع أحد من البشر أن يجاريه فيه أو يفوقه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، من أوجه الدلالة على صدق نبوة محمد هو أن القرآن الكريم الذي جاء به هو كلام الله عز وجل وليس من كلامه، وأنَّى له ذلك وهو النبيّ الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب؟!
ولم يكن التحدي في القرآن والإعجاز بالبلاغة فقط، ولكن التحدّي أيضًا كان بتمزيق حواجِز الغيب الثلاثة: المكان والزمن الماضي والزمن المستقبل، ومما يوضح ذلك:
أولا: أخبار الأمم السابقين:
إخبار القرآن بغيوب كثيرة لم يشهَدها رسول الله ولم يقرأها في كتاب، ولا التقى بأحد ممن له علم بها فيتعلّمها منه، وقد جاءت هذه الأخبار كما عند أهلها تمامًا، ومن ذلك قصص الأنبياء السابقين وأحوال الأمم الهالكة وتفصيل ما وقع لهم، كما قال تعالى لرسوله بعد أن قصّ عليه قصّة يوسف بتفصيلاتها الكثيرة: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ، والمعنى: هذا الذي قصصناه عليه من شأن يوسف وأبويه وإخوته هو من أنباء الغيب التي لم تشهدها أنت، فإنك لم تكن حاضرًا عندما أجمع إخوة يوسف على إبعاده عن أبيه وإلقائه في غيابة الجب ومكروا بأخيهم وأبيهم على ذلك النحو، ولكن الله هو الذي أطلعك على هذا الغيب وأوحاه لك ليكون هذا دليلاً على صدقك، ومع هذا فإنّ أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم وقدمت لهم هذه الأدلة القاطعة لا يؤمنون.
وقال تعالى لرسوله أيضًا بعد أن قص عليه قصة موسى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، وقال تعالى أيضًا بعد أن قص الله على رسوله قصة مريم وما كان من شأنها في ولادتها ونشأتها وكفالتها وتعبدها... الخ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.
وهذه القصَص وتلك الأخبار التي جاءت مصدقةً لما في التوراة دليل واضح على أن القرآن من عند الله، وأن محمد بن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا.
ثانيًا: إخبار القرآن بما يأتي من الأحداث:
إخبار القرآن بأمور كثيرة تقع مستقبلاً وقعت كما أخبر الله بها تمامًا كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وقد تحقق هذا تمامًا، علمًا أنَّ كلّ الظواهر وقت نزول هذه الآيات كانت بخلاف ذلك، فقد كان المسلمون بحال من الضعف مما لا يظنّ معه نصرهم، والكفار بحال من القوة والمنعة مما يظن أن الغلبة لهم.
وكذلك قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. وفي هذه الآيات يخبر الله تعالى أن صلح الحديبية سيكون فتحًا مبينًا علمًا أن الصحابة أنفسهم الذين نزل القرآن عليهم وعاشوا هذه الأحداث كانوا يظنون صلحَ الحديبية ذلاً وهزيمة لهم، كما قال سهل بن حنيف : (أيها الناس، اتهموا الرأي في الدين، فلقد كدت أن أردّ على رسول الله أمره بعد حادثة أبي جندل) رواه البخاري. وقد كان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام، خلافًا لما ظنه الجميع، حتى إن الرسول نفسه الذي وقَّع هذا الصلحَ وارتضاه كان يقول عندما يسأل: لماذا يرضى بهذا الصلح وفيه ما فيه من قبول الدنية في الدين والإهانة للمسلمين؟!: ((إنه ربي ولن يضيعني)). فأي دليل أكبر من هذا على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وليس كلام رسول الله؟! ولو لم يكن مع الرسول إلا هذا الدليل لكفى إثباتًا أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأن القرآن المنزل عليه هو كلام الله وليس كلام محمد.
ثالثًا: ومن الأدلة كذلك على أن القرآن من عند الله وليس من عند رسول الله إخباره بحقيقة مقالة النصارى في عيسى ابن مريم واختلاف أمرِهم فيه، وهذا أمر كان النصارى يخفونه ويكتمونه ولا يذيعونه، فأنى لرجل أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب ولم يجادِل أحدًا من الأمم في دينهم ولا عرف شيئًا مما عند اليهود والنصارى أن يدلّ النصارى على حقيقة أقوالهم في دينهم وحقيقة اختلافهم، ويعلم ما يخفونه من هذا الدين، ثم يقيم الحجة القاطعة عليهم التي يقطعهم بها ويدفع باطلهم ويميت دعوتهم؟! بل إن ما جاء به القرآن الكريم في إبطال دين النصرانية وفساد عقائدهم لهو من أعظم الأدلة على أن محمدًا هو رسول الله حقًا وصدقًا، فقد كان حظّ العرب المشركين من فهم عقائد النصارى أن اعتقدوا أنّ آلهتهم خير من المسيح ابن مريم كما قال تعالى عنهم: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. وأمّا القرآن فإنه دحض جميع حجَج النصارى، وبيّن كذبهم وفساد معتقدِهم في عيسى عليه السلام، وأنه لم يصلَب ولم يقتَل، وأنه لم يكن إلاّ عبدًا صالحًا ورسولاً كريمًا أعلَن عبوديته منذ ولادته، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ، وفي هذا أعظم ردّ على الذين قالوا: إنه إله من إله، وإنه هو الخالق للسماوات والأرض، لأنه ليس من شأن الإله الخالق أن يولد ويموت وتكون له والدة، وليس من شأن الإله أن يصلي ولا أن يزكّي ولا أن يعلم كتابًا، وكان في كل أدوار حياته يعلن بشريّته وعبوديته لإلهه ومولاه الذي في السماء، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
وجاء القرآن ليعلن كفرَ من اعتقد أنّ عيسى عليه السلام إله خالق رازق، فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وقال جل وعلا أيضًا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وفي هذه الآيات من الدّلالات الواضحات على إبطال دين النصرانية ما لا يتّسع لشرحه المقام، فقد أعلن أولاً كفر من زعم أن عيسى عليه السلام هو الله ومن جعله ثالث ثلاثة، وبيّن أن عيسى وأمّه كانا يأكلان الطعام وهذا دليل حاجَة، وللطعام ضرورته المعروفة وفضلاته التي لا تليق بالإله.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1/4654)
إصلاح ذات البين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله الجبير
المجمعة
30/10/1426
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل جيل الصحابة رضي الله عنهم. 2- أضرار آفة الحسد والبغضاء. 3- من أسباب انتشار المحبة بين الناس. 4- فضل إصلاح ذات البين. 5- مراتب إصلاح ذات البين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية الله أن اتقوا الله وأطيعوه، احفظوا حدوده، وتقيدوا بأوامره ونواهيه، ففي ذلك راحة النفس وتيسّر أسباب الرزق وارتفاع المنازل في جنات عدن إلى مقاعد الصدق عند المليك المقتدر، تذكروا في كل شأنكم قوله جل وعلا: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:52-55]. فكل شيء مسجّل ومثبت، والمتقون هم وحدهم الناجون الفائزون، فلنعمل ـ وفقني الله وإياكم ـ للفوز بالنجاة من النار وبالمنازل العالية في جنات عدن.
عباد الله، يحدثنا التاريخ بكل فخر عن خير جيل عرفته البشرية، جيل تربى على يد خير البشرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فكان جيلا تميز بكرامة الخلق وسخاء النفس، وبالترفع عن كل دنية، وبالنظر دوما لمعالي الأمور، وبالبحث عما ينقي النفوس من الضغائن ويجمع القلوب ويوحد الكلمة. هذا الجيل هو الجيل الفاضل من بين أجيال البشرية جميعا، ويستبعد تكراره مرة أخرى، وهذا الجيل الذي بلغ عالي المنزلة ورفيع الدرجة، وبُشر أكثرهم بالجنة وبرضا الرحمن، يخاطبهم مربيهم ونبيهم بخطاب فيه التحذير وفيه التنبيه على أمر مكروه نزل بهم ووصل إلى بعضهم وهم الفضلاء، وفيه توجيه نحو الخلاص مما حل ونزل، ولأنه كان نزل بهم وهم الفضلاء فلأن ينزل بمن بعدهم أولى، ولأن تخاطب الأجيال من بعدهم بهذا الخطاب أولى وأجدر، ووقفتنا اليوم مع هذا الخطاب وما فيه من تحذير وتوجيه.
روى الأئمة الترمذي وأحمد وأبو داود ومالك عن الزُّبَيْرِ بْن الْعَوَّامِ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ)).
فلنتعرف لداء الأمم، ولماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام: داء الأفراد، أو لم يقل: الداء وسكت. لقد أراد أن يبين أن مصيبة الأمم وتفرق جمعها وزوال أثرها إنما هو بهذا الداء، وإذا زالت الأمة فأين سيكون موقع الأفراد؟! فالفرد بلا جماعة إنما هو كالشاة الضعيفة المستسلمة بين أيدي الذئاب، تنهشها وتمزقها ولا يحق لها سوى صراخ الألم؛ لذا كان التنبيه على أن الداء الذي بدأ يدب إنما هو داء يفتك بالأمة ومن فيها، إنه الحسد والبغضاء، وهما داءان مقترنان متفقان، مقترنان في النشوء والظهور، ومتفقان في الهدف والنتيجة؛ فالحسد كراهية للخير الذي ينزل بالآخرين، والبغضاء كراهية للآخرين أنفسهم.
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: ((وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ)). إن البغض والكراهية إن استفحلا في النفوس وسيطرا على العقول والقلوب أزالا الدين من النفوس؛ لأنها ستدفع ـ أي: الكراهية والبغضاء ـ ستدفع صاحبها إلى كل محرم أمكن فعله تجاه المكروه والمبغض، فلا توّرعَ معهما عن غيبة ولا نميمة، ولا توّرع عن كذب ولا افتراء، ومعهما تهويل للخطأ وحكم على النوايا وعزم على حجب كل فضيلة وحسنة لدى ذلك المبغَض والمكروه. وأي دين يبقى لمن كانت هذه صفاته وأخلاقه؟! وأي مجتمع يبقى قويا متماسكا وبعضه يشتم بعضا ويلعن بعضه بعضا؟!
النتيجة الحتمية للحسد والبغضاء هي الفرقة والتنافر والعداء والسعي للإضرار بالبعض، وهكذا تتفكك الأمم وتنتحر الشعوب، ومن هنا يظهر الشيطان وحزبه ليحكموا سيطرتهم على كل شؤون الحياة، وإذا سيطر الشيطان وحزبه فهل سيبقى من يحمي الدين وينافح عن أحكامه؟! وهل سينادى بتطبيق أسسه ومبادئه؟! روى الأئمة مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)) ، وفي رواية عند مسلم وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُونَ)). هذه هي خطوات الشيطان لنشر داء الأمم بين أمتنا، يحرش بين الناس ويثير الفتن ويهول الأمور، حتى يجعل عظيما ما ليس بعظيم، ويرضى بما نحتقر من العمل كغيبة ونشر خبر أو حكاية مدسوسة بدون تثبت وبدون إدراك للعواقب، فتكون النتيجة حلقا للدين وضياعا لأحكامه ومبادئه واقترانا مع الشيطان وحزبه في الدنيا والآخرة عياذا بالله تعالى.
ولعل فيما يكتب وينشر في مواقع الإنترنت من أحاديث وتُهَم حول أشخاص وقضايا بلا حساب ولا معرفة للناقل لدليلا على أن داء الأمم قد نزل بالمجتمع، ودليلا على أن بوادره قد بدأت بالظهور، فهذا يشتم ويتهم ثم يفتح الباب لغيره ليشتم آخر بعيد عن القضية المتحدث بها، ويتَّهَم بالباطل أناس كذبا وزورا، ثم يتهافت الناس لتناقل التهم ونشر فضائح رجال كانت مستترة، فتختلف القلوب عليهم وتتغير ناحيتهم، فيتفرق المجتمع ويتحزب الناس، وتكال التهم وتحاك الخطط للإضرار بالآخرين، وهنا تكون البغضاء قد حالت بين المسلمين وبين جنة ربهم؛ لأن سبيل الجنة قد انقطع ألا وهو المحبة، قال : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا)). وهل غايتنا إلا دخول الجنة؟! وهل لنا مطمع من حياتنا هذه أكبر من الجنة؟! فلماذا نقطع أسبابها؟! ولماذا نحول بيننا وبين التمتع بها؟! لنعمد لما يزيل البغضاء، ولنعمد لما يحقق المحبة والإخاء في النفوس، قال : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)).
هنا توجيه نبوي كريم لقطع الطريق على انتشار البغضاء ولفتح الطرق موسعة نحو المحبة والإخاء، إفشاء السلام هو السبيل الميسر الموسع السهل الذي لا يمتنع، وفي الأمر بإفشاء السلام إشارة إلى وجوب اللقاء والحوار بين المتخاصمين. كم من ضغينة وكراهية تولدت في النفوس زالت بمجرد اللقاء والسلام، وهنا ندرك مراد النبي حينما قَالَ: ((لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ)). نسمع كلمة عابرة قد تكون مقصودة أو غير مقصودة فنحوّر مراد صاحبها وفق ما تمليه علينا ظنوننا وتصوراتنا، فتسيطر النفس الأمارة بالسوء لتكبر الكراهية والبغضاء في النفوس، فما يلبث اللقاء وتبادل الأحاديث الودية أن يصفي النفوس ويزيل الشوائب، حتى ولو كان الحديث في غير القضية المعنية، وإن كان الحوار حول قضية الخلاف فهو أجدر وأولى بتصفية القلوب وتنقية السرائر.
ومن الخطأ في مفهوم الحوار أن يظن كل طرف أن الحوار معناه اقتناع ورضا الآخر بالقرار والموقف الذي حدث، وهذا لن يكون أبدا. إن المراد من الحوار هو بالدرجة الأولى تفهم كلّ لوجهة نظر ودوافع صاحبه، فإذا فهمت وجهة النظر زالت دوافع البغضاء وانتشرت المحبة والإخاء، وقوي المجتمع وحُكِّم الدين في كل الشأن، فعز المسلمون ونصر الإسلام، وفتحت أبواب الجنان للجميع يتسابقون إليها ويتنافسون فيها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسائر من اهتدى بهديه واقتفى أثره وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: عباد الله، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟)) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ((صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)) ، وفي رواية قَالَ: ((هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ)).
وليس المقصود بصلاح ذات البين الإصلاح بين المتخاصمين كما قد يفهم، بل هذا منزلة تلي المنزلة المقصودة، إذ صلاح ذات البين يراد به صلاح النفس وسلامتها تجاه إخوانها، روى أحمد عن أَنَسُ بْن مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاّ خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؟! فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاّ مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاّ مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ.
تأمل فهذا صلاح ذات البين، وهذا خير وأفضل من كثير من نوافل الصلاة والصيام والصدقة، إنها فقط أن لا تجد في نفسك على أحد من المسلمين شيئا، وأن لا تحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. ما نزع عنك من مسؤوليات فافرح به ولا تغضب لأجله، فهو أمانة رفعَت عنك، قد تتألم يوما ما لأجل تحمّلها، وإن تحقق ذلك في نفسك فأنت خير من كثير من المسلمين.
والمنزلة الفاضلة التي تلي هذه المنزلة هي السعي للإصلاح بين المسلمين، إذ هو عمل عظيم جليل، لأجله أباح الله ارتكاب خُلقٍ ذميم يكرهه سبحانه ألا وهو الكذب، عن أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)).
والإصلاح بين المتخاصمين هو هم وخلق النبي ، وبهذا تواترت الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام وعن صحابته الغر الميامين، وهي أشهر من أن تذكر، فجميل بالمسلم أن يكون له شيء من هذا الخلق وهذا الهم، وأما إن احتد الخلاف وتعذر الإصلاح فقد روى الإمام أحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي اخْتِلافٌ أَوْ أَمْرٌ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ السِّلْمَ فَافْعَلْ)). ولنتذكر دوما قوله : ((تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاّ رَجُلا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)) رواه مالك.
وأيضا لنتذكر دوما إن كنا نريد الحفاظ على ديننا وأملنا في الوصول إلى جنة ربنا، لنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُونَ)). فلا تحتقر غيبة ولا نميمة، ولا تتهاون في شتيمة ولا نقيصة، ولن يضرك من ضلّ إذا اهتديت. وأيضا اعلم أنك لست على حق مطلقا، وليس مخالفوك على باطل مطلقا، بل لكل وجهة نظر ومنطلق شرعي يحكم أقواله وأفعاله.
حمانا الله وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ورزقنا وإياكم صلاح ذات البين، ووفقنا جميع للإصلاح وجمع القلوب على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/4655)
وقفات قبل صلاة الاستسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
خالد بن عبد الله الجبير
المجمعة
13/10/1425
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية يتقوى الله. 2- من سنن الله الابتلاء لعباده. 3- بعض أسباب منع القطر من السماء. 4- أحوال الناس تجاه صلاة الاستسقاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فهي وصيته جل وعلا لهذه الأمة، كما هي وصيته سبحانه لمن سبق من الأمم، فهلم ـ عبد الله ـ نتقي الله في السر والعلن، لنستنزل البركات ولتحل علينا الرحمات، ولتفرج لنا الكربات وتتساقط عنا المعوقات والصعوبات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]. فاتقوا الله عباد الله، اجتنبوا ما نهى عنه الله ورسوله، واعتنوا بما أوجب عليكم الله ورسوله؛ تستحقوا ما وعدتم وتفوزوا بمطلبكم.
عباد الله، لقد مضى من سنة الله جل في علاه مع عباده وأوليائه أن يبتليهم بنزول بعض ما يكرهون في حياتهم؛ في أمنهم وفي عيشهم ومطعمهم ومشربهم وأموالهم وصحّتهم واجتماعهم بأحبتهم، كل هذه أمور مضى من سنة الله أن يبتلي عباده فيها، كما مضى من سنته سبحانه أن يزيد في بلائه لهم كلما زاد إيمانهم وارتفعت عنده منزلتهم، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: ((الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
وأيضا مضى من سنته سبحانه وعدله أن يعاقب من عباده من غفل عنه وصد عنه، وتزداد العقوبة مع زيادة البعد، وتشتد في حال الجهر بالمعصية وإظهار عدم الخوف منه جل وعلا، وفي هذا قال عمر بن عبد العزيز: "كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم". نسأل الله العافية من سخطه وغضبه.
وإن من أكثر ما يبتلي به المؤمنون ويعاقب به العصاة في كل العصور هو حرمانهم من خيرات السماء وبركاتها، وفي هذا الأمر يبين جل وعلا حقيقةً مفادُها أن الغفلة والإعراض عن الله سبب في الحرمان من بركات السماء، يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
وقد ذكر المفسرون في تفسير قول الله جل وعلا: وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]: "أن البهائم تلعن عصاة بني آدم؛ تقول: منعنا القطر من السماء بسبب ذنوبكم".
والغفلة والمعصية كما تحدث من العصاة والفسقة فهي قد تحدث من المؤمنين الطائعين، وإن اختلفت درجة الخطيئة ودرجة العقوبة المترتبة عليها، ولكن الفرق بين الطائفتين أن المؤمنين الطائعين كما وصفهم ربهم جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وإنما هذا خبر من الله عن فريقَي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة. وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها".
ولعل ما يوحي بتمادي الناس في المعاصي هذا الابتلاء الحال بهذه البلاد الآن من تأخر نزول الأمطار وانحباسها، وهم الذين لا قوام لحياتهم بدونها، وقد يصابون بجهد وبلاء لا يدرك حجمه إلا من عانى بسببه وشعر بفقده، فانحباس المطر علامة على بعد وإعراض الخلق عن ربهم جل وعلا، ولأجل هذا شرع المولى جل وعلا لعباده عبادة مناسبة لمثل هذا الحدث، عبادة يرجعون بها إلى ربهم، يرفعون فيها شكواهم ويطلبون بها رضا مولاهم؛ ألا وهي عبادة الاستسقاء، إما بالصلاة المعروفة أو بالدعاء، سواء في خطب الجمع أو سرًا بين العبد وربه.
وهي صلاة تشرع لسببها الخاص بها، فليست كالسنن الرواتب ونوافل العبادات مفتوح وقتها، بل هي مقيدة بحدوث سببها وهو انحباس الأمطار واحتياج الناس إليه، كما في صلاة الكسوف التي لا تشرع إلا عند ورود سببها، وهو كسوف الشمس أو خسوف القمر.
والسر في مشروعيتها أن يظهر المسلمون المذنبون اعترافهم لربهم بخطيئتهم، وأن يعلنوا البراءة من كل ذنب وخطيئة اقترفته أياديهم علموه أو جهلوه، فما أن يعلن عن إقامة صلاة الاستسقاء إلا وتجد المؤمنين الأوابين يتسابقون لأدائها، ليس رغبة في نزول المطر فقط، وليس رغبة في أداء سنة من السنن فقط، بل برغبة رئيسة في إعلان التوبة إعلانًا عامًا يظهرونه أمام الخلق جميعا بطريقة خاصة شرعها جل وعلا ورضيها وبينها رسوله الكريم ، وهي معلومة بتفاصيلها لدى عامة المسلمين وخاصتهم. كما تجد أنهم مع هذا التسابق لإعلان التوبة وأداء تلك العبادة تجد أن قلوبهم قد ملئت يقينا باستجابة دعائهم، وملئت يقينا بتفريج ما حل بهم قبل استسقائهم.
ولما كان رسول الله وصحبه الكرام وسلف الأمة المتقدمون منهم والمتأخرون، لما كانت قلوبهم تمتلئ بهذا اليقين وهذه الثقة بالرب الكريم ما كان الغيث ليتأخر حتى وقت انصرافهم من المصلى، فهم يدركون أن الله جل وعلا ما كان ليخذل عبدا تلبس بلباس الذل لمولاه واعترف بخطئه وأقر بذنبه فيرده خائبا لم يستجب له، ولكن لما كان في مثل هذا الزمان أناس يصلون صلاة الاستسقاء وهم فاقدون لتلك الصفات أو بعضها فيستسقون وهم متلبسون بلباس الظلم لأنفسهم أو لغيرهم، فأموال مستحقة لله جل وعلا منعت، وأجسام بالحرام غذيت، وملابس بالحرام حيكت ولبست، ونوايا بحب الذات والتنكر لحقوق الآخرين غلفت، وكذلك قلوب قد ملئت شرًا فأساءت الظن بربها وشاب فكرَها شك في موعود مولاها باستجابة دعاها. لما كان هذا حال بعض ممن يخرج لصلاة الاستسقاء كان لله جل وعلا جزاء مناسبٌ لحالهم، إذ قد يرد سبحانه كثيرا منهم بسبب خلل في توبة واستسقاء بعضهم.
ولنا أن نقف مع مثل هذه الأحوال، فأما ظلم النفس بالحرام ومنع الحقوق الواجبة فلا يخفى على مسلم ما أبيح له وما حرم عليه، إذ الحلال بين والحرام بين، وليس المقام مقام ذكر هذه الأمور، ولكن للنبي حديثان يوضحان هذين الأمرين: منع الحقوق الواجبة وظلم النفس بالأموال المحرمة، ويبينان دورهما في منع خيرات السماء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ))، وذكر منها: ((وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)) الحديث. ولك أن تتخيّل حجم الزكوات والنفقات الواجبة الممنوعة من أهلها لتدركَ معها حجم الخطر والعقوبة التي عرضوا الناس لها.
وأيضا روى مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )) ، قَالَ: ثم َذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ: ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)).
عباد الله، يقول جل في علاه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مالك الملك ومدبر الأمر، يصرف الرياح ويسخر السحاب تبصرة وذكرى لقوم يعقلون، أمره بين الكاف والنون، ورحمته حق للعباد المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وحشرنا ووالدينا وأحبابنا في زمرته، وأسعدنا في الجنة بصحبته.
عباد الله، إن كان المال والمطعم والمشرب والملبس الحرام قد ابتلي به أناس كثير، ولعل الله جل في علاه أن يلطف بنا فيتوب علينا وعليهم، ولا يحاسبنا على ما فعل السفهاء منا، فإن كثيرا أيضا قد وقع ـ عياذا بالله ـ في إساءة الظن بربه ومولاه جل وعلا وإن كان فيه خير كثير، إلا أنه يخرج لصلاة الاستسقاء أو يرفع يديه مع إخوانه عند الدعاء وقد شاب قلبَه سوءُ الظن بربه جل في علاه.
تأمل حال بعض من الناس وللأسف هم كثير، وذلك حين الإعلان عن إقامة صلاة الاستسقاء وبعدها، فستعرف سببا من أسباب انحباس بركات السماء وتأخر استجابة دعاء المصلين، وهو حال يتكرر في كل عام عافانا الله وإياكم من ذلك؛ يقول قائل: "كانت هناك سحب وخيرات فما أن صلى هؤلاء حتى زالت تلك السحب وتحولت عنا"، وقد يقول البعض: "لو تركونا من صلاتهم تلك لنزلت الأمطار"، ونحو تلك العبارات.
قد يقولها يمزح أو يقصد بها أن صلاتهم غير سليمة ولا تامة، أو يبرر بحدوث عيب في ذات المصلين السائلين الذين هم خير منه؛ إذ مع عيوبهم قد سعوا فصلّوا وسألوا، وليس مثلَه فضَّل النوم والكسل على القدوم على ربه. وعموما فمهما برر واعتذر فعذره مردود عليه، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].
ثم تجد لدى بعض ممن أنعم الله عليهم بأداء الصلاة أنهم يخرجون للمصلى وفي أنفسهم شك في استجابة الدعاء أو قبول التوبة أو نزول المطر بعد الصلاة، وهنا مكمن الخطر؛ إذ قد ورد في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)) ، وفي رواية: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)). وهنا ينكشف سرّ وتتجلى حقيقة، هي أن كثيرًا من الناس قد ظن أن ربه لن يستجيب له، فكان ربه جل وعلا كما ظن به. وقد يُلبّس إبليس على البعض فيقول: بأن هذا الظن ـ أي: ظن عدم استجابة الدعاء ـ هو من باب احتقار النفس والعلم بعدم أهليتها لاستجابة الله لها، وهذا هو باب الشيطان الذي يلج منه لإخراج الناس من دينهم، فيشككهم في موعود الله لهم بحجج لا يقبلها جل وعلا، وحذّر منها رسوله ، كما روى الأئمة الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)) ، ويقول : ((لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لا مُكْرِهَ لَهُ)).
ثم إذا تأملت فيما ذكره بعض المفسرين والمؤرخين عن حال بعض أرباب الديانات الكافرة التي كانت تعيش مع المسلمين آنذاك، في أنهم كانوا حين خروج المسلمين لصلاة الاستسقاء كانوا يخرجون معهم فيجلسون قريبا من مصلاهم، لعل ما ينزل من السماء للمسلمين من خير يصيبهم أيضا، فهم إن لم يكسبوا شيئا لم يخسروا بخروجهم، هذا مع كفرهم يوقنون بأن هناك استجابة من السماء لمن دعا من أهل الأرض. إذا تأملت هذا جيدا نزل بك عجب شديد لمن يستثقل الخروج لأداء الصلاة أو يستخف بها، أو بمن يؤديها ويشكك في استجابة الله لهم، عياذا بالله تعالى. ولو أن كل من خرج لصلاة الاستسقاء كان على شاكلة من سبق الذين كانوا يجهزون أمورهم استعدادا لنزول الخير بمجرد الإعلان عن صلاة الاستسقاء، ويخرجون إليها وهم يعلمون أنهم يتجهون لباب من الأبواب الربانية، يرفعون عن طريقه الشكوى ويستنزلون من خلاله الرحمة، فيتذللون ويخشعون ويذكرون ويسألون ويتوبون ويستغفرون، لو كان لهم حال مثل تلك الحال لكان الله مستجيبا لهم لِما أظهروه من حال، ولما أبطنوه من يقين واعتقاد.
عباد الله، إذا علمنا أن الله جل وعلا كما قال : ((حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)) فإننا نرفع أيدينا سائلينه جل وعلا ومنتظرين إجابته لنا، فهو الغني الكريم والرب الرحيم.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت ربنا لا رب لنا سواك نرجوه، ولا إله غيرك ندعوه، ونتوسل إليك ربنا بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، نتوسل إليك بأنك أنت ربنا وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير، نتوسل إليك سبحانك بأننا لا نشرك بك شيئا أن تفرج عنا ما حل بنا، وأن تنزع عنا ما ابتليتنا به في أي شأن من شؤوننا، فأنت ربنا ومولانا، إليك تضرُّعنا وشكوانا.
اللهم أغثنا, اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وبلادنا بالصيّب النافع يا رحمن. اللهم إن بالبلاد والعباد من البلاء والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، يا ربنا اللهم اسق بهائمك وعبادك وأحيِ بلدك الميت. اللهم قد رفعنا إليك أيدينا فلا تردنا بذنوبنا خائبين، ولا من عطاياك محرومين يا أكرم الأكرمين. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. نستغفرك ربنا ونتوب إليك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وصلّى اللهم على محمد وعلى آل محمد.
(1/4656)
أهمية الوقت
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الأبناء, السياحة والسفر
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت. 2- وصية للذين يقتلون أوقاتهم. 3- مسؤولية الآباء في رعاية الأبناء. 4- حكم السفر إلى بلاد الكفار. 5- مضار السفر لبلاد الكفار. 6- اقتراحات تفيد في اغتنام الوقت في العطلة الصيفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الوقت هو الحياة، وبما أنه هو الحياة فمعرفة أهميته يعنى معرفة قيمة الحياة، ومن لم يعرف أهمية الوقت عاش ميتًا وأن كان يتنفس على وجه الأرض، وهذا سر قول المجرمين عند سؤالهم: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112، 113]. والملاحظ أن إجابتهم هنا توحي بأنهم لم يعيشوا إلا يوما أو بعض يوم، ولكن لأنهم لم يعرفوا أهمية وقتهم ولم يغتنموه فيما ينفع ويفيد فلذلك لم يبارك الله في حياتهم رغم أنهم عاشوا في حقيقة الأمر أربعين أو ستين أو ثمانين أو أكثر أو أقل.
وقد بين الله سبحانه وتعالى أهمية الوقت في القرآن في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]، أي: جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل، فمن فاته عمل في أحدهما حاول أن يتداركه في الوقت الأخر.
ولأهمية الوقت أقسم الله تعالى بأجزاء عديدة منه مثل الليل والنهار، فقال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1، 2]، وقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]. ومن المعروف أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه فذلك ليلفت أنظار الناس إليه وإلى أهميته.
أما في السنة فقد بين أهمية الوقت عندما قال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)) رواه أحمد والنسائي عن عمرو بن ميمون، وهو في صحيح الجامع.
أيها المسلمون، الوقت سريع الانقضاء، فهو يمر مر السحاب، وما مضى فإنه لا يعود أبدًا، وهذا ما عبر عنه الحسن البصري بقوله: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة"؛ لهذا كان واجبًا على كل مسلم أن يحافظ على وقته، وأن يحرص على الاستفادة منه فيما ينفعه في دنياه وأخراه.
وقد كان سلفنا الصالح أحرص ما يكونون على أوقاتهم لمعرفتهم بأهميتها، قال ابن مسعود : (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملي)، وقال أحد السلف: "من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد ورثه أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه".
هكذا كان حرصهم على الوقت، وليس كما نحن الآن من إضاعة للأوقات إلى حد التبذير والإسراف، وحتى صرنا نرى الكثير من الناس رجالا أو نساء يقضون الساعات الطويلة في الليل والنهار في اللهو واللعب حرامًا كان أو حلالاً، غير مبالين، لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة وعن واجبات الدين والدنيا، ولو سألتهم عن حالهم قالوا لك سريعًا: نريد أن نقتل الوقت. وما درى هؤلاء أن من قتل وقته فقد قتل في الحقيقة نفسه، ولكن الكثير في غفلة وشرود.
عباد الله، ونستطيع أن نتبين هذا من أوضاع الناس خاصة في هذه الأيام التي بدأت فيها العطلة الصيفية، فالكثير يقضى العطلة في اللهو واللعب وترك الواجبات وفعل المحرمات المنكرات، وخاصة الشباب والأولاد؛ فما أن تبدأ العطلة حتى تراهم في كل وادي يهيمون، وبدون أي مراقبة أو محاسبة. والذي يستغرب له هو هذه البلادة واللامبالاة من جانب الآباء والأمهات، فلا ندرى ما يفعل تجاه أبنائهم لما يرونهم طوال اليوم في الشوارع والأزقة، يسمعونهم وهم يسبون الدين ويلعنون الآباء والأمهات والعورات فلا يتحركون! يعرفون أو لا يعرفون بأنهم لا يدخلون منازلهم إلا في أنصاف الليالي فلا يهتمون، يرونهم نائمين غافلين عن الصلاة والعبادة فلا يكترثون، بل لا يعلمون إلى أين يذهبون ومن يصاحبون ومن يصادقون، وإذا تنبهوا لهم فإنهم يتسلطون عليهم في منعهم من اللعب والانطلاق، فيأمرون بأن يلزموا المنازل ويتركونهم للأم المسكينة، فهم حولها طوال النهار يخربون ويكسرون، فتضطر الأم مع غضبها عليهم إلى دفعهم إلى الشارع، فيجتمعون فيه مع أولاد الجيران، فيصيحون ويتضاربون ويزعجون المرضى ويوقظون النائم، ثم لا يعودون إلى المنزل إلا بثياب قذرة ومقطعة، وربما عاد أحدهم إلى منزله مجروحا من حجر طائر أو مكسورا من سيارة مسرعة أو ضحية لتفحيط شرير من الأشرار، ثم إذا حدثت الكارثة ووقع الشاب وانحرف من كثرة وجوده بالشارع واحتكاكه مع الأشرار ترى الوالد والوالدة يصيحون: نحن لم نقصر في حقه، نحن وفرنا له الغذاء والكساء وكل متطلبات الحياة، لقد أفسده أولاد فلان. أولاد فلان ـ والله ـ ما أفسده إلا أنتم، هل تظنون أنكم إذا وفرتم لهم بعض الملابس والمأكولات والمشروبات، هل تظنون أنكم قمتم بحقهم؟! ماذا قدمتم لعقولهم ولأرواحهم؟! هل أمرتموهم بمعروف؟! هل نهيتموهم عن منكر؟! هل علمتوهم صلاة الجماعة وفضائل الأخلاق؟! أين أنتم من حديث الرسول : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها)) أخرجه البخاري؟!
لكن كثيرا من الآباء والأمهات في هذا الزمن لا يعرفون معنى التربية الحقيقية للأولاد ويجهلونها، لذا كثرت الانحرافات بين الأولاد، وصار أكثرهم بين ضائع وجاهل، ولن يصلح حالهم إلا إذا عرف الآباء المسؤولية وقاموا بدورهم كما أمرهم الله.
وهناك من يستغل فرصة العطلة للسفر للخارج، وهذه من أخطر الأمور التي تواجه الناس اليوم، وكم حذر المصلحون وكم صرخوا، ولكن لم يستجب إلا القليل.
إن السفر ـ يا إخوة الإسلام ـ إذا لم يكن لضرورة كطلب علم أو تجارة أو علاج أو دعوة فهو لا يجوز أبدًا، وخاصة إذا كان السفر لبلاد الكفر؛ وذلك لأن الرسول قال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) أخرجه أبو داود والترمذي. ثم إن الملاحظ أن غالبية الذين يسافرون إلى الخارج لا يذهبون إلا من أجل الشهوة فقط، وادعاء البعض أنهم إنما يسافرون لرؤية الطبيعة الخلابة وزيارة المتاحف والآثار إنما مبرر ألقاه الشيطان في نفوسهم لتبرير تصرفاتهم المخجلة، والتي لا يقصدون منها إلا قضاء الشهوة فقط، ومن أجل هذه الشهوة يتنازلون عن دينهم وشرفهم ومالهم، ويرتكبون الذنوب بحق أنفسهم، ويدعمون بمالهم أهل الدعارة والفجور، حتى إن مجلة الدعوة السعودية ذكرت أن عدد المسافرين إلى الخارج يصل في العام إلى مليون مسافر. إذا كان معدل الصرف لكل منهم هو 10 آلاف ريال مثلاً مع أن البعض منهم قد يصرف مائة ألف ريال في ليلة واحدة ولا يبالي، فإن معنى ذلك أن السفر يتسبب في ضياع 10 آلاف مليون ريال سنويًا. فهل هذه تصرفات أناس عقلاء؟! لو كان أمثال هؤلاء يفقهون قول النبي : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((وعن ماله: من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)). لو كانوا يفقهون هذا الكلام هل كانوا يتصرفون بهذا الشكل؟! ثم أتراهم يعلمون بأن تصرفاتهم أثناء سفرهم قد شوهت الإسلام في نظر العالم، وأنه بسببهم فقد أخذ العالم صورة سيئة عن الإسلام، وأنهم قد أسكتوا الجميع عن تقديم أي اعتذار أو تبرير لتصرفاتهم المخجلة؟!
ذكر أحد الدعاة أنه في إحدى سفرياته للدعوة رأى نفرًا يقيمون في أحد الفنادق، يقول: وخيل إلي من ملامحهم أنهم أجانب، لكني عرفت بعد زمان أن هذا مسلم وهذا نصراني وهذا شيوعي. ويقول: ما يوجد شيء يميز أحدهم عن الآخر، ولو بقوا سنين ما عرفت إلى أين ينتمون. إن الملحد يتعصب لمبدئه ويتحدث عن الألوهية بسوء، ومن هنا عرفت أنه ملحد. وأما النصراني فهو يحترم الأحد ويشرب الخمر ويرقص في عيد الميلاد، وبذلك عرفت أنه نصراني. أما المسلم المزعوم فهو كالدابة المستأجرة؛ تارة مع هذا وتارة مع هذا، ولا يدري عن أوامر دينه شيئًا، وحاله كقوله : ((مثل المنافقين كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع)) أخرجه مسلم. فهل يحسب هذا المخلوق من المسلمين؟!
إخوة الإسلام، إن هذا وأمثاله هم الذين شوّهوا الإسلام في نظر العالم، لماذا؟ لأن علاقتهم بالإسلام علاقة مذبذبة؛ فهم قد يصلون هنا ولكنهم في الخارج يتركون الصلاة، وقد يحجّبون نساءهم هنا ولكنهم في الخارج بلا حجاب وبلا أدب وبلا حياء، وكما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].
إن على هؤلاء أن يعلموا أنهم لن يفلتوا من عقاب الله إلا إذا تابوا وأصلحوا؛ لهذا نقول لهم: يا من تضيع دينك ووقتك ومالك في السفر وارتكاب المحرمات، ستسأل عن كل ريال صرفته. أولادك الذين تركتهم سيتعلّقون برقبتك يوم القيامة، ويطلبون من الله أن ينتقم لهم منك. زوجتك الشريفة الطاهرة التي تركتها هنا وذهبت هناك لتجري وراء البغايا والمومسات، زوجتك هذه ستأخذ حقها منك يوم القيامة، وسترى ماذا ستقول لها. وتذكَّر أن لذة المعصية قد ذهبت ولكن بقي عقابها، وإن كنت نسيت هذا فالله يحصى كل شيء كما قال تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
عبد الله، تذكّر أنك مسؤول عمّن لاقيته وتعاملتَ معه من غير المسلمين، العاملون في الفندق الذي تسكن فيه، المومس التي يحضرها إليك، حتى سائق التاكسي الذي ينتقل بك بين البارات والملاهي، كل هؤلاء سيتعلقون بك يوم القيامة ويقولون: يا رب، هذا كان يدّعي الإسلام ولكن ما عرفناه إلاّ سكيرا وعربيدا وزانيا وكاذبا، فظننا أن هذا الإسلام. وسيقولون: هذا وأمثاله هم الذين دخلنا بسببهم النار، ولن نرضى حتى يدخلوا معنا. ووقتها كيف سيكون جوابك؟! وكيف سترد عليهم؟! وماذا ستقول لرب العزة والجلال بعد أن قضيت حياتك في ارتكاب المحرمات والمعاصي؟! ماذا ستقول؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
اللهم إنّا نعوذ بك من حال أهل النار أو نكون منهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، قد يقول قائل: أنت ذكرتَ لنا المشاكل، ولكن ماذا عن الحلول؟ ماذا عن الحلّ؟
فنقول: إن الإسلام دين واقعي، وهو لا يعامل الناس على أنهم ملائكة، لكنه يعاملهم كبشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولكنه في نفس الوقت وضح لهم أهمية الانتفاع بالوقت، وأتاح لهم مجالات عديدة ليستفيدوا من هذا الوقت في دنياهم وأخراهم، وإذا أردنا الدخول في التفاصيل فنقول:
أولاً: بالنسبة للأولاد المفروض أن يشتغلوا بالأعمال المفيدة، وأن يتعودوا على اكتساب المال. في الخارج مثلاً يدرّبون الطلبة في الصيف على أعمال كثيرة تصِل إلى بيع الصحف. وللعلم فإن نسبة كبيرة من ألعاب الأطفال القادمة من جنوب شرق آسيا هي مصنوعة بأيدي أطفال يستغلون في أوقات فراغهم، ولا يرون في ذلك عيبًا كما نراه نحن الآن.
ثانيًا: على الأب أن يفكر، فإذا كان ولده قد أخفق في الامتحان وعليه إعادة فأول ما يجب عليه أن يجعله يراجع دروسه ويستعدّ لامتحانه، وإذا حرم العطلة فهذا ذنبه وعليه أن يتحمل مسؤولية خطئه.
ثالثًا: فإذا كان ناحجًا فإن عليه أن يعلمه البيع والشراء إن كان لديه دكان، أو يعمل له بسطة صغيرة، أو يحضر له بعض الألعاب داخل المنزل إذا كان فيه فناء، وإذا عدم الفناء فعلى الأب أن يخصص غرفة لذلك فهذا مهم جدا. وإذا استطاع أن يحضر له الجهاز المسمى بالكمبيوتر؛ لأنه جهاز المستقبل وسيستخدم في كل شيء، وفيه فوائد للأولاد والبنات.
رابعًا: فإذا لم يتمكن فعلى الأب أن يسجل أولاده بأحد المراكز الصيفية المنتشرة في أنحاء المملكة، وهي موضوعة ـ والحمد لله ـ تحت إشراف مجموعة من خيرة الرجال، فيتعلم فيها الأولاد كل شيء مفيد، فإذا كان لديهم هواية في النجارة أو الكهرباء أو الرسم أو غير ذلك فسيتمكنون من تنمية هواياتهم في هذه المراكز. أيضا فيها الأنشطة الثقافية من دروس ومحاضرات ومواعظ، وفيها الأنشطة الرياضية، وفيها الرحلات والمعسكرات.
خامسًا: ويتبقى للوالد أن يسجّل الولد في جمعيات تحفيظ القرآن طوال أيام السنة، فهذه من أفضل الأمور التي تعين على إصلاح الأولاد واستقامتهم، مصداقًا لقوله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) أخرجه البخاري.
عباد الله، هذه بعض حلول يمكننا الاستفادة منها في قضاء الوقت، وأرجو أن تكون واضحة لديكم جميعا. ولا يفوتني أن أكرر عليكم أن تحفظوا أوقاتكم عامة وعطلتكم هذه خاصة، وإذا أردتم السفر فيمكن لكم أن تسافروا داخل المملكة، خاصة وأن الكثير من الناس لم يسبق لهم زيارة الكثير من المدن والقرى في المملكة، بينما يجولون بلاد الكفر طولا وعرضا.
وعليكم بملاحظة أولادكم، الله الله في أولادكم، وتذكروا أنهم أمانة في أعناقكم، ويجب عليكم الوفاء بحق هذه الأمانة حتى تكونوا من الذين حكى الله عنهم فقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، وتذكروا قوله : ((والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته)) ، واحذروا أن تكونوا من المفرطين، وإذا فرط الرجل في هذه الرعية فهو داخل في قوله : ((ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)). فهل ننتبه ونستيقظ؟! نرجو ذلك ونتمناه، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه.
(1/4657)
صفر شهر وليس بشؤم
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
25/1/1427
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إبطال الإسلام لمعتقدات الجاهلية. 2- حقيقة العدوى. 3- النهي عن التطير والتشاؤم وبيان صور ذلك. 4- أصناف المتشائمين. 5- علاج الطيرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الناس، اتقوا اللهَ حق التقوى، فإن تقوى الله تعالى خيرُ زادٍ يُتزوَّدُ به للدار الآخرة، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَ?بِ [البقرة:197]، وهي وصيةُ اللهِ تعالى للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131].
عباد الله، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ)).
فلقد أبطل دينُنا الحنيف الكثيرَ من المسائل المخالفة التي كان عليها أهل الجاهلية من المعتقدات الباطلة والأوهام الزائفة؛ لما لها من الخطر الكبير على الخُلُق والعقل والسلوك، وجاء الكتابُ الكريم والسنة النبوية المطهرةُ بنفي هذه الخرافات والاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب وتُضْعِف الظنَّ الحسَنَ بالله، بل قد تزيله تماما.
فقوله : ((لا عدوى)) يعني: لا عدوى مؤثّرة بطبعها؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيرًا لا مردَّ له، وتأثيرًا لا صارفَ له، وأن العدوى ناقلةٌ للمرض لا محالة ولا بد أن يكون؛ مع أنه لا ينفي أصلَ وجود العدوى، وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإنّ الانتقال بسبب المخالطة حاصلٌ ومُلاحَظٌ ومَشْهُود؛ لذا فقد ثبت عنه أنه قال: ((لا يُورِد ممرضٌ على مُصِحّ، ولا يُورد مصحّ على ممرض)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وقال : ((فِرَّ من المجذوم فِرارَكَ من الأسد)) رواه أحمد عن أبي هريرة. ومع هذا فإنّ المرض لا ينتقل إلا بقضاء الله وقدره، وهذا ما لا يعتقده أهلُ الجاهلية ؛ ولذلك لما قال النبي : ((لا عدوى، ولاصفر، ولا هامة)) قال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعيرُ الأجربُ فيدخل بينها يُجْرِبُها؟! فقال : ((فمن أعدى الأول؟!)) متّفق عليه من حديثِ أبي هريرة. وقوله: ((فمن أعدى الأول؟!)) أي: أنَّ الأول إنما جَرُبَ بقضاء الله وقدره.
ثم قال : ((ولا طِيَرة)) أ ي: لا تشاؤم؛ لأنَّ التشاؤم أمرٌ كان يعتقده أهلُ الجاهلية، بل ربما لم تسلم منه نفسٌ كما قال ابن مسعود : (ما منّا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه أبو داود والترمذي. وقوله: (ما منا إلاّ) يعني: ما منا إلا تخالطُ الطيرةُ قلبَه، وربما وقع التطيرُ في نفسه.
والتطير أو التشاؤم يكون بالأشخاص، وخصوصًا أهل الاستقامة والصلاح كما تشاءم قومُ موسى بنبيّهم موسى عليه السلام، كما في قول الله تعالى: وإنْ تُصِبْهُم سيِّئةٌ يَطَّيروا بِمُوسى وَمَن مَعَهُ [الأعراف:131]، أي: أنه إذا جاءَهُمُ البلاءُ والجدْبُ والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبْطل الله هذه العقيدةَ بقولهِ: ألاَ إنما طائِرُهُم عِنْدَ اللهِ ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يَعْلَمُون [الأعراف:131]، أي: ما أصابهم من البلاء والجدب والقحط ليس من موسى وقومِه, ولكنه من الله الذي قدَّره، ولا علاقة لموسى وقومه به. وقد يقع به الكثيرون من المسلمين اليوم، فسبحان الله! متى يكون من تمسّك بشرع ربه وبسنة نبيه شؤمًا على الناس والمجتمع؟!
ويكون التطيرُ أو التشاؤم بأشياء قد يراها الشخصُ فيتشاءم منها، كرؤية الرجل الأعور أو الأعرج أو الأشل, وبعضُهم يتشاءم عندما يسمَّى المولودُ الجديدُ باسمه، أو يتشاءم برؤية نوعٍ من أنواع الطيور؛ لذا قال : ((ولا هامَة)) ، والهامة طير معروف يقال له: البومة، تزعم العرب أنه إذا قُتِل القتيل صارت عِظامُه هامةٍ تطير وتَصْرُخُ حتى يُؤخذَ بثأره, وربما اعتقد بعضُهم أنها روحُهُ, وبعضهم يعتقد أنها إذا وقعت على بيتِ أحدِهِم ونَعَقَتْ فهذا دليلٌ على قُرْبِ أجَلِه, ومنهم من يتشاءمُ بالغراب, ومنهم من يتوقف سفرُهُ على رؤية طير؛ فإن رأى الطيرَ طارَ يَمْنةً تفاءل به وسافر، ويُسَمُّونَهُ: السَّانِحَ, وإن رآه طارَ يَسْرَةً تشاءم به وامتنع عن السفر، ويسمونه: البَاِرحَ, وبعضُهم يُرَدِّدُ عِباَرةَ: "خيرٌ يا طير" تشاؤمًا أو تفاؤلاً؛ وهذا كله بلا شكّ تكلفٌ لا أصل له وعقيدة باطلة, وكما قال الأول:
الزجْرُ والطيرُ والكهانُ كلُّهُمُ مُضَلِّلُونَ ودُونَ الغيبِ أقفالُ
ومنهم ـ يا عباد الله ـ من يتشاءمُ بالأزمنة كالأيامِ والشهور؛ فيتشاءم من يوم الأربعاء، فيعتقد أنه يومٌ يحصل فيه من السوء ما لا يحصل بغيره من الأيام، وربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شؤونهم؛ وبعضُهم يدّعي زورًا أنه يَنْزِلُ في آخرِ أربعاء من صفر داءٌ من السماء، فَيكْفِئونَ قدورَهم ويُغَطُّونَ أوانيهم خوفا من أن ينزل ذلك الداء المزعوم فيها، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ وتشاؤمٌ مذموم.
ومنهم من يتشاءمُ بشهر صفر ، وهو الشهر المعروفُ الذي نستقبلُ أيَّامهُ, فيتشاءمون به، ويعتقدون أنه شهرٌ فيه حلولُ المكارِهُ والمصائب، فلا يتزوّج من أراد الزواج فيه لاعتقاده أنه لا يُوَفَّقُ، ومن أراد تجارةً فإنه لا يُمْضِي صفْقَتَهُ فيه لاعتقاده أنه لا يَرْبَح، ومن أراد التَّحَرُّكَ والمْضِيّ في شؤونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهرٌ تحصلُ فيه المكارِهُ والموبقات؛ ولهذا أبطل عليه الصلاة والسلام هذا الاعتقادَ الزائِفَ بقوله : ((ولا صفر)) ، فشهرُ صفَر شهرٌ من أشهُر الله وزمان مِن أزمنة الله، لا يحصل الأمرُ فيه إلا بقضاء الله وقدَره، ولم يختصّ الله جلّ وعلا هذا الشهر بوقوع مكارهَ ولا بوقوع مصائبَ، بل حصلت في هذا الشهر في تأريخ المسلمين فتوحاتٌ كبرى، وحصل للمؤمنين فيه مكاسبُ كبيرةٍ, وليس بشَهر شؤم، وإنما الشؤم في معصية الله تعالى واقترافِ الذنوب؛ فإنها تسخط الله عز وجل، فيَشْقَى مرتكبها في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سَعدَ في الدنيا والآخرة، فلا يردّ القدر والقضاء إلا الدعاء، ولا تُسْتَدْفعُ أسبابُ الهلاك وأسبابُ الفساد في النفس أو في المجتمع إلا بطاعة الله جل وعلا،.
فاتقوا الله عباد الله، واحْرِصُوا على تحقيق توحيدِكُم وسلامة عقيدَتِكُم.
اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ممات الشهداء.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ المتَطَيِّرَ لا يخلو من حالين: فإما أن يُحْجِمَ ويستجيبَ لهذه الطِّيَرَةِ ويَدَعَ الْعملَ، وهذا من أعظمِ التطيّر والتشاؤم، وإما أن يَمْضِيَ لكِنَّهُ في قَلَقٍ وَهَمّ وغمّ يخشى من تأثير هذا المتطيَّر به, وهذا أهون، وكلا الأمرين نقصٌ في التوحيد وضررٌ على العبيد، بل انطلق إلى ما تُرِيد بانشراح صدرٍ وتيسير وإحسان ظن بالله واعتماد عليه.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ما من خيرٍ إلا دلّنا رسولُنا عليه, وَمَا مِنْ شَرٍّ إلا حذرنا منه، فقد حذرنا الطيرةَ ونهانا عنها, ودلّنا على كفارتها وعلاجها، فقال : ((من رجَّعَتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) ، قالوا: وَما كفَّارَةُ ذلكَ يا رسُولَ اللهِ؟ قال: ((أَنْ يَقُولَ أحَدُهُم: اللهُمَّ لا طيْرَ إلا طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إِلا خَيْرُكَ، ولا إلهَ غَيْرُكَ)) ثُمَّ يَمْضِي لحاجَتِهِ. أخرجه مسلم في صحيحه. وفي حديثٍ آخرَ لما ذكرت الطيرةُ عند رسول الله قال: ((أحسنها الفأل، ولا تردّ مسلما، فإذا وجد ذلك أحدُكم فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يَذْهَبُ بالسيئات إلا أنت، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بِكَ)) أخرجه أبو داود.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا ما تَنْشُرُهُ بعضُ الصُّحِفِ والمجلات أو ما تَبثهُ بعضُ القنواتِ من قراءةٍ في الأبراج والطوالع، فنجدُ من يبحثُ عن سعادتهِ في بُرْجِ الميزان، وآخرُ يخاف أن يكونَ من أهل برج العقرب، وهكذا تحيا الْخُرَافَة، ويتجدّد مذهبُ مسيلمة وابن صيّاد؛ ولقد ذكر شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمه الله أن عليَّ بن أبي طالب عندما أراد المسِيرَ لقتالِ الخوارجِ عَرض له مُنَجِّمٌ فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمرَ في العقرب، وإنّك إذا سافرت والقمر في العقرب هُزِمَ أصْحَابُكَ، فقال : بل نسافر ثِقَةً بالله وتوكلاً على الله وتكذيبًا لك. فسافر فَبورِكَ له في ذلك حتى قتلَ عَامَّةَ الخوارج".
ألا فصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/4658)
من سير الحبيب
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
27/12/1426
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمائل المصطفى. 2- صبر النبي وتضحيته في سبيل تبليغ دين الله. 3- جريمة الاستهزاء بالنبي. 4- واجبنا تجاه الجريمة الدنماركية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، من أين أبدأ حديثي اليوم؟ حين أتحدث عن المحبوب، من أين أبدأ؟ من نعوت الجمال والكمال، أم من محاسن الأخلاق والأمثال؟! يا ليت شعري اليوم يسمح بمزيد من الوقت لأروي قصّةَ الحبّ من أوسع أبواب العشق التي عرفتها الأمة.
عفوًا أيها المسلمون، أرخوا أسماعكم إليّ، امنحوني قدرًا من الوقت، أقبلوا إليّ هذه الوهلة لأنّني سأتحدّث حديثًا خاصّا، سأتحدث هذا اليوم عن سيرة أعظم رجل وطأ بقدمه الأرض، وسأعرض بعضًا من حياة أفضل قدوة مرّ في حياة الأمة، سأتحدّث اليوم عن رسولنا ، سأتحدث عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي.
تحدث جابر بن سمرة رضي الله عنه فقال: رأيت رسول الله في ليلة أضحيان ـ ليلة مضيئة مقمرة ـ وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. وتحدث أبو هريرة رضي الله عنه فقال: كان رسول الله أبيض كأنما صيغ من فضة رَجِل الشعر. وتحدث أبو الطفيل رضي الله عنه فقال: رأيت النبي وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري، فقيل له: صفه، فقال: كان أبيض مليحًا مقصّدًا.
كان شبيهًا بأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. أثنى الله تعالى عليه وعدّد محاسنه فقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ومنّ الله تعالى علينا به فقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وجعله الله رحمة فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ويوم تعرّض لتهمة انقطاع الوحي ولمزه المشركون بأن ربه تركه أنزل الله لذلك قرآنًا يتلى دفاعًا عن نبيه فقال تعالى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]. وامتن الله تعالى عليه امتنانًا لم يدوّن مثله التاريخ إلى يومنا هذا، فرفع الله ذكره وأعلى شأنه مصداقًا لقوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، قال قتادة: "رفع الله ذكره في الدنيا، فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله".
وصفه ربه إبان رسالته بأعظم وصف فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
وزادنا الله تعالى به منّة فجعله لنا أمَنة من العذاب فقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، وجعل الله تعالى رسالته رحمة خالصة فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
وكان جميلاً أنيقًا روحانيًا، تحدث أنس رضي الله عنه فقال: ما شممت عنبرًا قط ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي مسح خدّه في يوم من الأيام قال: فوجدت ليدِه بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار. وظلّ عليه الصلاة والسلام ينام في بيتِ أنس، فتأتي أم أنس رضي الله عنهما بقارورة، فتجمع فيها عرقَه لتجعله طيبًا لهم في البيت.
زكاه الله تعالى في كتابه الكريم بأعظم الصفات فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وشهدت له بذلك ألصق الناس زوجه عائشة رضي الله عنها فقالت: كان خلُقُه القرآن.
وصَل عظيم خلُقِه عليه الصلاة والسلام إلى أنه لم يضرب في حياته قطّ، وشهد بذلك أعظم الناس محبة له وقربة عائشة رضي الله عنها فقالت: ما ضرَب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادمًا قطّ ولا امرأة.
كان عليه الصلاة والسلام مثالاً للكرم والبذل والسخاء، شهد له بذلك أصحابه والمقرّبون إليه، قال جابر رضي الله عنه: ما سئل النبي شيئًا فقال: لا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي أجود الناس بالخير. تحدّث أنس رضي الله عنه عن هذا الجانب فقال: سأله رجل فأعطاه غنَمًا بين جبلين، فرجع إلى بلده وقال لقومه: أسلِموا فإن محمدًا يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر.
وبلغ في الشجاعة مبلغ الأمثال، ففي يوم حنين حين كان الفرار وقف ثابتًا على بغلته بين هزيج الأعداء وقوّتهم وهو يردّد بينهم: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)) ، قيل: فما رئي يومئذ أحد كان أشدّ منه. وذات ليلة فزع أهل المدينة من صوت ثارَ في جنباتها، فانطلق الناس قبل الصوتِ فإذا برسول الله راجعًا من جهة الصوت على فرس عُري والسيف في عنقه وهو يقول: ((لن تراعوا)).
كان عظيمَ الشفقة بهذه الأمّة لدرجة أخبرت عنها زوجه عائشة قالت: ما خيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما. خشي أن يشقّ على أمته فلم يوجِب السواك عليهم وقال: ((لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)) ، وترك صلاة الليل خشية أن تفرض عليهم. وكان من شدة شفقته حين يسمع بكاء الصبي وهو في صلاته يتجوّز في صلاته ويخفّف فيها. ووقف يومًا من الأيام فقال عليه الصلاة والسلام: ((أيما رجل سببته أو لعنتُه فاجعل له ذلك زكاة ورحمة وصلاة وطهورًا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة)).
كذبه قومه، وردوا دعوته، فناداه جبريل وهو في طريقه فقال له: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا)).
كان من تواضُعه أنه يركبَ الحمار، ويردف خلفه وِلدان المدينة، ويعود المساكين، ويمسح على رؤوس الأيتام، ويجيب دعوةَ الفقراء، ويجلس حيث انتهى به المجلس. كانت تأتيه الأمَة فتقول له: إنّ لي إليك حاجة، فيقول: ((يا أم فلان، اجلسي في أي طرق المدينة شئتِ أجلس إليك حتى أقضِيَ حاجتك)). ونقلت زوجه عائشة بعض تواضعه فقالت: كان في بيته في مهنة أهله، يَفلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويرقّع ثوبه، ويخصِف نعله، ويخدم نفسَه، ويقمّ البيتَ، ويعقِل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادِم، ويعجن معَها، ويحمل بضاعته إلى السّوق.
وصفه ابن القيم في أكله فقال: "كان لا يردّ موجودًا، ولا يتكلَّف مفقودًا، فما قرّب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه، فيتركه من غير تحريم، وما عابَ طعامًا قطّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه" اهـ.
أيها المسلمون، هذه فقط بعض معالم القدوة، وفي سيرته ما يعجز البيان عن ذكره، وصدق الغزالي حين قال: "إن المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره ولا تتبعه بصيرته في علمه وتفكيره لا يغني عنه أبدًا أن يحرّك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة" اهـ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: وقف النبي طيلةَ عمره مجاهدًا في سبيل هدايتكم أيها المسلمون، وظلّ ثلاثة وعشرين عامًا يكابِد الدعوة ويجهد في البلاغ، وفي سبيل هدايتكم أخرج من مكة ووقف على أطرافها وهو يقول: ((والله، إنك لأحبّ أرض الله إليّ، ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت)). وفي طريق الهجرة لبلاغ هذا الدين لقِي في الطريق لأواء عظيمة، وطورد، وخرج وهو خائف وجِل. ورحل للطائف بغيةَ تغيير الأجواء، فلم يجد أهل الطائف بدًّا من أن يَؤُزّوا أطفالهم لرميِه بالحجارة حتى سالت قدميه وعاد يائسًا قانعًا، وأراد أن يدخل مكة فرفض قريش أن يدخلها، فلم يقف إلا المطعم بن عديّ وأدخله في جواره. وأوذي في سبيل هذه الدعوة حتى كسرت رباعيته وشجّ وجهه ، وسقط في حفرة حفَرها له الأعداء يوم أحد حتى صاح أبو جهل ممتنًّا بهذه الوقيعة فقال: اعلُ هُبَل.
وبعد كل هذا وقف على المقبرة فبكى، فقال له صحابته: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ((وددت أني رأيت إخواني)) ، قالوا: أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((لا، أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي، يؤمنون بي ولم يروني)).
أيها المسلمون، فاجعة نقلَتها لنا الصحف الغربية، ومصيبة دوّت في آذانِنا، وعار خلّده الأعداء في تاريخ قدوتنا، الصحف الدنمركية تتبنى رسومَ كَركتير تستهزئ فيها برسول الله ، وتلمزه، وتحقّر من شأنه، وتصوّره في موقف رجل حَرب ودمار؛ تصنع هذا تشفيًّا منه عليه الصلاة والسلام، وتستهين بالمسلمين في أقطار الدنيا كلّها، تقدح في قدوتهم، وتشنّ حربًا على دينهم.
فيا لله، كم هي المصيبة والعار والفضيحة أن يُنال من عرض أكرَم من مشى على وجه الأرض وتُسفَك قِيَم الدين بسفك قدواته. هذا الحادث وقع في دولة الدنمرك على مرأى ومسمع من تلك الدولة، والعالم يتفرج ويتسلى على تلك الصور المشينة.
وإنني أبين في هذه الخطبة عن آثار هذا الجانب وخطورته وعظم المساس به، ولعلّي أبين عن الواجب تجاهه:
أولاً: لقد قرّر الله تعالى في كتابه الكريم اللعنة على من آذى النبي فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53]. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إن مَن سب النبي من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله. هذا مذهب عامة أهل العلم، قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع عوام أهل العلم على أن حدّ من سبّ النبي القتل. اهـ. وقال الخطابي رحمه الله: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله. اهـ. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول المتنقّص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر. اهـ. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كل من شتم النبي أو تنقّصه مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب. اهـ. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "فعلم أن السب جناية زائدة على الكفر... على وجه يقطع العاقل أن سبَّ رسول الله جناية، لها موقع يزيد على عامّة الجنايات، بحيث يستحق صاحبها من العقوبة ما لا يستحقه غيره وإن كان كافرًا حربيًّا مبالغًا في محاربة المسلمين، وأن وجوب الانتصار ممن كان هذا حاله كان مؤكّدًا في الدين، والسعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال وأوجبها وأحقّها بالمسارعة إليه وابتغاء رضوان الله تعالى فيه، وأبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده وفرضه عليهم... ذلك أن سبَّ النبي تتعلق به عدة حقوق: حق الله تعالى من حيث مَن كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة وطعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفه على صحّة الرسالة، وطعن في أولوهيته فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته، ويتعلق به كذلك حقّ جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم"، إلى إن قال رحمه الله: "إنّ تطهير الأرض من إظهار سبّ رسول الله واجب حسب الإمكان؛ لأنه من تمام ظهور دين الله تعالى وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبّه ولم ينتقم ممن فعَل ذلك لم يكن الدين ظاهرًا ولا كلمة الله عالية" اهـ.
ثانيًا: سؤال يبدو ظاهرًا وجيها: ما واجبنا ـ أيها المسلمون ـ تجاه هذا العدوان الذي أصبح حديث العالم كله؟
إنه لا يسعنا ـ أيها المسلمون ـ إلا النّفرة لنصرة نبينا بكل الوسائل والطرق، إن ذلك من مقتضيات هذا الدين وواجباته، ومن لم يتمعّر وجهه اليوم فمتى يتمعّر لنصرة دينه؟! ومن لم يحرقه ألم هذه السخرية فمتى يألم لدينه؟!
إن الواجب علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نقلب الحدث رأسًا على عقب، وأن نعطي الأعداء درسًا بليغًا في الرد والنصرة:
وأول واجب هذه النصرة أن نجدّد متابعة النبي في أفعاله وأقواله، في مظهره ومخبره، في سمته وحديثه، علينا أن ندرك تمامًا أن الواجب علينا أن نتابعه متابعة روحية واقعية. ما أحرانا ـ أيها المسلمون ـ اليوم بتمثّل سنة النبي في كل شؤوننا وحياتنا.
ثانيًا: أراد أولئك الأنجاس أن يذيبوا سيرةَ هذا النبي الكريم في حياتنا، ولن يكون هناك ردّ أبلغ من أن نجدّد هذه السيرة في حياتنا، وذلك من خلال إعادة قراءة كتب السيرة النبوية، وإعادة ترتيب ثقافتنا من خلال هذا الكنز العظيم بين أيدينا. نحن في أمسّ الحاجة إلى إعادة قراءة السيرة قراءة متأنية، قراءة تبحث عن مواضع القدوة وتجهد في تمثلها. علينا جميعًا أن نحدِّد درسًا لأبنائنا وزوجاتنا وأسَرِنا في ثنايا هذه السيرة. أرجو ـ أيها المسلمون ـ أن لا يخرج الحدث دون هذه الفائدة.
ومن أهم الكتب في هذا الباب: "زاد المعاد" لابن القيم، و"مختصر الشمائل المحمدية" للألباني، و"المهذب من كتاب الشفاء" لصلاح الشامي، و"من معين السيرة النبوية" و"الخصائص النبوية" كلاهما لصالح الشامي، و"كتاب السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية" لمهدي رزق الله.
ثالثًا: علينا ـ أيها المسلمون ـ المشاركة في الحدث بفاعلية، وذلك من خلال كتابة رسائل الشجب والاستنكار من خلال الصحف اليومية أو مواقع النت أو الرسائل عبر الفاكس.
رابعًا: علينا جميعًا أن نكون في موقف الحزم، وأن نكون في مستوى الحدث، وذلك بمقاطعة صادرات هذه الدولة، وعدم شرائها مهما كان مسيس الحاجة إليها.
هذا ـ أيها المسلمون ـ بعض الواجب في مواجهة هذه الفتنة، وهو أقلّ الواجب، وقد كوّن المسلمون ردّة فعل قوية إن شاء الله تعالى، فقد استنكر مجلس الوزراء ومجلس الشورى بهذه البلاد، وتكلم المفتي حفظه الله تعالى وطالب المسلمين بالنصرة، وتفاعل العلماء والدعاة وعموم المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها. ومن البشائر أن البدايات مبشرة، وأن الحدث قلب كليًا على رؤوس الأعداء، وأن التجار تفاعلوا لدرجة وقعوا اتفاقيات بالمقاطعة، وتبرّع بعضهم بطباعة سيرة الرسول وتوزيعها في بلاد أصحاب الوقيعة وفي غيرها، واقترحت قنوات فضائية خاصّة بسيرة هذا الرسول العظيم وتبني طباعة كتب لهذا الحدث. والمؤمل منا أن نشارك بقدر وسعنا، وأن لا نحتقر أدوارنا.
ألا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة...
(1/4659)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
وائل بن عبد الله باجروان
جدة
18/1/1427
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأخلاق الحميدة. 2- فضل الحياء. 3- لوازم الحياء. 4- الحياء من الله تعالى. 5- بواعث الحياء. 6- الحياء من الناس. 7- خطورة قلة الحياء أو انعدامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، إن للأخلاق الحميدة في ديننا العظيم منزلة كبيرة، فقد أولى الشرع المطهر الأخلاق الحسنة اهتماما كبيرا ورفع مكانتها، ومن تلكم الأخلاق خلق عظيم وخلق فاضل، هذا الخلق جميل في حق الرجال، وهو في حق النساء أجمل، اتصف به أشرف الخلق نبيّنا وحبيبنا محمد ، عندما أراد أبو سعيد الخدري أن يصف هذا الخلف في النبي قال: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها. رواه البخاري.
أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات، الحياء دليل على المروءة وعنوان على الشهامة وآية على حسن الخُلق، الحياء انكسار للعظيم وخجل من الكريم واحترام للكبير، الحياء عزة في ثوب التذلل وشموخ في زي الانكسار والهمّة في رداء التواضع، الحياء من الحبيب يكسر حدة البصر ويكبح جماح النفس ويطأطئ عنفوان الرأس، الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن خلق الحياء من الأخلاق الحميدة التي حث عليها الشرع المطهر ورغب فيها، بل عدها نبينا من شعب الإيمان، فقال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) رواه البخاري.
وإن مما يرفع قيمة الحياء ويعلي من شأنه أنه صفة من صفات المولى جل وعلا، فهو سبحانه حَيِيّ، يقول النبي : ((إن ربكم حييٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه يدعوه أن يردهما صفرا ليس فيهما شيء)) رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني. حياؤه سبحانه من عبده هو حياءٌ يليق بجلاله وعظيم سلطانه، لا تدركه ولا تكيّفه العقول، وهو حياءُ كرَم وبرّ وجود وعطاء.
قال الفيروز أبادي: "وأما حياء الرب تبارك وتعالى من عبده فنوع آخر، لا تدركه ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبرّ وجود، فإنه كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يدَيه أن يردّهما صفرا، ويستحي أن يعذّب شيبة شابت في الإسلام" اهـ.
إن الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحق، كل من له حقّ عليك تستحي أن تقصر في حقه.
وقد مر النبي على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضرّ بك، فقال رسول الله : ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) رواه البخاري، وقال : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) رواه البخاري.
عبد الله، أمة الله، إن أسمى صور الحياء تتجلّى في الحياء من الخالق سبحانه وتعالى، فالحياء استشعار لعظمة الله تبارك وتعالى واستحضار لهيبته ومراقبة لجلاله.
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم هم أكثر الناس بعد النبي حياء من الله وأشدهم خجلا منه وخشية له ومراقبة لجلاله ومع ذلك يقول لهم : ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد الله، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) رواه الترمذي وصححه الحاكم.
وهذه العظة تحوي كثيرا من آداب الإسلام ومناهج الفضيلة، فإن على المسلم تنزيه لسانه أن يخوض في باطل، وبصره أن يرمق عورة أو ينظر إلى شهوة، وأذنه أن تسرق سرّا أو تستكشف خبئا، وعليه أن يفطم بطنه عن الحرام ويقنعه بالطيب الميسور، ثم عليه أن يصرف أوقاته في مرضاة الله وإيثار ما لديه من ثواب، فلا تستخفّه نزوات العيش ومتعه الخادعة.
وجاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أوصني، قال: ((أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي رجلا من صالحي قومك)) ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة.
عجيب أمر بعض الناس الذين يتجرّؤون على انتهاك الحرمات ويهتكون سِتر الحياء، ثم يمضي الواحد منهم دون خجل من ربه أو حياة لقلبه أو وخز لضيمره، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:7-10].
إن مما يورث ويجلب الحياء في النفس أن يرى آلاء الله ونعمه عليه، ويرى إحسان الله عليه بأنواع النعم، فكيف يقابل تلك النعم بالمعاصي؟! وكذلك عندما يعلم العبد أن الله عز وجل مطلع عليه في جميع أوقاته، فإن ذلك يورث عند العبد حياء من ربه أن يفعل ما لا يرضاه الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن العبد متى علم أن الرب تعالى ناظر إليه أورثه هذا العلم حياء منه سبحانه، فيجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، وذلك كمثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده، فإنه يكون نشيطا فيه محتملا لأعبائه، ولا سيما مع الإحسان من سيده، والله عز وجل لا يغيب نظره عن عبده، فإذا ما غاب نظر العبد عن كون المولى ناظرا إليه تولد من ذلك قلة الحياء والقِحة" اهـ.
إذا كان هذا مما يجلب الحياء ويقويه فإن مما يذهب الحياء ويضعفه في النفس اقتراف المعاصي، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "من عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه، فقد جاء في الحديث الصحيح: ((الحياء خير كله)) ، والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد، حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع" اهـ.
عباد الله، وكذلك يتجلى خلق الحياء في تعامل الإنسان مع الخلق، فيستحي أن يصدر منه تصرف مستهجن أو فعل قبيح، فعندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حُمرة الخجل تصبغ وجهه إذا بدر منه ما لا يليق فاعلم أنه حي الضمير نقي المعدن زكي العنصر، وإذا رأيت الشخص صفيقا بليد الشعور لا يبالي ما يأخذ وما يترك وليس له حياء وازع يعصمه عن اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا فاعلم أن خلق الحياء لديه معدوم.
وخلق الحياء هو خلق يميز أتباع هذا الدين كما قال : ((إن لكلّ دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)) حديث حسن.
ومن سمت الحياء ما يتميّز به الحييّ من مظاهر الوقار والسكينة، فإن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أنه يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة، فالحياء يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة وقوادح الدين.
عباد الله، وليس من الحياء في شيء حياء يمنع الحقّ، كحياء يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو حياء يمنع من المطالبة بالحقوق أو التفقه في الدين، بل هذا يسمّى عجزا وضعفًا، فقد كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها، ومع ذلك فهو نفسه إذا انتهكت محارم الله احمرّ وجهه وعلا صوته واشتدّ غضبه لله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
وبعد: إذا انعدم الحياء في نفس الإنسان فلا تسل عن أفعاله ولا تتعجّب من تصرفاته، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) روه البخاري.
أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات، أين خلق الحياء من رجل أو امرأة يعصي الله عز وجل في الخلوة وينسى أن الله مطالع عليه؟! أين خلق الحياء من شباب أو رجال يتبادلون الصور الخليعة في أجهزة الجوال لا يستحون من الله ولا يستحي أحد منهم من الآخر؟! أين خلق الحياء من فتاة تتكلم مع شاب أجنبي مكالمات مشبوهة وتصرف مستهجن؟! بل أين خلق الحياء من ذلك الشاب الذي يؤذي بيوت المسلمين بالتصيد لبناتهم؟! أين خلق الحياء من شباب يجلس بعضهم إلى بعض فتصدر منهم الكلمات النابية والعبارات السفيهة؟! أين خلق الحياء من رجل بعد أن بلغ والداه الكبر واحتاجا إليه فإذا به يقابل تلك المعاملة الحسنة في السنين الطوال بالنكران للجميل والعقوق؟! أين خلق الحياء من امرأة تخرج من بيتها متبرجة متعطرة تخالف بذلك أمر الله؟! أين خلق الحياء من رجل يؤذي جاره ويتسلط عليه ويضايقه؟!
أيها الأحبة، إن خلق الحياء شامل لجميع جوانب الحياة في التعامل مع الله عز وجل، وفي التعامل مع الوالدين، وفي التعامل مع الزملاء، وفي التعامل مع الأقارب والجيران، وفي التعامل مع كبار السن.
إذا لَم تَخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا فِي الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
قال عمر بن الخطاب : (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه).
عبد الله، أمة الله، ربِّ في نفسك خلق الحياء، فمن الحياء ما يكون في غريزة العبد، ومنه ما يحتاج المرء إلى اكتسابه وتهذيب نفسه عليه، فاحرص عليه واتصف به كما اتصف به حبيبك ونبيك ، فالحياء لا يأتي إلا بخير.
ألا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4660)
إنفلونزا الأسهم وأسباب حل الأزمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن علي الشرفي
الجبيل الصناعية
جامع عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصائب من حولنا حفظنا الله منها. 2- مصيبة انهيار الأسهم وآثارها. 3- تلاعب الأقوياء بالضعفاء في سوق الأسهم. 4- دروس وعبر من هذه الأزمة. 5- أسباب حل الأزمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أمة الإسلام، سمعنا كثيرًا عن صرعى المخدّرات وصرعى الشذوذ الجنسي، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد وأهلها من هذه الأمراض الخطيرة، وسمعنا عن صرعى انهيار المساكن بسبب الزلازل والفيضانات، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد وأهلها من هذه الكوارث، وسمعنا عن صرعى الحروب والأمراض الفتاكة، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد من هذه الآفات، ونسمع عن صرعى مرض إنفلونزا الطيور، ونسأل الله أن يحمينا وجميع المسلمين من أخطارها.
وفي خلال الأسابيع الماضية إذ بنا نسمع ونفاجَأ في بلادنا بصرعى إنفلونزا خطير أشدّ خطرا من إنفلونزا الطيور، إنه إنفلونزا الأسهم الذي أصاب بلادَنا بسبب انهيار الأسهم، فإذا بنا نسمع بمن أصيب بسكتة قلبية وأمراض نفسية نتيجة هبوط أسعار الأسهم، وإذا بالاكتتاب ينقلب إلى اكتئاب حتى صار له الآثار السلبية على الصعيد النفسي والأسري والاجتماعي، قال أحد أخصّاء الطبّ النفسي: "إن العيادات النفسية انتعشت كثيرا خلال الأيام الماضية، واستقبلت حالات من ضحايا القلق والاكتئاب والتوتّر والانهيار العصبي"، يذكر أحد الإخوة في الصيدليات أنّ الإقبال شديد في هذه الأيام على أدوية القلَق والاكتئاب النفسي والمهدئات، بل لقد امتدّت موجة هبوط الأسهم لتقضي على أربعة مواطنين نتيجة تعرّضهم لأزمة قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وآخر قتل صديقَه رميا بالرصاص بسبب اختلافهم في مبالغ نقدية في إحدى المحافظ الاستثمارية، ومن أعجب قصص حالات الطلاق تقول إحدى الزوجات: "إن زوجها بدأ يقبل على ارتياد سوق الأسهم قبل عام، وطلب منها أن تبيع جميع ما تملك من الذهب، إضافة إلى اقتراضه من إحدى البنوك الربويّة، وبدأ يغيب عن عمله من أجل مراقبة سوق الأسهم، وفي خلال الثلاثة الأسابيع الماضية خسر كل ماله وأصبح مطالَب بردّ قرض البنك الربويّ؛ مما اضطره إلى بيع سيارته وبيته، وكثر الشجار بينهما نتيجة العصبية وانفعالاته النفسية الزائدة، ولا سيما بعد أن اعتاد ضرب زوجته أمام أطفالها، فطلبت منه الطلاق بعد زواج دام عشرة سنوات.
أيها الإخوة في الله، إن ما حدث في سوق الأسهم في بلادنا الأيام الماضية من انهيار أدى إلى حالة من الهلع والقلق والتذمّر والغضَب عند كثير من المرابين وغير المرابين في السوق يشبه كثيرًا ما حدث في الكويت قبل عشرين سنة تقريبًا "سوق المناخ"، ولكن الذي حصل في الكويت كارثة، بينما الذي حصل عندنا نُذُر، عندما كانت أسهم شركات وهميّة تطرح في السوق وأصبح البيع والشراء اسميًّا غير حقيقي، حتى وصل حجم المبالغ الاسميّة المتداولة تفوق بكثير حجم السيولة الموجودة في دولة الكويت.
ومن صور التلاعب الموجودة في سوق الأسهم ما يحصل أحيانًا من اتّفاق بين اثنين من كبار المساهمين في دخول اللعبه وإغراق السوق من جهة ورفعه من جهة أخرى، والمستفيد من ذلك هذين الهامورين. إنَّ ما يفعله بعض أرباب الأموال من خداع لصغار المساهمين حيث يُغرقون سوق الأسهم لأجل أن ينخفض سعر السهم ثم يأتي بعد ذلك ليشتريه بسعرٍ منخفض، فيكون هناك زيادة في الطلب، فيرتفع السعر بناءً على زيادة الطلب، كلّ هذه المضاربات بأنواعها ليس لها عائد ولا تنفع الأمة، وإنما هي استفادة وربح لنوعية معينه وهم كبار المساهمين على حساب صغار المساهمين. وأنا أشبّهه بعالم الأسماك في البحار، فالسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة.
أيها الإخوة في الله، إن الإسلام بجميع قواعده وأصوله يحرم الضرر، قال : ((لا ضرر ولا ضرار)). وإن هذه المضاربات نتج عنها أضرار نفسية واجتماعية واقتصادية، وما حدث لكثير من المساهمين في خلال الأسابيع الماضية لخير شاهد على الآثار السيئة لهذه المعاملات وصورها، بالإضافة إلى تكديس رؤوس الأموال بجانب على حساب جانب آخر من المجتمع، فينحصر المال في يد زمرة من المرابين الذين تتضخّم أرصدتهم وتتنامى ثروتهم، ثم يضعونها في أيدي أعداء الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى، وتولد الرأس مالية بصورة مقنَّنة، بينما تتعرض بلدان أصحاب الأموال للجفاف من السيولة النقدية ومن الكساد الاقتصادي، فينتج عن ذلك البطالة في المجتمع، ناهيك عمّا يترتب على هذه المعاملات المحرمة من قطع أوصال الأخوة والترابط بين أفراد المجتمع الواحد وحصول الفرقة والعداوة والبغضاء والشحناء بين أفراد المجتمع ونزع لروح التآلف والتراحم والتعاطف وسدّ لباب العمل في المكاسب الصحيحة، ولما فيه من ظلم للغير حيث يستولي المرابي على أتعاب المقترضين وجهدهم بغير حق.
أيها الإخوة في الله، لا بد أن نتَّعِظ ونعتبر بما يحلّ بمن قبلنا من أزمات ومصائب، وأن نأخذ منها الدروس والعبر لحلّ الأزمات، فنعتبر ونقرّ أن ما حلّ من انهيار للأسهم إنما هو بذنوبنا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43]، قانون من قوانين الله في هذا الكون: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لا يغير الله الإنسان من نعيم إلى جحيم إلا إذا تغيّر من طاعة إلى معصية، ولا يغيره من جحيم إلى نعيم إلا إذا تغير من معصية إلى طاعة، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، ويقول النبي : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) ، ويقول تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]، ويقول جل جلاله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فمن الدروس والعبر ـ يا أمة الإسلام ـ أن من رحمة الله بعباده أنه لا يترك الناس هكذا سادرين في غيهم، وإنما يبتلهم ليحاسِبوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله ويعودوا إلى الله، فقد يمنع الله عن بعض الناس الثراء والغنى رحمة بهم؛ حتى لا يزدادوا إثمًا ولا يزدادوا غيا وبطرًا، وصنف من الناس لولا هذا التضييق الإلهي لظلّوا في بطرهم وطغيانهم، وللجّوا في عصيانهم وإسرافهم، قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:75، 76].
ونقول لإخواننا الذين أعلن إفلاسهم أو قلّ رصيدهم: هل تبتم إلى الله تعالى من التعامل بالربا؟! هل ندمتم على ضياع الصلوات والجماعات بسبب متابعة أسهم البنوك والشركات وتضييع الأمانات؟! هل صدقتم التوبة؟! هل عدتم إلى الله؟! هل ندمتم على ما فعلتم؟! هل تضرعتم إلى الله أم أن القلوب لا تزال منطوية؟! لو عادت الأموال وحُلّت الأزمة هل ستعودون إلى المقامرة وإلى الربا وإلى الدَّين والسَّلب والسرقة لأموال الناس والزوجات، أم أن حالهم سيكون كما قال الله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:2]؟! والله تعالى قد يكشف هذه الأزمة، وبدأنا نرى بوادر كشفها، ولكن الله تعالى يقول: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50]، ويعلم الله إن فريقا سينكثون بعد كشف الأزمة عنهم لعلهم يعودون إلى الله كما قال تعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70]، ونحمد الله تعالى أنه لم يعمّم العقاب، وإنما جعلها في أموالهم، فمنهم من أعلن إفلاسه، ومنهم من عاد برأس ماله، ومنهم من بقي مديونًا، ولو عمّ الله العقاب لهلكنا أجمعين، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
فالله جل جلاله ـ أيها الإخوة ـ عندما يأخذ يعطِي، وعندما يبتلي يعافي، فلا يزيد ذلك في ملكه شيئا، ولا ينقص من ملكه شيئا، إنما يريد منّا أن نعود إليه وأن نتوب إليه وأن نلجأ إليه.
جاء رجل إلى أحد العلماء وقال: إنني أصِبت بقحط عظيم، هلك الزرع وجفّ الضرع، قال له: استغفر الله، فجاءه آخر وقال: إن ولدي يموت، فقال: استغفر الله، فجاءه آخر وقال: أموالي تذهب وتجارتي تكسد، فقال: استغفر الله، وجاء رابع وقال: هلكت البساتين والحدائق وسقطت الثمار، فقال: استغفر الله، فقال أحد الجالسين: كلّهم تقول لهم: استغفروا الله، فقال: نعم، وهكذا الله تعالى قال في كتابه العزيز: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13]. فلماذا للأزمات لا ترجعون لله وقارًا؟! لماذا تصرّون على الذنب والمعصية حتى في لحظات الضعف والهزمات أمام الله القوي العزيز وهو القائل في كتابه: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16].
أيها الإخوة في الله، إن موسى عليه السلام تعرض هو وقومه لمثل هذا البلاء يوم أن خرج فرعون يقول للناس: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، وقارون يخرج في زينته على الناس قائلا: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وضعفت نفوس بعض الناس حتى قال قائل منهم: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، وبدأت الموازين تختلّ؛ مما جعل موسى يدعو على هذه الأموال أن تدمّر فقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، فاستجاب الله جل جلاله دعوته: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، فأرسل الله الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم لتجتاح الزروع والدور والقصور والأشجار والأنهار، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133]، وأما قارون فخسف الله به وبداره وأمواله الأرض، قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
يا أمة الإسلام، إنا نعلم أن ما حلّ بساحاتنا ومجتمعنا بسبب أزمة الأسهم وفتنتها حتى دخلت في كل بيت، فالموظف ترك وظيفته، والعامل ترك عمله، والمهندس ترك مصنعه، والمدرس ترك مدرسته، وعم هذا البلاء جميع أصناف الناس، رجالا ونساء، كبارًا وصغارًا، حتى أصبح حديثهم في المجالس، بل وقع كثير منهم في المعاملات الربوية المحرمة إلا من رحم الله وقليل ما هم، وإذا بنا بدأنا نفتقد بعضا ممن نحسب فيهم الخير والصلاح في المساجد وحلقات العلم والدروس والمحاضرات وأعمال الخير، وانتشرت تجارة بيع الأسماء حتى غزت هذه الفتنة بيوت الناس.
ومن الدروس والعبر أن يعلم المبتلى أن ما حصل من ربح أو خسارة هو أمر قدريّ، ينبغي أن لا يكون فيه الفرح والحزن مخالفًا لقواعد الإيمان والتوكل على الله، وأن لا يؤدي إلى تجاوزات محرّمة تتعارض مع الإيمان بالقدر والصبر على البلاء، فلا يجزع إذا أصيب في ماله، ولا يبطر إذا وسع عليه في ماله، قال جل جلاله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].
وينبغي عدم القنوط من رحمة الله، والإيمانُ بقضاء الله وقدره، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، ونتذكر أن الخسارة المادية أهون من خسارة الدّين، ونتذكر آلام المسلمين ومآسيهم وفجائعهم في أولادهم وأزواجهم وأموالهم وديارهم، وأن هذه أنواعٌ من الابتلاءات، فمن الناس من يبتلى بالمرض، ومن الناس من يبتلى بالخوف، ومن الناس من يبتلى بالموت، ومن الناس من يبتلى بالجوع، ومن الناس من يبتلى بالغنى، ومن الناس من يبتلى بالفقر، قال جل جلاله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
ومن الدروس والعبر التي نقتبسها من هذه الأزمة: النظرُ للجانب الإيجابي من الخسارة، فما خسِره الإنسان قد يكون مجرّد ابتلاء يكفّر الله به الذنوب، وقد يكون مالاً حرامًا نزعت منه البركة فكانت فرصة للتخلص منه، وقد تكون تجربة مؤقّتةً ينبّه الله العبد فيها أن لا يغترّ بالدنيا وزينتها، فيعود ويتوب إلى الله، قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
فلهذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي أن يعلم الإنسان أن الهَوَس بالأسهم وغيرها من أمور الدنيا والعيش بهمّها لا ينفعه، بل قد يؤدي به إلى نتيجة كارثة، وعليه أن يتجنب أن يعطي هذه القضايا أكثر من حجمها، بل يرشدها ويسيطر عليها.
اللهم إنا نبرأ إليك من ذنوبنا ومعاصينا، اللهم لا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
فتوبوا إليه واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، من أسباب حل هذه الأزمة الإيمانُ الصادق، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فالإيمان بالله تعالى يكشِف الخزي في الحياة الدنيا، وهل هناك أخزَى من أن يصبح الإنسان يملِك المليارات ثم يمسي وقد أعلن إفلاسه؟!
ومن أسباب حل هذه الأزمة الاقتصادية تقوى الله عز وجل، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية تركُ الربا والابتعاد عن أكل الحرام، قال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]. والربا جريمة اجتماعية، إذا تفشت في مجتمع من المجتمعات دمرته وقوضت بنيانه، قال ابن القيم: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها"، ويقول تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)).
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية أداءُ الزكاة، فبالزكاة تدفع النقم وتستجلب النعم، فالمال مال الله، والعبد وكيل عليه، يصرفه حيث أمر سيده ومالكه الحقيقي، فبإخراج الزكاة يؤدّي شكر نعمة المال، فيضاعفه الله له، قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية المحافظة على الصلوات وأمر الأهل والأبناء بالمحافظة عليها والصبر على ذلك، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
أيها الإخوة في الله، بعض من يتداول الأسهم لم يعد يكترث بمواعيد الصلاة، خصوصًا صلاة المغرب التي تأتي ضمن فترة التداول المسائية، وإن أداها فيؤديها على عجل، والله أعلم بما في قلبه من خشوع.
سليمان عليه السلام يستعرض أعظم أمواله الخيول الصافنات الجياد، مرّت الخيول من أمامه فتتأخّر الصلاة ويمرّ وقتها وهو ينظر إلى الخيل، وعندما تذكّر وانتبه لما نسي ذكر الله، فكان علاج ذلك القلب الذي انشَغل عن ذكر الله أن أمر بإعادة الخيول ثم نحرها في سبيل الله، ولم يرض أن يتصدّق بها حيّة لأنّ القلب الذي التفت التفاتة يسيرة في لحظة من لحظات الضعف البشري لا يعالجه إلا العزم والحزم والعودة إلى الله بصدق بكامل القلب الإيماني، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:30-33].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية المداومة على ذكر الله تعالى؛ فعلى المسلم أن لا ينشغل بالأسهم والمعاملات والتجارة عن ذكر الله تعالى، قال عز وجل: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9].
ومن أسباب حل الأزمات الدعاء الصادق الخالص لله تعالى، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، وقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، والرسول يعالج مثل هذه الأزمات عند أصحابه بمثل هذا الدعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)).
ومن أسباب حل الأزمات التوبة والرجوع إلى الله وعدم اليأس من رحمته، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فينبغي أن لا ييأس المصابون بهذه الأزمة، فالله يفتح رصيدًا من الحسنات للتائبين بعدد الذنوب، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقن:70]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، واسع بيده خزائن السموات والأرض، لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].
اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عمن سواك، اللهم منَّ علينا بصلاح أحوالنا واستقامة أمورنا وصحة معاملاتنا، اللهم طهر قلوبنا وأموالنا وأعمالنا من الحرام يا رب العالمين...
(1/4661)
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, قضايا دعوية, مكارم الأخلاق
توفيق عقون
ميلانو
8/3/1427
مسجد سيستو
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رسول السلام. 2- إسلام صفوان. 3- إسلام عكرمة. 4- وفاء عكرمة. 5- جيل الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لما دخل النبي مكة فاتحًا حرص على أن لا تراق فيها الدماء، وأن لا تُزهق فيها الأرواح، إلا أن بعض المشركين رفضوا هذا السلام الممنوح لأهل مكة، وقرّروا المقاومة لآخر رمق، فلما لم يستطيعوا تركوا جزيرة العرب فارِّين بكفرهم إلى أرض أخرى.
إن النبي لم يكن طالبَ ثأر ولا ناشدَ قصاص، وإنما همّه أن يفتح أقفال القلوب، وأن ينقذ التائهين الحيارى، وأن يعالج العنادَ بالرفق، وأن يَلقى الأحقاد بالعفو، وأن يحبّب الناس في الإسلام، وأن تقرّ عيناه برؤيتهم يدخلون فيه أفراد أو أفواجًا.
إنه رحمة مهداة، إنه رسول يقود العباد إلى ربهم، وليس بشرًا ينزع إلى التسلّط والجبروت، ما انتقم لنفسه قط، ولا طلب لها علوًا في الأرض، ولنسرد الشواهد على ذلك من أحداث السيرة.
كيف استقبل النبي إسلام عكرمة وصفوان؟! انظر كيف تعامل النبي مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، قبل إسلامهما، هذا الإسلام الذي تأخّر كثيرًا، وسبقته عداوات رهيبة.
1- إسلام صفوان:
جاء عمير بن وهب إلى النبي يقول له: يا رسول الله، صفوان بن أمية سيّد قومي، خرج هاربًا ليقذف بنفسه إلى البحر وخاف أن لا تؤمّنه، فأمِّنه فداك أبي وأمي، فقال رسول الله : ((قد أمّنته)) ، لكن صفوان لم يطمئنّ، وطلب من عمير علامة تشعِره بالأمان، فقال رسول الله لعمير: ((خذ عمامتي)) التي كانت على رأسه يوم الفتح، فأراه إياها. ورجع صفوان وحضر معركة حنين مع المسلمين، ورآه النبي عند توزيع الغنائم يرمق بإعجاب واديًا مليئًا بالإبل والغنم، فقال له النبي : ((يعجبك ذلك؟)) قال:نعم، قال: ((هو لك)) ، فقال صفوان: ما تطيب نفس أحد بمثل هذا العطاء إلا نفس نبيّ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدًا رسول الله.
كان الرجل في ريبة من أمرِه، لعلّه كان يحسب محمدًا طالبَ ملك أو عاشقَ مال وجاه، فلمّا رأى نفس النبي لا تطلّع فيها ولا تعلّق لها بشيء ـ جلَّ أو هان ـ من هذا الحطام، أدرك أنها النبوة فأعلَن للفور تصديقه بها.
2- إسلام عكرمة:
أما قصة إيمان عكرمة فهي أجدر بالتأمّل الطويل، جاءت امرأته أم حكيم وكانت أسلَمت يوم الفتح، فقالت: يا رسول الله، هرب عكرمة خائفًا أن تقتله فأمّنه، فقال: ((هو آمن)) ، وأدركت المرأة زوجها عند الساحل، وقد ركب سفينة يريد الإبحار بها بعيدًا، فنادته قائلة: جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك وعُدْ معي فقد استأمنت لك رسول الله. قال ابن عساكر: فلما دنا من مكة قال رسول الله لأصحابه: ((يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا، فلا تسبوا أباه؛ فإنّ سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت)). ولما أقبل عكرمة وثب إليه النبي متعجلاً ليس عليه رداء من فرحه بمقدمه وعرض عليه الإسلام، فقال عكرمة: والله، ما دعوتَ إلا إلى الحق وإلى كل أمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل دعوتك هذه أصدقنا حديثًا. وأعلن إسلامه في مشهد نابض بالصدق، كاشف عن مستقبل عامر بحب الله ورسوله. وكان مطأطئًا رأسه حياء من النبي ثم قال: يا رسول الله، استغفر لي كلّ عداوة عديتكها أو مركب أوضعت فيه أريد إظهار الشرك والصدّ عن سبيلك، فدعا له رسول الله ، فقال عكرمة: أما والله، ما أدع نفقة كنت أنفقها في الصدّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلت في الصدّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
بهذا الخلق العظيم كان صاحب الرسالة الخاتمة يصنع السلفَ الأول، إنه لم يصنعهم على هذا الغرار ليؤمنوا به وحسب، إنه يريد أن يؤمنوا وأن يحملوا إلى غيرهم الإيمان وأن يزيحوا من أمامه العوائق.
فلننظر كيف وفّى عكرمة بعهده لرسول الله ، فقد حدّثنا التاريخ أنه عندما التقى الروم والعرب في معركة اليرموك والروم أضعاف المسلمين أربع مرات، كان الموقف صعبًا جدًا، وتهشمت صفوف أمام وطأة الرومان، وزلزلت أقدام البعض. وهنا صاح عكرمة: قاتلت رسول الله وأفرُّ اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فانضمّ إليه أربعمائة من طلاب الشهادة، فقاتلوا حتى قتل منهم خلق كثير، وانهزم العدو هزيمة محت دولة الروم من الشام كله.
إن تربية محمد لهذا الجيل معجزته الكبرى بعد القرآن الكريم، وإنك لتلمح آثار النبوة في شمائل أولئك الرجال الأفذاذ، لقد أشربوا منه حب الله وطلب رضاه والشوق إلى لقائه والطمع في جنته، فأقدرتهم هذه العواطف الجياشة الصادقة على تهديم أسوار الباطل وكانت عالية عاتية، وتلاشت إمبراطوريات استعصت على الفناء قرونًا عديدة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الصحابة جيل لا نظير له، إنه جيل لا نظير له في تاريخ الرسالات، وتعرف ذلك بالموازنة العادلة.
فـ"بطرس" أحد الحواريين الكبار وقد صحب عيسى ابن مريم عليه السلام طويلاً، ومع ذلك فعندما تعرّض هذا النبي الكريم للاضطهاد وشرع خصومه من اليهود والرومان يقاومون تعاليمه بغضب وصدرت الأوامر للشرطة بمطاردة النصرانية واعتقال أتباعها وتعرّض عيسى عليه السلام لحرج شديد، في هذه الآونة أُلقي القبض على "بطرس" وسئل: أتعرف عيسى ابن مريم؟ قال: لا، وأنكر عدّة مرات أن ليس له به صلة، لقد آثر النجاة بنفسه.
نقرأ هذه القصة فنتذكّر لما أخرج المشركون زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله، ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا.
الفرق بين "بطرس" وزيد هو الفرق بين أصحاب محمد وسائر الناس، إنهم جزء من حياة محمد وجهاده، إن محمدًا هو الذي قدر بفضل الله على إحكام هذا الجيل وإبداعه على هذا النحو، وقد نجح هذا الجيل في تبليغ رسالة الإسلام وجعلها عالمية، فقد لحق النبي بالرفيق الأعلى ودينه لم يتجاوز حدود جزيرة العرب، فعلموا أنه مبعوث للعالم كلّه، فشرعوا ينساحون في الأرض مبشرين ومنذرين.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
أين أمة الإسلام اليوم؟! أين هذه الأمة الآن؟! وأين صوتها في المجامع العالمية؟! وأين النماذج التي تقدمها لديننا العظيم؟! لا أقدر على الجواب، إننا نحاول بشقّ الأنفس جمع الشتات وإحياء الموات، وما ندرك سهمًا من نجاح إلا إذا أرينا الله من أنفسنا الصدق. إن المسلمين إذا فقدوا مودّة الرحمن لم يبق لهم على ظهر الأرض صديق، وإذا أضاعوا شرائع الإسلام فلن يكون لهم من دون الله ولي ولا نصير.
لا أحقر ولا أصغَر من إنسان شرّفه الله بالإسلام فخلع عنه ثوبه، وترك لواءه، وراح يسير في الدنيا عريانًا تحت لواء الجاهلية الأولى، ماذا ينتظر بعد ذلك إلا العار والشنار والبوار؟!
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/4662)
أسس الدعوة إلى الله
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عايض بن سعيد الرشيد
الرياض
21/11/1426
جامع الأميرة فهدة الشريم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى للإنسان. 2- وجوب الدعوة إلى الله تعالى. 3- أصناف المدعوِّين. 4- التحذير من التنازل عن المبادئ. 5- الألفة على الإسلام. 6- فوائد الخطبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله الإنسان في أحسن صورة وأكمل هيئة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]، وقال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]. وخلق الله له وسائل المعرفة والعلم، وهي ثلاث جوارح: السمع والبصر والفؤاد، فبها يدرك الخير من الشر ويعرف الحق من الباطل، وقد أخرجه الله قبل ذلك من بطن أمه لا يعرف شيئا، قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
ثم كرم الله الإنسان ورفعه؛ وذلك بتكريم أبيه آدم حين أمر الملائكة بالسجود له سجود تكريم وتوقير، لا سجود عبادة. ثم كلف الله البشر بتكاليف شرعية، فعلى قدر التشريف يكون التكليف، فابتلاهم بالشهوات، وجعلهم عرضة للشبهات، وخلق لهم داعي الشهوة والشبهة الفرج والنفس، فمن حكّم عقله وسمعه وبصره ونهى نفسه عن الهوى نجا وأفلح، ومن آثر الحياة الدنيا وأتبع نفسه هواها خاب وخسر، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].
ثم إن الله عز وجل لم يترك الناس هملا لا دليل ولا هادي لهم، بل أرسل لهم الرسل تسوسهم بالزواجر والأوامر، وتبين لهم الشرائع، فمن أطاعهم دخل الجنة، ومن عصاهم دخل النار. ثم كلف الله علماء هذه الأمّة بعد نبيِّهم محمد بالدعوة إلى الله بالحِكمة والموعظة الحسنة، يدعون من ضلّ سواء السبيل إلى صراط الله المستقيم.
أيها المسلمون، إن الدعوة إلى الله واجب حتميّ على كل من علم من هذا الدين شيئا ولو كان يسيرا، وهذا داخل في التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال النبي : ((بلغوا عني ولو آية)) ، وقال كذلك: ((من رأى منكم منكرا فليغيره)) الحديث. ولا شكّ أن كل معصية هي من المنكر الذي يجب تغييره على أفراد المسلمين كل بحسب قدرته.
أيها المسلمون، إن الدعوة إلى الله واجبة تجاه كلّ أحد سواء كان كافرا من أهل الكتاب والوثنيين وغيرهم وهم الكفار الأصليّون، أو كان كافرا مرتدّا عن الإسلام، أو كان معتنقا مذهبا من المذاهب الضالة المنتسبة للإسلام كالرافضة والمعتزلة وغلاة الصوفية وغيرهم، أو كان فاسقا مرتكبا لكبيرة من الكبائر، أو عاصيا ملِمّا بصغيرة من صغائر الذنوب، كل أولئك يجب دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
ومن المعلوم أنّ هداية رجل واحد خير من الدنيا وزينتها، كما جاء في الحديث عن النبي : ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)).
ومع هذا فإنه من المعلوم كذلك أنّ من الناس من لا يستجيب لدعوة الداعين ولا لنصح الناصحين، فمثل هذا لا تذهب النفس عليه حسرات، فالله خلق الناس على فطرة الإسلام، ولكن منهم من بقي على فطرته مسلما، ومنهم من كفر، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2].
والله قادر على أن يجعل الناس كلهم مسلمين، ولكن الله لحكمة بالغة أراد ابتلاء الناس واختبارهم في الحياة الدنيا ليعلم الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر، قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة:48]. جعل لهم مشيئة وإرادة، وبين لهم الطريقين يختارون ما يشاؤون، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3].
فيجب حينئذ على الداعية أن لا يتنازل عن أصول دينه وشريعة ربه طمعا في هداية الآخرين، فإنّ الشيطان يأتي إليه فيقول: لو تنازلت عن جزء من دينك لاتبعوك. وهذا هو الذي أخبر الله عنه حين قال لنبيه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:73-75].
ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة وَالْعَاص بْن وَائِل وَالأَسْوَد بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَأُمَيَّة بْن خَلَف لَقُوا رَسُول اللَّه فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُد، وَتَعْبُد مَا نَعْبُد، وَنَشْتَرِك نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أَمْرنَا كُلّه، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْت بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا كُنَّا قَدْ شَارَكْنَاك فِيهِ وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا بِيَدِك كُنْت قَدْ شَرِكْتنَا فِي أَمْرنَا وَأَخَذْت بِحَظِّك مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السورة [سورة الكافرون].
إن الكفار على أتمّ استعداد أن يتنازلوا عن دينهم الباطل مقابل أن نتنازل عن شيء يسير من ديننا الحق، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، ولكن هيهات فالحق ظاهر والباطل زاهق.
ولقد أمر الله نبيه أن يصدع بالحق قولا وعملا وأن يعرض عن الكفار، قال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]، وقال تعالى: وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
فيجب على الداعية أن يدلّ الناس على الخير على ضوء كتاب الله وسنّة رسوله، ومع هذا فلا يكلف بهدايتهم وتقواهم، قال تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يقول الله تعالى ممتنا على نبيه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62، 63].
نستدل بهذه الآية على أنه ليس ثمة شيء يؤلّف بين قلوب الناس ويجمعهم على الخير وينشر الأمن والسعادة والطمأنينة بينهم سوى الإسلام، فلو أنفق الناس ما يملكونه في هذه الدنيا من مال وثروات وملك وجاه ونسب وقرابة لتتآلف قلوبهم ما تآلفت على الإطلاق، ولو عقدوا العقود وأبرموا المواثيق وأخذوا العهود فيما بينهم ما تآلفت قلوبهم أبدا. فلا بد إذا من التآلف والتآخي على شرع الله امتثالا ومحبة وتقرّبا.
روى ابن إسحاق في السيرة أن سادة قريش دعوا النبي فقالوا له: يا محمد، إن كنتَ إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكونَ أكثرَنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، فقال لهم رسول الله : ((ما أدري ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا الشرفِ فيكم، ولا الملكِ عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)) ، ثم قال النبي لعمه أبي طالب عندما قال له: أبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول الله أن عمه خاذله ومسلِمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: ((يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه)). ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
إذًا كل المصالح الدنيوية لا تستطيع أن تجمع القلوب وإن جمعت الأبدان، فإن العبرة بجمع القلوب وليس بجمع الأبدان، ولذلك قال الله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، ولم يقل: "وألف بين أبدانهم"، فقد يصحب الرجلُ الرجلَ من أجل مصلحة مادية أو اجتماعية أو يجمعهم وطن من الأوطان أو مركب من المراكب وهو كاره له مبغض لقربه، وإنما هو مضطر لذلك اضطرارا، ولكن ما إن تزول تلك المصلحة حتى ينفر منه ويفارقه مفارقة الغريب للغريب.
أيها المسلمون، نخلص من هذه الخطبة بالفوائد التالية:
أولا: يجب دعوة الناس ومجادلتهم ومحاورتهم بالتي هي أحسن.
ثانيا: يجب أن تكون تلك المجادلة والمحاورة على أساس الدين وما جاء عن رب العالمين.
ثالثا: يجب أن لا يتنازل الداعية عن شيء من دينه ليرضي به مخالفه، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].
رابعا: الداعية مكلف بالدلالة لا بالهداية، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
خامسا: من قضاء الله أن جعل في الناس مؤمنا وكافرا، فلا تذهب النفس حسرات على الكافرين.
سادسا: لن تتآلف قلوب الناس ولن تسودهم الطمأنينة ويغشاهم الأمن إلا بالتمسك بدين الله والتعايش على ضوء هديه وشرعه، وإلا ستطغى البغضاء والكراهية على قلوب الناس وإن اجتمعت أبدانهم.
كل العداوات قد ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين
اللهم ألف بين قلوبنا على دينك، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا هداة مهتدين...
(1/4663)
سنّة الله في الأمم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
30/3/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتغير. 2- سنة تغيير الأمم. 3- حال الأمة الإسلامية اليوم. 4- أثر الإيمان في حياة المؤمن. 5- امتياز جيل الصحابة. 6- صيانة الإيمان. 7- خطر التنازع واختلال المفاهيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ هي وصيّته للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
أيُّها المسلِمون، لقد أرشَد الباري سبحانَه في محكم التنزيلِ إلى أنَّ سننَه جل وعلا لا تتبدّل ولا تتغيّر، وأنَّ النواميسَ الإلهية تأتي على المجتمعاتِ وِفقَ ما قدَّره وبيّنه لهم خالِقهم بِشارةً ونذارةً، وأنَّ الأممَ والمجتمعاتِ ما انحدَرت من علوِّ عِزها ولا بادَت بعد أن سادَت ومُحِي أثرها ورَسمُها من ألواح الرِّفعة إلاّ بعد نكوصِها عن تلكُمُ السننِ وبُعدِها عن مسبِّبات العزّة والتمكين التي سنَّها الله على أساسِ الحكمة البالغة، ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:131، 132].
إنَّ الله لا يغيِّر ما بأمّةٍ مِن عزّةٍ وغلبة وسلطانٍ وترفُّه ورَغَد عيش وأمنٍ وراحة حتى تغيّر تلك الأمةُ ما بنفسِها من نور العقل الصريح والنقلِ الصحيح والفكر المتجرّد وإشراقِ البصيرة والقوّة في الحقّ والعبرة والاعتبار بأيّام الله في الأمم السابقة والتدبُّر في أحوال المتهالكين الناكِبين عن صراط الله الهائمين في كلِّ وادٍ بسبَبِ عدولهم عن سنّة الدّين والعدل والاستقامة في الرأي والصِّدق في القول والقوّة في الانتماء والعفّة في الشهوات والحميَّة على العقيدة، وبسبَبِ إيثارهم الحياةَ للباطل على الموتِ للحق، فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
فيا سبحان الله! ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة واليومَ بالأمس، وها هو التاريخ يعيد نفسَه، بينما كان المسلمون أمّةً واحدة من شرق الأرض إلى غربها حتى إذا فشلَت وتنازعت في الأمر وعصَى أهلها خالقَهم من بعدما أراهم ما يحبّون وأعجبتهم كثرتهم فلم تُغنِ عنهم شيئا بدّل الله رِفعتهم دونًا وسموَّهم صَغارًا وغِناهم فقرًا وقوّتهم ضعفًا، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3].
إنَّ أيَّ مجتمع يغترّ بزعمِه ويحار في ظلماتِ أوهامِه فلا يكون الإيمانُ الحقّ سبيلا له في احتمال المشاقّ وتجشُّم المصاعب في سبيله فهو ليس بمعزل عن الأفئدةِ الهواء؛ لأنَّ الإيمان الحقيقيَّ لا بدّ أن يغلِب كلّ هوى ويقهر كلَّ ضعف ويدفع بالنفس المؤمنةِ إلى طلَب مرضاة الله بلا سائقٍ ولا قائد سواه، كما قال سبحانه وتعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:44، 45].
فيا ترى عبادَ الله، هل في مثلِ تلكم الحال يمكن لأيِّ مجتمع مسلمٍ أن يتذوّقَ طعم السعادة السرمديّة والنعيم الأبديّ وقد بنى عقيدتَه على خيالٍ ليس له أثرٌ وطيفٍ لا يلبَث ويزول، أو يبني انتماءَه للدين والتديّن على شفا جرفٍ هار، أو تمسّك من حبلِ الدين المتين بخيطٍ هو أوهى في الحقيقةِ مِن خيط العنكبوت؟! كلاّ؛ لأنّ للعقائد الراسخةِ المتينة آثارًا تظهر في العزائمِ والأعمال وتأثيرًا في الأفكار والإراداتِ. هكذا هو الإيمان في جميعِ شؤونه وشُعَبه، له خواصّ لا تفارِقه وسماتٌ لا تنفكّ عنه، بها كان يمتازُ المجتمع المسلمُ في الصّدر الأول، بل كان يعترِف بتلكم الميزةِ وعلوِّ المنزلة من كانوا يجحدُونهم ويعادون عقيدَتَهم؛ وما ذاك ـ عباد الله ـ إلاَّ لصبرهم على طاعة الله وصدقِهم في الالتزام بالدين وعضِّهم عليه بالنواجذ ووقوفِهم أمامَ المحَن والبلايا بالإيمان الراسخ الذي لا يُزعزِعُه بركانٌ ولا تهيّجه ريح. لقد علِموا أن كلّ خطَر فهو تهلكةٌ ينبغي البُعد عنها إلاّ في الإيمان؛ فإنهم يوقنون أنّ التهلكة فيه نجاة، وكلّ ألَمٍ يلاقونه بسببِ تمسُّكهم بالدّين فهو أمَل، وكلّ مشقَّة ينالونها في إقامة العدلِ والحقّ فهي راحة وسَعة، وكلّ خوفٍ يصاحب الذودَ عن حياضهم فهو أَمن. إنهم يحسّون بذلك كلِّه لأنَّ لهم حياةً وراءَ هذه الحياة ولذّةً وراء لذاتها وسعادةً غيرَ ما يزيِّنُه الشيطان من سعادتها. هذه هي حال من لامس الإيمان قلبَه ولو لم يبلُغِ الغاية من كماله.
إنَّ انخناسَ النفس وفِرارها أمامَ محنةِ الله في الإيمانِ والتمسّك بالدين ليُعَدّ مجلبةً للخزي والهلَكة؛ إذ لا سعادةَ إلا بالدين، ودون حِفظ الدين تتطايَر الحظوظ والشّهوات؛ لأنَّ للإيمان والذودِ عن دين الله تكاليفَ شاقة وفرائضَ صَعبة في التحمّل والأداء إلا على الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؛ حيث إنَّ أوَّل شيء يوجِبه الإيمان على المرءِ المسلم هو أن يخرج عن نفسِه لنفسِه وأن يبدّل من اهتمامِه به لاهتمامِه له؛ ليكون الله ورسولُه أحبَّ إليه من نفسِه ووَلَده والناس أجمعين.
إنَّ الله لا يقبل في صيانةِ الإيمان وحماية حَوزَة الدين وإقامةِ شِرعة الله ومنهاجه على أرضه عذرًا ولا تَعِلّة ما دام القَلب يفقه والرِّجل تمشي واليدُ تعمل والعين تُبصر والأذُن تسمع، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّه ما انهدم للأمَّة المسلمة في ماضِيها مِن بناءٍ شُيِّد ولا انقلَبت دول مُجِّدت إلا وكان ذلك من قِبَل التخلِّي عن الدين أو التهاونِ فيه، ثم للشقاق والاختلاف والثّقة بمن لا يوثَق به والاستئثارِ بالرأي والاستنكاف عن المشورةِ والجماعة والإهمال في إعدادِ القوّة وتفويض الأمور لمن لا يحسِن أداءَها ووضع الأشياء في غير موضعها، كلُّ ذلك كان سببًا ولا شكَّ في جلب الجَور بينهم واختلالِ نظمهم والحيد عن سننِ الله الداعي إلى غضبِه على الخاطئين، فيستبدل قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، وهو أحكم الحاكمين.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فإنَّ الله جلّ وعلا قد جعل اتفاقَ الرأي في المصلحةِ العامّة الموافقةِ لهدي الإسلام والاتصال بصِلة الإلفة في المنافع الكلّيَّة سببًا للقوة واستكمال لوازمِ الراحة في هذه الحياة الدنيا والتمكُّن من الوصول للخير الأبديّ في الآخرة، كما جعل سبحانَه التنازع والتغابنَ والتدابر محلاًّ للضعف وداعيًا للسقوط في هوّة العجز والكسَل عن كلّ مصلحةٍ دنيويّة أو أخرويّة ولقمة سائِغة في مخالب العاديات من الأمم، فمن نظر نظرَةً في أحوال الشعوب ماضيها وحاضِرها ولم يكن مصابًا بموت القلب وعمَى البصيرة أدرَك سرَّ أمرِ الله في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، وسرَّ نهيه سبحانه في قوله: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ألا إنَّ المفاهيم إذا اختلّت والأنفسَ إذا تنازعت والبصائرَ إذا عمِيت فستكون النتيجة ولا شكَّ إفراز نفوسٍ من بني الملّة لا ترضى بحقيقةِ الإسلام وإن رضيَت برسمه، تتلوّن تلوّنَ الحرباء، وتتشكّل تشكّل الأغوال، نفوسًا تضحَك وقتَ البكاء وتمرَح عند اشتدادِ اللأواء، نفوسًا تنقبِض أوقاتَ المسرَّة وتضجَر لسعةِ الرحمة، نفوسًا تقدِّم العزاء إذا انتصَرت الاستقامةُ وتفرَح حالَ العزاء لفَقدها. إنَّ مثلَ هذه النفوس كمَثَل الحَسَك المثلَّث الأضلاع، كلّه شوكٌ حيثما قلَبته.
إنّنا ـ عبادَ الله ـ لو تدبَّرنا آياتِ القرآن واعتبرنا بما ألمَّ بالأمم المسلِمة عَبر العصور لأدركنا جيّدًا أنّ فيها من حادَّ الله ورسولَه وضلّ عن هديِهما، وأنَّ فيها من مال عن الصراطِ المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدَنا إليه، وأنَّ فيها من اتَّبع هواه بغير هدًى من الله وسارَ وِفقَ رغبات النفس وخطواتِ الشيطان، والله جل وعلا يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبدِ الله صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد...
(1/4664)
رسول الضعفاء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
توفيق عقون
ميلانو
مسجد سيستو
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول رحمة النبي لجميع الناس. 2- أمر الله تعالى نبيه بمجالسة الضعفاء. 3- فضل الإحسان إلى الضعفاء. 4- معاملة الرسول للضعفاء ووصيته بهم. 5- حالنا مع الضعفاء والمساكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن رسول الله لم يكن رسولاً لفئة من الناس، بل كان رسولاً للناس كافة، للأسياد والعبيد، للفقراء والأغنياء، للرجال والنساء، للكبار والصغار، للعرب والعجم، ورحمته انتظمت الوجود كله، إلا أن تعامله مع الضعفاء والمساكين كان له شأن خاص، يعيش معاناتهم، ويواسي فقيرهم، ويرحم ضعيفهم؛ فهم أتباع الأنبياء، فقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان وكان لا يزال على الكفر: هل أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: وهم أتباع الرسل. رواه البخاري (7) ومسلم (137).
لقد أمر الله نبيه أن يجالس الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه مِنْ عِبَاد اللَّه ولو كَانُوا فُقَرَاء ضُعَفَاء: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
يُقَال: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَاف قُرَيْش حِين طَلَبُوا مِنْ النَّبِيّ أَنْ يَجْلِس مَعَهُمْ وَحْده وَلا يُجَالِسهُمْ بِضُعَفَاء أَصْحَابه كَبِلالٍ وَعَمَّار وَصُهَيْب وَخَبَّاب وَابْن مَسْعُود، وَلْيُفْرِد أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَة، فَنَهَاهُ اللَّه عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآيَة [الأنعام:52]، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِر نَفْسه فِي الْجُلُوس مَعَ هَؤُلاءِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ نَفْسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ الآيَة.
روى مُسْلِم فِي صَحِيحه عنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيّ سِتَّة نَفَر، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ : اُطْرُدْ هَؤُلاءِ لا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْت أَنَا وَابْن مَسْعُود وَرَجُل مِنْ هُذَيْل وَبِلال وَرَجُلانِ نَسِيت اِسْمَيْهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْس رَسُول اللَّه مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقَع، فَحَدَّثَ نَفْسه فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
فالله لما عدّد أبواب البرّ ذكر منها إيتاء المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، فجعل الرحمة بالضعفاء الصفة الأولى من صفات المتقين، قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
ويقول عليه الصلاة والسلام وهو يبيّن أهمّيّة الضعيف في حدوث النصر وحصول الرزق: ((ابغوني في الضعفاء؛ فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) أخرجه أبو داود (1594) والنسائي (3179) والترمذي (1702) وقال الترمذي: "حسن صحيح" وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (41). ابغوني أي: أعينوني على طلب الضعفاء.
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((اللهم أحيني مسكينًا، وتوفّني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين)) أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (1261).
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا ونهمل المال، وإنما المعنى أن تنكسر القلوب بين يدي علام الغيوب. والذي انكسر قلبه لله هو من يعيش عبدًا لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه، لهذا المعنى أُكرم الضعفاء بإجابة الدعاء ونيل أحسن الجزاء.
عن حارثة بن وهب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رَسُول اللَّهِ يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف لو أقسم على اللَّه لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ جوّاظ مستكبر)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والعتلّ: الغليظ الجافي، الجوّاظ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع. وقيل: الضّخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين.
وعن أسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي قال: ((قمت على باب الجنة فإذا عامّة من دخلها المساكين وأصحاب الجَدّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والجد بفتح الجيم: الحظّ والغنى، محبوسون أي: لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة.
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ : ((ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبرّه)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وعن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مر رجل على رسول الله فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، قال: فسكت رسول الله ، ثم مرّ رجل فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يسمَع لقوله، فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثلِ هذا)) رواه البخاري (6082).
فالعبرة ليست في الصور والأشكال وفيما تملكه من قصور وأموال، وإنما في صلاح الأعمال وتذلّل القلب وانكساره لله الواحد القهار.
كيف كان رسول الله يعامل الضعفاء؟
إن أحوج الناس للرحمة والإحسان والعطف والحنان الضعفاء الذين لا حول لهم ولا طول، مثل اليتيم الذي فقد الأب، والأرملة التي فقدت الزوج، والمسكين الذي فقد المال، وابن السبيل الذي لا سند له ولا معين، والمرضى والعجزة وكبار السن والعبيد والخدم والأُجَراء.
وانظر إلى اهتمام النبي وانشغاله بالفقراء في عيد الأضحى، وكيف أنه ضحى بكبشين أحدهما عمن لم يضح من أمته؛ حتى لا يحرموا من أجر الأضحية بسبب فقرهم وفاقتهم.
وقد استفاضت الأحاديث في الحث على الإحسان إلى الفئات الضعيفة التي لا سنَد لها ولا معيل، فقال : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما. رواه البخاري. وقال: ((من ضم يتيمًا بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)) رواه أبو يعلى وأحمد باختصار والطبراني بإسناد حسن، وقال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)) ، قال أنس: وأحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتُر، وكالصائم لا يُفطر)) متفق عليه عن أنس.
وقال عن الخدم: ((هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه)) متفق عليه واللفظ للبخاري، وجاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَتَ، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود عن ابن عمر (5164) والترمذي (1950) وقال: "حسن غريب".
ويوم كان الخدم رقيقًا زجر النبي عن إيذائهم وضربهم، وجعل كفارة الضرب العتق، فكيف إذا كانوا أحرارًا؟! وقد أدرك النبي أبا مسعود البدري وهو يضرب غلامًا له فقال: ((اعلم أبا مسعود أنّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) ، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمسّتك النار)) رواه مسلم (6659)، وقال: ((من لطم مملوكًا أو ضربه فكفارته أن يعتقه)) رواه أبو داود (5168)، ومسلم بنحوه (1657)، وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامّة وصية النبي حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أين نحن ـ أيها المسلمون ـ من رحمتنا بالضعفاء والمساكين؟! أين نحن من إعطاء حقوق العمال والأجراء؟! لقد وصلتنا شكاوى يندى لها الجبين ويتقطع لها القلب من ظلم المسؤول للعمال والأجراء ومنعهم حقوقهم، فهذا يحرم العامل من أجرته، وآخر يؤخر ويماطل في دفعها، وثالث يستغل حاجات العمال وضعفهم فيستأجرهم بثمن بخس لا يتفق مع الجهد الذي يبذلونه.
ألا تخاف ـ يا من ظلمتَ الأجير ـ أن يكون الله خصمك يوم القيامة، ومن كان الله خصمه فقد خسر وهلك، قال : ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) البخاري (2109).
تذكر ـ يا صاحب العمل ـ أن هذا الأجير له أهل وأولاد ينتظرون مصاريف طعامهم ولباسهم، مصاريف دوائهم وعلاجهم، مصاريف تعليمهم ودراستهم، فإذا تأخَّرت في دفع أجرتهم أو حرمتهم منها كنت سببًا في ضياع تعليمهم وخروجهم من المدرسة، أو كنت سببًا في معاناة المريض أو ربما موته، أو كنت سببًا في بكاء الصِّبية بالليل وهم يعانون من عضّة الجوع، وأنت تنام منعمًا قرير العين.
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/4665)
شرف المقاصد والوسائل
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
7/4/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظنّ خاطئ. 2- شرف الغاية يقتضي شرفَ الوسيلة. 4- عبادة الله تعالى بما شرع. 5- الوسيلة الشرعية للعلاقة بين الجنسين. 5- صور من الوسائل المحرمة في باب المكاسب. 6- أدوية محرمة. 7- النهي عن سبّ آلهة المشركين. 8- فضل الرّفق في الأمر كله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتَّقوا الله واذكروا أنّكم مَوقُوفُون بين يدَيه، فالسَّعيدُ من أعَدَّ لهذا الموقفِ عُدّتَه، متَزوِّدًا بخير زادٍ، سَالكًا إلى الله كلَّ واد، كادِحًا إليه مِن كلّ طريق، مبتغيًا إليهِ الوسيلة بكلّ قولٍ وعمَل، راجيًا منه القَبولَ والمغفرةَ والرّضوَان.
أيّها المسلِمون، يخطِئ فَريقٌ منَ الناسِ حين يظنُّ أنَّ من حقِّه سلوكَ كلِّ سبيلٍ وإعمالَ كلِّ وسيلة وَاتِّخاذَ أيِّ سببٍ يبلُغ به الغايةَ ويُصيب به الهدَفَ ويَصِل به إلى المرادِ ما دامَ أنّ الغايةَ طيِّبةٌ مقبولة وطالما كانَ الهدفُ المنشود مشروعًا وكان المراد صَحيحًا لا غبارَ عَليه، وتِلك غفلةٌ عجيبة أو تغافلٌ مَقبوح؛ إذِ الحقُّ أنّ سَلامةَ الغاياتِ وصَوابَ الأهدافِ وصِحّةَ المقاصدِ يستلزِم في هذه الشَّريعةِ المباركة أن يَكونَ السبيلُ إلى كلِّ أولئِك سالمًا والوسيلةُ إلى بلوغِه صحيحةً مَشروعة، فلا تُنال الغَاياتُ النَّبيلة بسلوكِ السُّبُل الملتوية ولا الأهدافُ السّاميَة بالوسائل المحظورةِ.
وفي الطليعة من ذلك عِبادةُ الله تعالى والازدلاف إليه، فالمسلمُ الحقّ هوَ الذي يعبد اللهَ على بصيرةٍ، مخلِصًا دينَه لله، مبتغيًا به رِضوانَه ونزولَ جنانِه إلى جوارِ أوليائِه والصّفوة من خَلقِه، كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزّمر:11]، وقال عزّ اسمُه: قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]. وهو في عبادتِه ربَّه متابعٌ رسولَه ، مُقتَدٍ به، مستَمسِكٌ بهَديه، حذَرَ أن يحبَطَ عملُه أو يَضِلَّ سعيُه لقول النبيّ في التحذيرِ مِن سبَبِ ذلك: ((مَن أحدَثَ في أمرنا هذا ما لَيس منه فهو رَدّ)) أخرجه البخاريّ ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها [1] ، وفي روايةٍ لمسلم عنها رضي الله عنها مرفوعًا بلَفظ: ((مَن عمِل عَمَلاً ليسَ عليه أمرنا فهوَ ردّ)) [2].
ولذا فإنّ مَن تَقرَّب إلى اللهِ بعملٍ لم يجعَله الله ورسولُه قُربةً إلى اللهِ فعَمَله باطلٌ مردود عليهِ، وهو شبيهٌ ـ كما قال الإمامُ الحافِظ ابنُ رجبٍ رحمه الله ـ شبيهٌ بحال الذين كانَ صلاتُهم عند البَيتِ مُكاءً وتَصدِيةً أي: صَفِيرًا وتَصفيقًا، ومَا أشبَهَ ذلك مِنَ المحدثاتِ التي لم يَشرَعِ الله ورسولُه التَّقرّبَ بها بالكلّيّةِ، بل إنّ العملَ الذي عدَّه الشارعُ قُربةً في عِبادة لا يكون قربَةً في غيرِها مُطلقًا في كلِّ الأحوال، فقد رأَى النّبيّ رَجلاً قائمًا في الشّمسِ فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نَذَر أن يَقومَ ولا يقعُد ولا يَستَظلَّ ولا يتكلّم ويَصوم، فقال النبيّ : ((مُرُوه فليتكلّم ولْيستظِلّ ولْيقعُد وليتِمَّ صومَه)) أخرجه البخاري في صحيحه [3] ، فلم يجعَل قِيامَه وبُروزَه للشّمسِ قُربةً يَفي بنذرِهما مع أنّ القيامَ عبادةٌ في مواضعَ أُخَر كالصّلاة والأذانِ والدّعاء بعرفَة ومع أنّ البروزَ للشمسِ قربةٌ للمُحرِم، فدلَّ على أنه ليس كلُّ ما كان قربةً في مَوطِن يكون قربةً في كلِّ المواطِن، وإنما يُتَّبَع في ذلك ما وَردَت به الشريعةُ في مواضِعِها" انتهى كلامه رحمه الله [4].
وفي الصّلةِ بين الرجالِ والنّساء الملَبِّيَة لنداءِ الفِطرة لم يجِز الشارعُ كلَّ الوسائل المحرَّمة كاتِّخاذ الأخذان وسائرِ أنواعِ المعاشرة الواقِعَة خارجَ دائرةِ العلاقة الشرعيّة القائمةِ على النكاح، كما قال تعالى في صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج:29-31].
وفي مجالِ إعطاء المرأةِ حقوقَها المشروعة لا يجوز السماح لها لبلوغ هذه الغاية أن تعبرَ طريقَ الإثم والسفور والاختلاط مع الرجالِ.
وفي اكتِسابِ المالِ لإنفاقِه في وجوهِ المنافِع جاء تحريمُ المكَاسِبِ الخبيثةِ الناشِئةِ عن الوسائلِ المحرّمَة لكَسبِ المالِ، ومِن ذلك تحريمُ بَيع الخمرِ والمَيتة والخِنزيرِ والأصنامِ، كما جاء في الحديث عن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه سمِعَ رَسولَ الله يَقول عامَ الفتحِ وهو بمكّة: ((إنّ اللهَ حرَّمَ بَيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ)) الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما [5]. ومن ذلك تحريمُ ثمنِ الكَلبِ ومَهرِ البغيّ وهو ما تَأخذه ثمنًا للفاحشَة وحلوانِ الكاهن وهو ما يَأخذه لقاءَ كِهانته، فقد جاء النَّهيُ عن كل ذلك في الصحيحين من حديثِ أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه [6]. ومِن ذلك تحريمُ الرِّبَا الذي توعَّد الله أَكَلتَه وأنذَرَهم بقوله عزّ اسمه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، ولَعَن رسولُ الله آكِلَه ومُوكِلَه وكاتِبَه وشَاهِدَيه وقال: ((هُم سواء)) أخرجه مسلمٌ في صحيحه [7]. ومِنه تحريمُ كلِّ كَسبٍ نَشَأ عن غِشّ كما جاء في الحديثِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رَسولَ الله مرَّ عَلى صُبرةٍ من طعامٍ ـ وهي الطّعام المجموع إلى بعضه ـ فأدخَل يده فيها فنالَت أصابعُه بَللاً فقال: ((ما هذا يا صاحبَ الطعام؟)) قال: أصابَته السماءُ يا رسولَ الله، قال : ((أفَلا جَعلتَه فوقَ الطعامِ كَي يراه الناس؟! مَن غشَّ فليس مِني)) أخرجه مسلم في صحيحه [8].
وفي التداوِي جاء النَّهيُ عن اتِّخاذ الحرامِ وسيلةً وسبيلاً للشِّفاء، كما جاء في الحديث عن طارقِ بنِ سُوَيد الجعفيّ أنه سألَ النبيَّ عن الخَمرِ فنهاه عنها أو كَرِه أن يصنَعَها، فقال: إنما أصنَعُها للدَّواء، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّه لَيس بدواء، ولكنّه داء)) أخرَجه مسلم في صحيحِه [9]. والمقتضي لذلك ـ يا عباد الله كما قال العلاّمةُ ابن القيم ـ أنَّ تحريمَ الشيءِ يقتضي تجَنّبَه والبعدَ عنه بكلّ طريق، وفي اتِّخاذه دواءً حضٌّ على الترغيبِ فيه ومُلابَسَته، وهذا ضِدُّ مقصودِ الشارِع، ولأنَّ في إباحةِ التداوي به أيضًا ـ لا سيما إذا كانتِ النفوس تميل إليه ـ في تلك الإباحة ذَريعة إلى تناوُله للشّهوة واللّذّة، ولأنّ في هَذا الدواءِ المحرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يُظَنّ فيه من الشِّفاء، وإنّ مِن شَرط الشفاءِ بالدّواء التّلَقيَ له بالقَبول واعتقادَ مَنفَعته وما جعل الله فيه من بركةِ الشّفاء، ومعلومٌ أنّ اعتقادَ المسلِم تحريمَ هذه العَين هو مما يحُول بينَه وبينَ اعتقادِ مَنفعتِها وبركتِها وحُسن ظنِّه بها وتلقِّيه لها بِالقبول، بل كلّما كانَ العبد أعظمَ إيمانًا كان أكرَهَ لها وأسوأَ اعتِقادًا فيها، وكان طبعُه أكرَهَ شيءٍ لها، فإذا تَناوَلها في هذه الحالِ كانت داءً لا دَواء" انتهى كلامه رحمه الله [10].
فهذا كلّه ـ يا عباد الله ـ ظاهرُ الدلالة على وجوبِ سلوكِ السبيلِ الصحيح المشروعِ لبلوغِ الغايةِ الصّحيحة المشروعةِ.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا أنّه لا انفِصالَ في دينِنا بين الغاياتِ والوَسائل، بل إنّ بَينهما رِباطًا وثيقَ العُرى وطِيدَ العلاقةِ يَجعَل منهما سَببًا يُثاب عليهِ المسلم من عندِ الله إذا ابتغَى بهما وَجهَ الله، فإنّ حياته كلَّها للهِ ربِّ العالمين كما قال عزَّ مِن قائل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه ، أقولُ قولي هَذَا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجَليلَ لي ولَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[2] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأيمان والنذور (6704) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] جامع العلوم والحكم (ص60).
[5] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2236)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1581).
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2237)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1567).
[7] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1598) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[8] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (102).
[9] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (1984).
[10] زاد المعاد (4/156-158).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ للهِ أحصَى كلَّ شَيءٍ عدَدًا، أحمدُه سبحانَه لم يَكن له شَريكٌ ولم يتَّخِذ صاحبةً ولاَ وَلدًا، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه، وأَشهَد أنّ سيِّدَنا ونَبيَّنا محمّدًا عَبد الله ورَسولُه نبيُّ الرحمة والهدَى، اللَّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولك محمّد وعلى آلهِ وصَحبه الأئمّة الأعلام النُّجبَا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنّ إِعلاءَ كَلمةِ الله والنُّصرة لدينِه والذَّودَ عن حِياضِه مَقصدٌ جليل وغايةٌ شَريفة وهدَف رفيعٌ للمؤمِن، يَبتَغي به الوسيلةَ إلى ربّه، ويَسعى إلى رِضوانِه والحَظوةِ بمحبَّته سبحانَه ونُصرته وتأييده، غيرَ أنّ هذا المقصودَ الصّحيح لا يَصحّ بلوغه بِوسيلةٍ نهى الله عنها وحذَّر عبادَه منها، ألاَ وهِيَ السَّبُّ لآلهة المشركين ومن في حكمهم، لأنّ الثمرةَ المحقَّقةَ والنتيجةَ الحتميّة لذلك هو مُقابلةُ المشركين هذا الأمرَ بمثلِه، وذلك بسبِّ الله ونِسبةِ النقص إليه تعالى الله عن ذلك علوًّا كَبيرا، كما روَى عبد الرّزاق في مصنّفه عن معمر عن قتادةَ أنه قال: كان المسلمون يسُبّون أصنامَ الكفّار، فيسبّ الكفارُ الله عَدوًا بغير عِلم، فأنزل الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]. وقد جعَل العلاّمةُ ابن كثير رحمه الله هذا النهيَ مِن تركِ المصلحةِ لمفسدةٍ أرجَحَ منها.
ولما دخَل رهطٌ منَ اليهود على النبيّ قالوا: السّامُ عليكم، فقال : ((وعليكم)) ، ففطِنَت إليها عائشة رضي الله عنها فقالَت: عليكم السّامُّ واللّعنة، وفي لفظ: السّام عليكم ولعَنَكم الله وغَضِب عليكم، فقال النبيّ : ((مَهلاً يا عائشَة، فإنّ اللهَ يحبّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه)) ، وفي روايةٍ: ((عَليكِ بالرِّفق، وإيّاك والعنفَ والفحشَ)) ، قالت: أوَلَم تسمَع ما قالوا؟! قال رسولُ الله : ((فقَد قلتُ: وعَليكم)) ، وفي رواية: ((أوَلم تسمعِي ما قلت؟! رددتُ عليهم، فيستَجابُ لي فيهم، ولا يُستجابُ لهم فيّ)) أخرجه البخاري في صحيحه [1]. والسّام هو الموت، أو هو السّأَم الذي هو الملَل أي: تَسأمون دينَكم.
وفي صحيح مسلمٍ عن عمرةَ عنها رضي الله عَنها أنّ النبيَّ قالَ: ((إنّ اللهَ رفيق يحبُّ الرِّفقَ، ويعطي على الرِّفقِ ما لا يعطي على العُنف)) [2] ، ومعناه أنّه يتأتّى مَعَ الرفقِ مِنَ الأمورِ الحسنةِ والعَاقبةِ المحمودَة ما لا يتأتَّى مَع العنف والفظاظة والغِلظَة.
وفي صَحيحِ مسلم أيضًا عن جريرِ بن عبد الله رضي الله عنه أنَّ رَسول الله قال: ((مَن يُحرَمِ الرفقَ يُحرَم الخيرَ كلَّه)) [3] ، وهو خطابٌ نبوَيّ جامِع لا يخرُج عنه شيءٌ.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا بهذا التَّشريع الربانيّ، والزَموا هذا الهَديَ النبوِيّ في كلِّ أحوالكم تَستَقِم أموركم وتبلُغوا غاياتِكم وتحظَوا برِضوانِ ربِّكم.
واذكروا على الدَّوامِ أنّ الله تعالى قَد أمَرَكم بالصلاةِ والسَّلام على خير الوَرَى، فقال جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6024، 6030)، وهو أيضا عند مسلم في السلام (2165) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (2593).
[3] صحيح مسلم: كتاب البر (2592).
(1/4666)
الجهاد والتكفير
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
فريد بن عبد العزيز الزامل السليم
عنيزة
26/2/1425
جامع السحيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الضروريات الخمس. 2- حفظ الأنس المعصومة. 3- الانحرافات في مفهوم الجهاد. 4- الخلط في قضية التكفير. 5- لتحذير من فتن الشبهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحمدوه على نعمه، وأعظمها هذا الدين القويم، الذي حفظ لكم به حقوقكم، فحفظ الضروريات الخمس، التي بحفظها يكون صلاح الدين والحياة، فحفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، ورتّبَ على من انتهكها عقوباتٍ رادعة، بحسب قَدر جريمته ونوعها ومقدار قصده لفعهلها، وإنَّ من أعظهما حق النفس، فمن اعتدى على أخيه المسلم أو على المعاهد والمستأمن متعمدًا فقد اقترف ذنبًا عظيمًا، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، جاء في صحيح البخاري أن النبي قال: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) ، وقد جعل عليه الصلاة والسلام قتل النفس إحدى السبع الموبقات أي: المهلكات، وحصر عليه الصلاة والسلام موجبات قتل النفس بثلاثة أسباب، فقد جاء عنه في الحديث المتفق عليه أنه قال: ((لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
أيها الإخوة، إن الشيطان ليزين للعبد السوء فيراه حسنا، وإن من العجب أن تنتهك حرمات الله بإزهاق الأنفس البريئة وإخافة القلوب المطمئنة والإخلال بالأمن باسم الدين، إنها أفكار جانحة ورؤى عشواء، سبحان الله! كيف يرى ذلك دينًا وجهادًا؟! أو كيف يُرى ـ على الأقل ـ ذلك عذرًا مبيحًا؟! فسبحان مقلب القلوب.
أيها الإخوة، إن الفئة التي تقدم على هذه الأعمال من التفجير واستحلال قتل المسلمين، إنها فئة تبنت فكرًا فاستندت إليه، واستمدّت منه أحكامها وأفعالها، وإن أنجع علاج لتصحيح الفكر أن يقابل بالفكر، حتى يقضي عليه، فقد لا يقضي عليه السلاح ولا التهديد والتضييق، بل إن ذلك قد يزيده، ويكون دِعاية له وإشهارًا، ومدعاة للتعاطف مع ذويه، وإنَّ الواجب علينا جميعًا أن نطلب الحق، ونتعلم العلم النافع ليصحّح كلٌّ منا منهجه وفكره وسلوكه.
أيها المسلمون، إن ثمةَ قضايا كثُر الخلط فيها في هذا الزمان، بسبب الفتن المحدقة وقلة العلم الشرعي، وبسبب الواقع المحزن للأمة، فأحدث الخلط فيها والجهل انحرافات ومصائب، ومن تلك القضايا قضية الجهاد في سبيل الله، فإنها قضية عظيمة، غلا فيها بعض الناس، فأرادوا الجهاد، في وقتٍ لم تكتمل فيه شروطه، فإن من الشروط المهمة القدرة عليه؛ لأن الله تعالى رحيم بعباده، لا يكلّفهم إلا ما يسعهم، ولذا لم يشرع الجهاد في مكة حينما كان المسلمون في وقت ضعف وقلّة، فلما كان للمسلمين شوكة أمرهم به، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة، كما أنه تعالى خفف عن عباده، فأجاز للمسلمين أن يفرّوا إذا كان العدوّ أكثر من ضعفهم، قال تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، جاء في تفسير ابن كثير فيما ينقله عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفرّوا، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم الفرار. (تفسير القرآن العظيم 2/428).
وفي مقابل الغلو في الجهاد يعطّل فئام من الناس هذه الفريضة، بترديدهم أن (لاَ إكراهَ في الدين)، وأن الإسلام دين السلام والأخوة والتسامح، وهذا صحيح، ولكن لكلٍّ وقته وزمانه، فإذا كان للمسلمين القدرة على الجهاد وجب عليهم إعلاءً لكلمة الله ونشرًا لدينه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. فإذا فتحت البلاد وصارت تحت إمرة المسلمين فلا إكراه في الدين وقتئذ، فمن لم يرد الدخول فيه فلا يجبر، ولكن تؤخذ منه الجزية حسب استطاعته واقتضاء المصلحة لذلك.
عباد الله، وإنّ من القضايا التي اختلط فهمها على الناس قضية التكفير؛ إذ حكمت بعض الطوائف بكفر كلّ من ارتكب أمرًا مكفِّرًا، ونسب إلى بعض علماء أهل السنة أنهم يكفّرون المسلمين، ومرجِع الخطأ والخلط في هذه القضية ـ والله أعلم ـ إلى أمر مهم، وهو عدم التفريق بين تكفير المقالة أو الفعل وتكفير العين، فإذا قيل: إنّ من فعل ذلك الفعل أو قال ذلك القول فإنه يكفر فليس معناه أن فلانًا الذي قاله كافر، فلا يحكم بكفره إلا بعد قيام الحجة مِن تحقق شروط الكفر وانتفاء موانعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن بعض الغلاة من أهل الفرق: "والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها والتي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول أنها كفر، وكذا أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين فهي كفر أيضًا، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم المقتضي الذي لا معارض له... ولهذا لم يحكم النبي بكفر الذي قال: إذا أنا متّ فأحرقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبنّي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، مع شكّه في قدرة الله وإعادته" اهـ. (مجموع الفتاوى 28/500).
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معين من استعانه، وناصر من ينصره، أحمده وأشكره، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به وتوكلوا عليه، واسألوه أن يعصمكم من الفتن، فإن أعظم ما يعصف بالدين أن يفتن الإنسان فيه، بأن يُزَيَّنَ له السوء، فيرى الحق باطلاً، والباطل حقًا، أو أن يشتبه عليه الأمر فيعمل بالهوى، أو يتّبع أصحاب الهوى فيضلّ ويزلَقَ في مزالق المعصية والخطيئة، نسأل الله أن يحفظ عقولنا وأفكارنا من الغيّ والظلم والضلال، اللهم إنا نسألك أن تهدي ضالّ المسلمين، اللهم اهد ضالّ المسلمين، اللهم اكفنا شرّ كلّ صاحب شرّ، اللهم احفظ ديننا وأمننا وعافيتنا وبلادنا.
اللهم إنا نسألك في هذا المقام أن ترحم إخواننا الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا، اللهم ارحمهم، اللهم اغفر لهم، وأصلح ذرياتهم، واجعلهم خلفاء صالحين، اللهم اجبر كسر والديهم وأراملهم يا أرحم الراحمين.
عباد الله، وإن من الخلط العظيم والخطأ البين أن يتَّهم بالإرهاب والعدوان من يدافع عن دينه وكرامته وحريته، إنها مآسٍ ظاهرة ومصائب ونكبات، طالت الأمة لما هانت على الناس، نسأل الله أن يعين المسلمين على رفع الهوان عن أنفسهم، اللهم أعنا على أعدائنا، اللهم أيّد إخواننا المسلمين في العراق وفي فلسطين وفي سائر بلاد المسلمين، اللهم دمّر من اعتدى على إخواننا المسلمين من اليهود والنصارى والمنافقين والملحدين، اللهم بدِّل قوّة أمريكا التي سلطَتها على عبادك المؤمنين، اللهم أبدلها ضعفا، وبدل أمنها خوفا، اللهم وكلّ من شايعها وأمدّها، اللهم احفظ شبابنا، اللهم اهدهم للتفقّه في دينك، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
عباد الله، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ عباد الله ـ وسلموا على أزكى البرية أجمعين، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم...
(1/4667)
الوطنية في الإسلام
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
محمد بن عبد الله الخضيري
بريدة
جامع الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الوطن فطرة فُطر عليها الإنسان. 2- الحنين والشوق للوطن الأول. 3- وصف الجنة. 4- حقيقة الدنيا. 5- أعداء الوطنية. 6- مقومات الوطنية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد فطر الإنسان على أمور عديدة، من تلك الأمور أن يحبّ المرء ماله وولده وأقاربه وأصدقاءه، ومن هذه الأمور كذلك حبّ الإنسان لموطنه الذي عاش فيه وترعرع في أكنافه، وهذا الأمر يجده كل إنسان في نفسه، فحب الوطن غريزة متأصّلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجِم، ويغضب له إذا انتُقص.
ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإنّ حنين الرجوع إليه يبقى معلّقًا في ذاكرته لا يفارقه، ولذا يقول الأصمعي: "قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدًا، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبًا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعًا".
وهذا الأمر ـ وهو حب الإنسان لوطنه ـ غريزة في بني الإنسان، وجدها أفضل الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، فقد أخرج الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لمكة: ((ما أطيبكِ من بلد، وما أحبكِ إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيركِ)) صححه الألباني في صحيح الجامع (7089).
فهو يحب مكة حبًا شديدًا، كره الخروج منها لغير سبب، ثم لما هاجر إلى المدينة واستوطن بها أحبها وألفها كما أحبّ مكة، بل كان يدعو أن يرزقه الله حبَّها كما في صحيح البخاري: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد)) ، ودعا عليه الصلاة والسلام بالبركة فيها وفي بركة رزقها كما دعا إبراهيم لمكة. ونلاحظ أنّ حب النبي متأثر بالبيئة التي عاش فيها، فقد كان يحب مكة ويحنّ إليها، ثم لما عاش في المدينة وألفها أصبح يدعو الله أن يرزقه حبًا لها يفوق حبه لمكة.
وكذلك كان رسول الله إذا خرج من المدينة لغزوة أو نحوها تحركت نفسه إليها، فعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته ـ أي: أسرع بها ـ وإذا كانت دابة حركها. رواه البخاري. قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: حركها من حبها.
قال ابن حجر في الفتح والعيني في عمدة القاري والمبارك فوري في تحفة الأحوذي: "فيه دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
وفي صحيح البخاري: لما أخبر ورقة بن نوفل رسول الله أن قومه ـ وهم قريش ـ مخرجوه من مكة، قال رسول الله : ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)) قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزَّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
قال السهيلي رحمه الله: "يؤخذ منه شدّة مفارقة الوطن على النفس؛ فإنّه سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحرّكت نفسه لحبّ الوطن وإلفه، فقال: ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)).
أيها الأحبة، إن الحديث عن الوطن والحنين إليه وحب الوطن يذكّر المؤمن بالله تبارك وتعالى بالوطن الأول ألا وهو الجنة. نعم، ذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همّه التزود بما ينفعه عند العود، فمن حين خلق الله آدم عليه السلام وأسكنه هو وزوجته الجنة ثم أُهبط منها ووعد بالرجوع إليها وصالحو ذريتهما.، فالمؤمن أبدا يحنّ إلى وطنه الأول، وحب الوطن من الإيمان.
قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية:
فحيّ على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّم
ولكننا سبي العدوّ فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم؟
وقال أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الْحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزلِ
وكان على بن أبي طالب يقول: (إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النُّقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دارَ إقامة ولا وطنا فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه الأول، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصّى النبي ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين".
ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار أينما حلّ منها فهو في دار غربة، كما قال النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) أخرجه البخاري.
واعلم ـ أيها المؤمن ـ أن هذه الغربة سرعان ما تنقضي وتصير إلى وطنك ومنزلك الأول، وإنما الغربة التي لا يرجى انقطاعها هي الغربة في دار الهوان، حينما يسحب المرء على وجهه إلى جهنم والعياذ بالله، فيكون بذلك قد فارق وطنه الذي كان قد هيّئ وأُعد له، وأُمر بالتجهيز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا الاغتراب عنه ومفارقته له، فتلك غربة لا يرجى إيابها ولا يجبر مصابها.
فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكن الأبوين ودار الخلد والنعيم، قال الرسول : ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)) أخرجه البخاري، وقال الرسول واصفًا الجنة: ((لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)) أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع، وفي الصحيحين أن الرسول قال: ( (أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) ، وفي الصحيحين أن رسول الله قال: ((في الجنة خيمةٌ من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)) ، وفي الصحيحين قال رسول : ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)) ، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال الرسول : ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) ، وعند أحمد في مسنده قال رجل: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: ((شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) ، وقال رسول الله : ((ألا مشمر للجنة؟! فإن الجنة لا خطر لها، هي ـ ورب الكعبة ـ نور يتلألأُ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة، في مقامٍ أبدًا في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٍ وخضرةٍ وحبرة ونعمةٍ، في محلة عاليةٍ بهية)) أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان.
عباد الله، يقول ربنا تبارك وتعالى واصفًا لنا حقيقة الدنيا وحقارتها ودناءتها؛ حتى نستعد ونتأهب لدار القرار، جعلنا الله وإياكم وسائر المسلمين من أهلها، اللهم آمين: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، وقال تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وقال سبحانه وتعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور [الحديد:2]. وعند البخاري أن الرسول قال: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)).
فحي على جنات عدن فإنَّها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم
أيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عما قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بِما جنى كذاك على فيه المهيمن يختم
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، وإنه مما ينبغي عند الحديث عن الوطن والحنين إليه أن نحذر من أُناسٍ وفئةٍ مِن الذين يدعون حبّ الوطن، ويدندنون دائما حول الوطنية وحبّ الوطن وضرورة الانتماء إليه، وهم أضرّ الناس على الوطن وأهله، يريدون لنا الفساد والوقوع في شباك الفاحشة والرذيلة، ويهدفون إلى أمور منها:
1- تقليص المواد الشرعية وتقليل نصابها في الحياة الدراسية التعليمية.
2- منع تدريس النصوص التي تذكّر أبناء المسلمين بعداوة اليهود والنصارى للإسلام وأهله، وطمس عقيدة الولاء والبراء في المناهج التعليمية.
3- السعي الجاد إلى اختلاط التعليم بين الرجال والنساء.
4- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات.
5- السعي الحثيث لموضوع قيادة المرأة للسيارة، ودائما ما تجدهم يردّدون: حقوق المرأة، المرأة إنسانة، ونحو هذه العبارات.
فهل من الوطنية الحقيقية والانتماء الجادّ للوطن حبّ إشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين بدعوى الترفيه والتنشيط السياحي وعبر بوابة الاحتفالات الموسمية والفعاليات العائلية؟! وهل من الوطنية إغراق المجتمعات بطوفان من الفضائيات المخلة بالآداب والحشمة والعفة والتي لم تجلب للأمة إلا العار والدمار؟! وهل من الوطنية إغراق الأوطان الإسلامية بملايين السياح الأجانب من ذوي العقائد الوثنية أو اللادينية، فضلاً عن اليهود والنصارى، فيتصدّع جدار الولاء والبراء، وتُلتقط الصور التذكارية الجماعية لمسلمين وكفار؟!
فهؤلاء أساؤوا في إدراك الكيفية الحقيقية لحب الوطن، فجعلوها ألحانًا وترانيم وطقوسًا وشعارات لا تمت إلى الوطنية الصحيحة بصلة، فنشأت أجيالٌ هزيلةٌ في ولاءَاتها، ساذجة في مخزونها الفكري بل والعاطفي، فالحب الحقيقي للوطن هو الذي يُقدّس العقيدة ويرسخها في الأجيال، فينشأ عنها حبّ الوطن لإيمان أهله وإسلامهم، وخلوّ أرضهم من مظاهر الشرك والبدعة.
إنّ الحبّ الحقيقي للوطن لا يمتّ إلى هذه المظاهر بصِلة، بل يتبرّأ منها أشدّ البراء وآكده؛ إذ إننا لا نفهم الوطنية الحقّة إلا عقيدة راسخة ومجتمعًا موحّدًا وشعبًا عفيفًا وقيادة راشدة، ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحِيد والإيمان، وأمن الأخلاق والشرف، وأمن المال والعرض والدم، قال الرب تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أيها المسلمون، إنَّ الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أمور منها:
1- الحرص الأكيد والعمل الجاد في نشر العقيدة الصحيحة لتعم أرجاء الوطن؛ كي يتمتع المواطنون بالإيمان الحقيقي بالله تعالى، ويصدقون في حُبه والاعتماد عليه وحده دون غيره، حتى إذا ما حاولت قوة في الأرض الاعتداء على دينهم وعقيدتهم أو استباحة أرضهم وأموالهم إذا بهم ينتفضون انتفاضة الأسد دفاعًا عن الدين والعقيدة، وذبًا عن الأعراض والأوطان، معتمدين على الله تعالى دون غيره، موقنين بأن قوته الباهرة كفيلة بهزيمة أي عدو غاشم وعقر كل جواَّظ غليظ وقهر كل صائل أثيم.
2- القضاء المحكم على أسباب الشرّ والرذيلة وعوامل الخلاعة والميوعة التي تغرق المجتمع في أوحال الفساد والخنا، فتنشأ الأجيال الشهوانية العابدة لملذّاتها ومتعها الرخيصة، بحيث يتعذر عليها القيام بأدنى دور ذي بال يحفظ لها كرامتها وشرفها عند تعرّضها للامتهان على يد عدو متربص وصائل حاقد؛ إذ إن تجفيف منابع الفساد والفتنة هو الكفيل بصنع الرجال الحقيقيين، المحبين لربهم ودينهم، المدافعين عن وطنهم المؤمن الموحد بصدق وعزيمة.
3- التواصل الحقيقي بين الأفراد والجماعات، وإزالة أسباب التفرقة والخلاف بين أفراد المجتمع، وقيام روح النصيحة والتعاون والتكاتف في وجه التيارات القادمة.
4- الانتظام التام في المحافظة على الآداب الشرعية والنظم العادلة المرعية التي تسعى إلى جمع الكلمة بين الراعي والرعية، سمعًا وطاعة بالمعروف، وأداء للحقوق والواجبات، كل فيما له وعليه.
5- وتتجلى المواطنة الصادقة في رعاية الحقوق واجتناب الظلم، وبالأخص الحقوق واحترام حق الغير، والسعي الجاد من كل مواطن مسؤول أو غير مسؤول لتأمين الآخرين على أموالهم وأنفسهم، ولا خير في وطنية تقدس الأرض والتراب وتهين الإنسان، فالوطن حقًا هو الإنسان الذي كرمه الله بالإنسانية وشرفه بالملة المحمدية.
6- وتتجلى كذلك في أداء الحقوق، بدءًا من حق الوالدين والأرحام، وانتهاء بحقوق الجيران والأصحاب والمارة. وكذلك الاستخدام الأمثل للحقوق والمرافق العامة التي يشترك في منافعها كل مواطن ومواطنة. تلك التي تكرس المحسوبيات وتستغل النفوذ وتتساهل في المال العام وكأنه كلأ مباح أو فرصة سانحة لا تؤجل.
عباد الله، ليس الشأن في الوطنية هو الاهتمام بقشورها ومظاهرها الخارجية، من تقديس لصورةٍ أو عَلَم مع امتهان أصولها الراسخة.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين...
(1/4668)
الابتلاء بالمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, الفتن, القرآن والتفسير, القصص
محمد بن سليمان الحماد
الرياض
جامع التركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بقصص القرآن. 2- قصة الذين اعتدوا في السبت. 3- دروس وعبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إليكم هذه القصة التي وثّقها لنا ربنا في كتابه العزيز؛ لنقف معها ونتدبّرها، فإن القصص في القرآن ما قصّها الله إلا للعبرة والتفكر، فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، يقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].
ذكر ابن كثير وغيره عن ابن عباس أن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى السبت، فعظموه وتركوا ما أمِروا به، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحلّ لهم في غيره، وكانوا في قرية حاضرة البحر يقال لها: أيلة بين مدين والطور، فحرم عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، فكانوا إذا كان السبت أقبلت عليهم إلى ساحل البحر شُرَّعا ظاهرة، حتى إنها لتخرج خراطيمها من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمت مقل البحر كشأن الأسماك، فلم ير منها شيء.
فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد، فعمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت، فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل، فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي: إني لم آخذه يوم السبت، فانطلق به فأكله ولعله شواه، فوجد الناس رائحته، حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، فتتبّعوا حتى عثروا على صنيع ذلك الرجل، ففعلوا كما فعل، وصنعوا ذلك سرا زمنا طويلا، فلم يعجّل الله عليهم العقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقال لهم طائفة منهم من أهل البقيّة: وَيحَكم اتقوا الله، ونهوهم عما كانوا يصنعون، فأجابوهم: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فصاحوا فيهم: إنما صيدكم يومَ وثقتموه، فقالت طائفة ثالثة قد سكتوا عن النهي والإنكار قالوا للطائفة الناهية الواعظة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أي: إنهم ارتكبوا جرما عظيما قد نهاهم الله عنه، وسنة الله فيمن خالف أمره معروفة، فقالوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: إعذارا إلى الله وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لعلهم يذكرون ويتوبون ويقلعون عن معصيتهم.
فلما أبوا وبغوا قال البقية: والله لا نساكِنكم، فقسموا القرية بجدار، وجعلوا لهم بابا، وللمعتدين بابا آخر، فبينما هم على ذلك أصبحت ذات يوم البقية في أسواقها ومساجدها ولم يروا المعتدين، فذهبوا ينظرونهم في قريتهم وحصنهم فإذا هم يتعادون ويثِب بعضهم على بعض قردة لهم أذناب، ففتحوا عليهم الباب فانتشروا في الأرض، فصار الأنسيّ لا يعرف نَسبَه من القردة، والقِردة تعرف أنسابها من الأناسي، فتأتي القردة إلى قريبها من الأنس، فتشمّ ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟! فتقول برأسها: بلى، وكان عددهم سبعين ألفا، وأنجى الله الذين ينهون عن السوء والمنكر، فمكث المعتدون ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم أماتهم الله جميعا.
الوقفة الأولى: لقد ابتلى الله أهل تلك القرية بنوع من البلاء قد غفل عنه الكثير من الناس اليوم؛ حيث إن الناس يحسبون الابتلاء نوعين: إما بالخير ورغد العيش، وإما بالشر والمصائب، ويستشهدون بقول الله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ويجهلون معناها، والحق أن هناك نوعا ثالثا هو أشد الأنواع وأخطرها، وقد رتب الله على من أخفق وخسر فيه عقوبة شديدة، ألا إنه الابتلاء بالمعاصي والفتن، فأولئك القوم قد نهاهم الله عن صيد السمك يوم السبت، فصار السمك في حقهم في ذلك اليوم معصية وإثما، ثم قربه الله إليهم ويسره لهم ليبتليهم ويختبرهم.
وقد قرر الله ذلك في آية أخرى، ومع قوم آخرين، لكنهم نجحوا في هذا الامتحان فكانوا خيرا من اليهود، وهم المسلمون أصحاب الرسول ، لما كانوا محرِمين بعمرة الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهو محرَّم على المحرِم، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94].
يقول ابن سعدي: "لقد ذكر الله الحكمة من ذلك الابتلاء فقال: ليعلم الله علما ظاهرا للخَلق يترتّب عليه الثواب والعقاب مَن يخافه بالغيب فيكف عمّا نهى الله عنه مع القدرة عليه وتمكنه منه فيثيبه الله الثواب الجزيل ممن لا يخافه بالغيب فلا يرتدع عن معصية تعرِض له فيصطاد ويقترف ما تمكن منه... والاعتبار بالخوف من الله بالغيب وعدم حضور الناس، وأما إظهار مخافة الله عند الناس فقد يكون لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك".
وتأملوا حالنا اليوم، كيف فتح الله علينا الدنيا فيسّر الله لنا اكتساب الأموال حلالها وحرامها، فكثر تجّار الربا ومثلهم تجار الحلال، ولقد تيسّرت لنا المعاصي اليوم بخلاف الأمس، فكثرت النساء المسيّبات مما أدّى إلى سهولة الزنا بأنواعه: زنا العين والرجل والفرج ونحوها، حتى صار الكثير منا يقول: لا ملامة علينا وعلى الشباب، أو إن الخرق اتّسع على الراقع، ونحو ذلك من الحجج الواهية الباطلة. وهذا والله عين الابتلاء، فلنحذر ولْنعِ الأمر ولننظر إلى الواقع نظرة صحيحة، فهل تحبون أن تكونوا كاليهود خسروا وفشلوا في الامتحان فأنزل الله بهم أشد العذاب أم تحبون أن تكونوا من المسلمين فتنجحوا وتفوزوا في الامتحان فيثيبكم الله الثواب الجزيل ويخفف عنكم ويرفع البلاء عنكم؟!
الوقفة الثانية: ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم السكوت عن المنكر بحجة أن النهي لا ينفع أو أن الأمر والنهي قد فات أوانه. ولقد مدح الله في هذه القصة الناهين عن السوء، وبين أنه تعالى أنجاهم من العذاب وشرّفهم بفضله، وسكت عن الساكتين الذين يقولون للواعظين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.
يقول ابن كثير: الجزاء من جنس العمل، فلما سكتوا عن الإنكار سكت الله عنهم، فلم يمدحهم ولم يذمهم، واختلف العلماء في حالهم: هل نجوا أم عوقبوا؟ فيقول ابن سعدي في المسألة: "والظاهر أنهم كانوا من الناجين؛ لأن الله خص الهلاك بالظالمين؛ لأن الأمر والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقلوبهم وببغضهم لصنيعهم حين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ، فأبدوا من غضبهم عليهم ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم" اهـ.
ولابن سعدي كلام جميل حول هذه الآيات وما بعدها، فيحسن مراجعته، وتأملوا هذا الموقف الجليل من الصحابي الجليل حبر هذه الأمة وترجمان قرآنها ابن عباس، فقد أخرج البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في آخر هذه القصة: (أرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكِروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها)، وكأنه رضي الله عنه يعاتب نفسه ويخوفها من عذاب الله على سكوته، فقال له عكرمة: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ؟! قال: فسري عن ابن عباس واطمأنت نفسه، وطمع في رضا ربه، فأمر به فكسِي ثوبين غليظين.
وعليه يكون الساكتون نجَوا بفضل الله، ثم بسبب إنكارهم بقلوبهم واكتفائهم بإنكار أصحابهم والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الوقفة الثالثة: لقد عذب الله اليهود الذين احتالوا على أمره وخادعوه وظنوا أنهم ناجون بذلك، وما علموا أن الحرام حرام ولو احتالوا عليه، ولقد حذرنا الرسول أن نكون مثلهم فقال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) قال ابن كثير: "إسناده جيد، ورجال ثقات".
ولقد احتال بعض الناس اليوم على ما حرّم الله في كثير من الأمور كالرياء والزنا والسفر المحرم، واحتالوا لأنفسهم لترك الدعوة إلى الله أو الحسبة أو الجهاد ونحو ذلك، فيجب الحذر حتى لا يصيبنا ما أصاب أهل أيلة.
عباد الله، وأما الوقفة الرابعة والأخيرة: فهي مع أولئك القوم الذين مسخهم الله قردة، هل تناسلوا أم لا؟ وكم مكثوا أحياء؟ يقول ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ـ أي: فواق ناقة، وهو مقدار حلب الناقة ـ ثم هلكوا، وما كان للمسخ نسل).
يقول ابن كثير: "ولقد خلق الله القردة والخنازير وسائر خلقه في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابة، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وهي معروفة قبل والله أعلم"، وبهذا يعلم خطأ قول القائل عن اليهود أحفاد القردة والخنازير، والصحيح أن يقال: إخوان القرَدة والخنازير تشبيها لأفعالهم، والله أعلم.
هذا وصلوا وسلموا...
(1/4669)
لماذا ندافع عن الحبيب ؟
سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الشمائل, جرائم وحوادث
خالد بن محمد العمري
المخواة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة محمد. 2- أخلاق المصطفى. 3- ثناء الله تعالى على نبيه. 4- حب الصحابة وأتباعهم للنبي. 5- جريمة الاستهزاء بالنبي. 6- من وسائل نصرة المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتَّقُوا الله حقّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، إن أعظم نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة العظيمة وأجل منة منّ بها عليها هي بعثة الرسول الكريم محمد كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فهدى الله به من الضلالة، وأنقذ من الجهالة، وفتح به أعينًا عميًا وآذانا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وقد وهبَه الله جل وعلا من كريم السجايا وجميل الصفات وحسن الأخلاق ما جعل القلوب تتعلّق به والنفوس تهفو لمحبته وإن لم تره، فهو أوفر الناس عقلاً، وأسدّهم رأيًا، وأصحهم فكرًا، أسخى القوم يدًا، وأجودهم نفسًا، أجود بالخير من الريح المرسلة، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وهب المئين وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا وينادي صاحبه: ((أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم وإباء: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
أعظم الناس تواضعًا، يخالط الفقير والمسكين، ويجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، لا يتميّز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة، ولا برسم من رسوم الظهور.
ألين الناس عريكة، وأسهلهم طبعًا، ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن محرمًا. وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدّهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادة، يتلقّى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار وينادي بأعلى صوته: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)).
أعفّ الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مفصّلة كالدرّ، مشرِقة كالنور، طاهرة كالفضيلة في أسمى مراتب العفّة وصدق اللهجة.
أعدلهم في الحكم، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة؛ يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله. أزهد الناس في المادة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا. أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان.
ولو لم يكن للنبي من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بمكافأته، ولا يوفي الناس حامله بعض جزئه.
ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلُق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعدُ لسعة، وفي المقام تفصيلاً. وسل التاريخ ينبئك هل مر به عظيم أعظم من النبي محمد ؟! لقد عصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجل مقامه أن تلصق به تهمة.
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول بنيّ الأمة الهادي
ورحم الله المادح حين قال:
محمدٌ المبعوثُ للناسِ رحمةً يشيد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبحت صم الجبال مجيبة لداود أو لان الحديد المصفّح
فإن الصخور الصم لانت بكفه وإن الحصى في كفه يسبّح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا فمن كفّه قد أصبح الماء يطفح
وإن كانت الريح الرخاء مطيعة سليمانَ لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا برعب على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملك العظيم وسخرت له الجن تسعى فِي رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها أتته فرد الزاهد المترجح
وإن كان إبراهيم أعطي خلة وموسى بتكليم على الطور يمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلم وخصص بالرؤيا وبالْحق أشرح
وخصص بالحوض العظيم وباللوا ويشفع للعاصين والنار تلفح
وبالْمقعد الأعلى المقرب عنده عطاء ببشراه أقر وأفرح
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها مراتب أرباب الْمواهب تُلمح
ولهو إلى الجنات أول داخل له بابها قبل الخلائق يفتح
يا أمة محمد، يا أتباع محمد، يقول الله جل وعلا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
من المتكلم؟ إنه الله، إنه الباري جل في علاه، ممن هذه الشهادة؟ إنها من الله العليم الحكيم، يصف حال نبينا وحبيبنا محمّد فيقول: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، يشقّ عليه الأمر الذي يشقّ عليكم، وانظر في سيرته ترى مصداق ذلك جليًا واضحًا، ألم يراجع ربه في فرضية الصلاة حتى جعلها الله خمسًا بدلاً من خمسين؟! ألم يمتنع عن الخروج إلى أصحابه بعد أن صلى بهم ليالي معدودة في رمضان حتى لا تفرض على أمته؟!
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ ، يحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه، فكم دعا، وكم حذر وأنذر، وتحمّل في سبيل ذلك المتاعب والأذى والإهانات وهو يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ، ولم يمت إلا وقد بلّغ الدين كله، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته.
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ، فهل عرف التأريخ كلُّه أرأف أو أرحم من محمّد ؟! لهذا كان حقه مقدمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره ومحبته، ومحبته يجب أن تولِّد في صدرك الهيبة له والإجلال لشخصه والإجلال لسنته.
لقد كان أصحاب رسول الله من شدّة محبتهم له وعظيم هيبته في صدورهم لا يجرؤون على رفع أبصارهم في وجهه مهابة وإجلالاً، ولا يجرؤون على سؤاله إلا نادرًا مهابة وإجلالاً.
ومضى على ذلك الهدي التابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام، إذا ذكر النبيّ أو ذكرت سنته تغشاهم محبته وتحضرهم هيبته.
كان الإمام مالك رحمه الله تعالى إذا ذكر النبي في مجلسه يتغيّر وجهه، وينحني من مهابة رسول الله حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك، أي: أنكر عليه بعض جلسائه هذه الحال، فقال: "لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم عليّ ما ترون؛ لقد رأيت محمد بن المنكدر سيّد القراء لا نكاد نسأله عن حديث رسول الله إلا بكى حتى نرحمه، ورأيت ـ جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم ـ إذا ذكر النبيّ عنده يتغير لونه وتذهب دعابته وتبسمه من إجلاله لرسول الله ، ورأيت الزهري ـ وإنه لمن أهنأ الناس وأقربهم ـ إذا ذكر رسول الله فكأنه ما عرفك ولا عرفته مما تحضره من مهابة رسول الله ".
يا أمة محمد، يا أتباع محمد، أرأيتم ما فعل كفار الدانمارك وتجّارهم من استهزاء علنيٍّ صريح بمقام حبيبنا وإمامنا محمد منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وهم يرسمون الكاريكاتيرات السّاخرة والتعليقات السخيفة الوقحة وقاحة الكفر وأهله، يظهرون فيها نبيّنا وإمامنا وحبيبنا وشفيعنا بأقبح منظر وأشنع صورة، عليهم لعائن الله المتتابعة.
ثم في أيام عيد الأضحى أيام بهجة المسلمين وسرورهم وأدائهم لنسك عظيم تأتي جريدة نرويجية لتنكأ الجراح، وتعتدي على عرض حبيبنا وإمامنا، فتعيد نشر تلك الصور الوقحة الآثمة؛ لتبين لنا ما في قلوب القوم من حقد دفين على هذا الدين الحق ونبيه الكريم وأتباعه الموحدين. فأي حياة تصفو لنا وقد نيل من عرض حبيبنا؟! وأي عيش يطيب لنا وقد اعتدي على كرامة إمامنا وقدوتنا؟! وأي قيمة لنا في هذا الوجود كله وقد انتقص من الجناب النبوي الكريم؟! من نحن من أمة المليار قبل محمد ؟! والله، لا خير فينا إن لم نثأر لنبيّنا، ولَبَطن الأرض أحبّ إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحقّ وندافع عن رسول الحق ونفديه بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وأرواحنا ودمائنا، لسان حالنا ومقالنا لكل شانِئ ومبغض ومستهزئ بالحبيب الأعظم :
هجوتَ محمدًا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتَهجوه ولست له بكفء فشرّكما لخيركما فداء
هجوت مباركًا برًا حنيفًا رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبِي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وإنا والله لننتظر سنة الله جل وعلا في هؤلاء المستهزئين بحبيب ربّ العالمين، فقد مضت سنته فيمن يؤذي رسوله أنه إن لم يجازَ في الدنيا بيد المسلمين فإنّ الله ينتقم منه ويكفيه إياه، قال الله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، سواء كانوا من قريش أو من غيرهم.
قال ابن عباس في الآية السابقة: (المستهزئون: الوليد بن المغيرة والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل، فأتاهم جبريل فشكاهم إليه رسول الله فقال: أرني إياهم، فأراه كلّ واحد منهم وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول: كفيتكه، والنبي يقول: ما صنعتَ شيئًا، فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بَني ألا تدفعون عني؟! قد هلكت وطعنت بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فلم يزل كذلك حتى عمت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته).
ولما مزق كسرى كتاب رسول الله مزّق الله ملكه وقتل على يد أقرب الناس إليه. ومقابل ذلك قيصر ملك الروم لما أكرم كتاب رسول الله ثبّت الله ملكه، وذكر الإمام ابن حجر عن سيف الدولة فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مصفّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير، فقال: "هذا كتاب نبيّكم إلى جدّي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا".
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: كان رجل نصرانيًا، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه).
قال شيخ الإسلام معلقًا على ذلك: "وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد أن هذا كان عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبًا... ثم قال: وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة، قالوا: كنا نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا، حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسبّ رسول الله والوقيعة في عرضه تعجّلنا فتحه وتيسّر، ولم يكن يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيه ملحمة عظيمة".
ولعل وقيعة هؤلاء الكفرة في النبي الكريم مشعِر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها؛ فإنهم ما سلكوا سبيل الانتقاص والشتم إلا بعد أن دمغتهم حجّةُ الإسلام بقوّة أدلته وبراهينه، فعجزوا عن مقارعة الحجّة بالحجة، ورضوا سبيل الخِسّة والدناءة من السبّ والشتم والانتقاص.
وإن هؤلاء الكفرة الأنجاس الذين تعدّوا على المقام الطاهر الكريم إن لم تمض فيهم سنة الله في هذه الدنيا فحسبهم من خزيها ونكالها لعنات المسلمين ودعوات الموحدين الذين لن يغفروا لمن أساء لنبيّهم وحبيبهم وإن تعلق بأستار الكعبة، وأما الآخرة فلهم اللعنة ولهم سوء الدار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيجب على كلّ مؤمن يحب الله ورسوله أن يقوم بحقّ النصرة للرسول الكريم بكل ما يستطيعه، ولعلّي أذكر بعض وسائل النصرة على مستوى كل فرد منا:
وأول أمر في مقدورنا جميعًا ولا يكلّفنا شيئًا هو المقاطعة لجميع منتجات الدنمارك والنرويج نصرةً للحبيب محمد وعِرضه المنتقَص من قبل هؤلاء الذين ندعمهم بأموالنا ثم هم لا يبالون بنا ورفضوا حتى الاعتذار.
ثانيًا: المشاركة من كل واحد بمقالة أو قصيدة ينشرها في الجرائد أو المجلات أو المواقع الإلكترونية دفاعًا عن حبيبه ونشرًا لهديه وسنته.
ثالثًا: عقد لقاء أسريّ حول هذه القضية والتعريف بمكانة نبينا محمد وحقوقه وتشجيع أفراد الأسرة على واجب النصرة والدفاع عن نبينا الكريم.
رابعًا: شراء الكتب التي تتحدث عن سيرته العطرة وأخلاقه وشمائله وقراءتها أو سماع الأشرطة التي تتحدث عن سيرته. وما أجمل لو استطاع القادر منا التكفل بتوزيعها على نفقته يبتغي بذلك نصرة نبينا محمد.
خامسًا: دعم الجمعيات التي تناصر الرسول الكريم ماديًا ومعنويًا.
سادسًا: مؤازرة إخواننا المسلمين هناك بالدعاء لهم فيما يقومون به من جهود للتغلب على هذه الهجمة الدنيئة.
سابعًا: إن من أعظم النصرة للرسول الكريم ترسّم هديه ومنهجه قولاً وعملاً، وأن يكون حبنا صادقًا يثير المتابعة والتأسي، ولا ننسى هنا أن نشيد بموقف هذه الدولة المباركة من سحب سفيرها احتجاجًا على الإساءة، آملين أن تحذو بقية الدول الإسلامية حذوها.
فيا رب، يا رب، يا رب، إنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أننا أحببنا عبدك ورسولك محمدًا فيك، فارزقنا شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم انصر دينك وسنة نبيك وأعنّا على نصرة حبيبنا محمد ووفقنا وسدّدنا يا كريم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4670)
آل البيت
قضايا في الاعتقاد
آل البيت, الصحابة
خلف بن حمود الشغدلي
المدينة المنورة
22/11/1418
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام. 2- وجوب محبة أصحاب النبي. 3- فضائل أصحاب النبي. 4- انحراف الروافض والنواصب في هذا الباب. 5- وجوب حب آل بيت النبي. 6- موالاة زوجات النبي. 7- المفاضلة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أوصيكم ونفسي ـ أيها المسلمون ـ بتقوى الله في السر والعلن, وأسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ثم أما بعد: يقول شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله كما وصفهم الله به في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وطاعة للنبي : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة ولإجماع من فضائلهم ومراتبهم.
ويفضّلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، ويقدّمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وبأنه لا يدخل النار أحدا بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي ، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة، ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار... ـ ثم قال: ـ ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله، ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولّونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) ، وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي))...
ثم قال: ويتولّون أزواج رسول الله أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصًا خديجة رضي الله عنها أمّ أكثر أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصِّدِّيقة بنت الصديق رضي الله عنهما التي قال فيها النبي : ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجرة بين الصحابة" انتهى كلامه.
أيها الناس، إن ما مضى من كلام شيخ الإسلام كلام عظيم، وهو من أعظم الأصول التي يعتقدها أهل السنة والجماعة والدين الحق.
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهية، وسلامة الألسن من كل قول لا يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي ، ويفضّلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله، ومحبة رسول الله من محبة الله، وألسنتهم سالمة من السب والتفسيق واللعن والتكفير.
سبحان الله! كيف يكون هذا وهم خير القرون في جميع الأمم كما صح وصرح به رسول الله حيث قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) متفق عليه. كيف يكون هذا وهم الواسطة بين رسول الله وبين أمته، فمنهم تلقَّى المسلمون الشريعة. سبحان الله! أنُسِي ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة؟! أنسي ما قاموا به من نشر الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب؟!
ووالله رب العالمين، لا يعرف هذا إلا من هداه الله وتجرد من الهوى وعاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم واستجابتهم لله ولرسوله.
فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت, بل نرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله. ووالله، لو كان يعقل أهل الضلال والهوى لعلموا أن القدح بأصحاب النبي إنما هو قدح في النبي ، بل وفي علي.
كيف يعقل أن يؤمّر النبي على الحجّ وغيره من يعلم أنه كافر؟! إن من قال هذا فقد زعم أن النبي خائن والعياذ بالله. كيف يطعن في رجلين هما في حياته وزيراه، ومن بعد مماته ضجيعاه؟! وكيف يعقل أن يبايع أبا الحسن أمير المؤمنين وسيّد الشجعان وليث الوغى بحر العلوم من ليس بأهل لخلافة النبي.
ويا ليت أن أهل الغواية والضلال يعلمون بأن تكفير معاوية رضي الله عنه والطعن فيه إنما هو طعن ورمي بالخيانة لسيد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله الحسن بن علي، فكيف يتنازل عن الخلافة العظمى لرجل كما زعموا؟! اللهم إنا نبرأ إليك مما يقول هؤلاء الضالون، ونعوذ بك اللهم من حالهم ومآلهم.
عباد الله، إن ما سبق من كلام شيخ الإسلام لا يكفي لشرحه خطبة ولا خطبتان، ولكنني أتكلّم عما تيسر ورأيت الحاجة إليه داعية مع أنه كله مهمّ.
أما قوله: "ويحبون أهل بيت رسول الله " أي: من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله ، ويحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله ، ولا يكرهونهم أبدأ. ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: إن كل من أحب أبا بكر وعمر فقد أبغض عليًا، وكأن أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب، مع أنه تواتر النقل عنه رضي الله عنه أنه كان يثني عليهما على المنبر، بل قال: (والله، لا يزعم أحد أنني أفضل من أبي بكر وعمر إلا جلدته حدَّ الفرية).
فنحن نقول أيها الناس: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.
وليُعلَم أنَّ مِن أهل بيته أزواجَه بنصّ القرآن، فقد قال تعالى بعد السياق الذي فيهن: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، فهن داخلات في أهل بيته بلا ريب.
وأخصّ الآل والقرابة فاطمة الزهراء وعلي والحسن والحسين والعباس وأبناؤه رضي الله عن الجميع.
فنحن نحبهم لقرابتهم ولإيمانهم، أما الكفار من آله كأبي لهب فلا يجوز بحال من الأحوال أن نحبَّه، بل يجب علينا أن نكرهه لكفره ولإيذائه للنبي ، وكذلك أبو طالب نكرهه لكفره، لكننا نحب أفعاله التي أسداها إلى رسول الله من الحماية والذبّ عنه، وبها شفع له، فهو أدنى أهل النار عذابا، فهو في ضحضاح من النار، كما قال الصادق البار.
وقوله رحمه الله: "ونواليهم" أي: أننا نناصرهم ونعاضدهم ونصدق لهم في المحبة.
وأما قوله : ((أذكركم الله في أهل بيتي)) فقد قاله في غدير خم، وغدير خم موضع في الطريق بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل فيه الرسول منزلا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس فيه، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله وفيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ، فحث على كتاب الله وغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) رواه مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
وقوله : ((أذكركم الله)) أي: أذكِّركم وأخوّفكم انتقامه إن أضعتم حقّ آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم بحقهم.
إذا فعقيدة المسلمين الحقة وعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يبرؤون ممن يغلو فيهم، كما غلا السبئيّة في عليّ حتى ألهوه، فحفر وشمّر وحرقهم بالنار، والقصة مشهورة معلومة.
أيها الناس، لقد أطلت عليكم الكلام، والوقت يمضي بسرعة، وللحديث بقية في الخطبة الثانية إن شاء الله.
يقول الصادق المصدوق: ((كل ابن ادم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
فاستغفروا الله أيها المسلمون، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أحصى كل شيء عددا، ورفع بعض خلقه على بعض فكانوا طرائق قددا، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده ولم يكن له شريك في الملك ولا يكون أبدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أكرم به عبدا سيّدا، وأعظم به حبيبا مؤيّدا، فما أزكاه أصلا ومحتِدا, وأطهره مضجعا ومولِدا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتدا وأئمة الاقتِدا، صلاة وسلاما خالدا مؤيدا.
أما بعد: قال الشيخ رحمه الله: "ويتولون أزواج رسول الله أمهات المؤمنين"، قوله: "أمهات المؤمنين" هذه صفة لأزواج رسول الله، فأزواجه أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، فنحن نتولاّهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض؛ لأنهن زوجات الرسول.
وهن الطيبات المطيبات، وما كان الله يختار لمحمد إلا الطيب من النساء، الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]. فهن المبرَّءات من كل عيب وكل ريب، ومن تكلم في واحدة منهن أو كلهن كمن تكلم في عائشة الصديقة بنت الصديق أو أبغضها فليست له أمًّا، وجعل نفسه محادّا لله ولرسوله، مَن قذفها وقد برّأها الله من فوق سبع سماوات بوحي يتلى إلى يوم القيامة فقد مرَق من الدين وقال بالإفك المبين.
عباد الله، إن أعظم أزواج رسول الله قدرا ومنزله خديجة وعائشة رضي الله عنهما، قال بعض العلماء: المنزلة لخديجة ثم عائشة، وقال آخرون: بل عائشة أفضل، والحق أن لكل منهما مزية وفضيلة لم تلحقها الأخرى، فخديجة رضي الله عنها في أول الرسالة حصلت على مزايا لم تكن لغيرها من حبّ النبي لها وحبها له ونصرته بالمال والقال والذبّ عنه بالنفس والنفيس، وكانت أم أولاده كلهم إلا إبراهيم، فأنى لأحد من أمهات المؤمنين هذه المزايا؟! وكان للصديقة عائشة في آخر الرسالة مزية لم تكن لغيرها من قيامها بشؤون النبي وإسعادها له والقيام على خدمته على أحسن حال وشغف النبيّ بها بل وتمريضه عندها، وآخر ذلك موته على صدرها، ثم ما تلا ذلك من وقفها لنفسها رضي الله عنها لنشر العلم والسنة وما تعلم من أحوال النبي. فخديجة أفضل من جهة، وعائشة أفضل من جهة، وبهذا التفصيل يكون التحصيل.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وجميع أصحابه، اللهم ارزقنا محبته على الوجه الذي يرضيك عنا ومحبة آله ومحبة أصحابه...
(1/4671)
فقه الأولويات
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عدنان بن أحمد السيامي
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أولويات الدعوة كما في حديث معاذ. 2- مراعاة حال المدعوين. 3- تقديم الكيف على الكم في الدعوة. 4- تقديم العلم على العمل. 5- عبادة الوقت.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لما أراد النبي أن يبعث معاذًا إلى اليمن رسولاً منه إليهم قال له: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب؛ فليكن أوّل ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيّهم فترد على فقيرهم، فإذا أقرّوا بذلك فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس)) متفق عليه.
أوّل واجب على المكلف وقتما يكلف أن يفرد الله تعالى بالعبادة ويوحده بها؛ لأنه المستحق لذلك سبحانه، وإن معرفة الله في قلب كل عاقلٍ مستقرّة، والواجب إنما إفراده سبحانه بما يستحقه من العبادة. فهذا النبي يأمر معاذًا رسوله إلى أهل اليمن أن يدعوهم أوّل ما يدعوهم إليه إلى عبادة الله سبحانه وحده، وفي رواية: ((إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فلا يكون المسلم مسلمًا بدونها)) رواه البخاري.
ثم يأمرهم بعد ذلك أن يقيموا عمود الإسلام الذي لا يتصوّر قيام الإسلام بدونه وهو الصلاة، قال : ((بين الرجل وبين الشرك والكفر تركُ الصلاة)) رواه مسلم، وقال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر)) رواه الترمذي والنسائي.
ثم أمره أن يخبرهم بأن لإخوانهم الفقراء حقًا في أموالهم جعله الله لهم، وأنه يكون طهرة لأموالهم وزيادة في إيمانهم واطمئنانًا في قلوبهم، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103].
ثم حذره من الظلم، وأخبر أنه ليس بين الله وبين دعوة المظلوم حجاب، فإنها إذا ارتفعت إليه سبحانه يقسم لها قائلاً: ((وعزّتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه أحمد والترمذي.
عباد الله، إنّ في هذا الحديث النبوي الشريف فقهًا قلّما يُتنبه له، ألا وهو فقه الأولويات. إن هذا الفقه فقه الأولويات جاء محلّ عناية من الشرع في أكثر من موضع، مما يدل على أهمية فيه ينبغي أن تراعى. ففي هذا الحديث على سبيل المثال ينبغي مراعاة الأولويّة في دعوة الناس إلى دين الله، وأنه يبدأ في دعوتهم بالأهمّ فالمهم.
فهذا أسلوب من أساليب الدعوة؛ مراعاة حال المدعو، والبدء معه بالأهمّ فالمهمّ، ولذلك اختلفت أجوبة النبيّ لمن سأله عن أي الأعمال أحب إلى الله، وهذا الاختلاف في الإجابة بحسب اختلاف حال السائل، فيجيب سائلاً: الصلاة لوقتها، بر الوالدين، الجهاد في سبيل الله، وأجاب آخر: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله، وحجٌ مبرور. متفق عليه.
قال ابن حجر الفتح (1/78): "اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب بأن لفظ (من) مراد في كل منهما، وقيل: وقع باختلاف الأحوال والأشخاص، فأجيب كل سائل بالحال اللائق به".
وفي هذا الباب أيضًا ـ إخوة الإيمان ـ نجد في مثل قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24]؛ إرشادًا إلى جانب من تطبيقات هذا الفقه، ألا وهو مراعاة واعتبار الكيف على الكم في الدعوة والتربية للمدعوّين.
قال : ((إنما الناس كالإبل المائة؛ لا تكاد تجد فيها راحلة)) رواه البخاري، قال ابن بطّال: "معنى الحديث أن الناس كثير، والمرضيُّ منهم قليل". وعليه فالدعوة يجب أن تكون التربية الجادة هي السمة البارزة فيها، والتربية الجادة هي المنتجة، وهي التي تقوم بالمهام الكبيرة، بل لا تناط إلا بأصحابها، بل هل قام ـ إخوة الإيمان ـ الإسلام وانتشر إلا على يد الرعيل الأول الذين رباهم محمد ، أولئك النفر الذين رفعوا سيوفهم حين ارتدت الجزيرة، وأصلتوها، فرجعت إلى حياض الإسلام. ومن هنا يتبين لنا خطأ كثير من الجماعات الإسلامية التي تقوم دعوتها على سياسة التجميع.
ولا يؤكد لنا ـ إخوة الإيمان ـ ازدحام الجماعات الإسلامية وكثرة أتباعها مع غياب التأثير الإيجابي منها على أفرادها إلا مصداقية حديث النبي : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) رواه أحمد وأبو داود.
فقوة المنهج والجدية في السير عليه أمر عزيز على النفس المحِبة للشهوات أن تقبل عليه، ولكنه لا ينتج إلا ثمارًا يانعة. فيجب مراعاة الكيف في الدعوة على حساب الكمّ، وأن العبرة ليست بالكثرة في العدد، ولا بالضخامة في الحجم، إنما المدار على النوعية والكيفية، وليتذكر الدعاة دومًا أن من خصائص الطائفة المنصورَة الظاهرة على الحق أنها عصابة.
إخوة الإيمان، إن الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة في فضل العلم وشرف تحصيله من الكثرة التي لا تحتاج إلى تطويل بيان، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وقال : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) متفق عليه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]: "وكفى بهذا شرفًا للعلم، أن أمر نبيَّه أن يسأله المزيد منه". كل ذلك يؤكد أولوية طلب العلم في أمور كثيرة لا تقوم إلا به.
فالعلم شرط في المناصب القيادية، قال يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وقال نبي الله ردًا على بني إسرائيل الذين اعترضوا على ولاية طالوت عليهم: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وهو ضروريٌ للمفتي؛ لأن الله حرّم الإفتاء بغير علم، قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، وقال في الذين أفتوا رجلاً به جراحة أصابته جنابة أن يغتسل ولم يجدوا له بزعمهم رخصة، فاغتسل فمات: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العي السؤال)) رواه أحمد وأبو داود. قال ابن سيرين: "لأن يموت الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم".
وكذلك ينبغي لمن أراد أن يكون داعية أن يكون العلم هو أوّل عدّته، فأوّل آية نزلت على إمام الدعاة مطلقًا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]؛ لذا كان الانقطاع إلى طلب العلم مع المحافظة على أداء الفرائض وقصدٍ في النوافل من صيام وصلاة وذكر أفضل من الانقطاع إلى العبادة وأولى.
ونرى ذلك يقينًا في الخوارج أوّل فرقة مرقت من الإسلام، لم يكن تنقصها التقوى أو الإخلاص، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع وحقائق الدين، يقول النبي في وصف الخوارج الذين قاتلوا عليًا رضي الله عنه: ((يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة)) متفق عليه.
عباد الله، ألا وإن من فقه الأولويات تقديم العمل المتعدّي على العمل القاصر، أو قل: تقديم الأكثر نفعًا على غيره، قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [التوبة:19، 20]، وقال : ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)) رواه البخاري، وقال : ((ذهب المفطرون بالأجر)) متفق عليه، وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا)) رواه الطبراني في الكبير وهو في السلسلة الصحيحة (906).
وهكذا كان كل عمل يتعلق بإصلاح المجتمع ونفعه أفضل من العمل المقصور النفع على صاحبه، قال : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
عباد الله، إخوة الإيمان، إن الذي ينبغي لنا تصوره في فقه الألويات هو تقديم المصالح بعضها على بعض بحسب أهميتها، ثم لا علينا بعد ذلك أن يأتي شخص فيسميه: فقه الموازنات أو فقه المقاصد أو فقه الأولويات، أو يجرده من هذه الأسماء جميعًا ويدخله ضمن مباحث المصالح المرسلة، طالما أنه إذا سمع قول النبي لعائشة فيما رواه مسلم: ((لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه)) فهم أنه من باب تقديم المصالح بعضها على بعض بحسب أهميتها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وسنة رسوله الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، وإن من الأمور التي ينبغي مراعاة فقه الأولوية فيها حفظ الوقت، ألا وإن في حفظه صلاحًا للحال واطمئنانًا في النفس وسكينة في القلب.
يقول طبيب القلوب ابن القيم الجوزية: "هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب، ولا معاناة عمل شاق، إنما هو عمل قلب.
وتمتنع فيما يُستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحةٌ، ليس هو عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونيّة جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللَّذين قبله وبعده بما ذكرت نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.
وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلاً لسعادتها.
وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن اتخذت إليه سبيلاً إلى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد، وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة، وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله، والصبر على طاعته، ومخالفته الهوى لأجله".
عباد الله، إن فقه هذا الكلام هو جعل الوقت كله لله، والوقت هو العمر، وذلك بمعرفة العبادة الفضلى عبادة الوقت. قال ابن القيم: "أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته".
فأفضلها عند جهاد العدو جهاده، ولو آل ذلك إلى ترك قيام الليل وصيام النهار، قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].
وأفضلها عند نزل الضيف القيام بحقه لقول النبي : ((إن لزورك عليك حقًا)) متفق عليه. وأفضلها عند سماع الأذان تترك ما أنت فيه من ذكر، وأن تجيب المؤذن لقول النبي : ((إذا سمعتم المؤمن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة)) رواه مسلم.
وأفضلها عند أوقات الصلوات المبادرة إلى الجامع، والنصح في أدائها على أكمل وجه لقول الله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].
وأفضلها عند السحر تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة لقول الله تعالى: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، ولقوله: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18].
وأفضلها عند ضرورة المحتاج إغاثته بالجاه أو البدن أو الحال لقول النبي : ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني)) رواه البخاري.
وأفضلها عند لقاء أخيك التسليم عليه ولو أدى إلى قطع الذكر، وأفضلها عند مرضه أو موته عيادته وتشييع جنازته لقول النبي : ((حق المسلم على المسلم خمس: رد الإسلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) رواه البخاري.
إخوة الإيمان، والذي نفسي بيده، من أراد أن يتحقق فيه قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فليجعل فقه كلام ابن القيّم دائمًا نصب عينيه: العبادة الفضلى هي عبادة القلب.
صلوا وسلموا رحمكم الله...
(1/4672)
الإنسان بين العبودية والطغيان
التوحيد, موضوعات عامة
الألوهية, مخلوقات الله
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
24/4/1423
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الكائنات. 2- السبيل إلى تحقيق العبودية لله تعالى. 3- جماع العبودية. 4- ذم الغفلة عن الآيات الكونية. 5- طغيان الإنسان. 6- تسخير الله تعالى المخلوقات للإنسان. 7- صور من عظم عصيان بني آدم. 8- التحذير من العلمنة والتغريب. 9- عبودية الجمادات والحيوانات والنباتات. 10- قصة الذئب الذي تكلّم. 11- التذكير بالتفريط والتقصير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فـ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَخْفَى? عَلَيْهِ شَىْء فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء هُوَ ?لَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي ?لأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:5، 6].
عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً، إذ هذه هي الذلة لله ولعزّته وقهره وربوبيته وإحسانه وإنعامه على ابن آدم.
وجماع العبودية ـ عباد الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا خَلَقَ ?للَّهُ مِن شَىْء [الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمورة: وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:105، 106].
فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفازٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، قُتِلَ ?لإِنسَـ?نُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء:100]، وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54]، كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، بَلْ يُرِيدُ ?لإِنسَـ?نُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]، إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ [العصر:2].
وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد أكرمه الله ونعّمه أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنا لا ظالمًا.
إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله خادمة مسخرةً له، هُوَ ?لَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، ومنهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم، وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ?لأَرْضِ [الشورى:5].
ومع ذلك ـ عباد الله ـ فإن هذه المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ والذي قال عنه النبي : ((اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم)) رواه أحمد [1].
غير أن أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول: أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم ـ عباد الله ـ عمن يقول: يد الله مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، فكيف إذًا بمن يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء.
وهكذا ـ عباد الله ـ تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة، أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهبًا لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطًا لكل لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا.
هذه هي بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئًا من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طينًا، بل إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
فلله ما أعظمَ عصيان بني آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم وفطرهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ وَ?لشَّمْسُ وَ?لْقَمَرُ وَ?لنُّجُومُ وَ?لْجِبَالُ وَ?لشَّجَرُ وَ?لدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ ?لنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ?لْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ?للَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [الحج:18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام:116]، وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13]، وَمَا أَكْثَرُ ?لنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملَنا مهما كان صالحًا في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها الهُوَّةَ السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريحٌ ومستَراحٌ منه)) ، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: ((إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) رواه البخاري [2].
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.
وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معِلّم الناس الخير)) [3].
بل إن الدواب جميعًا لتشفِق من يوم القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفًا من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي : ((ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة)) رواه أحمد [4]. والمصيخة هي المنصتة.
ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي : ((لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة)) رواه أحمد وأبو داود [5].
وقد روى الإمام أحمد عن النبي أنه قال: ((إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)) ، فيقول : ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)) رواه أحمد [6].
وأما النمل ـ يا رعاكم الله ـ فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: حَتَّى? إِذَا أَتَوْا عَلَى? وَادِى ?لنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ي?أَيُّهَا ?لنَّمْلُ ?دْخُلُواْ مَسَـ?كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـ?نُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
هذه النملة يقول النبي عنها: ((قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟!)) رواه البخاري [7].
وأما الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال الله عنه: وَ?لنَّجْمُ وَ?لشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن النبي أنه قال: ((ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)) [8].
وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)) رواه البخاري [9].
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله.
فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو عظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن، ولكن صدق الله: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأَبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] أخرجه أحمد (6/200) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند ابن راهويه في مسنده (1103)، والنسائي في المناسك (2831)، وابن ماجه في الزهد (3231)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2616)، ويشهد له حديث أم شريك رضي الله عنها عند البخاري (3359).
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6512) من حديث أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الجنائز (950).
[3] أخرجه الترمذي في العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد". والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] أخرجه أحمد (2/486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أبي داود في الصلاة (1046)، والنسائي في الجمعة (1430)، وصححه ابن خزيمة (1727)، وابن حبان (2772)، والحاكم (1030)، والضياء في المختارة (396)، وهو في صحيح النسائي (1354).
[5] أخرجه أحمد (5/192)، وأبو داود في الأدب (5101) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وهو أيضا عند النسائي في الكبرى (10782)، والطبراني في الأوسط (3620) والكبير (5/240)، وصححه ابن حبان (5731)، وكذا النووي في الأذكار، ورمز له السيوطي بالحسن، وجود إسناده العجلوني في الكشف (2/478)، وهو في صحيح الترغيب (2797).
[6] أخرجه أحمد (5/170) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو أيضا عند النسائي في الخيل (3579)، والبزار (3893)، والبيهقي (6/330)، وصححه الحاكم (2457، 2638)، وهو في صحيح الجامع (2414). وليس فيه أن النبي قال: ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)).
[7] أخرجه البخاري في الجهاد (3019) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه ابن ماجه في المناسك (2921) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وهو أيضا عند الترمذي في الحج (828)، وصححه ابن خزيمة (2634)، والحاكم (1656)، وهو في صحيح الترغيب (1134).
[9] أخرجه البخاري في الجهاد (2926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الفتن (2922) واللفظ له.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فيا أيها الناس، تكلّم ذئبٌ كلامًا عجيبًا إبانَ حياة النبي ، كلاما يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد ورسالته.
فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث [1]. وفي رواية للبخاري: فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال : ((فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)) [2].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريمًا.
واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى.
يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت، ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحلُّ لك أن تفرّ، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله.
فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق. ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
والعجب ـ يا عباد الله ـ ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
والعبد كلما ذل لله وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقربَ له، وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي : ((قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) رواه ابن ماجه [3].
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل عليم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (3/83)، وهو أيضا عند عبد بن حميد (877)، قال الهيثمي في المجمع (8/291): "رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح". وانظر: السلسلة الصحيحة (122).
[2] أخرجها البخاري في المزارعة (2324)، ومسلم في فضائل الصحابة (2388) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4107) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (2/358)، والترمذي (2466) وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (393)، والحاكم (3657)، وهو في صحيح ابن ماجه (3315).
(1/4673)