مقومات الأمة الإسلامية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
7/11/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوضاع الأمة في العصر الحاضر. 2- ضرورة التحدث عن مقومات الأمة. 3- مقومات الأمة: المرجعية، الطاقة البشرية، الموقع الجغرافي، التماسك الاجتماعي، المناعة الذاتية والاستجابة مع الانفتاح. 4- بناء الحضارة في الإسلام. 5- ضرورة نبذ التفرق. 6- الوسطية والاعتدال. 7- دعوة بلاد الحرمين للوحدة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عز وجل، فاتَّقوا الله رحمكم الله، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، لا تحاسَدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، أطعِموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وأحسِنوا إلى الأرامل والأيتام، وصَلّوا بالليل والناسُ نيام، خذوا عُدَّتكم وأُهبتَكم قبل الرّحيل من الدُّور إلى القبور، وراقبوا ربَّكم في جميعِ الأمور، فهو سبحانه عليمٌ بذات الصّدور.
أيّها المسلمون، ليس بخافٍ ما تعيشُه أمّةُ الإسلام مِن ضعف وتفكّكٍ وروح انهزَام، وكأنها تعيش حالاً من التيهِ والضياع في كثيرٍ من بقاعها، ومع كلِّ هذه الصورة القاتمةِ والتي حالُها يغني عن الاسترسالِ في وصفها يُقال بكلّ ثِقة وقوة: إنَّ الأمّة رغم هذه الأحوال البائسةِ تمتلك بفضلِ الله ومنَّتِه مقوَّماتٍ أساسيّة تجعلها في موقعِ التأثير ومركز الثّقَل في عالم التدَافع الحضاري والتنافسِ العالمي.
وإنَّ الذي يبعَث على هذا الحديثِ بقوّة ما تكشّف في العالم من ظلمٍ وتعسُّف تجاوزٍ للمواثيق الدولية والعهود الأمميّة، في هذه الأجواءِ الظالمة والتجاوزاتِ الفاضحة يحقُّ لأهل الإسلام أن يتحدَّثوا عن أمَّتِهم ومقوِّماتها وقدراتها وإمكانَاتها وبواعثِ الأمل الكبيرةِ للنهوضِ مِن كبوتها واستعادةِ حقوقها، وبخاصَّةٍ بعد أن اجتَمعوا هذا الاجتماعَ المبارك في رحابِ بيتِ الله، واحتَضَنتهم هذه البقاعُ الطاهرة في رعايةٍ من وُلاة أمرها وأهلِها بعدَ رِعاية الله عز وجل.
أيّها المسلمون، إنَّ هذه الأوضاعَ والفتن والمتغيِّراتِ والمستجدات والمظالم والتجاوزاتِ تستدعي المراجعةَ الجادّة للأوضاع، مراجعةً تعتمِد بعد الله على النظرِ في مقوِّمات الأمّة ومواطن قوَّتها وسبيل نهوضِها واستعادة حقوقها.
إنَّ أوَّل مقوِّمات الأمّة وأسُس أركانها مرجِعِيَّتُها، فمرجِعيَّتها كتابُ الله وسنّة رسوله محمّد ، ويقال بكلِّ صدقٍ وأمانةٍ: إنَّهما يمثِّلان المنهج الدستوريَّ في تشييد الصرحِ الحضاريّ الذي ينعَم بالسلام والأمن والعدل والرخاءِ والسعادة.
إنَّ هذه المرجعيةَ لا تنحصر في نصوص الكتابِ والسنة فحسب، بل بكيفيّة إعمال هذه النصوصِ في صياغةِ لَبِنة الحضارة وهو الإنسان، حيث تصوغُه إنسانا سويًّا متوازنًا منسجما في حركَتِه وعطائه عادِلاً في ميزانه، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:123، 124].
ومِن مقوِّمات أمّةِ الإسلام طاقتُهم البشريّة الهائلة، فهم يمثِّلون ما يقارِب ربعَ سكّان البسيطة. طاقةٌ بشريّة تأتلف فيها وتنسجِم جميعُ الأجناسِ والأطياف والقوميّات؛ ممّا يرسم سبيلا واضحًا ودعما عظيما للتكامُل الذي تحتاجه البنيَة الحضاريّة، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62، 63].
ومِن مقوِّمات الأمَّةِ موقعُ الأمّة وثَرَواتها، إنَّ خارِطَةَ الأمّة الجغرافية والاقتصاديّة لا تكاد تترك موقِعًا استراتيجيًّا ولا ثروةً من ثروات الأرضِ في الباطن والظاهر إلاّ ولها فيه قصَبُ سبقٍ ظاهر كمًّا ونوعًا، وليس من المبالغة القول: إنَّها من أكبر أسبابِ تسلّط الأجنبيّ ومقاومته لنهوضِ الأمة وإصلاحها الإصلاحَ الحقيقي، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
ومِن مقوِّمات الأمّة التماسكُ الاجتماعيّ فيما بينها، إنَّ الروابط التي أحكم وثاقَها الشرع الحكيمُ لإبقاء لُحمةِ الأمة بنيانًا يشدّ بعضه بعضًا هي التي جعلت هذه الأمةَ متجانسةً منسجِمة متحابّة، على الرغم من كل الأمواج والأعاصير التي تحاوِل النيلَ منها أو إثارة النّعَرات فيها، ففي الأمّة ولله الحمد من عواملِ التماسك والتشابُك ما لا يقبَل التشكيك، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((المؤمِن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) [1].
ومِن أعظم مقوِّمات هذه الأمة جمعُها بين المناعة الذاتيّة والاستجابة مع الانفتاح، أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]، شجَرةٌ راسِخة محافِظة على أصلِها ونوعها ونموِّها، وهي مع الريح تميل لكنّها لا تنتَقِل ولا تنكَسِر ولا تتغيَّر ولا تقِف عن النموّ.
إنَّ أمَّتَنا تملك هذه الخاصيّة العجيبة لأنَّ هذا هو الدين في أصوله الثابتة ومواطِن الاجتهاد فيه، فدين الله قد وفَّر للمسلمين مناعةً وحصانة تمكِّنهم من التعاطي مع السوقِ الحضاريّ بقاعدة: "العطاء بانفتاح، والأخذ بغربلةٍ وتصفية".
أيّها المسلمون، إنَّ بناءَ الحضارة في ديننا مبادئُ وقِيَم، وليس مادّيّات واختراعات واكتشافاتٍ فحَسَب. إنَّ كِلا الطاقتين المادِّيّة والروحية محلُّ العناية في الإسلام، بالرّوحِ والمادّة جميعا يكون الإنسان متناسقا متوازِنا في التفكير والبناء والأخذ والعطاء.
إنَّ السياسة والاقتصادَ والمخترَعات والأدواتِ جميعها هي من أشياء الإنسان التي يمكِن استردادها أثناءَ عافِيَة الأمم، أمّا الروح والقِيَم والثقافة فهي تعنِي فكرَ الإنسان ونظرتَه للحياة والأحياء والأشياءِ والنشأةِ والمصير، ومن أجلِ هذا فإنَّ قوّةَ القِيَم والثقافة هي الحِصن المنيع لحماية الأمة، أمّا ثقافةُ القوة فلا يمكِن أن تغلبَ قوّة الثقافة على المدى البعيد، ولَئِن اقتَنع العالم بأنّه أصبح قريةً واحدة بتلاشي الحدودِ الجغرافية الأرضيّة في الإعلامِ والاتصالات والمواصلات فإنَّ الحدود الثقافيّةَ والحضارية لا يُتَصوَّر تلاشيها ولا زوالها، فلئن تلاشتِ الدولة الجغرافيّة فلا تتلاشى أمّةُ الفكر والثقافة ولا تتآكل. ولئن قيل: إنَّ المغلوبَ مولَع بتقليد الغالب فإنَّ الحقائقَ تؤكِّد أن ثقافة المغلوب أقوَى من جندِ الغالب، وأمّتُنا في تاريخها مرَّت بفتراتٍ منَ الانحسار والانكسار، ومع هذا فقَد هضَمَت قوَّة الغالب، واعتبروا بحروبِ هذه الأمّةِ مع التتارِ ومع الشيوعيِّين ومع سائر الخصوم، ذهَبَت قواهم العسكرية وبقِيَ ذو الثقافة الغالبة بهويَّتِه وفكره. إنَّ رياحَ التغيير لا تجتَثُ إلاّ الثقافات الهشّة سريعة العطب، أمّا الثقافات التي تمتلِك الجذور التراثيّة ورصيدَ الفِطرة وحِفظَ الوحي والقدرةَ على بناء المشترك الإنسانيّ فهذه الثقافةُ ثابتة محفوظة بما تكفَّل الله بحفظه، وجعله مهيمنًا وظاهرا على الدّين كله.
إنَّ الدين الحق والقيمَ الرفيعة التي تواجِه ثقافةَ القوّة والإكراه والاغتصاب والاستلاب تواجِهها بثقافةِ الإقناعِ والاعتراف بالخصائصِ البشريّة والتنوّع الإنسانيّ وقيَم التعارف والتنوّع.
أيّها المسلمون، ومع وضوحِ هذه الأصول والثوابِت وجلائها، ومع إيمانِ كلِّ مؤمن بأنّ هذا الدين كامل وأنّ العاقبة للمتقين وأنّ العزة لله ولرسولِه وللمؤمنين، ولكن مع ذلكَ كلّه يجب التأكُّد أنه لا يمكن أن تستعيدَ الأمّة مكانتها وتستردَّ عزّتَها وتقيمَ نهضتَها وتبني مجتمعَها إذا كانتِ الخلافات تمزِّقها والفتنُ تعصِف بها، فربّنا عز شأنه يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
وإنَّ مِن أهم ما يجِب التنبُّه له والتنبيه إليه في هذا العصرِ سلوك مسلكِ الوسط والاعتدال، فدينُ الإسلام دين الحنفيّة السمحة، دين الوسطية والاعتدال، لا مكانَ للإصلاح حين تروج الكراهِية وتثورُ الأحقاد والضغائِن والبغضاء. إنَّ المحبة والرفقَ وحسن الخلق والعفو والصفحَ وحسن الظنِّ هي الضمان بعد الإيمان بالله لصلاحِ الأمة واستقرار المجتمَع وأمان الوطن.
يجِب أن يَعلَم كلّ مسلم أن الخلاف في بني الإنسان موجودٌ كما قضَت سنة الله عز وجل، يستوي في ذلك المسلمون وغير المسلمين، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118، 119]. والحوارُ الهادِئ البنّاء وحُسن الظن والمحبّة والرفق هو سبيل جمعِ الكلمة، والدعوة إلى الله سبيلها الحكمة والموعظةُ الحسنة والجِدال بالتي هي أحسن، والجهادُ غير العدوان. على الأمّةِ أن تجتنبَ مسالك الغلوّ والتشدد والتنطّع، كما يجب عليها أن تجتنبَ مَسالك الجفاء والتفريط والتحلُّل والتسيُّب.
يجب ـ يا عباد الله ـ أن تسودَ المحبة والتسامح، وتتَّسع الصدور لسماع الرأيِ الآخر وإعطاءِ حقّ الاختلاف مع النقاش الهادِئ والحوارِ البنّاء وقَبول الحق ممن جاءَ به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102، 103].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّدٍ ، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2266)، ومسلم في البر (4684) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عليِّ الذات جليل القدر، أحمده سبحانه وأشكره كريم العطاء جزيل الأجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الخلق والأمر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله حاز على أصول الشرف ومراتب الفخر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأنجُم الزُّهر، والتابعين ما تعاقب الليل والنهار وما نزل القطر.
أما بعد: أيّها المسلمون، المملكة العربيةُ السعودية بِلادُ الحرمين الشريفين وخادِمَتهما وراعِيَتُهما وحامِيتهما بإذن الله وعونه، قلبُ المسلمين النابض، ما فَتِئَت تحرِص على مسؤوليّتها، فحين يُذكَر اتِّحاد المسلمين وتضامُنُهم وهمومهم وآمالهم تأتي هذه البلادُ بفضل الله ومنّتِه رائدةً في ذلك كلِّه، فهي الموقِظَة للهِمَم والآمال، وهي الداعيَةُ إلى وَحدة المسلمين وتضامُنهم، وها هي تعيد الكرّةَ وتوجِّه الدعوة لمؤتمرٍ لقادةِ المسلمين يجمَع شملَهم ويرسم اتِّجاههم ويوضِّح دورهم العالميَّ الرياديّ الحضاريّ، تأتي هذه الدعوةُ في عالَم يموج بالمتغيرات، بل بالأطماع والنزاع وإيقادِ الصراع واستغلال الخلافات، بل إنَّ العالم في كثير من مواقعِه يعيش توتّرًا وبُؤَرا ساخنة، في هذهِ الأجواء والظروف يجِب أن يلتئمَ أمرُ القادة وولاة الأمر ليَرَوا أنفسَهم بمرآةٍ صافيَة صادقة، تعكِس لهم صورَتهم الحقيقية، وما أصدَقَ أن يكون المؤمن مرآةَ أخيه، صِدقٌ في الاجتماع وصفاءٌ في النقاش وإخلاص في النوايا وعُمقٌ في التناصح في النّظر في المشكِلات من غير إلقاء بالتّبِعَة على الآخرين أو اشتغال بجلدِ الذات.
يجب النظَر في النقد والإصلاح والعيوبِ والنقائص بمصداقيّة وحياديّة، ومن ثَمَّ علاجُها بتخطيطٍ وعلم وتعاوُن مفتوح في كلِّ هموم الأمّة؛ في الدين والاقتصادِ والسياسة والأمن والتعليم والعمَل، محفوف ذلك ومؤطَّر بالاعتِزاز بالدين وترسيخٍ للرّابطة الإسلاميّة والتّحليل الدقيقِ لمصادر القوّةِ والضعف وعناصرهما.
إنَّ كلَّ مسلم يؤمِن إيمانا راسخًا لا ريبَ فيه ولا شكَّ بأنَّ الإسلام دينُ الحق ودين العدل ودين البناء والحضارةِ والعمران.
وبَعد: فهي دعوةٌ سعودية مسلِمة لمواجهة الذاتِ وبِناء الصفّ وتوثيق اللُّحمة وترسيخ المشتَرَك، وبِغير مواجَهَة الذات بمصداقيّة وواقعيةٍ وعدل ورحمة وسلامَةِ قصدٍ وحبٍّ للأمة وخوفٍ عليها، بغيرِ هذه المواجهة المخلِصة لا ينجَح المسلمون في عملٍ جماعيّ وحدويّ.
فأصلحوا ـ رحمكم الله ـ ذات بينكم، أصلحوا بالعدل، وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10].
هذَا وصلّوا وسلّموا على نَبيّكم محمد المصطفى ورسولكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جلّ وعلا فقال عز قائلا عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى عبدِك ورسولِك محمّد النبي الأمّي، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشِدين...
(1/4481)
عشر ذي الحجة والأضحية
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن راشد الرشيدي
خيبر
28/11/1426
جامع التقوى بالثمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- فضل يوم عرفة. 3- فضل يوم النحر. 4- كيف تستقبل مثل هذه المواسم؟ 5- الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة. 6- مشروعية الأضحية وبعض أحكامها. 7- فضل الحج. 8- التحذير الشديد من تأخير الحج مع الاستطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، فإن من اتقاه وقاه وحفظه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الله قد شرع لنا أزمنة فاضلة تضاعف فيها الحسنات وتفتح فيها أبواب الرحمات، يتفضل الله بها على عباده بمضاعفة الأعمال الصالحة، ويعطيهم على القليل الكثير، يغفر فيها للمستغفرين، ويتوب فيها على عباده المؤمنين، ويجيب السائلين.
هذه الأزمنة تكرر من عام إلى عام، ومن وقت إلى آخر، منها شهر رمضان، ومنها هذه الأيام العشر، ألا وهي العشر الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، فإنها أيام فاضلة، عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه، فقال جل وعلا: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3]. فالليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة.
وقد أخبر النبي أن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري، وفي رواية أخرى: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى)) ، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه الدارمي وحسنه الألباني في الإرواء.
في هذه الأيام تجتمع أمهات العبادات، فيجتمع فيها الصلاة والصيام والحج والصدقة بالأضاحي والهدي وغيرها، والتي لا تجتمع في غيره.
في هذه الأيام يوم عرفة، ذلك اليوم العظيم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم به النعمة وأنزل فيه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فهو للحجاج أساس حجهم، قال : ((الحج عرفة)) أخرجه أصحاب السنن وهو في صحيح الجامع (3172). ومن لم يقف بها فلا حج له. فيه تجاب الدعوات وتقال العثرات وتغفر الذنوب والسيئات وتتنزل من الله الرحمات، قال : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)) أخرجه مسلم. يشرع للحجاج في هذا اليوم الإكثار من الدعاء وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قال : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) أخرجه الترمذي والبيهقي وهو في السلسلة الصحيحة (4/6).
وفي هذه الأيام العشر يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله، قال : ((إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثم يوم القر)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في المشكاة.
في هذا اليوم تراق دماء الأضاحي والهدي تقربًا إلى الله عز وجل، وهذا من أفضل القربات وأجل الطاعات، فقد قرن الله الذبح بالصلاة قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وقال جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161، 162].
فينبغي للمسلم أن يستقبل مواسم الخيرات بالتوبة الصادقة النصوح، التوبة من التقصير في الواجبات، والتوبة من ارتكاب المحرمات، والتوبة من التقصير في شكر نعم الله علينا، فكم من نعم أنعمها الله علينا قل أن نشكرها، وكم قصرنا في طاعة الله وما تبنا، يقول النبي : ((من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده يملك قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع (6042). فمن منا أدى شكر هذه النعم؟!
ثم ينبغي على المسلم أن يغتنم مواسم الخيرات فيما يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
وأولى الأعمال بالاهتمام هي الفرائض التي أوجبها الله على عباده، من صلاة وصيام وحج وزكاة وبر وصلة للأرحام، مع ترك المحرمات والمنكرات، فذلك أفضل ما يتقرب به المسلم لربه جلا وعلا، قال النبي في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أخرجه البخاري (6502). ثم يكثر بعد ذلك من نوافل العبادة وسائر الطاعات، فبها تكمل الفرائض وترفع الدرجات وتقال العثرات، ففي الحديث القدسي يقول النبي : ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) أخرجه البخاري (6502)، وقد قال النبي للرجل الذي سأله أن يكون رفيقه في الجنة: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) أخرجه مسلم، وفي رواية أخرى: ((عليك بالسجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة)) أخرجه ابن ماجه وهو في صحيح الترغيب والترهيب (382).
ويشرع في هذه الأيام المباركة الصيام، فقد كان النبي يصوم تسع ذي الحجة، وذلك لما للصيام من أجر عظيم عند الله، قال : ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) أخرجه البخاري ومسلم. ويزداد أجر الصيام إذا وقع في هذه الأيام المباركة، ويتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد سئل النبي عن صومه فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) أخرجه مسلم.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، قال : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح)) أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.
وذكر الله عز وجل فيه أجر عظيم، وهو من أيسر الأعمال وأسهلها، قال : ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خير لي مما طلعت عليه الشمس)) أخرجه مسلم (2695)، ويقول النبي : ((من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)) أخرجه الترمذي وهو في صحيح الترغيب والترهيب (461).
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ففي ذلك أجر عظيم وهي سنة أبينا إبراهيم وشرعها لنا نبينا من بعده، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أقام النبي بالمدينة عشر سنين يضحي. أخرجه أحمد والترمذي بسند حسن. وقال أنس بن مالك : ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده. أخرجه البخاري ومسلم.
وقد حذرنا النبي من ترك الأضحية من غير عذر، فقال : ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنا مصلانا)) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن للأضحية أحكاما وآدابا ينبغي للمسلم أن يراعيها، منها أن من أراد أن يضحي فإنه يجب عليه أن يمسك عن شعره وأظفاره، فلا يقص منها شيئًا، من رؤية هلال شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته، قال : ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)) أخرجه مسلم، وهذا الحكم خاص بصاحب الأضحية فقط، أما أهله وأولاده فلا يلزمهم ذلك.
ومن أحكام الأضحية أن تبلغ السن المجزئة شرعًا، فمن الغنم ما أتم سنة كاملة، ومن الضأن ما أتم ستة أشهر، ومن الإبل ما أتم خمس سنين، ومن البقر ما أتم سنتين كاملتين، وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة أشخاص، فلو اشترك سبعة في بعير أو بقرة أجزأت عنهم جميعًا.
ومن أحكام الأضحية أن تذبح في وقتها المحدد شرعًا، ويبدأ وقت الأضحية من بعد صلاة العيد، قال : ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) أخرجه البخاري (5226). ويمتد وقتها إلى قبل غروب الشمس من اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
ومن أحكام الأضحية أن تكون خلية من العيوب المخِلّة شرعًا، قال : ((أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن أعظم الأعمال وأجلها وأزكاها عند الله في هذه الأيام المباركة هو حج بيت الله الحرام، الحج إلى تلك البقاع الطاهرة، إلى خير البلاد وأعظمها حرمة عند الله، وقد جعل الله في الحج أعظم الأجر والثواب، قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه، أي: ليس عليه ذنب ولا خطيئة. وقال : ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.
قال ابن حجر رحمه الله: "والحج المبرور هو الذي وفيت أحكامه ووقع على أكمل الوجوه، الخالي من الآثام والمحفوف بالصالحات والخيرات من الأعمال"، وقال النووي رحمه الله: "الحج المبرور هو الذي لم يخالطه إثم".
وقال : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) أخرجه النسائي وهو في صحيح الجامع (2900)، وقال : ((ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة)) أخرجه الطبراني وهو في صحيح الجامع (5569)، وقال : ((من طاف بالبيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة، لا يرفع قدمًا ولا يضع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة)) أخرجه الترمذي والنسائي وهو في صحيح الجامع (6380).
وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر، وجعله ركنًا من أركان دينه، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [البقرة:97]، وقال : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) متفق عليه.
وقد حذرنا النبي من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال : ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد وحسنه الألباني في الإرواء، وقال : ((إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم)) أخرجه ابن حبان في صحيحه وهو في صحيح الجامع (1909)، وقال عمر بن الخطاب : (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جِدة على الحج ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وقال علي بن أبي طالب : (من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا) أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج أو عرض له أمر من مرض أو فقر أو تغير في الأحوال في السنة القادمة فلم يستطع الحج.
يا شباب الإسلام، ألا ترون الكثير من المسلمين يأتون من المشرق والمغرب من بلاد بعيدة، قد تركوا الأهل والأوطان وعرضوا أنفسهم لمخاطر الطرق والأسفار، ليصلوا إلى بيت الله الحرام، مع ما هم فيه من فقر وحاجة، فكيف بنا نحن الذين في بلاد الحرمين، وقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة ومع ذلك نفرط في الحج رغم قربه وتيسر أموره؟!
فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا التفريط والتكاسل وأن تشغلكم الدنيا عن طاعة الله، فإن في ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
وصلوا على من أمركم الله بالصلاة عليه نبي الرحمة...
(1/4482)
سرّ الوحدة والائتلاف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
14/11/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسلم بين الفضائل والرذائل. 2- اقتضاء الفضائل للألفة. 3- الفضائل في معايير الحضارة الغربية. 4- حقيقة الفضائل في الإسلام. 5- أمة الفضائل. 6- اقتضاء الرذائل للنفرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، إنَّ للمرءِ المسلم كَمالاً في الفضائل ينبَغي له أن يَطلبه حثيثًا، كمَا أنّه في الوقتِ نفسه عرضةٌ لنقصٍ وخلَل بسبب رذائلَ يجب عليه الترفُّع عنها، فكمال المرء يكمُن في استيفاءِ أكبرِ قدرٍ منَ الفضائل، ونقصُه يبرز جليًّا في التِياثِه برذيلة من الرذائل. ثم إنَّ الفضائلَ المحمودة ما هي إلا سجايَا للنفس المؤمنة، من مُقتضاها التأليفُ والتآلف بين المتَّصِفِين بها على حدٍّ سواء، فالعَفيفان من الناس مثلاً يعرِفان حدودَهما، فيقفان عندها، ولا يتَزاحمان على مشتَهًى من المشتَهَيات؛ لأنَّ مِن خلُق كلٍّ منهما التَّجافي عن الشهوة وحبِّ الذات، وكذا الباحثان عن الحقيقةِ، لا يتنازَعان، ولا يتشاحَنان؛ لأنَّ غايتَهما واحدة وهي الحقّ، والحقُّ ضالَّة المؤمن، متى وجدَها أخذ بها، وسجِيّة الباحِثَين عن الحقيقةِ هي بذلُ الوسع في الوصول إلى الحقِّ، فلا يوجد حينئذٍ [مَوضِع] للنزاع عند معاطاةِ الوَسائل المؤدِّية إلى الحقيقةِ التي أرادها الله وأرادها رسوله.
وقولُوا مثلَ ذلكم ـ عباد الله ـ في جميع ما عُدَّ من الفضائل في شريعتِنا الغرّاء، حيث نجِد أنَّ مِن لوازم كلِّ فضيلة من الفضائل التآلفَ بين المتّصِفين بها من حيثُ الأثر الناشِئ عنها، ولا غَروَ حين نجِد الفضيلةَ إذا توافَرت في شَخصين مالت نفسَاهما إلى الاتِّحاد والالتئام في الأعمال والمقاصِد، ودامَت الوحدة بينهما بمقدارِ تمكّن تِلكم الفضائل فيهما.
وعَلى هذا النحو يَنتقِل الأمر من الأفرادِ إلى الأسر المكوَّنة من الأفراد، ثمّ إلى المجتمع المكوَّن من الأسَر، ثم إلى الأمّة المكوَّنة من المجتمعات، فمَناط الوحدة بين هؤلاء جميعًا هي القِيمة المعنويّة للفضائل الرّاسخة فيهم، حتى يُرَى الجمهور من الناس كواحدٍ منهم؛ يتحرَّك بإرادة واحدةٍ، ويطلب غايةً واحدة وهي الصراط المستقيم الذي أوصى الله به في قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وإذا ما كانَتِ الغايةُ واحدةً فإنَّ مجموع الفضائل يُعدّ هو العَدل في جميع الأعمال، فلا يمكِن أن يتجاوزَ أحد من الجمهورِ في عَمله ما يمسّ به حقًّا للآخر الذي يشترِك معه في الوسيلة الموصِلة إلى الغاية وهي الحقّ عند كلٍّ.
إذا عُلِم ذلكم ـ عبادَ الله ـ فإنَّ الفضائل في بعض معايير الحضارةِ الوافدة كغيرها من القِيَم الأخلاقيّة التي تحدِّدها النّسبيّة، مع القابليَّة لأن توزَن بميزانين أو تُكال بمكيَالَين عند من ابتغى غيرَ الإسلام دينًا.
أمّا الفضائل في الإسلام فَهي قيمةٌ مُطلَقَة لا مجالَ للنسبيّة فيها، فالقَبيح قبيح، والحسن حسنٌ، وهناك فضائل مشتركَة يستوي في التكليف بها جميع آحادِ المسلمين، وهناك فضائلُ تختَصّ بكلّ واحدٍ وفقَ مهنَتِه وصنعته وفنّه، فقد يُطلَب شيء من الطبيبِ ويُعدّ من الفضائل، ولا يطلَب مثل هذا الطّلَب من النجار، وقد يطلَب من العالِم ولا يطلَب من الورّاق، وقد يطلب من الحاكِم ولا يطلَب من السّوقَة، غيرَ أن المصبَّ الأخير يكون في القيمةِ المطلقة للفضائِل التي تؤلِّف بين أفرادِ المجتمع في منظومةٍ واحدة يعمُّها اسمٌ واحد، والأفرادُ في هذه المنظومة كأعضاء تختلِف في وظائفها وأشكالها، وكلٌّ يؤدّي عملَه لبقاء البنية الجامعةِ، كما أودع الله في أعضاءِ أبداننا ما يقوم به كامِلُ الجسد مع وقوفِ كلِّ عضو عندَ حدِّ وظيفتِه، فلا يطلَب من اليد أن تبصِر، ولا يطلب من العَين أن تبطِش، ولا يطلب من الأذُن أن تمشي، ولا يطلَب من الرِّجل أن تسمَع، مع أنَّ الكلَّ حيّ بحياةٍ واحدة، غيرَ أنَّ اليد بها البَطش، والعين بها الإبصار، والأذنَ بها السمع، والرِّجل بها المشي، وأيُّ اختلالٍ يموج بهذه الوظائف فهو اصطِفَاف في مصافِّ الأنعام، بل هو أضلّ كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
وقولوا مثلَ ذلِكم ـ عبادَ الله ـ في وظائفِ المجتمع المتنوِّعَة؛ إذ لا يَسوغ للطَّبِيب أن ينصِّبَ نفسه مفتيًا، ولا يطلَب منه ذلك، وللمفتي أن يكونَ طبيبًا، ولا للصّحَفي أن يكون فقيهًا، ولا يقبل مِنه ذلك، فالحاكم للحُكم، والفَقِيه للفَتوى، والطبيب للطّبِّ، والصّحفيّ للصحافة، وإلا فستَختَلّ المعايير، وتنقلِب الفضائل، ولن يُلامَ بعد ذلك من يَأكل المِلحَ ليدفعَ به العَطَش، ولا من يَشرَب الماء ليدفعَ به الجوعَ، ولا من يستنشِق الغاز ليتنفَّس.
إنَّ أيَّ أمةٍ يكون الدافِع فيها والرافع والحارِث والزارع والعالم والحاكِم إنما هم بنوها وأفرادها مِن هاماتها أو مِن لهازِمها وليس هو الأجنبيّ عَنها، ويكون كلُّ فردٍ منها آخذًا بحقِّ الكلّ، لا يسلك مقصدًا يعكس مقصدَ الكلّ، ولا غايةً تميل به عن غايةِ الكلّ التي خلَق الله العبادَ لأجلِها، فهي الأمّة التي علَت فيها الفضائل، وسادَت في أوساطها مكارم الأخلاق، وما يكون في تِلكم الأمّة من اختلافٍ في التنوع لا في التّضادّ فإنما هو من باب تنوّعِ جلب المنافع واستِكمالِ المصالح، كالجَداول التي تمدّ البحرَ لتستمدّ مِنه. ولا يحقرنَّ أحدٌ منا نفسَه وسطَ هذا الكمّ الهائل من أفراد الأمة، فالواحد منّا وإن كان صغيرًا فلاَ أقلّ من أن يكونَ لبِنةً أو حجَرة صغيرة في هذا البنيان الكبير، ربما كان بعضُ الهدم بسبَب سقوطها.
فما عَلينا ـ عبادَ الله ـ إلاّ أن ننظرَ في حقائقِ الفضائل؛ لنحكمَ بما ينشَأ عنها من الأثَر على حاضِر الأمّة ومستقبَلها، فالعفّة والسخاء والرحمةُ والتواضع والقناعَة والدماثة وعلو الهمَّة والتعقُّل والتروِّي والحِلم والإيثار والشجاعة في الحقّ مع الوفاء والصّدق والأمانة وسَلامة الصدر وغير ذلكم من الفضائل تُرَى لو عمَّت هذه الصفاتُ جُلَّ أفراد المجتمع أيبقى بعد ذلكم للفرقةِ سبيل؟! أمَا والله، إن تَوافرَها ليحيي مواتَ المجتمعات وينبِت قفرَها ويمطر جدبها. وأيّ أمة أولَى بأن تبلغَ مثل هذا الكمال في السّجايا غير الأمة التي قالَ نبيُّها : ((إنما بعِثتُ لأتمِّم مصالحَ الأخلاق)) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد [1] ؟!
والحاصلُ ـ عباد الله ـ أن أصولَ الأخلاق والتحلِّي بحليةِ الفضائل وتطوِيعَ القوى في المجتمَعَات على العَمَل بآثارِها إنما يكون بالدِّين، ولن يكملَ أثَر الدّين في نفوسِ الآخذين بهِ والمنتَمِين إليه فيصيبوا به حظَّيِ الدنيا والآخرةِ إلاّ إذا قام حملةُ الدين ورؤسَاؤه وحفَظَته بأداءِ ما أوكل الله إليهم مِن تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتِها في العقول والقلوب ودَعوة الناس إليه وتهيِئَة السّبل لهم للعمَل به وتذكيرهم بأيّام الله، إنهم لو فَعَلوا ذلك لرأَينا الأمّةَ الإسلامية ناشطةً من عِقالها، وليس للناس على الله حجّة، فلا بدّ من توجيه العنايةِ إلى رَتق الفَتق قبل اتِّساعه وتدارُك العلة قبل استِحكامها، وإلاّ فسيميل ميزان الاختيار مع الهوى، فتعمّ الشّهوة، وتحكم الشبهةُ، ويصير منطق الناس: "الدّنيا أولاً ثم الآخرة"، والله جل وعلا قال في محكَم التنزيل: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكِيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] مسند أحمد (2/318)، الأدب المفرد، باب: حُسن الخلق (273) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضا ابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في الكبرى (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّ في مقابل الفضائلِ التي ترتَفِع بالمجتمعات المسلِمة رذائلَ تعرِض للأنفس بكيفيَّات خبيثة، من مقتضاها النُّفرة والتفريق بين النّفوس التي غشِيَتها تلكم الرذائلُ؛ كقلّة الحياء والبَذاء والطَّيش والسَّفَه والتعالي والجبنِ والدناءة والأثَرَة والحِقد والحَسَد والخصومة والمِراء والغَدر والكذب والنفاق، فما من نفسَين تَلتَاثان بصفةٍ من هذه الصفات إلاَّ أغرت بينهما العداوةَ والبغضاء، وذهبت بهما مذهبَ الفُرَقَاء حيث لا يبقى بعد ذلك أمَلٌ في الوفاق، إمّا لأنَّ من طبع أحدِهما أو كليهما مجاوزةَ الحدود في الاعتِداء على الحقوق، وإمّا السقوط إلى ما لاَ يمكن معه لواحدٍ منهما أداءُ الواجب من الفضائل عليه لمن يشارِكه من بني جنسه وملته، فما ظنّكم ـ يا أجَاركم الله ـ بشَخصَين وقِحَين ألدَّين خصِمَين جبانين بخيلين حاقِدين حاسدين، هل يمكن أن يجمَعَهما مقصِد أو توحِّد بينهما فِكرة؟! كلا؛ لأنَّ هذه الرذائلَ إذا فشَت في مجتمعٍ مَا قوّضَت بنيانه وبدّدَته شذَر مَذَر، فاستطالَ الأمر برمَّتِه إلى جمهور أفرادِ المجتمعات، وساعد المخذِّلون والمرجِفون وبعضُ الإعلامِ اللاهث وراءَ البلبلة في إذكاءِ مثل هذه السَّواقِط، ومن ثَمَّ تتقاذَفها المجتمعات في كلّ اتجاهٍ حتى تصيرَ سجيّة يتخلَّق بها الكثير من الناس، فيستدعِي مثلُ هذا الطبع الاجتماعيّ أن تَسطوَ على هذه الأمّة قوّةٌ أجنبيّة عنها لتأخذَها بالقهر وتصرِفها في أعمال الحياة بالقَسر تحت غِطاء الحرّيّة القاتم.
إنَّ مثلَ هذه الرذائل إذا رسَخت في نفوس أقوامٍ صار بأسهم بينهم شديدًا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، يراهم كلّ رامِقٍ بعينِه أعزّةً بعضهم على بعض، أذلّةً للأجنبيّ عنهم، يدعونهم للسيادةِ عليهم، ويفتخرون بالانتماءِ إليهم، حتى يبدِّلوا بهذه الرذائل جملةَ المفاهيم الرفيعة تجاهَ الفضائل، فلا عجب إذا انقلَبَت المعايير حينئذ، فرَأوا كلَّ حسنٍ من أبناء ملَّتِهم ومجتمعهم قبيحًا، وكلَّ جليلٍ حقيرا، إذا نطَق الأجنبيّ عنهم عَدّوا منطقَه من جوامع الكلم ونفائِس الحِكَم، وإذا صدق الواحد منهم ربما عدّوه من سقط المتَاع وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: لا يمكن أن يكون بيننَا عارِف أو خبير. يكثُر ارتيابُ أمثال هؤلاء في الصادِقين المخلِصين في خدمةِ دينهم ومجتمَعاتهم وإن قامت على صدقِهم البراهين.
هذه هي أسباب عِثار المجتمعات المسلمة والعَقَبات القاعِدة بكل صراطٍ توعِد وتصدّ عن رفعةِ الأمة والنهوض بها إلى سفينةِ النجاة الماخرة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعتصموا بحبل الله جميعًا تفلحوا، والتزموا بدينه تغلبوا، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
(1/4483)
أحكام عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
3/12/1425
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأيام العشر من ذي الحجة. 2- ما يشرع في هذه الأيام من الأعمال. 3- صفة العمرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات. ومن هذه المواسم أيام عشر ذي الحجة التي دخلتموها بفضل ربكم ونعمته، وهذه الأيام من أعظم الأيام عند الله يا عباد الله، ولا يخفى فضلها وشرفها إلا على أهل الغفلة والإعراض، أيام عظم الله فيها العمل وأجزل فيها الأجر، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فهذه الأيام أيام مباركة شريفة، قد نوه الله بها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، والمراد باليالي العشر عشر ذي الحجة، أقسم الله بها تعظيمًا لشأنها وتنبيها على فضلها.
ومما ورد في فضلها ما أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعنى العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)).
وهذه الأيام ـ يا عباد الله ـ يشرع فيها للمسلم أعمال ينبغي أن يحافظ عليها، ومن هذه الأعمال:
أولاً: أداء الحج والعمرة وهو أفضل ما يعمل، ويدل على فضله عدة أحاديث، منها قوله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج إلى الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ثانيًا: من الأعمال المشروعة في هذه العشر صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها، وبالأخص يوم عرفة، والصيام عمل مبرور وسعي مشكور، أهمله كثير من الناس، فتجد بعضا من المسلمين قد تهاون في هذه السُّنة العظمة، لا يصوم إلا شهر رمضان، أما صيام الاثنين والخميس أو الأيام البيض أو يوم عرفة فلا يصومها إلا من رحم ربي، وهذا جهل بعظيم الفضل ووافر الأجر. اسمعوا ماذا قال رسول الله في فضل الصيام، قال: ((ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)) متفق عليه. الله أكبر يا عباد الله. أما صوم يوم عرفة ففضله عظيم وأجره كبير، روى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)).
فأنت ـ أيها المسلم ـ إذ لم يتيسر لك الحج فعندك يوم عرفة، جعله الله لمن لم يحج غنيمة باردة، فلا يفوتنكم هذا اليوم يا عباد الله. أما الحاج فلا يصوم هذا اليوم كما ثبت في الحديث.
ثالثًا: من الأعمال المشروعة التكبير والتهليل والتحميد، لقوله تعالى: وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:27]، والأيام هنا العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه الإمام أحمد. وذكر البخاري رحمه الله أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. واليوم تدخل السوق والمسجد والدور والطرقات ولا تجد من يكبر أبدًا، وهذا جهل بالسنة وزهد في الأجر.
والتكبير ـ يا عباد الله ـ نوعان: مطلق يبدأ من دخول العشر إلى آخر أيام التشريق، ومقيد وهو الذي بعد الصلوات، يعني بعدما تصلي تكبر، وهذا يبدأ يوم عرفة بعد صلاة الفجر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، سنذكر كيفية الإحرام، فإذا أراد المسلم أن يحرم بعمرة أو حج فالمشروع له إذا وصل الميقات أن يتجرد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد من دهن وعود أو غيره في رأسه ولحيته لا في لباسه، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام، لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك. والاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء حتى النفساء والحائض ؛ لأن النبي أمر أسماء بنت عميس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها وتستثفر بثوب وتحرم.
ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي ـ غير الحائض والنفساء ـ الفريضة إن كان في وقت فريضة أو يصلي نافلة كوتر أو الضحى، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أحرم، فإن كان عمرة قال: لبيك عمرة، وإن كان حجًا قال: لبيك حجًا، وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرة ممتعًا بها إلى حج. وذهب البعض إلى أن الإحرام يكون بعد ركوب الدابة واستوائه عليها، وهذا هو اختيار شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
وإذا كان من يريد الإحرام خائفًا من عائق يعوقه عن إتمام نسكه فإنه ينبغي أن يشترط عند الإحرام فيقول عند عقده: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أي: إن منعني مانع عن إتمام نسكي من مرض أو تأخر أو غيرهما فإني أحل من إحرامي؛ لأن النبي أمر ضباعة بنت الزبير حين أرادت الإحرام وهي مريضة أن تشترط، وقال: ((إن لك على ربك ما استثنيتِ)). فمتى اشترط وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه فإنه يحل ولا شيء عليه.
وأما من لا يخاف من عائق يعوقه من إتمام نسكه فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي لم يشترط ولم يأمر بالاشتراط كل أحد، وإنما أمر به ضباعة بنت الزبير لوجود المرض بها.
وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصًا عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعًا أو ينزل منخفضًا أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار.
والتلبية مشروعة في العمرة من الإحرام إلى أن يبتدئ بالطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة يوم العيد. ولفظها ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). وله أن يزيد على ذلك مما ورد عن الصحابة، ومن ذلك ما نقله نافع قال: كان عبد الله بن عمر يزيد فيها: (لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء ـ أي: المسألة ـ إليك والعمل). وهناك صفات أخرى.
فإذا دخل المحرم المسجد الحرام قدم رجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. ثم يقدم رجله اليمنى ليبتدئ الطواف فيستلم الحجر بيده اليمنى ويقبله ويسجد عليه، فإن لم يتيسر تقبيله استلمه بيده وقبلها، فإن لم يتيسر استلمه بشيء معه وقبله بيده، فإن لم يتيسر فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده ولا يقبلها، والأفضل أن لا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم، لما في الحديث عن النبي أنه قال لعمر: ((يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم الناس على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر)).
ويقول عند استلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد. ثم يأخذ ذات اليمين ويجعل البيت عن يساره، فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل، فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه، ويقول بينه وبين الحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ولا يصح من الدعاء الثابت عن رسول الله في الطواف غير هذا، وأما تلك الكتب التي يدعو بها بعض الحجاج ويشترونها والتي فيها تحديد دعاء لكل شوط فهي لا تجوز؛ بل بدعة؛ فإن النبي حج وحج معه جم غفير ولم يحدد لهم مثل هذا.
وكلما مر بالحجر الأسود كبر، ويقول في بقية طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة القرآن، فإنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الطواف أعني الطواف أول ما يقدم ينبغي للرجل أن يفعل شيئين:
أحدهما: الاضطباع من ابتداء الطواف إلى انتهائه، وصفة الاضطباع أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد رداءه إلى حالته التي قبل الطواف؛ لأن الاضطباع محله طواف القدوم فقط.
الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطوات، وأما الأشواط الأربعة الباقية فليس فيها رمل وإنما يمشي كعادته.
فإذا أتم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ثم صلى ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بقل هو الله أحد بعد الفاتحة.
فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه إن تيسر له.
ثم يخرج المحرم إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]. ثم يرقى الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه على هيئة الدعاء، فيكبر ثلاثاً ويحمد الله، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يكرر ذلك ثلاث مرات ويدعو بين ذلك بما شاء.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا، فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضًا شديدًا بقدر ما يستطيع ولا يؤذي، فقد روي عن النبي أنه كان يسعى حتى ترى ركبتاه من شدة السعي ويدور به إزاره، وفي لفظ: وإن مئزره ليدور من شدة السعي. فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل المروة فيرقى عليها، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة إلى الصفا فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، فإذا وصل الصفا فعل كما فعل أول مرة، وهكذا المروة حتى يكمل سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر.
ويقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة، فإذا أتم سعيه سبعة أشواط حلق رأسه أو قصر إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة فإنها تقص من كل قرن أنملة. ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس، وكذلك التقصير يعم به جميع جهات الرأس، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة، إلا أن يكون وقت الحج قريبًا بحيث لا يتسع لنبات شعر الرأس فإن الأفضل التقصير ليبقى الرأس للحلق في الحج، بدليل أن النبي أمر أصحابه في حجة الوداع أن يقصروا للعمرة؛ لأن قدومهم كان صبيحة الرابع من ذي الحجة.
وبهذه الأعمال تمت العمرة فتكون العمرة: الإحرام ثم الطواف ثم السعي ثم الحلق أو التقصير، ثم بعد ذلك يحل منها إحلالاً كاملاً، ويفعل كما يفعله المحلون من اللباس والطيب وإتيان النساء وغير ذلك.
(1/4484)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد الحكيم بن محمد الطيب عبلاوي
بوزريعة
1/12/1424
الناصرية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله سبحانه يصطفي من البقاع والأماكن والأزمان ما يشاء. 2- الحكمة من هذا التفضيل. 3- فضل العشر من ذي الحجة. 4- الحكمة من كون العشر من ذي الحجة أفضل الأيام على الإطلاق. 5- أعمال يستحب فعلها في هذه الأيام المباركة. 6- الإسلام جمع بين الخضوع للحق سبحانه وبين الإحسان للخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكمه تنزيله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
إن الله تبارك وتعالى هو العزيز الحكيم، يصطفي من البقاع والأماكن ما يشاء، ويختار من الأزمان والأوقات ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
إن الله تبارك وتعالى اصطفى من البقاع البلد الحرام، فاختاره ليبنيَ فيه الخليل الأول إبراهيم عليه السلام البيت الحرام، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]. وجعل خير البقاع المساجد، واختار سبحانه المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فجعلها مهاجر رسوله ومقر أنصاره رضي الله عنهم. وفضل بيت الْمقدس فجعله منزل كثير من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومعرج خاتم أنبيائه ، وأخبر أنه بارك من حوله.
وربنا سبحانه اختار من الأزمان أوقاتًا فضلها على غيرها، ففضل من أيام الأسبوع يومكم هذا، واختاره تعالى لنقيم فيه هذه الصلاة، ولنجتمع فيه هذا الاجتماع المبارك على ذكره وحمده وعبادته سبحانه، فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، وقال النبي : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) رواه مسلم (854) عن أبي هريرة.
وفضَّل شهر رمضان على سائر الشهور، واختاره لينزل فيه كتابه الكريم، واختاره ليكون لنا فيه عبادة الصيام، فقال عز من قائل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
والحكمة من هذا التفضيل أن هذه الأوقات متعلقة بأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإسلام أعظم ما فيه، فأما الشهادتان فإنهما وإن كانتا يتلفظ بهما اللسان فإن منبعهما القلب، كما قال النبي : ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه)) رواه البخاري (99) عن أبي هريرة، وقال : ((من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة)) ، وقال مرة: ((دخل الجنة ولم تمسه النار)) رواه أحمد (21555) وأبو داود (3116) وابن ماجه (3796) عن جابر وعن معاذ.
ولذلك أخبر النبي أن القلب أفضل الأعضاء وأعظمها شأنًا، فقال: ((إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري (55) ومسلم (1599).
فأما يوم الجمعة فيتعلق بركن الصلاة وما أدراكم ما الصلاة. وأما شهر رمضان فيتعلق بركن الصيام. وأما ركن الزكاة فإن حكمة الله اقتضت أن لا يتعلق بزمان واحد أو مكان واحد؛ لأن حاجة الفقراء والمساكين لا تختص بيوم دون يوم ولا بمكان دون آخر، ولذلك جعل الله تعالى الزكاة متعلقة بالمال، فحيث ما حال الحول وبلغ النصاب وجبت فيه الزكاة. وأما ركن الحج فقد جعل الله تعالى أيامه خير الأيام على الإطلاق، فقد صح عن النبي أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) رواه البزار عن جابر بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى بإسناد صحيح ولفظه: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) وهو في صحيح الترغيب (1150).
ولعل السبب في كون هذه الأيام أفضل الأيام على الإطلاق هو أنها جمعت بين أركان الإسلام الخمسة:
فأما الشهادتان فإن أفضل الحج ((العج الثج)) كما قال ، والعج رفع الصوت بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك". والحج كله توحيد لله تعالى وتمجيد وتحميد وذكر له سبحانه وتعالى. والثج كثرة إهراق الدم بالقرابين.
وأما الصلاة فإنها من أعظم أعمال الحج، وقد رغب فيها النبي خاصة في أفضل بيوت الله تعالى وهو المسجد الحرام، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام)) رواه البخاري (1190) ومسلم (1394)، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه)) رواه أحمد (14847) وابن ماجه (1406).
وأما الصدقة فإن من أعظم سبل الصدقات الإنفاق في سبيل الله، والحج من أعظم سبيل الله تعالى، والنفقة فيه والصدقات من أعظم القربات عند الله تعالى، وقد قال الله تعالى في الحج: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وقال عز من قائل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، وأخبر رسول الله أن أجر الحاج يضاعف له على قدر نفقته. رواه البخاري (1787) ومسلم (1311) عن عائشة.
وأما الصيام فقد شرعه الله تعالى لمن لم يجد ثمن الهدي، فقال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196].
فلهذه الفضائل كلها كانت هذه الأيام أفضلَ أيام السنة على الإطلاق، ولذلك كان العمل والعبادة فيها خير وأفضل عند الله تبارك وتعالى، فعن ابن عباس عن النبي أنه قال: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه)) يعني أيام العشر من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري (969)، ورواه الدارمي (1774) بلفظ: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى)) ، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يُقدَر عليه. صحيح الترغيب (1148).
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ عباد الله ـ أن هذا الفضل الذي ذكره رسول الله لهذه الأيام المباركة ليس لمجرد الحكاية والتسلي، بل أخبر به النبي لنشمر عن ساعد الجد، ولنقبل على ربنا سبحانه بقلوبنا، بالتوبة والإنابة والاستغفار، والعزم على الطاعة ونبذ الكسل، والرجوع عن اتباع أهوائنا وشهواتنا، فإن الله تعالى جعل لنا مثل هذه الأيام ليعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان.
عباد الله، يقول الله عز وجل: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:123-125].
ثم إنه يجب أن يعلم أن الأعمال عند الله كثيرة متفاوتة، فالواجب أن يُبدأ بالأهم والأحب إلى الله تبارك وتعالى.
فأما الأحب إلى الله تعالى ففعل الواجبات قبل النوافل، وتقديم الأركان الخمسة على غيرها، روى البخاري (6502) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
وروى مسلم (1028) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم اليوم صائما؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
واعلموا أن أفضل الأعمال أعمال القلوب؛ تطهيرها من أدران الشرك والرياء والعجب، وتوجيهها نحو خالقها بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء، قال : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ، وقال: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)).
لذلك كان أعظم الأعمال في هذه الأيام التهليل والتكبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد.
والمحك لمعرفة ثمرة هذا العمل هو حالك مع الخلق، فالإسلام يجمع بين الخضوع للحق سبحانه وبين الإحسان للخلق، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر [العنكبوت:45]. ولذلك ابتُدِئت الصلاة بالتكبير وختمت بالسلام، وقال الله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، وقال : ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أو قاتله أحد فليقل إني صائم)) ، وقال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من آمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) رواه أحمد (8712) والترمذي (2627) والنسائي (4995)، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل لرسول الله : كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال النبي : ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت)) رواه أحمد (3798).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا...
(1/4485)
ولا الجهاد في سبيل الله
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
28/11/1426
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه الأيام. 3- فضل يوم عرفة. 4- فضل يوم النحر. 5- فضل أيام التشريق. 6- كيف تستقبل هذه الأيام المباركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسمُ عظيمة تضاعف فيها الحسناتُ وتكفَّر فيها السيئات. ومن هذه المواسم والتي تطل علينا بعد أيام قليلةٍ أيامُ عشرِ ذي الحجة، هي أفضل أيام الدنيا كما صح عنه : ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر)). جمع الله فيه من الفضائل ونوَّع فيه من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض.
ففي أوله العشر المباركة التي نوه الله بها في كتابه الكريم، وقد أقسم الله بها تعظيما لشأنها وتنبيها على فضلها، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم حيث قال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]. فإن المراد بها عشر ُذي الحجة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري في صحيحه. فدل الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحبُّ إلى الله من العمل في أيام الدنيا كلِّها من غير استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهادًا واحدًا، وهو جهاد من خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه الأيام أداءُ مناسك الحج الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه. والحج أحد أركان الإسلام، شرعه الله تعالى وأوجبه لما فيه من خير العباد ومصلحتهم، يجتمع المسلمون فيه على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتُهم وأفعالُهم في زمان واحد ومكان محدد، لا يتميز فيه قوم عن قوم، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو اغتنم هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجبًا.
عباد الله، قد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام ما عدا اليوم العاشر، وهو يوم النحر. ومما شرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله، لا سيما التكبير، كما قال الله تعالى: وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:27]، وهي أيام العشر عند جمهور العلماء، فيستحب الإكثار من ذكر الله في هذه العشر المباركة، من التهليل والتكبير والتحميد وأن يجهر بذلك، فقد ذكر البخاري في الصحيح عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لما كان ليس كل واحد يقدِرُ على الحج جعل موسمَ العشر مشتركًا بين الحجاج وغيرِهم، فمن لم يقدر على الحج فإنه يقدر على أن يعمل في العشر عملاً يفضلُ على الجهاد.
وفي هذه العشر المباركة يومُ عرفة الذي هو أفضلُ الأيام، فعن جابر عن النبي قال :((أفضلُ الأيام يومُ عرفة)) رواه ابن حبان. وورد أن صومه يكفر الله به السنة الماضية والباقية، والمراد بذلك تكفير صغائر الذنوب، فقد روى أبو قتادة قال: سُئِلَ رسول الله عن صوم يوم عرفة فقال: ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) رواه مسلم. فيستحب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فلا ينبغي أن يصومه حتى يتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى. وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)). وروى ابن حبان من حديث جابر عن النبي قال: ((ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء)) ، وفي رواية: ((إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته, فيقول: يا ملائكتي, انظروا إلى عبادي قد أتوني شعثا غبرا ضاحين)). وروى مالك في الموطأ أن النبي قال: ((ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة)) ؛ وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام. وروى الترمذي: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
وفي هذا الشهر المبارك يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، يكمل المسلمون حجهم الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام بعدما وقفوا بعرفة، وأدوا الركن الأعظم من أركان الحج، وحصلوا على العتق من النار، فصار هذا اليوم الذي يلي يوم عرفة عيدا لأهل الإسلام جميعا لاشتراكهم في رحمة الله تعالى، وشرع لهم فيه ذبح القرابين من هدي وأضاح. سئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((العج والثج)) ، والعج هو رفع الصوت في التلبية، والثج هو سيلان دم الهدي والأضاحي.
والحجاج يستكملون مناسك حجهم في هذا اليوم المبارك من الرمي والحلق أو التقصير والطواف بالبيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار في هذا اليوم يؤدون صلاة العيد لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الشهر المبارك أيام التشريق التي هي أيام منى، روى مسلم في صحيحه من حديث نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب)). وهي الأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج:27]. وهي ثلاثةُ أيامٍ بعد يومِ النحر، وقد أمر الله بذكره في هذه الأيام المعدودات، من تكبير وتحميد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، شهر ذي الحجة شهر قد تنوعت فيه الفضائل والخيرات، فحري بالمسلم أن يستقبل هذه الأيام بما ينفعه، ومن ذلك:
1- التوبةُ الصادقة والرجوعُ إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
2- العزمُ الجاد على اغتنام هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شيء أعانه الله ُعليه وهيأ له الأسبابَ التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
3- البعد عن المعاصي، فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله فالمعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته، وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه، فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فاحذر الوقوع في المعاصي في هذه الأيام وفي غيرها، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
فاغتنموا ـ عباد الله ـ هذه الفرص قبل أن تفوت فتندموا ولات ساعة مندم، واستبقوا الخيرات يا عباد الله، وسارعوا إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض، وإياكم والتواني والدعة َوالكسل، فقد صح عنه أنه قال: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) رواه أبو داود والحاكم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/4486)
الأخوة الإسلامية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
7/11/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أساس دين الإسلام. 2- الأخوة الإسلامية. 3- وجوب الإصلاح بين المسلمين. 4- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. 5- الأمر بالاجتماع والائتلاف. 6- مؤتمر القمة الإسلاميّ. 7- واجب العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله وأطيعوه، واخشوا يومًا يجازِي الله كلاًّ فيه بعمله، فلا تظلَم نفس شيئًا وإن كان مثقالَ حبّة وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18].
أيّها النّاس، إنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على أن لا نعبدَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، فلا نشرِك معه أحدًا في أيٍّ نوع من أنواع العبادةِ الظاهرة والباطنَة، قالَ الله تعالى: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:2]، ومبنِيٌّ كذلك على أن لا نعبدَ الله إلاّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع والمحدثاتِ، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رَسول الله : ((مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)) ، و((من أحدَث في أمرنا هذَا ما ليس منه فهو ردّ)) رواه البخاري ومسلم.
ألاَ وإنَّ مِن أصول الدّين أخوّةَ الإسلام، فأخوّةُ الإسلام رابِطةٌ متينَة وحِصن حصينَة ونُصرة مبينة، أخوَّةُ الإسلام بها يتواصَل المسلمون، وبها يتناصرون ويقوَون، وبها يتراحمون ويتعاطَفون، وبها يتوارَثون، وبها يتعاوَنون، وبها يتناصَحون، ذكرها الله تعالى بعد الأمرِ بتقواه فقال عزّ وجلّ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، وعن النّعمانِ بن بشير رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثَلُ الجسد إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له الجَسَد بالحمَّى والسّهَر)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضه بعضًا)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدرِه ثلاث مرّات ـ ، بحسب امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمه وماله وعِرضُه)) رواه مسلم.
ومن عنايةِ الله العظمى بأخوَّة الإسلام أنَّ الله أمر بالإصلاحِ بين المسلمين إذا شجَر بينَهم خلافٌ والقضاءِ على النزاعِ الذي يقع بينَهم بالعدل والحقِّ والقِسط، ومن بغى واعتَدَى على الأخوَّةِ الإسلاميّة أمَر الله مَن له قدرةٌ أن يقاتِلَه بقدر ما يندَفِع به بغيُه وعدوانه حتى يرجعَ إلى حكم الله تعالى ويدخلَ في حِصن الإخوة الإسلاميّة، قال الله تَعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10].
ولِعِظَم أمر الأخوَّة الإسلاميّة آخَى النبيُّ بين المهاجرِين والأنصارِ أخوّةً عامّة وأخوّةً خاصّة، فكان يؤاخِي بين المهاجريِّ والأنصاريّ أوّلَ قدومِه إلى المدينة النبويّة، وكانوا يتوارثون بهذه الأخوَّة الإيمانيّة، ثم نسِخَ التوارث بالأخوّة الإسلاميّة فصار التوارُث بالقرابة، وأخبرَ النبيّ أنَّ كمالَ الإيمان أن يحبَّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه، فقال : ((لا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) رواه البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه.
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى لم يؤكِّد على تقويةِ أواصرِ الأخوّة بين المسلِمين ويقوِّ رَوابِطَها إلاّ لإعزازِ دينِ الله تعالى وحمايةِ مصالح المسلمينَ الدينيَّة والدنيويّة؛ ولذلك أمر الله بالاجتماعِ والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلافِ، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقالَ تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول النبيّ : ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)).
وإذا اجتمع المسلمون لبحثِ قضاياهم ومشكلاتهم بتوجيهٍ وحضٍّ من دينِهم فهم لا يريدون الظلمَ والعدوان على أحدٍ؛ لأنّ الإسلامَ ينهى عن العدوان وينهى عن الظلمِ كما قال تعالى: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
والإسلام لا يريد للبشريةِ إلاّ الخير والصلاحَ، والمؤمنون خير الناس للناسِ، وأرحمُ الناسِ للناس. وأخوّةُ الإسلام يحمِي الله بها العدوانَ على الإسلام، وينصر بها الحقَّ والعدلَ، ويحفظ بها المصالحَ العامّة والخاصّة، قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63]؛ لأن الناسَ لا تأتلِف قلوبهم ولا يجتَمِعون إلاّ على الحقِّ الذي بعَث الله به محمَدًا ، ويقول تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول : ((المسلِمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على من سِواهم)) ، ويقول : ((من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس مِنهم)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما مِنكم أحَد إلاّ وهو على ثغرٍ من ثغورِ الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتَى الإسلام من قِبَله)).
أيّها المسلِمون، إنَّ القمَّةَ الإسلاميّة التي دعَا إلى عَقدِها إمامُ المسلِمين خادِم الحرمين الشرِيفَين حفظه الله ووفَّقه لمرضاتِه والمبادرةَ مِن ولاةِ الأمر في هذه البلاد قادَة الحرمين الشريفين وفقهم الله لمرضاته بدعوتهم زعماءَ العالم الإسلاميّ لهذه القمّة الإسلامية تمَّ في وقتٍ تضعضَع فيه حالُ أمّة الإسلام، وهانت على غيرها من الأمَم، وتفرَّقت كلِمتها، وأُهملت قضاياها في المحافِلِ الدوليّة، واشتدَّ الهجومُ على دينِها الإسلاميّ دينِ العدل والرحمة والخيرِ والسلام للبشريّة، وألصِقَ به ما ليس منه، في هذا الوقت الذي انعقَد فيه هذا الاجتماع للقمّة الإسلاميّة الاستِثنائيّ تتطلَّع شعوب العالم الإسلاميّ إلى قادة هذه الشعوب أن يقفوا صفًّا واحدًا لصدِّ الهجماتِ الشّرِسة الحاقِدة على عقيدةِ أمّة الإسلام التي هي عقيدةُ رسول الله وعقيدَةُ الصحابةِ رضي الله عنهم والتابِعين لهم بإحسانٍ ومن تبعهم بإحسان، وأن يدافعوا عن هذه العقيدةِ النقيّة المضيئة، وأن يدافعوا عن أخلاق الأمّة أخلاقِ الفضائل الإسلاميّة والمكرُمات المحمّدية وأن يظهِروا وجهَ الإسلام الحقيقيّ لغير المسلمين بما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه وبالاستقَامَة على دينه، ويبرِّئوه من كلّ فريةٍ وبدعة مخالفةٍ لكتاب الله وسنّة رسوله ، والشّعوب الإسلاميّة تتطلَّع إلى الأفضلِ في كلّ شيء، والإصلاح لا يكون إلاّ من داخل الشعوب الإسلاميّة، نابعٌ من القرآن والسنة، بِتعاون المجتمعاتِ مع حكّامِها وتوافُقهم على مصالحِ الأمّة وتفاهُمِهم، مَع حذَرِهم من العُنف والفِتن المدمِّرة التي لا تخدم إلاّ أعداءَ الإسلام، ومع الحِرص على تحكيم الشريعةِ الإسلاميّة في كلّ صغيرة وكبيرةٍ.
وللشعوبِ الإسلاميّة أملٌ ومطلب أن يرحِّب قادَتُها بنصحِ العلماء ومشورَتِهم وتقريبِهم في كلِّ ما يخدم الدينَ والمجتَمَع، ومِن التَّحدُّثِ بنِعمة الله علَينا أنَّ بابَ المناصحةِ مفتوح بين العلماءِ وبين ولاةِ الأمر في بلادنا وفَّقهم الله، بل بينهم وبين أفرادِ الرعيّة عبرَ قنوات متعدِّدَة، فتحقَّق بذلك مَصالحُ عظيمَة واندفَع مفاسِدُ جسيمة ولله الحمد؛ لأنَّ الشريعةَ توجب ذلك، وهِي مرجِع الجميع، قال النبيُّ : ((الدّين النصيحة، الدِّين النصيحة، الدّينُ النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((للهِ ولكتابه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
ونَدعو علماء المسلمين أيضًا إلى تبصيرِ الناسِ بمنهَج سلفِ الأمّة منَ الصحابة والتابعِين ومَن تبعهم بإحسان، والدّعوة إلى الله بالحِكمة والموعظة الحسنَة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتفقيه الناس وتعليمهم الإسلامَ بالأدلَّة من القرآن والسنّة، فلن يصلح آخرُ هذه الأمة إلاّ بما صلح به أوّلُها، قال الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:104-107].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين والعاقبة للمتقين، أحمد ربي وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى.
أيّها المسلِمون، إنَّ الله تبارك وتعالى ربَط مصالِحَكم كلَّها وسعادةَ دنياكم وآخِرَتِكم بدينِكم واستِقامتكم عليه، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، وقالَ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، وعَن سفيانَ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم. واجتماع كلمة المسلمين تتحقَّق بها المصالح كلُّها، وتنتفي معها المفاسد كلّها، ويندَحِر بها كيدُ أعداءِ المسلمين.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليما كثيرًا، اللّهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/4487)
الحملات العدوانية ضد الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
14/11/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من مظاهر الحملة الصليبية الصهيونية المسعورة ضد الإسلام وضد النبي وضد القرآن الكريم. 2- الهدف من هذه الحملة. 3- أمثلة دالة على رحمة وشفقة النبي بالأمة. 4- مسائل بحاجة إلى بيان الحكم الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله عز وجل في سورة البقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]، ويقول تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيها المسلمون، لا تزال الحملة المسعورة ضد الإسلام وضد نبي الإسلام عليه أفضل السلام وأتم التسليم وضد القرآن الكريم، أقول: لا تزال هذه الحملة الظالمة قائمة غير قاعدة، وإن هذه الحملة بل الحملات العدوانية قد ازدادت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، وإن المستهدف هو نبي الهدى والرحمة وخاتم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإن الذين يطلقون هذه الحملات المسمومة من الإعلاميين والمبشرين والصليبيين لا يدركون بأن الله رب العالمين قد أكرم هذا النبي بأن رفع ذكره في العالمين.
أيها المسلمين، قبل أيام تناقلت الصحف العالمية والمحلية وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ما جرى في الدنمارك من محاولات للمس بشخص رسولنا الأكرم محمد ، وللتطاول على ديننا الإسلامي العظيم، حيث طرحت مسابقة في إحدى الصحف الدنماركية لوضع رسومات "كاريكاتيرية" للرسول، وشارك في هذه الرسومات اثنا عشر رساما دنماركيا، وقد جاءت هذه الرسومات معبرة عن الحقد الصهيوني العدواني الإرهابي ضد الإسلام ونبي الإسلام، واصفة إياه بالمعتدي والإرهابي، بالإضافة إلى أن هذه الرسومات تهدف إلى السخرية والاستهزاء والإهانة بالنبي الأكرم ، ولا يخفي أن هناك بعض الفضائيات متخصصة بالكيد للإسلام وتشويه صورته وصورة نبينا الأكرم محمد.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، إن محاولات المس بحرمة خاتم الأنبياء والمرسلين قد اهتز لها عرش الرحمن، وإن الله عز وجل سينتقم لنبيه ومصطفاه من هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله ويكفرون بالنبوة وبالقرآن.
والسؤال: لماذا طرحت هذه الرسومات بحق النبي ، ولم تطرح بحق نبي آخر؟
والجواب: إن التشكيك والطعن بالدين الإسلامي العظيم وبالرسول هو هدف مشترك لجميع أعداء الإسلام عبر التاريخ، وقد شهدت الحقب الزمنية المتعاقبة محاولات متعددة للتشكيك بالإسلام ولتشويه صورته وإلصاق التهم الباطلة به وتكذيب القرآن الكريم والتطاول على نبي الهدى والرحمة.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، لكن هذه المحاولات الظالمة لم ولن تحقق أهدافها الخبيثة في حرف المسلمين عن دينهم، لا سابقًا ولا لاحقًا، فقد باءت ـ والحمد لله ـ بالفشل الذريع، بل ازداد تمسك المسلمين بدينهم واعتزوا به، بل إن تزايد عدد المسلمين متواصل بحمد الله، فهذه المحاولات الهابطة الحاقدة تمثل زوابع لن تنال من الإسلام أي شيء، وهي تنطلق من الحسد والحقد، وهذا أمر متوقع من الذين يكفرون بالإسلام، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]. هل تفهمون ـ أيها المعتدون ـ حرية الرأي والتعبير بهذه الصورة؟!
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، كيف يوصف نبينا العظيم بالقاتل والمعتدي والإرهابي وهو الذي دعا بالهداية لأهل الطائف رغم أنهم أوعزوا لغلمانهم ولسفهائهم بإيذاء الرسول والاعتداء عليه، فقذفوه بالحجارة حتى أصابوا قدميه الشريفتين؟! فحينما لجأ عليه الصلاة والسلام إلى كرم العنب دعا دعاءه المشهور بقوله: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
أيها المسلمون، إن حبيبكم محمدا عد الرضا من الله عز وجل هو السلاح الإيماني، هو القوة الفاعلة، هو المنعة، وأن ما لاقاه من الغلمان والسفهاء والغوغاء لم يضعف من عزيمته، ولم ينقص من قدره ومقامه ومنزلته، فالسفهاء والغوغاء موجودون في كل زمان ومكان، تحركهم أيدي الضلالة والتآمر على البلاد والعباد من حيث يشعرون أو لا يشعرون، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]. لقد نزل جبريل عليه السلام من السماوات العلا ومعه ملك الجبال، لقد أرسله رب العالمين ليقول للنبي : إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك، ولو أردت أن يطبق الله عليهم الأخشبين أفعل، والمراد بالأخشبين الجبلان المحيطان بالطائف، فماذا كان جواب صاحب القلب الكبير؟! ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله)) ، فقال ملك الجبال: صدق من سماك: رؤوف رحيم.
أيها المسلمون، كيف يوصف نبينا عليه السلام بالقاتل والمعتدي والإرهابي وهو الذي عفا عن أهل قريش يوم الفتح الأعظم، فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة؟! فقد خطب في أهل مكة خطبة مطولة قال فيها: ((يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمتها بالآباء؛ الناس من آدم، وآدم من تراب)) ، ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل فيكم؟)) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال مقولته المشهورة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
أيها المسلمون، لقد أعلن العفو العام عن أهل قريش الذين عادوه وخاصموه وحاربوه مدة 21 عاما، فإن رسولنا الأكرم صاحب القلب الكبير حين دخل مكة لم يقتل أحدًا، ولم يعتقل أحدًا، ولم يعذب ولم يبعد أحدًا، ولم يهدم بيتا ولم يقطع طريقًا. وإن السيرة النبوية المطهرة حافلة بآلاف المواقف الرحيمة الإنسانية مع المسلمين ومع غير المسلمين.
أيها المسلمون، فقولوا لأعداء الإسلام والذين يكفرون بالنبوة وبالقرآن: خسئتم من إطفاء نور الله فلا تتعبوا أنفسكم، وإن ما تقومون به لا يدل على حرية الرأي والتعبير، والله رب العالمين يقول في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، ويقول في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
_________
الخطبة الثانية
_________
أتناول بعض المسائل التي هي بحاجة إلى بيان الحكم الشرعي:
أولاً: بشأن حائط البراق: تناقلت وسائل الإعلام عن رصد السلطات الإسرائيلية المحتلة مبالغ طائلة لترميم وتحسين حائط البراق وساحته ومحيطه، وهذا الخبر يدعو للاستهجان والاستغراب، فهل يا ترى أصبح حائط البراق ملكا للسلطات المحتلة حتى تقوم بترميم حائط البراق الذي يطلق عليه حائط المبكى؟! إن حائط البراق هو وقف إسلامي، فهو يمثل جزءا من السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك، والمعلوم بداهة أن سور البيت يكون تابعًا للبيت، وكذا فإن سور المسجد يكون تابعا للمسجد، حتى إن عصبة الأمم عام 1930م قد أقرت أن حائط البراق هو وقف إسلامي، كما أن "لجنة شو" البريطانية قد أقرت بذلك في العام نفسه، وأما ساحة البراق فهي وقف إسلامي أيضا، وهي وموقع حي المغاربة الذي هدمته وشردت سكانه عام 1967م من حق دائرة الأوقاف الإسلامية ترميم الجدار إذا كان بحاجة إلى ذلك، وسبق أن أصدرنا فتوى شرعية بشأن جدار البراق.
ثانيا: مقبرة مأمن الله "ماملا" في القدس الغربية: قد وقع عليها الاعتداء مرات ومرات منذ عام 1984م وحتى الآن من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وهذه المقبرة من أقدم المقابر الإسلامية في فلسطيني، وهي تضم الآلاف من رفات الصحابة والتابعين والمجاهدين والعلماء، وتبلغ مساحتها مائتي دونم. وقد أزالت السلطات المحتلة معظم القبور؛ حيث أقامت فندقًا على جزء منها، وأقامت حديقة عامة أيضا على المقبرة، كما عمدت بلدية القدس الإسرائيلية إلى حفر خنادق في المقبرة لتمديد المجاري للمياه العادمة. والآن تريد السلطات المحتلة إقامة ما يسمى "متحف التسامح"، أيّ تسامح هذا الذي يقوم على الاعتداء والاغتصاب وإهانة الأموات ونبش قبورهم وبعثرة عظامهم ورفاتهم؟!
هذا وقد أصدرنا فتوى شرعية تتعلق بحرمة الاعتداء على المقابر، ويقول رسولنا الأكرم: ((كسر عظم الميت ككسره حيا)). ونستنكر ما قامت به السلطات المحتلة من اعتداءات على مقبرة مأمن الله، ويتوجب عليها التوقف عن نبش مقابر المسلمين.
ثالثا: مقابر القدس الشرقية: وهي مقبرة الرحمة اليوسفية وباب الزاهرة، لا يخفى على أهل القدس الوضع المؤلم المتردي لهذه المقابر؛ من بيع للمقابر واستباحة حرمتها وارتكاب الموبقات وتعاطي المخدرات فيها. وعليه فقد قامت دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس بتشكيل لجنة حماية هذه المقابر، وللمحافظة على حرمة الأموات، ولترتيب القبور بطريقة الشريعة الإسلامية، كما تشكلت لجنة أخرى مؤازرة ومساندة للجنة التنفيذية، تمثل عائلات ووجهاء القدس، وذلك لمنع الفوضى والاستغلال والابتزاز. وعلى الجميع الوقوف إلى جانب لجنة حماية المقابر ليحافظ كل منا على القبور التي تخصه، وستقوم اللجنة بجمع التبرعات بعد صلاة الجمعة حتى تتمكن من القيام بالمهام الموكولة إليها.
رابعا: صلاة الاستسقاء، نظرا لانحباس الأمطار سنقيم صلاة الاستسقاء بعد صلاة الجمعة مباشرة، لعل الله عز وجل يستجيب لنا ويرحمنا برحمته.
(1/4488)
الإنفاق في سبيل الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, خصال الإيمان, فضائل الأعمال
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان اعتقاد وعمل. 2- حقيقة المال في الدنيا. 3- دعوة للإنفاق في سبيل الله. 4- فضل الإنفاق في سبيل الله. 5- التحذير من الشح والبخل. 6- حال النبي وأصحابه مع الإنفاق. 7- تنوع أوجه الإنفاق في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه، وتقربوا إليه بما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيها الإخوة في الله، ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكن الإيمان ما وَقَر في القلب ورسخ فيه وصدّقته الجوارح بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، ليس الإيمان ادعاءً يتظاهر به من شاء، ولا ثوب زور يلبسه الأدعياء الضعفاء، إن الإيمان عقيدة راسخة قوية، تنتج قولاً سديدًا وعملاً صالحًا رشيدًا، تنتج حب الله ورسوله، وتثمر الإخلاص في الأقوال والأفعال، إن الإيمان جِدّ وعمل، وصبر ومصابرة، ومرابطة ومثابرة، الإيمان حبس للنفس على ما تكره من طاعة الله، ومنع لها عما تحب من معصية الله، الإيمان واقع تطبيقي وحَمْل لهمّ الإسلام والمسلمين، وحرص على ما ينفع البلاد والعباد.
إذا عُلِم هذا ـ أيها الإخوة ـ تمام العلم وتيُقِّن منه تمام التيقن فإننا سوف نتحدث اليوم عن جانب من جوانب الإيمان العملية وصفة من صفات المؤمنين الفعلية، تلكم هي صفة الإنفاق في سبيل الله، التي لا يقدر عليها إلا المتقون، ولا يوفّق إليها إلا الفائزون السابقون، ولا يُحرم منها إلا الأشقياء والمخذولون، يقول سبحانه: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3]، ويقول جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]، ويقول تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيها الإخوة، إن الله جل وعلا قد أنعم علينا بنعمة المال، وجعله فتنة لنا وامتحانًا، ليبلونا أنشكر أم نكفر، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:15، 16]. وإن مال الإنسان في الحقيقة هو ما قدمه لنفسه ذُخْرًا عند ربه جل وعلا، وليس ماله ما جمعه وكنزه ثم اقتسمه الورثة بعده، وقدم هو إلى ما عمل وقدم، قدم إلى ربه وحيدًا فريدًا، غنيًا عما خلّف فقيرًا إلى ما قدّم، يقول سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)) قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا وماله أحب إليه، قال: ((فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخّر)) ، وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا بها سوى كتفها، فقال النبي : ((بقي كلها غير كتفها)) ، وفي الحديث أنه قال: ((يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس)).
وبعض الناس ـ أيها الإخوة ـ يجمع المال ويكنزه ليؤمّن به مستقبله على حد قوله، وهو يعني بذلك مستقبله الدنيوي الذي لا يدري هل يطول أم يقصر، ثم هو بعد ذلك لا يفكر في تأمين مستقبله الحقيقي الذي لا بد أن يصير إليه في يوم ما، حين يهجم عليه هادم اللذات ومفرّق الجماعات، فينقله من هذه الحياة القصيرة الحقيرة إلى الحياة الأبدية الحقيقية التي لا ينفعه فيها إلا ما قدم.
فيا من أنعم الله عليهم بالأموال، قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تؤمّنون به مستقبلكم الحقيقي، واشتروا منازلكم في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، في نعيم لا يَبِيد وقصر مَشِيد، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، فالله تعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وساهموا في التجارة الرابحة مع الله عز وجل لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون، لو قرأ أحدنا إعلانًا في جريدة أو صحيفة أو عُرِض عليه الاشتراك في مساهمة أو صفقة تجارية يكون ربحه فيها عشرة أو عشرين أو خمسين بالمائة لبذل النفس والنفيس ليشترك فيها، ولاجتهد أن لا تفوته هذه الفرصة، مع علمه أن الأمر مغامرة ومخاطرة، وأنه قد يربح وقد يخسر، ولكنه يتجاهل ذلك كله، ويغض الطرف عنه، ويصبّر نفسه، ويقنّعها بالمساهمة، كل ذلك من أجل حَفْنة من المال يحصلها وينميها، ثم لعله أن يدركه الموت قبل أن يذوق لها طعمًا أو يرى لها نتاجًا، ويكون عليه بعد ذلك حسابها وغرمها، ويكون لغيره من الورثة عائدها وغنمها.
فما بالنا ـ أيها الإخوة ـ نقرأ كثيرًا، ونُدعى بين فينة وأخرى إلى مساهمة لا مثيل لها في أرباحها الكثيرة وضماناتها التي لا تَتَخَلّف ولا تُخْلَف، إنها مساهمة يكون الربح فيها سبعين ألفًا في المائة، نعم إخوة الإيمان، سبعين ألفًا بالمائة، بل أكثر من ذلك بكثير، ثم لا نرى المساهمين فيها إلا قليلاً، أليس هذا غَبْنًا فاحشًا وخسارة فادحة؟! بل أليس ضعفًا في العقل وسفاهة في الرأي؟! بلى والله، إنه لكذلك، وأشد من ذلك. وإلا فإن الله سبحانه هو الذي ضمن لنا هذا الربح، وتكفّل لنا به، بل ودعانا إليه، ورغّبنا فيه، وهو الذي لا يخلف الميعاد، ألم يقل سبحانه في محكم كتابه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]؟! ألم نقرأ قوله جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11]؟! ألم نسمع قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]؟! ألم نصدق بقوله جل وعلا: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]؟! ألم يبلغنا قول الناصح الحبيب : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تغدو مثل الجبل)) ؟!
فيا لها من أرباح عظيمة عظيمة! ويا له من كرم ما بعده كرم! يتصدق العبد بتمرة أو مثلها من كسب حلال فيقبلها الله تعالى ويربّيها له وينميها حتى تكون مثل الجبل، أفيبلغ الطمع بالإنسان إلى أن يطمع في مثل هذا الخير فضلاً في أن يطمع في أكثر منه؟! وكم مرة يا ترى ضوعفت صدقة بمقدار تمرة حتى غدت مثل الجبل؟! إن لم تكن ضوعفت آلاف المرات فقد ضوعفت ملايين لا تحصى ولا تعد، والله إنه لخير عظيم وفضل عميم، لا ينبغي لإنسان أن يسمع به ثم يزهد فيه، ولا لصاحب مال مهما قلَّ يبلغه هذا الفضل ثم يمسك ماله عن الإنفاق في سبيل الله، ولكنها ـ ورب الكعبة ـ نفوس بني آدم الضعيفة، والبخل والشح الذي أهلك من كان قبلنا.
واسمعوا ـ رحمكم الله ـ إلى ما ورد في خطر الشح والبخل لعلكم تتعظون، قال الله جل وعلا: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقال : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خلق الله جنة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل)).
أفبعد هذا كله يهنأ إنسان أو يرضى أن يتصف بالبخل والشح، وأن يمسك ماله ولا ينفقه في وجوه الخير وأعمال البر؟! لا نظن ذلك يحصل من عبد تغلغل الإيمان في قلبه، وملأه حب الله ورسوله والدار الآخرة، ولكنه الشيطان ـ أبعده الله ـ يعد ضعاف الإيمان بالفقر ويخوفهم منه: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]. ويصور لنا رسول الرحمة والهدى حرص الشيطان وجنوده على منع المسلم من الصدقة واجتهادهم في الوسوسة والتخويف ومقدار ما يعانيه المتصدق في التغلب على نزغ الشيطان ونفثه، يقول : ((لا يُخرِج رجلٌ شيئًا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانًا)).
ألا فليتق الله من يخشى الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله، فإن الله عز وجل قد تكفل للمنفق في سبيله أن يرد إليه ماله، ويخلفه عليه، ويوفيه أجره غير منقوص، يقول تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول سبحانه: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، ويقول : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظْلَمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).
أيها المسلمون، لقد كان نبيكم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يخاف العَيْلَة، فلقد كان يؤتى بالذهب والفضة والنعم فيوزعها في يومه، عن أنس قال: ما سئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. وحدّث أبو ذر قال: كنت أمشي مع النبي في حَرّة المدينة فاستقبلنا أحد فقال: ((يا أبا ذر)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا)) ، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)) ، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ((وقليل ما هم)) رواه البخاري. ولقد خرج أبو بكر من جميع ماله لله، وخرج عمر من نصف ماله، ولما نزل قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قال أبو طلحة : إن أحب أموالي إلي بَيْرُحَاء، وإني قد جعلتها لله، فضعها ـ يا رسول الله ـ كيف شئت، فقال : ((بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح)). وجاءت عِير من الشام بتجارة لعثمان في حين حاجة، فطفق التجار يستامونها، فكلما دفعوا إليه شيئًا قال: أُعطِيت أكثر من ذلك، يشير إلى قول الله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وجعلها في سبيل الله، وجهّز في غزوة تبوك ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عينًا، واشترى بئر رُومَة وحفرها ليشرب منها المسلمون.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، واقتدوا بنبيكم وأصحابه الكرام لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا أسباب سخط ربكم جل وعلا؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
أيها الإخوة، لو ذهبنا نستقصي ما ورد في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والترهيب من إمساك المال والبخل به لطال بنا المقام، ولاحتجنا مع هذه الخطبة إلى مثلها، ولكن ما تقدم في الخطبة الأولى فيه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وحتى لا يكون هذا الكلام الذي سمعناه حجة علينا فإنا ندعوكم إلى العمل بما علمتم وتطبيقه في الواقع الحي، لا تقولوا: كيف؟! وأين؟! وأنى؟! فإن مشروعات الخير كثيرة وفيرة، ومجالات الإنفاق وسبله متعددة متنوعة، قال : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمَه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) ، وذكر منها: ((صدقة جارية)) ، وقال : ((من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتًا في الجنة)).
فلا تحرموا أنفسكم ـ إخوة الإيمان ـ من المشاركة والمساهمة في مشروعات الخير المتنوعة، واغنموا التجارة الرابحة مع الله والمرابحة، وانتهزوا كل فرصة من فرص الصدقة الجارية، ولا تضيعوها فتندموا، فإن الباب قد يفتح لأحدنا فيغلقه، فلعله لا يتكرر له الأمر مرة أخرى في حياته، والموت ينتظرنا في كل لحظة وساعة، والله عز وجل يقول: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]، إنها والله لحظة ستمر بكل واحد منا، وسيذوقها ولا محالة، فلنغتنم أنفسنا ما دمنا ممهَلين، ولنبادر ما دام في العمر متسع، والله الله، لا تحرموا أنفسكم، واتقوا النار ولو بشق تمرة، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وانفضوا جيوبكم مما فيها ولا تبخلوا، فإن الجنة غالية ولا تنال إلا بالغالي.
اللهم اجعلنا ممن قالوا: سمعنا وأطعنا، ووفقنا لما يرضيك عنا، وتوفنا وأنت راض عنا، اللهم ارزقنا حلالاً، واجعلنا من المنفقين، اللهم واجنبنا ما حرمت علينا، ولا تجعلنا ممسكين...
(1/4489)
التوكل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة الإسلامية في العصر الحاضر. 2- ضعف التوكل في نفوس المسلمين. 3- أهمية التوكل ومنزلته من الدين. 4- مفهوم التوكل. 5- وجوب الأخذ بالأسباب مع التوكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لأَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:28، 29]، اتقوا الله وآمنوا به وتوكلوا عليه، فالله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
أيها المسلمون، وكلما ابتعد الناس من عهد النبوة واقتربت الساعة ازدادوا على الدنيا حرصًا ومن الله بعدًا، وكلما كان الأمر كذلك ضعف الإيمان في القلوب وقلّت التقوى، وازدادوا تمسّكًا بالأسباب المادية وتعلّقًا بالدنيا تعلّقًا ينسيهم بعض ما هو من صميم عقيدتهم وأعظم واجبات دينهم، وإنه لم يكن المسلمون فيما مضى من عصور في حالة هي أضعف ولا أهون مما هم عليه اليوم، حيث تبايعوا بالعينة، واشتغلوا بالزرع، ورضوا بالدنيا، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، فسلّط الله عليهم ذُلاًّ لم يعرفوه على مدى التأريخ إلا قليلاً، وتكالب الأعداء عليهم من كل ناحية، واجتمعوا لحربهم من كل صوب، وتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلة على قَصْعَتها، بل سَلّط عليهم أذل أهل الأرض، وأحقر من وطئ ترابها وهم اليهود، فأي ذلة هي أشد من هذه الذلة؟! وأي مهانة هي أبلغ من هذه المهانة؟! وفي فترات الذل القصيرة التي كانت تمرّ بها الأمة في أزمنة مضت لم يكن الأمر يطول بهم حتى يقيّض الله لهم من يجدد لهم أمر الدين ويعلي راية الجهاد، فيعودوا إلى سالف عزتهم، ويرجعوا إلى ماضي قوتهم، يثخنون في الأعداء، ويحسّونهم بإذن الله.
أما في أزماننا المتأخرة فلقد طال السُّبَات، وامتدّ الرُّقاد، وسلك المسلمون طرقًا شتّى في سبيل استعادة الأمجاد، اتبعوا السبل وتفرقوا عن سبيل الله، وركنوا إلى الذين ظلموا، وخضعوا لأعداء الله، قدّموا التنازلات تلو التنازلات، وخُدِعوا بالمباحثات والمفاوضات، أعلنوا الاستسلام باسم السلام، وخذل بعضهم بعضًا في كل مقام، تفرّقت كلمتهم، وتنازعوا أمرهم بينهم، فنزع الله مهابتهم من صدور أعدائهم وذهبت ريحهم.
نعم أيها الإخوة، لقد ضعفت العقيدة في النفوس، واخترق حصن التوكل في كثير من القلوب، فتعلقت بغير الله وتوكلت على الأسباب المادية، بل توكلت على أعداء الله واطمأنت إليهم من دون الله. ولو نظرنا في واقع كثير من ضعفاء الإيمان في هذه الأزمان وتفكّرنا في حديث مجالسهم وما يشغل نواديهم لوجدناه يدور حول قوة الغرب وهيمنة أمريكا، وتفكير صاحبة القوة العظمى بضرب الدولة الفلانية، أو عزمها على تحطيم دفاع الدولة العلانية، يتحدث جبان عن قوات الغرب التي ملأت الخليج، ويعلّق رِعْدِيد على ما لها من وراء ذلك من الأهداف والأطماع، ويستمع خائف لهذه التحليلات الباردة، ويصدق وَجِلٌ هذه التخرّصات الفاسدة، متابعة على تخوّف للقنوات، وتوقّعات وتكهّنات، وتصديق لما يبثه المنافقون والمُرْجِفون، قلوب من الإشفاق وَجِلة، وصدور بما يُحَاك ضائقة، مُحَلِّل للأحداث يقول: إنا لفي وضع عَصِيب! ومُرْجِف يقول: أنّى لنا بمواجهة أسلحة الدمار الشامل؟! فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52].
أما عباد الله المؤمنون، فهم على ربهم متوكّلون، قلوبهم به متعلّقة، ونفوسهم بفضله مطمئنة، قد علموا أن القوة لله جميعًا، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يدافع عن الذين آمنوا، وأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلم يشتغلوا إلا بطاعته وتقوية العلاقة به، قد شغلهم التوكل عليه عن التفكير بغيره، شعارهم الذي يرفعونه ويرددونه، بل عقيدتهم التي يعضون عليها بالنواجِذ ويصدعون بها في وجه كل معتد ومتكبر: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51، 52]، مردّدين قول ناصرهم ومولاهم: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17]، لا يخيفهم مكر ماكر أو تهديد كافر، ولا يأبهون لما يكيده الكائدون أو يدبره الكافرون، سلفهم في ذلك نبيهم ورسولهم الذي حاول الكفار في عصره أن يمكروا به، وبذلوا لذلك ما في وسعهم من الوسائل، فخابوا بحمد الله وخسروا، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. وقبله إمام الموحّدين الخليل عليه السلام إذ تآمر عليه أهل الأرض في زمانه، وقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، فما زاد على أن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجاءه المدد ممن بيده ملكوت كل شيء: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:70-72].
أيها المسلمون، إن التوكل على الله من أهم المهمات وأوجب الواجبات، بل هو نصف الدين وجماع الإيمان. ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبادات، فأمر به في مقام العبادة فقال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وأمر به في مقام الدعوة فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، وورد ذكره في مقام الحكم والقضاء، قال عز وجل: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، وورد ذكره في مقام الجهاد وقتال الأعداء، قال الله عز وجل: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:121، 122]، فمع أنه يعد العدّة ويرتب الجيش ويعيّن الأماكن ويصفّ الصفوف فقد أُمِر مع ذلك بالتوكل على الله، فالنصر بيد الله حتى ولو أُخِذت الأسباب، والتأييد من عنده مهما ادْلَهَمّت الخطوب وقوي شأن الأعداء، فأين من ذلك من يتوكلون على أعداء الله، ويركنون إليهم، ويفرحون بتأييد دولة الكفر لهم ورضاها عنهم، ويخافون سطوتها، ويخشون تهديدها؟!
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، وقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، فالتوكل على الله باق حتى ولو وضعت الحرب أوزارها، وحتى لو خَنَع العدو وخضعوا وضعفوا وطلبوا السلم؛ لأن ذلك قد يكون منهم خدعة ومراوغة للمسلمين. وفي قصة موسى عليه السلام عندما قال المتخاذلون: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:22، 23].
وجاء الأمر بالتوكل في مقام المشورة، قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب، لكن المستشير لا ينفك حتى ولو كان عنده كبار المستشارين عن التوكل على الله؛ لأن هؤلاء المستشارين قد يُجْمِعون على قرار غير صائب، وقد يصيبون في قرارهم ويخطَأ في تنفيذه، ومن هنا كان لا بد من التوكل على الله، حتى مع وجود الخبراء والمستشارين وأخذ الأسباب.
وجاء الأمر بالتوكل في مقام طلب الرزق، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60]، وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
وجاء الأمر بالتوكل في معرض ذكر العهود والمواثيق، وقد أخبر سبحانه عن يعقوب عليه السلام وأبنائه يوسف وإخوته، حيث قال: قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:66، 67].
وجاء ذكر التوكل في مقام الهجرة في سبيل الله، ذلك المقام العظيم الأليم على النفس، والذي لا يهوّنه إلا التوكل على الله والاعتماد عليه، قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41، 42].
وجاء ذكر التوكل في مجال إبرام العقود، قال تعالى عن موسى عليه السلام واتفاقه مع الرجل الصالح: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28].
وجملة القول ـ أيها المسلمون ـ أن التوكل على الله عبادة جليلة القدر عظيمة الأثر، وأنه من أعظم واجبات الإيمان وأعلى مقامات التوحيد، إن لم يكن أعظمها وأجلها، وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضا العميق واليقين الثابت، ولو أن المسلمين دولاً وأفرادًا حقّقوا التوكل وأعدوا ما استطاعوا من قوة لما ضعفوا ولما استكانوا، لو أنهم اعتمدوا على ربهم ولجؤوا إليه ونصروه وحفظوه في أمره ونهيه لنصرهم وأيدهم وحفظهم، ولأصبحوا على عدوهم ظاهرين، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:7]. قال الإمام الواثق بربه ابن القيم رحمه الله: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله".
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وحققوا التوكل تحقِّقوا التوحيد وتنصروا، واصدقوا مع الله، وقووا علاقتكم به، فإن من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:173-176].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتوكلوا على الله حق توكله يكفكم وينصركم ويرزقكم.
واعلموا أن التوكل شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان، التوكل قَطْع القلب عن العلائق ورَفْض التعلق بالخلائق وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، إنه صِدْق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار، إنه صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله في الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب وتتابعت المصاعب. التوكل إيمان بالغيب وتصديق بموعود الله بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة واستكمالها، إنه تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات، ما كان تواكلاً ولا اتكالية ولا تضييعًا للسنن ولا إهمالاً للأسباب، بل إن المتوكلين في كتاب الله هم العاملون: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59].
وإمام المتوكلين نبينا محمد قد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهر في بعض غزواته بين درعين، وقال: ((من يحرسنا الليلة؟)) ، وتعاطى الدواء، وأمر بإغلاق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: ((اعقلها وتوكل)) ، وقال سبحانه لنبيه لوط عليه السلام: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود:81]، وأوحى إلى نبيه موسى: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء:52]، ونادى أهل الإيمان فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فليس التوكل بإهمال العواقب واطراح التحفظ، بل إن ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان.
أيها المسلمون، من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأكمل وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء. وإن من الجهل الذريع بالله وصفاته أن يتوقع المرء الخذلان وهو مرتبط بربه معتمد عليه، أو يخاف غير الله والله تعالى يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر:36، 37]. وإن من ضعف الإيمان بوعد الله ووعيده أن يظن جاهل أنه لن ينصر الله الإسلام والمسلمين ويكفيهم شر أعدائهم، وإن من سوء الظن بالله جل وعلا أن يعتقد أحد أنه لن ينصر دينه ويعلي كلمته، وهو الذي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ، ألا فإن الله يقول: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15].
فاتقوا الله عباد الله، وتوكلوا عليه، فقد أمركم بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهاكم عن التوكل على غيره سبحانه.
(1/4490)
الخوف من الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرجال على الحقيقة. 2- حال النبي وأصحابه مع الخوف من الله. 3- ثمرات الخوف من الله. 4- عاقبة ضعف الخوف من الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35].
أيها المسلمون، لو سئل الناس في هذا الزمان: من الرجال؟ وما مواصفاتهم؟ لأجاب أحدهم بملء فيه والنشوة تغمره: إنهم أهل القوة والفتوة، الذين لا يهابون المواقف، ولا يخافون الأحداث، ولقال آخر: إنهم أهل الجود والكرم، من يذبحون وينحرون، ويكرمون الضيف ويعزمون. ولقال ثالث: إنهم أهل الفزعة والنخوة، من يتوسّطون للقريب لدى المسؤولين، ويلقون بثقلهم ووجاهتهم لخدمة المحتاجين. أما لو بحثنا في كتاب الله وتتبعنا آياته لنعرف من الرجال الحقيقيون لوجدنا أن لهم صفات كثيرة أجلّ من ذلك وأكبر، وأعلى مما يراه الناس وأغلى، واقرؤوا إن شئتم وتدبروا قوله جل وعلا: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، واتلوا إن أردتم وتأملوا قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، ومن شاء فليقرأ بإمعانِ نظر قوله سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
إنها صفات عظيمة لرجال عظماء، متطهرين مصلين، صادقين موفين، مجاهدين مرابطين، سائرين على الجادة متبعين، غير مبدلين ولا مغيرين، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن عبادتهم وأداء حقوق ربهم، مسبحين ذاكرين، خائفين من ربهم وجلين، فيا لهم من رجال، ويا لها من صفات، كل صفة منها جديرة بأن تفرد في سِفْر جليل، وتؤلّف فيها الخطب، ولكننا اليوم سنقتصر على الحديث عن صفة من صفات هؤلاء الرجال، تلكم هي صفة الخوف من الله جل وعلا والخشية من يوم الحساب، والتي ضعفت في قلوب كثير من الناس اليوم، فتركوا كثيرًا من الطاعات تهاونًا وكسلاً، وارتكبوا كثيرًا من المعاصي والمنكرات تجاوزًا وتجرؤًا.
أيها المسلمون، إذا كان الرجال في مقاييسنا الدنيوية هم الشجعان المقدَّمون وهم الذين لا يخافون من أحد ولا يخشون سطوة غيرهم فإنهم على العكس من ذلك إذا وزنوا بميزان الآخرة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أشجع الناس وأقواهم بأسًا، وقبلهم كان رسول الله أشجع الناس وأقوى الناس، لكنهم إذا نظرت إليهم مع ربهم وخالقهم جل وعلا وجدتهم أخشى الناس له وأخوفهم من عذابه، يقوم الرسول حتى تتفطّر قدماه، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، ويبكي من خشية الله عندما قرأ عليه أحد أصحابه آيات من القرآن، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله : ((اقرأ علي)) ، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال: ((حسبك الآن)) ، فإذا عيناه تذرفان. ويقول عليه الصلاة والسلام : ((أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له)). وكان أبو بكر الصديق رجلاً أسيفًا بَكّاء من خشية الله، وعمر الفاروق يبكي في صلاته حتى لا يُدْرَى ما يقول، وكان في خدّيه خطّان أسودان من البكاء من خشية الله، ومثله عثمان الذي هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، وعبد الرحمن بن عوف أُتِي بطعام وكان صائمًا، فقال : قُتِل مصعب بن عُمَير وهو خير مني، كُفِّن في بُرْدَة إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّي رجلاه بدا رأسه، قال الراوي: وأراه قال: وقُتِل حمزة وهو خير مني، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. هؤلاء والله هم الرجال، أهل الخوف والخشية من الله سبحانه.
بل إن الخوف من الله ـ أيها المسلمون ـ من صفات أصحاب العقول وأولي الألباب، حيث يقول الله في ذلك: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:19-21]، أهل الخوف من الله هم الذين ينتفعون بكتابه ويتذكرون بآياته، قال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وقال جل وعلا: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:15-17]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقوله تعالى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات:37] فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى، كما قال الله تعالى في موضع آخر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [هود:103]، وقال تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10]، فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول: هؤلاء قوم أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم، ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة، وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ".
بل إن أهل الخوف هم المتقون، قال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنِ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:48، 49]. ولقد سمى الله جل وعلا من يخافونه أبرارًا فقال: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:5-7]، ووصفهم بأنهم الذين يسارعون إلى الخيرات فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]. عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ فقالت: يا رسول الله، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل)). قال الحسن رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا، ولقد أمر الله نبيه أن يقول: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر:13]، فكيف بغيره من أهل المعاصي والسيئات المرتكبين للكبائر والموبقات؟!".
أيها المسلمون، إن الخوف من الله جل وعلا سبب لمغفرة الذنوب وحصول الأجر من الله، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغُفِر له)) ، وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شَظِيّة بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة)) رواه أبو داود.
بل إن الخوف من الله ـ أيها المسلمون ـ وخشيته في الخلوات من أسباب الاستظلال بظل الله جل وعلا والأمن يوم القيامة من النار، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضَّرْع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله : ((يا عائشة، إياك ومحقرات الأعمال؛ فإن لها من الله طالبًا)).
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وخافوا لقاءه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه.
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن عدم الخوف من الله جل وعلا وانتهاك محارمه في السر والخلوات سبب كبير من أسباب حبوط الأعمال، فعن ثوبان مولى رسول الله عن النبي أنه قال: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بِيضًا فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا)) ، قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جَلّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)). الله أكبر أيها المسلمون! ما أشد انطباق هذا الحديث على أحوال كثير من الناس اليوم! وما أقل ما يخافون الله إذا خلوا بمحارمه!
ألا فاتقوا الله عباد الله، وفرّوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، فكفى بالمرء علمًا وتقوى أن يخشى الله ويخافه، وكفى به جهلاً بربّه أن يتجرّأ على معصيته ومخالفة أمره، وهو كما قال عن نفسه سبحانه: لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
(1/4491)
القناعة كنز لا يفنى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الزهد والورع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار ابتلاء. 2- لا يسلم إنسان من الابتلاء. 3- فهم السلف لحقيقة الدنيا. 4- حال الناس اليوم مع القناعة. 5- الهم والغم والانتحار. 6- علاج الهموم والغموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه، واستعدوا بالأعمال الصالحة ليوم لقاه، خافوا من الجليل، واعملوا بالتنزيل، واقنعوا من دنياكم بالقليل، واستعدوا ليوم الرحيل، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
أيها المسلمون، إن من سنة الله تعالى في هذا الكون أن جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وقدَّر أن تكون مليئة بالمصاعب والمتاعب، دائمة التغيّر والتحوّل، لا تثبت على حال، ولا تدوم على شأن، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح:23]، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
هذه هي حقيقة الدنيا، دار شقاء وعناء، ومرحلة نَصَب وتَعَب، متاعها قليل وكثيرها ضئيل، عيشها نكد وصفوها كدر، حلالها حساب وحرامها عقاب، لا تصفو لشارب ولا تبقى لصاحب، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن تبعها أعمته، سرورها غرور، ونعيمها عديم، ملكها هلك، وغناؤها عناء.
هي الدارُ دارُ الأذى والقَذَى ودارُ الفَنَاء ودارُ الغِيَرْ
فلو نلتَها بحذافِيرها لمَتَّ ولم تَقْضِ منها الوَطَرْ
لو تفكرتم ـ عباد الله ـ فيمن حولكم من الناس في المشارق والمغارب لما وجدتم أحدًا سالمًا من المصائب والمحن إلا من شاء الله، فواحد مصاب بالعلل والأسقام، وآخر مصاب بعقوق أولاده وعدم صلاح ذريته، وهذا مبتلى بسوء خلق زوجته، وتلك مصابة بزوج شرّ لا يرعى لها حرمة ولا يعاملها برحمة، وهنا تاجر قد خسر تجارته، وهناك فقير يشكو سوء حالته، وهذا يجد ويجتهد ولا ينال مناه، وذاك يشقى ويتعب ولا يحصل مبتغاه، وهكذا ـ أيها الإخوة ـ إلى ما لا نهاية له من الآلام والمصائب التي لا تقف عند حد ولا يحصيها عد.
ومُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِبَاعِها مُتَطَلِّبٌ في الماء جَذْوَةَ نارِ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها صَفْوًا من الأقْذَاء والأكْدَارِ
هكذا هي الدنيا، وهكذا العيش فيها، ليس فيها راحة أبدية ولا سعادة حقيقية، وإنما الراحة والنعيم المقيم والسعادة الخالصة والفوز الكبير لمن رحمه الله وأدخله الجنة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. سئل الإمام أحمد رحمه الله: متى الراحة؟ فقال: "عندما نضع أول رجل في الجنة". إنها الحقيقة الغائبة التي يجب أن نستحضرها ونفهمها حق الفهم، أنه لا راحة إلا في الجنة، ولا فوز إلا بدخولها والتقلب في نعيمها.
هكذا فهم سلفنا الصالح الدنيا، وهكذا وعوا طبيعتها وعرفوا كنهها، ولذلك تجافوا عنها ولم يغتروا بها وبزخرفها، بل كانوا فيها غرباء مسافرين، لا يحملون معهم إلا ما يبلغهم، ممتثلين وصية إمامهم وقدوتهم محمد حيث قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). ولقد كانت حياته تطبيقًا عمليًا لقوله، كان مَثَلاً أعلى في القناعة، وقدوة عالية في زهده بالدنيا، دخل عليه عمر بن الخطاب وإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فَهَمَلَت عينا عمر، فقال: ((ما لك؟)) فقال: يا رسول الله، أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هم فيه! فجلس مُحْمَرًّا وجهه فقال: ((أَوَفي شك أنت يا ابن الخطاب؟!)) ثم قال: ((أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا)). وعن أنس أن فاطمة ناولت رسول الله كسرة من خبز الشعير، فقال: ((هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام)). وعن النعمان بن بشير قال: ذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يتلوّى ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض. وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي في حَرَّة بالمدينة، فاستقبلنا أحُد، فقال: ((يا أبا ذر)) ، فقلت: لبيك يا رسول الله، فقال: ((ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبًا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا)) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار فقال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا)) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ((وقليل ما هم)). هكذا كان رسول الله زاهدًا في الدنيا، وهكذا كان قانعًا منها بالقليل، راضيًا منها باليسير، كانت تلك صفته وهو أفضل عباد الله وصفوة خلقه، وهو الذي لو شاء لحيزت له الدنيا بحذافيرها، ولصيغت له جبالها ذهبًا وفضة.
أما أصحابه الكرام رضي الله عنهم فقد كانوا على سنته سائرين ولنهجه مقتفين، لم يبدلوا ولم يغيروا، ولم يركنوا إلى الدنيا أو يثقوا بها، فعن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصُّفَّة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار أو كساء، قد ربطوا في أعناقهم، منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وعنه قال: لقد رأيتني وإني لأخِرّ فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مَغْشِيًا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. وعن خَبّاب قال: هاجرنا مع رسول الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله عز وجل، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئًا، ومنهم مصعب بن عمير، قُتِل يوم أحد، فلم نجد له شيئًا نكفنه فيه، إلا نَمِرَة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي بها رأسه، ونجعل على رجليه من الإذْخِر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها. وقد كان عمر بن الخطاب وهو خليفة يخطب الناس وعليه إزار غليظ، فيه ثنتا عشرة رقعة. وقالت له ابنته حفصة رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لو اكتسيت ثوبًا هو ألين من ثوبك، وأكلت طعامًا هو أطيب من طعامك، فقد وسّع الله من الرزق وأكثر من الخير! فقال: إني سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله يلقى من شدة العيش وكذلك أبو بكر؟! فما زال يذكّرها حتى أبكاها، فقال: أما والله، لأشاركنّهما في مثل عيشهما الشديد، لعلي أدرك عيشهما الرَّخِي.
أيها المسلمون، هذا غيض من فيض مما رواه لنا أهل الحديث ونَقَلَةُ السِّيَر عن حياة رسول الله وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، فقد كانوا فقراء مُعْدمِين، ومع ذلك كانوا مُتعفّفين مُتكفّفين، بما قسم الله لهم راضين، يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]. نعم أيها الإخوة، لقد كانوا أهل قناعة ورضا بما قسم الله لهم، ولم يكونوا متسخّطين، ولذلك عاشوا في حياتهم سعادة ولذة لا تعادلها لذة، ولا تقاس بها سعادة، إنها لذة الرضا عن الله وسعادة الأنس بطاعته، والتي عَبّر عنها أحد السلف بقوله: "إننا نحس بسعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بحد سيوفهم".
أما أهل زماننا فنعوذ بالله من حال أهل زماننا؛ حب المادة يسيطر على قلوبهم، وإيثار الدنيا يهيمن على نفوسهم، عليها يتهافتون، ومن أجلها يتَهَارَشُون، بزيادتها عندهم وإقبالها عليهم يفتنون، وبنقص ما في أيديهم وإدبارها عنهم يحزنون، قلوب مريضة وأفئدة هواء، تركض في الدنيا بغير عَنَان، وتملأ أيديها بغير ميزان، ينطلقون في لذائذ النفوس بلا حدود، ويسعون وراء الشهوات دون تورّع، كلما أدركوا منزلة تشوّفوا إلى ما فوقها، وكلما حصّلوا حفنة تطلعوا إلى زيادتها، تملَّكتهم مَلاذُّ الجسم والمادة، فلم يُبالوا من أي طريق أتت وبأي وسيلة اكتسبت، يحط أحدهم من كرامته ويذهب بعزته، يرِقّ دينه ويخف ورعه، يرضى ويغضب، ويفرح ويحزن، وتذهب نفسه حسرات من أجل الدنيا، ومع ذلك كله لا يقنعون، ولا بما قُدِّرَ لهم يرضون.
وإن البصير ليأسى كل الأسى لأقوام مخذولين منكوسين، تنكّروا لفطرهم، وغلظ عن الله حجابهم، وأظلمت بالشكوك قلوبهم، لم تنفذ إليهم أشعة الإيمان بسكينة، ولا تسربت إليهم أنوار اليقين براحة، يظلون ساخطين شاكين من قلة أرزاقهم، لا يذوقون للسرور طعمًا، ولا يعرفون للحياة معنى، بل حياتهم سواد ممتد وظلام متصل. قيل للحسن رحمه الله: يا أبا سعيد، من أين أُتِي هذا الخلق؟ قال: من قلة الرضا عن الله، قيل: ومن أين أوتوا قلة الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة بالله.
نعم أيها الإخوة، لقد قلّت معرفة الناس بالله، وضعفت صلتهم به واتكالهم عليه، وأعرضوا عن طاعته واعترضوا على قدره، قلّ رضاهم بقضائه وعن حكمته، فعاقبهم سبحانه بالهموم والغموم، حتى أصبحت معيشتهم ضَنْكًا، وصارت حياتهم حزنًا وضيقًا، ونبتت فيهم الاضطرابات الاجتماعية، وظهرت فيهم الأمراض النفسية، ففزعوا إلى المهدئات والمسكنات، بل ولغوا في المخدرات والمسكرات، فما زادتهم إلا ظلمات بعضها فوق بعض، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
أيها المسلمون، لقد بلغ الهمّ والغمّ ووصل التسخّط من أقدار الله وعدم الرضا بقضائه، وصل ببعض المخذولين من المسلمين إلى أن خرجوا عن طورهم، وخلعوا ثياب صبرهم، فأزهقوا أرواحهم بأيديهم، فهذا يطعن نفسه بسكين لتخرج روحه، وذاك يحتسي سُمًّا لتزهق نفسه، وثالث يترَدّى من شاهق ليقضي نَحْبَه، ورابع يهوي في بئر ليلقى حتفه، وهناك من يزيد في جرعة المخدّر ليموت ميتة سيئة، قد تكون في أقذر الأماكن أعزكم الله، وما علم أولئك أنهم من قدر الله يفرون، وفي سخطه وعقابه يقعون، يهربون من سعة رحمة الله وما أعده للصابرين من ثواب، ويلجؤون إلى عذابه وما أعده للمعتدين من شديد العقاب، إنهم لم يطيقوا حرارة المصائب والمصاعب، ولم يصبروا على شدة اللأواء والفقر، وما علموا أن وراءهم يومًا ثقيلا وحرًّا شديدًا، قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَتَوَجَّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن ترَدّى من جبل فقتل نفسه فهو يترَدّى في نار جهنم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)) ، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال : ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إنه لا يُذْهِب الهمَّ والغمَّ دواءٌ مثل الرضا بما قدَّر الله وقضى، فهنيئًا لمن ملأ الرضا فؤاده، لا يتحسَّر على ماض باكيًا حزينًا، ولا يعيش حاضرًا ساخطًا جَزُوعًا، ولا ينتظر المستقبل خائفًا وَجِلاً، لا يعيش في رهبة من غموض، ولا يتوجّس من جبروت، إيمانه مصدر أمانه، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأقبلوا على طاعته، فإن في القلب شَعَثًا لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وإن فيه حزنًا لا يُذْهِبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وإن فيه قلقًا لا يُسكّنه إلا الفرار إليه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، وفيه حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه والصبر على قضائه إلى يوم لقائه، ففروا من الله إلى الله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
(1/4492)
الوقاية من الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الفتن في هذا الزمان. 2- أهمية الوقاية من الفتن. 3- أسباب الوقاية من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكّل عليه كفاه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، إننا اليوم نعيش فتنًا عظيمة ومصائب جمّة، فتن شبهات وشهوات، تموج أعاصيرها كموج البحار، وتتقلّب فيها القلوب كما تتقلب القدر إذا استجمعت غليانًا، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا موقنًا متمسّكًا ويصبح منافقًا متشكّكًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل، ويتخلّى عن ثوابته ومبادئه، ويرخص قيمه ومثله، يعادي من كان له وليًا، ويوالي من هو ألدّ أعدائه إليه، ويرى القبيح حسنًا والحسن قبيحًا. وما ذلك ـ أيها الإخوة ـ إلا لضعف البصيرة عند كثير من المسلمين اليوم، وابتعادهم عن دينهم الذي هو منبع عزهم ومصدر ثباتهم، وتفاوت مشاربهم واختلاف أهدافهم وأهوائهم، الأمر الخطير العظيم الذي يحتم على كل مسلم يستشعر أعظم نعمة وأجل منحة منحه الله إياها ألا وهي الإسلام، ويطمع في أن يلقى الله عليها غير مبدّل ولا مغير، يحتم عليه أن يسعى لحفظ هذه النعمة، ويوجب عليه التمسك بهذه المنحة. ولا عجب أيها الإخوة، فإن الفتن بأنواعها تنساب إلى من لا يتوقاها، بل وتندفع إليه، كما يندفع السيل إلى منحدره، قال : ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه)) ، أي: من تطلّع إليها وتعرّض لها واتته فوقع فيها.
ولقد كان الحرص على تثبيت الإيمان في النفوس والخوف كل الخوف من الانزلاق عند تضارب الآراء وظهور الأهواء كان محل اهتمام سادات الأمة وسلفها الصالح، ذكر سبحانه عنهم أنهم كانوا يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، وقال عنهم: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، وقال: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]، وروى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب قال: كان النبي ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمر بطنه أو اغبر بطنه، يقول:
((والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنْزِلَنْ سكينةً علينا وثبّتِ الأقدامَ إنْ لاقينا
إنَّ الأولى قد بَغَوْا علينا إذا أرادوا فتنةً أَبَيْنا))
ويرفع بها صوته: ((أبينا، أبينا)).
ألا فليحرص كل امرئ يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ليحرص على تثبيت نفسه على دين الله، وليحذر الفتن ومضلاتها، وليحصن نفسه بما يستطيع من تحصينات، وليبذل الأسباب التي تعينه على مواجهة هذا السيل الجارِف العَرَمْرَم الذي تجاوز الحدود وهدم السدود واقتلع بعض القلوب من جذورها.
ألا وإن من الأسباب التي تعين ـ بإذن الله ـ على الثبات ومواجهة الفتن ما يلي:
أولاً: أن يُقْبِل المسلم على كتاب ربه بروحه ومشاعره، وأن يطبّق ما فيه قولاً وعملاً واعتقادًا، وأن يعيشه تعلّمًا وتعليمًا وتلاوة وتدبرًا، فإن فيه العصمة لمن اعتصم به، وإن فيه الثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، وقال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا [النحل:102]، وقال جل وعلا: وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
ثانيًا: طلب العلم والإخلاص في تحصيله، والحرص على الاتباع والبعد عن الابتداع، والأخذ بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، والاستزادة من علم من قال الله فيهم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، ومن عناهم بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن أشار إليهم بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122].
ثالثًا: كثرة الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله، المتابَع فيها رسول الله، قال سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، والإيمان الذي يثبت الله أهله هو الإيمان الصحيح السليم، الخالي من الشكوك والشبه، الخالص من الريب والاعتقادات الفاسدة، والآراء المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، وقال : ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)). وإن كثرة العبادة ـ أيها المسلمون ـ في أوقات الفتن المدلهمة لهي من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله عز وجل، قال : ((عبادة في الهَرْج كهجرة إلي)).
رابعًا: البعد كل البعد عن مظان الفتن ومواقعها ومسبباتها، من ملبوس أو مأكول ومشروب، أو مقروء أو مسموع ومرئي، أو مصاحبة أو مجالسة.
وإن مما يذكر في ذلك ويحذر منه ما غُزِي به المسلمون اليوم من وسائل إعلام مضللة، من قنوات وإذاعات، وجرائد ومجلات، وشبكات معلومات واتصالات، قرّبت البعيد وأغوت الرشيد، يكتب فيها ويتكلم أناس لا خلاق لهم ولا ميثاق، كذَبَة خَوَنة، منافقون غَشَشة، ينقلون للعالم ما يشاؤون من أكاذيب، ويخفون الحق ويقلبون الحقائق، يمدحون من ليس أهلاً للمدح، ويذمون من لا ذم فيه، ويؤذون أولياء الله ويحاربون أنصار دينه، مصادرهم وكالات أنباء يهودية ماسونية، ومعتمدهم على أخرى نصرانية صليبية، يدسون السم في العسل، ويخلطون الحق بالباطل، متكئين على من طمس الله بصيرته من المتعالمين، أصحاب المدارس العقلانية والشهوانية، الذين يقدمون العقل على الشرع، ويزعمون أنهم يراعون المصالح ويقدمونها، فيقولون ما لا يعلمون، ويفتون بما يجهلون، ويهْرِفُون بما لا يعرفون. فرحم الله امرأً أسلم وجهه لله، ورجع إلى كتاب الله وسنة محمد بن عبد الله، فاستقى من ذلك المورد الذي لا ينضب، ونهل وعَلَّ من ذلك الماء المعين، وعرض على مقياس الشرع كل ما سمعه أو قرأه، فإن كان له موافقًا أخذ به وقبله، وإلا ضرب به عرض الحائط ولا كرامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:7-11].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون، وخامس الأسباب التي تقي من الفتن ـ بإذن الله ـ البعد كل البعد عن الحرص على المال والشرف، والحرص على عدم الركون إلى الدنيا وأهلها المنغمسين فيها، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زَرِيبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم محمد ، عضوا عليهما بالنواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على رسول رب العالمين وخير البرية أجمعين...
(1/4493)
بداية الإجازة
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيمة الوقت. 2- أهمية التخطيط لاستثمار الإجازات. 3- مرحلة الشباب مرحلة غالية. 4- أمانة التربية. 5- توجيهات لأولياء الأمور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) ، وروى البزّار والطبراني بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه: ماذا عمل فيه؟)).
يا لها من كلمات يسيرة وجمل قصيرة، تحمل معاني عظيمة وتوجيهات كريمة، نحن في حاجة ماسة إلى تأملها في مثل هذه الأيام وفي كل الأيام، ولكننا في هذه الأيام إلى تمثّلها في واقعنا أحوج ما نكون، خاصة بعد أن انتهت الاختبارات، ونال الطلاب الشهادات، وبدأت الإجازة الصيفية لأبنائنا والبنات، ودخل كل أب وأم غيورين مهتمين، دخلا مرحلة صعبة وفترة حرجة من مراحل التربية وفترات الإصلاح والتقويم، مرحلة تدوم ثلاثة أشهر أو تزيد، وفترة يبقى الأبناء فيها فارغين، لا عمل يملأ وقتهم، ولا شغل يشغلهم، مما ينتج عنه مشكلات اجتماعية في كثير من البيوت، ومصائب متلاحقة لدى أغلب الأسر، يطال شرها من هم في غنى عنها، ويتطاير شررها على من لا ذنب لهم فيها، من جيران وأصدقاء ورفقاء وإخوة وأقارب وأباعد، بل ينتج عنها إيذاء للأبوين وإضرار بهما، ارتفاع في الضغط وزيادة في مستوى السكر، وهمّ بالليل وقلق في النهار، وقد تتطور الأمور حتى يذل الأب ويستصغر، ويقاد إلى المخافر ويدخل مراكز الشرطة، وينثر ماء وجهه عند فلان وعلان، طلبًا لكفالة أو بحثًا عن وجاهة، هذا عدا الخسائر المالية التي يتحملها إما رضًا منه أو رغمًا عنه لملء جيب ذلك الولد وتوفير وقود سيارته، أو إصلاحها بعد حادث انقلاب أو ضربة اصطدام.
ولهذا ـ أيها المسلمون ـ ونحن قد دخلنا هذه الإجازة الطويلة التي ستمر بأبنائنا فيها أوقات فراغ كثيرة فإنه ينبغي أن نخطط لكيفية قضاء أبنائنا لها، وأن نعمل على أن نخرج في نهايتها وقد استفادوا واستفدنا، وانتفعوا وانتفعنا، أو على الأقل ننهيها معهم بسلام وطمأنينة، غير مغبونين ولا خاسرين ولا معتدين. أما أن تمر علينا أيامها ونحن في سهو وغفلة ونترك لأبنائنا فيها الحبل على الغارِب ونهملهم أو نكون عونًا لهم على ما لا يرضي الله ولا ينفعهم حتى إذا وصلنا نهاية الأمر وبلغنا خاتمة المطاف وإذا نحن خاسرون نادمون قد تحملنا منهم همومًا وتجرعنا بسببهم آلامًا وحملنا غيرنا من النفوس البريئة ما هي عنه في غنى فإن هذه مصيبة عظيمة ومشكلة كبيرة.
أيها الأحبة، إنه يجب علينا أن نتيقن أن مرحلة الشباب التي يمر بها أبناؤنا مرحلة غالية غالية، وهي في الوقت نفسه خطيرة، فمن الخسارة الفادحة أن تذهب هباء وتضيع سدى، يجب علينا أن نفهم أن هذه الإجازة وقت ثمين ثمين، فحرام حرام أن تذهب وتقضى في مثل ما يقضيها فيه شباب اليوم، من السهر الطويل والفراغ القاتل، أو اللهو الماجن واللعب الفارغ، أو الذهاب والإياب دون فائدة أو منفعة، والدوران الذي ليس له نهاية، وإيذاء عباد الله في الشوارع، والتضييق على إماء الله في الأسواق، أو مشاهدة ما لا يحل وقضاء الوقت فيما لا يجوز.
وإننا حين ندعو إلى اغتنام الإجازة والحذر من تضييعها ـ أيها الإخوة ـ لا نقول: إنه يجب على الشباب أن يجعلوا وقت العطلة كأيام الدراسة، أو يعزفوا عن التمتع بالإجازة، ولا يأخذوا حقهم من اللهو واللعب، أو لا يمتعوا أنفسهم بما أحله الله لهم من الطيبات والزينة، نحن لا نقول ذلك أبدًا، ولا ندعو إليه قطعًا، ومن ظن أن الإسلام يمنع أتباعه من تناول الطيبات ولبس الزينة فقد افترى على الله الأقاويل وكذب عليه سبحانه، يقول سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]. إننا يجب أن نفهم حقيقة الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها، وننظر إليها نظرة صحيحة بحيث لا تتجاوز حقها وحقيقتها، علينا أن نستغل مرحلة الشباب التي يمر بها أبناؤنا استغلالاً حسنًا، وأن نبادر السنوات الذهبية التي هم فيها، ونحرص على ملئها بكل ما هو نافع ومفيد، بحيث لا يطغى جانب اللهو واللعب على الجد والعمل المثمر، وبحيث لا يكون اللعب والمتعة هو همنا وهمهم الوحيد. إنه يجب علينا أن نعلم أن ما يدور في أذهان كثير من الشباب اليوم عن مرحلة الشباب أنها مرحلة لهو ولعب إنما هو عند التحقيق ضرب من الوهم ومجاوزة الحقيقة؛ إذ إن ذلك ما هو إلا تضييع للعمر، بل لأغلى مراحل العمر وأكثرها إنتاجًا وأغزرها إفادة.
ولو تفكر متفكر في القواد والعظماء والساسة والزعماء، بل والمصلحين والدعاة والعلماء الذين خَلّد التأريخ ذكرهم وكُتِبت سيرهم بمداد من ذهب لوجد أنهم استغلوا مرحلة الشباب استغلالاً جيدًا، فلم يضيعوها في اللهو واللعب، ولم يشتغلوا بما اشتغل به غيرهم من متع الدنيا الرخيصة، أو مغرياتها الزائفة الزائلة. ولنا في أصحاب رسول الله الأسوة الحسنة والقدوة المثلى، فقد كان جُلّهم شبابًا، نعم، لقد كان جُلّ الصحابة شبابًا آمنوا بالله ورسوله، وتغلغل حب الله ورسوله ودين الإسلام في سويداء قلوبهم، فأصبحوا رجالاً من نوع آخر، رجالاً لا يهابون الموت ولا يخافونه، ولا يخشون العدو ولا يحذرونه، بل لقد طلبوا الموت في مظانّه ومواطنه، وقابلوا أعداءهم وهم أقل منهم عدة وعددًا، فهزموهم بإذن الله وتأييده، ثم بصمودهم وشجاعتهم التي لم يعرف التأريخ لها مثيلاً ولا شبيهًا. وقريبًا منهم كان كثير من شباب الإسلام الأشداء الأقوياء علمًا وعملاً، والذين لم تتجاوز أعمارهم عشرين سنة، بل بعضهم لم يصل إلى تلك السن، ومع ذلك غيروا مجرى التأريخ ودخلوا عالم الخلود.
إن علينا ـ إخوة العقيدة ـ أن نهتم بتربية أبنائنا تربية إيمانية عميقة، وأن نسلحهم بسلاح الإيمان، وأن نحصنهم بدروع التقوى، وأن نأخذهم بجد وقوة إلى محاضن العلم النافع وأماكن العمل الصالح، علينا أن نبني في نفوسهم العقيدة، ونرسخ في قلوبهم الإيمان، وأن نربيهم على صدق التعلق بالله وحده والاعتماد عليه، وأن نلزمهم بحفظ حقوق الله والوقوف عند حدوده، ثم احترام إخوانهم وحفظ حقوق الآخرين ومقدراتهم. إن علينا أن نغرس فيهم أن القوة الحقيقية هي قوة العزيمة، وأن قويَّ العزيمة من الشباب هو من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبدًا لشهواته ولا مملوكًا لملذاته، ثم يجب عليهم أن يعلموا أنه وإن كان الشاب في إجازة من الدراسة فإنه لا يجوز له بحال ترك عمل الآخرة وتحطيم القيود أو اجتياز الحواجز وتعدّي الحدود، فإن هذا ليس من تقوى الله وشكر نعمه في شيء.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واحمدوه على نعمة الإسلام، واشكروه على منحة الإيمان، وحافظوا على دينكم، وعضوا عليه بالنواجذ في كل وقت وحين ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:77، 78].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيها الإخوة، وبعد هذه الكلمات المختصرة والإشارات التي قد تغني عن كثير من الجمل والعبارات قد يتساءل مهتم ويقول قائل: ما البرنامج المثالي الذي تنصحنا به؟ وفي أي شيء ترى أن يقضي أبناؤنا أوقاتهم؟ فأقول: أيها الأحبة، إن الأحوال تختلف والأوضاع تتباين، والظروف تحكم في كثير من الأحيان، وليس هناك برنامج موحد يصلح للجميع، أو خطة نستطيع أن نقول: إنها الخطة السحرية لقضاء الإجازة الصيفية، ولكن الأمر الذي أحب أن أنبه إليه هو أننا أولياء أمور ومربين يجب أن نكون قريبين من أبنائنا، وأن نصحبهم في كل وقت ولو بالمراقبة، وأن نعي ما يدور حولنا وفي بيوتنا، لا أن نكون غافلين أو مغفلين، نمضي في طلب الدنيا، ونتطاحن على جمع الحطام، وتظل فئران الشر التي هجمت علينا من أماكن متعددة وأصرت على حربنا في صور شتى، تظل تهدم في سد الدين والعرض شيئًا فشيئًا، ولا تجد من يقاومها أو يقضي على شرها.
يجب أن نعرف أين يذهب أبناؤنا ومن يصاحبون، وفيم يشتغلون وإلام يهدفون، وأن نوجد بيننا وبينهم علاقة قوية حميمة، تتسم بالصراحة فيما بيننا، لا أن تكون معاملتنا لأبنائنا هي السبب في ابتعادهم عنا، ومن ثم ارتباطهم بغيرنا من لصوص الأعراض وسُرّاق الفضيلة الذين لا هَمّ لهم إلا اقتناص الفرص وتلمس الثغرات واقتحام القلوب البريئة الطاهرة، ليجعلوا منها مستنقعات عفنة آسنة، لا يخرج منها إلا كل ساقط من القول وفاسد من العمل.
يجب علينا وقد توفرت لنا مقومات العيشة الهنية والحياة الرضية أن نعبد الله حق العبادة، وأن نشكره وافر الشكر وأجزله، وأن نحافظ على هذه النعم ونقيدها لئلا تزول عنا وتتحول إلى غيرنا، فإن الأيام دول، والحياة مليئة بالمتغيرات والتقلبات، وكم ممن أمسى في نعمة فأصبح ولم يجدها، وكم ممن أصبح يتقلب في منحة فأمسى في محنة.
علينا أن نشتغل بأنفسنا وما يقربنا إلى الله تعالى أو ينفعنا في دنيانا، وأن نكف عن الناس شرورنا وأذانا، حتى نكون مسلمين كما أراد الله حين اختارنا واجتبانا، يقول عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر السوء، والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه)).
(1/4494)
لئلا نخسر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
12/9/1424
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل رمضان. 2- سرعة انقضاء شهر رمضان. 3- أسباب الخسارة في رمضان. 4- الحث على اغتنام ما تبقى من أيام رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
عباد الله، إن لشهر رمضان طعمًا خاصًّا ومذاقًا حلوًا وشعورًا غريبًا وإقبالاً عجيبًا، به أحاديث لا تُمَلّ، وكلام لا يُسْأَم، إنه طعم العبادة ومذاق الطاعة، وشعور المحب وإقبال الطائع، إنها الأحاديث التي تجلو القلوب وتنظفها، والكلام الذي يزيل صدأ النفوس ويطهرها.
في رمضان الصيام، وما أدراك ما الصيام؟! إنه حبس النفس على الطاعة وعن المعصية، إنه تضييق مجاري الشيطان لتضعف وسوسته، وحرمان البدن من الملذات والشهوات ليصفو القلب، وتزكو النفس، ويقبل العبد على الطاعات، وينشط في العبادات.
وفي رمضان القيام في صلاة التراويح، وما أدراك ما صلاة التراويح؟! سنة محمد التي فعلها وأحبها، ولم يتركها إلا رحمة بأمته أن تُفْرَض عليهم، فجاء الفاروق من بعده وأحياها، أحيا الله ذكره وأعظم أجره، إنها اجتماع المسلمين لمناجاة ربهم وتلاوة كتابه ورفع حاجاتهم إليه.
وفي رمضان تفطير الصائمين، وما أدراك ما هو؟! إنه طريق الأجور المضاعفة وسبيل الحسنات المتكاثرة، إنه الشعور بوحدة الجسد وأخوة الدين.
في رمضان إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام. في رمضان الاعتكاف والاجتهاد في الطاعات والمسابقة إلى الدرجات. في رمضان عمرة تعدل حجة وليلة خير من ألف شهر. في رمضان قراءة القرآن وذكر الرحمن، عبادات متنوعة وطاعات مختلفة.
رمضان واحة فَيْحَاء يتفيّأ المسافر ظلالها ويقطف من ثمارها، رمضان روضة غَنّاء تنوع زهرها وفاح عبيرها، لكن تلك الفضائل الكريمة والخصائص العظيمة لا يشعر بها وينتبه لها إلا المحبون الراغبون الذين يعرفون أي شيء هو شهر رمضان، ولا يجدها ويحسّها إلا المشمّرون السابقون الذين يقدرون هذا الشهر حق قدره ويعرفون ما فيه من الخير العظيم، إنهم أولئك الذين صاموا وقاموا إيمانًا واحتسابًا، وتصدّقوا وبذلوا طلبًا للأجر المضاعف، وفطّروا الصائمين رغبة في الثواب، ثم هم بعد ذلك ينثرون العَبَرات ويطلقون الزَّفَرات ويرفعون إلى مولاهم الدعوات الصادقات؛ لعلهم أن يكونوا ممن يمتن الله عليهم بصيامه وقيامه وقيام ليلة القدر، وأن يكونوا من عتقاء الله في هذا الشهر المبارك من النار، وما ذلك إلا لأنهم وضعوا نصب أعينهم وأمام نواظرهم قوله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)) ، وقوله عليه السلام: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)) ، وقوله عليه السلام: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)).
أيها المسلمون، ومع كل هذا فإن هناك من يفرّط في رمضان ويخسر فضله، هناك من يُحرَم من أجره؛ لأنه لا يعرف قدره، ما عرف منه إلا الجوع والعطش، سَهَرٌ بالليل على غير طاعة، ونَوْم بالنهار عن ذكر الله وعن الجماعة، حاله حال من قال فيه النبي : ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) ، فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟! وأي خسران أكبر من هذا الخسران؟!
عباد الله، إن رمضان شهر واحد سريع المرور، وموسم قصير خاطف العبور، بينما الناس يتباشرون بدخوله وإدراكهم إياه وإذا هم يخلطون فرحة العيد بالبكاء على فقده ورحيله عنهم، وانظروا ـ رحمكم الله ـ واعتبروا كيف صمنا منه أحد عشر يومًا ونحن في الثاني عشر، وكأنما هي إحدى عشرة ساعة أو اثنتي عشرة، ذهب الظمأ والجوع والتعب، وخلفنا الجهد وراءنا والنصب، وبقي الأجر والثواب، وعظمت اللذة لمن أجاد وأحسن، وسُجّل الذنب واشتدت الحسرة على من قَصَّر وأساء.
وإذا كان الأمر كذلك ـ أيها المسلمون ـ فلماذا نخسر رمضان؟! لماذا يمر علينا ولا نتزود منه بالتقوى؟! لماذا يدخل ويخرج وكأن شيئًا لم يحدث؟! ألم نعلم فضائله ونعرف مزاياه؟! ألم نعلم أنه شهر التوبة والمغفرة ومحو السيئات؟! ألم نعلم أنه شهر العتق من النيران وموسم الخيرات؟! ألم نعلم أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار؟! ألم نعلم أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر من حُرِم خيرها فقد حُرِم؟! فما بالنا ترغم منا الأنوف ونخسر ولا نستفيد؟! ما بالنا نُصِرّ على الإضاعة والتقصير والتفريط؟! إن لذلك أسبابًا نحن الذين تعلقنا بها وأخذنا بعُقَدِها، حين اتخذنا الشيطان وأعوانه أولياء، وغفلنا عن أسباب الربح والرحمة، فحُقَّ على الخاسر منا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
إن كثيرًا من الخاسرين ـ أيها الإخوة ـ إنما خسروا لأنهم غفلوا عن النية الصالحة، ولم يحتسبوا الأجر، صاموا وقاموا تقليدًا للناس ومجاراة للآخرين، تركوا الطعام والشراب وبعض الملذات، ولكنهم لم يبتعدوا عن المعاصي والشهوات، رمضان عليهم كالضيف الثقيل عند من لا يحبه، ساعته أطول الساعات، ولحظته أبطأ اللحظات.
في الخاسرين من أهمل الصلوات الخمس ولم يأبه بها، وفيهم من أخّرها عن وقتها وتباطأ في أدائها، وفيهم من صلى بكسل وخمول، وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات فكيف يُرجَى منه التزود بالنوافل والمستحبات؟! بل كيف يُرْجَى منه استغلال رمضان والفوز فيه؟! إن مثل هذا حري أن لا يُقبل صيامه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أسباب الخسارة في رمضان السهر على غير ما يرضي الله، وهو مكروه في نفسه إذا كان على مباح، فكيف بمن سهر على حرام؟! في قيل وقال وسهرات ومحادثات، أو لعب ورق وكرة وتتبع قنوات، أو مشاهدة أفلام ومتابعة مسلسلات وتمثيليات. والسهر الطويل بهذه الصورة ـ أيها الصائمون ـ مدعاة لكثرة النوم في النهار، وسبب للخمول والكسل عن ذكر الله وعن الصلاة وقراءة القرآن، ولو نام العبد في الليل ساعات لجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله ويقرأ القرآن، أو لأصبح على الأقل طوال نهاره طيب النفس نشيط الجسم، وإن الفكرة السائدة لدى الناس في هذه الأزمنة المتأخرة عن رمضان حيث يجعلون ليله سهرًا ونهاره نومًا، إنها فكرة شيطانية إبليسية، أوحى بها عدونا إلى أوليائه وخاصة من أهل الإعلام، فشغلوا الناس بسهرات ومسرحيات ومسابقات ولقاءات وأغاني ماجنة وأصوات مزامير، فحرموهم لذة الشهر المبارك، وأفسدوا عليهم روحانيته، وأفقدوهم بركة أوقاتهم وأعمارهم، ولذا فإن لزامًا على من يرجو الربح ويأمل النجاة أن يعود إلى رشده ويرجع إلى سنة ربه، حيث جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا، فإن ذلك من أعظم أسباب الفوز والفلاح.
ومن أسباب الخسارة كثرة الأكل والشرب في ليالي رمضان، فإنه: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن)) ، ومن أكل كثيرًا شرب كثيرًا ونام كثيرًا وخسر كثيرًا.
ومن أسباب الخسارة في هذا الشهر المبارك وفي غيره من فرص الخير ومواسم العبادة التسويف ذلكم المرض العضال والداء الوبيل الذي قطع أعمارنا وأذهب بركة أوقاتنا ولحقنا حتى في أفضل الأيام والشهور، نسوّف ونؤخّر ونؤجّل ونحن نعلم أننا قد لا ندرك رمضان مرة أخرى، بل نسوّف ونؤخّر ونؤجّل ونحن لا نعلم هل ندرك بقية الشهر أم يحال بيننا وبين ذلك، نسوّف ونؤخّر ونؤجّل ونتباطأ ونحن نعلم أن رمضان شهر الرحمة والمغفرة والتوبة والعتق من النار، يريد أحدنا أن يقرأ بعد صلاة الفجر جزءًا من القرآن، فيترك ذلك لأنه مرهق من السهر، ثم يريد ذلك بعد الظهر فيمنعه الإرهاق بسبب العمل، ثم بعد العصر فيمنعه التسوق وشراء حاجات أهله، وفي الليل يسهر مع الأقارب أو يجلس مع الرفاق، وهكذا ينسلخ رمضان وهو لم يختم ولو مرة واحدة. فيا معشر الصائمين، الجدَّ الجدَّ والتشمير، وإياكم والتسويف والتأجيل والتأخير، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93].
ومن أسباب الخسارة في رمضان منذ سنوات المسلسل المسمى بـ"طاش ما طاش"، وهو مسلسل لا يخفى على الغيور ما عرِض فيه ويعرض إلى الوقت الحالي، مما قرح أكباد الغيورين، وضاقت به صدورهم، وأقض مضاجع أهل الدين، وطال له ليلهم، من استهزاء بالشرائع المحكمة، وسخرية بالسنن النبوية المتبعة، وتنقص للمبادئ الإسلامية العظيمة، ومحاولات لتقليل قدر الأحكام الشرعية في قلوب المسلمين. وقد صدر من اللجنة الدائمة للإفتاء بيان حول هذا المسلسل الخبيث منذ أكثر من سنتين، بين فيه علماؤنا حرمة مشاهدته والجلوس لمتابعته، ووضح بعد ذلك خطباء وتكلم علماء، ونبه ناصحون وحذر مشفقون مما يعرض في هذا المسلسل، ومع كل ذلك ألقى أصحابه كل هذه الفتاوى وراءهم ظهريًا، ولم يزدادوا إلا خبثًا وتبجّحًا واستهزاء بشعائر الله وتنقّصًا، وظل عوام الناس والرعاع والمغفّلون يجلسون بعد مغرب كل يوم من أيام رمضان المباركة؛ ليبدّدوا ما جمعوه من حسنات في نهارهم وشفق الشمس لم يغب، يتسمرون أمام هذا المسلسل ويضحكون، ويطعنون في قلوبهم وهم لا يشعرون، وتنتهك حرمات الله، وتحقر شعائره وهم راضون. إن هؤلاء الفجرة الفسقة المغرضين لم تتحمل أعينهم نور الإسلام فعميت، ولم تثبت أبصارهم أمام شعاع الإيمان فعشيت، فصاروا خفافيش ظلام، يعملون في الخفاء لإطفاء نور الله، ثم لما لم يجدوا من ينتبه لهم ويردعهم لبسوا جلود النعاج على قلوب الذئاب، وجعلوا شعارهم إضحاك المشاهدين وإمتاعهم، والواقع يدل على أنهم تدثروا بالفسق والنفاق والشر، ولم يبق إلا أن يخرجوا غدًا فيعلنوا الكفر البواح من غير حياء ولا وجل. إن أمر هذا المسلسل ـ أيها المسلمون ـ لم يعد خافيًا على كل ذي عين ولب، وما الشر الذي ينشر فيه بسرٍّ فيُكتم، وما حال أصحابه بخاف فيطوى، بل لقد غدا من المجاهرة التي نخشى على أنفسنا بسببها من العقوبة ورفع العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إنه لا يسعنا ـ أيها الإخوة ـ السكوت عن هذا المنكر العظيم، بل لا بد لنا من الإنكار كلّ على قدر استطاعته، وإننا لنذكّركم ـ أيها الآباء والأولياء ـ بعظم المسؤولية الملقاة على عواتقكم، محذّرين من مغبة ترك أجهزة اللهو والباطل في بيوتكم بين نسائكم وأبنائكم وبناتكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ومن أسباب الخسارة في رمضان وفي غيره ـ أيها المسلمون ـ امتلاء القلوب بالغل والحقد والحسد، وابتعاد كثيرين عن الصفح والعفو والتسامح، كم من الناس ممن لم يزالوا في هذا الشهر الكريم متشاحنين، وكم من الصائمين ممن ظلوا متقاطعين متهاجرين، يعملون ويعملون، ويرجون ويَأمَلون، ولكنهم بنص حديث رسول الله محرومون، قال : ((تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا)). أفلم يَأْنِ للقلوب المتنافرة أن تتقارب وتتآلف؟! ألم يَأْنِ للأيدي أن تتصافح وتتماسك؟! إلى متى والقلوب تعاند الفطرة السوية؟! إلى متى والكبر يوقد ضرامها ويشعل فتيلها؟! أما نجح رمضان في أن يعيد البسمة لوجوه طال عبوسها؟! أما نجح رمضان في أن يكسر نفوسًا طال تكبرها وتجبرها؟! أما آن للشفاه المطبقة أن تنفرج؟! أما آن للقلوب المغلقة أن تنفتح؟! إن قلوبًا لم تفلح المواعظ في إعادتها للحق فإن لفح جهنم هو القادر على أن يكسر مكابرتها ويرغم أنف باطلها، إن نفوسًا لم تنكسر في رمضان وتخشع لذكر الله حريَّة أن يخسر أصحابها يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
أيها المسلمون المتهاجرون، كيف ترجون الفلاح وقد سددتم طريقه؟! كيف ترجون الأجر وقد أوصدتم أبوابه؟! كيف تأملون القبول وقد غلظتم حجابه؟! كيف تطلبون أن تستلذ قلوبكم بصيام أو قيام أو ذكر وقراءة قرآن وأنتم قد أفسدتموها بالتحاسد وملأتموها بالتباغض؟! إن قلوبًا مُلِئت بهذه الأمراض الفتّاكة حرية أن لا يبقى فيها مكان للذة، وإن قومًا ولجت بيوتهم اللعنة حريون أن لا يجدوا طعم الراحة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
أيها المتهاجرون، لقد سئل رسول الرحمة والهدى : أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مَخْمُوم القلب صدوق اللسان)) ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مَخْمُوم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)). فطهّروا قلوبكم تفلحوا، وتصالحوا مع إخوانكم تؤجروا، ولا تؤجّلوا وتسوّفوا فتخسروا، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، واحذروا عدوكم الشيطان واقهروه، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
أيها المؤمنون، رَحَل الثلث الأول من رمضان، رَحَل ثلث الرحمة، رحل كساعة من نهار أو هو أسرع، ومضى بما أودعناه من خير أو شر، ولئن كنا فرّطنا فيه وقصّرنا فإن ما بقي أكثر مما فات، بقيت عشر المغفرة ثم عشر العتق، بقيت ليلة القدر وليلة توفية الأجر، فلنُرِ الله من أنفسنا خيرًا، واللهَ اللهَ أن يتكرر شريط التهاون والتسويف، وحذارِ حذارِ أن تستمر دواعي الكسل والتفريط، فلُقْيَا الشهر مرة أخرى غير مؤكّدة، ورحيل الإنسان مُنتظر في أية لحظة.
رحل الثلث الأول وبين صفوفنا الصائم القائم العابد، الذاكر التالي الراكع الساجد، الداعي المستغفر المتبتّل، الباذل المنفق الجواد المتصدّق، نقيّ القلب والسريرة، طيّب الذكر والسيرة، فهنيئًا له عشر قضاها بخيرات كهذه، وهنيئًا له الأجور من الرب الغفور. رحل الثلث الأول وبين صفوفنا صائم عن الطعام والشراب، مفطر على أعراض المسلمين وعلى الحرمات، مطلق عينيه في الشاشات والأسواق، مرخ أذنه لاستماع الغناء والمزامير. رحل وبين صفوفنا من فاتته صلوات وجماعات، قد آثر النوم والراحة على كسب الأجر وابتغاء الثواب. رحل الثلث الأول وبين صفوفنا بخيل شحيح، لم تمتدّ يده لتسعف محتاجًا أو تمسح دمعة يتيم، أو تفطّر صائمًا، أو تفرّج كربة مكروب. رحل وفينا من هو أسوَد السريرة، سيئ العشرة، دخيل النية، فاسد الطوية. فأحسن الله عزاء هؤلاء وأمثالهم في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم في ثلث الرحمة، وأحسن لهم استقبال البقية من شهرهم، وجعلهم فيما يستقبلون خيرًا مما ودعوا.
اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح نياتنا، رب أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، رب اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك أواهين، لك مطواعين، لك مخبتين أواهين منيبين، رب تقبل توباتنا، واغسل حوباتنا، وأجب دعواتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا، إنك على كل شيء قدير...
(1/4495)
عشر رمضان وحقيقة الصوم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحقيق الاستسلام لله من أجلّ حكم الصيام. 2- حقيقة الصوم. 3- أحوال الناس بعد الإفطار. 4- علامة قبول العمل الصالح. 5- هل ستدرك رمضان القادم؟ 6- خطورة إهمال الأولاد في العشر الأواخر من رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فتمسّكوا بها وحقّقوها، واهجروا الدنيا وطلّقوها، وتخفّفوا من الذنوب وفارقوها، فإنها سبب كل بلاء وطريق كل شقاء، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
أيها المسلمون، وفي أيام رمضان ـ وما أحلاها من أيام ـ يجتمع الإخوان والأحباب والجيران، ويكتمل عقدهم قُبَيل الغروب في مجلس يغمره الإيمان، فهذا مُهلّل وذاك مكبّر، وهنا داع وهناك مستغفر، لحظات إيمانية ودقائق روحانية، تمثّل الانتصار على النفس وقهر سلطان الهوى والشيطان، وتجسّد الاستسلام للأمر الإلهي والنهي الرباني، وما إن ينطلق صوت المؤذن لصلاة المغرب عاليًا حتى ينطلق القيد ويحلّ ما كان محرّمًا، فما أجمل هذه الصورة في الامتناع عما كان محرمًا، ثم إتيانه حين صار حلالاً، مع أنه ليس بينهما إلا لحظات يسيرة ودقائق معدودة.
إنها ـ والله ـ الصورة التي يجب أن يكون عليها المسلم طول حياته، والشعور الذي يجب أن يحكم جميع تصرفاته، يعبد الله بترك المحظور كما يعبده بفعل المأمور، يمتثل الأوامر ويقف عند النواهي، ويحرص على السنن ويهجر المكروهات، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].
وذلك الاستسلام في الحقيقة ـ أيها المسلمون ـ يعد من أهم أسرار رمضان وأجل حكم الصيام، فالله جل وعلا لم يشرع الصيام على أنه حرمان مؤقت من الأكل والشرب فحسب، ولا ليكون تعذيبًا جسمانيًا بحتًا، أو معركة مبهمة مع أعضاء الجسد، بل شرعه ليكون سبيلاً إلى حرمان دائم للنفس من الشهوات المُسْتَعِرَة، ومنعًا لها عن النزوات المنكرة، شرعه لترويضها على الصبر وتحمّل المشاقّ، ولتحلّ الجد محل الهزل، ولتجعل محل البطالة العمل، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. والصوم نصف الصبر، كما جاء في الأثر.
ولكن الناس ما يكادون ينتهون من طعام الإفطار ويصلون المغرب حتى يتخلّف عن ذلك المجلس الإيماني أناس، ويخنس آخرون، فإلى أين يا ترى يذهبون؟ وبأي شيء ينشغلون؟ وما سبب تخلفهم؟ ولماذا تواروا عن إخوانهم؟ لقد تفرّقوا مختلفين ولكلٍّ منهم وجهة، فمنهم من جلسوا جلسة لهو ودخان، ومنهم من تسمّروا أمام التلفاز كالإبل العطاش؛ انتظارًا لمسلسل قد طفح الشر فيه وطاش، فلا يدري العاقل ماذا أصاب هؤلاء، وما الذي حدث لأولئك، وأين اختفت تلك الصورة البهية من امتثال الأمر والنهي، وكيف ضعفت تلك القوة في الفعل والترك، وهل كان صيامهم طول النهار عبادة أو هو من قبيل العادات، هل صاموا لله وطاعة لله، أم صاموا من باب: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. إن العاقل اللبيب ليحتار: كم شخصية يحمل بعض الناس؟! وبكم عقل يفكرون؟! وأي فهم للدين يفهمون؟! وإلا فإن العبادة الحقيقية لله ليست في مكان دون مكان، ولا تقتصر على زمان دون زمان، وليس اتباع الأوامر واجتناب النواهي مقصورًا على حال دون حال، فأينما تولّوا فثَمّ وجه الله، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
فيا أيها المؤمن الصائم المبارك، يا من تقع في معصية الله بُعَيد إفطارك، إن الذي حرّم عليك الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فأطعته ثم أحله لك في الليل فامتثلت أمره، إنه سبحانه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فحرم أشياء تضر الإنسان أو لا مصلحة له فيها، وأباح له ما فيه نفع ظاهر أو مصلحة راجحة، فلماذا يطيع بعض الناس ربهم حينًا ويعصونه أحيانًا أخرى؟! لماذا يمتنعون عن أشياء ولا يفكرون في إتيانها في بعض الأوقات، ثم يطلقون لأنفسهم العَنان في أشياء أخرى، أو لا يرون في إتيانها بأسًا في أوقات أخر؟! لماذا يطيعون الله في نهار رمضان ويتحملون الجوع والعطش والصبر عما أحل الله، ثم لا يطيقون الصبر عن معصيته في الليل بمشاهدة الحرام وشرب الحرام؟!
أيها المسلمون، أإلهًا واحدًا نعبده ونطيعه بامتثال أمره واجتناب نهيه، أم نحن عبيد للهوى والنفس والشيطان؟! أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
إن الذي لا يكاد يفطر من صومه عما أحل الله حتى يفطر بعده على ما حرمه الله من شرب دخان واستماع غناء أو متابعة مسلسلات أو مشاهدة تمثيليات أو نظر إلى ما حرم الله من صور النساء في التلفاز أو القنوات، إن هذا ـ لعمرو الحق ـ يجني على نفسه جناية عظيمة؛ حيث يبدّد ما جمعه في نهاره من حسنات، ويستعيد ما تخلص منه من سيئات، بل إن في ذلك دليلاً على عدم قبول عمله، إذ إن من علامة قبول العمل الصالح إتباعه بالعمل الصالح كما قرر ذلك العلماء والعارفون، ومن علامة رده ونقصه أن يتبعه العامل بما يبطله وينقضه أو ينقص ثوابه.
أيها المسلمون، إن الصيام الحقيقي ليس في الامتناع عن الطعام والشراب، أو في ترك المفطرات الحسية طول النهار، ثم إطلاق العَنَان للنفس بعد الغروب، لتعُبّ من الملذات وترتع في الشهوات، إن من يفهم الصيام بهذه الكيفية القاصرة فعليه أن يجدد فهمه ويصحح نظرته.
أيها المسلمون، لقد كان خير الأمة وهم صحابة رسول الله كانوا يعملون أعمالاً لا يصل أحدنا اليوم مهما بلغ إلى مِعْشَار عُشْرها، من صلاة وصيام، وصدقة وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك كانوا يخافون أن ترد عليهم هذه الأعمال، فلم يكونوا يُدْلُون على الله بأعمالهم، بل كانوا كما قال الله عنهم: يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]. أما نحن اليوم ـ والله المستعان ـ فمع أدائنا العبادات بتثاقل وتكاسل، ومع تقصيرنا الواضح في جنب الله، إلا أننا لا نكاد ننهي العبادة ونخرج منها حتى ننسى أثرها، وننتقل منها إلى المخالفات دون شعور بالتناقض الذي نقع فيه، أو إحساس بقبول أعمالنا أو ردها، بل قد يخيل لبعضنا من قلة فقهه وضحالة فهمه أنه يحمل شهادة قبول لعبادته وطابع رضا عن عمله.
إنه ينبغي للصائم ـ يا عباد الله ـ أن يستشعر عظمة عبادة الصوم التي كان متلبّسًا بها، وعظم الأجر الذي أعده الله للصائمين، فلا يفرّط فيه بما ينقضه أو ينقصه، بل يجب عليه قبل أن يعصي الله سبحانه بأي معصية عليه أن يفكر: هل قُبِل منه صيامه أم رُدَّ عليه؟! فإن كان الله قد تقبل منه صيامه فما هذه ـ والله ـ بحال من يشكر الله على نعمة القبول، وإن كانت الأخرى ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فكيف يهنأ امرؤ ويضحك وهو مبعد مردود؟!
إن المسلم يجب أن يحيا بين خوف ورجاء، وأن يعيش بين رغبة ورهبة، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه، يرغب في جنته ويرهب من النار، تلك هي حال أنبياء الله وأوليائه، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه كما أن الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وما حديث المفلس عنا ببعيد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.
ثم اعلموا أن الله سبحانه قد تفضل عليكم حيث بلغكم أيام رمضان المشرقة ولياليه المباركة، ثم تفضل عليكم ومَنَّ عليكم مرة أخرى حيث بلغكم هذه العشر المباركة، فاغتنموا ما بقي منها بالأعمال الصالحة، واحذروا السيئات والمخالفات، فإن أحدكم لا يدري ـ والله ـ أين رمضان القادم منه، وأين هو من رمضان، فكم صام معنا في العام الماضي من أخ وحبيب، وكم قام معنا من بعيد وقريب، ثم أمّلوا أن يصوموا هذا العام ويقوموا فما استطاعوا، لقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فأصبحوا في قبورهم وحيدين، وبما قدموا من أعمالهم مرتهنين، لا يستطيعون زيادة في الحسنات ولا نقصًا من السيئات، لقد أتى عليهم هاذِم اللذات ومفرق الجماعات، فاستبدلوا بظاهر الأرض بطنًا ولحودًا، وبالأهل غربة ودودًا، وبالنور والبهاء ظلمة ووحشة، التراب أكفانهم، والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعيًا، ولا يسمعون مناديًا. وايم الله ـ يا عباد الله ـ ليوشكن أن يأتي رمضان على أحدنا وقد وُسِّدَ التراب، وفارق الأهل والأولاد والأحباب، فما بالنا وقد مدت آجالنا، وبلغنا الله هذه العشر المباركة، ما بالنا نتكاسل ونتباطأ؟! ولماذا نفرط ونضيع؟! لماذا قلّ المصلون في عشر العتق من النار؟! لماذا كثر المتخلّفون عن صلاة القيام بالأسحار؟! أتراهم استبطؤوا خروج رمضان، أم استثقلوا الطاعة؟! هل استغنوا عن رحمة الله؟! أم هل زهدوا فيما عند الله؟!
فيا معشر الصائمين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
وا إخوتاه، أنقذوا أنفسكم من النار، واطلبوا رحمة العزيز الغفار. وا إخوتاه، خذوا نصيبكم من هذه الأعضاء في طاعة الله قبل أن تودع اللحود ويأكلها الدود. وا إخوتاه، اغتنموا أوقاتكم وساعات أعماركم قبل أن تقولوا: يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها.
وهنا مسألة يجب الاهتمام بها ووضعها في الحسبان، خصوصًا ونحن نعيش آخر هذا الشهر في إجازة من الدراسة والأعمال، ألا وهي أن رمضان ـ وخصوصًا عشره المباركة ـ ينبغي أن تكون محضنًا لتربية الأبناء والأولاد، وزمّهم عن سفاسف الأمور وساقطها، أو عن أن يكونوا أَحْلاس عبث وصخب، قعدًا بكل صراط وطريق، وعلى باب كل مسجد ودار، يهوّشون ويشوشون ويوعدون، أو يؤذون المصلين والتالين، بصوت المفرقعات والألعاب النارية المشؤومة التي ألهتهم عن ذكر الله، وشغلتهم عن الصلاة، وجعلتهم وآباءهم ومن باع هذه المفرقعات واشتراها، جعلتهم عرضة لدعوة مؤمن آذوه، أو مصل شغلوه، أو شيخ من نومه أيقظوه، أو غافل روّعوه، ناهيكم عن العبث بالسيارات في هذه العشر المباركة، وإيذاء الناس في أسواقهم وطرقاتهم بالمهاترات والمعاكسات، ورفع أصوات المسجلات، في خليط من التصرفات الهوجاء التي أحسن ما فيها أنها غير حسنة، في حين أن المستقرّ من مبادئ الإسلام أن هذا الشهر المبارك والموسم العظيم مستقر للعبد ومستراح له، يستجم فيه من وعثاء الكدح وكآبة الدنيا.
ألا فرحم الله امرأً عرف لهذه العشر فضلها، وقدر هذه الليالي حق قدرها، فقضاها في طاعة، وتزوّد من الخيرات، وزمّ نفسه وولده عن المعاصي والسيئات، وكفّ الشر والأذى عن المسلمين والمسلمات، فإن المسلم الحقيقي ـ أيها الإخوة ـ هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه.
(1/4496)
أقبلت يا رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واجبنا تجاه نعمة الإسلام. 2- الحث على اغتنام مواسم الطاعة. 3- من فضائل شهر رمضان. 4- المبادرة بالأعمال الصالحة في رمضان. 5- فضل الإنفاق في سبيل الله وتفطير الصائمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على أن اصطفى لكم الدين وجعلكم مسلمين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:77، 78].
أيها المسلمون، إن السرور الحقيقي والفرح المشروع إنما هو بالهداية إلى دين الإسلام واتباع محمد عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، وإن من الاغتباط بنعمة الهداية للإسلام أن يعتزّ المسلم بدينه بالقول، ويظهر شعائره بالفعل، ويصرح بالبراءة من كل ما خالفه من عامل أو عمل، ويستقيم عليه امتثالاً للمأمور وتركًا للمحظور، قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161-163]، وقال سبحانه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112].
وإن من الفرح بفضل الله ورحمته والاغتباط بنعمته اغتنام مواسم الخيرات وأوقات الطاعات، وانتهاز فرصها، والمبادرة بالجد فيها بصالح العمل، والتوبة إلى الله عما مضى من النقص والخلل، والتنافس في الطاعة وتجديد النشاط في البر، وإزالة مظاهر السآمة والملل والفتور، والمسارعة والمسابقة إلى دار النعيم والحبور.
يقال هذا الكلام ـ أيها الإخوة ـ ونحن مقبلون على شهر عظيم ووافد كريم، أظل زمانه وقرب أوانه، شهر تضاعف فيه الأجور والحسنات، وتمحى السيئات، وتقال العثرات، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتقبل فيه التوبة، وتصفد الشياطين، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر من أدركه فلم يغفر له فيه فقد أبعده الله، ومن دخل عليه وخرج وهو خاسر فما أعظم خسارته، شهر كان النبي يبشر أصحابه بقدومه فيقول: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)).
أيها المسلمون، إنكم ستدخلون موسمًا عظيمًا من مواسم العمل الصالح، وستغدون إلى سوق من أسواق المتاجرة والمرابحة، وإن للربح أسبابًا أجمع العقلاء على عدم حصوله إلا بها، منها الاستعداد بعرض شريف البضاعة ونفيسها، وصيانتها مما يصرف النظر وينفر المشتري منها، مع الصدق والبر في البيع، واستكمال الوقت في العرض، وحسن الخلق من صاحب البضاعة. فإذا كان هذا ونحوه لازمًا للربح في التجارة مع المخلوقين فما ظنكم بما ينبغي من الآداب في التجارة مع رب العالمين؟! فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا يرضى من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِيَ به وجهه، وكان موافقًا لما شرع على لسان نبيه وحبيبه وأعلم الخلق به.
فبادروا ـ عباد الله ـ بالتوبة النصوح إلى ربكم من جميع الخطايا والسيئات، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى فعل الطاعات، فإن المسارعة إلى الخيرات صفة عظيمة من صفات الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وإن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى رفيع الدرجات في الآخرة، قال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12]. وإن استباق الخيرات مفتاح لخزائن الأعمال الصالحات، فما يكاد العبد يفرغ من عمل صالح سبق إليه إلا فتح الله تعالى له برحمته أبوابًا مثله، قال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]. وإن السابق إلى الخيرات يجعله الله إمامًا للمتقين، يقتدون به في كل ما يرضي رب العالمين، وهذا مطلب عزيز من مطالب عباد الرحمن الذين قال الله سبحانه في وصفهم: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وقال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73]، وقال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وفي الصحيح عن النبي قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)) ، وقال : ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)).
وإن من كانت عادته المسابقة إلى الخير فإن الله يكتب له عمله الذي اعتاده ولو لم يعمله إذا حال بينه وبين فعل الخير عارض من مرض أو سفر أو نحوهما من العوارض، لما في صحيح البخاري رحمه الله عنه أنه قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)). بل إن العبد ليُبعث على ما مات عليه، روى مسلم رحمه الله عنه أنه قال: ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)) ، فمن جاءه الموت وهو من المسارعين السابقين بُعِث يوم القيامة من السابقين، فهنيئًا له قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10، 11].
ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستجيبوا لربكم لعلكم تفلحون، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]. تعرّضوا لأسباب رحمة الله في هذا الشهر الكريم فإنها كثيرة لا يحصرها بيان، واعلموا أن الله تعالى يعطي فيه الكثير من الأجر على قليل العمل، ويتجاوز عن عظيم الذنب وكثير الزلل، وهذا كله من فضله وجوده وكرمه عز وجل ، فأعدّوا العدة لصيام هذا الشهر وقيام لياليه، والتنافس في عمل البر وأنواع الخير فيه، وتعرضوا لنفحات الرب الكريم في سائر أوقاته بالتماس مرضاته، واستكثروا فيه من أنواع الإحسان، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، لا تحقروا معروفًا تبذلونه ولو كان قليلاً، ارحموا الضعفاء من اليتامى والنساء والمساكين، وأعطوا المحرومين، وأسعفوا المضطرين، وأغيثوا الملهوفين، وواسوا المنكوبين، وأكثروا من تلاوة القرآن، واشتغلوا بالذكر والدعاء، وانتصروا على ذواتكم وأنفسكم التي بين جنوبكم أولاً؛ لتتسلّموا زمام الريادة على أمم الأرض، وتنصروا على أعدائكم، صوموا عن الكذب والغيبة والنميمة، وترفّعوا عن الإفك والكذب والافتراء، واحذروا الغش والخداع والظلم، وتنزهوا عن نقص المكاييل وبخس الموازين، وتجافوا عن الربا والرشوة وغيرها من أنواع السُّحْت التي تمنع قبول الصدقة وإجابة الدعاء، فقد ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).
أيها المسلمون، إن الصائم هو أحق الناس بالبعد عن الحيل الدنيئة والخطط الآثمة، وأولاهم بتجنب المعاملات الظالمة الجائرة، وأحذرهم من كل ما يُقسّي القلب، ويثبّط عن الطاعة، ويهوّن الوقوع في الإثم والمعصية، وينزع بركة الوقت، ويفوت الخير، مِن سهر على غير طاعة، أو نوم عن عبادة، أو سماع غناء أو مشاهدة أفلام ماجنة وصور عارية، قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
ألا فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال الصالحة؛ فإنها التجارة الرابحة، واغتنموا حياتكم قبل انتهائها، وأعماركم قبل انقضائها، ونعمكم قبل زوالها، وعافيتكم قبل تحوّلها، ويسر أموركم قبل تبدلها، فهل تنتظرون إلا فقرًا مُنْسِيًا، أو غنى مُطْغِيًا، أو مرضًا مُفْسِدًا، أو هَرَمًا مُفَنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدجال فشرّ غائب يُنتَظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ. فاستبقوا الخيرات ما دمتم في زمن الإمهال، وتزودوا بصالح الأعمال قبل الرحيل والانتقال، ومن مُدَّ له منكم في أجله وبلغ رمضان فليحمد الله على بلوغه، وليعمل فيه عمل من يظن أنه لن يبلغه مرة أخرى، واحذروا التسويف والتباطؤ والتكاسل، فإن الله غني عمن لم يفتقر إليه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم ترزقوا وتنصروا وتجبروا.
أيها المسلمون، صح عنه أنه قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) ، وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلُوَّه ـ أي: مهْرَه ـ حتى تكون مثل الجبل)) ، وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما نقص مال من صدقة)) ، وفيه أيضًا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف)) ، وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
فأنفقوا ـ أيها المؤمنون ـ من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه لينظر كيف تعملون، أنفقوا من طيبات ما كسبتم؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273]، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
أيها المسلمون، يقول نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((من فطّر صائمًا كان له مثل أجره)). وانطلاقًا من هذا الوعد النبوي الكريم الصادق فستقام مشروعات لتفطير الصائمين في عدة جوامع ومساجد في هذه المنطقة بإذن الله، فنهيب بكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تغتنموا الفرصة، وتحتسبوا الأجر، وتشاركوا في ذلك بما تجود به أنفسكم ولو كان قليلاً، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]، وننبهكم إلى أنه إن فاض شيء مما تجودون به بعد رمضان من مال أو تبرعات عينية فسيصرف في أوجه البر المختلفة، ولن يدخر أو يبقى عليه.
(1/4497)
عيد الفطر: المسلمون بين الأمس واليوم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الفتن
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبل النجاة من الفتن. 2- أهمية الجهاد في سبيل الله. 3- من فوائد الابتلاء والتمحيص. 4- غياب الثقة بالله بين المسلمين. 5- أثر الغزو الفكري على الأمة الإسلامية. 6- حب الدنيا هو علة المسلمين. 7- البطولة والعزة الحقيقية. 8- الفرحة بالعيد. 9- كلمة للنساء في الحياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتزودوا بها وحققوها، وتخففوا من الدنيا وطلقوها، واحرصوا على ما يقربكم من خالقكم ومولاكم، عظموا أوامره واجتنبوا نواهيه، واحذروا سخطه وخافوا نقمته، زكوا أنفسكم وجوارحكم وأعمالكم، واحفظوا ألسنتكم وزنوا أقوالكم، اشتغلوا بما فيه نفعكم في دنياكم وآخرتكم، واحرصوا على ما فيه اجتماع أمركم واتفاق كلمتكم، وفروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، ما أحوج الأمة في أيام محنها وأوقات شدائدها إلى وقفات في مناسباتها وأعيادها، وقفات يتجدد فيها العزم على المجاهدة الحقة، ويعم فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد. ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها وقدرها، وترد على من يريد القضاء على كيانها. إن حقًّا على أمة الإسلام وقد تشابكت عليها حلقات من المحن وتقاذفتها أمواج من الفتن وصيح بهم من كل جانب وصوب وتداعى عليهم الأكلة من كل مكان، إن حقًّا عليهم أن يعودوا إلى سيرة نبيهم ؛ ليأخذوا منها الدروس، ويستلهموا العبر، لا في حال سلمهم وأمنهم فقط، ولكن في حال حربهم وجهادهم لأعدائهم، ليس الأعداء الخارجيين فحسب، بل حتى مع أعدائهم الذين هم من جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم، ممن قال الله فيهم: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا [الأحزاب:13، 14].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إننا اليوم نعيش فتنًا عظيمة ومصائب جمة، فتن شبهات وشهوات، تموج أعاصيرها كموج البحار، وتتقلّب فيها القلوب كما تغلي القدر بما فيها، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي موقنًا ويصبح متشكّكًا، يعادي من كان له وليًّا، ويوالي من كان له عدوًا، ويرى القبيح حسنًا والحسن قبيحًا، ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. الأمر الخطير العظيم الذي يحتم على كل مسلم يعتز بدينه ويفتخر به ويطمع في أن يلقى الله عليه غير مبدل ولا مغير، يحتم عليه أن يسعى لحفظ هذه النعمة، ويوجب عليه التمسك بهذه المنحة، وأن يبذل الأسباب التي تعينه ـ بإذن الله ـ على الثبات ومواجهة الفتن، إقبالاً على كتاب الله وسنة رسوله، وتطبيقًا لما فيهما قولاً وعملاً واعتقادًا، وطلبًا للعلم وإخلاصًا في تحصيله، وحرصًا على الاتباع وبُعْدًا عن الابتداع، وإكثارًا من الأعمال الصالحة الخالصة، وابتعادًا عن مظان الفتن ومواقعها ومسبباتها.
أما أقوى الأسلحة وأمضاها في اتقاء الفتن ـ خاصة والمسلمون يمرون بالظروف المعاصرة والمتغيرات المتسارعة ـ فهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، إذ به تُردّ عاديات الطغيان وكيد الشيطان، وبه ينتصر الحق ويزهق الباطل، فيكون الدين كله لله، ويبقى دين محمد مصدّقًا لما بين يديه من الحق ومهيمنًا عليه. ومن رحمة الله تعالى وتأييده لعباده المؤمنين أن هذه الفريضة العظيمة والشعيرة الجليلة لا تنتظر تكافؤ العدد والعدة بين المؤمنين وعدوهم، بل يكفي المؤمنين أن يعدّوا ما استطاعوا من القوى، وأن يتقوا الله ويثقوا بنصره، ويثبتوا عند المواجهة ويصبروا، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
ولقد عرف الأعداء أهمية الجهاد وخطره عليهم، فبذلوا قصارى جهدهم وعملوا ليلاً ونهارًا لإضعاف روح الجهاد في نفوس المسلمين وقلوبهم، فأبعدوا أهل الإسلام عن كل طريق جادّ، ونفخوا في القوميات الإقليمية والنعرات الجاهلية، وقطعوا حبال الأخوة الجامعة، وحاربوا الجهاد والمجاهدين بتهمة التطرّف والمتطرفين حينًا، وباسم الأصولية والأصوليين حينًا آخر، ثم باسم الإرهاب والإرهابيين كما هو الحال اليوم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر الإخوة في الله، إن المحن والبلايا وإن كرهتها النفوس إلا أنها تكشف عما في القلوب وتظهر مكنون الصدور، بها ينتفي الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء. إنها محك لا يخطئ وميزان لا يظلم، والرخاء في ذلك كالشدة، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء. ولقد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والشجاعة، ويحسب فيها التجرد والنزاهة، ويتوقع منها البعد عن الشح والحرص، فإذا نزلت النازلة ووقعت الواقعة واشتبكت الجيوش وحمي الوطيس تبين من بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه كان بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، وأن من الخير له أن يعتبر ويتعظ ويستدرك قبل أن يكون عبرة ويقع ضحيةً.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن الناظر فيما أصاب المسلمين من ابتلاء هذه الأيام يرى اختلافًا كثيرًا في مواقف الناس واتجاهاتهم، من صابر ثابت ومن جَزِع خائف، هذا موقن بنصر الله، وذاك شاكّ في وعد الله. ومن أسف أن كثيرًا منهم ومع أنهم يعيشون في غنى وسعة ويتقلبون في أمن وأمان ورخاء إلا أنهم أصبحوا يعيشون قلقًا وهمًّا، ويجدون في أنفسهم خوفًا وفَرَقًا، مما يخبئه لهم المستقبل القادم على ضوء الأوضاع الراهنة، وما كان هذا الخوف والفزع ليحدث بهذه الصورة المزرية التي جعلت كثيرًا منهم تختل عنده الموازين والتصورات، فيصدق الكذَبَة ويكذّب الصادقين، ويخوّن الأمناء ويأتمن الخائنين، بل ويقوّي صلته بالخلق وينقطع عن الخالق، أقول: ما كان هذا ليحدث لولا ضعف العقيدة في النفوس، واهتزاز بناء التوكل في القلوب، والغفلة عن سنن الله في نصر أوليائه وخذلان أعدائه.
أيها الإخوة، لقد مر بالمسلمين في تاريخهم الطويل أزمات وأزمات، وحلّت بهم بلايا ونكبات، سقطت دول وقامت دويلات، ونشبت نزاعات وخلافات، سقطت مقدّسات في أيدي الأعداء، وابتلي مجاهدون وعلماء، وسقط كثير من الشهداء، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]. إن مظاهر الضعف والهزائم التي أصابتهم لم تورث في نفوسهم شكًّا في عقيدتهم، ولم تدفعهم إلى التطلع إلى ما عند أعدائهم، إنهم لم يعتقدوا الحق إلا في دين الله، لم يهنوا ولم يستكينوا حتى في حال الهزائم العسكرية؛ لأنهم علموا أن ما يحل من هزائم وما يقع من نكبات ما هو إلا من سنن الله في الابتلاء والتمحيص، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].
أما في الواقع المعاصر ـ أيها الإخوة ـ فقد عرف العدو سر القوة ومصدر العزة، فعمل عمله في الغزو الفكري على كل الأصعدة، وكرّسَ جهده في قَلْب المفاهيم وإفساد التصورات بشتى الطرق، فاختلفت الحال واختلّ الميزان، فوُجِد في المسلمين من يشك في صلاحية الإسلام عقيدة وشريعة، ظهر فيهم من يوالي أعداء الله وأعداء رسوله الموالاة الممنوعة، وخرج من يعتقد الخير في غير دين الله، ووُجِد من ينشد السعادة في غير حكم رسول الله؛ ذلك لأن أكثرهم اليوم صار إمّعة مقلدًا، يتلقّى ثقافته من جرائد مخدوعة ومجلات مشبوهة، ويستقي معلوماته من قنوات مغرضة وإذاعات مبغضة، قدوته كُتّاب مأجورون وصحفيون مفلسون، إن أحبوا حمدوا ومدحوا، وإن أبغضوا ذموا وقدحوا، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، مصادرهم وكالات أنباء يهودية ماسونية، ومعتمدهم على أخرى نصرانية صليبية، يدسون السم في العسل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
أيها المسلمون، إن التخلي عن هذا الدين أو التشكك فيه والتخلف عن ركب محمد ، إنه لخسارة ما بعدها خسارة، وإن خذلان المسلمين المستضعفين المظلومين وعدم نصرهم ولو بالدعاء لهم وتوضيح قضاياهم على حقيقتها، إنه لقاصمة ما بعدها قاصمة. إنه ـ وربّي ـ التلاشي والاضمحلال، ومن ثم الهلاك والفناء. إن الحياة الحقيقية ليست صورة اللحم والدم، ولا هي امتلاء العضلات قوة وفتوة، وإن القوة العظمى والأمان الحقيقي ليسا في العيش في ذُرَى البشر وحماهم مهما كانت قوتهم وأسلحتهم. إن الحياة والقوة في تقوية الصلة بالله، وإن العزة التي لا تُضَام والمَنَعة التي لا تُرام إنما هي في السير على نور من الله والاستجابة لندائه: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:193]. لقد خرج الدعاة الفاتحون من أسلافنا العظماء مُرَقَّعِي القمص مَخْصُوفِي النعال، فحكموا العالم بحسن سيرتهم وصدق سريرتهم، صدقوا الله فصدقهم، ونصروه فنصرهم، وأحيوا دينه وشرعه وسنة نبيه فأحيا قلوبهم ونوّر بصائرهم، لقد شع نور الإيمان في جنباتهم، فميزوا به الخير من الشر، وعرفوا به النفع من الضر، وفرقوا بين المعروف والمنكر، ميزوا الصديق فوالوه، وتبينوا العدو فنابذوه.
أما المقطوعون عن الله في هذا الزمان فإن نظرتهم لم تتجاوز الحياة الدنيئة بمتعها، وتطلعهم لم يتعد حدود مآربهم الشخصية، تمسكوا بالقشور والماديات، واستغرقوا في الشهوات والملذات، فملؤوا الدنيا ظلمًا وجورًا، وأترعوها فسادًا وخلاعة. وإن التقدم الملموس في مجال التقنيات والآليات والعلوم التجريبية لم يغن عن عالم اليوم شيئًا، فالعالم يموج بفلسفات الشرق الملحد والغرب الكافر، إيمانًا بالماديات البحتة، وإنكارًا للحقائق الغيبية، واطراحًا للقيم العالية، ونبذًا للأخلاق النبيلة. تَقَاتُل على المصالح الخاصة والأنانيات المستحكمة، وصراع على مقدرات الشعوب وثرواتها، حروب تتفجر وأمراض تتنوع، والإنسانية تزداد كآبة وتحسّرًا. شحّت الموارد، ونزعت البركات، فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ويسعون في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن علة العلل في عالم اليوم هي ما ران على القلوب من الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها، والغفلة عن آيات الله وسننه. إن نفوس كثير من المسلمين اليوم نفوس صغيرة ذليلة، فقدت طعم العزة ولذة الانتصار، وإن أفئدتهم أفئدة غافلة لاهية، نسيت ربها وخالقها، وتناست وعده، واستخفت بوعيده، استصغروا أنفسهم، واستعظموا أعداءهم، وتناسوا إيمانهم وجنود ربهم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
إن الناشئة في كثير من بلاد المسلمين اليوم يُذَادون عن كتاب الله ذَوْدًا، ويصرفون عن سنة نبيهم وهدي سلفهم، دينهم تُعَكَّرُ منابعه، وتاريخهم تُشَوَّهُ مصادره، يُبعَد علماؤهم ويحاربون، ويُقرّب أعداؤهم ويسالمون. إن الرقيب ليلمح أجسامًا تتحرك في مآرب الدنيا، وطغامًا كثيرًا من الكبار والصغار، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، غفلوا عما خلقوا من أجله، واشتغلوا بما لا ينفعهم الاشتغال به، جهلوا ما تنفعهم معرفته، وعرفوا ما يضرهم العلم به، خلت قلوبهم من ماء حياتها ومادة غذائها، فامتلأت هواءً، وأُتْرِعَت غُثَاءً، فرغت أو كادت تفرغ من محبة الله والأنس بطاعته، وشحنت بالغفلة وكراهية الموت.
وإذا أردت على ذلك دليلاً وبرهانًا فانظر إلى ما يشغل الناس اليوم به أنفسهم، وفيم يقضون أوقات فراغهم، وعلام يجتمعون، وفيم يتناقشون، وما الهمّ الذي يتَلَجْلَجُ في صدر كل واحد منهم. إنك ستجد عقولاً خِواءً، وأفئدة هواءً، وسترى فتيانًا يضحكون ولا يبكون، ينطلقون إلى المنتديات يلعبون، ويتجمعون في أماكن اللهو يعبثون، ستُلْفِي أجسامًا وقوى تستغل في غير ما خلقت له، سهرها على لعب الورق، وتفكيرها في كيفية الفوز فيه، راحتها وأنسها الدشوش والقنوات، ولذتها استماع الأغاني والمزامير، ولاؤها في المنتخب والنادي، وهمّها ظهور نصره أو أفول هلاله، اتفاق على التشجيع واتحاد على حب الرياضة، متابعات واهتمامات، ولقاءات وتحليلات، ثغور وفنيات، وجرائد رياضية وصفحات، وهنا مقالات هجومية وهناك ردود دفاعية، مناوشات وسباب، ولوم وعتاب، وكأنما يخطط القوم لغزو اليهود وتحرير فلسطين، أو يعدون لنصر المظلومين على الظالمين، وحينما تقرأ وصف مباراة وتحليلها فكأنما توصف لك معركة حربية شرسة، وكأنما ينعت لك قواد عظماء فاتحون، منتصر رابح ومهزوم خاسر، وهذا مدرب قدير وذاك قائد فذ، وهذه خطة هجومية وتلك دفاعية، إلى آخر ما هنالك من إفك وكذب، في سلسلة من تزويق الكلام وزخرفة القول والتلاعب بعقول الرعاع والطغام.
وإذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى ما يرد عليهم اعتزازهم بإيمانهم وثقتهم بأنفسهم ورجاءهم في مستقبل مشرق تكون كلمة الله فيه هي العليا ودينه هو الظاهر. يجب على المسلمين أن يستشعروا مسؤوليتهم وريادتهم، وأن عليهم دعوة هذه القطعان الضالة إلى الدين القويم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
إن الأمة تكون عزيزة حين تربي أبناءها على خلق الشجاعة وصرامة العزم، وحين تعوّدهم علو الهمة وبعد النظرة، تكون عزيزة حين تلد أبطالاً وتعدّ أجيالاً وتبذل جهودًا لا تعرف حدودًا، لا يقعد بها بخل ولا يلهيها غنى. لا يصنع التاريخ ـ أيها الإخوة ـ إلا الرجال الأعزّة، أهل الحق والإيمان والعقيدة، وأصحاب المبادئ السامية والأهداف النبيلة، المتمسكون بدينهم وقيمهم وأخلاقهم.
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن العزة والأمن والرخاء باقية لأهل الإيمان والحق ما استقاموا على النهج وأصلحوا نفوسهم؛ ذلك أن العزة لا تجتمع مع السفاسف والدنايا، والأمن لا يتفق مع الجرأة على انتهاك حرمات الله وتعدي حدوده، والرخاء لا يكون مع البعد عن الله ومعاداة رسوله وأوليائه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن حقًّا على أمة الإسلام أن تجدّ لا أن تلعب، وأن تبكي لا أن تضحك، كيف اللعب والأقصى في يد اليهود؟! وإلى متى الهزل ومسرى رسول الله تدنسه القرود؟! وعلام الضحك ونحن في مؤخرة الركب؟! نسام كما تسام البهائم، ونخدر بالألعاب كما يفعل بالأطفال. إننا نحن المسلمين قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. هكذا أعلنها الفاروق على ملأ هم خيرة الخلق بعد الرسل، وهكذا نقولها اليوم وفي كل يوم، وسيبقى التاريخ يرددها ويكررها ما بقيت للكرامة عين تطرف وقلب يرجف، وستظل نبراسًا يضيء للأجيال طريقهم نحو المجد والقيادة.
أما ما تزعمه وسائل الإعلام المأجورة من بطولات رياضية وزعامات فنية فذلك هو عين الخداع للأمة ولشبابها، وذلك والله هو تخدير العقول والعواطف، وجعلها تنفق طاقتها في غير ما خلقت له، بل هو ـ ورب الكعبة ـ تنفيذ مخططات الصهاينة اليهود، لإبعاد المسلمين عن مصدر عزتهم ومنبع كرامتهم، وإقصائهم عن سر تفوقهم وسبب تغلبهم الذي ما كاد المسلمون يبتعدون عنه ويتخلون عن منهجه حتى انزووا في بقعة ضيقة ومساحة صغيرة، وعاشوا على هامش العالم بعد أن كانوا في مقدمة الركب، يتأثّرون ولا يؤثّرون، ويستوردون ولا يصدرون، يُقضى الأمر على غيبة منهم، ولا يُسْتَشهدون وهم شهود.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وقوموا بواجباتكم، واستمسكوا بدينكم، فإن المسلم الحق عزيز غيور، لا يقبل النيل من دينه ولا من نفسه، ولا أن يمس في أهله ولا ماله بغير حق، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاءني رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم في كل حين واعبدوه، واحمدوه على أن أتم عليكم شهركم واشكروه، واستمروا على طاعته إلى أن تلقوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن العيد في الإسلام غبطة في الدين والطاعة، ومظهر للقوة والإخاء، إنه فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات، وسرور بالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، إنه رضا بطاعة المولى وبهجة في الحياة الدنيا.
في الناس ـ أيها الإخوة ـ من تطغى عليه فرحة العيد فتستبد بمشاعره ووجدانه، لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد والإعجاب بالنفس، حتى يبلغ درجة المَخْيَلَة والتباهي. وما علم هذا المتباهي أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا من بعد عز، فاعتاضوا عن الفرحة بالبكاء، وحل محل البهجة الأنين والعناء. كم في هذا العيد من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويتلمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه، ويتطلع إلى من يخفف بؤسه. كم من أرملة فقدت عشيرها، وتوالت عليها المحن، تذكرت بالعيد عِزًّا قد مضى تحت كنف زوج عطوف. فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء المنكوبين، فيرعى اليتامى، ويواسي الأيامى، ويرحم أعزاء قوم قد ذلوا.
كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها، فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها، فلا تنسى أرض الإسراء في فلسطين، ولا أراض للمسلمين أخرى منكوبة، بمجاهديها وشهدائها، بأيتامها وأراملها، بأطفالها وأسراها. إنك ـ أيها المسلم ـ حين تأسو جراح إخوانك إنما تأسو جراحك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ [البقرة:272].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الإخوة في الله، إن الابتهاج بالعيد نعمة لا يستحقها إلا الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر، ويقظة لدسائس العدو، وعمارة للأرض بنشر دين الله. ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإن أعياد المسلمين يشارك فيها حق المشاركة ويبتهج فيها صدق الابتهاج أهل الطاعات من الصائمين والقائمين والركع السجود. أما من لم يصم لله عاصيًا، أما من لم يقم بما أوجب الله عليه معرضًا فلا عيد له ولا بهجة، ولا فرحة يستحقها ولا سرور. العيد مناسبة لتجديد أواصر الرحم بين الأقرباء، وتفقد حبال الود مع الأصدقاء، تتقارب القلوب على المحبة، وتجتمع الأفئدة على الألفة، وترتفع عن الضغائن وتنسى الأحقاد.
في العيد تنطلق السجايا والميول على فطرتها، وتبرز العواطف والعادات على حقيقتها، وقد قيل: من أراد أن يرى أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها. والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة، وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو في العيد متماسكًا متعاونًا متراحمًا، تخفق القلوب فيه بالحب والوفاء، وتنبض بالبر والصفاء.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وودعوا شهركم، وابتهجوا بعيدكم، بالبقاء على العهد، وإتباع الحسنة الحسنة، فإن ذلك من علامات قبول الطاعات، وقد ندبكم نبيكم عليه الصلاة والسلام بأن تتبعوا رمضان بست من شوال، فمن فعل ذلك فكأنما صام الدهر كله، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وثَمَّة كلمة أخيرة نخص بها أمهاتنا والأخوات، ندعوهن فيها إلى العودة إلى الحياء، وإلى التجمّل والتزيّن بالسِّتْر، فإننا نرى كثيرًا منهن إلى البذاءة سائرات، وفيما يغضب الله ماضيات، ملابس وأقمشة غالية، وأجسام وأبدان شبه عارية، قد شققن الثياب من كل ناحية، وفتحن الملابس من كل جهة، قص للشعور وتقصير للثياب، وتفنّن في نزع الجلباب والحجاب، وجوه تحمر وتصفر، وأصباغ للرموش وعدسات للعيون، ألا فليرجعن إلى الحياء، وليعدن إلى الفضيلة، فإن المجتمعات ما عانت من المصائب والمحن ولا انتشرت فيها الفتن والإحن إلا يوم ضاع منها الحياء، وصدق الذي لا ينطق عن الهوى حيث قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ألا فاتقين الله يا إماء الله، واتقوا الله أيها الأولياء، يا من تركتم لنسائكم الحبل على الغارِب، وأطلقتم لهن العَنَان، يلبسن ما شئن، ويفصّلن ما أردن، يذهبن للسوق وحدهن، ويختلطن بالبائعين، ويضاحكن العمال والخياطين، لا رقيب ولا حسيب، ولا آمر ولا ناهي، أنسيتم أنكم عنهن مسؤولون، وأمام الله في القيامة موقوفون، وعلى تقصيركم وتهاونكم نادمون؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
(1/4498)
أسس الانتصار على الأعداء
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن صالح المحمود
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما تواجهه الأمة الإسلامية اليوم من متغيرات. 2- أسباب هذه التغيرات. 3- سبل المواجهة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد: أيّها المسلمون، فإن أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة، لأسبابٍ منها وجود الانفتاح الإعلامي العالمي وعولمة الغرب وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة تكون بقوة الحق الواضح المستبين، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
أيها الإخوة في الله، إن أي انحرافٍ عن منهجهم بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلَّماته أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية لتحقيق مصالح قومية ونحوها أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته وعدم الصدام معها أو غير ذلك من ألوان الانحراف فلن يزيدنا إلا تفرقًا وضعفًا وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علمًا وعملاً وسلوكًا ومنهجًا هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها كما أخبر بذلك رسول الله ، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
عباد الله، ولعلّي أشير ـ في هذه العجالة ـ إلى جملةٍ من الأسس التي لا بد منها، أهمها اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه بعولمته وتقنياته وقوة أعداء الإسلام المادية وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علمًا وعملاً وتاريخًا وحضارةً وتجربة وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية على مختلف مدارسها الفكرية وعلى مدار قرابة المائة عام لم تقدّم فكرًا مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصرًا على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين ويفرح بالانتساب إليه ويرى فيه الحلول المثلى لواقعنا أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئًا بمجردها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعامين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين، وسلم تسليما.
أيها المسلمون، لا بد إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة من أمورٍ ثلاثة:
الأول: العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة إلى إسلامها عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداء الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتًا على هذا الدين وثقةً به وتمسكًا بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة ـ إن أردنا العودة حقًا وصدقًا ـ للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.
الثاني: اليقين التام بأن هذا الدين حق؛ لأنَّه من عند الله تعالى الملك الحق المبين، الذي أرسل خاتم رسله محمدًا ؛ لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك عرفوا به ولم يؤمنوا ويتبعوا محمدًا فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع، وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل على كل الأحوال لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعًا هدى ونورًا ورحمة وإنقاذًا لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث: الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية كما فعل رسول الله وصحابته الكرام، وهذا يقتضي العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة علمًا وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات، حكامًا ومحكومين، ولنعلم أنه ما لم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه بالأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ والصناعيةِ والاقتصادية، والتقنية على مختلف فروعها.
وديننا والحمد لله لم يعرف قديمًا أو حديثًا الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة والعلم المادي الصحيح النافع، وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي ـ تقليدًا لظروف علمانية الغرب وصراع الكنيسة والعلم عندهم ـ تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظرًا لبغضها وحقدها على دين الإسلام وجهل بعضهم به.
ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته وانحرافه وتحلله وضلاله واستعماره وظلمه وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع على مختلف تخصصاته وفروعه، فهو من أكبر الداعين إليه، وها هي شواهد حضارة الإسلام تدلُ على ذلك.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين...
(1/4499)
مكانة القرآن في النفوس
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن صالح المحمود
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة القرآن في قلوبنا. 2- أنواع هجر القرآن. 3- الأخطار المترتبة على هجران القرآن العظيم. 4- حال الناس اليوم مع القرآن. 5- فضائل القرآن الكريم. 6- الأهداف الأساسية لهذا القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد: أيّها المسلمون، سؤال عظيم يوجَّه إلى أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أيضًا يوجه إلى كل فردٍ من المسلمين، وبمقدار ما فيه من بداهة ووضوح فهو بحاجةٍ إلى أن يؤخذ بعزم وقوة.
والسؤال باختصار: ما منزلة هذا القرآن في نفوسنا وحياتنا إيمانًا وتصديقًا وعلمًا وفهمًا وعملاً وتطبيقًا وحكمًا وتشريعًا وشفاءً ودواءً لمختلف الأمراض؟ وهل نحنُ عارفون بمنزلة هذا القرآن علمًا وعملاً كما كان عليه رسول الله وصحابته من بعده؟ وإذا كنَّا عارفين فلماذا صارت أحوالنا هجرًا للقرآن كليًا أو جزئيًا حتى يكاد أن يتحقق فينا شكوى الرسول: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]؟!
وإذا علمنا أن هجر القرآن أنواع فالمشركون كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، بل إنهم قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، حيث كانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه بل من أعظم الهجران. وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه وتلاوته من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجرهِ من هجرانه، وترك التحاكم إليه في جميع الشؤون من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعرٍ أو قول أو غناء أو لهوٍ أو كلام أو طريقةٍ مبتدعةٍ من هجرانه، فما موقع كلُّ واحدٍ منا ـ أمّة الإسلام ـ من هذا الهجران للقرآن الكريم؟
أيها المسلمون، إنَّ من أخطر مسببات الهجران الانحراف عن الأهداف الكبرى والأساسية للقرآن؛ فعند البعض أنَّ هذا القرآن نزل للأموات وليس للأحياء، فلا يلتفتون إلى القرآن إلاَّ عند المآتم حين يموتُ ميت لهم، وحينئذٍ يجتمعُ القراء في هذا البيت الهاجرِ للقرآن، أو تصدع أجهزةُ التسجيل بالقرآن حسب العادة المتبعة. وأحيانًا ينقلون القراءَ إلى المقابر بعد زمن، وإذا كان الميت ذا شأنٍ كبير شاركت الإذاعة في إيقافِ إرسالها العادي لتبث القرآن. وعند البعض يكفي أن يفتتح بالقرآن في مؤتمراتهم واحتفالاتهم وفي إذاعاتهم، ويختتم به أحيانًا، وكل ذلك للبركة. وتحوّل القرآن عند البعض إلى تمائم ورقى تعلق على الأجساد وتوضع في البيوت أو السيارات دفعًا للضرر.
فهل نزل القرآن على قلب محمد ثم حفظهُ الله إلى قيام الساعة من التحريفِ والتبديلِ والزيادةِ والنقصان ليكون هكذا؟! هل نزل ليحتفظ كل واحدٍ منا بنسخةٍ من القرآن أو عدد من النسخ في بيته، ويبقى مركونًا لا نعطيه حتى جزءًا من وقت، ونعطي ذلك الجزء أو أكثر كلَّ يوم للجريدة التي نقرؤها ونطالعها؟! هل نزل هذا القرآن لنمدحهُ نظريًا مظهرين احترامه ومنزلته ثم نعرض عنه عمليًا في حياتنا ومناهجنا التربوية وأحكامنا وتشريعاتنا وجميع أمورنا؟! إن هذا القرآن له في أمةِ الإسلام شأنٌ وأي شأن؟!
أيها الإخوة في الله، وحتى أذكركم ونفسي بأهميةِ وعظمةِ هذا القرآن فاسمعوا إلى بعض ما ذكرهُ الله في كتابهِ عن كتابه، وتذكروا أن هذا الذي نتلوهُ كلام الله تعالى لا كلام بشر، قال تعالى: قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:37]، وقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، وقال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42,41]، وقال تعالى: آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وقال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:102]، وغيرها من الآيات كثير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لقد ميَّز الله تعالى هذا القرآن عن الكتب السابقة، وحفظه ليكون له شأنٌ في أمة الإسلام في أي مكان أو زمان إلى قيام الساعة. فما الأهداف الأساسية لهذا القرآن؟
أولاً: إن هذا القرآن هو كتابُ هدايةٍ لمن أراد السير على الصراط المستقيم، فهو هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، وقال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]. فالقرآن روحٌ ونور، روحٌ للحياة ونورٌ للطريق، حياة الإنسان وطريقه، وحياة الأمة وطريقها، فهو يخرج الإنسان والأمة من ظلمات الشرك والكفر والجهالةِ والعصيان إلى نور الإيمان والعلم والطاعة للواحد الديَّان.
ثانيًا: ثم إنَّ هذا القرآن كتابُ حكمٍ وتشريع، يشملُ جميع شؤون الحياة، بدءًا من حياة المواليد الرضع وانتهاءً بالموت وأحكامه الشرعية، وفيما بين ذلك يشملُ الأمور العبادية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. الخ.
ثالثًا: ثم إنَّ هذا القرآن كتاب عقيدةٍ خالصة صافية، فيه البيان الحق لكلِ ما وراء الغيب؛ مما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما يتعلق بخلقه للسموات والأرض والإنسان ونشأته، وما يتعلقُ بالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وما يتعلق بما يضاد ذلك من الكفر والشرك والنفاق، ودلائل الربوبية والألوهية والنبوات، وإعجاز هذا القرآن.
رابعًا: وهو أيضًا كتاب عبادة، يتعبد الإنسان بقراءتهِ وتلاوتهِ وحفظه، ويتقرب إلى الله تعالى بذلك، فهو نورُ قلوب العارفين والعابدين، يتلونهُ آناءَ الليل وأطراف النهار، ويعلمونه ويتعلمونه، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، وقال رسول الله : ((ومن قرأ حرفًا منه كان له به عشر حسنات)).
خامسًا: ثم هو حبل الله المتين في مواجهة أعداء الإسلام المتربصين بأمة الإسلام، حيث لا يرقبون فيها إلاًّ ولا ذمة، ولا يدعون وسيلةً في حربها إلاَّ سلكوها، فهذا القرآن يعلمُ الأمة حقيقة المعركة مع عدوها، ويبينُ لها أهدافها من جانب أعدائها، ثم هو يمدها بوسائل النصر وأسلحة الجهاد باللسان والبيان وبالسنان. إنَّ هذا القرآن معتصم هذه الأمة في جميع أحوالها.
سادسًا: ولأنَّ القرآن حق وصدق ولأنَّه من عند الله الحكيم العليم ففيه لفتات عظمى في نواحٍ متعددة: علمية أو طبية أو اجتماعية أو نفسية أو غيرها.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا...
(1/4500)
الحرص على تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
بدر بن ناصر الرميضي
مبارك الكبير
1/1/1423
جامع محمد الحماد العازمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية تربية الأولاد. 2- منشأ الخلل في تربية الأولاد. 3- سبل تعين على صلاح الذرية. 4- عقوق الآباء أبنائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه النسائي وابن حبان.
أيها الإخوة المسلمون، شباب اليوم هم رجال الغد وأمل المستقبل، وهم ثروة البلاد، وهم عدتها وعتادها وجنودها ورجالها. وإذا أردنا أن يكون أولادنا قرة لعيوننا وبهجة لقلوبنا فلا بد أن نرعاهم رعاية خاصة ونعطيهم كل اهتمامنا ونجعلهم أكبر همنا، فهم اليوم أمانة في أعناقنا، وغدا نسأل عنهم يوم القيامة؛ ولذلك نجد أن أمنية عباد الرحمن هي أن يرزقهم الله بذرية طيبة، يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
ولا يمكن للولد أن يكون قرة عين لأبيه إلا حينما ينشِّئه على الدين، ويحافظ عليه، ويحسن تربيته، ويتابعه في كل مرحلة من مراحل حياته، لا يتخلى عنه بأي حال من الأحوال. فالطفل يولد على الفطرة السليمة كما أخبرنا المصطفى عليه السلام، ولكن قد يأتيه الخلل من داخل البيت أو من خارجه، فيتحول الطفل من الفطرة السليمة إلى الانحراف المدمر.
نعم قد يبدأ انحراف الأولاد من البيت؛ لأن بعض البيوت ـ وللأسف ـ تدمر أخلاق الطفل؛ لأن بعض الآباء والأمهات جعلوا أولادهم آخر ما يفكرون فيه، فالأب مشغول والأم لاهية والبيت تدخل فيه المنكرات ولا أحد يدري, الخدم يعبثون في البيوت ويقومون بأعمال مشينة أمام الأولاد، فتنغرس هذه الأخلاق السيئة في ذهن الطفل الصغير الذي لا يميز، فتصبح جزء من سلوكه وأخلاقه. فنحن حينما نرى صبيّا يتسكع في الشوارع أو يدخن أو يأتي المنكرات أو يجهل دينه فلا تتعجبوا من الطفل، بل تعجبوا من ولي الأمر الذي وصلت به الغفلة والإهمال إلى هذا الحد وهو لا يدري عن ولده شيئا.
إهمال الأولاد ـ أيها الإخوة ـ يعرضهم إلى الضياع والانحراف, وأسوأ أنواع الإهمال حينما يعتمد الوالدان على الخدم في تربية أولادهم, فالخادمة هي التي ترضع الولد، وهي التي تطعمه، وهي التي تحمله وتحتضنه، وهي التي تنام معه، وهي التي تغسله وتنظفه، وهي التي تصنع له كل شيء إلى درجة أنه لم يبق للأم دور في حياة ولدها. هنا تتحطم نفسية الطفل؛ لأنه فقد أهم شيء بالنسبة له وهو حنان الأم وعطفها.
فترة الطفولة هي من أهم مراحل التربية والتعليم، ومع ذلك ضاعت حياة الطفل؛ لأنه قضى طفولته وهو يتنقل من خادمة إلى خادمة؛ ولذلك إذا أردنا أولادًا صالحين يكونون رحمة لنا في الدنيا ويشفعون لنا في الآخرة علينا أن نحرص على تربيتهم منذ الصغر. وأول شيء نبدأ به هو أن نعتمد على الله، ندعوه ونتوسل إليه بأن يرزقنا أولادًا صالحين، يقول الله سبحانه: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
ومن الأشياء التي تعين على صلاح الأبناء أن يجلس ولي الأمر مع أولاده يسمع منهم، ويكلمهم ويتقرب إليهم ويرشدهم إلى ما فيه الخير، ويحذرهم من الشر، ويشعرهم بعطفه واهتمامه، ويفتح لهم صدره، أما أن ينشغل الأب عن أبنائه فلا يراهم ولا يرونه فهذا خطأ كبير.
ومن الأمور المهمة أن يغرس الوالدان الإيمان في نفوس أولادهم، الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالرسل واحترامهم، والإيمان بالقرآن والعمل به، وهكذا يتعلم أصول الدين.
وأيضا لا بد وأن نعوّده على الصلاة منذ الصغر، ندعوه إلى الصلاة بالحكمة واللين، ونرغبه بالصلاة ونشجعه عليها، ونتابعه في صلاته كما نتابعه في دراسته بل وأكثر من ذلك، فالنبي أرشدنا إلى ذلك، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أحمد وأبو داود والحاكم.
ومن الأشياء المهمة في التربية أن يكون الوالدان قدوة حسنة لأولادهما؛ لأن الطفل أول ما ينظر ينظر إلى والديه، فعليهم أن لا يظهروا أمام أولادهم إلا بما يليق، ولا يأمر الوالد أولاده بشيء ويخالفه، ولا ينهى عن شيء ويأتيه. ولا بد للوالدين أن يغرسا في أولادهم الأخلاق الحميدة، كالصدق والوفاء والكرم والعفة واحترام المواعيد، فالصدق أساس الأخلاق وهو يهدي إلى البر، والكذب أساس الفجور وهو يهدي إلى النار.
ومن الأمور المهمة أن يتعرف الوالدان على أصدقاء أولادهم، فالطيور على أشكالها تقع، فمن صاحب الأخيار كان منهم، ومن صاحب الأشرار صار منهم. فعلينا أن نشجع أولادنا على مصاحبة الأخيار، ونحذرهم من رفقة السوء، عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي، وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه البخاري في الأدب المفرد ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإسلام، ومن لم يتعب في تربية أبنائه وهم صغار سوف يتعب معهم إذا كبروا وانحرفوا، ومن زرع في البداية خيرا سوف يحصد خيرا في النهاية.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه عقوق ولده، فأمر عمر بإحضار الولد، وأنّبَ عمر الولد لعقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟! قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب ـ أي:القرآن ـ، قال الولد: يا أمير المؤمنين، إن أبي لم يفعل شيئا من ذلك؛ أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلا، ولم يعلمني من الكتاب حرفا واحدا، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته من قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه من قبل أن يسيء إليك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
(1/4501)
من عجائب الآيات: النحل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, الربوبية, مخلوقات الله
حمادة بن غازي أبو عبيد
طور سيناء
جامع الكيلاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتأمل والتدبر في مخلوقات الله وملكوته. 2- حقائق وأسرار في حياة النحل. 3- دروس وعبر مستفادة من حياة النحل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله أيها الإخوة الأحباب، والله أسأل أن يجمعنا تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
"من عجائب الآيات" هذا هو عنوان لقائي مع حضراتكم في هذا اليوم الطيب المبارك، والذي نقضيه في بيت من بيوت الله العامرة مع هذه الوجوه النيرة، وسأطوف مع حضراتكم حول هذا الموضوع من خلال العناصر التالية: أولاً: دعوة للتأمل والتدبر. ثانيًا: آية عجيبة. ثالثًا: دروس وعبر. والله أسأل أن يعلمنا ما جهلنا وأن ينفعنا بما علمنا.
أولاً: دعوة للتأمل والتدبر:
أحبتي في الله، إن الكون كتاب مفتوح جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغة وبكل لسان، ويدرك بكل الحواس وبأي وسيلة للوقوف على صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى. هذا الإبداع الرباني الذي ينطق بعظمة الخالق جل وعلا؛ السماء وارتفاعها واتساعها وما فيها من مجرّات دائرة وكواكب نيرة ونجوم زاهرة، والأرض وانبساطها وانخفاضها وما فيها من جبال وبحار وثمار وأشجار وأنهار وإنسان وحيوان، تجعل القلب ينطق قبل اللّسان: أإله مع الله؟! قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:59-64].
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما فِي النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تَخطَّفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟!
قل للمريض نَجا وعُوفِيَ بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك؟!
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك؟!
قل للبصير وكان يَحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟!
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك؟!!
قل للجنين يعيش معزولا بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟!!
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك؟!!
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟!!
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تَحيا وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟!
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟!!!
بل سائل اللبن الْمُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟!
وإذا رأيت الْحي يَخرج من حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟!!
قل للهواء تَحثُّه الأيدي ويخفى عن عيون الناس من أخفاك؟!
قل للنبات يَجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟!!
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟!!
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا أنواره فاسأله من أسْرَاك؟!
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟!
قل للمرير من الثمار من الذي بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟!
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نَخل شقَّ نواك؟!
وإذا رأيت النار شبَّ لَهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك؟!
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا قِمم السَّحاب فسَلْه من أرساك
وإذا ترى صخرًا تفجر بالْمياه فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟!!
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال جرى فسَلْه من الذي أجراك؟!
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟!!
وإذا رأيت الليل يغشى داجيًا فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟!
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك
إنه الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
أين أنت ـ يا عبد الله ـ من التدبر في آيات الله؟! بل في نفسك أنت مَن الذي ركبك ذلك التركيب البديع؟! وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20، 21]. هل جلست مع نفسك جلسة مغلقة لتحدثها عن آيات الله في كونه؟! هل قلت لها: ويحك أين أنت من آيات الله؟! فالتدبر والتفكر من أعظم العبادات، وهو من عبادات الأنبياء؛ نبي الله إبراهيم لما أراد الوصول إلى الحقيقة قال عنه ربه: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، ورسول الله في غار حراء قبل البعثة يجلس طويلا ليتدبر آيات الله في الكون، بل الأعرابي الذي يسكن الصحراء لما سئل: كيف عرفت الله؟ قال: سبحان الله! إن البعر يدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟! سبحانه.
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسي
سل الروض مزدانًا سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطيْر شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا
فلو جم هذا الليل وامتد سرمدًا فمن غير ربِّي يرجع الصبح ثانيا؟!
ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل. فما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل، ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل، والفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
قال أبو سليمان الداراني: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة"، ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: التفكر والاعتبار، وعن محمد بن كعب القرظي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ(إذا زلزلت) والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهذّ القرآن ليلتي هذًا ـ أو قال: ـ أنثره نثرًا"، وعن طاوس قال: "قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرًا وصمته فكرًا ونظره عبرة فإنه مثلي".
والتفكر يكون في نعم الله وفي كل شيء إلا في ذات الله تعالى، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُو السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
وقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى عن الاعتبار والتدبر والنظر والتفكر، قال تعالي: يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَُ [البقرة:219]، وقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]، وقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8]، وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أماه كما قال الأول: "زُر غِبًّا تزدد حبًّا"، قال فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: ((يا عائشة، ذريني أتعبّد الليلة لربي)) ، قلت: والله، إني لأحب قربك وأحبّ ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟! قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران:190] )).
فلله في كونه آيات عجيبة تستحق الوقوف أمامها طويلاً، وهذا هو عنصرنا الثاني مع حضراتكم، ألا وهو: آية عجيبة:
إنها مخلوق صغير الحجم عظيم المنفعة، قد تنظر إليه ولا تعطيه أي اهتمام على الإطلاق، بل منا من لم يفكر فيه من الأصل، ومنا من ينظر إليه على أنه مصلحة مالية تجارية دون العبرة والاتعاظ. إنها النحلة التي شبه رسول الله المؤمن بها، تخيّل ذلك الإنسان وما به من حواس ومَلَكات يشبهه رسول الله بهذا المخلوق الصغير الضعيف، ولكن لعظيم فائدته قال رسول الله ـ كما في أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" ـ: ((والذي نفسي بيده، إن مثل المؤمن كمثل النحلة؛ إن أكلت أكلت طيبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا، وإن وقعت على عود لم تكسره ولم تفسده)). جاء في شعب البيهقي عن مجاهد قال: صاحبت عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن رسول الله إلا هذا الحديث: ((إن مثل المؤمن كمثل النحلة؛ إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه منافع)).
هذا المخلوق لو نظرت إلى تركيبه البديع وكيف وضع الله فيه من عجائب لوجدت العجب العجاب؛ النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافًا لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل من التبغ، فلا تأكل إلا الطيبات، فهل يعتبر بذلك أهل الغفلات؟! زودها الله بقرنين استشعار، وجعل فيهما شعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفًا، تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها.
للنحلة عيون كثيرة؛ في حافتي الرأس عينان، وعينان أخريان في أعلى الرأس، وتحتهما عين ثالثة، مما جعل لها سعة أفق في النظر، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد، علمًا بأن عيونها لا تتحرك، ولذا فالنحل يعيش في أماكن يكون فيها السحاب معظم شهور السنة، مع أن رؤية الشمس ـ كما هو معلوم ـ ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي فيها غذاء النحل، وهنا تكمن الحكمة في قوة رؤية النحل، فبإمكانها رؤية الشمس من خلال السحب، كل ذلك لئلا يموت جوعًا في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام كما هو في بعض البلدان. إنها لحقيقة مذهلة تدل على حكمة الله وقدرة الله ووحدانية الله وكمال تدبيره، فتبارك الله أحسن الخالقين.
أما فم النحلة فمن أعاجيب خلق الله في خلقه، إذ هو مزوّد بما يمكّنه من أداء جميع الوظائف الحيوية؛ فهو يقضم ويلحس ويمضغ ويمتص، وهو مع هذا شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبيعيًا، ولا يتحرج من المواد المرة إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه، فسبحانه وبحمده لا شريك له.
أما سمع النحل فدقيق جدًا؛ يتأثر بأصوات وذبذبات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان، فسبحان من زوده بها. وتحمل مع ذلك النحلة ضعفي وزنها، وبسرعة أربعمائة خفقة جناح في الثانية الواحدة، فسبحان الله! سبحان من خلق فسوى وقدر فهدى! فمن الذي هداها إلى ذلك؟! إنه الله رب العالمين، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومع ذلك ـ أحبتي في الله ـ لنا معها وقفات فيها دروس وعبر، ذلك المخلوق الصغير لنقارن بيننا وبينها، وهذا هو العنصر الثالث والأخير، والذي نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الأنبياء والمرسلين.
ثم أما بعد: هيا بنا ـ أحبتي في الله ـ نطوف مع حضراتكم مع هذا العنصر المهم حول وقفات لنأخذ منها الدروس والعبر:
تعالوا بنا لنقف على هذا المخلوق، كيف يتعامل مع ربه سبحانه وتعالى؟ وكيف نتعامل نحن مع الله؟ وهذه هي الوقفة الأولى؛ طاعة وامتثال يظهر فيها حسن تعامل النحل مع أوامر ربه، يظهر فيها كيف يتعامل هذا المخلوق مع أوامر الخالق، فمنذ أن أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النحل بقوله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68، 69]، منذ ذلك الوقت يستحيل أن تجد للنحل بيوتا في غير هذه الأمكنة الثلاث: الجبال والشجر والبيوت، على نفس ترتيب الآية. أمرٌ من الله أعقبه تنفيذ من النحل بلا تسويف ولا تحايل ولا تباطؤ. أين أنت ـ يا عبد الله ـ فيما أمرك الله به، لِمَ تجعل الله أهون الناظرين إليك؟! لِمَ نتباطأ في تنفيذ أوامر الله؟! مع الله هذا المخلوق ينفذ أمر ربه دون مماطلة ولا تسويف، بل انظر إلى حسن الامتثال وكمال السمع والطاعة عند النحل تجد أيضا أن أكثر بيوت النحل في الجبال وهي المتقدمة في الآية، ثم الشجر، ثم فيما يعرش الناس ويبنون بيوتهم.
وكذلك تجد أن أرقى وأجود أنواع العسل هي عسل نحل الجبال، ثم عسل نحل الشجر، ثم عسل نحل البيوت. وهنا لا يجب أن يفوتنا أن نضع هذه الصورة جنبا إلى جنب مع صورة تعاملنا نحن بني البشر مع أوامر ربنا عز وجل.
ومن حسن امتثاله لأوامر ربه أنه دائما ما يتخذ البيوت قبل المراعى، فهي إذا ما أصابت موضعا مناسبا بنت فيه بيوتها أولاً، ثم بعد ذلك تخرج من تلك البيوت ترعى وتأكل من كل الثمرات، ثم تأوي إلى بيوتها؛ لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها بذلك، أمرها باتخاذ البيوت أولاً ثم الأكل بعد ذلك. وهنا قد تبعد المراعي عن البيوت الأميال والأميال، وقد يفصل بين المراعي وبيوت النحل السهول والجبال آلاف الأميال. أنت يا صاحب العقل والحواس والملكات، يا من كرمك الله على سائر خلقة بل كرمك حق التكريم.
واعلم أن هذا الخُلُق من النحلة هو من خُلق الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ انظر كيف أمر الله نبي الله نوح لما أمره الله بأن يصنع الفلك في البيئة الصحراوية، وانظر إلى سيدنا موسى لما أمره الله أن يضرب بعصاه البحر، وانظر كيف تعامل سيدنا إبراهيم مع أمر الله له بذبح إسماعيل، لكن انظر كيف كانت درجة السمع والطاعة من هؤلاء جميعًا، وكيف كانت النتائج؛ ليتأكد لك أن السعادة والفوز يكمنان في حسن تنفيذ العبد لأوامر ربه, فاعتبر يا عبد الله.
الوقفة الثانية: علو الهمة؛ انظر إلى علو الهمة في هذا المخلوق العجيب، فمن طبائعه أنه يرفض رفضًا باتًا أن يوجد في مملكته عاطل عن العمل، فمن طبائع النحل أنها لا تترك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان ويُفني العسل ويعلِّم النشيط الكسل. وهذه مهارة إدارية راقية ما أحوجنا أن نمتثلها واقعًا في حياتنا الإدارية. وكيف أن النحل يجيد توظيف الطاقات، فالنحل يجيد هذه المهارة. وهذه مهارة لازمة للأمم والأفراد والجماعات، ولا يرقى الإنسان إلا بها، فمن النحل من يعمل العسل, وبعضها يعمل الشمع, وبعضها يسقي الماء, وبعضها يبني البيوت, وبعضها يقوم بأعمال النظافة، وبعضها يقوم بأعمال التكييف والتبريد والتهوية, وبعضها يقوم بالتلقيح, وبعضها يقوم بالاستكشاف والاستطلاع، الكل يعمل وينتج، كل حسب سنه ووظيفته وقدراته وميوله واستعداداته، ومنهم من يقوم بالحراسة لطرد الغريب والدخيل، بل الكيميائيات يتأكدن من حفظ العسل ونضجه. من الذي علمها ذلك وأرشدها إلى ذلك؟! إنه الله جلا جلاله.
وانظر يا أيها اللبيب العاقل، فمن أجل أن تقوم النحلة بإطعامنا كيلو جرام واحدا من العسل تقوم بما يقرب ستمائة ألف إلى ثمانمائة ألف طلعة، وتقف على مليون زهرة، وتقطع ما يزيد عن عشرة أضعاف الكرة الأرضية رغم الرياح والأنواء، وكأن الرسول لما شبه المؤمن الحق بالنحلة أراده أن يتمثل هذا الخلُق، وأراده أن يتحلّى بثقافة النحل في السمو وعلو الهمة والتعامل مع الأمور بجدية وقوة من يبتغي وجه الله؛ طالب العلم مع علمه، والعامل في صناعته، والتاجر في تجارته، والمزارع في زراعته، والداعي إلى الله في دعوته.
فيا فاتر الهمة، أين أنت من الدعوة إلى الله؟! وهذا أيضا من خلق الأنبياء؛ انظر كيف عانى الأنبياء حتى بلغوا رسالة الله إلينا.
الوقفة الثالثة: الإخلاص ومقت الرياء تظهر كيف أن النحل يفضل العمل في صمت وهدوء، وبعيدًا عن أعين الناس، فيروَى أن آرسطا طاليس صنع بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما يصنع النحل، فأبت أن تعمل حتى لطخته بالطين من الداخل، لطخته بالطين حتى تنأى بنفسها عن الظهور، وكأنها وعت خطورة آفة الرياء والنفاق وحب الظهور وحب الرياسة، وكلها آفات مهلكات، لطخت بيتها بالطين من الداخل بحثًا عن الإخلاص، وكأنها تدرك قول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدًا غير الله، ولا مجازيًا سواه". لطخته وكأنها أرادت أن ترسل لنا من خلف الطين رسالة مفادها: إن عليكم بالإخلاص في كل أعمالكم وأقوالكم، وكأنها علمت قول رسول الله الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: ((قال عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه)) ، وفي الحديث المتفق عليه قال: ((من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) ، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك, قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)).
فيا من تصلي ليقال: إنك مصلي تذكر قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. ويا من تنفق من أجل الناس تذكّر قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264]. ويا من تخرج من بيته لفعل الخير للناس تذكّر: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ [الأنفال:47].
فاحذر يا عبد الله؛ لأن رسول الله قال كما في مسند أحمد: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي)) ، قالوا: وما هو؟ قال: ((الرياء)). فأخلصوا أعمالكم لله كما تفعل هذه النحلة.
الوقفة الرابعة: اغتنام الوقت، وهذه الوقفة يحتاجها كل المسلمين لأننا لا نحسن استغلال الوقت كما ينبغي، وهذه الوقفة يظهر فيها حسن استخدام النحل للوقت؛ فالنحل لديه قدرة فائقة على الاستخدام المزدوج للوقت، فهو لا يضيع وقته أبدًا فيما لا فائدة منه، بل يستغل كل ثانية فيما هو نافع. فمثلا في طريقها الذي قد يصل إلى عشرات الكيلو مترات من مكان رحيق الأزهار إلى خلاياها تجري النحلة عدة عمليات كيميائية بالغة التعقيد لتحويل الرحيق إلى عسل، ويتم هذا في الطريق ولا تنتظر حتى تعود. ولقد أخذ اليابانيون هذه الفكرة من النحل في مجال الصناعة؛ فمعروف أن اليابان ليس عندها مواد أولية، وهم من كبار مصدري الستانلس، هذه المادة تتواجد بوفرة في أستراليا، والمسافة بين البلدتين شاسعة، فصنع اليابانيون بواخر عملاقة تصل إلى أواخر أستراليا، تأخذ المواد الأولية من هناك وفي الطريق إلى أسواق الشرق الأوسط يتم تصنيع هذه المواد الأولية في البواخر أثناء العودة، ثم يتم تسليمها مصنعة جاهزة إلى أسواق المستهلكين في كل مكان، وهذا ما تفعله النحلة، وهذا ما يجب أن يتحلى به المؤمن الحق.
فالوقت سلاح ارتقى من أتقن حسن استغلاله، وتعِس من عطله. وتاريخ الأمم خير شاهد؛ فالأمة التي لا تنشئ أبناءها على كيفية إتقان إدارة الوقت والاستفادة من كل وحداته أمة مهزومة لا يمكن لها ولا لأبنائها أن يرتقوا أو يتبوَّؤوا منزلة بين العظماء. والله الذي لا إله غيره، أول أمنية تتمناها أنت وأنت على فراش الموت هي أن ترجع إلى الدنيا لتستغل الوقت في طاعة الله، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99، 100].
بل اعلم أن الله قد شرف الوقت والزمان بذكرهم في القرآن، بل أقسم بالوقت وهذا دليل على قيمته عند الله تعالى إذ قال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وقال: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1، 2]، وقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2]، بل قال رسول الله كما في البخاري من حديث ابن عباس: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)).
فأين أنت من الوقت واستخدامه في طاعة الله كما فعل ابن عقيل؟! كان يحبذ سفَّ الكعك على مضغ الطعام، قالوا له: ولِم؟ قال: لأني وجدت الوقت بين سفّ الكعك ومضغ الطعام وقت قراءة خمسين آية. الله أكبر! أين أنت من هؤلاء؟! قال الخليل بن أحمد: "أصعب ساعة تمر عليّ ساعة آكل فيها وتمنعني عن ذكر الله". الله أكبر! بل كان جد الإمام ابن تيمية إذا دخل الخلاء قال لأحد أحفاده: "اقرأ عليّ القرآن فإني أخاف أن تمر عليّ أوقات لا أشغلها بعمل يرضي الله".
فيا من تضيّع الوقت في اللهو والمرح والبعد عن الله، أين أنت من هؤلاء؟! بل أين أنت من ذلك المخلوق الصغير؟! فاعتبر يا عبد الله.
والله أسأل أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اغفر لنا وارحمنا واهدنا واهد بنا وثبت على الحق أقدامنا...
(1/4502)
أم القرى
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
21/11/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلّع الإنسانية إلى مكان آمن. 2- الترحيب بالحجاج. 3- خصائص البلد الحرام وفضائله. 4- الأمن في البلد الحرام. 5- حال السلف مع بلد الله الحرام. 6- مكة منبع العلم والتوحيد. 7- واقع المسلمين مع البلد الحرام. 8- الإشادة بمشروع تعظيم البلد الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عبد الله، حجّاجَ بيت الله، اتَّقوا الله تعالى حقَّ تقواه، واكسوا من الطاعات والصالحات ما يحبّه ويرضاه، وتجافَوا عم كلّ ما يسخطه ويأباه، تفوزوا في الدنيا وتغنموا، وتسعدوا في أخراكم وتنعموا.
أيّها المسلمون، في لُجَج احتدام العالم واضطرابِه وتخلخلِ أركان أمنِه واحترابه تتوق الإنسانيّة في عصر الثورة التقانيّة وأوج الحضارة والمدنية إلى بقعةٍ آمنة مطمئنة، تُؤسَى فيها الكلوم والجِراح، ويُلقى دونها العتاد ويُحجَر السلاح، ولكن أنَّى ذلك وهيهات إلاّ في شريعة ربّ البريّات، في دين الإسلام وحكمة الملك العلام، وهنا يزدَهي البيان ويأتلِق التّرجمان ويغمر الزَّفنُ الجنانَ حيث شاء بلطيفِ حكمه الدّيّان وواسِع علمه المنان أن تكونَ أمّ القرى مكّةُ المكرمة آمنَ أرض على وجهِ الأرض، وأطهرِ بقعةٍ على مدّ البسيطة، وهي كذلك في جذور التأريخ وأعماقِ الحضارات، لكن مع شديد الأسى والأسَف أنّ كثيرًا من الناس قد غفل عن ذلك وانصرَف.
إخوةَ الإيمان، وقبل الوقوفِ بتِلك الرّحاب نُزجي أفضلَ التِّرحاب وشذَا التحايا وأعطرَ الأطيَاب إلى حجاج بيت الله الميامِين، فحيّاكم الله أيّتها الوفود المباركة في بلادِ الحرمين وبيَّاكم، وأقامَكم في رحماتِ الإسلام وأكنافِه وأحياكم، وتقبَّل الله حجَّكم، وبلَّغكم مَصبَاكم، وإنَّ قلوبَنا ـ يا ضيوفَ الرحمن ـ لكم هي المحلّ، أنتم منا على الرؤوس وفي المُقَل.
معاشرَ المسلِمين، هذا البلدُ المبارَك اختصَّه الباري جلّ في علاه بخصائصَ فِخام وفضائلَ عِظام، من أهمِّها إضافتُه إلى ذاتِه العليّة ودوامُ ذِكره وشرفِه، قال سبحانه: وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، وقال عزَ شأنه: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7]. وإلماعًا بفضلِه وإشادةً بنبله أقسَم به جلّ وعلا في موضِعين من كتابه العزيز، قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، وقال عزَّ اسمه: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]. وما تعَدُّد الأسماء لهذه البقعةِ المباركة أمّ القرى والبلَد الأمين ومكّة وبَكّة وغيرها إلا دلالة على فضل المبنَى وطيبِ المغنى وسموِّ المسمى، واعلم بأن كثرةَ الأسامي دلالة أنَّ المسمَّى سامِي. وفي قسَمٍ يهمِي حبًّا ولوعًا ويزخر شوقا نُزوعا يقول : ((والله، إنك لخير أرضِ الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرِجتُ منك ما خرَجتُ)) أخرجه الإمام أحمد والترمذي.
أمّة الإسلام، أيّها الحجيج الكرام، وهذه العرصات والبطاحُ المباركات قد سوَّرها الباري بالأمن والتّحريم، فهي منطقةٌ آمنة حرام بحرمةِ الله إلى يوم القيامة، قال جلّ شأنه ممتنًّا على عباده: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57]، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. يطمئِنُّ فيه المضطَرِب القلِق، ويأمَن في جنَباته الفزِع الفَرِق، يقول : ((إنَّ هذا البلدَ حرَّمه الله يومَ خلق السماواتِ والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة)) خرجه البخاري. وهذا الأمنُ المكين والأمن المتين لم يثبُت بالتقرير والتأصيل فحسب، بل استقرَّ واشمخرّ بالوَعيد الأكيد والزّجر الشديد لمن حاوَل خرقَه أو رام فتقَه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [لحج:25]، ذلك لمن همّ، فكيف بمن يباشر؟! فالأمر أنكر وأخطر.
الله أكبر، إنها دعوةُ الخليل إبراهيمَ عليه على نبيِّنا أزكى الصلاة وأتمّ التسليم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. تلكم ـ يا أمَم الدنيا ـ صوتُ مكّة المكرمة، يشقّ الجوزاء ويعانِق قِمَم السّماء مُعلنًا لكلّ رمز صَلفٍ جوّاظ يسوم الأبرياءَ بالحديد والشُّواظ أنّ الإسلام دين السِّلم والسماحة والسلام والأمن والأمان والاطمئنان.
ضيوفَ الرحمن، وفودَ الملك العلام، وفي هذه الرّبوع ـ لا زالت بالنفحات الربانيّة تَضوع ـ أوّلُ بيت وضِع للناس، استقى المسلمون من هداه وبركاته أَهنى كاس، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:96، 97]، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]. وزادَها تشريفًا وصَفَا بالمروة والصّفَا وبحجرٍ من الجنةِ كريم وماءِ زمزم المبارك ومقام إبراهيم. أمّا مكانة الكعبةِ وجمالها ومنزلتُها وجلالها واستحكامُ حبِّها في النفوس ووقع هيبتِها في الأفئدة وتكحيل الأعين بمرآها وارتِواء الناظر إليها من كوثَر قداستها فدونَ ذلك الأسفار والطّروس، ولا قِبلَ لذوي البلاغة والبراعة بوصفِه، بيتٌ في السّنَاء والبهاء هو الأبهَر، وفي أمداء الطهر والروح هو الأطهر، أعلاه الله وأظهَرَه، وقدَّسه وطهّرَه، وجّه إليه الوجوهَ، وفرض على عباده أن يحجّوه، التوحيدُ مظهره ومنارُه، والصالحون والأتقياءُ روّادُه وعُمّاره.
يروق لي منظرُ البيت العتيق إذا بدا لطرفيَ في الإصباح والطَّفَل
كأنَّ حلّته السوداءَ قد نسِجت من حبّة القلب أو من أسودِ المقَل
يطوف به الطائفون في شوقٍ وولَه وهُيام وخشية وإنابةٍ واضطرام، لا فضلَ لسريٍّ ذي حسب على ذي ضعَةٍ عديم النّشَب، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
تباركتَ يا ربَّ العبادِ جعلتها مرادًا لعبّادٍ مهادا لسُجَّد
وطهّرتها بالوحيِ والوعي والنهى وبالكعبةِ الغراء أطهَر مسجدِ
ومِن عظيم فضائل هذه المنازل المعطَّرة بالرحمة قوله عليه الصلاة والسلام: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألفِ صلاة فيما سواه إلا المسجِد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضَل من مائةِ ألف صلاة فيما سواه)) خرجه الإمام أحمد وغيره. فيا نِعمَ ما تنعمون به من الفضل الزّخّار يا أهل هذه الديار ويا أهلَ الجوار ويا أيها الحجاج والعمار والزوّار، فهنيئا لمن طاف به وخَاف، ورجا ربّه الرّحمةَ والألطاف، وسُقيًا لمن تضلّع من زمزم في نهلٍ وارتشاف.
يطوفون حولَ البيت يدعون خُشَّعًا ويعلو أريجُ الذكر كمسكٍ إذا هبَّا
تناجيك من أحلامه لوعة الصدى وقد نَهلوا الرقراق من زمزم شربًا
إخوةَ العقيدة، جموعَ الحجاج العتيدَة، أيها العمّار والزوار، يا أهلَ الجوار، ولنغدُ مع شَذرةٍ من حال الأسلاف في تعظيمِ وتوقير هذه الأكنافِ، فعن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب قال: (لأَن أخطئ سبعينَ خطيئة برُكبة ـ موضع بالحجاز ـ أحبّ إليَّ من أخطئ خطيئةً وحدة في الحرم)، وفي تفسيرِ الطبريّ: يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: كنّا نُحدَّث أنّ مِن الإلحاد فيه أن يقول الرّجل: كلاّ والله وبلَى والله، وكنّا نعدّ ظلمَ الخادِم واحتكارَ الطعام إلحادًا في الحرم، وكان عمر بن عبدِ العزيز رضي الله عنه ورَحمه إذا قدِم مكة كأنّه على الرّضَف حتى يخرج، وما ذاك إلاّ اتقاء للجُناح واللّمَم وتعظيمًا للحرم، وعن مجاهد قال: "إذا دخلتَ الحرم فلا تدفعنَّ أحدًا ولاتؤذينّ ولا تزاحم"، قال أبو جَعفر: يريد بقوله: لا تُرفَعُ الأصوات تعظيمًا لمكّة.
فيا لله، ما أروعَ هذه الآداب مع حرماتِ الله، وما أزكى تلك المشاعر إزاء أطهَر المشاعر، وأليّةٌ بربِّ هذا البيت....، إنها لبرهان الصّلاح وميسَم من تحقّق بالحبِّ الصادق المتين لهذا البلدِ الأمين، وإنه للتوقير الذي سمَا عن النظريات الحالِمَة والدعاوى العريضةِ إلى حبٍّ واقع أمثَل يُقتَدى به ويؤتسَى ويُعنى به المسلمون.
معاشرَ الأحبة، هذه مكّة المكرمة، أنهار النقاء وسيول الطُّهر والعطاء، ينبوع الّدعوة والشموخ والعلاء، اخضَوضَرَت مكّةُ وأشرقت واشمخرَّت وأزهرت بنور الوحيِ المبين، وغشّت قوارعُ الهداية رموزَ الإشراك والأصنام، فكبّتها في الرّغام، وحَرّرت مكّة المكرمة وجهَ الدّنيا مِن كلّ الأباطيل الوثنيّة، فأشرق بها محيَّا الحياة وكلُّ ثنية، والعالَم إذّاك يرزَح تحت نير الجهل وكَلكَل الضلال.
مكّة المكرمة التي أضرمت أوّل قبَس وقّاد من نورِ العلم والمعارف، أضاءَ الآفاقَ وفاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فهي ـ وايمُ الباري ـ النّبعةُ الثرارة الأبديّة للمعارف الدينية والعاصمة الشماءُ التأريخيّة للعلوم الشرعية.
أمّ القرى ـ ومن أحَبَّ الشيء أكثر ذِكره ـ مهوى أفئدة المؤمِنين ومتنزَّل النورِ المبين ومَدارج الأنبياء والملائكة المكرّمين. أمّ القرى ينهل منها المسلمون في أقاصي الدنيا رحيقَ الهدى، ويرتشفون أنداءَ الرضا، في حبٍّ مشبوب لا يحَدّ، وشوقٍ مستعر لا يرتدّ. في هذه المشاعر المقدسة بالرّحمة والبركة منى ومزدلفة وعَرَفات تتنزّل الرحمات وتضاعَف الحسنات وتمحَّص السيِّئات وتغلَّظ الخطيئات.
مكّة المكرمة وادٍ غير ذي زرع مُقفِر، بيد أنه استنبَت أعظم حضارةٍ إيمانية ضاربة في أمشاج العصور والحقب، تسَّاقطُ الحضارات والأمم وهي مستقِرّة لا تَريم، قد تلألأت غرّتُها وتألّقت بهجتها إلى يوم الدين.
يا عاذِلي في حبّ مكة والهدى قلبي تعلق بالمشاعر ما اصطَبر
وتعلَّقت كل النفوس بحبها شَغفَ الفؤاد بها فليس بمنتَهر
وبعد: أيها المسلمون، فلا بدعَ ـ يا رعاكم الله ـ أن يقال بمستفيضِ الوجل الوجيل: ما هِي أحوالنا تلقاء هذا البَلد الحرام؟! وما سِيَرنا تجاهَ أزكَى المشاعر الفخام؟! وبعد هذا الاستفهام ينقَلِب إليك البصر خاسئا وهو حسير.
اللّهمّ سلِّم سلِّم، ورحماك ربَّنا رحماك، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليِّ العظيم، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا غفورا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لم يزل عزيزا قهّارًا، بارك ما شاء من البقاع حكمةً منه واختيارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعلى للمعظِّمين حُرُماتِه أقدارًا، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله أشرف من درج في أمّ القرى وخير من رجا لله وقارًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه صفوة الملا مهاجرين وأنصارًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وعظِّموا شعائره وحُرُماته، وابتغوا بتوقيرها غفرانَه ومرضاته، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [لحج:30].
أمّةَ الإسلام، من الثوابتِ والأصول والمسلَّمات التي لا تدول كونُ تعظيمِ الحرمين الشريفَين عقيدةً شامخة في ملّة الإسلام وفي قلوب أهلِ الإيمان، وإنّه لقمينٌ بنا أن نستمسكَ بها ونتنادَى حولها، لا سيَّما في زمنِ الفتن والمادّيّات التي أقامت دونَ البصائر حِجابًا، وأضحت منها القلوب يبابًا.
إخوةَ الإيمان، أيّتها الوفود المباركة، وأمّا واقع بعض المسلمين هدانا الله وإياهم في تعظيمِ هذه الرحاب فممّا ينعجِم له اللسان ويجِل الجنان، فهل من تعظيم البلد الحرام الإسفافُ باللّوثات العقدية في معقلِ التوحيد ومنبعِه الأوّل الوحيد؟! وهل من تعظيم البلَد الحرام التهاونُ بأعظم الواجبات واقتراف المعاصي والخطيئات في سماعٍ محرّم وتبرّج وسفور وقنوات ومعازف وفضائيّات رنّق وجودُها صفوَ الصالحين القانِتين، فضلاً عن سخطِ ربِّ العالمين؟! ألا دِينٌ يقمَع وخلُق يردَع ونفس عن غيّها ترجع؟! أما للحرَم هيبة وإكبار؟! أما للبلد الأمين تعزير ووقار؟! أما لمكّة تعظيم وإجلال؟!
فيا من جاور وقطَن أو حلّ وظعَن، اتقوا الله في حرَم الله، وعظِّموه ووقِّروه. إننا نناشدكم الباري جلّ في علاه أن تجعَلوا هيبتَه وجلاله وتشريفَه وتطهيره وكماله حشوَ قلوبكم وطيَّ أرواحِكم وملء أسماعكم وأبصاركم. وإنَّ من تعظيمه إكرامَ حجّاجه وعمّاره، وإرشادهم في أمور دينهم ومناسكهم بأوطإِ الأكناف وأطيب الأخلاق، دون أذًى وجفاءٍ واعتساف.
فيا من أنعم الله عليكم بالثّواء في أرض الأنبياء ومهدِ البرَرة الأصفياء، نهيب بكم أن تكونوا من خير القدواتِ في التأدّب بأدب هذه الجنبات، كونوا من أفضل العباد في خيرِ البلاد، كونوا خير من أطاع في أقدس البقاع، واحذروا أن تكونوا ممن فرَّط وأضاع. ويا أهلَ الجِوار، طِبتم بتعظيم أقدسِ الدّيار. ويا أيها المحبّ المستهام، تحقّق بتوقير البلد الحرام. ويا أيّها الحجاج الميامين، يا مَن تجشَّمتم مشاقَّ الطريق شوقًا لنفحات البيت العتيق، استشعروا عظمة هذا البلد الحرام، واحذروا الإلمام بالسيئاتِ والآثام، واقضوا مناسكَكم بخير الشمائل وألطف الأخلاق وأنبل الفضائل.
أيّها العلماء والدّعاة والتربويّون والإعلاميون، ترقَّوا بالنَشء والأجيال في مدارجِ تعظيم البلد الحرام، وانتَحوا لهذا الشرفِ الممجَّد كلَّ فجٍّ وثنيّة وصهوة ومطيّة، وما ذلك في جنبِ بيت الله العظيمِ بعظيم.
يُذكَّر بذَلك ـ أيّها المسلمون ـ وقد وصَلت من حجّاج بيت الله الطلائع، فازَّيَّنت بهم البقاع والمرابِع، فهم فيها كالبدورِ الطوالع والنجوم السّواطع، سهّل الله أمرَهم، وحفِظ أمنهم، وتقبّل منا ومنهم منِّه وكرمه.
ولفتَةٌ تقدير تُسطَّر وتُذكَر وومضَة إشادةٍ بالدعاء تُذخَر لكلّ مهتمٍّ بتعظيم البلدِ الحرام، وفَّقهم الله لكلّ مرام، ويا له من مشروعٍ إسلاميٍّ حضاريٍّ، كِفاؤُه التشجيع والعنايَة والإشادَة والاهتمام والرّعاية، مما ينبغي أن يضطلع به كلّ محبٍّ لهذه العرَصات المباركة، فبورِكتم بورِكتم، فمحزَّ الحقّ أصَبتم، وداعيَ الله أجبتم، وطابت مكّة المكرمة، ودامت محفوظةً بحفظِ الله، وطابَ مجاوِروها، وطاب مُوقِّروها ومبجِّلوها، وسلِم حجّاجها وعُمّارها وزوّارها، ووفّقنا الله جميعا لتعظيم المشاعر والشعائر، وجزانا بذلك أعظم البشائر، إنه جواد كريم.
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير البَشَر المبعوث بخير البِشَر، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا في محكم الآيات والسور، فقال تعالى قولا كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك المصطفى...
(1/4503)
حلاوة الإيمان
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الإيمان
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
14/11/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذاق طعم الإيمان. 2- حقيقة حلاوة الإيمان. 3- فضل من ذاق حلاوة الإيمان. 4- ثمن حلاوة الإيمان. 5- نماذج ممن ذاق حلاوة الإيمان. 6- مظاهر حلاوة الإيمان. 7- لذة العبادات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عَن عبّاس بن عبد المطلِّب أنّه سمِع رسول الله يقول: ((ذاق طعمَ الإيمان مَن رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً)) أخرجه مسلِم.
إنَّ من رضِي بالله ربًّا أحبَّه وتوكَّل عليه واستعانَ به واكتفى به سبحانَه ولم يطلب غيره؛ لأنَّ الكلَّ غيرَه عاجزون ضِعاف، ومن لم يكفِه الله لم يكفِه شيء، ومن رضِي بالله حازَ كلَّ شيء، ومن استغنى بالله لم يكن فقيرًا إلى أيّ شيء، ومن اعتزَّ بالله لم يذلَّ لأيّ شيء، قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36].
عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكرهّ أن يعودّ في الكفر كما يكره أن يقذَف في النّار)) أخرجه البخاري ومسلم.
حلاوةُ الإيمان استِلذاذ الطاعات وتحمُّل المشقَّات في رضَا الله عزّ وجلّ، وهي انشراحُ الصدر ولذّة القلب. للإيمانِ طعم وللإيمان حلاوة، لا يتذوَّقها إلاّ من كان لذلك أهلاً، فالإيمان إذا باشر القلبَ وخالَطَته بشاشتُه له من الحلاوةِ في القلب واللّذّة والسرور والبهجَة ما لا يمكِن التعبير عنه لمن لم يذُقه كما ذكر ذلك الصالحون، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
مَن ذاق طعمَ الإيمان فمِن الصَّعب أن يتركَه ويولِّيَ وجهَه شطرَ غيره، حتى إنه ليتفانى في سبيلِه ويضحِّي بكلّ شيء من أجله. إنَّ حلاوةَ الإيمان إذا خالطَت بشاشةَ القلوب تجعل صاحبَها مع الله سبحانه في كلّ وقتٍ وحين، في حركاتِ العبد وسكناته، في ليله ونهاره، مع الله خالقه وبارئه وموجِده وناصره؛ ولذلك أمرنا رسولُنا أن نقولَ دائمًا: ((رضِيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا)) أخرجه الترمذي.
عَن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((النظرةُ سهمٌ من سِهام إبليس مسمومَة، فمَن تركها مِن خوف الله أثابه جَلّ وعزَّ إيمانًا يجِد حلاوتَه في قلبه)). مَن ترك المعصيَة أيَّ معصيةٍ مخافةَ الله واستحياءً منه سبحانه فإنَّ الله يكافِئه بأن يبدِلَه عن هذه المعاصي إيمانًا يذوق طعمَه ويجِد له حلاوةً في القَلب.
حلاوةُ الإيمان لها ثمنٌ باهظ، حلاوة الإيمان لها آثار مباركةٌ عَظيمة، ثَمنُ حلاوة الإيمان أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما. قال شُرّاح الحديث: أن يكونَ الله في قرآنِه والرّسول في سنَّته أحبَّ إلى المؤمن مما سواهما، وحينما تتعارَض مصلحتُك مع الشّرع تقدِّم الشرعَ ورضا الله، وتختار طاعةَ الله ورسولِه على هوى النّفس وغيرها، فيكون الله تعالى عنده هو المحبوب بالكلِّيّة، وعند ذلك تصير النفس متعلِّقةً بالله سبحانه في كلّ وقت وحين.
محبّةُ رسول الله تعني أن لا يتلقَّى المسلم شيئًا من المأمورات والمنهياتِ إلاّ من مشكاته، ولا يسلكَ إلا طريقتَه حتى لا يجدَ في نفسه حرجًا ممّا قضاه، ويتخلَّق بأخلاقِه في الجودِ والإيثارِ والحِلم والتواضع وغيرها.
وثمنُ حلاوةِ الإيمان أن يحبَّ المرءَ لا يحبّه إلا لله، وهذا يعني أن يبنيَ المؤمن علاقاتِه على أساسِ الإيمان؛ يوالي المؤمنين ولو كانوا ضعافًا وفقراء، يبغض العصاةَ والمشركين ولو كانوا أقوياءَ أغنياء. حقيقةُ الحبِّ في الله أن لا يزيدَ بالبرّ ولا ينقصَ بالجفاء. والحديث بعمِّق معاني الأخوَّةِ الإسلاميّة التي لا تكونُ خالِصَةً ولا تكون متماسِكَة ولا تكون متعاوِنَةً إلا حين تكون للهِ وفي الله وفي مرضاةِ الله سبحانه.
الأخوَّةُ الإسلاميّة التي تُتَذوَّق بها حلاوة الإيمان تكون ملازمةً للتقوى، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وثمنُ حلاوة الإيمان أن يكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذَفَ في النار. هناك من يعبُدُ الله على حرفٍ؛ إن أَصابَه خَيرٌ اطمَأَنَّ به وإن أَصابَته فتنَةٌ انقَلبَ عَلى وَجهه خَسرَ الدّنيَا وَالآخرَةَ، إذا أقبلتِ الدنيا آمن، وإذا أدبرتِ الدنيا تبرَّأ من الإيمانِ وعاد إلى ما كان عليه، والمؤمن الحقُّ لا يتأثَّر بإقبالِ الدنيا ولا بإدبارها، ثابِتُ الجنان، صاحب عطاءٍ، في المنشَط والمكره، في الفقر والغِنى، في الصحَّة والمرض، الذين ذاقوا حلاوةَ الإيمان مِنَ السلَف وصفوا هذه اللذَّةَ، يقول أحدهم: "إنّه ليمرُّ بالقلب لحظاتٌ أقول: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي نعيم"، ويقول آخر: "إنَّ في الدنيَا جنّةً من لم يَدخلها لم يدخُل جنّةَ الآخرة"، ويقول ثالث: "فإنَّ للإيمان فرحةً ولذّة في القلب، فمن لم يجِدها فهو فاقدُ الإيمان أو ناقِصُة، وهو من القِسم الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]".
مِن الذين ذاقوا حلاوةَ الإيمان خُبَيب بن عديّ رضي الله عنه، قيل له: أتحبّ أن يكونَ محمّد مكانَك وأنت معافًى في أهلِك، وكان على وشَكِ أن يقتَل صَلبًا، فقال: (والله، ما أحبّ أن أكونَ في أهلي وولَدي وعندي عافيَةُ الدنيا ونعيمها ويصابُ رسول الله بشَوكة).
التي ذاقَت حلاوةَ الإيمان بلَغَها أنَّ النبيَّ قد قتِل في أحُد، فانطلَقَت إلى ساحةِ المعركَة فإذا أبوها مقتولٌ وأخوها مقتول وابنها مقتولٌ وزوجها مقتول فقالت: ما فعَل رسول الله ؟ فلمّا وقَعت عينُها على شخصِ النبيّ اطمأنَّت وقالت: يا رسولَ الله، كلُّ مصيبةٍ بعدك جَلَل. أي: تهون.
الذي يذوقُ طعمَ الإيمان لو تقطِّعُه إربًا إربًا لا يتَزحزَح عن دينه، وضَعوا على صدرِ بِلال رضي الله عنه صخرةً ليكفُرَ فكان يقول: (أَحَد أَحَد فَردٌ صمَد). وهِرقلُ مَلِك الروم عاصر النبيَّ سألَ أبا سفيان: هل يرتدُّ أحدٌ منهم سَخطةً لدينه؟ فقال: لا، قال: كذَلِك الإيمان إذا خالَطَت حلاوتُه بشاشةَ القلوب.
إخوةَ الإسلام، إذا ذاقَ المسلم حلاوةَ الإيمان غدا إنسانًا آخر، لحياته طعمٌ آخر، يبنيها على العطاءِ، يسعَد بما يعطي لا بما يأخُذ، يقدِّم الخيرَ للآخرين، يحبّ أن يكون عظيمًا عندَ الله ولو كان عند الناسِ أقلَّ شأنًا، يبتَعِد عن الآمالِ ويتَّجِه إلى الأعمال، قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].
مَن ذاق حلاوةَ الإيمان انشرَحَ صدرُه واطمأنَّ قلبه وسكنَت نفسُه، يعتقد من سُوَيداء قلبِه أنَّ الأرزاقَ بيد الله، وأنَّ ما بسطه الله على عبدٍ لم يكن لأحدٍ أن يمنعَه، وأنَّ نفسًا لا تموت حتى تستوفيَ رِزقَها وأجلَها.
مِن مظاهر حلاوةِ الإيمان أن يتحرَّرَ المؤمن من الهوى ونزعاتِ النفس الأمّارةِ وفتنةِ المال، يتحرَّر من الشحِّ المادّيّ والنفسيّ والإمساكِ والتقتير، يتحلَّى بالمراقبة لله والإخلاصِ له وبمعاني الكرَم والإيثار، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له إله البريَّات، وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل المكرمات، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ.
حلاوةُ الإيمان تضفِي على العبادات كلِّها لذّةً، قال أحدُ السّلف: "كلُّ مَلذوذ إنما له لذّة واحِدة إلاّ العبادة، فإنَّ لها ثلاثَ لذّات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكَّرتها، وإذا أُعطِيتَ أجرَها".
مَن ذاق حلاوةَ الإيمان ذاق لذّةَ الصلاة حين يؤدِّيها بخشوعٍ وحضور قلب، فتغدو الصلاة قرّةَ عَينه ونعيمَ روحِه وجنّةَ قلبه ومستراحَه في الدنيا، فما يزال في ضيقٍ حتى يدخلَ فيها؛ ولذا قال إمامُ المتّقين : ((أرِحنا بها يا بلال)). ولِقيام الليل عند الصحابة والتابعينَ والسلف منزلةٌ عظيمة ولذّة لا تبارَى، ها هو أحدُ المؤمنين يقول: "والله، لولا قيام الليل ما أحبَبتُ البقاء في هذه الدّنيا. والله، إنَّ أهلَ الليل في ليلِهم مع الله ألذّ من أهل اللّهوِ في لهوِهم"، ويقول: "إن كان أهلُ الجنّة في مثل ما أنا فيه إنهم لفِي نعيمٍ عظيم"، ويقول آخر: "ما بَقِي من اللّذاتِ في الدنيا إلاّ ثلاث: قيام الليل، ولقاءُ الإخوان، والصلاة في الجماعة".
والصيام ـ عباد الله ـ يتلذَّذ به السّلَف الصالحون أيّما لذَّة، أمّا الحجّ فإنَّ لذّته تدفع أصحابَه إلى ركوب المطايا وتجشُّم المشاقّ حنِينًا إلى البيت وشوقًا إليه، ولذِكرِ الله لذّةٌ وأيّ لذّة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسانُ في الدّنيَا يَجِد في قلبِه بذكرِ الله وذكرِ مَحَامِده وآلائه وعبادَاتِه مِنَ اللّذّة ما لا يجِدُه في شيءٍ آخر". ثم هَل لقراءَة القرآن وتلاوته لذة؟! نشَخِّص حالَنا مع القرآنِ، عثمان بن عفان رضي الله عنه بقوله: (لو طهرت قلوبُكم ما شبِعَت مِن كلامِ ربِّكم).
فهلاَّ سَعَينا ـ عبادَ الله ـ بعملٍ مخلَص ومثابَرَة جادّة لنذوقَ حلاوةَ الإيمان ونعيشَ طعمَ الإيمان، قال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4504)
فضل الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/11/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفضيل الله تعالى بين الأزمنة. 2- تخصيص الأمة المحمدية بيوم الجمعة. 3- فضائل يوم الجمعة. 4- فرضية صلاة الجمعة. 5- وعيد التخلف عن صلاة الجمعة. 6- من آداب الجمعة. 7- التنبيه على خطأ الخروج للنزهة وترك الجمعة. 8- التنبيه على خطأ إقامة الجمعة في الاستراحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ وعلا مِن حِكمتِه فاضَلَ بَين الأيّام وبين الأزمِنَة، فالأشهر الحرُم هي أفضَلُ أشهُرِ العام كما قال جلّ وعلا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، وفضَّلَ شهرَ رمضان فجعَله أفضلَ شهور العام، وجعل عشرَه الأخيرةَ أفضل أيّامِه ولياليه، وفضَّل تِسعَ ذِي الحجّة على بقيّة الشهر، وفضَّل يوم عرفَة، وفضّل عيدَيِ الفطر والأضحى، كلُّ هذا التفضيل لما لله فيه من حكمةٍ، ولما أودَعَ في هذه الأيّام من الخير والفضل، وفضَّل يوم الجمعةِ، فجعله أفضلَ الأيّام، وخصَّ الأمّةَ المحمّديّة فيه بخصائصَ لم تكن لأمّةٍ قبلَهم، يقول الله جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9، 10]. أمرٌ مِن الله لعباده بالعناية بهذا اليوم والاهتمامِ بصلاةِ الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، إذا نودِيَ إليها فاهتَمّوا بالمُضِيِّ إليها، وجِدُّوا في الحضور إليها، ذلكم الحضور وأداؤُها خير لكم إن كنتم تعلَمون.
أيّها المسلم، هذا يوم الجمعة يومٌ عظيم من أيّام الله، هذا اليوم هَدانا الله له يا أمّةَ محمّد؛ فضلاً منه وكرَمًا، وأضلَّ عنه مَن قَبلَنا من اليهود والنصارى، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]. هذا يومٌ يعظِّمه المسلمون، يعظِّمون الصلاةَ فيه، ويهتمّون به، ويعدّون حضورَه نعمةً من نِعَم الله عليهم، [وحُقَّ] لهم ذلك؛ فهو يومٌ من أفضل الأيّام، يقول فيه : ((خيرُ يومٍ طلعَت عليهِ الشمس يومُ الجمعة؛ فيه خلِق آدم، وفيه أدخِلَ الجنّة، وفيه أخرِجَ منها، ولا تقوم الساعة إلا يومَ الجمعة)) ، ثم قال : ((نحن الآخِرون الأوَّلون يومَ القيامة، ونحن أوّلُ أهل الجنّة دخولا)) ، ثم قال: ((نحن الآخِرون الأوّلون يومَ القيامة، بيدَ أنَّ كلَّ أمّةٍ أعطِيَت كتابها قبلَنا، فهذا يومُهم فاختَلَفوا فيه، فهدانا الله لما اختلَفوا فيه من الحقّ، فهذا يومُنا، ولليهود غدًا، وللنّصارى بعدَ غد)). فقد أضلَّ الله عن هذا اليومِ مَن قبلَكم، واختصَّكم به فضلاً منه وكرَمًا وجودًا وإحسانًا، فاعرِفوا لهذا اليوم فضلَه، واعرفوا له شأنَه، واعلموا أنّه يومٌ مِن أفضل الأيام وأجلِّها، يوم يلتقِي فيه المسلمون فيَسمعون توجيهاتِ الخطيب، فيخرجون وقد تزوَّدوا عِلمًا وفَهمًا وإدراكًا لِواقِعهم وحَلاًّ لمشاكِلهم بتوفيقٍ من الله وهِداية.
أيّها المسلم، صلاةُ الجمعةِ فَرض على كلِّ مسلمٍ مقيم، فرضٌ عليه أن يؤدِّيَ هذه الصلاةَ، فإن أدّاها فهو من المؤمِنين الموقنين، وإن ضيَّعَها فهو من الخاسِرين.
أيّها المسلم، لا يرضَى بتركِ الجمعة مؤمِنٌ يؤمن بالله واليومِ الآخر، ولا يتساهَل في حضورِهَا من في قلبِه داعي الإيمان. إنّه يوم من أفضلِ أيّام الله، لكم فيه فضلٌ كبير وأَجر عظيم لمن حضَر واستمع واستفادَ.
أيّها المسلم، إنَّ تضييعَ صلاة الجمعةِ في حقِّ المسلم المقيمِ المستوطِن يعتَبَر من كبائر الذنوب، سمع عبد الله بن عمر وأبو هريرةَ سمعوا رسولَ الله على أعواد منبره وهو يقول: ((ليَنتَهِيَنَّ أقوام عن وَدعِهم الجمعاتِ ثمّ ليَطبع الله على قلوبهم فيكونوا من الغافِلِين)) ، وفي الحديث الآخر: ((من ترَك ثلاثَ جمعٍ تهاونًا طبع الله على قلبِه)) ، وفي الحديثِ الآخر: ((لقد همَمتُ أن آمُر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أحرِّق على رجالٍ بيوتهم لتخلّفهم عن الجمعة)).
أيّها المسلم، فإيّاك والتهاونَ بها وتضييعَها، فذاك نقصٌ في إيمانك، قال : ((أيّها الناسُ، توبوا إلى ربِّكم قبلَ أن تموتوا، وصِلوا الذي بَينكم وبين ربّكم، بكثرةِ ذِكره تنصَروا وتؤجَروا)) ، وقال: ((ألا إنَّ الله افترض عليكم الجمعة في ساعتي هذه في يومي هذا في مكاني هذا في شهري هذا في عامِي هذا، فمن تركها بعدِي وله إمامٌ عادل أو جائر ألا فلا صلاةَ له، ألا فلا زكاةَ له، ألا فلا حجَّ له، ألا فلا صومَ له، ألا فلا برَّ له، إلاّ أن يتوبَ)).
أيّها المسلم، إذاً فالمطلوبُ منك أن تهتمَّ بهذا اليوم، وأن توليه العنايةَ المطلوبة؛ لتكون من الفائزين برضوانِ الله ومغفرته وجنّته، ففيهِ ساعةٌ لا يوافِقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلاّ أعطاه، في هذا اليوم ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلاّ أعطاه، وهذه الساعة إمّا آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، وإمّا إذا صعد الإمام المنبر إلى أن تقضَى الصلاة، فهما وقتان يرجَى فيهما إجابة دعاء العبد إذا دَعا اللهَ مخلِصًا موقنًا بالإجابةِ.
أيّها المسلم إنَّ نبيَّنا أرشدَنا في يومِ الجمعة لآداب عظيمة، فمن ذلكم أنّه حثَّ على غسلِ يوم الجمعة ورغَّب فيه وأمرَ به، فيروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ يقول: ((مَن أتى الجمعةَ فليغتسِل)) ، ويروِي سمرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((غسلُ الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم)) ، ممّا يدلّ على تأكُّد هذا الغسلِ وعَظيمِ شَأنه، ويقول مبيِّنًا فضلَ غسل يوم الجمعة وفضلَ التبكير إليها: ((من اغتَسَل يومَ الجمعة غسلَ الجنابة ثم راح في الساعةِ الأولى فكأنما قرَّب بَدَنة، ومن راح في الساعَةِ الثانية فكأنما قرَّب بقرَة، ومن راحَ في الساعةِ الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا، ومن راح في الساعةِ الرابعة فكأنما قرَّب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامِسَة فكأنما قرَّب بيضَة، فإذا دخَل الإمام حضَرتِ الملائكة يستَمِعون الذكر)).
أيّها المسلم، لقد ابتُلِيَ المسلمون وللأسَفِ الشديد بالتّهاون بالحضور ليومِ الجمعة، فلا ترى الأكثرَ يحضر إلا وقتَ الأذان أو في أثناءِ الخطبة أو عند انتهائِها، وهذا تفويتٌ لفضل عظيمٍ وخير كبير.
فيا أخي المسلم، اقتَطِع من وقتك يومَ الجمعة جُزءًا تحضر فيه مبكِّرًا؛ لتتلوَ من كتاب الله وتذكرَ الله وتتهيَّأ لهذهِ الصلاة، فتكون من المسابقين لفعل الخيرات، فالنبيّ أخبر أنَّ مَن توضأ وأحسن الوضوءَ يومَ الجمعة وأتى المسجدَ وصلّى ما قدِّر له وأنصَتَ إذا تكلَّم الإمام ثم صلَّى الجمعة غفِرَ له ما بينه وبين الجمعةِ الأخرى وزيادة ثلاثةِ أيّام.
أخي المسلم، إنَّ تبكيرَك للجمعةِ فيه فضلٌ كبير لك في الدنيا والآخِرة، أتى عبد الله بنُ مسعود الجمعةَ فإذا ثلاثُ نفر قد سبَقوه فقال: رابِع أربعة، وما رابع أربعةٍ ببعيد، سمعت النبي يقول: ((يجلس المؤمنونَ من ربِّهم يومَ القيامة على قدرِ إتيانهم للجمعة)).
أيّها المسلم، ورسولُ الله أدَّبنا بأدبٍ آخر، وهو أنّه ألزم المأمومين الإنصاتَ عندما يتكلَّم الإمام، وحرَّم عليهم التحدُّث أثناءَ خطبة الإمام، وأوجب عليهم الاستماع والإنصاتَ، يقول : ((إذا قلتَ لصاحبك: أنصِت والإمامُ يخطب فقد لغوتَ)) ، وقال أيضًا : ((الذي يتكلَّم يومَ الجمعة والإمام يخطُب كمثل الحمارِ يحمِل أسفارا، والذي يقول له: أنصت فلا جمعةَ له)).
أيّها المسلم، وأدّبَنا رسول الله بأدَبٍ آخر، فحرَّم على المسلم تخطِّي رقابَ الناس يومَ الجمعة، ونهاه عن إيذاءِ المسلِمين، يقول لما رأَى رجلاً يتخطَّى رقابَ الناس، قال: ((اجلِس فقد آذيتَ وآنيتَ)) ، وقال: ((الذي يتخطَّى رقابَ الناس يومَ الجمعة كالذي يجرّ قصبه في النار)) ، وقال: ((الذي يتخطَّى رقابَ الناس يومَ الجمعة اتَّخذ جسرًا إلى النار)) ، كلُّ ذلك تأديبًا لاحترامِ المسلمين وعدمِ المضايَقَة وعدم إيذائهم بتخطّي رقابهِم.
أيّها المسلم، هذا يومُ الجمعة، يجِب عليك الإنصاتُ والاستِماع والاهتِمام والإِكثار مِن ذكر الله والصلاةِ على نبيّه.
أيّها المسلم، ويُشرَع لكَ إذا دخلتَ المسجدَ يومَ الجمعة أن تصلِّيَ ما قسَم الله لك، فإن كان الإمام يخطُب فاكتفِ بركعتين فقط، رأَى النبيّ سُلَيكًا الغطفانيّ وقد دخل وهو يخطب فجلس، فقال: ((أصلَّيتَ ركعتين؟)) قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما)).
أيّها المسلم، إنَّ ممّا ينبغي التنبيه عليه أن لا نقطعَ صلاةَ الآخرين، وأن لا نمرَّ بين المصلّي وبين يدَيه، فإنَّ النبيَّ يقول: ((لو يعلم المارُّ بين يدَي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقفَ أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يدَي المصلّي)) ، قال أبو النضر: لا أدري أقالَ: أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا؟! تحذيرًا لقَطع صلاة المصلّي، والمطلوب من المصلّي أن يكون أمامَه سُترةٌ حتى يمرَّ المارُّ مِن ورائها.
وسُنَّ للمسلم بعدَ الجمعة أن يصلّيَ أربعَ ركعات بتسليمَتَين؛ لأنَّ النبيَّ يقول: ((من صلّى الجمعةَ فليصلِّ بعدَها أربعة)).
فيا أخي المسلم، هذه فرصةٌ في عمرِك، في أسبوعك، فرصة عظيمة لك، تتقرَّب إلى الله في هذا اليومِ بالتّبكير للجمعة قدرَ الإمكان والإكثارِ مِن ذكر الله وتلاوةِ القرآن والصّلاة على محمّد وترقّبِ ساعة الإجابة والجدِّ والاجتهاد في ذلك، عسَى أن توفَّق لخيرٍ، وأن تهدَى للخيرِ، والله يعين كلَّ من أراد خيرًا وقصدَه، يعينه الله ويسهِّل عليه مهمَّتَه، المهمّ أن لا يكون في القلبِ غفلةٌ عن ذكر الله، ولا تهاونٌ بهذه الفريضة، ولا تكاسُل عنها.
أسأَل الله أن يوفِّقَني وإياكم لما يحبّه ويرضاه، وأن يتقبّلَ منا ومنكم صالح أعمالنا، وأن يجعلَنا في هذا اليومِ ممّن يستجاب دعاؤُه، إنه على كلِّ شيء قدير.
بَارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحكِيم، أقول قَولي هَذَا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، الجمعة فرضُ الوقتِ، والجمعة من أفضل الأيّام، ولكن للأسف الشديد يتهاوَن بعض المسلمين في أدائِها، ويتَكاسل البعضُ عن أدائها، وهذا حِرمانٌ لهم من الخير.
أيّها المسلم، إن كنتَ مهتمًّا بالجمعةِ ومعتنِيًا بها وحريصًا عليها فأظنّ ذلك لن يتعبَك ولن يعجزَك، سواء كنتَ مقيمًا في بلدِك أو جاعِلاً يومَ الجمعة يومَ سياحةٍ لك ويومَ نزهة لك، فبِإِمكانك الجمعُ بين النزهة وبين صلاةِ الجمعة، القُرَى والهجر كلُّها ميسَّرٌ أمرُ الوصولِ إليها، والطرقُ السريعة خَدَمت كلَّ المناطق، وبإمكانك أن تنزلَ قربَ مسجدٍ أو تأتي الجمعة، فإنَّ ذلك ميسَّر لك؛ فالطّرق السريعة والطرُق التي خدمَت كلَّ الهِجَر والقرى، وأصبح الإنسان بإمكانِه أن يجمعَ بين نزهتِه وفرجَته وبين هذا اليوم، فلا يضيِّع هذا اليومَ ولا يفوِّته.
أمّا ما يعتاده البعضُ منهم ـ هدانا الله وإياهم ـ ربما يمضي شهرٌ وشهران، كلّ جمعة موضع نُزهة من هنا وهناك، فكأنّ الجمعةَ يسيرة في حقِّه، وكأنها رخيصة عنده، وهذا ـ يا أخي ـ حِرمان للخير، فما دمتَ ـ يا أخي ـ إذا خرجتَ لنزهتِك واحتجتَ إلى أيِّ حاجة لو كماليّة ضربتَ لها الكيلوّات لتحصُلَ عليها، فهذا اليومُ العظيم لماذا التساهلُ والتهاوُن به؟! لماذا لا تخطِّط لنفسِك أن تكونَ نزهتُك بقربِ جامع مَا منَ الجوامع في أحد القرى والهِجَر ونحو ذلك لتؤدِّيَ فيه الفريضة، فتجمَع بين الخيرين؟! وذاك دليلٌ على حرصِك على الخير واهتمامِك به.
ومِنَ الناس أيضًا ـ هدانا الله وإياهم ـ ربَّما أقاموا صلاة الجمعةِ في استراحةٍ ما من الاستراحات، إذا اجتمعوا أقاموا صلاةَ الجمعة، وهذا أيضًا من الخطأ؛ لأنَّ هذه الجمعةَ لا تقام إلا في المساجد، فالمساجد هي التي تقام فيها الجمعة، ولا تقام في البراري، والنبيّ في أسفاره كلِّها ما كان يقيم الجمعةَ في البراري، فإنَّ الجمعة إنما تقام في المساجد، لا تقام في الصحاري؛ لأنَّ الجمعةَ يُشتَرط فيها الاستيطان في المكان الذي يُقيم فيه، فلا تصِحّ جمعةٌ في استراحة ما منَ الاستراحات، بل هذا خطأ، بل جمعتُهم باطلة؛ إِذِ الواجب أن تقامَ هذه الجمعة في مساجدِ المسلمين المهيَّأَة لذلك، وهذا واضحٌ ولله الحمد، وانتِشار الجوامِع في الطرقاتِ السريعةِ واضحة لا إشكالَ فيها، فمَن أراد الخيرَ وقصَد الخير فإنّه يهتمّ بهذا اليوم، يهتَمّ بحضور الجمعة، ويعتني بها العنايةَ المطلوبة، ويعدّها فرصةً سانحة له؛ ليتقرَّبَ إلى الله بأدائِها، ويتعرّض لساعةِ الإجابة، فعسى دعوة تُستَجاب، وعسى توبة تقبَل، وعسى ذنب يغفَر، والله ذو الفضل العظيمِ، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخَيرَ الهديِ هَدي محمَّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتهَا، وكلَّ بِدعةٍ ضَلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنَّ يدَ الله عَلَى الجماعةِ، ومَن شَذّ شَذّ في النّارِ.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبد الله ورسوله محمد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالَى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلَى عبدِك ورسولِك محمَّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
(1/4505)
بين الهوان والعدوان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
21/11/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1-غربة الإسلام. 2- حال المجتمع المسلم. 3- ظاهرة التهاون بالنفس المسلمة. 4- تفكك الروابط الأسرية. 5- التحذير من فتنة الشهوات. 6- عدوان أمريكا والدول الغربية على الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء)).
عباد الله، يقول الإمام أبو علي الأنطاكي رحمه الله: ما كنت أظنّ أني أدرك زمانا يعود الإسلام فيه غريبا، فقيل له: وهل عاد الإسلام غريبا؟! قال: نعم، إن ترغب فيه إلى عالم تجده مفتونا بالدنيا، يحب الرياسة والتعظيم، ويأكل الدنيا بعلمه، ويقول: أنا أولى بها من غيري، وإن ترغب فيه إلى عابد معتزل في جبل تجده مفتونا جاهلا في عبادته مخدوعا بنفسه، وبإبليس، وقد صعد إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها، فكيف بأعلاها؟! فقد صارت العلماء والعباد سباعا ضارية وذئابا مختلسة، فهذا وصف أهل الزمان من أهل العلم والقرآن ودعاة الحكمة، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عباد الله، هذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر بخياله؟! أما والله، لئن عاش إلى زماننا ورأى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه لخرّ مغشيّا عليه.
عباد الله، كيف سيكون حال هذا العبد الصالح لو عاش في وقتنا اليوم وشاهد الفساد والعصيان والطغيان؟! كيف سيكون حاله لو رأى شباب الإسلام يتسكعون هنا وهناك، تارة يشربون الخمر، وتارة يلعبون القمار، منغمسون في شهواتهم وملذاتهم، يرتكبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن؟! كيف سيكون حاله لو حضر إلى بلدنا وشاهد الشباب وهم لا يصلون ولا يعرفون من الإسلام شيئا؟! كيف لو رأى أحوال الناس في معاملاتهم، فهذا يتعامل بالربا، وذاك يغش ويحتكر، وأولئك يتاجرون بأداء مناسك الحج ويستغلون البسطاء من الناس؟!
عباد الله، هل وصل الحال بأمتنا أن تتاجر بفرائض الله؟! فلان منَ الناس دفع ألفا وخمسمائة دينار أردني ليحجّ حجا مميزا، مميّزا بماذا؟! مميزا بالغشّ والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل، ليس مميزا بتسهيل أداء هذه الفريضة الإلهية، وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الإثم هنا يقع على الذي قام بعملية الاستغلال، وليس على من يؤدّي فريضة الحج، فكفانا ـ أيها المؤمنون ـ فسادا في الأرض، كيف يستجيب الله لنا وفينا من يسعى في الأرض فسادا، ومنا من لا يخرج زكاة أمواله، ومنا من يأكل حقوق أخواته من الميراث، ومن يقوم بعمليات التزوير ويبيع الأراضي والأملاك التي لا يملكها زورا وبهتانا؟!
عباد الله، أين المصلحون من أبناء شعبنا المسلم؟! أين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟! أين العلماء المخلصون العاملون؟! هل تحقق فينا قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]؟!
عباد الله، هل امتثلنا لقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]؟! ألم تعلموا ـ يا عباد الله ـ أن قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا، وأن أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء؟! لماذا أصبح قتل النفس المؤمنة لأبسط الأسباب؟! فلان تشاجر مع فلان فقتله، وفلان نظر إلى فلان نظرة غير مرضية فاعتدى الآخر عليه فقتله، ما هذا يا عباد الله؟! ألهذا الحدّ هانت عليكم نفوس المؤمنين؟!
فاتقوا الله يا عباد الله، وراجعوا أنفسكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون.
عباد الله، نحن في عصر كثرت فيه الفتن التي تذر الحليم حيران، علاقاتنا الأسرية ضعيفة، لا بل أصبحت ميتة، وما ذاك إلا لضعف إيماننا بالله تعالى. الأسرة المسلمة يجب أن تكون قوية بإيمانها وقرآنها، متمسكة بقيمها وعقيدتها. لماذا تخلى الإنسان عن أبَويه وبخاصة في حالة الكبر والشيخوخة وربنا تبارك وتعالى وصّى بهما في كتابه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]؟!
عباد الله، نريد في الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم الشباب اليافع العامل والفتاة المحجبة والأم الشجاعة الصبورة، نريد الشيخ الفاني الذي لا يزال قلبه شابا.
عباد الله، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر وقال: لقد بلغ من مرض أمّي وعجزها أنني أصنع لها ما كانت تصنع لي في صغري، أنا الذي أطعمها وأسقيها وأحملها إذا أرادت أن تقضي حاجتها من بول أو غائط، فهل وفّيتها حقها؟ فقال عمر: لا، إنها كانت تفعل ذلك لك وتتمنّى لك عمرًا مديدا، أما أنت فتفعل ذلك لها وتنتظر موتَها غدا أو بعد غد.
عباد الله، بعض الناس يذهبون بآبائهم وأمهاتهم إلى مأوى العجَزَة، ولا يسألون عنهم، حتى الزيارة لا يعرفون موعدها، ومنهم من يتوفى وأقرباؤه لا يدرون، امرأة توفيت قبل فترة في بيت المسنين وحملت إلى المسجد الأقصى ليصلّى عليها ولم يتواجَد أحد من أهلها، وقد رأيت ذلك بنفسي، ما هذا الذي يحصل يا عباد الله؟! أين بر الوالدين؟! أين المشاعر والعواطف والفضائل؟! أين الأسرة المسلمة المتماسكة؟! لا ينبغي ـ أيها المسلمون ـ أن نتخلّى عن عقيدتنا وعن مكارمنا وفضائلنا، فإن فعلنا ذلك فسوف يتخلى الله عنا، وتذكروا أنّ بر الوالدين سَلَف، اعمل ما شئت كما تدين تُدان، أنت اليوم شابّ وغدا تصبح عجوزا، ما صنعته بآبائك سيصنعه بك أبناؤك، فاعمل لغدك، واعمل قبل كلّ شيء لإرضاء الله تبارك وتعالى، وأوفّ الحق الذي عليك يوفِّ أبناؤك بالحقّ الذي لك.
عباد الله، إن سألتم: كيف السبيل إلى الخلاص؟ فالجواب واضح ويحتاج إلى ناصح، فأعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترسوا من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات، فطوبى لمن ترك شهوةً حاضرة لموعد غائب لم يره، فالحق ثقيل، والباطل خفيف، ورُبّ شهوة ساعة تورث حزنا طويلا، ومن استولت عليه النفس صار أسيرا في حبّ الشهوات محصورا في سجن هواه. يروى أنّ امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعدما ملك خزائن الأرض: يا يوسف، إنّ الحرص والشهوة صيَّرت الملوكَ عبيدا، وإن الصبرَ والتقى صيَّر العبيد ملوكًا، قال لها يوسف: إنه من يتَّقِ ويصبر فإن الله لا يضيق أجر المحسنين.
عباد الله، يقول الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الغيّ نهر في جهنم في النار، يعذب فيه الذين يتّبعون الشهوات، وهو خبيث الطعم بعيد القعر)، وقال المفسرون في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3] قيل: نزع منها حبّ الشهوات، وقال عز وجل: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12] قال المفسرون: صبروا عن الشهوات.
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ قول رسول الله : ((حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات)).
عباد الله، إنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتَهون، ولا تنالون ما تحبّون إلا بالصبر على ما تكرهون، فطوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصره. روي أن إبليس لعنه الله ظهر لنبي الله يحيى بن زكريّا عليهما السلام وعليه معاليق، فقال: ما هذه؟ قال: الشهوات التي أصطاد بها بني آدم، قال: هل تجد لي منها شيئا؟ قال: لا غير أنك شبِعت ليلةً فثقلت عن الصلاة والذكر، قال نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام: لا جرم لا أشبع، فقال إبليس: لا جرم لا نصحتُ أحدا أبدًا.
فصاحب الحسنات ـ يا عباد الله ـ سعيد مقرّب، وصاحب السيئات شقيّ معذّب، وذو الشهوات متعوب محاسَب، فشهوات النفوس نيرانها، ولذّات الدنيا حَطَبها، والجوع ماؤها الذي يطفِئها، وصدق من قال:
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوع
والعبد عبد النفس في شهواتِها والْحر يشبع مرة ويَجوع
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيّئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعلنا من عباده الأبرار الأوفياء، إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يتكشّف يوما بعد يوم زَيف الديمقراطية الأمريكيّة وزيف التسامح الأوربي، فدول الكفر واحدة، تَدين بدين واحد، هو محاربة الإسلام والمسلمين. أمريكا التي تتشدّق بالديمقراطية وحرّيّة الرأي أصبحت مثارَ جدل ومعارضة من داخلها، فقد ذكرت وسائل الإعلام الأمريكيّ أن سياسة الرئيس الأمريكي تضرّ بمصالح الشعب الأمريكيّ، وأنه أكثر الزعماء تعطّشًا للحرب، وتركّزت السياسة العدوانيّة بشكل أساسيّ ضد الإسلام والمسلمين، سيما بعد الحادي عشر من أيلول، وبفعل الهيمنة الأمريكية والحرب الإعلاميّة والفكريّة ضد الإسلام فقد اتّسعت رقعة العداء للإسلام والمسلمين.
لقد نقلت وسائل الإعلام الاضطهاد الذي تعرّضت له الجالية الإسلامية في أستراليا، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، ولم نسمع أيّ احتجاج من أحدٍ، فعندما يتمّ الاعتداء على المسلمين يكون مجلس الأمن في سُبات عميق، لا يرى ولا يسمع ولا يعقل.
أيها المسلمون، عالمنا الإسلاميّ غارق في الأوهام والأحلام والإذلال، وفي نغمة جديدة أخذ بها زعماء الأمة هذه الأيام هي إلصاق تهمة التعصّب والتكفير ضدّ الدعاة، يريدون الفضائيات والسفور والأغاني حتى تنتشِر الرذيلة والفساد والمخدّرات، إنهم لا يقرؤون القرآنَ، لم يسمعوا قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، يريدون تطبيق العلمانيّة والعولمة والحضارة الغربية.
أمريكا أقامت سرّا في دول أوربا الشرقيّة معتقلات سريّة لتعذيب المناوئين لسياستها، أمريكا تنتقد الانتخابات التي لا تتوافق وسياستَها العدوانيّة، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما في العديد من دول العالم، فقد اعتبرت الانتخابات الأخيرة في كل من فنزويلا وبوليفيا أنها لا ترقى إلى مستوى الديمقراطية، وتفتقر إلى حرية الرأي؛ لأن زعماء البلدين يرفضون الانقيادَ أو الانصياع أو التسليم بمطالِبها، ويناهضون علَنًا سياستها العدوانية.
عباد الله، إن الناظر في واقع الانتخابات التي جرت في مِصر والعراق وفلسطين يؤكّد للقاصي والداني زيفَ الديمقراطية وبطلان تباكيها على حقوق الإنسان، فالتناقضات لا حصر لها، مع أننا أكّدنا مرارا أنه لا جدوى من الانتخابات تحت حراب الاحتلال. والمتتبع لمجريات الانتخابات يجد ما يلي:
أولا: عدوانية أمريكا للشعوب الإسلامية وللفكر الإسلامي، فقد شهدت الانتخابات في مصر العديد من المخالفات والمضايقات، وبخاصة للجماعات الإسلامية التي حقّقت تقدّما، وكان لها أن تحرز تقدّما أكبر لولا هذه المضايقات التي شملت إغلاق مراكز الاقتراع واعتقال العديد من الناس، وهنا أمريكا لم تعرب عن سخطها للممارسات والمضايقات التي واكبت العملية الانتخابية في مصر، في حين قامت الإدارة الأمريكية ولم تقعد بالنسبة لنتائج الانتخابات في فلسطين، بل إن مجلس النوّاب الأمريكيّ هدّد علنًا السلطة الفلسطينية بوقف الدعم المالي في حال استمرار الحركات المناهضة للسياسة الأمريكية والإسرائيلية من خوض الانتخابات. وهناك في العراق جرت الانتخابات بعد أن ضمنت السلطة الحاكمة تحقيق الفوز بعد أن شهدت أرض الرافدين المجازر والدمار والقتل والتعذيب بحق أهل السنة المناهضين للاحتلال وممارساته، ولحاجة في نفسها هددت أمريكا إيران من التدخل في الانتخابات العراقية، أما هي فلها الحق أن تشترط وتهدّد الفلسطينيين من يخوض الانتخابات ومن لا يخوض ومن ينجح ومن لا ينجح في الانتخابات، وللأسف فدول الاتحاد الأوربي هدّدت بوقف دعمها للسلطة في حال نجاح حماس في الانتخابات، وبنفس الوقت سوف تمنع المقدسيّين من الانتخابات لتكريس الاحتلال في مدينة القدس.
ثانيا: وهن العالم الإسلامي، لعل من أهم الأسباب والدوافع والمواقف المعادية للإسلام هو وهن وضعف الأمة منذ تخليها عن منهج الله، ومنذ التآمر على دولة الخلافة الإسلامية، فالأمة اليوم اعتراها الوهن والخذلان والضعف والفرقة، لا يوجد قيادة حكيمة للأمة لتأخذ بيدها وتشدّ من أزرها وتوحّد صفّها وتوقظ حمية الإسلام في نفوسها وصفوفها، لا توجد قيادة تعتزّ بكرامتها لتقول لأعدائها: كفاكم فسادا وطغيانا وعدوانا وغطرسة، كفاكم تطاولا على الإسلام والمسلمين.
عباد الله، تذكروا دائما وأبدا حقيقة واضحة أنه إذا عجز وتخاذل الناس عن نصرة هذا الدين فإن الله قد تكفل بنصرة دينه، وصدق الله وهو يقول: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقال كذلك: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
(1/4506)
أولئك لهم الأمن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الإيمان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
21/11/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلُّع الأمة إلى الأمن والاستقرار. 2- لا أمن إلا بالإيمان. 3- ضرورة الرجوع إلى الله تعالى وطاعته. 4- مضامين الإصلاح. 5- الوعد الرباني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله حقَّ تقاته، فمن اتَّقاه وقاه وأسعده ولا أشقَاه.
أيّها المسلمون، إنَّ الأمّة اليومَ تنشُد الأمنَ بشتّى صُوَرِه وكافّة أشكاله في شتّى مناحي حياتها، ويتطلَّع أبناؤُها للاستِقرار والرخاء، ويسعَى قادتها وعلماؤُها ومثقَّفوها إلى تحقيقِ ذلك، ولن تجِدَ الأمّة إلى ذلك سبيلاً ولن يتحقَّق لها أمنٌ لا خوفَ فيه واستقرارٌ لا زَعزعةَ معه إلاّ بأن تحقِّق الإيمان بالله وحدَه اعتقادًا وعملاً، إيمانٌ يدفعها إلى رضوانِ الله جل وعلا والاقتِداء برسول الله ، إيمانٌ يحدوها لِتطبيقِ القرآن وسنّةِ سيِّد ولدِ عدنان في كلِّ شأن، فربُّنا جل وعلا يقول: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:81، 82]، والظلم هنا هوَ الشّرك بمختلف أنواعه، ويقول ربُّنا جلّ وعلا: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]. يقول المفسِّرون: من استجاب لهذا الأمرِ فأفردَ الله بالعبادةِ وحدَه لا شريكَ له وحقَّق الطواعيةَ الكامِلة له سبحانه جمع الله له بين أمنِ الدنيا والآخرة، ومن عصاه سلَبَهما مِنه كما قال جلّ وعلا: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. إنَّ الأمّةَ مطالبةٌ بالإيمان الذي يصرِف القلوبَ إلى الله وحدَه حتى لا تلتَفِت إلاّ إليه ولا ترجو إلا إيّاه ولا تدعو سِواه؛ حتى تكونَ الأمة بلسانِ حالها وواقعِ حياتها تطبيقًا كاملاً لقوله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
معاشرَ المسلمين، إنَّ الأمّةَ الإسلاميّة اليومَ تعيش في أحلَكِ الظّروف وتمرُّ بأقسى الأحوال، تعانِي المكارِهَ وتحيط بها الشدائدُ؛ ولهذا فقد وجَب على الحكّامِ والمحكومين علَى الأفرادِ والمجتمعات أن يدرِكوا أنّه لا ملجَأَ لهم مِنَ الله إلاّ إليه، وأن تدرِكَ الأمّةُ جميعًا حقَّ الإدراكِ أنَّ ما تعانيهِ إنما هو بسَبَبِ ما فرَّطَت في جنبِ الله، فربُّها جلّ وعلا يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وخالِقُها جلّ وعلا يقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، وبارِئُها جلّ وعلا يقول: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. قال المفسِّرون: والفِتنَةُ هي المحنَة في الدنيا، والعَذاب هو العذاب في الآخرة، وقال آخرون: الفِتنة ما يقَع في قلوبِ مَن خالف أمر الله ورسوله من كفرٍ أو نفاقٍ أو بِدعة، والعذاب الأليم هو ما يقَع في الدنيا، والكلُّ في هذا المعنى سواء. ومِن هنا فلا بدَّ أن يتيقَّن المسلِمون أنّه لا حفظَ مِن أسباب الشّرّ ولا وقايةَ مِنَ الوقوع في المصائب وشرِّ الأشرار وكيدِ الفجّار إلاّ بالرجوع إلى الله جلّ وعلا والعمَل الصحيح بالإسلامِ النقيِّ والسَّير على منهج النبيّ عليه أفضل الصلاةِ وأتمّ التسليم، فربُّنا جلّ وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، ورسولنا يقول في الوصيّة الجامِعَة: ((احفَظِ الله يحفَظك، احفَظِ الله تجِده تجاهك)) الحديث [1].
معاشرَ المؤمنين، لن يتحقَّق فَلاح وفوزٌ بنَيلِ كلِّ مطلوب وسلامةٍ مِن كلِّ مرهوب تحصيلٍ لكلِّ خير وأمنٍ مِن كلِّ شرّ إلا بتحقيق طاعة الله وطاعةِ رسوله والالتزام بتقوَى الرّبّ جلّ وعلا في كلّ حال وفي كلّ شأن، فربُّنا جلّ وعلا يقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، ويقول عزّ شأنه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويقول تبارك وتَعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52].
معاشرَ المؤمنين، لا خروجَ للأمة من الغُموم ولا مخرَجَ لها من الهموم ولا مخلَصَ لها من الكروبِ إلاّ بالاستجابةِ لحقائقِ الإيمان وأوامِرِ القرآن وتَطبيقِ شريعةِ الرحمن والعَمَل بسنّة سيّد ولَد عدنان، ففي كتاب الرحمن: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، ومِن كلام الله جلّ وعلا أيضًا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، ومن كلامِه عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
إخوةَ الإسلام، إنَّ آيةً في كتاب الله يجِب أن توقِفَنا كثيرًا، وأن نستَلهِمَ منها مضامين إصلاحِ واقِعِنا وأسبابِ استقامَة اعوِجاجِنا، يجب أن تكونَ هذه الآيةُ وما فيها من معاني وثيقةً متجَذِّرة في قلوبِ العباد مطبَّقَةً في واقعِ البِلاد، لا فَرقَ في ذلك بين شَأنٍ وشَأن، وهي قولُه جلّ وعلا: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124].
أيّها المسلمون، لا عِزَّةَ في الدّنيا والآخرةِ إلاّ مِنَ الله وبالله، ولا عصمةَ إلاّ مِنه عزّ وجلّ وبه، ولا نصرَ إلاّ منه، وتلكم المعاني لا تَتَحقَّق إلا بلزومِ الطاعة الحقيقيَّة لله ولرسولِه والاستقامةِ على نهج القرآنِ وسنَّةِ سيّد الأنامِ عليه أفضلُ الصلاة والسلام، فربُّنا جلّ وعلا يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، ويقول: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، ويقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، ويقول: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]. قال ابن كثير رحمَه الله: "فكلُّ مَن رَضِي بولايةِ الله ورَسولِه والمؤمِنين فهو مفلحٌ في الدنيا والآخرة منصورٌ فيهما" [2].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بما فيهِما من الهدي والبَيان، أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلّ ذنب، فاستَغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/409-410) [2669]، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] تفسير القرآن العظيم (2/97).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه الدّاعي إلى رضوانه، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، تمسَّكوا في كلِّ وقتٍ وحين بوصيَّة خالقِكم جلّ وعلا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
معاشِرَ المؤمنين، وعدٌ مِنَ الله لا يُخلَف، وقد تحقَّق هذا الوعدُ للأمّة في صدرِها الأوّل وعهودها الماضية، إنّه وعدٌ مِنَ الله مشروط وعهدٌ مَربوط بعهود، إنه بِشارة للأمّة في كلِّ زمان ومكانٍ، متى وفَّتِ الأمّة بشروطه نَعِمت وفازت، وهذا العَهدُ هو ما تضَمَّنه قولُ ربِّنا جل وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
فإلى تحقيقِ شروطِ هذا العَهدِ ـ أيّتها الأمّة ـ بادروا، وفي واقِعِكم وجميع مناحي حياتِكم التزموا؛ يتحقَّق لكم هذا الوعدُ، ويحصُل لكم هذا العهد، فتفلِحوا أبدًا، وتَسعَدوا سَرمدًا، ولا يهلكُ على اللهِ إلا هالك. قال ابن كثير رَحمه الله: "فالصحابة لمّا كانوا أقومَ الناس بعد النبيِّ بأوامِرِ الله وأطوَعَهم للهِ كان نَصرُهم بِحَسبِهم، أظهروا كلمةَ الله في مشارقِ الأرض ومغاربها، وأيَّدَهم الله تأيِيدًا عظيمًا، وحَكَموا في سائر العباد والبلادِ، ولمّا قصَّر الناس بعدَهم في بعض الأوامِرِ نقَص ظهورُهم بِحَسبِهم" انتهى [1].
ثمّ اعلَموا ـ أيّها المؤمنون ـ أنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكَاها الإكثارَ مِنَ الصلاةِ والتّسليم على النبيّ المختار.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك وأنعِم على سيِّدنا ونبيِّنا محمّد، اللّهمّ ارضَ عن الخلفاء الراشدين...
[1] تفسير القرآن العظيم (3/401).
(1/4507)
روح الحج
التوحيد, فقه
أهمية التوحيد, الحج والعمرة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
28/11/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحج المبرور. 2- ركنية الحج. 3- تعظيم شعائر الله تعالى. 4- منافع الحج. 5- فضل التوحيد والتحذير من الشرك. 6- فضل عشر ذي الحجة. 7- تعظيم الأشهر الحرم. 8- استنكار حادث قتل رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن أجدر ما قدِّم في الوصايا وأُتبع في الكلام بعد التحايا الوصية بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. وصَّى الله بالتقوى أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين وعمومَ العالمين، فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه؛ يكن لكم في كلِّ موطن ترجونه، ويكفِكم كلَّ سوء تحذرونه.
حُجَّاج بيت الله الحرام، هنيئًا لكم ما أصبَحتم في مما أصبَح الناس فيه، ورَدتم بيتَ الله المعظَّم، وقصَدتم ركنَ الإسلام الأعظم، وتفَيّأتم ظِلالَ بقاعٍ قدّس الله أرضَها وعظّم أمرَها وأعلَى قدرها، بِها تُضاعف الحسناتُ وتُرفع الدرجات وتغفَر الذنوب والخطايا، لَطَالما تمنَّيتم، فهذه أمانيكم قد ورَدتموها، وهذه الرُّبى التي عشقتموها، أنتم ضيفُ الله ووَفده، والواجب إكرام الضيف ورِفده، هنيئًا لك شرفُ الزمان والمكان، جئتم في رحلةِ الحياة ومواكِبِ الإيمان ملبِّين نداءَ الرحمن مِن كلّ فجٍّ عميق آمِّين البيتَ العتيق: لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك.
في الصّحيحين أن النبيَّ قال: ((مَن حجَّ هذا البيت فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كما ولدته أمه)) ، أي: نقيًّا من الذنوب والآثام قد مُحيَت عنه السيئات والخطايا، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه البخاريّ ومسلم، وفي الصّحيحين أيضًا أنَّ النبيَّ سئِل: أيُّ الأعمال أفضَل؟ قال: ((إيمانٌ بالله عز وجل)) ، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: ((جِهاد في سبيل الله)) ، قِيل: ثم ماذا؟ قال: ((الحجّ المبرور)).
هذا هو الحج، جعلَه الله ركنًا من أركان الدين، وأوجبَه على القادرين، فقال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، ناهِيكَ عَن مُضاعَفَة الأجورِ ونَفَحات الرّحمة في عرفَات والوقوفِ بالمشعر الحرامِ والمبيت في منَى والتقلّب في فجاجِها ورميِ الجمرات والعجّ والثّجّ والطوافِ بالبيت والسّعيِ بين الصفَا والمروة وإجابَة الدعاء في كلِّ موطن.
حجَّاجَ بيت الله الحرام، أما وقد أقرّ الله عيونَكم برؤية البيتِ العتيق واطمأنَّت قلوبكم بجوارِ المقام والحطيم وحلَّت أجسادُكم هذه الرحابَ الطاهرة فعظِّموا شعائرَ الله يزِدكم إيمانًا وتقوى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ومِن تعظيم الشعائرِ إحسانُ العمل وإتمامُه والحرصُ على كمالِه واتِّباع هديِ النبيِّ في كلّ صغيرٍ وكبير، وقد قال: ((خذوا عني مناسككم)).
أقبِل على عبادتك بأدبٍ وخشوع، وتفرّغ لما جئتَ له وقصدتَه، حافظًا لوقتك، مخلِصا لربك، واحرِص على تمام حجِّك، غيرَ متهاونٍ ولا متتبّع للرُّخَص، فالله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
تجنّب المراءَ والجدل والخصام والتشويشَ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيّها المؤمِنون، جِئتُم صادِقين ملبِّين، استجابةً لدعوةٍ لم ينقطع صدَاها عبر القرون: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28].
ألا وإنَّ من أعظمِ المنافعِ التربيةُ على إخلاصِ الدّين لله تَعالى الذي جعلَ التوحيدَ شِعار الحجّ ومقصدَه: لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنّعمة لك والملكَ، لا شريكَ لك، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30، 31].
إنَّ الأصلَ الذي بنِيَ عليه هذا البيتُ العظيم هو توحيدُ ربِّ العالمين القائلِ في محكمِ التنزيل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
التّوحيدُ ـ أيّها الموحِّدون ـ هو أساس الدين واللّبابُ، وهو للجنّة مِفتاح الباب، وعليه تدور رَحَا الإسلامِ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لقِيَ الله لا يشرِك به شيئًا دخل الجنّةَ، ومن لقِيَه يشرك به دخَل النار)) رواه مسلم، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعدُ الناس بشفاعتِك يومَ القيامةِ؟ قال: ((من قال: لا إلهَ إلاّ الله خالصًا من قلبه)) رواه البخاري، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني اختَبَأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلةٌ من مات من أمّتي لا يشرِك بالله شيئًا)) متّفق عليه. بل إنَّ التوحيدَ سبَب لمغفرةِ الذنوب، ففي سنن الترمذيّ أنّ النبيَّ قال: ((قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقِيتني لا تشرِك بي شيئا لأتَيتُك بقرابها مغفرةً)) ، وفي صحيح مسلم عن عثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((من ماتَ وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة)) ، وهو دليل على أنَّ العلمَ مَرتبة زائدةٌ على القول تقتَضي العملَ.
إذا علمتم فضلَ التوحيد ـ رعاكم الله ـ فإنَّ خطرَ الشرك عظيم، فهو محبِطٌ للعمل مدخِل للنار، وفي التنزيل العزيز: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، وقال الحقُّ سبحانه مخاطبًا أشرفَ خلقِه : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
أيّها المسلمون، إنَّ المتأمِّلَ في آياتِ القرآن الكريمِ وفي سنّة سيِّد المرسَلين يرَى الحساسيّةَ الشديدة في طريقة التعامل معَ هذه القضية والحسمَ الصريح والسّدّ الكامل لكلّ منافِذ الشرك وذرائِعه مهما كانت صغيرةً، فلا تهاونَ ولا تفريطَ ولا رخصَة ولا استثناءات إلا من أكرِهَ لسانه وقلبُه مطمئنّ بالإيمان.
وإنَّ أمرًا هذا شأنُه وخطرُه حرِيٌّ بالمسلم الاهتمامُ به وصرفُ حياته له وتفقّد نفسِه فيه وعدم الاكتفاء بما تعوّد عليه ورأى الناسَ فيه من غير علمٍ بالصّواب، وأن لا يكونَ كمن قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. إنَّ الشركَ إذا دخَل العبادةَ أفسدها كالحدَث إذا دخل الطهارةَ.
ولقد قاتل النبيُّ المشركين، وكفّرهم الله، وحكم بخلودِهم في النّار، مع أنهم يحجُّون ويعظِّمون البيتَ ويدعون الله ويعترِفون بأنه سبحانه هو الخالق الرّازق، لكنّهم صرَفوا أنواعًا من العبادةِ لغير الله، وأشركوا معه غيره، وقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
ومِن هنا وجَب على المسلمِ أن يزِنَ أعمالَه وعباداتِه بميزان الكتاب والسنة، وأن يخلِصَ لله في قصدِه وتوجّهه، وأن يوحِّدَ الله في دعائه وطلبِه وذَبحه ونذره وخوفِه ورجائه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
جعل الله حجَّكم مبرورًا وسعيكم مشكورا وعملكم صالحًا مقبولاً، والحمد لله أوّلا وآخرا.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفضِّل بكلّ نعمة، دافعِ كلّ نقمة، له الخلق والأمر، وإليه المرجع والمستقرّ، يتفضّل بالصالحات ويجزي عليها، وينعم بالخيرات ويوفِّق إليها، أحمده تعالى وأشكره وقد تفضّل بالزيادة لم شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الشمس والقمر.
أما بعد: أيّها المسلمون، يومٌ أو يومان وتنزِل بكم أيّامٌ فضَّلها الله على ما سِواها، وأقسم بها تعظيمًا لها فقال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، قال ابن عبّاس وابن الزّبَير وغيرهما رضي الله عنهم: (إنها عشرُ ذي الحجة)، وهو قولُ جمهور المفسِّرين كما ذكره الشوكانيّ رحمه الله.
وفي صحيح البخاريّ أنَّ النبيَّ قال: ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذهِ الأيّام)) ، يعني أيّام العشرِ، قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلاّ رجل خرَج بنفسه ومالِه ثم لم يرجِع من ذلك بشيء)).
فاحرِصوا ـ رحمكم الله ـ على عمارةِ هذه الأيام بالتكبيرِ والتهليلِ والتحميد والدّعاء والإكثار من أنواعِ الأعمال الصالحة، وهي الأيّام المعنِيَّة بقول الله عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، أمّا الأيام المعدودات فهي أيّام التشريق.
أيّها المسلمون، يقول النبيُّ : ((إذا رأَيتُم هلال ذِي الحجة وأراد أحدُكم أن يضحِّيَ فليمسِك عن شعرِه وأظفاره حتى يضحِّي)) رواه مسلم.
فالزَموا السنّة، واغتنِموا الأيّامَ الفاضلة، فما أسرعَ تقضِّيها، وبادِروا الأعمار بالأعمال، فالموت عمّا قليل سيلاقيها.
عبادَ الله، يقول الله عزّ وجلّ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، وفي الصّحِيحَين أنَّ النبيَّ خطبَ في حجّتِه فقال: ((إنّ الزمانَ قد استدار كهيئَتِه يوم خلقَ السّماوات والأرض، السنة اثنَا عشرَ شهرا، منها أربعةٌ حرُم، ثلاثةٌ متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجَبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان)) ، ثم قال: ((أيُّ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننَّا أنه سيسمِّيه بغير اسمه، قال: ((أليسَ يوم النحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أيُّ شهرٍ هذا؟)) قال: ((أليس ذا الحجة؟!)) قلنا: بلى، ثم قال: ((أي بلد هذا؟)) ، ثم قال: ((أليستِ البلدة؟!)) قلنا: بلَى، قال: ((فإنّ دماءَكم أموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستَلقونَ ربّكم فسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلاّلاً يضرِب بعضكم رقابَ بعض)). قال ابن كثير رحمه الله: "كان الرجل في الجاهليّةِ يلقى قاتلَ أبيه في الأشهرِ الحرم فلا يمدّ إليه يدَه"، وقال أيضا: "إنَّ الظلم في الأشهر الحرُم أعظم خطيئةً ووِزرا من الظلم فيما سواها".
إذا كان الأمر كذلك فإنّه لا ذنبَ بعد الشرك أعظمُ من قتل النفس المؤمِنة وسفكِ الدم الحرام في الشهر الحرام ظلمًا وعدوانا. وإنَّ ما وقع قبل يومَين من قتلِ رجال الأمن المسلِمين الآمنين في بلادهم القائمين على حراسةِ وخدمة المسلمين لهو ظلمٌ وبغي وفساد في الأرض وزعزَعَة للأمن ومحاربَة لا تقبَل التأويلَ ولا التبرير، ولا يجوز ربطُ هذا العمل الإجراميّ بجهاد ولا إصلاح، بل هو فساد بين وجرمٌ واضح، لا يقرّه دين ولا عَقل. نسأل الله تعالى أن يرحمَ رجالَ الأمن المقتولين، وأن يجعَلَهم في عِداد الشهداء، وأن يحفظ علينا دينَنا وأمننا، وأن لا يزيغ قلوبنا.
ثم صلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشرية محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم أنبيائه.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4508)
وقفة مع الهجرة النبوية وبداية العام الجديد
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
اغتنام الأوقات, الاتباع, السيرة النبوية
خالد بن عبد الله الجبير
المجمعة
2/1/1426
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الاقتداء بالنبي في خلقه وتعبده لربه. 2- دروس وعبر مستفادة من حادثة الهجرة. 3- حقيقة محبة النبي. 4- العبرة والعظة بسرعة انقضاء الأيام. 5- وصايا عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، فلقد جعل الله لكم في نبيكم أسوة حسنة، أسوة في خُلقه وفي تعبده لربه وفي مراقبته لنفسه ومجاهدتها على طاعة الله، فقال جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
ألا وإن من أهم ما ينبغي التأسي فيه بالنبي هو التأسي به في خشيته وفي تقواه لربه، فتلك صفته التي يحب أن يرى أمته عليها، وتلك وصية الله له ولسائر الخلق من قبله ومن بعده. فاتقوا الله عباد الله، اجتنبوا ما يشتبه عليكم مما يرد عليكم في ليلكم ونهاركم من رزق أو شهوات ورغبات؛ تكونوا من خيرة عباد الله، وتفوزوا بصحبة المصطفَين الأخيار، من الرسل والأنبياء وصالحي خلق الله.
عباد الله، وفي بداية كل عام للمسلمين ذكرى عطرة يسترجعون فيها سيرة نبيهم ، إذ يستذكرون فيه هجرة نبيهم من مكة إلى المدينة، ويستذكرون كيف فرق الله بهذه الهجرة بين الحق والباطل، ويستذكرون فرحة المسلمين بوصول نبيهم إلى المدينة سالمًا، ويستذكرون كيف كانت آلام وحسرات الكافرين وغمهم بما تحقق للمسلمين ولنبيهم من خيرات بعد تلك الهجرة المباركة، ويستذكر المسلمون كيف حول الله تلك المصائب والآلام التي لازمت النبي وصحبه، كيف حولها الله إلى خيرات ونعم ورغد واستقرار. والمسلم لا يستذكر أمرًا ثم لا يستفيد منه، ولا يستذكر تاريخًا عطرًا من تاريخ أمته ثم يجعل من تلك الذكرى سببا لمخالفة نبيه وسلف أمته، وسببا لجلب سخط ربه جل وعلا. فالمسلم بعيد عن تلك المنكرات التي تقع في بعض المجتمعات ادعاء لمحبة النبي ، بينما هي منكرات وبدع سيمنع صاحبها من الورود على نبيه الذي أحبه، ولا تشمتوا بهم فهم دهماء سذج مساكين، سلوا الله لهم ولنا ولكم وللمسلمين أجمعين الفقه في الدين.
يستذكر المسلم في ذكرى هجرة نبيه الكريم تلك اللحظات العصيبة التي مرت بالنبي ليلة الهجرة، وكيف أحاط به صناديد قريش يريدون قتله في خطة محكمة لا تقبل الفشل بكل مقاييس البشر، وخطة لا ينتج عنها خسارة لهم ولا مسؤولية عليهم ولا إحراجا لهم أمام القبائل من غيرهم، ولكن عندما تتعارض إرادة الله جل وعلا مع إرادة البشر تنقلب كافة الموازين، وتطيش كل صنوف الكيد والمكر التي يتمتع بها الدهاة.
كلنا يتذكر كيف خرج رسول الله من بين تلك السيوف المشهرة ليحثو التراب في وجوه وعلى رؤوس حامليها، وهو يتلو قول ربه جل وعلا: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]. وكلنا يتذكر حال النبي مع صاحبه في الغار لثلاث ليال، وعدوهما يجول حولهما ويصول، ولكنها عناية الله تحجبهما عن عدوهما. يتذكر المسلم هذه اللحظات فيزداد يقينه بحفظ ربه له، وبنصر الله لجنده مهما اشتدت الكرب وتعسرت الأحوال، فلا يستعجل ولا يتهور فيضيع دنياه، وقد يلحق بها دينه عياذا بالله، ولكنا نتذكر قول أبي بكر : كنت مع النبي في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا! قال: ((اسكت يا أبا بكرٍ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)). فيظل الله حافظا لهما؛ لأنهما لم ينسيا الله جل وعلا لا في رخائهما ولا شدتهما.
وكلنا يتذكر سراقة بن مالك لما لحق بهما، وكاد أن يدركهما، كيف لطف الله به فمنعه عن الوصول إليهما، ولم يهلكه لتكون تلك عبرة له وآية لعله أن يهتدي بها، وهكذا كان كما حوله الله بلطفه وحكمته من طالب لهما إلى حام لهما، صادٍّ الناسَ عنهما، فتكون تلك الذكرى للمسلم عبرة وآية، فلا يستعجل الأمور ولا ييأس؛ لأنه يدرك أن الله لا يقضي بمكروه محض على عباده وإن كرهوه وتثاقلوه، فدوما في كل مكروه خير مخفيّ لا يدركوه، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وكلنا يدرك أن رسول الله هو خير الخلق أجمعين وصفي رب العالمين، وما غضب الله جل وعلا لشيء كما غضب سبحانه لأذية نبيه المصطفى، ومع ذلك حمّله جل وعلا شيئا مما يكره بمفارقة بلده وأهله وعشيرته؛ ليجعل من ذلك درسًا لأمته في أن لا تتخاذل ولا تستسلم ولا تستعجل النتائج في كل شأنها، ولتعلم أن كل أمر خير أو مكروه مربوط بسببه الذي قد لا ينفك. فهل ـ يا ترى ـ لو بقي النبي في بلده، هل سيتحقق له أن يعود إليها بعد سنوات فاتحًا غالبًا، يحطم آلهة قريش وتخضع له الصناديد منهم قبل الضعفاء؟! يبتلى المرء بما يكره، فيصبر ويعايش ظرفه ولا يستسلم له، فتكون العاقبة الحميدة له. كم من رجل له بأس شديد على أهله وعلى من حوله يقف مستسلما خاضعا لظرف سيئ يمر به، كم من رجل يظن الحياة فقط في بلده وعند أهله فإذا نأى رزقه وبعد عنه قعد مستسلما كإحدى نساء بيته، ولست أقصد ـ عياذا بالله ـ سخرية ولا شماتة ولا أريد مطالبة بمستحيل، ولكنها الدنيا كما هي الجنة؛ لا تأتي لكسول ولا لمتهاون فيها متكل على غيره، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
لا تقف ولا تيأس ولا تتكل على أحد، اعمل وابحث واصبر وانظر إلى من هو دونك، فستجد النهاية حميدة بإذن الله. يجب أن نتخذ من سيرة النبي منهجًا، وأن يكون تذكرنا لها تذكرًا لتلك المواقف والآلام التي مرت بالمصطفى؛ لنعلم كم أحبنا رسول الله ، وكم أشفق وخاف علينا، فلقد تحمل الأذى وصبر، تحمل أذى أعدائه، وتحمل جهل أصحابه، وتحمل سوء طباع بعض من ابتلي بسوء الخلق، وإذا علمنا مدى حبّه لنا ومدى حرصه على إنقاذنا من عذاب ربنا كان ذلك أدعى للتأسي به والتفقه في رسالته التي أرسل بها، إذ حب رسول الله لنا ليس لهيئاتنا وأشكالنا ولا لقرابة منا، ولكن لرسالة بلغها فاقتدينا بها. باقتدائنا بها نفوز بحب ربنا، وباقتدائنا بها نفوز بحب نبينا ، يقول جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
عبد الله، هل تعلم أن رسول الله يتمنى لو رآك وجلس معك يحادثك؟! نعم، أنت يتمنى سيد الخلق رؤيتك ومحادثتك، فهل تبادله أنت نفس الشعور؟! إذا أجبت بنعم فالزم ما يحقق لك ذلك، يقول لأصحابه: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا)) ، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) ، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غر محجلةٌ بين ظهري خيلٍ دهمٍ بهمٍ، ألا يعرف خيله؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)). رؤية النبي لك ورؤيتك له تتطلب منك التزام الصلاة والتطهر لها في أوقاتها، وأداؤها كما كان يؤديها. التزامك سنته وتخلقك بخلقه يجعلك قرينه ورفيقه، فالمرء يحشر مع من أحب، والمحب لا بد أن يصبر على ما تكرهه نفسه لأجل حبيبه، والمحب لا يخالف لحبيبه سنة ولا طريقة ولا أمرًا.
جعلني الله وإياكم ووالدينا ووالديهم وذرياتنا وأزواجنا وسائر قرابتنا وأحبابنا من أحباب نبيا ، وحشرنا في زمرته، وأسعدنا في الدنيا باتباع سنته وفي الآخرة بصحبته.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على توفيقه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وأحب سنته وتخلق بخلقه إلى يوم الدين.
وبعد: عباد الله، ومع مرور عام كامل وانقضاء مرحلة من مراحل العمر بخيرها وشرها، فلنتحدث عن خبر الرجال الأربعة، فهل سمعتم بها مسبقا؟! هم أربعة رجال خرجوا من بلادهم، تركوا أهاليهم وعشيرتهم طلبًا للرزق، وانقطعت أخبارهم عمن وراءهم، حتى مضى عام كامل فكانت أخبارهم على النحو التالي:
أما الأول منهم فقد عاد لأهله بما تعجز عن حمله المراكب الثقال، ففرح به أهله وفرح بهم، فكان في نعيم لا يوصف.
وأما الثاني فقد عاد صفر اليدين لا له ولا عليه، عاد كما راح، فكانت رحلته بمثابة الفرصة الأخيرة له لتحسين معيشته فأضاعها، ولم يفلح فيها، وبقي يرجو تلطف من حوله عليه.
وأما الثالث فكان يتوارى من صحبه عند عودته؛ إذ قد عاد وهو يبحث عمن يسدّد عنه أجرة المركب الذي عاد به، فكان وبالا وخسارة على أهله قبل سفره وبعد عودته، فيعيش في حسرة، يأمل خلاصا ولا يجد له سبيلا.
وأما الأخير فقد قعدت به ديونه وحبسته عن العودة إلى أهله وبلاده، فبقي يائسا محطمًا معذبًا في نفسه وفي حبسه.
هذه ـ عباد الله ـ حكاية حكاها وعاظ السلف ليشرحوا لنا حالنا، كيف سيكون بعد نهاية سفرتنا هذه، سفرتنا إلى الله والدار الآخرة الله.
إخوة الإسلام، الله الله في أنفسنا، أوصيكم ونفسي أن نكون كما كان الأول، وصل إلى أهله رافعًا رأسه، فرحًا بهم وفرحين هم به، مثقلا بالخيرات لنفسه ولهم، ولا نكن كالآخرين عادوا بهم أكثر مما كانوا فيه، فرح بحالهم عدوهم ومن كرههم. تخيل نفسك بين يدي ربك، وجميل إن تخيلتها أن تتخيلها في حال جميلة تفرح بها الآن، علك أن تفرح بها يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:18-32]
مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشا قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبد على مهل فهل ترى فيه حرفا غير ما كانا
لما قرأت ولَم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتِي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون غدا في النار يلتهبوا والْمؤمنون بدار الخلد سكانا
عبد الله، خذ من تصرم الأيام عبرة، واحمد الله أن مد في عمرك، وأتاح لك الفرصة لتتزود مما يتمناه غيرك من سكان القبور ومقعدي الفرش والدور، واعلم أنك في نعمة إن لم ترعها الآن عضضت أصابعك ندما على فواتها. عد إلى سيرة نبيك المصطفى فتخلق بما تستطيع التخلق به من أعماله وصفاته، ولا تبخل على نفسك بصغير ولا كبير مما يمكنك عمله، وخذ من قول رسول الله نبراسًا تسير على هداه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة)).
الدين ـ بحمد الله ـ كل أعماله وتكاليفه في مقدور البشر، وما خرج عن القدرة سقط. فالزموا السداد وهو الطريق الصواب بغير إفراط ولا تفريط، إن لم تستطيعوا بلوغ الكمال فاحرصوا على ما يقربكم إليه. وأبشروا إن صدقتم العمل والقصد بقرة عين لا تخطر لكم على بال، ولا تشددوا على أنفسكم ولا على الناس أمور دينهم، واستعينوا على التقرب إلى ربكم بالأوقات التي تحبها أنفسكم وتنشط فيها للعبادة، كما يحرص المسافر على الأوقات التي يرتاح للسفر فيها.
ثم اعلموا أن أكثر ما يصلكم بنبيكم هو الصلاة والسلام عليه في كل حين، وبالأخص في يوم الجمعة، فصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا...
(1/4509)
الصلاة
فقه
الصلاة
محمد بن راشد الرشيدي
خيبر
جامع التقوى بالثمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- تهاون الناس بالصلاة. 3- حكم تارك الصلاة. 4- أصناف الناس مع الصلاة. 5- أهمية أمر الأهل والأولاد بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فإن للصلاة في الإسلام مكانةً عظيمة، فهي عمود الإسلام والركن الثاني من أركان الإسلام، وهي الفارقة بين المسلمين والكافرين. عظم الله شأنها ورفع مكانتها وفرضها فوق سبع سموات، وهي أول ما يحاسب عليه الإنسان من عمله، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
من حافظ عليها حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها ضيعه الله في الدنيا والآخرة، قال : ((من حافظ عليها كانت له نورًا ونجاة وبرهانًا يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا نجاة ولا برهانًا يوم القيامة، وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وأُبي بن خلف)) ، وأما حفظه في الدنيا فيقول : ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله)) ، أي: في حفظ الله تعالى.
ويقول الله عز وجل: وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فالصلاة تنهى صاحبها وتحفظه من الذنوب والمعاصي، لذلك فقد شهد الله بالإيمان لمن يحافظ على الصلاة في المساجد، قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:18].
والصلاة عون للمسلم على أمور دينه ودنياه، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، وكان النبي إذا حزبه أمر وأهمه قال: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)).
والصلاة تكفّر الخطايا والذنوب، قال : ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((ذلك مثل الصلوات الخمس؛ يكفر الله بهن الخطايا، ويرفع بهن الدرجات)) ، ويقول : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر)).
والصلاة من أعظم أسباب دخول الجنة، قال : ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع شيئًا من حقهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة)).
ومع عظم شأن الصلاة في الإسلام وعظم أجرها إلا أن بعض المسلمين قد تساهل بها تساهلاً عجيبًا، فمنهم من تركها فلا تراه يركع لله ركعة إلا حياءً من الناس أو مجاملة وهؤلاء كفار وليسوا بمسلمين، قال النبي : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، وقال : ((إن بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة)). وهؤلاء عقوبتهم إن لم يتوبوا ويرجِعوا نار تلظّى وجحيم محرق، قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:1-22]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ [الأحزاب:64-66].
وأما في الدنيا فتارك الصلاة تطبق عليه أحكام الكفار، ومنها أنه لا تؤكل ذبيحته، فلو ذبح شاة فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يأكل منها، ولا يزوَّج من بنات المسلمين، ولو عقد على امرأة وهو لا يصلي صار العقد باطلاً، ولا يرث ولا يورث، وليس له ولاية على أحد من المسلمين حتى أولاده وبناته، ولا يدخل مكة ولا المدينة لأنه كافر نجس وهي أماكن طاهرة، وإذا مات وهو لا يصلي فإنه لا يغسَّل ولا يكفَّن ولا يصلّى عليه ولا يقبر في مقابر المسلمين، وإذا مات وهو لا يصلي فلا يجوز لأهله أن يدعوا له بالرحمة ولا يستغفروا له، نعوذ بالله من حال الكفار.
ومن الناس من يتساهل بالصلاة فيصلي أحيانًا ويتركها أحيانًا أو ينام عن بعض الصلوات ولا يصليها إلا بعد خروج وقتها، وهؤلاء على خطر عظيم، قال : ((من ترك صلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله)) ، وقال : ((من ترك صلاة العصر متعمدًا حبط عمله)). بل إن الله عز وجل قد توعدهم بأشد الوعيد، فقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، فقد توعدهم الله بالويل وهو العذاب الأليم، وقيل: إنه واد في جهنم، مع أنهم يصلون ولكنهم لما كانوا يسهون عن صلاتهم ولا يحافظون عليها ويضيّعون بعض فروضها أو ينامون عنها توعّدهم الله بالويل.
وإلى الذين ينامون عن الصلاة ولا يستيقظون إلا عند وقت الدوام أمّا الصلاة فلا يبالون بوقتها فنسوق لهم هذا الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتاني الليلة آتيان، فقالا لي: انطلق، فانطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهده ها هنا وها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى)) ، فلما سأل عنه النبي قيل له: إنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
ومن الناس من يصلي ولا يترك من الصلاة شيئا ولكنه يفرط في صلاة الجماعة، فلا يعرف المسجد ولا جماعة المسلمين، وهؤلاء كذلك على خطر، فقد قال : ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) ، وقال : ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)) ، وجاء رجل أعمى إلى النبي فقال: يا رسول الله، أني رجل أعمى، وليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي : ((أتسمع النداء بالصلاة؟)) قال نعم، قال: ((فأجب)) ، وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة))، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: لأن يصبّ في أذني الآنك خير لي من أن أسمع النداء ولا أجيب. والآنك هو الرصاص المذاب. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق... وإنه ليؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. ومعنى يهادى أي: يعضد.
والتخلف عن صلاة الجماعة من صفات المنافقين الذين هم أصحاب الدّرك الأسفل من النار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك، قال : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الصبح والعشاء)).
وأعظم من هذا الذي يتخلف عن صلاة الجمعة، فقد قال : ((من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين)).
ومن الناس من يصلي ولكنه يصلي صلاة باطلة؛ لأنها على خلاف شرع النبي ، فلا تزيده من الله إلا بعدًا، فبعضهم لا يتوضأ للصلاة ويصلي وهو على غير طهارة، فهذا صلاته باطلة ولو صلى ألف ركعة، فإنها لا تقبل، قال : ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) ، وقال : ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، وبعض الناس لا يحسن قراءة الفاتحة، ومن لم يقرأ الفاتحة في كل ركعة فصلاته باطلة، قال : ((من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج)) أي: باطلة، وقال : ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ، وبعض الناس يستعجل في صلاته فلا يتم ركوعها وسجودها، وهذا كذلك صلاته باطلة، قال : ((إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع)) ، وقال : ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) ، أو قال: ((لا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) ، ومعنى: ((لا يتم الركوع والسجود)) أي: لا يأتي بها كاملة بل يستعجل في الركوع والسجود ولا يطمئن فيها، ومعنى: ((لا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) أي: لا يقيم ظهره عند القيام من الركوع والسجود.
وقد دخل رجل والنبي جالس في المسجد فصلى ثم جاء إلى النبي فسلم عليه، فقال له النبي : ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) ، وأعاد الصلاة ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول له النبي : ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) ، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي : ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) ، فمن هذا الحديث تبين لنا أن سبب بطلان صلاة هذا الرجل هو استعجاله في الصلاة وعدم طمأنينته فيها، فعدّه النبي لم يصلّ.
فعلى كل مسلم أن يهتم في صلاته ويؤديها كاملة تامة كما شرعها النبي حتى تقبل منه الصلاة، فإنها أول ما يحاسب عليه الإنسان من عمله، قال : ((إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الله تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع، يكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)).
فيا عباد الله، حافظوا على الصلاة في أوقتها، وأدّوها كاملة تامّة، وأكثروا من نوافلها عسى ربنا أن يتقبل منا ويرحمنا ويدخلنا الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفوته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فكما أمرنا الله عز وجل بالمحافظة على الصلاة بأنفسنا فقد أمرنا بأن نربِّيَ عليها أهلنا وأبناءنا، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. فقد أمرنا الله في هذه الآيات أن نقي أنفسنا وأهلينا من النار، ووقايتهم من النار لا تكون إلا بتربيتهم على الصلاة وعلى طاعة الله عز وجل.
فاتقوا الله يا عباد الله، وربوا أولادكم على طاعة الله وعلى الصلاة، فإن من الناس من يحافظ على الصلاة ولكنه قد ضيع أولاده وأهله ولم يربّيهم على الصلاة، بل يراهم مضيّعين لها مفرطين بها فلا يحرك ساكنًا، وهذا خطأ عظيم، فقد أمرنا النبي بتربيتهم على الصلاة وضربهم إن فرطوا بها، قال : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين)) ، وكل إنسان سيسأل عن أبنائه وبناته وأهل بيته يوم القيامة: هل رباهم على طاعة الله والصلاة أم ضيعهم وأهملهم؟ قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وقال : ((من استرعاه الله رعية فمات وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة)).
والطفل ينشأ ويتربى على ما يعوده أبوه، فإن رباه وعوده على الصلاة وآداب الإسلام منذ الصغر تربى عليها، وإن أهمله أبوه وتربى على تضييع الصلاة صعب عليه إصلاحه عند الكبر، فحافظوا على أبنائكم، وربوهم على الصلاة منذ الصغر، فإن في ذلك الخير لكم ولهم في الدنيا والآخرة.
أسأل العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يصلح لنا ذرياتنا، إنه سميع مجيب.
وصلوا على من أمركم الله بالصلاة عليه نبي الرحمة...
(1/4510)
التوحيد
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله, محاسن الشريعة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميّز دعوة الرسل عليهم السلام. 2- أهم ثمرة من ثمرات دعوة الإسلام الدعوة إلى التوحيد الخالص. 3- حال بعض الأمم والشعوب التي حرمت التوحيد الخالص. 4- الإلحاد صورة جديدة من صور الشرك. 5- حقيقة النور الذي جاء به محمد. 6- نقل محمد البشر من أحط الدركات إلى أعلى الدرجات. 7- الإسلام وحضارة الغرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، القائل في كتابه الكريم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
إن دعوة الرسل عليهم السلام تختلف عن أي دعوة أخرى من دعوات البشر المنبتّة عن هداية الله، ولذلك كان شيئًا عاديًا تمامًا أن تكون آثارها وثمارها تختلف عن غيرها من الدعوات، فإذا كان من ثمار الدعوات الأخرى عدم التقيد بالحق والخير والمعروف واعتبار الجمال مقدمًا على الأخلاق فإنه شيء عادي أن يكون من ثمرات دعوة الرسل الالتزام بالحق والخير والمعروف واعتبار الجمال في الأخلاق الكريمة العالية.
ولذلك فإن الفطرة عندها نوع بصيرة تستطيع بها أن تميز ثمرات الرسول الحق من ثمرات مدّعي النبوة الكاذب، وأن ترى في كل آثار كل ما يدل على صدق الأول وادعاء الثاني، يقول تعالى في إشارة إلى ذلك: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [الأعراف:58].
اليوم ـ إن شاء الله تعالى ـ سوف نستعرض أهم ثمرة من ثمرات دعوة الإسلام ورسول الإسلام ، والتي فيها شهادة كاملة على أنها منبثقة من شجرة النبوة الطيبة العطرة المتميزة، هذه الثمرة هي ثمرة التوحيد الخالص.
ولنستعرض أولاً حال الأمم والشعوب التي أعرضت عن هداية الله وحرمت التوحيد الخالص، حتى نعلم أن ما نحن فيه من نعمة الإسلام والتوحيد هو أجل نعمة أنعم الله بها علينا، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، ولنبدأ بالهند.
في الهند اليوم مئات الملايين من البقر، هذه الأبقار يعتبرها الهنود مقدّسة، وبالتالي فهم لا يستفيدون منها بتاتًا ويحرمون ذبحها، وأكثر من هذا فإن الشعب الهنديّ كلّه مسخّر لخدمتها وتعيش على حسابه، فكم يحتاج هذا العدد من الأبقار إلى مراع وطعام؟! وكم تعطل طاقات على حساب هذا المعنى؟!
وزيادة على ذلك فإن لهذا البقر سلطانًا على كل شيء، تقف البقرة فتتوقف وراءها السيارات ولا يزعجها أحد حتى تمضي هي فيمضي غيرها، وتبول في أي مكان، وتعتدي على مال أي إنسان، ولا أحد يجرؤ على أن يعترض سبيلها بشيء، ومناطق عديدة في الهند يعاني سكانها من المجاعة وسوء التغذية، ترى لو استفاد الشعب الهندي من البقر ألا تنحلّ شيء من أزمته؟! إن هذه الصورة من صور الشرك جعلت البشر مسخّرًا لخدمة البقر!
وفي مصر اليوم أهرامات ضخمة جدًا، أحجارها ضخمة جدًا، نقلت من أمكنة بعيدة جدًا، نقلها آلاف أو مئات الآلاف من أبناء الشعب المصري، وتعبت في بناء هذه الأهرامات آلاف الأدمغة وآلاف الأيدي، من أجل ماذا؟! من أجل أن يصنعوا قبرًا لفرعون الذي كانوا يعبدونه كإله! فكم أنفق من جهد وكم أنفق من أموال بسبب هذه الصورة من صور الشرك؟! شعب من البشر مسخر كله لخدمة فرد من البشر.
وفي العالم اليوم عشرات الملايين من الطائفة الإسماعيلية، هذه الطائفة الإسماعيلية التي تعبد رجلاً كإله، وتقدم له كل عام خمس أموالها، تجعله في كفة ميزان، وتجعل الذهب في كفة أخرى حتى يتساويا، وتقدمه له كهدية سنوية، عشرات الملايين من البشر يستغلّهم فرد باسم الألوهية، ليجهدوا ويقدموا، أما هو فيأخذ ويكنز وينفق بلا حساب على أشياء كثيرة، وقد يكون المرشح لهذا المنصب داعرًا فاسقًا ماجنًا، ينال هذا كله ويصرف في كل سبيل داعر. ذلك أثر من آثار الشرك بالله، أن يستغل فرد من البشر شعبًا كاملاً من البشر باسم ألوهية الإنسان وعبودية الإنسان للإنسان.
وفي العالم اليوم شعوب وثنية، وقديمًا كانت الوثنية منتشرة في العالم كله لم تخل منها أمة من الأمم: الرومان واليونان والهند والصين واليابان والعرب. فماذا تعني هذه الوثنية؟ قبل أن نقول: "ماذا تعني؟" نضرب أمثلة عن نماذج منها:
فعند العرب: روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به. وقال الكلبي: "كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًا، وجعل ثلاثًا أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه". وقد كان لكل قبيلة من العرب صنم، ولكل ناحية أو مدينة صنم خاص، وكان في فضاء الكعبة وحدها ثلاثمائة وستون صنمًا للعبادة.
أما عند الهنود فيقول أبو الحسن الندوي عن حال الوثنية فيها: "لقد أصبح عدد الآلهة في هذا القرن 330 مليونًا، وقد أصبح كل شيء رائع وكل شيء جذاب وكل مرفق من مرافق الحياة إلهًا يعبد، وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة، والأجرام الفلكية وغير ذلك".
والفرس كانوا يعبدون ملوكهم ونيرانهم، واليابانيون يعتبرون ملكهم ابن الشمس المعبودة، واليونانيون يعبدون إله المطر فلانا، وإلهة الحب فلانة، وإله الحرب فلانًا، وهكذا.
فماذا تعني هذه الوثنيات كلها؟ تعني أن الإنسان اعتبر نفسه أقل من الحجر وأقل من الشمس وأقل من الحيوانات وأقل من مظاهر الطبيعة كلها، بل جعلها في مقام السيد، وجعل نفسه في مقام العبد الذليل، وجعلها تتحكم به بواسطة وبغير واسطة.
وقال النصارى: إن المسيح ابن الله، وأعطوه حكم الأب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، فأصبح المسيح عندهم إلهًا. كما اعتبر الهنود بوذا من قبل إلهًا، وهؤلاء وهؤلاء صنعوا التماثيل لهذا وهذا وعبدوها، فأصبحت ديانة وثنية شركية من ناحيتين: من ناحية عبادة الأصنام، ومن ناحية عبادة الإنسان، ونتج عن هذا أن اعتبر النصارى خليفة المسيح الممثل بالبابا له حكم المسيح، فأصبح التحليل والتحريم والتضليل والتحريف الذي عليه طابع الديانة المقدسة الصادر من قبل البابا هو كل شيء، فكانت مآسي وفضائع.
وألحد الناس قديمًا وألحدوا في هذا العصر، فماذا يعني الإلحاد؟ يعني الإلحاد أن الإنسان عبد الكون كله، بدلاً من أن يعبد أجزاء منه، وخلع على الكون كله صفات الألوهية، فالكون يخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويتصرف ويعمل ويرتب ويبدع ويكوّن، واعتبروا أنفسهم أعظم ما في هذا الكون، فعبدوا أنفسهم؛ اعتبروا الإنسان مصدر التشريع ومصدر الحاكمية ومصدر الأمر والنهي، وهو حُرٌّ أن يفعل وأن يترك، وتمثلت الشعوب بأفراد تصرّفوا كآلهة، فحدث على يدهم من المآسي ما لم يحدث على يد غيرهم، حتى إنه قتل في زمان ستالين وحده تسعة عشر مليونًا من أبناء الشعوب التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي السابق.
فلم يكن الإلحاد إذًا إلا صورة جديدة من صور الشرك، انتقل به الإنسان من الجزئية إلى الكلية، ومن الشرك الواضح إلى الشرك المقنّع. هذه باختصار الوثنية والشرك اللّذين يستشريان في عالم اليوم والأمس.
ومحمد وحده بوحي من الله، من يوم بعثه إلى قيام الساعة، والذي وضع الإنسان في محله الصحيح، فعلمه أن الكون كله قمره وشمسه ونجومه وأرضه وحيواناته من بقر ونمر وأسد وعجل ونباتاته كلها، وكل شيء فيه خلق للإنسان، فالإنسان سيده والإنسان مكرم ومفضل عليه، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [لقمان:20]. ومن حق الإنسان أن يستفيد من هذا الكون، فكل الكون مسخر للإنسان، والإنسان أكرم ما فيه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]. وإن الله خالق الكون والإنسان، وهو وحده الإله المتّصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، المستحق وحده للعبادة، والإنسان عبده وحده، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فالناس كلهم عباد الله، رسولهم ونبيهم، ملكهم وخادمهم، كبيرهم وصغيرهم، ولا يجوز أن يعطوا عبوديتهم لأحد سواه، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، وقال: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
لا إله إلا الله، لا حجر ولا قمر ولا بشر ولا كون ولا مجلس نيابي يحلل ويحرم كما يشاء، ولا شعب ولا حاكم ولا محكوم ولا البشرية كلها.
كل الكون للإنسان، والإنسان لله، مقام الإنسان السيادة على المخلوقات، لأنها مسخرة له، والعبودية لله وحده، بنقلة واحدة نقل محمد البشر من أحط الدركات إلى أعلى الدرجات، وبذلك وجد المسلم، وهذه أول ثمرة من ثمار محمد ، وهي أول ثمرة من ثمار كل نبي، ولكن الناس انحرفوا.
وبهذه النظرة إلى الكون والإنسان فتح المسلم أقفال الكون بالتجربة والمشاهدة، يدفعه في ذلك عقيدة أن الكون كله للإنسان، وعليه أن يستفيد منه.
ولئن وصلت الحضارة الغربية اليوم إلى القمة وتسخير الكون فذلك بسبب أنها أخذت هذا المعنى عن الحضارة الإسلامية، ولولا ذاك لما كان في أوربا حضارة ولا علم، وأين يكون ومحاكم التفتيش وسيف الكنيسة مسلطة على رأس كل من يفكر؟! قتلت حوالي 133 ألفًا من العلماء، و33 ألفًا منهم أحرقوا وهم أحياء.
يقول بريفولت في كتابه بناء الإنسانية: "ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير"، ويقول في موضع آخر: "لم تكن العلوم الطبيعية التي يرجع فيها الفضل إلى العرب هي التي أعادت أوربا إلى الحياة، ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوربا تأثيرات كبيرة ومتنوعة منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوربا". ولكن للأسف فإن أوربا أخذت جزءًا فقط من هدي محمد في هذا الموضوع، ولو أخذته كله لأفلحت واهتدت.
إن التوحيد هذه الثمرة من ثمار محمد التي لا يصلح الإنسان إلا بها، ولا يأخذ محله الصحيح إلا إذا اعتقدها، لا يمكن أن تكون على هذا الكمال والتمام في دعوة محمد لولا أنه رسول حقًا، أراد الله به أن ترجع الإنسانية عن الانحراف إلى الاستقامة.
فالحمد لله على نعمة الإسلام وتوفيق الإيمان، الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة.
اللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلاً، ردًا غير مخز ولا فاضح يا رب العالمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4511)
الموت
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
زهير بن حسن حميدات
الخليل
عبد الرحمن بن عوف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عذاب القبر حق. 2- القبر أول منازل الآخرة. 3- المؤمن ينعم في قبره والكافر يعذب فيه. 4- الوصية بالاستعداد ليوم الرحيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى القبر، فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير، أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف، ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر, قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل رسول الله عليَّ فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: ((لا, من زعم ذلك؟)) قالت: هذه اليهودية, لا أصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاك الله عذاب القبر, قال: ((كذبت يهود وهم على الله أكذب, لا عذاب دون يوم القيامة)). ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث, فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: ((القبر كقطع الليل المظلم. أيها الناس، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا وضحكتم قليلاً. أيها الناس، استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق)).
أيها الناس، اعلموا أن القبر أول منازل الآخرة, وأنه من مات فقد قامت قيامته, وأن العبد إذا قُبر عُرض عليه مقعده بالعذاة والعشي؛ إن كان من أهل الجنة عرض له مقعده من الجنة, وإن كان من أهل النار عرض عليه مقعده من النار, يُفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعًا, ويملأ عليه خضيرًا إلى يوم يبعثون، وأما الكافر فيضرب بمطرقة من حديد ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. مَرَّ رسول الله بحائط من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان.، سمع صوتًا لا يسمعه الناس ولو سمعوه لماتوا وصُعقوا, سمع صوتًا لا يسمعه الناس ولو سمعوه ما هدأت جفون ولا نامت عيون, قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)).
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه إذا خف قبر الإنسان فما بعده خير منه، لذلك كان عثمان بن عفان إذا رأى القبر بكى بكاء الثكلى, فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما لك تذكر عندك الجنة والنار وعذاب الآخرة فلا تبكي, فإذا رأيت القبر بكيت؟! قال : إن القبر أول منازل الآخرة، إذا صلح وحسن فما بعده أيسر منه.
إنها الحفرة التي يقول فيها المصطفى: ((القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار)). إنها الحفرة التي يفتن فيها الناس فتنة عظيمة، قال : ((أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال)).
إن المؤمن ينعم في قبره ويأتيه من ريح الجنة وريحانها فيشتاق إليها فيقول: يا رب أقم الساعة، يا رب أقم الساعة، وإن الكافر أو الفاجر فيأتيه في قبره من سموم النار فيقول: يا رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة. لا إله إلا الله, لا إله إلا الله, ما أشدها من ساعة وما أتعسها من حياة وما أشقاها من لذة، أألعب في الدنيا وأرتكب الحرام وأفعل الجرائم وأستمع للغناء وأنظر إلى الحرام وأتلذذ بشهوة وأتمتع بمعصية ثم يكون هذا مصيري؟! اللهم غفرانك, اللهم غفرانك. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مَدَّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟! فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له))، ثم قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا))، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، ((فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟! فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة)). وقال رسول الله: ((لولا أن لا تدافنوا لأسمعتكم من عذاب القبر الذي أسمع)).
اتق الله يا عبد الله, ولا يكن مثلك مثل هؤلاء, ومصيرك مصير هؤلاء, وأنت تعلم أن هذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة, واذكر ساعة الموت والانتقال, وما يتمثل لديك ساعتها من كثرة السيئات وقلة الحسنات, فما وددت عمله في تلك الساعة فعجل بعمله من اليوم, وما وددت اجتنابه فمن الآن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا)) ، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)). الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقفون، وعلى أعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
ترى الشاب الممتلئ صحة وعافية والشجاع الذي يصرع الأبطال في لحظة يسيرة قد استحال جثة هامدة وصار جسمًا لا حراك به، فذهب ذلك الشباب وتلاشت تلك القوة وتعطلت حواسه، تعطل سمعه وبصره وشمه وخرس لسانه، وقد يكون عالمًا ضليعًا أو أديبًا بليغًا أو طبيبًا ماهرًا أو مخترعًا بارعًا، ولكن هيهات أن يمنع ذلك قبضَ الأرواح إذا انقضت الأعمار، قال تعالى: إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49].
بينما يتمتع الإنسان بصحته وينعم بعافية ويرتع ويلعب ويتيه عجبًا ويشمخ أنفًا ويأمر وينهى إذا بمرض الموت قد هجم عليه هجومَ الأسد على فريسته، فيضعف جسده ويخفت صوته وترتخي مفاصله وتضمحل قواه وتُطوى صحف أعماله بعد أن يرحل عن دنياه، فما أقرب الموت! كل يوم يدنو منا ونحن ندنو منه، وليس بيننا وبينه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فإذا نحن في عداد الموتى. فما الأعمار في الحقيقة إلا أزهار تتفتح ثم تذبل، أو مصباح ينير ثم ينطفئ، أو شهاب يضيء ثم يصير رمادًا، وليبحث فوق رمال هذه القبور المبعثرة وبين أحجارها المتهدمة المتساقطة، ليبحث أربابُ المطامع وطلابُ الدنيا ليعلموا أن طريق الشهوات والملذات المحرمة وإن كانت مخضرة مزدانة بالأزهار فإنها تؤدي في نهايتها إلى هذا المصير الذي صار إليه المقبورون، فطوبى لمن أتاه بريد الموت بالاشخاص قبل أن يفتح ناظريه على هؤلاء الأشخاص، ومن لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غدًا، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته سيُرجع عنه غدًا، ويُترك وحيدًا فريدًا مرتهنًا بعمله، فإن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. أين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع؟! جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا، بنوا مساكنهم فما سكنوا، ولكننا ننسى الموت، ونسبح في بحر الحياة وكأننا مخلدون في هذه الدار، وأويس القرني يقول: "توسّدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم".
نتذكر الموت لنحسن الاستعداد لما بعد الموت بالعمل والطاعة والاجتهاد في العبادة، من صيام وقيام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ومساعدة المحتاجين. الاستعداد للموت بهجر المنكرات وترك المعاصي ورد المظالم والحقوق إلى أهلها. الاستعداد للموت بإزالة الشحناء والبغضاء والعداوة من القلوب. الاستعداد للموت ببر الوالدين وصلة الرحم. وقيل: "من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة".
متى يستعد للموت من تظلله سحائب الهوى ويسير في أودية الغفلة؟! متى يستعد للموت من لا يبالي بأمر الله في حلال أو حرام؟! متى يستعد للموت من هجر القرآن ولا يعرف صلاة الفجر مع الجماعة، مَن أكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وارتكب الزنا؟! كيف يكون مستعدًا للموت من لوث لسانه بالغيبة والنميمة، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد، وضيع أوقات عمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم؟!
إذا حضر الأنبياءَ الموتُ يخيَّرون بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى ذلك المقام الكريم، ولا شك أن كل رسول يفضل النعيم المقيم، وقد حدث هذا لرسولنا، خيِّر فاختار، ففي صحيح البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقول وهو صحيح: ((لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر)) ، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)) ، قلت: إذًا لا يختارنا، وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها، ((اللهم الرفيق الأعلى)).
أيها المسلمون، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، لا تكونوا ـ رحمكم الله ـ ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل، وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة. أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة، اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.
اتقوا الله رحمكم الله، وارجوا الدار الآخرة، فتلك دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يبلى نعيمها، ولا يتغير حسنها وإحسانها وحِسانُها، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين، دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
أيها المؤمنون، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على نبينا محمد...
(1/4512)
الخاتمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
رياض بن سليمان السلطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الموت. 2- حال العبد المؤمن والكافر عند الاحتضار. 3- صور للخاتمة السيئة. 4- نماذج من الخاتمة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فسُبحان من تفرّدَ بالبقاءِ، حيٌّ لا يموت سُبحانهُ وتعالى، تفنى الخلائقُ جمعاء بعد أن تستنفدَ ما كتب اللهُ لها، وتتلقى الأقدار التي كتبها الديانُ برحمتهِ وحكمته، ثُمَّ تنتقلُ إلى حيثُ الحياة المكتوبة والمصير المضروب، الكلُّ ماضٍ إلى ما قُدر له، إمَّا إلى جنةٍ أو نار، الملِكُ والمملوك، الرئيسُ والمرؤوس، من كان معروفًا بفقرهِ إلى عفو الله، ومن كان فقيرًا يومَ أن استغنى عن رحمةِ الله، الكلُّ راحلٌ مُغادر، والله سُبحانه وتعالى معروفٌ موصوفٌ بما قال عن نفسهِ قرآنًا أملاهُ الوحي على محمدٍ : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
ولكن قبلَ أن تبردَ الأعضاء وينتقل الجسمُ من الحركةِ إلى السكون وحملهِ من شاهقِ القصورِ إلى ظُلمات القبور، وقبل أن يغمضَ العبدُ عينيه على آخر نظرةٍ له إلى هذه الحياة، قبل أن يُشارَ إلى الابنِ أنَّهُ يتيم فقد أباه، وإلى الزوجةِ أنها ثكلى قد رحلَ عنها زوجُها وانقضت روحهُ إلى الله، وقبل أن يُعانق الأب وتضم الأم ويُقال: أحسن اللهُ العزاءَ وجبرَ اللهُ المُصاب، قبلَ أن تُزايلَ الحياةُ الأجساد، إي وربي عبادَ الله، قبل أن يظفرَ هادمُ اللذاتِ بالروح منك، يوم لا يقرعُ بابًا، ولا يهابُ حجابًا، ولا يقبلُ بديلاً، ولا يأخذُ كفيلاً، ولا يرحمُ صغيرًا، ولا يُوقرُ كبيرًا، يظفرُ بالروحِ منك أنت أيّها الإنسان، إنَّها خاتمةُ المطاف وملخّصُ الحياةِ السالفة، النهايةُ المُنتظرةِ، كربٌ بيدِ سواك لا تدري متى يَغشاك.
إنَّها الخاتمةُ يا أُمة الإسلام، التي طالما تسابقت دموعُ العارفين خوفًا منها، وضُمّت الركبُ في المحاريب بين يدي الله تحسبًا لها. الخاتمةُ كربٌ أشدُّ من ضربِ السيوف ونشرٍ بالمناشير؛ فالروحُ تنجذبُ، لكلِّ عضوٍ سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة، فتنقطعُ الأنظارُ عن الدنيا، ويُغلقُ دونَ العبدِ باب الإجابةِ، وتحيطُ به الحسرةُ والندامة. فما أهول تلك اللحظات، فما أهولَ تلك اللحظات.
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله كان بينَ يديهِ ركوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدهُ المباركة فيها، ويمسحُ بها وجههُ ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ لسكرات )) ، ثُمَّ نصب يدهُ وجعلَ يقولُ: ((في الرفيقِِ الأعلى)) ، حتى قُبض ومالت يده.
فاعتبر ـ أخا الإيمان ـ بحقائق أدلى الناطقون بها في ذلك المقام، ومُشاهدات وصفها المتألمونَ المتوجعونَ من سكرات الموت، وتشخيصًا يكسرُ القلوب طلبا لرحمةِ الله، طلبًا لمغفرة الله.
رُوي عن عمرو بن العاص لما حضرتهُ الوفاة قال لهُ ابنهُ عبد الله: يا أبتاه، إنَّك لتقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزولِ الموت حتى يصف لي ما يجدُ، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني، والله كأنَّ جبيني في تخت، وكأني أتنفسُ من ثُقبِ إبرة، وكأنَّ غُصنَ شوكٍ يُجذبُ من قدمي إلى هامةِ رأسي.
فكيفَ بك ـ يا مغرور ـ وقد حلَّت بك السكرات ونزل بك الأنين والروحُ كالشوكةِ تُسحبُ من أسفلِ قدمكَ إلى مفرقِ رأسك؟! تسمعُ عويلَ الحاضرين وتلقينَ الناصحين الشهادة لك، ثقل اللسان، وبارت القوى، وارتخت اليدان، وغارت العينان، تسمعُ نداءَ بنتكَ الصغيرةِ تبكي كالأسيرة؛ تقول: أبي لا تفارقني، وأنت تسمعُ الكلام، ولا تَقدر على الجواب، ما أضعفك وأهونك في تلك اللحظات إن تخلى اللهُ عنك وعبثَ بك الشيطان، لن تستطيعَ الجواب؛ فعزرائيل عليه السلام يُنادي الروحَ أن تخرج؛ فمثِّل نفسك أيّها الناسي، وتذكر أيُّها السادرُ المغرور.
أمةَ الإسلام، اسمعوا الخبرَ اليقين والحديثَ الجلي الذي يُغني عن التنبيهات والمواعظِ المُبكيات، خبرًا صحيحًا عن النبي الكريم، عن محمدٍ أنَّهُ قال: ((فإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ على الآخرةِ نزل إليه ملائكةٌ من السماءِ بيضُ الوجوه، كأنَّ وجُوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنة وحنوط من حنوطها، حتى يجلسوا منهُ مُدَّ البصر، ثم يجيء ملكُ الموتِ حتى يجلس عند رأسه؛ فيقولُ: أيَّتُها النفسُ المطمئنةِ، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال: فتخرج؛ فتسيلُ كما تسيلُ القطرة من في السقاء؛ فيأخذُها فإذا أخذها لم يَدعوها في يدهِ طرفةَ عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ وفي ذلك الحنوطِ، وتخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجهِ الأرض؛ فيصعدون بها، فلا يمرُون بها على ملإٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الريحُ الطيبة؟ فيقولون: فلانُ بن فلان بأحسنِ أسمائهِ التي كانوا يُسمُونَهُ بها في الدنيا، حتى السماء السابعة، فيقولُ الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوهُ إلى الأرض؛ فإنِّي منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أُخرى، فتُعادُ رُوحه.
وإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ إلى الآخرة نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ سود الوجوهِ معهم المسوح، فيجلسون منهُ مدَّ البصر، ثُمَّ يجيء ملكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه، فيقولُ: أيَّتها النفسُ الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتتفرقُ في جسده، فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ من الصوفِ المبلول، فيأخذُها، فإذا أخذها لم يدعُوها في يدهِ طرفةَ عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على الأرض، فيصعدون فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروحُ الخبيثة؟ فيقولون: فلانُ ابن فلان بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمى بها في الدنيا ـ نسألُ الله العافيةَ من هذا ـ حتى ينتهي بها إلى السماءِ السابعة، فيستفتحُ فلا يُفتحُ له)) ، ثُمَّ قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابهُ في سجِّين في الأرضِ السفلى، فتطرح روحهُ طرحًا)) ، ثُمَّ قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن البراء بن عازب وصححهُ الألباني على شرطِ الشيخين.
قال سلمان الفارسي : (أضحكني ثلاث: مؤمِّلُ الدنيا والموتُ يطلبُه، وغافلٌ ليس بمغفولٍ عنه، وضاحك بملء فيهِ وهو لا يدري أرضيَ اللهُ عليه أم سخط. وأبكاني ثلاث: فراقُ الأحبةِ محمدٍ وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى).
تزود من الدنيا فانَّكَ لا تدري **** إذا جنَ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجر
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها **** وقد أخذت أرواحهم ليلةََ القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم **** وقد أُدخلت أرواحهم ظلمةَ القبرِ
وكم من سليمٍ مات من غيْرِ علةٍ **** وكم من سقيمٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكم من فتى يُمسي ويُصبحُ لاهيًا **** وقد نُسجت أكفانهُ وهو لا يدري
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ **** وعند المسا قد كان من ساكنِي القبرِ
فداوم على تقوى الإلهِ فإنَّها أمانٌ **** من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
أُمةَ الإسلام، كيف يستمرئُ العُصاةُ لذاتهم المنقضية؟! تأتلفُ نفوسهم كلفًا بها، يبحرون في لُجةِ كلِّ معصية طلبًا للَّذةِ الساقطةِ والسعادةِ المزورة التي تبرقعت بالسراب، كيف يتكلفون المُحرمات ومِن خلفهم مقاريض الخاتمة وأوجاع نسجوها هُم بأيديهم وما قُدمت ليومِ رحيلهم؟! كيف يستمرئُ العُصاةُ ذلك وقد زلَّ عن منهجِ النجاةِ من رُئي عليهم بهاء الطاعة ونضارة القُربِ من الله سُبحانه وتعالى؟! فالحيُّ لا تَؤمن فتنتهُ.
كان رجل اشتدَّ كلفهُ وعشقهُ لغلامٍ أمرد، ففارقهُ الصبرُ منذُ أن عشقهُ، وفشت أشعارهُ فيه، وجرت على الألسنةِ، وأنشدت في المحافل، وكان يتبعُ الأمردَ الذي عشقهُ عندما يجلسُ على عتبةِ بابه، فاعتزل الأمردُ مجلسه ذلك، ففقدَهُ الرجل فأنهكهُ المرض، وأضجعهُ الهم، فنصحهُ المُقربون عندهُ بمعاودةِ الأطباء فرفضَ، وقال: الدواءُ والعلاج نظرةٌ من أسلم ـ وأسلم هو ذلك الغلامُ الأمرد ـ، فذهبَ أحدُ أصدقاءِ ذلك الرجل إلى الأمرد يراوِدهُ بمعاودته، وأن يتصدقَ عليه بنظرةٍ تُذهبُ بما فيه، وهيهات هيهات؛ فمن أسرفَ في محبةِ زينةٍ من الدنيا عذبهُ اللهُ بحبهِ ذاك، فرضيَ أسلم ذلك الأمرد بالذهابِ إلى عاشقه وهو على فراشه لكي ينظرَ إليه ويريحَ قلبهُ من فقدهِ، فسارا جميعًا، ثُمَّ في وسط الطريقِ تردد أسلم، ورفضَ إكمال المسيرِ، قال له الرجل: لا بُدَّ أن تفي بوعدك وتُكمل سيرك، ولكنهُ رفض ورجع يوم أن رجع إليه عقله، فلحقهُ الرجل، وتعلق بردائه حتى تمزق، ولكنهُ رفض، فرجعَ الرجلُ العاشق؛ فسألهُ عن الغلام؛ فقصَّ عليه ما حصل وأنَّهُ رفضَ المجيء إليك لتراه، فقال له ـ وليتهُ ما قال ليتهُ ما قال، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً ـ، قال لصاحبهِ احفظ عني هذه الأبيات:
أسلم يا راحة العليل رفقًا على الهائمِ النحيل
ووصلك أشهى إلى فؤادي من رحمةِ الْخالقِ الْجليل
قال له صاحبه: اتق الله، ما هذه العظيمة؟! فقال: قد كان، قد كان. يقولُ راوي القصة: واللهِ، ما توسطتُ الطريقَ حتى سمعتُ الصراخَ عليه، وقد فارقَ الدنيا. نعوذُ باللهِ من سُوءِ الخاتمة.
اللهمَّ ارزقنا حُبك، وحبّ من يحبك، وحبّ كلّ عملٍ يُقربنا منك.
تلك هي النهاياتُ التي تنشقُ عن المتأملِ فيها حقارةُ الحياةِ الفانية، وأنَّ الحياةَ الحقة لذلك القلب الذي يملكُ وثبةً واصلةً في أعمالِ الخير، وذلاً يُحصِّنهُ من النهاياتِ المُرة، ألا إنَّها دعوةٌ للعودةِ الصادقةِ للهِ الواحد القهار، لمحةٍ بارقةٍ تسترشدُ ـ أخي الكريم ـ بنورها طريق النجاة.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعد: فهنيئًا لأهلِ الطاعةِ والعرفان، الذين طوَّعُوا أنفسهم لأوامرِ الله تعالى ونواهيه، معترفينَ بحقِّ العُبوديةِ والأُلوهيةِ لله سبحانه وتعالى، الذين انتزعوا كلَّ حائلٍ بينهم وبين رضا اللهِ جل وعلا، وامتلكوا كلَّ عنوان تضحيةٍ، يثبون به إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، وكانوا ألويةً رفيعةً لجحافل المتقين العاملين.
فأبشر يا باغي الهدى، يا من تغشيتَ حلقَ العلمِ يومَ أن زهدَ فيها كثيرٌ من شبابِ الإسلامِ في هذا الزمن، وعكفتَ الركب عند العلماء، فانظر إلى نجم واحد من تلك النجومِ الكثيرةِ السيارة على مرِّ العصور وطويل الأزمان، العالمُ الهُمام علامةُ الزمان شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، المجاهدُ المُناضلُ بما أملاهُ اللهُ عليه من فضلهِ.
يقولُ الذي يقيمُ على زنزانتهِ في السجن قبلَ أن يلفظَ الشيخُ أنفاسهُ ويُغادرُ الدنيا، في آخرِ لحظةٍ يَعيشُها من عمره قبلَ أن ينتقلَ من الحياةِ إلى الممات، قرأ قول الله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54، 55] ثم قضى ومات رحمه الله.
لماذا ـ أيّها الأحبة ـ نفتحُ صفحاتٍ من التاريخِ صفراء، ونرجعُ إلى الوراءِ كثيرًا، ونحسرُ أعيننا عن الواقعِ المُشرقِ الذي عطرهُ شُبانٌ أتقياء نبلاء، رجال أيُّ رجال؟! عطَّروا مسامعنا بنهايتهم التي تُجددُ الحياة في القلب، وتؤكدهُ بمغفرةِ اللهِ ورحمتهِ أكثر وأكثر؛ دعاة هداة نصبوا أيَّامهم أمام الآخرةِ، يشدُّون أمامَ جدار الليلِ أحلى أنواع العبادةِ لله وحدهُ لا شريك له.
كان هُناك شابٌ تعلق قلبهُ بالأذان، تتراقصُ الدمعاتُ من عينيهِ وهو يُنادي الناس: (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) رافعًا بها صوتهُ، يمُدُّها ويُرسلُها حانيةً باردةً إلى آذانِ القاصي والداني، وبعد أيامٍ معدودة جاءَهُ الابتلاءُ من الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى، فأصيبت مقلتاهُ وعيناهُ بالعمى، وصار يحتاجُ إلى رعاية وإلى أحدٍ يقومُ بشُؤونه ويكفلُ له متطلباته، فأمرهُ عمّهُ وصنو أبيه أن يسكنَ عندهم في بيته، فحصلَ ما لا يُريدُهُ الشاب؛ فسيصبحُ بعيدًا عن الأذان وبُيوت الرحمن، فرفضَ، وألحَّ عليه عمّهُ رأفةً عليه وشفقة به، فقبلَ بعد ذلكَ ولكن بشرطٍ واحد، قال عمَّهُ: وما ذاك؟ قال: تأتون بي قبلَ صلاة الفجر إلى مسجدي هذا، ثُمَّ بعد شروق الشمس تأخذوني، وتأتون بي قبلَ صلاة الظُهر، وتتركوني للأذان والإقامة والصلاة والدعاء بينهما، حتى صلاةَ العشاء أُؤدي السُنة بعدها، ثُمَّ أرجعُ إلى بيتكم، استحسنَ العمُّ الطلبَ على كُلفتهِ وصعوبته، وبعد زمنٍ ليس باليسير والشابُ يَدفنُ سبابتيهُ في أذنيه ويُنادي المسلمين للصلاة: (الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلا الله، حيَّ على الصلاة)، فإذا بروحهِ تخرج ويموتُ ساعتها وهو يُؤذنُ. نسألُ الكريمَ من فضله.
وبعدُ: عباد الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
يا رب إن عظُمت ذنوبِي كثرةً **** فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجُوكَ إلاَّ محسنٌ **** فمن الذي يدعو إليه المجرم
أدعوك ربِّ كما أمرت تضرعًا **** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
ما لِي إليكَ وسيلة إلاَّ الرجا **** وجميلُ ظني ثُمَّ أني مسلمُ
عباد الله، إنِّي داعٍ فأمنوا، اللهمَّ يا من لا يَحِيفُك سائل، ولا ينقُصُك نائل، يا من خزائنهُ ملأى لا تغيضها النفقة، يا من وسعت رحمتهُ غضبه، يا من يُعطي الكثيرَ على القليل، ويغفرُ الذنبَ العظيم، ويقبلُ توبةَ العاصي، اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إلهَ إلاَّ الله، اللهمَّ ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً بعد الموت، ولذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم...
(1/4513)
السجود
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
رياض بن سليمان السلطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الاستنارة بنور العبادة. 2- سجود الخلائق لله تعالى. 3- فضل السجود. 4- لذة السجود. 5- حالِ السلفِ الصالحِ معَ السجود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد آن الأوانُ للنفوس أن تستيقظَ من سباتِها، وتستفيقَ من رقدتِها، وتتحررَ من قيودِ الغفلة، وتستقلَّ قاربَ النجاة، وتستنيرَ بسِرَاجِ الهداية والعبادة لتبدِّدَ ظلامَ الحيرةِ والذهولِ والغفلة، تسفرَ نفسُ المسلمِ بلذةِ العبادة، تعبدُ اللهَ جلَّ وعلا لعلمِها ويقينِها أنها عبادةٌ وليسَتْ عادة، أنها حركاتٌ وسكناتٌ وأذكارٌ وأوراد إنْ خَلَتْ مِنْ الخشوعِ والتأمُّل فإنها لا تليِّنُ قلبَ المؤمنِ وترقِقُه. نعم، إن كانتْ العبادةُ عادة دونَ خشوعٍ وتأثُّر فما حاجةُ المسلمِ بها، بل سيتضاءلُ أجرهُ عندَ اللهِ تعالى.
أمةَ الإسلام، لنخصَّ من تلكَ العبادات عبادةٌ لا يُرَى المؤمنُ أذلَّ وأخضعَ للهِ إلا فيها، وبها يضعُ جبهتَه على الأرض وكفيهُ ورُكْبَتَيهُ وقَدَمَيه إيذانًا للنفسِ والشيطان بأنَّ الخضوعَ والتذللَ للهِ وحده، فتراهُ هادئَ الأركان حاضرَ الجَنَان، يتمتمُ بلسانِه الرطبِ بذكرِ الله: سبحان ربي الأعلى، علوُّ قهرٍ وقدرٍ لله، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، وعلوُّ مكانٍ للذاتِ الإلهيَّة، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]. سجدَ المؤمنُ لله يومَ أنْ سجدَ غيرهُ للشمسِ والقمرِ والبقر وآلهةٍ منَ الأخشابِ والأحجارِ والأشجار، فحقيقٌ أنْ نقفَ معَ السجودِ وقفةَ محاسبةٍ لأنْفسِنَا حتى تصبحَ عبادةَ روحٍ وقلب، لا عبادةَ عادة، حتى لا يكونَ السجودُ جسدًا بلا روح وليلا بلا قمر وفجرًا بلا نور وعينين بلا حور.
أمةَ الإسلام، لكي نعرفَ قدرَ السجودِ من بينِ سائرِ العبادات ونستزيدَ همَّتَنَا للإكثارِ مِنْه فلا بُدَّ أنْ نردَّ الأمرَ إلى الله ورسولهِ ، إلى الوحيين كتاب اللهِ وسنة المصطفى عليه الصلاة، والسلام؛ حتى تنبعثَ أشعَّةُ الفجرِ الصادقِ إلى سماءِ نفوسِنَا ونقدحَ زنادَ بحثِنا متبعين لا مبتدعين.
قال الحكيمُ الخبيرُ في محكمِ التنزيل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].
قال ابنُ كثيٍر رحمهُ الله في تفسيرِ هذهِ الآية: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ أيْ: من الملائكةِ في أقطارِ السماوات والحيواناتِ في جميعِ الجهات من الإنسِ والجنِّ والدوابِّ والطير. وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ إنما خصَّ الشمسَ والقمرَ والنجومَ بالذكر لأنها قدْ عُبدتْ من دونِ الله، فبيَّن أنها تسجدُ لخالقِها وأنَّها مربوبةٌ مسخَّرةٌ".
وقال أبو العالية: "ما في السماءِ نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ إلا يقعُ للهِ ساجدًا حيَن يغيب، ثمَّ لا ينصرفُ حتى يؤذنَ له، وأما الجبالُ والشجر فسجودُهما بفيءِ ظلالِهما عن اليمينِ والشمائل".
وعن ابنِ عبَّاسٍ قال: جاءَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائم كأنِّي أُصَلِّي خلفَ شجرة فسجدتُ فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعْتُها وهيَ تقول: اللهمَّ اكتبْ لي بِها عندكَ أجرًا، وضعْ عنِّي بها وزرًا، واجعلْها لي عندَك ذُخْرًا، وتقبَّلْهَا منِّي كما تقبَّلتَهَا منْ عبدِك داود، قال ابنُ عباس: فقرأَ رسولُ اللهِ سَجْدَة ـ أي: آية فيها سجود تلاوة ـ، ثمَّ سجدَ فسمعتُه وهو يقولُ مثلَ ما أخبَرهُ الرجلُ عنْ قولِ الشجرة. رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ.
وقولُهُ: وَالدَّوُابُّ أيْ: الحيواناتُ كلُّها، وقدْ جاءَ في الحديثِ عند الإمامِ أحمد أن رسول الله نهى عنِ اتخاذِ الدوابِّ منابر، فرُبَّ مركوبةٍ ـ أي: من هذه الحيوانات ـ خيرٌ وأكثرُ ذكرًا للهِ تَعَالى منْ راكبِهَا.
وقولُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أيْ: كثيٌر منَ الناسِ يسجدُ للهِ طائعًا مختارًا متعبِّدًا للهِ بذلك.
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أيْ: كثيرٌ ممنْ امتنعَ وأبى واستكبرَ للسجودِ لله حقَّ عليهِ العذاب.
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ : ((إذا قرأَ ابنُ آدمَ السجدةَ اعتزلَ الشيطانُ يبكي يقول: يا ويلَه؛ أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ فسجدَ فلهُ الجنة، وأمرتُ بالسجودِ فأبيتُ فليَ النَّار)) رواه مسلمٌ في صحيحِه.
وقال الكبيُر المُتَعَال في كتابِه الكريم: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:48-50].
قال ابنُ كثيرٍ رحمهُ الله: "يخبرُ تعالَى عنْ عظمتِهِ وجلالِهِ وكِبْرِيَائِه، الذي خضعَ لهُ كلُّ شيء ودانتْ لهُ الأشياءُ والمخلوقاتُ بأسرِها جمادُها وحيواناتُها ومكَلَّفُوها منَ الإنسِ والجنِّ والملائكة، فأخبَر أنَّ كلَّ ما لهُ ظلٌّ يتفيَّأُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمَال بكرةً وعَشِيَّاً صباحًا ومساءً فإنهُ ساجدٌ بظلِّهِ للهِ تَعَالَى".
قال مجاهد: "إذا زالتِ الشمس سجدَ كلُّ شيءٍ للهِ عزَّ وجلّ، وسجودُها بواسطةِ ظلِّهَا".
وقولُه: وَهُمْ دَاخِرُونَ أي: صاغرون، وقال مجاهدٌ أيضًا: "سجودُ كلِّ شيءٍ فيئُه" أي: ظلُّه. حتى الجبالُ سجودُها بظلِّها، وكذا البحرُ ظلُّ أمواجِه سجودُه. وقال أبو غالبٍ الشَّيبانيّ: أمواجُ البحرِ صلاته، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ.
وقوله: وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: تسجدُ لله، غير مستكبرين عن عبادتِه، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
إخوةَ الإيمان، قال اللهُ جلَّ وعزّ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، والسِّيما التي في الوجوهِ من أثرِ السجود تحملُ معانيَ كثيرة، أوردَهَا الحافظُ ابنُ كثيرٍ في تفْسِيِره منها: "قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عنِ ابنِ عبَّاس: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يَعْنِي: السَّمتُ الحسن، وقالَ مجاهدٌ وغيُره: يعني الخشوعَ والتواضع. وقال ابنُ أبي حَاتَم: عن منصورٍ عن مجاهد: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال: الخشوع، فقال منصورٌ لمجاهد: ما كنتُ أراهُ إلا هذا الأثرَ في الوجه ـ أي: لا أظنُّهُ إلا السواد الذي في الجَبْهَة ـ فردَّ عليه مجاهد قائلا: ربَّما كان بينَ عيني مَنْ هوَ أقْسَى قَلْبًا مِنْ فِرْعَوْن، أيْ: قدْ يكونُ هذا الأثرُ والسوادُ بينَ عينيْ إنسانٍ أقسى قلبًا مِنْ فِرْعَوْن. وقالَ السديُّ: الصلاةُ تُحَسِّنُ وجوهَهَمْ، وقالَ بعضُ السَّلف: مَنْ كَثُرَتْ صلاتُه باللَّيْل حسُنَ وجهُهُ بالنَّهَار، وقالَ بعضُهُمْ: إنَّ للحسنةِ نورًا في القلب وضياءً في الوجه وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوبِ النَّاس. والسُّجودُ من أفضلِ الحسنات وأجلِّ القُرُبَات. وقالَ أميرُ المؤمنينَ عثمان: (ما أسرَّ أحدٌ سريرةً ـ أي: أخفى شيئًا في صدره ـ إلا أبداها اللهُ على صفحاتِ وجهِه وفلتاتِ لسانِه)، رُوِيَ عنْ عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّهُ قال: (مَنْ أَصْلَحَ سريرتَه أصلحَ اللهُ تعالى علانيتَه).
والمقصود أن السجودَ يصلِحُ سريرةَ المؤمن؛ فيصبحُ قلبُهُ حافلا بالتَّواضعِ وخفضِ الجناحِ للمؤمنين؛ ويتنزَّهُ عنِ الكبِر والحسدِ واحتقارِ الرِّجَال. فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم خَلَصَتْ نياتُهم وحَسُنَتْ أعمالُهم؛ فكلُّ مَنْ نَظَرَ إليهِم أعْجَبَهُ سمتُهُمْ وهَدْيُهُمْ. قالَ مالكٌ رحمهُ الله: بَلَغَنِيْ أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله، لهؤلاء خيرٌ من الحواريين فيما بلغنا. والحواريون هم أصحاب عيسى عليه السلام الذين نصروه وأيدوه، واختلف العلماء في سبب تسميتهم بالحواريين فقيل: لشدة بياض ثيابهم، وقيل: هم الصفوة من الأنبياء، وقيل: الحواريّ هو الناصر لأنهم نصروا عيسى عليه السلام، والأحور هو الرجل شديد البياض.
واختار الباري جل وعلا لفظَ السجود؛ لأنَّهُ يمثِّلُ حالةَ الخشوعِ والخضوع والعبوديةِ لله في أكملِ صورِهَا، فللسُّجُودِ أثرٌ على ملامحِ الوجه حيث تتوارى وتغيبُ الخَُيلاءُ والكبرياءُ والفراهة، ويحُلُّ مكانَهَا التواضعُ النبيل والشفافيَّةُ الصافية والوضاءةُ الهادئة والذُّبُولُ الخَفِيْف الذي يَزِيْدُ وجهَ المؤمنِ صباحة.
يا من أخذته شواردُ الحياة كلّ شاذَّةٍ وفاذَّةٍ فيها فاختفلتْ قوافِيه وفسدَ نظامُ تدبرِهِ وخشوعِه، فأضاعَ حلاوةَ السجودِ لله، فسَحَبَ أذيالَ القسوةِ والجفاء، وأصبحَ بالُهُ لقمةً سهلةً تمضغُه أضراسُ الهواجسِ والوساوس، ففارقَ نورُ السُّجُوْدِ وبهاؤُه وجهَهُ وعينَيه؛ فلترتشِفْ منْ سنَّةِ المصطَفَى ما يُعِيْدُ تعظيمَ السُّجُودِ في قلبِك، فيعودَ الحقُّ إلى نصابِه، وتدخلَ واحةَ الإيمانِ منْ أوْسعِ الأَبْواب. تأمَّلْ هذا الحديثَ يا رعَاكَ الله، تأمَّل سألتُكَ بالله، تفكَّرْ في عظمةِ الله؛ حتى تكثرَ السجودَ على عتباتِ الكريمِ سبحانَه.
عن أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ : ((إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، إنَّ السماءَ أطَّتْ ـ أيْ: إنَّ كثرةَ ما فيها منَ الملائكة قدْ أثْقَلَهَا حتى أطَّت، أي: ثَقُلَتْ مِنْ كَثْرَةِ الملائكة ـ وحُقَّ لها أنْ تئِطَّ ـ أيْ: تَثْقُلَ بالملائِكة ـ ؛ ما فِيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا وملكٌ واضعٌ جبهتَهُ ساجدًا لله. والله، لو تعلمون ما أعْلمُ لضحِكْتُم قليلا ولبكَيْتُمْ كثيرًا، وما تلذذتُم بالنِّسَاءِ على الفُرُشاتِ)) رواه أحمدُ في المسند الترمذيُّ في السُّنَن وقال: "حديثٌ حسنٌ غريب"، وابنُ ماجةَ واللفظُ له وقالَ محقِّقُ جامعِ الأصول: "إسنادُهُ حَسَن".
إذا أثقلتْكَ كثرةُ الذُّنُوب وقَلَّتْ حفيظتُك منْ رفيعِ الحسنات وفضائلِ الأعمال فعليك بكثرةِ السُّجود، أخرجَ مسلمٌ في صحيحه عَنْ معْدَانَ بن أبِي طلحةَ اليَعْمُرِيّ قال: لقيت ثوبانَ مولى رسول الله فقلت له: أخبرني بعملٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بهِ الجنَّة أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثةَ فقال: سألتُ عن ذلك رسولَ الله فقالَ: ((عليكَ بكثْرَةِ السُّجودِ لله؛ فإنك لا تَسْجُدُ للهِ سَجْدَة إلا رفعَكَ اللهُ بها درجة وحطَّ عنكَ بها خطيئة)) ، قال معدان: ثم لقيتُ أبا الدرداء فسألتُه، فقال لي مثلَ ما قالَ لي ثوبان.
ومن اشتاقَ للقاءِ الرسولِ وتاقتْ نفسُه إلى مرافقتِه في الجنان فعليهِ بكثرةِ السُّجودِ لله، أخرجَ مسلمٌ في صحيحه عن ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ قال: كنتُ أبيتُ معَ رسولِ اللهِ فآتيهِ بوضوئِه وحاجتِه؛ فقالَ لي: ((سلْ)) ؛ فقلتُ: أسألُك مرافقتَك في الجنَّة، قال: ((أوَغيرَ ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السُّجُود)).
فيا بارئ الأرواح، يا من ترى كلَّ شيء وتعلمَ كلَّ شيء ولك الحمدُ في الأولى والآخرة، اجعلْنا ووالدينا وأزواجَنا وأولادَنا ومن لنا حقٌّ عليه ومن له حقٌّ علينا ممن كَثُرَ سجودُهُ فرَفَعْتَ درجاتِه وكفَّرْتَ سيئاتِه وجعلتَنَا ممَّن يرافقُ الرسولَ في جنات الخلد، يا أرحم الراحمين.
عباد الله:، أقول قولي هذا، وأستغفر اللهَ العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن لذةَ السجودِ ليستْ قصيرة بحيثُ يعقُبُها حزنٌ وكدرٌ وملل كنشوةِ المخمورِ ورقصةِ طَرِب، إنما هي لذةٌ تشوِّقُ صاحبَهَا لزيادةِ الذلةِ والخضوعِ لله ومواصلة العملِ لخدمةِ الإسلام، لذةُ السجود أوفى وأصفى من صوت الدرهم والدينار ومن ماءٍ باردٍ على كبدِ ظامئٍ فأحسَّ بروحِه تتراجع وأن عمرَه لن ينتهي، وإذا أردتَ ما يدلِّلُ على صحةِ هذا الكلام فإليك هذا الخبر:
أقدم أحدُ رعاةِ الإبلِ في مدينةِ الرياض على استقدامِ عاملٍ لكي يساعدَهُ على رعي الإِبِل، وطلبَ أن تكونَ ديانةُ هذا العاملِ هيَ الإسلام، واستقدمَ عاملا على أنَّهُ مسلم وإلا هو حقيقةً ليسَ بمسلم. ففي يومٍ منَ الأيَّام حضر وقتُ إحدى الصلوات وقد توضَّأَ كفيلُهُ ومنْ مَعَهُ تأهبًا واستعدادًا لأداءِ الصلاة، واستدْعَى الكفيلُ هذا العاملَ من أجلِ أنْ يصلّي ظنًا منه أنه مسلم، وأرادَ العاملُ أن يفهِّمَ كفيلَهُ بأنهُ ليس بمسلم، ولكنه لا يجيدُ اللغةَ العربية، وأرغمَهُ كفيلُهُ على الصلاة، واضْطُرَّ العاملُ إلى أنْ يسمعَ لكفيلِه ومن معه ويقلِّدَهُمْ في حركاتِهِمْ أثناء الصلاة، فكبر القومُ وكبر معهم، وكلما فعلوا شيئًا نظرَ إلى طريقتِهم وكيفَ يفعلون، ثمَّ يقلِّدُهُمْ. المهمُّ ـ أيُّهَا الإِخْوَة ـ عندما سجدوا سجدَ معَهُم، فقال العاملُ في نفسه ـ كما حكى عن نفسه بعد إسلامه ـ: أحسستُ بعظمةِ هذهِ الحركةِ منَ الصلاة ـ يقصِدُ السجود ـ؛ فبدأَتْ مشاعري تتعاطفُ معَ هذهِ الحركة، ثم قمت منْ هذه السجدة وتلتْهَا سجدةٌ أخرى فاستشعرتُ أنِّي أسجدُ للهِ سبحانَه وتعالى. هو إلى هذه اللحظةِ ليسَ بمسلم، فتأثر بسجودهِ لله مع أنه سجدَ ليس طواعيةً من نفسه، ثم تلاه سجودٌ آخر فخشع وخالج قلبَهُ الهدوء والطمأنينة ولذة التذلّلِ بين يدي الإله سبحانه وتعالى، فذهب بعدها وأعلن إسلامَه صراحةً في إحدى مكاتبِ دعوةِ الجاليات.
هذه القصة أبرقُها وأُرْسِلُها عاجلةً إلى الآباء: هل تشكون من قلة التزام أبنائِكم وخشوعهم في الصلاة؟! أسألكم بالله وبصراحة: كم مرةً أمرتَ ابْنَكَ بأداءِ السننِ الرواتب؟! وهل حفّظتَهُ وردَ الصباحِ والمساء؟! وهل أيقظته لقيام الليل وعوَّدتَهُ على الوتر قبل أن ينام؟! وكم مرةً اجتمعتَ أنتَ وإياهُ على كتاب الله أو حتى حضرتَ وإياهُ محاضرةً وعظيةً للدعاةِ الفضلاء أو دورةً علميةً لعلمائِنا الكرام؟!
لعلَّ هذهِ إشارةٌ ـ أيُّهَا الأبُ الفاضل ـ تغني عن صريحِ العبارة، تأمَّل حالَ هذا العامل من سجداتٍ معدودةٍ في صلاةٍ واحدة لم يجد بدًّا هذا العاملُ إلا أن يشهرَ إسلامَه وإخلاصَ عبادته لله تعالى، والكثيُر من الناس من سنينَ طويلة وهو يسجدُ في اليومِ عشراتِ المرات ولكنْ هوَ كما كان لم يتغيرْ منهُ شيءٌ في سلوكِه وأخلاقِه وتربيتهِ لأولادِهِ وإحسانِهِ إلى زوجتِه وإلى الناس، فإلى اللهِ المشتكى.
ومنَ المناسبِ هنا أن أذكرَ لكمْ دراسةً طبيةً حديثة عن أثر السجود في صحة المسلمِ، وباختصار هذا نصُّها: إذا كنت تعاني من الإرهاقِ أو التوترِ أو الصداعِ الدائمِ أو العصبية، وإذا كنتَ تخشى من الإصابةِ بالأورام فعليكَ بالسجود، فهو يخلِّصُكَ مِنَ أمراضِكَ العصبية والنفسية، هذا ما توصَّلتْ إليهِ أحدثُ دراسةٍ علميةٍ أجراها الدكتور محمدُ بنُ ضياءِ الدين بنِ حامد أستاذُ العلومِ البيولوجيَّة ورئيسُ قسمِ تشعيعِ الأغذية بمركزِ تكنولوجيا الإشعاع. وأكَّدَتِ الدراسة أن السجودَ لا يفيدُ الإنسانَ حتى يتوجهَ المسلمُ بسجودهِ إلى مكةَ المكرمة، فإن التوجه إلى الكعبة هو الذي يتمِّمُ وصولَ العافيةِ والراحةِ والخشوعِ للمؤمن، لا ينتفع الجسم مثلَ انتفاعِهِ عندما يتوجَّهُ بسجوده إلى البيت العتيق إلى الكعبة المشرفة، فسبحانَ الذي أبدعَ كلَّ شيءٍ بقدرته وحكمته.
ولنا وقفةٌ أخيرةٌ معَ حالِ السلفِ الصالحِ معَ السجود، أولئك الأمجاد، أولئك العبَّاد، أولئك النجوم التي بهم يهتدى ومناير الخير والعبادة التي تَشْخَصُ أعينُ المتهاونين والمتقاعسين والغافلين إليها لتنهل التميز والنجاح منها، أولئك الصفوة الصافية لا يَعْلَقُ لهمْ مبارٍ بغبار ولا يجارِيهِمْ أحدٌ في مِضْمَار، لقد حلَّوا أخبارَهم وسيرَهُمْ لا بالسجود فقط، ولكنْ بكثرةِ السجود لله، حتى توفَّى اللهُ بعضَهم وقبض روحَه على السُّجُود، فلهم مع السجود أخبار وأسرار:
القدوةُ الرباني أبو يزيد الربيعُ بنُ خيثم، كانَ رحمَهُ الله إذا سجد كأنه ثوبٌ مطروح، فتجيءُ العصافيرُ فتقعُ عليه. فسجودُهُ فيهِ هدوء وعدمُ حركةٍ وخشوعٌ وطول أيضًا، كالثوب المطروح، ومن طول سجوده تظنُّ العصافيرُ أنهُ ليسَ بإنسانٍ ذي حركة فتقعُ عليه.
وقال العلاءُ بنُ عبدِ الكريمِ الأَيَاميّ: كنا نأتي مَرَّةَ الهمدانيّ فيخرجُ إلينا فنرى أثرَ السجودِ في جبهتِه وكفَّيهِ وركبتيهِ وقدميه، قال العلاء: فيجلس معنا هنيهةً ـ يعني: قليلا ـ ثم يقوم فيعودُ لركوعه وسجوده.
وقال أبو الدرداء: (لولا ثلاثٌ ما أحببْتُ البقاءَ في الدنيا: ساعةُ ظمأٍ في الهواجر ـ يعني: صيامٌ في شدة الحرـ، والسجودُ في الليل، ومجالسة أقوامٍ ـ أي: أصدقاءٍ صالحين ـ ينتقون أَطَايبَ الكلام كما ينتقي أحدُهُمْ أطايبَ التَّمْر).
وقال أبو داود: كان أبو بكرٍ بنُ عبدِ الرحمنِ المخزوميّ إذا سجد يضعُ يدَهُ في طشتِ ماءٍ منْ علّةٍ كان يجدها، أي: يجعل يدَه التي تؤلمُهُ من وجعٍ بها في طشتٍ فيه ماء؛ لتخفِّفَ هذا الألمَ في السجود، لا يريد أن يكونَ هذا الوجع سببًا في صرفِهِ عنِ السُّجُود، فاستعملَ الماءَ في الطشت ليهوِّن الألمَ عن يدِه ويتلذذَ في سجوده.
وكان محمدُ بنُ شجاع صاحب تعبدٍ وتهجدٍ وتلاوةٍ، ثم ماتَ وهو ساجدٌ لله تعالى.
والإمامُ القانتُ أبو الخلائف أبو محمدٍ الهاشميِّ السَّجَّاد عليُّ بنُ عبدِ الِله بنِ العباس، ذكرَ عنهُ الأوزاعيُّ وغيُره أنه كان يسجدُ لله كلَّ يومٍ ألفَ سجدة. وسمِّيَ بالسَّجَّاد لكثرة سجوده.
هذا وصلّوا وسلّموا على صاحب الوجه الأغر والجبين الأزهر، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاةٍ وأتمُّ سلام.
اللّهمّ أكرمنا ووالدينا وأزواجنا وأولادنا بلذّة السجود بين يديك يا ذا الجلال والإكرام.
(1/4514)
معركة مؤتة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, معارك وأحداث
فهد بن سالم الحامد
الأحساء
12/8/1415
جامع ابن درعان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ المعركة. 2- سبب المعركة. 3- أمراء الجيش ووصية رسول الله لهم. 4- توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة. 5- تحرُّك الجيش الإسلامي. 6- المجلس الاستشاري بمَعَان. 7- الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو. 8- بداية القتال وتناوب القواد. 9- نهاية المعركة. 10- قتلى الفريقين. 11- أثر المعركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمدّ به رسولَ الله وأصحابَه من النصر العزيز والفتح المبين، وهذه سنة الله التي لا تبديل لها، فمن ينصر الله ينصره، إن الله لقوي عزيز.
عباد الله، في جمادي الأولي سنة 8هـ وقعت معركة مؤتة، وهي من أعظم الحروب الدامية التي خاضها المسلمون في حياة رسول الله ، وهي مقدّمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وهي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
وسبب المعركة: أن رسول الله بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى، فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطًا، ثم قدّمه، فضرب عنقه. وكان قتلُ السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتدّ ذلك على رسول الله حين نقِلت إليه الأخبار، فجهّز إليهم جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول الله إليهم:
أمّر رسول الله على هذا الجيش زيد بن حارثة، وقال كما في صحيح البخاري (2/611): ((إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)) ، وعقد لهم لواءً أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وقال لهم: ((اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء)).
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة:
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، وودّعوا الأمراء وسلموا عليهم، فبكي أحد أمراء الجيش وهو عبد الله بن رواحة، قالوا: ما يبكيك؟! قال: أما والله، ما بي حبّ الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا [مريم:71]، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟! فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكننِي أسأل الرحْمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بِحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشدهُ الله مِن غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله مشيعًا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم.
تحرُّك الجيش الإسلامي ومباغتته حالة رهيبة:
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان من أرض الشام، ونقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمَعَان:
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل؟! أي: مقاتل واحد مقابل 66 مقاتلا.
حار المسلمون، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكّرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس قائلاً: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنَيَين: إما ظهور وإما شهادة. وأخيرًا استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:
تحرك الجيش الإسلامي إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبؤوا للقتال.
بداية القتال وتناوب القواد:
وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل في معركة عجيبة، يشهد لها التاريخ، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله ، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم وخر صريعًا.
ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل، فأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين، قال ابن عمر عن جعفر بن أبي طالب: وجدنا في جسده بضعًا وتسعين بين طعنة ورمية.
ولما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردّد بعض التردّد، حتى حاد حيدة ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلِنَّه كارهة أو لتطاوعِنَّه
إن أجلب الناس وشدّوا الرنّه ما لي أراكِ تكرهين الجنة؟!
ثم نزل، فأتاه ابن عمّ له بعَرْق من لحم فقال: شدّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
ثم انتقلت الراية إلى سيف من سيوف الله، تقدم رجل من بني عَجْلان اسمه ثابت بن أقرم، فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريرًا، قال خالد بن الوليد كما في صحيح البخاري: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.
قال رسول الله يوم مؤتة مخبرًا بالوحي قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال كما في صحيح البخاري: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم)).
نهاية المعركة:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة نجح هذا الجيش الصغير في الصمود، وأظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين؛ وذلك أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار في أول يوم من القتال، ففكر خالد في مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة، فقد كان يعرف جيدًا أن الإفلات من براثنهم صعب جدًا لو انكشف المسلمون وقام الرومان بالمطاردة، فلما أصبح اليوم الثاني غيّر أوضاع الجيش، وعبّأه من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدَد، فرعبوا، وصار خالد بعد أن تراءى الجيشان وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنًّا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين:
واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم من كثرتهم.
أثر المعركة:
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معني جلادها وقتالها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير الذي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير مائتي ألف مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيَّدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقًّا؛ ولذلك نرى القبائل اللّدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها، فكانت هذه المعركة توطئة وتمهيدًا لفتوح البلدان الروم على أيدي المسلمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4515)
مكائد المنافقين للمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن سعيد بافيل
جدة
30/10/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ماذا يريدون من المرأة؟! 2- تلبيس دعاة تحرير المرأة. 3- إبطال شبهات دعاة تحرير المرأة. 4- الضوابط الشرعية لعمل المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فتقوى الجليل سمة المفلحين وهدي المرسلين والسبب الأوحد للنجاة يوم الدين، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيها المسلمون، ماذا تريدون من المرأة المسلمة في بلادنا؟! سؤالٌ نتوجّه به إلى الأقلام الصحفيّة المشبوهة أو المخدوعة التي تفرز سطورها مقتًا وعداوةً للأصيل من أصولنا والمجيد من تراثنا، اتباع الهوى أرجح عندهم من اتباع العقل، وبريق التقدّم الكاذب أقوى من سلطان الدين والشرع. وللأسف الشديد؛ كم لهؤلاء المأفونين من تمكّنٍ إعلاميّ وقدرةٍ شيطانيةٍ في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوبَ الحقّ والعمومية وتحقيقِ مآربهم باسم الوطنية والتقدّم والمصلحة الاجتماعية.
حديثهم لا يكلّ عن المرأة في بلادنا وشؤونها وحقوقها المسلوبة بزعمهم والمصارعةِ من أجلها كما يقولون أو كما يصوّرون. يزعمون أنهم دعاة تحرير المرأة والمدافعون عن حقوقها، وهم في الحقيقة دعاة حرية الوصول إلى المرأة، والباحثون عن طرق استغلالها واستعبادها وإذلالها والتمكّن منها.
دعونا اليوم ـ أيها الأحباب ـ نلقي الضوء على بعض إفرازات وزبالات تلك المقالات والشعارات التي يرفعونها بين الحين والآخر؛ لنسبر غوارها ونكشف زيفها بحول الله وقوته.
يقولون: "لن تتقدّم أمةٌ نصفُها مصابٌ بالشلل، والمجتمع يمشي على عكّاز ويتنفّس برئةٍ واحدة"، ومرادهم أن منع المرأة مما تشاء من الأعمال تعطيلٌ لقوة نصف المجتمع وإهدارٌ لقدراتٍ وإمكاناتٍ هائلة في البلاد. وقد أسقطت هذه المقولة من حسابها المرأةَ الكبيرة التي لا تستطيع العمل ولو أُغريت به، والصغيرات اللاتي لا يستطعن ذلك، والمشغولاتِ بأمور بيوتهن وأطفالهن، والفتياتِ اللائي لم يتأهّلن بعدُ لذلك، فكيف يُقال: إن المجتمع يتنفّس برئة واحدة؟! ثم إن هذه المقولة الخطيرة تقلّل من النصوص الشرعية وتهوّن من شأنها ومكانتها؛ إذ إنها لا تعتبر عمل المرأة في منزلها عملاً مفيدًا مثمرًا للمجتمع، وقد رغّب الله المرأة وأمرَها بالقرار في بيتها، وجعل صيانتها لدارها ورعايتها لزوجها وأبنائها من أعظم العبادات وأشرفها، يقول : ((إذا صلّتِ المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) رواه ابن حبان.
إنهم يقولون: "إن عمل المرأة في بيتها عملٌ ليس له مردودٌ ولا أجر، وهي خدمةٌ مجانيةٌ وعملٌ غير منتج"، وأحَصَوا وزوّروا التكاليفَ الباهظةَ لأجور السائقين ليمرّروا على السّذج والبسطاء التوفير الاقتصادي بقيادة المرأة للسيارة، وتعاموا عن ملايين الريالات التي تنفَق في أجور الخادمات في البيوت من جرّاء خروج الموظّفات والعاملات، حتى لا يطالِب المجتمع بقرار المرأة في بيتها.
إنهم يعدّون تربيةَ النشء وصناعة الأجيال والحفاظَ على الكرامة والاستقرارِ النفسيّ والاجتماعي للأسرة ليس بعملٍ مهم، ولا جدوى له ولا مردود من ورائه. هكذا ينظرون ويقدّرون ويَزِنُون، ولا عجب؛ فقد انتكست فطرهم، وفقدوا الرحم والتراحم.
إن للمرأة دورًا حيويًا في الحياة لا يقدر عليه الرجل؛ ألا وهو إنجاب القادة وصناعة الأبطال، وأنّى للرجل هذا الشرف والمكانة؟! ويا حسرتاه، فقد صرّح بالحق الفيلسوف الفرنسي أجوست كونت وتعامى عنه بعض بني جلدتنا، يقول: "ينبغي أن تكون حياة المرأة بيتيةً، وأن لا تكلّف بأعمال الرجال؛ لأن ذلك يقطعها عن وظيفتها، ويفسدُ مواهبها الفطرية. وعلى الرجال أن ينفقوا على النساء دون أن ينتظروا منهن عملاً ماديًا؛ ليتفرغن لأداء وظيفتهن من حملٍ ووضعٍ وتربية".
وفي الأسبوع الماضي عرضت إحدى القنوات العربية تقريرًا عن مجموعة من النساء الغربيّات العاملات اللائي اخترن التنازلَ عن العمل والعودةَ إلى المهنة الأشرف على وجه الأرض: الأمومة. لقد كنّ عددًا من الأمهات الناجحات في المحاماة والهندسة والمحاسبة والإدارة في قمّة المجد العمليّ والإنجاز الذاتي، ضحّين بالرواتب والمناصب والحوافز المادية لعيون طفل أو طفلة يريدون أمًّا حانية عوَضًا عن مربية غريبة.
وقبل عدة أشهر اعتزلت إحدى الممثّلات البارزات العمل السينمائي الذي يدرّ الملايين والشهرةَ والرفاهيةَ قائلةً كلمةً خالدةً غطّت أغلفة مجلات الفنّ: "لا أريد أن تفوتني ساعة واحدة من طفولة ابنتي".
معاشر الإخوة، نجاح المرأة في العمل قد يحقِّق لها بعض الزيادات الماليّة والطموحات الماديّة علاوة على الشعور بالإنجاز وإثبات الذات، ولكن أليس الإنجاز في الدار خيرًا من مكاسب الكرسي الدوّار؟! التصحّر العاطفي والتفكّك الأسري وعقوق الأبناء والشخصيات الضعيفة والأجيال الممزّقة قد تكون بعضًا من الآثار الجانبية لعمل المرأة، فهل يستحق الأمر أن يكون عملها أولوية بأي شكل من الأشكال، حتى على مستوى الاقتصاد الكلي هناك احتمالية ضخمة أن نكسب أُمًّا عاملة واحدة مقابل جيلٍ كسولٍ وهشٍ جاء نتاجَ تربيةِ الشغالات ولهاثِ الأمّ خلف حفنة من الريالات!!
كثيرٌ من الظواهر التي نلاحظها الآن في شبابنا الصغير كمثل اللامبالاة والدافعيةِ تحت الصفر وعدمِ تقدير المسؤولية والبساطةِ في انتهاك الآخرين والعدوانيةِ واضطراب الشخصيات وغير ذلك، ألا يفترض أن تثير هذه الظواهر والآفات القلق أكثر من محاولة إثبات أن لدينا نساء ناجحات حتى لو في مجالات مبتكرة؟!
يقولون: "لا بدّ للمرأة أن تساهم في التنمية الوطنية، وأن تشارك في سائر جوانب النهضة ومجالاتها". ونحن نقول: كانت المسلمة ولا زالت بحمد الله مشارِكةً مشارَكةً فعّالة في التنمية، وتلعب دورًا لا يستطيعه غيرها. ويدرك العقلاء والنّجباء أن التنمية لا تقتصر على النماء المالي والإنتاج المادي، وإنما يدخل فيها دخولاً أوليًا الثروةُ البشرية وتعليمُها وتدريبُها وحسنُ رعايتها، وأول خليةٍ للثروة البشرية لبنةُ الأسرة التي هي نواة المجتمع ونهره المتدفق، والمخططون لاقتصاديات المجتمعات يوصون دومًا بالمورد البشري تربيةً وتعليمًا ورعايةً جسديةً ونفسيةً وعقلية، ثم يلي ذلك التدريب والتطوير وإكساب المهارات، فمَنِ الأجدرُ والقادرُ بهذه الرعاية والعناية والتنمية؟! تقول الكاتبة الإنجليزية الشهيرة أنارودو: "لأَن تشتغل بناتنا اليوم في البيوت خوادم خيرٌ وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثةً بأدرانٍ تُذهب رونق حياتها للأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف رداء، إنه عارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنتَ تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وتركِ أعمال الرجل للرجال سلامةً لشرفها وحفاظًا على أنوثتها؟!".
ويغالطون ويقولون: "للمرأة نفس الدور الاجتماعي والاقتصادي الذي يضطلع به الرجل". ولتفنيد هذه المغالطة نقول:
أولاً: إن للمرأة دورًا لا يقوم به الرجل، وللرجل دورٌ لا تستطيع المرأة القيامَ به، وإهمالُ كلٍ منهما لدوره واشتغالُه بعمل الآخر تضييعٌ للجهود وإهدار للطاقات وجالبٌ للمفاسد والأضرار. ثمّ إن طبيعة المرأة ومسؤوليتها وما تتعرض له من تغيّراتٍ جسميةٍ ونفسيةٍ وصحيةٍ تحول بينها وبين انتظامها في عملها ومداومتها على ذلك، فتحتاج إلى إجازةِ الحمل والوضع والعدّة والنفاس، وإجازةِ مرافقة الطفل والزوج، وكلُّ ذلك يعدّ من مظاهر الإنتاجية المنخفضة للمرأة عند أرباب العمل.
ثانيًا: دلّت دراسات وظائف الأعضاء لجسم المرأة والرجل على اختلافات جذرية بين النوعين في تكوين الخلايا في خصائصها وتركيبها، عدا الاختلاف في الأنسجة والأعضاء والعظام من حيث قوتها وتركيبها. والمرأة معرّضة لتغيرات عضوية كثيرة في فترات الحيض المصحوبة بالآلام والأوجاع، وتعب الحمل والولادة والحضانة وغيرها.
ثالثًا: انشغال المرأة بأعمال الرجال سببٌ لانتشار البطالة وازديادها في صفوف الشباب، وهم بالأعمال العامة والوظائف أولى من النساء؛ لما يجب عليهم وما يتحملونه من تكاليف الحياة الاجتماعية المختلفة وبناء الأسر والنهوض بالأمة. وعجبنا من الجهود الحثيثة والفرص الواسعة لتوظيف النساء وتعليمهن مع إهمال شريحة كبيرةٍ من أبناء المجتمع لا يجدون مقاعد للدراسة ولا فرصًا شريفةً للعمل، والسعيد منهم من يعمل بأجرةٍ لا تفي بنفقة طعامه ومركوبه ولباسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ألا نعتبر من حال دول الغرب ومثيلاتها من الدول العربية التي أطلقت للمرأة العنانَ؛ تعمل ما تشاء وحيثما تشاء؟! لقد خرجت المرأة في تلك البلاد في مسيرات حاشدة تطالب بالعودة إلى بيتها ومملكتها.
وأثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن 70 في المائة من العاملات في أمريكا يتعرّضن للمضايقات والاعتداءات الجنسية، وأن 40 في المائة من الموظفات الكنديات يتعرضن للضرب أو الاغتصاب، وأن 325 ألف أمريكي تقل أعمارهم عن 17 عامًا يتعرضون سنويًا للاستغلال الجنسي. فمتى نعتبر؟! ومتى يرتدع المفسدون بأحوال ومآلات أولئك القوم؟!
إن الشرع الإسلامي الحنيف والمنهج الرباني الحكيم حين أباح للمسلمة التعلّم وحضّها عليه ودعاها إليه وحين أذن لها بالخروج من بيتها للعمل والكسب وضع لذلك كله ضوابط محكمةً وشروطًا صارمةً وقيودًا ساميةً، فعليها أن تتحلى بتقوى الله تعالى، وأن تراقبه في كل أحوالها، وأن تلتزم بشرعه في كل شؤونها، وأن تلتزم بحجابها الشرعي الساتر، فلا يظهر منها شيء من مفاتنها وزينتها، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، ويجب عليها أن تجتنب مخالطةَ الرجال والجلوسَ معهم والحديثَ إليهم بغير حاجة ولا خضوعٍ بالقول ولا تكسّر، فضلاً عن المزاح والضحك الذي نراه ونسمع به في كثيرٍ من المرافق والمؤسسات المختلطة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويحرم على المرأة أن تخرج لعملٍ بغير إذن وليها، لقوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، أو أن تعمل عملاً يؤثّر سلبًا على واجباتها ومسؤولياتها، ولا بدّ أن يكون ذلك العمل مباحًا مشروعًا في أصله، متناسبًا مع تكوينها وطبيعتها، فلا خادمةً في الطائرة تخالط الرجال وتتكشف لهم وتسافر بغير محرم، ولا سكرتيرةً في مكاتبهم، ولا مندوبةً لتسويق البضائع في أسواق ومؤسسات الرجال، ولا موظفةً لاستقبال وتطبيب الرجال، بل المشروع للمرأة أن تعمل في وسط بنات جنسها، وأن تمارس ما تشاء مما لا يتعارض مع طبيعتها وأنوثتها من خلال منزلها، والعمل في البيوت عن بعد، والتي أصبحت أمرًا مشاعًا متاحًا في كثيرٍ من البلاد المنتجة المتقدمة، ولها أن تعمل في المحلات والمرافق المخصصة للنساء ولخدمة مثيلاتها، بالشروط والضوابط السابقة.
ولنعلم ـ أيها الأحبة ـ أن الخير كل الخير وأن السعادة والاستقرار والهناء وأن تنمية المجتمع ونهضة الأمة في اتباع شرع الله الحنيف والتمسكِ بدينه القويم، وأن أعظم محاور تلك النهضة والرقي والتقدم قيامُ المرأة برسالتها العظمى في منزلها ودارها، وصدق الله العظيم: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
(1/4516)
التقوى
الإيمان
خصال الإيمان
عبده مجمل
أبو ظبي
مسجد الشيخ حمدان بن محمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الدنيا. 2- من المتقون؟ 3- فضل التقوى. 4- تعريف التقوى. 5- صفات المتقين. 6- حقيقة التقوى. 7- وصية النبي لمعاذ. 8- فضل حسن الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، إن الدنيا مشوبة بالأكدار، مُحاطة بالأخطار، مليئة بالأضرار، الإنسان فيها مُعرّض للأذى والسوء والشر والفتنة والمحن، وقد يأتي الشر من أقرب الناس إليه، هكذا الدنيا، وإن عدنا للسبب فالغالب هو الإنسان نفسه، كما قال الله جلّ وعلا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وقال: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
من الخير إلى الشر، من الشر إلى الخير، لكن هناك صنف من الناس وعدهم الله عز وجل بوعد عظيم، هذا الصنف ما ألمّت فتنة ولا محنة إلا وكانت لهم المخرج، ما نزل بهم العُسر إلا مع اليُسر، ما ظهرت لهم كربة إلا وكشفها الله عز وجل، ما ألمّت مُلمة فضاقت عليهم الدنيا بما رحبت إلا وجعل الله لهم فرجًا ومخرجًا.
من هم؟! قال الله فيهم: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
فالمتقون هم المفلحون، هم المرحومون، هم المنصورون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أخبر ربهم بقوله: أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟! الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:63]، فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35]، وقال جل وعلا: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
فتقوى الله عز وجل هو مفتاح مغاليق القلوب، ومفتاح مغاليق العقول، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].
بتقوى الله ينشرح الصدر، بتقوى الله يهتدي الضال وينشرح البال. إي وربي، إنه لحق ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يقول الله جلّ وعلا: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
بالتقوى يُقبل العمل، وبغيره لا يُقبل، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
بالتقوى تُصبح ـ أيها المُسلم ـ كريمًا عند الله، بل كريم، بل كريم، بل عظيم عند العظيم جلّ وعلا، قال وجلّ وعلا: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
بالتقوى ينجو الإنسان من المهالك في الدنيا، وينجو في الآخرة، قال الله عز وجل وهو يتكلّم عن النار: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72]، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61]، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17].
عباد الله، تقوى الله خير زاد، تقوى الله خير لباس، وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
الله عز وجل إذا نظر إلى المُتقي وأراد هذا المُتقي أن يرتكب ذنبًا أو خطيئة جعل الله عز وجل له صارفًا أو مانعًا أن يقع فيها، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
تقوى الله سبب لحصول الخيرات والبركات من السماء والأرض، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ [الأعراف:96].
تقوى الله سبب لمحبة الله، لنصرة الله عز وجل التي حُرم منها كثير من المسلمين، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
أهل الجنة من هم؟! أهل الجنة هم أهل التُقى، قال الله جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر:54، 55]، إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15، 16]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34]، إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:31-33]، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيها المسلمون، التقوى يتكلم عنه الصغير والكبير، الذكر والأنثى، يتكلم عنه وفيه العالم والمُتعلّم، الجاهل وغير الجاهل. ما هو التقوى؟ التقوى هو سر خلاصة المرسلين والأنبياء، التقوى وصية الله عز وجل للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131].
جاء الأمر بالتقوى في القرآن الكريم أكثر من 80 مرة، فضلاً عن فضل التقوى وشرف المتقين وجزاء المتقين. أكثر من 80 مرة ذُكر الأمر بالتقوى.
فما هو هذا التقوى؟ وما هي حقيقته؟ هل التقوى الصلاة والصوم فقط؟! هل التقوى حُسن الخلق؟! هل التقوى ما يقوله الناس: هذا مُصلّي وهذا مُزكي؟! ذك من التقوى، ولكن هناك تقوى أعلى من ذلك.
أيها المسلمون، التقوى أن يُعبَد الله عز وجل فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر. التقوى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل بكتاب الله عز وجل، والرضا بالقليل، الرضا بالقضاء والقدر مهما كان، والاستعداد ليوم الرحيل. يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ليس تقوى الله عز وجل بصيام النهار وقيام الليل والتخليط بينهما، وإنما تقوى الله عز وجل أداء ما افترضه الله عليك، واجتناب ما نهى الله عز وجل، وإن عملت خيرًا فوق ذلك فهو خير إلى خير".
التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله عز وجل وقاية، التقوى أن تجعل بينك وبين غضب الله عز وجل وقاية، التقوى أن تجعل بينك وبين النار عز وجل وقاية، التقوى أن تجعل بينك وبين الذنوب والخطايا حاجزًا مانعًا قويًا، فلا يراك الحي القيوم حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك جل وعلا.
ذكر الله عز وجل صفات كثيرة للمتقين، واسمع معي ـ عبد الله ـ وانظر كم صفة فيك؟! وكم صفة قد لبّيتها في حياتك؟! وكم صفة قد أديتها حق أدائها؟!
قال عز وجل: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. فمن صدق الله عز وجل فيما ذكر فهو من المتقين.
وقال الله عز وجل: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
صفاتهم: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136].
أيها المسلمون، حقيقة التقوى أن تراقب الله عز وجل في سرك وعلانيتك، في الحضر والسفر، في الخلوة والجلوة. حقيقة التقوى أن تراقب الله عز وجل في مكتبك وفي خارجه. حقيقة التقوى أن تراقب الله عز وجل مع حضور مديرك ومسؤولك أو عدم الحضور. تقوى الله عز وجل: اعبد ربك كأنك تراه، فإن لك تراه فإنه يراك. تلك هي حقيقة التقوى.
من أجل ذلك وصّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدامَ العلماء، من يأتي مقدَّمًا على العلماء برتوة كما قال عليه الصلاة والسلام، وصاه وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: ((أعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل)) ، وصاه النبي عليه الصلاة والسلام، واسمعوا إلى هذه الوصية العظيمة لهذا العالم الجليل وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، عن أبي ذر ومعاذ بِن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((اتَّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
راقِبه جل وعلا في كل صغيرة وكبيرة، تذكّر عظمة الله، تذكّر مراقبته لك، تذكّر عقابه لك، تذكّره ليلاً ونهارًا وحضرًا وأسفارا، في كل لحظة تذكّر عظمة الله.
كل خطبة يبدأ بها فيُقال: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
خلا رجل بامرأة صالحة تُريد الجنة، وهذا حال كل مسلم ومسلمه يُريدون الجنة، فأراد منها الحرام، فقالت له هذه المرأة المعلّمة: هل يرانا من أحد؟ وكان الجوّ الليل، وهو في مكان لا يراهم مخلوق، فنظر إلى السماء، إلى الأرض، لم ير مخلوقًا، فقال: لم يرانا أحد إلا الكواكب، فقالت له بلسان المؤمنة التقية: أين مُكوكبها؟! الله أكبر، أين الله عز وجل؟! فلما علم صدق نيتها وصدق تقواها قرعت قلبه هذه الكلمة، فتاب إلى الله، وأقلع عن شره.
أيها المؤمنون، العبد المُتّقي مَن إذا خلا بشيء من الحرام وتقلقلت نفسه عطشا وحُبًا إلى هذا الشيء الحرام تذكّر عظمة الملك العلاّم خوفًا من الله عز وجل. هذا هو الإنسان المُتقي. ليس المُتّقي الذي عصر عينه بالبكاء ثم بعد ذلك خلط إذا كان خاليًا بنفسه. المتقي من إذا خلا بنفسه تذكّر عظمة الله عز وجل.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل: خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تَحسبن الله يغفل ساعة ولا أنّ ما تُخفيه عنه يغيب
إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلَى الطغيان
فاستحي مِن نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أيها المسلمون، نظرًا إلى ما تمليه النفس البشرية الأمارة بالسوء من ذنوب وخطايا فإن النبي عليه الصلاة والسلام أردف هذه الكلمة: ((اتق الله حيثما كنت)) بكلام جميل: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، يعني: إذا جاءت لك النّفس الخبيثة والأمارة بالسوء فراودتك عن فعل شيء مُحرم أو راودتك بشيء يُغضب الله عز وجل فارجع إلى الله وتذكّر مقام الله عز وجل وأقلع كما سمعنا، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ. ذكروا الله، ذكروا عظمة الله، ذكروا مراقبة الله عز وجل، فأقلعوا واستغفروا لذنوبهم، أقلعوا بندم وعزم على أن لا يعودوا إلى فعل هذا الذنب ما داموا أحياء.
فذاك هو المُتقي، وذاك يُبدل الله سيئاته إلى حسنات كما قال عز وجل: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70]، أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:17-22].
روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ستّة أيام ثم اعقل ـ يا أبا ذر ـ ما أقول لك بعد)) ، فلما كان اليوم السابع قال: ((أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألنّ أحدًا شيئًا وإن سقَط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين)).
((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
الله أسال بمنّه وكرمه أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا وإجلالاً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يختم النبي وصيته بقول: ((وخالق الناس بخُلُق حسن)) ، وكثيرًا ما نقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله عز وجل يقرن التقوى مع الخلق الحسن، والنبي عليه الصلاة والسلام يقرن التقوى مع الخلق الحسن، فالتقوى والخُلق الحسن متلازمان لا ينفصلان، فالتقوى شجرة والخُلق الحسن ثمرة.
نعم، يقول الله عز وجل: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15، 16].
وكما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله، وحسن الخلق)) ، ثم قيل له: ما أكثر ما يُدخل الناس النار؟ قال: ((الفم والفرج)).
أن تكون أخلاقك مع الله أولا حسنة، وأن تكون أخلاقك مع خَلْقه حسنة، وأن تكون أخلاقك مع كتابه حسنة، وأن تكون أخلاقك مع سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حسنة.
ومن الأخلاق الحسنة الإحسان إلى الوالدين، الإحسان إلى الأهل، الإحسان إلى الأولاد، الابتسامة الطيبة، الصبر، الحلم، المودة، وهكذا.. هذا من الأخلاق الحسنة.
وأخيرا: هناك نقطة يغفل عنها البعض من المسلمين، وهي أنك إذا قلت له: اتق الله غضب وحملق وانتفخت أوداجه، كأنه أسد ضارم يريد أن يلتهمك. وهذه الصفة ما ذكرها الله إلا في المنافقين، قال الله تعالى في المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].
إذا قال لك شخص: اتق الله ثم غضبت فإن النبي عليه الصلاة والسلام يُحذّر من ذلك: ((وإن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل: اتق الله، فيقول عليك بنفسك)) رواه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة (2598). ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن من كبائر الذنوب أن يقول الرجل للرجل: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، أنت تأمرني؟!).
وهذا خطأ، والله عز وجل قال لنبيه ورسوله وأعظم خلقه وهو أعبد الناس وأفضل الناس وأشجع الناس، كل صفة نال بها الكمال البشري عليه الصلاة والسلام، قال له ربّه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1].
وأخيرًا: يُروى ـ وإن الحديث فيه كلام عند كثير من المُحدّثين ـ أن يزيد بن سلمة جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله، إني سمعت منك حديثا كثيرا أخاف أن ينسى أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعا، قال: ((اتق الله فيما تعلم)). الله اكبر، ما أعظمها من نصيحة لو تدبّرها الإنسان.
يا من تعلم أن الصلاة فرض وواجب عليك، لماذا لا تؤديها في جماعة المسلمين؟! يا من تعلم أن الربا حرام ومحاربة لله عز وجل، لماذا تدخل في أماكن الربا؟! يا من تعلم أن أبناءك وبناتك في عنقك أمانة، فلماذا لا تهيئ لهم السعادة في الدنيا والآخرة؟!
أيها المسلمون، علينا أن نتقي الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، في الحضر والسفر، ومن اتقى الله وقاه، ولا يكون الله عز وجل أهون الناظرين إلينا، بل يُقال: إن الله عز وجل يُراقب ويُعبد حق العبادة، فإن لم تكُن تراه فإنه يراك.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة يا رب العالمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه يا رب العالمين، وارض عن الخلفاء الراشدين...
(1/4517)
القلوب البيضاء
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
11/2/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدم ثبات القلب على حال وسرعة تقلبه. 2- أقسام القلوب. 3- صمود القلب التقي أمام الفتن. 4- أنواع القلوب البيضاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، فأوصيكم وإيايَّ بتقوى الله والاعتصام بكتاب الله عز وجلّ وسنة رسول الله وما عليه سلفكم الصالح من الأئمة الراشدين المهديين والفقهاء والصالحين.
أيها الناس، في تيار الأيام ودورة الفلك وصخب الحياة وشغلها يرى كلُّ مسلم أن الناس ـ إلا من رحم الله ـ قد غلبت على أنفسهم ماديات الحياة وزخرفها، وتزينت الدنيا لهم بأبهى مظاهر الزينة، وأظهرت من مفاتنها ما أغرى النفوس والقلوب، فتهافتت عليها من كل ناحية وصوب لاهثة راغبة في مكسب أكبر قدر من مظاهرها ومفاتنها، حتى تربعت الدنيا على القلوب واستوت على سويدائها، وقد عاد هذا الأمر الخطير على واقع القلوب بالهزيمة والضعف في أوصاله، وسرت أمراضٌ ما كان لها أن تجد لها مدخلاً إلى صرحه لو كان الإيمان سلاحَه واليقين بُردَه وأمنَه.
والقلب ما سمي بذلك إلا لكثرة تقلبه من حال إلى حال، وهو كما وصفه رسول الله : ((مَثَلُ القلبِ مثل الريشة تقلبها الرياحُ بفَلاة)) رواه ابن ماجه (88). فهنا يصور لنا الرسول القلب وأنه ريشةٌ لخفته ولتأثير الفتن عليه، صغيرها وكبيرها، تمامًا مثل الريشة التي تؤثر فيها أقل النسمات فتغير اتجاهها، ولتيقّن الرسول بهذه الحقيقة كان يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، فقال أنس: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)) رواه الترمذي (2140)، أي: إن الله يتصرف في قلوب عباده كيف يشاء لا يمتنع عليه شيء منها.
عباد الله، والقلوب قسمان، قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم (144).
أيها المؤمنون، ويتبين من الحديث أن القلوب تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، وفي هذه الخطبة سأقصر الكلام على القلوب البيضاء، وأما القلوب السوداء فسوف أفصل الكلام فيها في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
عباد الله، وتختلف درجات السواد والبياض في كل قسم بمقدار ما أُشرب من فتن، وبمقدار بعد هذا القلب وبالتالي صاحبه عن القرآن والسنة وما عليه سلف الأمة، وعليه فإن كل قسم من هذين القسمين يضم أنواعًا من القلوب.
فالقسم الأول: القلوب البيضاء؛ ويأبى صاحب هذا القلب أن يفتح مسامات قلبه لغير الحق، وإذا تعرض لفتنة وابتلاء وامتحان واختبار وتحول من حال حسنة إلى سيئة انكمشت مسامات قلبه إلى درجة الانغلاق التام بسبب إنكارِه ورده لها، فيُنكت في قلبه نكتةٌ بيضاء أي: ينقط في قلبه نقطةٌ بيضاء، ومع توالي الفتن التي هي كأعواد الحصير في تتابعها كما ينسج الحصير عودًا عودًا وشظية بعد أخرى، وناسجُ الحصير كلما صنع عودًا أخذ آخر ونسجه، فشبه رسولُ الله عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد، وصاحب القلب الأبيض مع استمرار الإنكار لها ينتشر البياض على قلبه حتى يغطيه، ثم يكتسب خاصية الصلابة حتى يكون مثل الصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، وليس تشبيهُهُ بالصفا بيانًا لبياضه، لكن لصفة أخرى وهي لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر القوي الصلب الأملس الذي لا يعلق به شيء، ومع ذلك فقد تنتابُ صاحب هذا القلبِ فترات من الضعف والغفلة الآنية، تلك الغفلة التي شبهها الرسول بالسحابة إذ يقول: ((ما من القلوب قلب إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ فأظلم، إذ تجلت)) أخرجه الطبراني وحسنه الألباني.
إن أحجام السحب ليست واحدة، فمرةً نراها ممتدة طويلة تغطي ذلك القمر المضيء لفترة ثم تنجلي، وأخرى نراها صغيرةً جدًا لا تغطي تلك الأنوارِ المنبعثةِ من القمر إلا اللحظات، وأخرى نراها معتمة، وأخرى بيضاءُ شفافةٌ يرى من ورائها القمر، وهذه الأنواع المتعددة من السحب هي في ذاتِها تمثل العوارض التي تَعْتَرضُ أصحابَ القلوب البيضاء، ولكنها كلَّها تزول بإذن الله، وتنجلي السحابة عن القمر المضيء، فتعود أشعتُه تخترق القلوب، وتنير لأصحابها الحق الذي لا تشوبه فتنة، ولهذا السبب اختلفت أنواع القلوب البيضاء، ويؤكد ذلك قول رسول الله : ((القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض)) أخرجه أحمد (6655).
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المطمئنة، يقول الله سبحانه وتعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]. والطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن والسنة. فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، فإن صاحب هذا القلب لا يضطرب ولا يقلق عندما يصاب بمصيبة وابتلاء، بسبب ما يعتقد أن ذلك فتنةٌ من الله واختبار.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب السليمة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89]. والقلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن، لأن قلب الكافرِ والمنافقِ مريض، وهو القلب الخالي من البدعة المطمئن إلى القرآن السنة، وهو قلب سليم من آفة الافتتان والفخر بالمال والبنين، قال الجنيد: "السليم في اللغة اللديغ، فمعناه أن قلبه كاللديغ من خوف الله". فصاحب هذا القلب هو من تجمعت فيه هذه الصفات، فهو ذو قلب سليم خالص من آفات المال وفتنته وجواذب الدنيا وفتنتها، خالٍ من البدع مطمئن إلى الإيمان، خائف من الله.
ومن أقسام القلوبِ البيضاء القلوبُ المنيبة، يقول الله سبحانه وتعالى: مَّنْ خَشِىَ ?لرَّحْمَـ?نَ بِ?لْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33]، أي: مقبل على الطاعة، وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب الوجلة، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والوجل: الخوف والفزع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، والذي إذا أراد أن يظلم مظلمة فقيل له: اتقِ الله كفَّ ووجِلَ قلبُه، ونستخرج من ذلك أن صاحب هذا القلب يتفاعل مع الموعظة، ويخاف عندما يُذَّكر بالله، ويكف عن المظلمة لحساسيته الكبيرة ومحاسبته لنفسه تخوفًا من عقاب الله.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المخبتة، يقول الله سبحانه وتعالى: فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54]، أي: تخشع وتسكن وتنقاد، والمخبتون من عباده المتواضعون الخاشعون المخلصون، وهم الذين لا يظلمون غيرَهم، وإذا ظلمهم غيرُهم لم ينتصروا، بل يكظمون الغيظ طلبًا للثواب المترتب عليه من الله عز وجل.
ومن أقسام القلوب البيضاء القلوب المقشعرة اللينة، يقول الله سبحانه وتعالى: ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?بًا مُّتَشَـ?بِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، قال الزجاج: "إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ إذا ذكرت آيات الرحمة".
أيها المؤمنون، وبعد هذا العرض لأقسام القلوب البيضاء والوقوف على صفاتها لا بد لكل منا أن يحاسب نفسه، ويسألها ويطيل السؤال، حتى يعلم قلبَه من أيّ الأقسام هو، فإذا وجد أن قلبه من الأقسام التي مرت بنا فليحمد الله تعالى، وليطلب من الله المزيد والثبات على ذلك، وليكثر من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله في نياته وأفعاله وأقواله، وليصَفِّ قلبه من الغل والحقد والحسد وأمراض القلوب الأخرى، وليجلس مع العلماء والصالحين، وليكثر من قول الرسول : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) حتى يلقى الله على ذلك، وإن لم يجد أن قلبه من أقسام القلوب البيضاء فليضرعْ وليبتهلْ إلى الله حتى يتوب عليه مما جعل قلبه أسود، ويجعل قلبه من القلوب البيضاء بنور الإيمان.
قال رسول الله : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ)) ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَاسٌ مِنْ النَّاسِ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ ـ أشتات ـ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) أخرجه أحمد (5/343) عن أبي مالك الأشعري.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على صلاح قلوبكم وعدم دخول الفتن والمعاصي والذنوب إليها أكثر من حرصكم على صلاح دنياكم.
أيها المؤمنون، وبقي معنا من أقسام القلوب القلوب السوداء، أخذ العلماء ذلك من قول رسول الله عن أقسام القلوب: ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) ، سأشرحه لكم إذا شاء الله في الجمعة القادمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4518)
فضل الشكر
الإيمان
خصال الإيمان
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
23/10/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله لا تعدّ ولا تُحصى. 2- الصبر والشكر. 3- فضائل الشكر والأمر به. 4- فضل أهل الشكر. 5- أشكر الخلق محمدٌ. 6- التحذير من كفران النعم. 7- حقيقة الشكر. 8- الشكر من صفات الباري تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فتقوى الله نورٌ في القلب وذخرٌ في المنقلَب.
أيها المسلمون، لقد أجزلَ الله على عباده من نعمه العظيمة، وأغدق عليهم من آلائه الجسيمة، يمينه تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاءَ الليل والنهار، يقسِم الأرزاقَ ويغدِق العطايا، ويرزق من يشاء بغير حساب، يبتلي عبادَه بالنعم كما يبتليهم بالمصائب، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، والله منعمٌ بهذا كلِّه، وفتنةُ السّرّاء أعظم من فتنة الضراء، وصاحبها يحتاج إلى صبر وشكر، والفقر والغنى مطيَّتا الابتلاء والافتتان، والصبر والشكر لازمان للعبد في أمر الربِّ ونهيه وقضائه وقدره، والتقوى مبنيةٌ عليهما.
وقد قرن سبحانه الشكرَ بالإيمان به فقال: مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ [النساء:176]، وأخبر سبحانه أن الشكرَ هو الغاية من خلقه وأمره: وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأبْصَـ?رَ وَ?لأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وجعل سبحانه رضاه في شكره: وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، والله خلق الليل والنهار للتفكر والشكر: وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]، وانقسم عبادُه إلى شكور له وكفور به: إِنَّا هَدَيْنَـ?هُ ?لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2]، وأخبر سبحانه أنه إنما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته: وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
وقد أثنى الله على أوَّل رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال: ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:2]، وأمر عبدَه موسى أن يتلقَّى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال عز وجل: ي?مُوسَى? إِنْى ?صْطَفَيْتُكَ عَلَى ?لنَّاسِ بِرِسَـ?لَـ?تِي وَبِكَلَـ?مِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الأعراف:144]، وأثنى على خليله إبراهيم بشكر نعمه: إِنَّ إِبْر?هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـ?نِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ [النحل:120، 121]، وأمر الله به داود فقال: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:12]، ودعا سليمان عليه السلام ربَّه أن يكون من الشاكرين: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? و?لِدَىَّ [الأحقاف:15]، وأمر الله رسوله محمدًا بالشكر فقال: بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر:66]، وأمر الله لقمانَ بالشكر فقال: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ?لْحِكْمَةَ أَنِ ?شْكُرْ للَّهِ [لقمان:12]، وأوَّلُ وصية وصَّى بها ربُّنا الإنسانَ [هي الوصية] بالشكر له وللوالدين فقال: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14].
وبالشكر أمر الأنبياءُ أقوامَهم، فقال إبراهيم عليه السلام لقومه: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17]، والآيات والعبر والعظات لا يتَّعظ بها إلا الشاكر، قال سبحانه: كَذ?لِكَ نُصَرِّفُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]. وأغدق علينا النعمَ لنثني عليه بها، قال جل وعلا: وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، وهو وصية النبي لأصحابه، فقد قال: ((يا معاذ، أني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك)) [1]. ودعاء العبد ربَّه أن يوافيَ نعمَ الله بالشكر من أفضل الأدعية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تأمّلتُ أفضلَ الدعاء فإذا هو: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" [2].
وأهل الشكر هم المخصوصون بمنّتِه من بين عباده، وهم الذين لا يتزعزعون عند الفتن، وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144].
ولما عرف عدوُّ الله إبليس قدرَ مقام الشكر وأنه من أجلِّ العبادات وأعلاها جعل غايتَه السعيَ في قطع الناس عنه فقال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:17].
ونبيُّنا محمد أشكرُ الخلق لربّه، خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وربط على بطنه الحجرَ من الجوع، وغُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ويقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورا؟!)) [3]. وداود عليه السلام كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثلثَه وينام سدسَه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، والله عز وجل يقول له: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:12].
والشكر أمنةٌ من العذاب، قال عز وجل: مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ [النساء:147]، ونجَّى الله لوطًا عليه السلام من العذاب بالشكر: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـ?صِبًا إِلاَّ ءالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـ?هُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ [القمر:34، 35].
ولما تنكَّر قومُ سبأ لنعم الله وجحدوها وقابلوها بالعصيان سلبها الله منهم، وأذاقهم ألوانًا من العذاب، وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ: 16، 17]. وأصحاب الجنة في سورة القلم قابلوا نعمةَ الله بالنكران وحرمان المساكين، فطاف على ثمرهم طائف، فأصبحت زروعهم هباءً منثورا كالليل البهيم، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمةٌ زالت عن قوم فعادت إليهم". والشاكرون لنعم الله قِلّة في الخلق، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ: 12].
وكلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي نقمة، والشكر هو الحافظ للنعم الموجودة، والجالبُ للنعم المفقودة، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (النعمة موصولةٌ بالشكر، والشكر يتعلّق بالمزيد، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر) [4]. والعبد إذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وبقي عليها ثم شكر الله على ما أعطاه آتاه الله أشرفَ منها، وإذا ضيَّع الشكرَ استدرجه الله، يقول الحسن رحمه الله: "إن الله يمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا" [5]. وإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذره، قال سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [القلم:44]، قال سفيان رحمه الله: "يُسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر".
ومن رُزق الشكرَ رُزق الزيادة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، يقول أبو قلابة: "لا تضرّكم دنيًا شكرتموها" [6]. وقد ذمَّ سبحانه الكنودَ من عباده وهو الذي لا يشكر نعمه فقال سبحانه: إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6].
أيها المسلمون، بشكر الله وطاعته تتفتَّح للعبد أبوابُ الدنيا والآخرة، قال عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]
وشُكر الله يكون بالقلب واللسان والجوارح.
فيكون بالقلب بنسبة النعم إلى بارئها، قال جل وعلا: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53].
ويكون باللسان بالإكثار من الحمد لمُسديها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الحمد لله تملأ الميزان)) رواه مسلم [7] ، فالحمد رأسُ الشكر وأوَّله، وهو أول آية في كتاب الله المجيد: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الفاتحة:1]، وقد أمر الله نبيَّه محمدًا أن يحدِّث بنعم الله فقال سبحانه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].
والشكرُ بالجوارح يكون بالاستعانة بها على مرضاة الله، ومنع استخدامها في مساخطه وعصيانه، ولذا فشكرُ العين أن لا يبصرَ بها ما حرّم الله، ولا يطلق بصرَه على حرمات الله، وشكرُ اللسان أن لا يتحدَّث به إلا حقًا، ولا ينطقَ به إلا صدقًا، وشكرُ الأذنين أن لا يستمع بهما إلى غيبة وبهتان ومحرَّم.
وقد أمر الله بشكر الوالدين بقوله: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، ومن شكرهما برّهُما والإحسان إليهما والدعاءُ لهما، والتودّد والتلطف لرضاهما، وخفضُ جناح الذلّ لهما، ومن العصيان عقوقهما والتأفّفُ والتنكّر لأوامرهما، والتثاقل عن طاعتهما. وأسعدُ الناس من جعل النعمَ وسائلَ إلى الله والدار الآخرة، وأشقاهم من توّصل بنعمه إلى هواه ونيل ملذاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ ?للَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ?لنَّاسِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [البقرة:243].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133)، وهو في صحيح أبي داود (1347).
[2] انظر: مدارج السالكين (1/78).
[3] أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4836، 4837)، ومسلم في صفة القيامة، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2819، 2820) من حديث المغيرة بن شعبة، ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
[4] أخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه في كتاب الشكر (18) معضلا، ومن طريقه البيهقي في الشعب (4532).
[5] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر (17).
[6] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر (59).
[7] جزء من حديث أخرجه مسلم في الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: أيها المسلمون، ربُّنا متصفٌ بالشكر، وأحبُّ خلقه إليه من اتَّصف بصفة الشكر، كما أن أبغضَ خلقه إليه من عطّلها واتَّصف بصدّها، فهو سبحانه شكور يحبّ الشاكرين. ومِن شكر الله شكرُ من أسدى إليك معروفًا من خلقه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس)) رواه أحمد [1].
وإذا أسديتَ إلى أحدٍ معروفًا فلا تترقَّبْ منه شكرا، وابتغ الثوابَ من الله، وكن قنوعًا بما رزقك الله تكنْ أشكرَ الناس، وأكثرْ من حمد الله والثناء عليه، فتلك عبادةٌ من أجلِّ العبادات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الطاعمُ الشاكر مثل الصائم الصابر)) رواه البخاري [2].
ومن لم يشكرِ القليل لم يشكرِ الكثير، وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: "أصبحنا مغرَقين بالنعم، عاجزين عن الشكر" [3] ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وما من الناس إلا مبتلًى بعافية ليُنظر كيف شكرُه، أو ببليةٍ ليُنظرَ كيف صبره، فعليكم ـ عباد الله ـ بالجمع بين الصبر والشكر مع التقوى تكونوا أعبدَ الناس.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون...
[1] أخرجه أحمد (2/295)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر (1955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3407)، والألباني في صحيح الترغيب (973).
[2] علقه البخاري في كتاب الأطعمة، باب: الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، ووصله أحمد (2/283)، والترمذي في الرقاق (2486)، وابن ماجه في الصيام (1764)، وأبو عوانة (8242)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (1898)، وابن حبان (315)، والحاكم (7194)، وانظر: فتح الباري (9/582-583)، والسلسلة الصحيحة (655).
[3] انظر: كتاب الشكر لابن أبي الدنيا (45).
(1/4519)
القيامة الكبرى
الإيمان
اليوم الآخر
عبد العزيز القرشي
جدة
مسجد التوحيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام الساعة بغتة. 2- النفخة الأولى. 3- النفخة الثانية. 4- الحشر. 5- أهوال يوم القيامة. 6- الشفاعة العظمى. 7- الحساب. 8- الحوض المورود. 9- العبور على الصراط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه يعجُّ بالحياة والأحياء، في حركةٍ دائبةٍ لا تهدأُ ولا تتوقف، سيأتي عليه يومٌ يفنى فيه من عليه ويهلك، يوم ينفخ في الصور فَتُنْهي الحياةَ في الأرض والسماء، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
نفخةٌ هائلةٌ مدمّرة، يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ وَلا يَطْوِيَانهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ ـ أي:يطينه ويصلحه ـ فَلا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا)) رواه البخاري.
كل هذا إشارة أن الساعة تأتي بغتة، ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً [الأعراف:187].
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ طَرْفَ صَاحِب الصُّور مُنْذُ وُكِّلَ بِهِ مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ الْعَرْشِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرَفُهُ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيَّانِ)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي وهو في السلسلة الصحيحة (1078).
وَقَالَ : ((كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخَ؟!)) قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، تَوَكَّلْنَا عَلَى اللَّهِ رَبِّنَا)) رواه الترمذي وهو في السلسلة الصحيحة (1079).
هكذا يَنفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، فيكون الصعق، ثم ينفخ الثانية، فيكون البعث، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ)) ، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، ((وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الإِنْسَانِ إِلا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ)) رواه البخاري ومسلم.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلاَّ أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا)) ، قَالَ: ((وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ)) ، قَالَ: ((فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ ـ أَوْ قَالَ: ـ يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوْ الظِّلُّ ـ نُعْمَانُ الشَّاكُّ ـ ، فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)) رواه مسلم.
أيها الناس، ((تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ، إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) ، ثُمَّ قَرَأَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ((ثم يُكسى العباد، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ)).
يومُ القيامة يومٌ عظيمٌ أمره شديدٌ هوله، لا يلاقي العباد مثله، تزلزل الأرض وتُدك، وتسيّر الجبال وتُنسف، وتفجّر البحار وتُسجّر، وتتشقق السماء وتمور، وتكوّر الشمس وتذهب، ويُخسف القمر، وتنكدر النجوم، ويذهب ضوؤها، وينفرط عقدها، تذهل المرضع عن وليدها، وتُسقط الحامل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يومٌ تشخص فيه الأبصار، وترتفع القلوب إلى الحناجر، ويشيب فيه الولدان، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج:11-14].
مثِّل لنفسك أيها الْمغرور يوم القيامة والسماء تَمور
إذا كورت شَمس النهار وأُدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ورأيتها مثل الْجحيم تفور
وإذا الجنين بأمه متعلق يَخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جنينه كيف المصر على الذنوب دهور
((يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي ـ مِنْ الإِسْمَاعِ أَيْ: أَنَّهُمْ بِحَيْثُ إِذَا دَعَاهُمْ دَاعٍ سَمِعُوهُ ـ ، وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ ـ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُحِيط بِهِمْ النَّاظِر لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْء; لِاسْتِوَاءِ الْأَرْض لَيْسَ فِيهَا مَا يَسْتَتِر بِهِ أَحَد عَنْ النَّاظِرِينَ ـ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ يوم الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ ـ وسطه ـ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَمَا لاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟! أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟! فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، ثم إِلَى نُوحٍ، ثم إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثم إِلَى مُوسَى، ثم إِلَى عِيسَى، فيقدّم كلُ واحدً منهم عُذرَه، ثم يَأتونَ مُحَمَّدًا ))، قَالَ : ((فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي)) رواه مسلم.
تُنْصَبُ الموازين، فتُوزن بها إعمال العباد، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8، 9]، وتُنشَرُ الدَّواوينُ، وهي صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله من وراء ظهره.
ويُحاسبُ اللهُ الخلائق، ويَخلو بعبدهِ المؤمن فيقرره بذنوبه، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟)) قَالُوا: لاَ، قَالَ: ((فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟)) قَالُوا: لاَ، قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، قَالَ فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟! فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟! فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟! فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟! فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَا هُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟! فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) أخرجه مسلم. وفي روايةٍ له: ((فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ)).
اللهم خفف عنا أهوال هذا اليوم، واجعلنا فيه من السعداء، وألحقنا بالصالحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إذا كان يومُ القيامة كانت ثروةُ الإنسان ورأسُ ماله حسناتِه، فإذا كانت عليه مظالمُ للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته فإنه يُؤخذ من سيئاتهم فتُطرح فوقَ ظهره، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)) رواه البخاري.
وفي عرصات يوم القيامة الحوض المورود للنبي ، قَالَ النَّبِيُّ : ((حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ ـ وفي رواية: ـ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ ـ أي: أكوابه ـ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا)) رواه البخاري، وقَالَ : ((أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلاَ هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)) رواه مسلم.
ثم تفّكر الآن ـ يا عبد الله ـ فيما يحلّ من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيّظها، وقد كُلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حِدة الصراط.
قَالَ : ((وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ)) ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: ((أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟! ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفًا)) ، قَالَ: ((وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ، مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ ـ مجروحٌ مقطّعُ الأعضاء ـ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ)) أي: مدفوعٌ ومطروح. رواه مسلم.
فإذا عبروا على الصراط وُقِفوا على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعض، فَعَن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا)) رواه البخاري.
رَبِّنا قِنِا عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ...
(1/4520)
الاعتبار بما مضى من الأعمار
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اغتنام الأوقات
محمد بن حمد الخميس
الدمام
2/1/1426
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زوال الدنيا. 2- انقضاء عام كامل. 3- ضرورة المحاسبة. 4- فوائد المحاسبة. 5- محاسبة السلف الصالح لأنفسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: عباد الله، إن الشمس التي تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها تحمل أعظم مشاهد الاعتبار، فطلوعها ثم غيابها إيذان بأن الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي إلى زوال وفناء وبوار. هلال الشهر يظهر صغيرًا، ثم ينمو حتى يكتمل، وليس بعد التمام إلا النقصان، ثم الزوال، وهكذا عمر الإنسان، بل والحياة كلها.
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ
هذي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ من سرّه زمنٌ ساءته أزمانٌ
أحبتي في الله، رحل عام ومضى، وطوى بساطه وانقضى، فليت شعري، ماذا أودعنا فيه؟! وماذا حفظ من أعمالنا؟! إن المؤمن لا بد وأن يعتبر بما مرّ في أيام عمره من أعمال، وبما انطوى عليه مرُّ السنين وذهابُ الآجال، على أي حال سيلقى ربه الكريم المتعال؟! قال : ((كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُوبقُها أو معتقُها)) رواه مسلم، فمنا من باع نفسه لله، وانتصر على شيطانه وهواه، ونال رضا الله وهُداه، فاجتهد بأعماله ليفوز مع الفائزين وينجو مع الناجين، فصلّى لربه وصام، وتصدّق بماله وابتعد عن فعل الحرام، ووصل رحمه وواسى الفقراء والأيتام، ومنّا غلبه شيطانه واتّبع هواه، وغرته نفسه وعمّت مصائبه وبلواه، وما تذكّر أن الله سيحاسبه على ما آتاه، فوقع في وحل المعاصي، وولج لجج الآثام.
لذلك أحبتي في الله، ينبغي للمسلم أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبة جادة قبل أن تحاسب، قال عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا). ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله" اهـ.
أحبتي في الله، وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها:
الاطلاع على عيوب النفس ومثالبها ونقائصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منزلها وبادر في إصلاحها.
ومن هذه الفوائد أن يتعرف العبد على عظيم فضل الله ومنته عندما يقارن عظيم فضل الله إلى عظيم التفريط والتقصير في جنب الله، فيكون ذلك معينًا لنفسه على ردعها، فيزكيها ويطهرها من كل عمل يهلكها، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه كل ليلة: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله وكان لها قائدًا" اهـ.
ومن هذه الفوائد أن المحاسبة تربي عند الإنسان الضمير الحيّ داخل النفس، وتنمي الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم رحمه الله: "أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب" اهـ.
أيها الأحبة في الله، إذا كان أرباب الأعمال في الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم أسباب نجاحهم وربحهم في الدنيا، فما بالنا لا نجعل المحاسبة أهم أسباب ربحنا في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]، فكلنا في حاجة إلى محاسبة أنفسنا في الدنيا حتى ننظر ما قدمناه لغد.
ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم كثيرًا، وضربوا لنا أروع الأمثلة في محاسبتهم لأنفسهم، ولو حاولنا استقصاء ذلك لطال بنا المقام، وذلك لأنهم كانوا يربطون قلوبهم بالله، وكأن أجسادهم في الأرض وقلوبهم في السماء، فلجموا أنفسهم عن التقصير وعاتبوها وإن وقعت في اليسير، فعن أنس رضي الله عنه يقول: سمعت عمر بن الخطاب يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: (عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك)، وكان الأحنف بن قيس قد كبر سنه، فلاموه على الصوم لأنه يضعفه، فقال: "إني أعده لسفر طويل"، وكان يقول لنفسه: "لم صنعتَ كذا يوم كذا؟!" ثم يؤلمها بأنواع ألم. قال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه"، وقال حاتم الأصم: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك"، قال بلال بن سعد: "لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السر".
أحبتي في الله، ها نحن قد ودعنا عامًا من عمرنا، رحل بلا عودة، وفني بلا بقاء، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما جمع وحوى، فكم من حبيب فارقنا، وكم من سيئات فيه قد اجترحنا، وكم من عزيز أضحى ذليلاً، وكم غني أضحى فقيرًا، وكم من سليم أضحى سقيمًا، وكم من حوادث عظام وبلايا جسام مرت بنا، ولكن أين المعتبرون؟! وأين المستبصرون؟!
أيها الأحبة، إن الأيام واللّيالي خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد.
إنا لنفرح بالآجال نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الْموت مجتهدًا فإنما الربح والْخسران في العمل
وصدق القائل:
نسيرُ إلى الآجال فِي كل لحظة وأعمالنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل
فانظر ـ أيها الأخ الحبيب ـ في صحائف أيامك التي خلت: ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟! واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان؟! وماذا رأت العين؟! وماذا سمعت هذه الأذن؟! وأين مشت هذه القدم؟! وبماذا بطشت هذه اليد؟! فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، تحثّ بنا السير إلى الآخرة. سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت، فسأل: من هذا؟ فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (هذا أنت)، يعني: أن الجميع إلى هذا المصير صائر فاستعدّ لذلك. ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: "أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده".
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الليل والنهار مطيتان، يباعدانك من الدنيا، ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. وسبحان الله! تتجدّد الأعوام فنقول: إنّ أمامنا عامًا جديدًا، نراه طويلاً، لكن سرعان ما ينقضي، فطوبى لعبد انتفع بعمره، فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى، وتاب إلى الله عز وجل، وعزم على أن لا يضيع ساعات عمره إلا في خير، متذكرا قول نبيه: ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) حديث صحيح، لاهجا بدعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) حديث صحيح.
فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، إنه بر رؤوف رحيم.
وصلى الله على محمّد وآله وأصحابه أجمعين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4521)
عاشورا بين العمل المشروع والعمل الممنوع
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر الله المحرم والصيام فيه. 2- فضل صيام عاشوراء. 3- الحكمة من صيام عاشوراء. 4- حكم صيام عاشوراء. 5- مراتبُ صيام عاشوراء. 6- اختلاف الطوائف في نظرتِهِم ليومِ عاشوراء. 7- أحاديث لا تصح في يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فتقوى الله عونٌ ونُصرةٌ، وعلمٌ وحكمةٌ, وخروجٌ من الغم والمحنة، وتكفيرٌ للذنوب ونجاةٌ في الآخرة.
عباد الله، لقد جعل الله فاتحة العام الهجري شهرًا عظيمًا مباركًا هو شهرُ اللهِ المحرم، أحدُ الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الآية [التوبة:36]، وقال : ((السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري من حديثِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقد بين النبي فضلَ الإكثار من صيام النافلة فيه، فقد روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النبيَّ قال: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ)) رواه مسلم.
ومن الأزمنة ـ يا عباد الله ـ التي خصّها الشرعُ الحكيم بمزيد فضلٍ في شهر الله المحرم يوم عاشورا، والذي يتعلق بهذا اليوم أمورٌ يحسنُ التنبيهُ لها في هذه الخُطبةِ إن شاء الله تعالى، فمنها:
أولاً: الفضل الوارد في صيام يوم عاشورا: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاّ هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وعن أبي قتادةَ رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبيَّ عن صيام يومِ عاشورا فقال: ((أحتسبُ على اللهِ أن يكفرَ السنةَ التي قبله)) رواه مسلم. وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يومٍ واحد تكفيرَ ذنوبِ سنةٍ كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
ثانيًا: الحكمة من صيام هذا اليوم: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا؟)) قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: ((فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)) ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري ومسلم.
ثالثا: حُكْمُ صيام يوم عاشورا: اتفق العلماءُ أو جمهورُهم على أن صيامَه من المستحبات وليس من الواجبات؛ لما روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبي صامه وأمر بصيامِهِ، فلمَّا افتُرِضَ رمضان كان هو الفريضة، وتُرِكَ عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركهُ. رواه البخاري.
رابعًا: مراتبُ صيامِهِ: ذكر ابن القيمِ رحمه الله في زادِ المَعاد أن صيامَ عاشوراء على ثلاثِ مراتب:
المرتبةُ الأولى: صوم ُ التاسعِ والعاشرِ والحادي عشر؛ وهذا أكملها.
المرتبةُ الثانيةُ: صومُ التاسعِ والعاشرِ، وذلك مخالفةً لأهل الكتابِ في صيامِهِ، فقد روى ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع)) ، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ. رواه مسلم.
المرتبةُ الثالثةُ: صومُ العاشرِ وحدَهُ.
خامسًا: اختلاف الطوائف في نظرتِهِم ليومِ عاشوراء: فمنهم من يُعَظّمَهُ ويجعله عيدًا، يلبسون فيه أجمل الثيابِ، ومنهم من يتخِذُ ذلك اليوم مأتمًا وحزنا؛ لكونِ الحسينِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما قُتِل فيه، فيجعلونه مأتما وعويلا ونياحة ولطما للصدور وضربا بالسيوف على الرؤوس وإسالة للدماء ووضعا للسلاسل في الأعناق، ومنهم من يفرحُ بذلك اليوم شماتةً بقتل الحسينِ رضي الله عنه، وكل ذلك قد ضلَّ وأضلَّ عن سواءِ السبيل. وهدى الله أهلَ الإسلامِ للحقِّ، فصاموا ذلك اليوم اقتداء بنبيهِم ، ولم يصحَبُوا ذلك بنوعٍ من المحدثاتِ التي ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ.
فاحتسبوا ـ عباد الله ـ في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمةُ الله ومغفرتُه، وجدّدوا لله تعالى التوبة في كل حين.
اللهم تب علينا واعف عنا وتجاوز عن خطيئاتنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ على إحْسانهِ، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاعلموا ـ يا عباد الله ـ أنَّ هناك أحاديثَ تُروى في يوم عاشوراء لا صحّة فيها ولا أصل لها، فمن ذلك ما ذُكر أنَّ في يوم عاشوراء كانت توبةُ آدم، واستواءُ سفينةُ نوحٍ على الجودي، وردّ يوسف على يعقوبَ عليهما السلام, وفداءُ إسماعيل بالكبش، وكسوفُ شمسِ يومِ عاشوراء لمقتلِ الحسينِ رضي الله عنه، وظهورُ لون الدم في الأشجارِ والأحجار، وحديثُ: ((من وسَّع على أهلِهِ يومَ عاشوراء وسَّع اللهُ عليهِ سائر السنة)) ، وحديثُ: ((من اغتسل يومَ عاشوراء لم يمرض ذلك العام)) إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المكذوبة التي يستحي المسلم من ذكرها.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم، وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن يُعينَنا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي الكريم كما أمركم بذلك المولى العزيزُ الرحيم، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4522)
الانسلاخ من آيات الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, القرآن والتفسير
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
28/11/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبأ الذي انسلخ من آيات الله تعالى. 2- صور من الانسلاخ من آيات الله. 3- قضية الحكم بما أنزل الله. 4- حال الشعب الفلسطيني وأرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].
أيها المؤمنون، يا أتباع محمد ، إنه مشهد عجيب ومثل للانحراف عن الفطرة السوية والنكوص عن آيات الله بعد العلم بها والاطلاع عليها، ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته فكفر بها وانسلخ منها وتبرأ، ولصق بالأرض واتبع الهوى، فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية، فاستولى عليه الشيطان، وأمسى مطرودا من حمى الله ورحمته، لا يهدأ له بال، ولا يطمئن له قلب، ذلك مثلهم.
فلقد كانت آيات الله الهادية وبذور الإيمان متلبسة بفطرتهم، فانسلخوا منها انسلاخا، ويهبطون عن مكان الإنسان إلى مكان الحيوان، مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين والوحل والتراب. وكان لهؤلاء من الإيمان جناح يطيرون به إلى الجنات العلى، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين، سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ
أيها المؤمنون، وهل يوجد مثل أسوأ من هذا المثل؟! وهل يوجد شيء أسوأ من الخروج والانسلاخ من الإيمان؟! وهل يوجد مثل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟! وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذ ويدعها عرضا للشيطان؛ يضلها ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض الحائر القلق اللاهث لهاث الكلاب أبدا؟!
أيها المؤمنون، وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب إلا هذا القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. هذا القرآن الذي قال عنه حامل الوحي ومبلغ الرسالة وقائد الخلق إلى الحق والهادي إلى الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض: ((إن هذا القرآن مأدبة، فتعلموا من مأدبته ما استطعم، وإن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين والشفاء النافع، عصمة لن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر)).
أيها المسلمون، وأعود إلى سياق الآيات التي تلوتها وأقول: فهل هذا هو نبأ يتلى، أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع ويتكرر كثيرا في مجتمعنا، فهو من هذا الجانب خبر يروى؟!
وقد ذكرت كتب التفسير روايات كثيرة حول هذا النبأ، مضمون بعضها يدور حول قصة رجل من نبي إسرائيل كان يدّعي الصلاح والإيمان، ويتظاهر بالتقوى والورع، وأنه على دين موسى عليه السلام، فأرسله موسى إلى ملك مدين، وكان هذا الملك مشركا يدعوه إلى الإيمان، فما كان من هذا الملك إلا أن قرب هذا الداعية وألان له القول، ورشاه بالأموال وأغراه بالهدايا والتحف، ووعده بالجاه والسلطان، فما كان من هذا الداعية وهذا الرجل المرائي إلا أن لانت نفسه وخارت قواه وسقطت عزيمته وسال لعابه، فتابع الملك على دينه، وكفر بدين موسى عليه السلام مع علمه بأن دين موسى على الحق ودين الملك على الباطل، فانكشف أمره وظهر على حقيقته. وهكذا ـ أيها المسلمون ـ يكون مصير كل مدع أو متستر وراء الدين أو متاجر به، لا بد أن يكتشف سرّه، فيظهر زيفه وبطلانه، وتنجلي حقيقته أمام الناس.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن هذا الرجل ممن آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، وأن له أشعارا ربانية وحِكَما وفصاحة، ولكن الله لم يشرح صدره للإيمان.
أيها المؤمنون، جاء عن حذيفة بن اليمان بإسناد جيد أن رسول الله قال: ((إن مما أتخوف عليكم رجلا قرأ القرآن حتى إذا رأيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك)) ، قال: قلت: يا بني الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟! قال: ((بل الرامي)).
أيها المسلمون، ويتوجب علينا نحن المسلمين أن نستفيد من هذا النبأ، نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، فهو يمثل حال الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وحال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها، ثم لا يستقيموا عليها ولا يعملوا بها، ما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر! وما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به! إنما يتخذون هذا العلم وهذه المعرفة وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40].
أيها المسلمون، وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة والفتاوى المطلوبة، ولمن؟! للحاكم الظالم ولسلطان الأرض الزائل، يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته. لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: "إن التشريع حق من حقوق الله سبحانه، من ادعاه فقد ادَّعى الألوهية، ومن ادعى الألوهية فقد كفر، ومن أقرّ له بهذا الحقّ وتابعه فقد كفر أيضا"، ومع ذلك ومع علمه بهذه الحقيقة التي يعلمها من الدين بالضرورة فإنه يتنكّر لما كان يقوله باسم الاجتهاد والتجديد.
أيها المسلمون، وإذا كان البعض يفهم أن الاجتهاد هو تبديل حكم الله والأخذ بحكم البشر وتطبيق شريعة الغرب بدلا من شريعة الله تعالى فليعلنها صراحة ولا يلبس على العامة، ولا يخادع الله، فإن من يخادع الله تعالى فقد قال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
إن الدعوة إلى الاجتهاد والتلويح بإمكانية تغيير الثوابت الشرعية عن طريقه هي دعوة ضالة مضلّة محكوم عليها بالفشل، ولن تجد لها صدى في صفوف الفقهاء الصادقين والعلماء المخلصين، فالحق أبلج واضح، يشعّ نوره، وتعلو منارته.
أيها المؤمنون، فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقا لنبأ: الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ ؟! ولو شاء الله لرفعه إلى مرتبة العلماء العاملين، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك؛ لأن هذا الرجل أخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع الحق. وقد أمر الله رسوله أن يتلو هذا النبأ على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله؛ كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها، ثم ليبقى هذا النبأ من بعده ومن بعد قومه قرآنا يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبدا، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو.
إن الأحكام الشرعية في أساسيات هذا الدين ثابته لا تتغير ولا تتبدل، وإن تأويلها أو تحريفها من قبل البعض لتتفق مع الهواء والأغراض والمصالح الذاتية لهو الضلال المبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن الناظر إلى حال المسلمين هنا وهناك وإلى واقع منطقتنا وواقع شعبنا الفلسطيني يشاهد عواصف تعصف، ورياحا عاتية تهب من كل جانب، وأحداثا تتوالى. وهذا وذاك يتطلب منا التذكير بالآتي:
إن الدوامات والعواصف التي تجري في الضفة الغربية وقطاع غزة المتمثلة بالاغتيالات وحملات الاعتقال المستمرة وتدمير البيوت وقلع الأشجار وإقامة المستوطنات ومصادرة الأراضي هنا وهناك والاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري الذي يقتطع حوالي 25 في المائة من الأرض الفلسطينية وإقامة منطقة عازلة شمال غزة وتدمير البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني مما يعمل على نشر الفقر والبطالة، وأخيرا يشجع على الهجرة من هذه البلاد، ونخص بالذكر ما تتعرض له مدينة القدس على جميع المستويات، من أبرزها تغيير المعالم التاريخية والدينية وهدم البيوت والاعتداء على الأماكن المقدسة فيها، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال.
إن المسجد الأقصى تخطط له أمور سوف لا تحمد عقباها إن حصلت أو نفذت، فالحفريات قائمة في أسفله وفي محيطه، والجدير بالذكر أن المقابر الإسلامية في القدس وغيرها لم تسلم هي أيضا من اعتداءات متكررة على حرمتها، كما حصل سابقا في مقبرة "مأمن الله" أقدم مقبرة إسلامية في مدينة القدس، وهي تضم قبورا لبعض الصحابة والتابعين والعلماء والأجلاء، فقد صودرت مساحات كبيرة منها، أقيمت عليها الفنادق، وفتحت منها الشوارع، ومدت من خلالها شبكات المجاري. واليوم تنوي المؤسسة الإسرائيلية إقامة ما يسمى بـ"متحف التسامح" على ما تبقى من أرضها، وأين هذا التسامح الذي سيكون على حساب حقوق المسلمين ومشاعرهم ومقدساتهم وتاريخهم؟! إنه اعتداء صارخ على كرامة الأحياء والأموات.
أيها المسلمون، إن مدينة القدس ومعها الأرض الفلسطينية تبدو وكأنها منسية عند العرب والمسلمين، لا مكان لها في الإعلام العربي والإسلامي، وهي في طريقها إلى العزل الكامل عن بقية المدن والقرى الفلسطينية، بحيث سوف لا يتمكن أحد من الوصول إليها والصلاة في المسجد الأقصى، وعلى ضوء على ذلك نقول: إذا لم تكن القدس أولا والمسجد الأقصى أولا فالخطر آت لا محالة، وعندها سيحصل الندم والألم في آن واحد.
وأخيرا، أين أنتم ـ أيها العرب والمسلمون ـ من كل ذلك؟! أفيقوا من سباتكم، وتحملوا مسؤولياتكم كاملة تجاه ما يحصل في القدس والأرض الفلسطينية وفي بقية بعض البلاد العربية والإسلامية من احتلال للأرض وقتل للإنسان.
أيها المرابطون، إن أقصى ما تريده إسرائيل على هذه الأرض هو تجميع من تبقى من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في كنتونات صغيرة ليحكموا أنفسهم ذاتيا بعد أن تعذر تهجيرهم، يريدوننا أن نبقى مسلوبي الإرادة والحقوق، معزولين عن العالم، قابعين في أرض معزولة ومقسمة محاطة بالجدارن والأسوار والأسيجة. وإزاء ذلك يجب توحيد الصفوف وجمع الكلمة ولمّ الشمل ونبذ الخلافات وعدم السير وراء السراب الخادع وعدم التعويل على ما يطرح من برامج سياسية هزيلة.
أيها المسلمون، هناك أمر تجدر الإشارة إليه باستهجان واستغراب واستنكار، وهو تصريح وزير الشؤون الدينية التونسي الذي نشرته صحيفة القدس أمس نقلا عن جريدة الصباح التونسية، الذي اعتبر ارتداء المرأة المسلمة للحجاب أمرا نشازا ومظهرا غير مألوف، إلى جانب أنه زي طائفي، واعتبر تراجع عدد النساء والفتيات المرتديات للحجاب انتشارا لثقافة التنوير، وهي كفيلة باجتثاث الحجاب تدريجيا بحول الله على حد زعمه. وهذا القول إن دل على شيء فإنما يدل على عداء هذا الوزير وأمثاله للإسلام وتعاليمه، وأبلغ رد على هؤلاء قوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
(1/4523)
يوم عرفة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
6/12/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التذكير. 2- فضل أيام عشر ذي الحجة. 3- فضل يوم عرفة. 4- مبادئ خطبة الوداع. 5- قضية مقبرة "مأمن الله". 6- قضية حفريات المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في كتابه العزيز: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:55-58].
أيها المسلمون، هذه الآيات الكريمة من سورة الذاريات وهي مكية، وفيها يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله الكريم أن يستمر في التذكير لمن تنفعه الذكرى ولمن لديه الاستعداد لقبول الإرشاد والوعظ والنصيحة والهداية، وأن الله عز وجل لم يخلق الجنّ والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته، لا لأنه محتاج للجنّ والإنس في تحصيل الرزق وإحضار الطعام، وإنما ليعرفوه ويشكروه، فالله رب العالمين هو الرزاق ذو القوة المتين، ويقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ويقول في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
أيها المسلمون، لا نزال في الأيام العشرة الأوائل من شهر ذي الحجة، والعبادة فيها لها ثواب عظيم وفضل كبير، والصوم فيها مستحب، وقد أقسم الله عز وجل بها لبيان فضلها ولتعظيم شأنها بقوله: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]. وإن زيادة الفضل في هذه الأيام تتمثل بوجود يوم عرفة فيها، والذي يصادف يوم الاثنين القادم، وبوجود يوم عيد الأضحى المبارك فيها أيضا، الذي سيصادف يوم الثلاثاء القادم إن شاء الله.
أيها المسلمون، إن العبادة هذه الأيام ليست منحصرة بالحجيج، فقد هيأ الله عز وجل للمسلمين جميعا أن يكسبوا الثواب، وعليه فإنه يستحبّ في هذه الأيام التنفّل بالصلاة والتطوّع بالصوم والمحافظة على صلات الرحم والتصدّق على الفقراء والمحتاجين.
وأذكركم ـ أيها المسلمون ـ بصوم يوم الاثنين القادم إن شاء الله الذي هو يوم عرفة يوم الوقفة العظيمة، ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه للجوء إلى رب العالمين، وأن نستغيث برب السماوات والأرض ليفرج كربنا وليوحد صفنا ولينصرنا على أعدائنا.
أيها المسلمون، لا تزال جموع الحجيج تتوافد على مكة المكرمة من كل فج عميق، ويكتمل اجتماعهم في اليوم الثامن من ذي الحجة أي: بعد غد الأحد، هذا اليوم المعروف بيوم التروية حيث كان العرب يتزوّدون فيه بالماء استعدادا للصعود إلى جبل عرفة في اليوم التالي أي: يوم الاثنين القادم.
نعم أيها الأخوة، إن الملايين ستصعد على جبل عرفة في أكبر تجمّع سنوي دوريّ في العالم يوم الحج الأكبر، إنه يوم مبارك يوم عظيم الفضل يوم المغفرة، يكفر الله فيه الذنوب، ويضاعف فيه الحسنات؛ لقول رسولنا الأكرم محمد : ((ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي؛ جاؤوني شعثا غبرا ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوما أكثر عتقا من النار من يوم عرفة)).
فطوبى لمن وقف على عرفة، واستفاد من يومه بالطاعات، وابتعد عن الخصومات والمشاجرات. ومعنى ((ضاحين)) : حالة كون الحجيج واقفين على جبل عرفة من وقت الضحى وهم بارزون للشمس دون غطاء أو ظلّ، والمعلوم أن يوم الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج؛ لقول رسولنا الأكرم في حديث مطول: ((الحج عرفة)).
أيها المسلمون، تعدّ وقفة عرفة أكبر تجمّع سنوي دوريّ في العالم؛ لأن الحجيج جميعهم يقفون على جبل عرفة في وقت واحد وزيّ واحد، ملبين نداء واحدا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"؛ لذا ألقى رسولنا الأكرم خطابه الشهير المتواتر على جبل عرفة، والذي عرف خطابه بخطبة الوداع، والذي قال فيها: ((لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) ، وذلك على مسامع آلاف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في هذا الموقف الإيماني الرائع، وشملت خطبته العديد من المبادئ الإسلاميّة العامة، وذكرتها كتب الصحاح والسنة والسيرة النبوية عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وكان ذلك في السنة العاشرة للهجرة، وإن خطابه عليه الصلاة والسلام ليس موجّها للصحابة فحسب، بل هو خطاب للأمة الإسلامية جمعاء في كل زمان ومكان.
أيها المسلمون، يحسن في هذا المقام أن أشير إلى أبرز المبادئ التي تناولها الرسول في خطبة الوداع من خلال التعداد:
أولا: أن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، وهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي إلا بالتقوى، وهذه القاعدة السامية قد أقرها ديننا الإسلامي العظيم قبل خمسة عشر قرنا، فهل يوجد نظام في العالم يطبق هذه القاعدة؟! فما نشاهد؟! نشاهد التميز العنصري والشعور الفوقي والغطرسة والتجبر والتكبر من الدول الكبرى ضد الشعوب المستضعفة.
ثانيا: حرمة الدماء والأموال والأعراض وتحريم الخصومات والاقتتال بين المسلمين، فقد شدّد ديننا الإسلامي العظيم على حرمة سفك الدماء، وعلى حرمة غصب الأموال، وعلى حرمة التعرض والغمز بالأعراض.
ثالثا: تحريم الأخذ بالثأر؛ لأن الدولة ملتزمة بإقامة عقوبة القصاص على القاتل العمد.
رابعا: تحريم الربا بمختلف صوره.
خامسا: الاعتصام بالقرآن والسنة النبوية الشريفة المطهرة.
سادسا: وجوب العناية بالنساء والأمر بالمحافظة على حقوقهن.
وإن كل مبدأ من هذه المبادئ يحتاج إلى خطبة مستقلة.
أيها المسلمون، بهذه المبادئ السامية يصلح المجتمع وتحقن الدماء ويتعامل الناس فيما بينهم على ضوء الأحكام الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتشيع روح المحبة والتآلف والتضامن والتكافل، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، وهذه هي طريقة رسولنا الأكرم في دعوته، وإنه لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
سائلين المولى عز وجل التوفيق والسداد لحجاج بيت الله الحرام في أداء شعائر الحج، ونقول لهم: حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور وتجارة لن تبور إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أتناول نقطتين مهمتين أثيرتا مؤخرا، ولكن تلهّى الناس عنها في أمور أخرى، وهاتان النقطتان هما:
أولا: مقبرة "مأمن الله" الإسلامية بالقدس الغربية: تقع مقبرة "مأمن الله" والمعروفة بمقبرة "ماميلا" في وسط مدينة القدس، ومساحتها الكلية مائتا دونم حسب ما هو مثبت في الطابو التركي والطابو البريطاني، وقد اقتطع منها مساحات واسعة بحجة أنها مقبرة دارسة قديمة، فمنذ عام 1948م والاعتداءات عليها متواصلة وحتى الآن، ونتساءل: هل حينما أقيم فندق بلازا على "مأمن الله" عام 1948م كانت قديمة ودارسة؟! ثم إن تحويل المقبرة الإسلامية من مقبرة عامرة إلى مقبرة دارسة بحاجة إلى فتوى شرعية من ذوي الشأن ومن أصحابها الشرعيين، ثم إن تحويل المقابر من مقابر عامرة إلى مقابر دارسة ليس بالأمر المعتمد من الناحية الدينية، وإنما هي مجرد اجتهادات مع التأكيد على أنه لا يسقط عن أرض المقبرة صفة الوقفية، وليس من مصلحة أهل فلسطين الأخذ بهذه الاجتهادات، وبالتالي لا بد من المحافظة على المقابر وإعادة الدفن فيها إذا كانت مهجورة التزاما بالأحاديث النبوية الشريفة التي تحذر من الاعتداء على رفاة الموتى.
أيها المسلمون، إن المشروع الإسرائيلي الجديد الذي هو تحت الإنشاء الآن على مقبرة "مأمن الله" بالقدس سيكون متحفا للتسامح كما يدّعون، وإن العمال أثناء العمل في هذا المشروع قد وجدوا عظاما مبعثرة، ونتساءل: من أين أتت هذه العظام؟! أليس من القبور التي نبشت؟!
إن مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي يدعي بأن المشروع لا يؤثر على القبور! ونتساءل: كيف هذا المشروع لا يؤثر على القبور والمشروع قد احتلّ واغتصب عشرين دونما من هذه المقبرة؟! فهل كانت هذه المساحة الواسعة خالية من القبور؟! ثم لماذا منعنا من الدخول إلى المشروع للاطلاع عما يجري في المقبرة؟! فلو كان الأمر عاديا وسليما لما منعنا من الدخول إليه، فالمشروع يقام على أرض مسروقة ومغتصبة من المقبرة الإسلامية، وعليه ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك نطالب بالتوقف عن العمل في هذه المقبرة وكفّ اليد عنها، لأنه لا يجوز شرعا نبش المقابر والعبث برفاة وعظام الموتى، كما لا يجوز شرعا التصرف بالأراضي الوقفية الإسلامية من قبل غير المسلمين، وعلى أهل بيت المقدس الوقوف إلى جانب الحق والعدل والمطالبة بحقوقهم المشروعة.
أيها المسلمون، ثانيا: الحفريات أسفل المسجد الأقصى وفي محيطه: لقد أثبتت الأوراق والخرائط بأن الحفريات الإسرائيلية أسفل الأقصى مستمرة ولم تتوقف، وأن عددا من البيوت الوقفية التي تقع بين باب السلسلة وباب القطانين قد تأثرت بسبب هذه الحفريات، ونؤكد من الناحية الشرعية بأن باطن الأرض الوقفية أي: أسفل الأرض الوقفية هو وقف أيضا، كما أن هواء وسماء الأرض الوقفية هي وقف أيضا، وأن حكم الوقف قائم إلى يوم القيامة، وأن أي اعتداء على الوقف هو باطل مهما طال وقت الاعتداء، ولا يسري تقادم الزمان على الاعتداءات الوقفية، مع الإشارة إلى أن هذه الحفريات لها آثار سلبية خطيرة على مباني المسجد الأقصى ومرافقه، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، فنحذر من الاستمرار في هذه الحفريات، ويتوجب رفع اليد عن الأملاك الوقفية وعدم العبث أسفلها، فالحق أبلج واضح، والباطل فاضح، فالأقصى هو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وهو للمسلمين وحدهم حتى قيام الساعة.
(1/4524)
مؤتمر الحج
فقه
الحج والعمرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/12/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتماع الحجيج. 2- مظهر المساواة في الحج. 3- مقصد التوحيد والاتباع في شعيرة الحج. 4- استشعار الوحدة والائتلاف في نسك الحج. 5- مناسك الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه وخشيته في الغيب والشهادة والاستقامة على دينه في الغضب والرضا والمنشط والمكره، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
أيّها المسلمون، حُجّاجَ بيتِ الله الحرام، ها أنتُم أولاءِ تجتمِعون في هذا المكانِ المبارك، وافِدين إِلى بلدِ الله الحرام، محرِمين ملبِّين، قاصِدين ربًّا واحِدًا، ولابِسين لِباسًا واحدا، وحامِلين شِعارًا واحدًا: لبّيك اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنّكم ـ أيّها الحجَّاج ـ باجتِماعِكم هذا تَعقِدون مؤتمرًا فريدًا، مؤتمرًا مِلؤُه السّمع والطاعة والرَّغبة والاستجابة لنداءِ الباري جلّ شأنه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. فها أنتُم قد امتَثَلتم أمرَ ربِّكم، وتَرَكتم المالَ والأهل والولَد، وقطَعتم الفيافيَ والقِفار والمفاوزَ والبحار، في صورةٍ فريدة ومشهدٍ مدهِش، يستوي فيه صغيرُكم وكبيركم، وغنيُّكم وفقيركم، وذكرُكم وأنثاكم، فاشكروا الله على التّيسير، واحمدوه على بلوغِ المقصد وتهيئَةِ هذا النّسك المبارك، وأَروا اللهَ من أنفسكم توحيدًا خالِصا خاليًا من الشوائب الشركيّة والنزعات البدعيّة؛ فإنَّ البيتَ الحرام لم يُبنَ إلا للتوحيد وإخلاص العبوديّة لله سبحانه، ولم يُبنَ للشرك ولا للابتِداع ولا للخرافة والدّجَل، بل إنّ الله سبحانه قد أمر خليلَه إبراهيم عليه السلام أن يؤسِّس البيتَ العتيق على التوحيد والعبوديّة لله وحدَه، فقال جلّ شأنه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26].
ولذا كان الفهمُ الصحيح للسَّلَف الصالح من الصحابةِ والتابعين وتابِعيهم أنَّ عَرَصاتِ المناسِك إنما هِي مَحالٌّ للتّضرّع إلى الله وإخلاصِ النّسك له وفقَ هديِ النبي ، فلم يكن لدَيهم لوثةُ التعلّق بالحجارة أو التبرّك بها أو قصدِ المزارات أو المشاهد أو القبورِ والدّعاء عندها؛ لأنهم يعلَمون علمَ اليقين أنّ النافع الضارّ هو الله سبحانه، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
ولِذا كان السّلف رحمهم الله لا يتبرَّكون بأحجارِ الكعبة ولا بِغيرها؛ لأنَّ النبيَّ لم يفعل ذلكَ، ولم يفعَله أصحابه رضوان الله عليهم، وإنما استَلَم الحجرَ الأسود وقبَّله ومسحَ بيده على الركن اليماني، ولم يستلِم بقيَّةَ أركان الكعبة، وقد أكَّد الخليفة الراشِد عمر بنُ الخطاب رضِي الله تعالى عنه ذلكَ بِقوله وهو واقفٌ أمامَ الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجَر لا تضرّ ولا تنفع، فلولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبِّلك ما قبَّلتك) [1].
حجاجَ بيت الله الحرام، إن هذا الاجتماعَ المبارك إبّان هذا النسك العظيم ليُعدّ فرصةً سانحة لاستشعار هذا التوافقِ الفريد واستلهامِ الحِكَم العظيمة التي شرِعَ الحجُّ لأجلها، ومن ذَلكم الاشتراكُ والمساواة بين كافّة الحجاج في متطلَّبات هذا النّسك، فليس للغِنَى ولا للنَّسَب ولا للرّياسَة فضلٌ أو استثناء، فالوقوف بعرفَة واحدٌ، والمبيت بالمزدلفةِ واحد، والجمرةُ ترمَى بسبع حصَيَات لكلِّ واحد، والطواف واحِد، والسعيُ واحد، فليسَ للغنيِّ أو الشريف أو الوزير أن ينقص جمرةً أو يسقِط وقوفا أو مبيتًا، الناس سواسيَة، لا فرق بين عربيّ ولا عجميّ ولا أبيض ولا أسودَ في هذا النسك إلا بالتّقوى.
فما أحرى حجّاج بيت الله الحرام وما أحرى المسلمين بعامّةٍ أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم، فإنَّ مثلَ ذلكم الاستشعار مِن أعظمِ الدّواعي إلى التَّآلف والتّكاتُف والرّحمة والشفقة والتواضُع والتعاون، لا شعارَات وطنيّة، ولا هتافات عصبية، ولا رايّات عبِّيَّة، إنما هي راية واحدة، هي راية: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
إنَّ الأمة بحاجةٍ ماسّة إلى استجلاب كلّ معاني الوحدةِ والتعاون والتّناصر على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، فلا يعتدِي أحدٌ على أحد، ولا يبغِي أحد على أحدٍ، بل يعيش المسلمون في سلامٍ حقيقيّ وتعاون قلبيّ، لا يمكن أن يكونَ له ظلّ في الواقع إلا من خلالِ الالتزام بشريعةِ الإسلام الخالدة التي أعزّ الله الأمّة بها.
فما أحوجَ الأمّة الإسلاميّة ـ وهي تكتوي بلهيبِ الصراعات الدموية والخلافات المنهجية ـ إلى الاقتباس من أسرارِ الحج؛ لتتخلَّصَ نفوس أبنائها من الأنانيّة والغلّ والحسَد، وترتَقي بهم إلى أفقِ الإسلام الواسع المبنيِّ على منهاجِ النبوّة، والدّافع لكل نِزاعٍ أو شقاق أو اختلاف،كيف لا والله جلّ وعلا يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]؟! إذًا لا مجالَ للتّفاخُر ولا للاختِلاف ولا للتّخَاذُل، وليس اختلافُ الألسِنَةِ والألوانِ والطّباع والبُلدان محلاًّ للشِّقاق والفرقةِ؛ لأنَّ الميزانَ عند الله واحد: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر فيه الحجر الأسود (1597)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعده.
وبَعد: فاتّقوا الله عبادَ الله.
واعلموا ـ حجّاجَ بيت الله ـ أنّه يُشرَع للحاجّ في اليوم الثامن من ذي الحجّة أن يحرِمَ بالحجّ إن كان متمتِّعًا، وإن كان مفردًا أو قارنا فهو لا يَزال في إحرامِه. ويُستحبّ للحاجّ في اليوم الثامن أيضا أن يتوجَّه إلى منى قبلَ الزوال، فيصلِّي بها الظهر والعصرَ والمغرب والعشاءَ والفجر قصرًا من دون جمعٍ، ما عدا الفجر والمغرب.
فإذا صلّى فجرَ يوم التاسِع وطلعتِ الشمس توجَّه إلى عرفَة وهو يلبِّي أو يكبِّر، فإذا زالتِ الشمس صلَّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرا بأذانٍ وإقامَتين، ثم يقِف بها، وعَرفة كلُّها موقِفٌ إلا بطنَ عُرَنَة، فيكثِر فيها من التهليلِ والتسبيح والدعاء والاستغفار، ويتأكَّد الإكثار من التهليل لأنَّه كلمةُ التوحيد الخالِصَة، فقد قال : ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ، وهوَ على كل شيء قدير)) [1].
فإذا غربتِ الشّمس أفاضَ الحاجّ من عَرفة إلى المزدلفة بسكينةٍ ووَقَار، فلا يزاحِم، ولا يؤذِي، ثم يصلِّي المغربَ والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان وإقامَتَين، ثمّ يبقى بها حتى طلوعِ الفجر، إلا الظّعن والضّعفة، فلهم أن ينصرِفوا منها بعدَ منتصف الليل.
فإذا صلّى الحاجّ الفجرَ بالمزدلفة وقَف عند المشعر الحرام، والمزدلفَة كلُّها موقف، فيدعُو الله طويلاً حتى يسفِر، ثم يسير إلى مِنى، فيرمي جمرةَ العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكّة، يرميها بسبعِ حصيَات صغيرات، يكبِّر مع كلّ حصاة، ثم ينحَر هديه إن كانَ متمتِّعا أو قارنا، ثم يحلِق ويحلّ من إحرامه، فيباح له كلُّ شيءٍ حَرُم عليه بسَبَب الإحرام إلا النساء، ويبقَى في حقِّ القارِن والمفرِد طوافُ الإفاضَة وسعيُ الحجّ إن لم يكن سَعَى مع طواف القدوم، وأمّا المتمتِّع فيبقَى عليه طوافٌ وسعي غير طوافِ العمرة وسعيها.
ثمّ بعد الطواف يحِلّ للحاج كلّ شيء حرُم عليه بسبَب الإحرام حتى النساء.
ولا يضرّ الحاجَّ ما قدَّم أو أخَّر من أفعال يومِ النحر؛ لأنَّ رسول الله ما سئِل عن شيءٍ قدِّم ولا أخِّر في ذلك اليومِ إلاّ قال: ((افعَل ولا حرج)) متفق عليه [2].
ثم يبيت الحاجّ بمنى أيّام التشريق وجوبًا لفعلِ النبيِّ ولِقوله: ((خذوا عني مناسككم)) متفق عليه [3] ، فيرمِي الجمراتِ في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالثَ عشَر إن لم يكن متعجِّلاً، كلّ جمرةٍ بسبع حصيَاتٍ، يبدأ بالجمرة الصّغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، ولا يكون الرميُ في هذه الأيّام إلاّ بعدَ الزّوال لفعلِه وأمره.
ومَن أراد أن يتعجَّل فليَرمِ بعدَ الزّوالِ مِن يوم الثاني عشر، ثم يخرُج من مِنى إلى مكة، ولا يضرُّه لو غَرَبت عليه الشّمسُ وهو لم يخرُج من منى، كما لا يضرُّه لو رمَى بعد مغربِ اليومِ الثاني عشَر وتعجَّل علَى الصحيحِ من أقوالِ أهل العلم، وهو الأولى بالإذنِ فيه من الإذنِ في الرميِ قبل الزوال؛ لورود النصّ في الرمي بعد الزوالِ وعَدَمِ ورودِ نصٍّ يجِب الرجوعُ إليه في النهيِ عن الرميِ بعد غروب الشمس من اليومِ الثاني عشر للمتعجِّل.
ثمّ يطوف بعدَ ذلك طوافَ الوَداع، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة رضي الله عنهما. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1503): "وجملة القول: إن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
[2] صحيح البخاري: كتاب العلم (83)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
(1/4525)
الإسلام هو الحل
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
13/12/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة شوق ثوبان للرسول. 2- حال إخواننا الأسرى في فلسطين. 3- تخاذل الحكومات الإسلامية عن نصرة الأقصى. 4- من أسباب النصر. 5- موقف عظيم يعبر عن سماحة الإسلام وعدله وأهله. 6- المستقبل للإسلام وأهله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا قول رسول الله : ((تأتي على أمتي أيامٌ القابضُ فيها على دينه كالقابض على جمر، وتأتي على أمتي أيام يقف الحيّ على قبر الميت ويقول له: يا ليتني مكانك، وتأتي على أمتي أيام يحبون خمسا وينسون خمسا، يحبون المخلوق وينسون الخالق، يحبون المال وينسون الحساب، يحبون القصور وينسون القبور، ويحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون الذنوب وينسون التوبة)).
صدقت يا سيدي يا رسول الله، وكأنك تعيش بين ظهرانينا. صدقت يا من كنت تستشفّ الحجب، فنحن في هذه الأيام كالقابض على جمر النار، ونحن في هذه الأيام يقف أحدنا على قبر الميت فيحسد الميت على الموت.
عباد الله، الصحابي الجليل ثوبان خادم الرسول دخل عليه الرسول ذات يوم فوجده يبكي وتسيل الدموع بغزارة، فسأله: ((ما يبكيك يا ثوبان؟)) أتدرون ممَّ يبكي يا عباد الله؟! إنه لا يبكي لأنّ به وجعًا، ولا يبكي لأن ماله قليل، لا يبكي على منصب من مناصبها الفانية، إذًا فما يبكيك يا ثوبان؟! اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ الإجابة، وفي الإجابة عجب، يقول: يا رسول الله، أبكي لأنك إذا غبتَ عني اشتقتُ إليك، فإذا تذكرتُ الآخرة وأنك ستكون في أعلى درجات الجنة ولن أراك فيها ازداد بكائي شوقًا إليك يا حبيب الله. إنه الشوق وأيّ شوق؟! شوق الحبيب إلى الحبيب، إنه الحبيب إنه القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، ليس لنا أسوة حسنة سواه.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ كيف اشتاقت النفوس لرؤياه، وكيف ابتهجت الأرواح بنور محياه، كان حبيب الفقراء، وكان جليس المساكين، ما استراح إلا عندما يجلس مع الفقراء، وما اطمئنّ إلا عندما يخالط المساكين.
عباد الله، هذا الصحابي الجليل ثوبان تذكّر أن هناك آخرة، وأن المصطفى سينال الفردوس الأعلى وسيصيب أعلى درجات الجنان، وأن الفرق سيكون بعيدًا وأنّ البون سيكون شاسعًا، فازداد بكاؤه شوقًا لرسول الله، فبماذا أجاب الرسول ثوبان؟! نزل الأمين جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
عباد الله، نحن هنا في فلسطين أرض الرباط، وفي بيت المقدس جوهرة ودرّة الأرض المباركة، إذا عدنا إلى الله وسرنا على منهج رسول الله واستقامت نفوسنا فسوف ننعم بحياة طيبة، وسوف تزول الغمة، وسوف يزول الاحتلال، وتعود البسمة على وجوه الأطفال والشيوخ والنساء، لن يبقى في سجون الاحتلال أحد من الشرفاء، أسرانا يعيشون حياة صعبة وأمتنا لاهية، أسرانا يعيشون مرارة العيش وأمتنا نائمة، اللهم فرج كربهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وأطلق سراحهم، وتولّ أمرهم، وردهم إلينا سالمين غانمين مطمئنين يا رب العالمين.
لماذا تعاملون أسرانا بهذه المعاملة؟! تعلّموا من الإسلام كيفية المعاملة، وصدق الشاعر بقوله:
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا على الأسرى نَمنّ ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل وعاء بالذي فيه يرشح
عباد الله، نحن ـ وبحمد الله تعالى ـ أمة إسلامية، ولن نرضى بالظلم، فديننا يحرّم علينا أن نظلم، وبنفس الوقت فلا نقبل بالمذلة والمهانة مهما كلّف الثمن، أعداء الإسلام في هذه الأيام يستحلّون دماء المسلمين، ويستبيحون أعراضهم، لماذا أصبحنا لقمة سائغة على موائد اللئام؟! المسلمون يحارَبون في كل مكان، وحكام الأمة قبِلوا بالذل والهوان؛ تركوا أطفال الأمة يحملون أرواحهم على أكفِّهم يقتَلون بين الحين والحين وهم يلهثون وراء سلام الشجعان أو سلام السّراب أو سراب السلام، السلام الذي يوقّع عليه رؤساؤهم وهم يقولون: نحن قادمون من القدس العاصمة التاريخية للشعب اليهودي.
عباد الله، أين أمتنا اليوم من السير على المنهج السليم الذي يؤدي إلى النصر؟! أين أمتنا من مواقف العلماء الأجلاء الذين عملوا لنهضة الأمة وعزتها؟! لماذا أصبحنا اليوم نتصارع على السلطة والحكم ونسينا كل شيء؟! نسينا الاحتلال والقتل والتشريد والتعذيب، لماذا تفرقت أمتنا وخاصة هنا في أرضنا المباركة؟! ألم نتعلم طوال هذا الزمن الطويل من الاحتلال أن الفرقة والاقتتال لن يؤدّوا إلا إلى الضعف والانحلال والهزيمة؟! فكفانا مضيعة للوقت، استيقظوا يا أمة محمد ، استيقظوا يا أمة الإسلام، أهل الكفر يخططون ونحن غافلون.
يا من يرى ما فِي الضمير ويسمع أنت الْمُعَدّ لكل ما يُتَوقَّع
يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه فِي قول كن امنن فإن الخير عندك أجْمع
ما لِي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لِي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأيّ باب أقرع؟!
من ذا الذي أدعو وأهتف باسْمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لِجودك أن تقنط عاصيًا الفضل أجزل والمواهب أوسع
عباد الله، نحن في عصر كثرت فيه الفتن التي تذر الحليم حيران، وليس لنا إلا مخرج واحد هو الرجوع إلى الإسلام، إلى القرآن دستور هذه الأمة ومنهاجها الرباني. علينا أن نعود إليه ونتّبع هداه، أن نعمل بما فيه وأن نحكم بما أنزل الله فيه.
عباد الله، نزل القرآن ليحكم الأحياء، لا ليقرأ على الأموات، القرآن نزل ليطبق في المحاكم، لا ليتلى في المآتم، لنتدبر آياته ونحسن فقهه وتطبيقه ونجعله خلُقا لنا، كما وصِف النبي بأن خلقه القرآن، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
عباد الله، إن رجلا أجنبيا درس الإسلام فأعجب به وأعجب بتعاليمه، فقال كلمة يجب أن نحفظها ونرويها؛ لأنها تقطع القلوب، ماذا قال؟ قال: "ما أعظمه من دين لو كان له رجال". دين عظيم ولكنه بحاجة إلى رجال عظماء، دين قوي ولكنه بحاجة إلى رجال أقوياء.
فيا أيها المسلمون، لا عزة لنا إلا بالإسلام، ولا نصر لنا إلا بالإسلام، ولا رفعة لنا إلا بقيام دولة الإسلام. فاعملوا ـ يا عباد الله ـ جاهدين لإقامتها، والله لن تقوم لكم قائمة إلا بها، لن يعيش المسلمون حياة طيبة إلا في ظل دولة الإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، انظروا إلى هذا الموقف الذي يعبر عن سماحة الإسلام وعدله وأهله، لما وقف علي كرّم الله وجهه أمام خصم يهودي، وكان القاضي عمر ، وما أعظم وأجمل المحكمة إذا كان قاضيها عمر الذي لقبه رسولنا بالفاروق؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، محكمة قاضيها عمر ليست كمحاكم الظلم والفساد والاستبداد، ليست كمحاكم أمريكا وبريطانيا وإسبانيا والتي لا تعرف للعدالة معنى ولا للإنسانية مغزى، محكمة عمر ليست كمحاكم الإرهاب في هذه الأيام؛ تبرئ القاتل وتوقع الجرم على المقتول، وتتسلّط على رقاب العباد وتنتهك حرمات البلاد.
عباد الله، ويفتح عمر مجلس القضاء وينادي على علي، فقال: تعال يا أبا الحسن، ونادى على اليهودي باسمه، وبعد أن أصدر عمر حكمه وجد عليّا حزينا، فسأله الفاروق: ما يحزنك يا أبا الحسن؟! فقال له: يا أمير المؤمنين، حزنت منك لأنك لم تسوّ بيني وبين اليهودي؛ ناديتني بكنيتي وفي الكنية تكريم لصاحبها، وناديت اليهودي باسمه، فكرمتني ولم تكرم اليهودي، وكان عليك أن تسوّي بيننا في المناداة.
عباد الله، هل سمعتم مثل هذا الكلام يا عباد الله؟! فلا تعجبوا، تلك هي عدالة الإسلام. فبالله عليكم، هل يوجد في محاكم أعدائكم مثل هذا؟! أين القضاة والحكام ليتعلموا شيئا من أحكام الإسلام وعدالته في المعاملة بين أفراد المجتمع؟!
عباد الله، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين عمر كان يحاسب الأمراء والوزراء والولاة، وأما اليوم فلا رقيب ولا حسيب. ولنتذكر جميعا أننا سنقف بين يدي الله في يوم عصيب رهيب، في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، في ذلك اليوم سوف يحاسب الله الذين سرقوا ونهبوا وسلبوا، وسوف يحاسب الذين هتكوا الأعراض وأفسدوا العباد وباعوا البلاد، أولئك الذين دمّروا القيم والأخلاق وأحلّوا قومهم دار البوار، وقتلوا المؤمنين والمؤمنات وخانوا الله ورسوله، وفارقوا جماعة المسلمين.
عباد الله، نحن في عصر كما قال الشاعر عنه:
جهرا قفا نبكي على عصرنا قربه من وقت الواقعة
كم بدعة فيه وكم مِحنة شنيعة شائعة ذائعة
عقول بعض الناس فيه لقد ضلت وأضحت منهم والعة
والنار لما رأتهم كذا أفعالُهم من ثديها راضعة
حنت لهم قالت أنا أمكم أنا التِي فِي آخر القارعة
عباد الله، لا يزال الخير في هذه الأمة، وأمتنا قادرة إن شاء الله على تجاوز المحن والشدائد مهما اشتد الظلام، فلا بد من طلوع الفجر، وسوف تتوحد الأمة وتقف صفًا واحدًا أمام أعدائها، فقد بشرنا رسولنا الأكرم بفتح روما، وسوف يكون ذلك قريبًا إن شاء الله، وجيوش دول الكفر سوف تهزَم كما هزموا من قبل، وقد سئل رسولنا : أيّ المدينتَين تفتح أولا: قسطنطينية أم رومية؟ فقال: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) ، يعني القسطنطينية.
وأنتم تعلمون ـ يا عباد الله ـ أن الذي فتحها ذلك الشاب المؤمن التركي العثماني ابن الثالثة والعشرين، الذي لقب في التاريخ باسم محمد الفاتح، الذي قرأ حديث رسول الله : ((لتفتحنّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)). فما زال هذا القائد العظيم الملهَم يدبر ويخطط حتى أذن الله أن يكون له هذا الشرف العظيم، الذي يسعى إليه الكثيرون ولم يدركوه. هذا القائد المجاهد الذي حقق أمنية المسلمين منذ صدر الإسلام رغم ضخامة الموانع وقوة الحواجز وقلة العتاد.
عباد الله، فتحت القسطنطينية وبقي أن تفتح رومية، ولا بد أن يدخل الإسلام إلى أوروبا من جديد، لا بد أن ينتصر الإسلام إذا قمنا بحقه، إذا كنا نحن صورة طيبة للإسلام، واستطعنا أن نقدمه لغيرنا حتى يرى في الإسلام ما يهديه من الضلال وما يؤمّنه من الخوف وما يسعده من الشقاء.
(1/4526)
مقاصد الحج
فقه
الحج والعمرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
13/12/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أجواء الحج. 2- الثبات بعد الحج. 3- حاجة الأمة إلى الوحدة. 4- مقاصد خطبة الوداع. 5- مشقة الحج. 6- كلمة عن حادث التزاحم في اليوم الثاني عشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا حجاج بيت الله الحرام، ويا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه ومراقبته في السر والعلن والخلوة والجلوة، فافعلوا الخيرات، واجتنبوا السيئات، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
حجَّاجَ بيت الله الحرام، إنّ هذا اليومَ هو آخر أيّام التشريق في الحجّ، والذي ترمَى فيه الجمراتُ للمتأخِّرين، ثم ينفِرون بعد ذلك من منًى متمِّمين ما بقيَ لهم من النسك، بعد أن عاشوا أجواء روحانيّة واستنشَقوا نسماتٍ إيمانيّةً جعلتهم إلى الله أقرَبَ ومن معصيته أبعد، لقد أحسّوا أنفاسَ الأخوَّة، ووجدوا ريحَ الوحدَة والعدل والمساواة، ولقد وقف مئاتُ الألوف بمئاتِ اللّغات على صعيدٍ واحد، يدعون ربًّا واحدًا، ويتّبعون نبيًّا واحدا، كلٌّ منهم قد ناجى ربَّه ومولاه بلغاتٍ مختلفة، لا تشغَلُه لغةٌ عن لغة، ولا لِسان عن لسان، ولا دعاءٌ عن دعاء، يجيب دعوةَ هذا، ويغفِر زلّةَ ذاك، ويرَى دمعةَ هذا، ويسمَع أنينَ ذاك، فلا إلهَ إلا الله، إنّه بهذهِ الجموع يُذكون في النفس استشعارَ مشاهد القيامةِ، حينما يجمَع الله الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحد، حفاةً عراة غُرلاً، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
ألا إنَّ من خاف مشاهدَ المحشرِ فلن يغلِبَه الأشرُ ولا البَطَر، وسينطلِق بالطاعة والتوبةِ لينقذَ نفسه من سقَر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:27-30].
حجّاجَ بيت الله الحرَام، ها هي أعمالُ الحج أوشكَت على الانصرامِ، فما أنتم فاعلون؟! أتَكون التوبَة النصوح والعملُ الصالح والاستقامة على طاعةِ الله بعد الحجّ هي النبراسَ لكم فيما بقي لكم من أعمار، أم هو التساهُل والتخاذل والتدابُر والتفريط في جنب الله؟! أهُو إتباع السيئة الحسَنَة أم إتباع الحسنات السيئات؟! ألا إنّ من علامات قبول العمل أن يواصلَ المرءُ الطاعةَ بالطاعة، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
أيّها المسلمون، إنّ علينا جميعا أن ننقلَ ما شاهدناه في مناسك الحجّ من مشاعر الوحدة والتلاحم والتآخي والعدل والمساواة إلى واقعِنا اليوميّ وميداننا العملي، فما الحجُّ إلا نقطةُ انطلاقةٍ لترجمانِ حِكَمِه بين المسلمين في شَتى الأقطار. إنّه ينبغي لكل حاج أن يرجعَ إلى قومه وهو يحمِل في نفسه معنى الوحدةِ وحاجة الأمة إليها، وأنّ هذه الوحدَة لا يمكن أن تتحقَّق في أرضِ الواقع على اختلافٍ في مصادِر التلقّي، ما لم يكن المصدَر واحدًا وهو كتاب الله وسنّة رسوله.
ألا ترونَ ـ يا رعاكم الله ـ أنّه يحرُمُ مِن الرضاعة ما يحرم من النّسب؟! وأي رضاع أنشز للمحبة والإلفة من رضاعِ المعاني الإسلامية السامية؟! إنّنا بهذه العبارات لا نلتَمِس من المسلمين أن يكونَ مالك الأمر فيهم جميعًا شخصًا واحدًا وسلطانا متفرِّدًا، فإن هذا من العسر بمكان، ولكنهم غيرُ عاجزين عن أن يكونَ الوحي هو سلطانهم جميعًا، وهو الكتاب والسنّة.
إذا كان الأمر كذلك ـ عبادَ الله ـ فإنَّ البكاءَ لا يحيِي الميِّت، والأسفَ لا يردّ الفائت، والحزنَ لا يدفع المصيبةَ، بل إنّ العمل مفتاحُ النجاح، والصدقَ والإخلاصَ مع متابعةِ الرسول سُلَّم الفلاح. إنّه لا مناصَ مِن الوحدةِ في الدين والمصدر إن رُمنَا صحوةً من سبات، وعلينا أن ندركَ جميعًا أن الظلَّ لن يستقيمَ والعود أعوَج، ولن يرضى بالعوجِ إلاّ من جعل الله نفسه ممن كَرهَ اللهُ انْبِعاثَهُم فَثبَّطَهُم وَقِيل: اقعُدُوا مَع القاعِدين.
ثم اعلموا ـ حجّاجَ بيتِ الله الحرام ـ أنّ الحج يذكِّرنا بخطبةِ الوداع الشهيرةِ التي ألقَاها النبيّ على مسامِعِ الحجيج، وأشهَدَهم عليها، والتي أكَّد فيها صلواتُ الله وسلامه عليه على حفظِ الضروراتِ الخمس وهي الدين والعقل والنفسُ والمال والعرض، فقد قال صلواتُ الله وسلامه عليه في الخطبة عن حفظ الدين: ((وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب الله)) ، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ العقل: ((ألا إن كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع)) ، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ النفس والمال: ((إن دماءكم وأموالكم حرم عليكم)) ، وقال أيضًا: ((ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أوّل دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، كان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هُذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلِّب، فإنّه موضوع كلّه)) ، وقال صلواتُ الله وسلامه عليه عن حفظ العرض في تلكم الخطبة: ((فاتَّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإنّ لكم عليهن أن يوطئن فرُشَكم أحدًا تكرهونه)).
ألا فاتّقوا الله حجاج بيتِ الله الحرام، وأَروا الله من أنفسكم توبةً نصوحا واستقامةً وثباتًا على دينه، وارجِعوا إلى أوطانكم قدوةً صالحة للأهلِ والأولاد والمجتمعات، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كن غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا اللهَ حجّاجَ بيت الله الحرام، واعلموا أنّه قد اجتَمَع في نسُكِكم هذا مشقَّتان: أولاهما: مشقّةُ السّفر، والسفر قطعةٌ من العذاب كما صحَّ عن النبيِّ ، والأخرى مشقّة أنساكِ الحجّ المبنيَّة على اجتنابِ الترفُّه ومحظوراتِ الإحرام، وهذا جانبٌ من النصب والتعَب يعظُم من خلالِه الأجر كما قال ذلك النبيّ لعائشةَ رضي الله تعالى عنها. يُضاف إلى ذلكم أنه مظِنّة للتزاحُمِ والتدافع والعَجَلة والإرباك الذي سيخلِّف بداهةً شيئًا من الضرَر بين تلكُم الجموع الغفيرةِ التي تتقاطَر إلى رمي الجمار، وهي أحواض صغيرةٌ لا تعَدّ شيئًا في مقابلِ هذه الجموعِ المتزاحمة والأوقات الضيّقَة.
وإنَّ ما وقع من وفياتٍ نتيجةَ التدافع بالأمس إنما هو بسبَبِ العَجَلَة والمزاحمة والتفريطِ في الرفقِ والسكينة التي أمِرَ بها الحاجُّ شرعًا، وأخذ السّعَة فيما فيه سعَة، وإلا فإنّ مَن قضَوا نحبَهم بالأمسِ نحسبهم على خاتمةِ خيرٍ، والله حسيبُهم، ولا نزكّيهم على الله، فاللّهمّ ارحمهم، وارفع درجاتهم في المهديّين، واجبُر مصابَنا ومصابَ ذويهم، ولا تفتِنّا بعدَهم، ولا تحرِمنا أجرهم، واغفِر لنا ولهم. ألا إنّه الأجلُ المحتوم؛ إذ لا يغني حذَرٌ من قدر، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً [آل عمران:145].
وحنَانَينا عبادَ الله، فإنَّ بعضَ الشرّ أهونُ من بَعض، فما نِسبَةُ الوَفياتِ في مقابِل من سلِم وأدّى نسكَه وقضى تفثه؟! ولو نظَرنا بعينِ النِّسبة من خلال مليونَين ونصفِ المليون من الحجّاج لوجدنا أنَّ نسبةَ موتى الجمرات من كلِّ مائِة ألف أربعةَ عشرَ مَيتًا، وهذا لا يُعَدّ نسبةً ضخمة في الأعرافِ العالميّة من خلالِ ما يُسَمّى بحسابِ الاحتمالات، لا سيّما في تِلكمُ الأماكن المكتضّة بالأنفس، ولعلّ مثلَ هذه الأحداث تستدعي شحذَ الهمَم في نفوسِ من يقصدون نسكَ الحجّ بأن يتعلّموا آدابه وأحكامَه، ويتعرّفوا على أماكنِه وعرَصَاته وكيفية التعامل معها، وهذا أمرٌ ملقًى على عاتقِ المؤسّسات والبعثات ذات الاختصاص في بلدِ الحاج، إضافةً إلى ما تقوم به جهاتُ الاختصاصِ الأخرى في توعيةِ الحجّاج إبّان الحج نفسه، كما يجِب أن يراعَى في ذلك كلّه أهميّة اجتماعِ النواحي الشرعية والتنظيميّة والتطبيقية والهندسيّة، فالتنظيم وحده لا يكفِي، والفتوى وحدها لا تكفي، والتمامُ كلّ التمام في اجتماع تلك النواحي في بوتقةِ الالتزام بالنصّ في النّسُك مع مراعاةِ جوانب التيسير ورفع الحرَج، مع التفريق الواضِح بين ما هو واجب وما ليس بواجب.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4527)
استدامة الطاعات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأعمال
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
20/12/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مدرسة الحج. 2- التحذير من الأهواء المضلة. 3- أهمية الاقتداء بالسلف الصالح. 4- الوصية بذكر الله تعالى في نهاية الحج. 5- عوامل الثبات. 6- التأدّب مع الله تعالى. 7- أوصاف المؤمنين. 8- استنكار ما وقع من السخرية بالنبي في بعض الصحف الغربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، لا تغرّنّكم الآمال الطِّوال، ولا تنسوا قربَ الآجال، فكم من مؤمِّلٍ أملاً لا يدركه، وكم من مصبحٍ في يومٍ لا يدرك غروب شمسه، ومُمسٍ في ليلٍ لا يدرك الصباح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
أيها المسلمون، حُجّاجَ بيت الله الحرام، الحجُّ مدرسَةٌ للحياة، مِنه يستمِدّ المسلِم منهجَ حياته، موفَّقًا للهُدى، ثابتًا على الصراطِ المستقيم، قد تعلّم الحاجُّ من نسكِه كيف يسير على شرعِ الله في انضباطٍ تامّ في الأوقاتِ والمواقيت والأزمانِ والأماكِن، شعائرُ محدّدةٌ مرتبِطة بمشاعرَ محدودة على هيئةٍ مشروعة، فيعود المسلم في سَفح دنياه وغَدُه خير من أمسِه، سائرًا على هديِ خالقه، ممتثلا قولَ ربِّه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]؛ فيعظم حرصه على اتِّباع السنة، والتزامُه نورَ الوحيَين، وقد قال النبي : ((تركتُ فيكم ما إن تمّسكتم به لن تضلّوا: كتاب اللهِ وسنّتي)).
وكما أنَّ الشهواتِ تهدم الديانةَ فإنَّ الأهواء لتتخطَّف العقول، ومن أراد النجاةَ فليلزَم صراطَ الله، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
ويندرِج تحتَ هذا الأصلِ الاقتداءُ بسلفِ الأمّة الصالحين الذين صحِبوا النبيَّ ، وشهِدوا تنَزُّلَ الوحي، اتِّباعٌ بلا تزيُّد في الدين، ولا تنقّصٍ في الشريعة، وقد روى الإمام أحمد وأبو داودَ والترمذيّ بسند صحيح أنّ النبيَّ قال: ((عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجِذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). ومنه تعلمون ـ يا رعاكم الله ـ حاجتَنا في الثبات على دين الله إلى لزومِ الكتاب والسنة واجتنابِ البدع والمحدثات.
وفي خَتم الحج بالوصيّة بذكر الله في قولِه عزّ وجلّ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200] فيه إشارة إلى استدامة الطاعة والثبات عليها؛ إذِ الذكر من وسائلِ الثبات كما في قولِ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، ومن كان ذكر الله في قلبه دائمًا فلن يفتُر لسانُه عن اللَّهَج بذكرِه، ولن تقترِفَ جوارحه منكرًا، ولن يكسَل عن طاعةٍ وعبادَة.
أيّها المسلمون، إنَّ استدامةَ الطاعات من عواملِ الثبات، وقد قال الحقّ سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]. فهذه أربعةُ أمور تنتُج عن الطاعةِ: الخيريّة والثباتُ والأجر والهِداية. أمّا الثواب والجزاءُ فاسمع قولَ الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
عبادَ الله، إنَّ مَن حجَّ واعتمر فقد ازدادَ مِن الله قربًا، وتقرَّب إليه زُلفى، والمقرَّبون هم أولى الناسِ بالتأدُّب مع الله جلّ في علاه، يحدُوهم الرجاءُ في الازديادِ من الطاعة، ويمنَعهم الحياءُ من التلطُّخ بشيءٍ من المعاصي بعد أن أكرَم الله وِفادَتهم وغفَر ذنوبهم وأتمَّ مناسكَهم.
وإنَّ الإيمانَ ليَزيد بالطاعةِ وينمو ويعظُم، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وفي سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. فانظر إلى اقترانِ الذِّكر بالعملِ والترقّي في درجاتِ الإيمان. ومَن مَنَّ لله عليه بطاعة وقربةٍ فليزدَد من الله قُربى حتّى يكونَ منتهاه الجنّة. وإنَّ الفوزَ والفلاح مرتَبِطٌ بتحقُّق شروطِه والمداومة عليها.
بسم الله الرحمن الرحيم، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11]
هذه أوصاف المؤمنين؛ محافظةٌ على الصلواتِ في أوقاتها، وعنايةٌ بخشوعِها وخضوعها، وإتمامُ أركانِها وواجباتِها، والاطمِئنان فيها، فالصّلاة عِماد الدّين، ولا حظَّ في الإسلامِ لمن ضيَّع الصلاةَ. أمّا الزكاةُ فهي قرينةُ الصلاة، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. كما أنَّ مِن علاماتِ الإيمان الابتعادَ عن اللّغو وهو كلُّ مَا لا نفعَ فيه، فلا يسمَع إلاّ المباحَ، ولا يَقول إلاّ ما يرضِي الله، ولا ينظر إلاّ لما أحلَّه، ولا يفعَل إلاّ ما أباحَه. أمّا العِفّة والعفافُ والسِّتر والاحتشام فعُنوان صلاحِ المؤمن، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.
روى الترمذيّ والنسائيّ والحاكم أنّ النبيَّ قال: ((أنزِلَ عليَّ عشرُ آيات، من أقامَهنّ دخل الجنة)) ، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشرَ آيات.
هذه بعضُ الوصايَا أيّها المسلمون، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
اللهم وفّقنا للصالحات، وثبِّتنا على الحقِّ والهدى حتى نلقاك. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الطول الإنعام والفضلِ والإحسان، أنعم علينا ببعثة سيِّد الأنام، وجعلنا من أهل الإسلام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه، هدانا الله به من الضلالة، وبصّرنا به من العمى، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيّها المسلمون، إنَّ مِن المتقرِّر أنَّ رسولَ الله محمّدًا خاتم الأنبياءِ وأفضلُ الرسل وأزكَى البشر، وأنَّ حرمتَه أعظم الحرمات، وأنَّ محبّتَه دينٌ وانتقاصَه كفر، ومن تعرّض له بسوءٍ فدمُه هَدر، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]. ومِن أعظم الأذَى الاستهزاءُ به والسّخرِيّة منه وتنقُّصُه بأيِّ أسلوبٍ وأيّ طريقَة.
ومع أنَّ مِن أركان الإيمان لدينا نحن المسلمين الإيمان بالرّسُل جميعا المقتضِي محبّتَهم وتوقيرَهم واحترامهم إلاّ أن حِقدَ الكافرين وضلال الضالين يأبى إلا أن ينفثَ سمومَه ما بين فينةٍ وأخرى عبرَ وسائلَ إعلامية في بلادٍ تدَّعي العدالةَ واحترام الأديان وحرّيّةَ التّديّن، قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. لم يوقِّروا ربَّ العالمين حين جعَلوا له الصاحبةَ والولَد، ولم يقدُروا الله حقَّ قدرِه حين نسبوا له الخطأَ والندم، وألصَقوا بأنبيائِه التُّهَم، وها هم يتطاوَلون على جنابِ المصطفى بطريقةٍ تؤجِّج الفتَنَ، وتزرَع الكراهيةَ، وتنمّي الأحقادَ، وتذكي العداءَ بين الشعوب، وتبرّر لردودِ أفعالٍ تجني منها الأمم القَلَق والعذابَ. ولئن لم يأخُذ عقلاؤهم على أيدي سفهائِهم ولئن لم يحترِموا مشاعر المسلمين ويكفُّوا ألسنَتَهم وأقلامهم فإنَّ العواقبَ وخيمة، والعالَم اليوم ليس بحاجة لمزيدِ احتقان وتوتّر، وجنابُ رسول الله فوق كلّ جَناب، وكرامته فوق كلّ كرامة، وحرمتُه فوق حرمةِ الناس، وما من مسلم إلا ويفدِيه بكلّ ما لديه وبروحِه التي بين جنبيه.
وعلى وسائل الإعلام وأربابِ الفكر والأقلام من المسلِمين أن يقوموا بواجِبِهم تجاه هذه القضية.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمدكما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4528)
حادثة القصيم
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فضائل الأزمنة والأمكنة
إبراهيم بن عبيد القعود
حائل
28/11/1426
جامع الحوطي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطلب الأمن. 2- نعمة الأمن في بلاد الحرمين. 3- استنكار جريمة قتل رجال الأمن. 4- حرمة دم المسلم. 5- وعيد القاتل بغير حق. 6- فضل أيام عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتقوا الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، فمن المطالب المهمة التي تهنأ وتحلو وتلذّ بها الحياة مطلب الأمن؛ إذ لا حياة هانئة بدون أمن، كيف يهنأ الإنسان في حياته وهو غير آمن؟! إذا كان الخوف يحيط به من كل جانب فإنه لا لذّة لما توفّر له من طعام وشراب ولباس ومأوى ومركب، فقدُ الأمنِ سوف ينغّص وينكّد عليه حياته.
فالأمن مطلب مهمّ، وإذا ضاع أو فقِد حلّ مكانه الخوف، عندها لن يهنأ بطعام ولا بشراب، ولن يذوق طعما لغذاء ولا لذة لمنام، ولن يطمئن بمكان؛ ولذلك لما دعا الخليل إبراهيم عليه السلام ربّه ماذا قال؟ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. تأمّلوا هذه الدعوة الكريمة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ ، دعا بتوفير الأمن قبل توفير الرزق، وذلك لأهمّيته، فلن تهنأ بطعامك وشرابك ومنامك وأنت في حالة خوف.
الأمن ـ أيها الأحبة ـ نعمة من أعظم النعم، والدليل على ذلك أن الله جل جلاله لما ذكّر قريشا بنعمة ذكّرهم بنعمة الأمن: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4].
فنعمة الأمن لا يعدلها نعمة من نعم الدنيا، يقول النبي : ((من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
أيها الإخوة المؤمنون، وقد أنعم الله عز وجل علينا في بلادنا بهذه النعمة العظيمة، ولا شك أن لها أسبابًا، ومن هذه الأسباب وجود رجال الأمن الأوفياء العيون الساهرة التي تسعى وتعمل من أجل حفظ أمننا. ننام ـ أيها الإخوة ـ ونحن آمنون على أعراضنا، آمنون على أموالنا، آمنون على دمائنا، وهم يسهرون الليل، لا يمنعهم برد، ولا يردّهم جوع. إن من واجب هؤلاء علينا أن لا نفتر عن الدعاء لهم، وأن نكون عونا لهم على تأدية واجبهم. وقد ساءنا ـ والله ـ ما حدث لبعضهم يوم الثلاثاء الماضي في منطقة القصيم، حيث قتل خمسة رجال منهم، خرجوا من بيوتهم ومن بين أطفالهم لتأدية واجبهم، وعادوا جثَثا هامدة، وما نقموا منهم إلا أنهم يعملون على حفظ أمن هذه البلاد الطاهرة.
أيها الإخوة، إن تلك اليد الآثمة التي نالت من رجال أمننا ليد خبيثة ظالمة، يد مجرمة آثمة، يدفعها فكر منحرِف، وما قامت به وأقدمت عليه لشرّ نعوذ بالله من سوء عواقبه. سئل سماحة المفتي عن الذين يقتلون رجال الأمن فقال: "رجال الأمن مجاهدون، ومن قتلهم بغير حقّ دخل دائرة الكفر".
إنها جريمة نكراء، إذا كان قتل المسلم ذنبا عظيما فكيف بقتل خمسة من رجال الأمن المجاهدين الذين تركوا أطفالهم ونساءهم ليحفظوا أمن بلادهم؟! ومتى؟! في الشهر الحرام الذي لا يجوز قتل المشرك فيه ما لم يبتدئ هو أولا بالقتل، فكيف بمسلم يعمل على حفظ أمن بلاده وإخوانه؟! يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أي: يتعمد قتله من غير مسوّغ شرعي، إنما قتله لحاجه في نفسه، كان قتله له هدفا سواء طعنه أو دهسه، سواء رماه أو فجّره، المهمّ أنه صار سببا في إنهاء حياته، فما هو ـ يا ترى ـ جزاؤه؟! ما هي عقوبته؟! قال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ، جهنم فقط؟ لا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
فقتل المسلم من غير مسوغ شرعي ذنب عظيم وجرم كبير، لا يحل ولا يجوز أبدا، يقول النبي : ((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها)). فما هو ـ ترى ـ ذنب رجال أمننا حتى يقتل خمسة منهم؟!
أيها الإخوة المؤمنون، لقد توعّد الله عز وجل من قتل نفسا بغير حقّ بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وليس بعد الشرك ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
قال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ولا يقتل بعضكم بعضا وأنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد".
وقال عز وجل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دنيه ما لم يصب دما حراما)) ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار، وبمن جعل مع الله إلها آخر، وبمن قتل نفسا بغير نفس، فينطوي عليهم، فيقذفهم في غمرات جهنم)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن قتل الأنفس البريئة وسفك الدماء المعصومة عند الله عز وجل لأمر عظيم، ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) ، وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره: ((ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ ، ويلكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) ، وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمدا أو الرجل يموت كافرا)).
عباد الله، فهل بعد هذه النصوص متعلّق لأحد؟! هل بعد هذه النصوص مجال لعذر لهؤلاء الحقدة الخونة القتلة؟! لا والله، ولكن كما قال تبارك وتعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعضيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أيها الإخوة المؤمنون، تعلمون ـ رحمني الله وإياكم ـ بأننا في هذه الأيام نستقبل شهر ذي الحجة، وهذا يجعلنا نذكّر بأمور، منها على سبيل الاختصار:
أوّلا: الحجّ إلى بيت الله الحرام: فالحج ركن من أركان الإسلام، لا يكمل إسلام الإنسان المستطيع إلا إذا قام به مع بقية الأركان، يقول تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. فعلى المستطيع الذي يملك زادا وراحلة أن يبادر في تأدية فريضة حجه، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ.
ثانيا: أيها الإخوة، الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، فإنها أيام لها فضل عظيم، أقسم الله بها لفضلها فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وذكر النبي أن العمل فيها ليس كالعمل في غيرها، فقال : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال : ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
فالله الله أخي المسلم، أكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام، ومن هذه الأعمال الصيام، فما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا، فصم ـ يا عبد الله ـ ما يتيسّر لك من هذه الأيام، وإن غلبتك نفسك على ترك الصيام خلال هذه الأيام التسع فلا تغلبك على يوم عرفة اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فإن صيامه يكفر سنتين: سنة قبله وأخرى مثلها بعده، بذلك أخبر النبي فقال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)).
ثالثا: أيها الإخوة، أذكر من أراد أن يضحي في هذا العام، وأنتم إن شاء الله كذلك، أذكره بأن عليه أن يحرم إحرام الأضحية، فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا منذ دخول الشهر حتى يذبح أضحيته، هذا هو هدي النبي ، ففي الحديث يقول: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) ، وفي رواية: ((فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي)).
أسأل الله لي ولكم الفقه في الدين والتمسك بالكتاب المبين والاقتداء بسيد المرسلين والسير على نهج أسلافنا الصالحين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللّهمّ احم حوزة الدين، اللهم واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...
(1/4529)
دروس من الهجرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
رياض بن محمد المسيميري
الرياض
جامع التركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآثار المترتبة على هجرته. 2- الأمر بالهجرة. 3- دروس وعبر مستفادة من حادثة الهجرة. 4- المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيّها المسلمون، فمعِ حلولِ العامِ الهجري الجديد تمضي بنا الذكرياتُ إلى الوراءِ شيئًا ما, مخترقةً حواجزَ الزمان, لتقفَ بنا على مشارفِ مكة, وهي تشهدُ هجرةَ النبيِ وأصحابهِ إلى المدينة. تلك الهجرة التي غيرتْ مسارَ التاريخ, وفاجأت العالم بأحداثِها الضخمة ونتائجِها المُدهشة, فقدْ كانتْ سببًا رئيسًا لقيامِ دولةِ الإسلامِ في المدينة, تلك الدولة التي لم تقفْ عند حدودٍ سياسيةٍ أو خطوطِ تماسٍ مكهربة صنعها المُحتلُ الأجنبي، ولكنَّها أخذتْ في الانتشارِ يمنةً ويسرة, حتى نتجَ عنها دولةُ الإسلامِ العالميةِ, والتي غمرتْ الدنيا بفيضِ نورِها المُشع, وبددتْ الظلامَ المتراكمِ عبرَ السنين, وقدمتْ للبشريةِ أنموذجًا نادرًا للكيفيةِ التي تُبنى من خلالِها الدول، فتتصاغرُ أمامَ ذلك الأُنموذجِ الفريد كلُّ النماذجِ الأُخرى, وما أحوجَ الأُمة اليومَ وهي تُعاني ما تعانيه من تمزقٍ وضعفٍ وتناحرٍ, ما أحوجَها إلى قراءةِ تاريخِها من جديد، ومراجعةِ سيرِ أسلافِها الأولين, لتأخذَ الدروسَ والعبر, علَّها تستعيد ُمجدها الغابر وتاجَها المفقود, فهيهات هيهات أن يصلحَ حالُ آخرِ هذه الأمةِ إلاّ بما صلحَ به حالُ أولِها, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها المسلمون، لم تكنْ الهجرةُ الشريفةُ إلى المدينة, لم تكنْ يومًا من الأيام ترفًا ثقافيًا أو سياحةً ومتعة أو استكشافًا لعالمٍ جديد, كلاَّ, لقد كانتْ خيارًا لا مفرّ منه, وحلاً أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت, وتغيرَ عليهم الناسُ, وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر, وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً وإرهابًا وتطرفًا, نزلَ جبرائيلُ عليه السلام بأمرٍ من السماء لا يحتملُ التأخيرَ أو التردد: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3].
فالقضيةُ جدٌ ليستْ بهزلٍ, والدينُ حقٌ ليس بلعبٍ, فلا مكانَ للخانعين, ولا مكانَ للمتكاسلين, ولا مكانَ للمعوقين المُخذِّلين, ونزلَ جبرائيلُ كذلك بقولهِ جلَّ جلاله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94], فاصدعْ بما تُؤمر ولا تخفْ في اللهِ لومةَ لائم, لا تخف أبا جهلٍ مهما تجبر, ولا تخف أبا لهبٍ مهما تهور, فما هم في الحقيقةِ إلاَّ أقزام لا يملكون حولاً ولا طولاً, ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فلبَّى عليه الصلاةُ والسلامُ النداء, وشمَّرَ عن ساقِ الجدِّ بكلِّ قُوة, وأسفرَ عن شجاعةٍ وبطولةٍ نادرتين, فما تركَ جبلاً إلا صعدَه, ولا واديًا إلا هبطَه, ولا شِعبًا إلا سلكَه: ((يا أيَّها الناسُ، قُولوا: لا إله إلا اللهُ تُفلحوا)) , كلمةُ التوحيدِ العظيمةِ, ظلَّ يرفعُ بها صوتَه ثلاثةَ عشرَ عامًا غيرَ هيابٍ ولا وجلٍ, يصرخُ بها في كلِّ مجمعٍ من مجامعهم, وكلِّ مُنتدى من منتدياتِهم, فقامتْ عليه الجاهليةُ ولم تقعد, وحاربهُ الجاهليُّون بكلِّ وحشيةٍ وضراوة, فكلُّ من شعرَ بخطورةِ كلمةِ التوحيدِ على مصالحه وقفَ أمامَها وقفةَ الأسد, واستماتَ في الصدِّ عنها والتنديدِ بخطرِها، فقد شعرَ رؤساءُ العشائرِ أنَّ هذه الكلمة ستقوضُ سُلطتَهم من القواعد, فهبوا للدفاعِ عن سُلطانهمِ المُهدد ومكانتهمُ المستهدفة, كما أحسَّ الانتهازيون بخطرٍ يتهددُ مكاسبَهم الخبيثة وأرصدتهم الحرام وثرواتِهم المُغتصبة, فاستشاطوا غضبًا وامتلؤوا حنقًا, وتدافعوا يذودونَ عن مكاسبِهم بكلِّ وحشيةٍ وقسوة, كما أحسَّ الكهنةُ والمشعوذون بخطورةِ كلمةِ التوحيد على كهانتهِم وشعوذتهم, وأنَّها ستفرُقُ الناسَ من حولهم, فكشَّروا عن أنيابِهم, وأعلنوها حربًا لا تُبقي ولا تذر, كما أحسَّ بالخطرِ ذاته عُبادُ القوميةِ المتعصّبونَ لقومياتِهم وعشائرِهم, المقدّسون لتقاليدِهم وعاداتِهم, فجُنَّ جنونُهم وظهرَ مرضُ قلوبِهم وسفاهةُ عقولهمِ بأبشعِ صورةٍ وأقبحِها, فخرجوا للدفاعِ عن عصبياتِهمُ المُنتنةِ وتقاليدهمُ البالية, كما شعرَ بالخطرِ نفسِه عُبَّادُ الشهواتِ والأهواء, فقاموا من بين أحضانِ بغاياهم ومِن على موائدِ خمورهم معلنينَ الاحتجاجَ بشدة, ومدافعينَ عن مجونِهم وسُكرهم. وبالجملةِ فقد أحسَّ عُبادُ تلكَ الأوثانِ والأصنامِ على اختلافِ صورِها وأشكالِها وتعددِ ألقابِها ومسمياتِها, أحسوا بخطورةِ كلمةِ التوحيد على مصالحهم وأطماعهم, فاتحدوا جميعًا لحربِها وحربِ رافعِ لوائها، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:6، 7].
فعقدَ المجرمونَ العزمَ على مقاومةِ ذلكَ الناصح الأمين ووضع العراقيلِ في طريقه, فأوذي عليه السلامُ واضطُهد, وعُذِّب وطُرد, واتُهِم بالوسوسةِ والجنون والسحرِ والكِهانةِ, ورُمي بالكذبِ وقولِ الزور, ووصفوا القرآنَ بأنَّهُ أساطيرُ الأولين, وأنَّ محمدًا تتنزلُ عليه الشياطين, حتى إذا بلغَ السيلُ الزُبى واستعصتِ النفوسُ الخبيثة على الدعوة وظهرت صلابةُ القلوبِ وسفهُ الرجالِ أذنَ اللهُ بالهجرةِ إلى المدينةِ الشريفة, فخرجَ صحابةُ رسولِ اللهِ فرارًا بدينهم، وخوفًا من فرعونَ وملئِه أن يفتنهم, خرجوا تاركينَ الأرضَ التي وُلدوا فيها, والبلدَ الذي نشؤوا فيه, منخلعينَ من المالِ والأهلِ والولد, فما قيمةُ المالِ والأهلِ والولد حين تُهددُ العقيدةُ وتصادرُ الحُرية؟! وما كاد يمضي طويل وقتٍ إلاَّ ورسولُ اللهِ يخرجُ في أثرِ أصحابه وهو يقولُ: ((واللهِ يا مكةَ، إنَّكِ لخيرُ أرضِ الله, وأحبُ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت)).
أيّها المسلمون، إنَّ في الهجرةِ دروسًا لا تُنسى ومآثرَ لا تُطوى, ألا ما أحوجَنا إلى تذاكرِ تلك الدروس واستلهام هاتيكَ العبر في وقتٍ كشَّر العدوُّ عن أنيابه وأطلَّتِ الرويبضةُ برأسِها القبيح. ألا إنَّ من أعظمِ دروسِ الهجرةِ الشريفةِ ما يجبُ أن نُدركَه جميعًا أنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ بأسرهِ هو عمارةُ الأرضِ بالتوحيدِ والإيمان, وإقامةُ حكم اللهِ وشرعهِ في عظائمِ الأُمورِ فما دُونها, أليس اللهُ يقولُ: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]؟!
إذًا فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها مهما كان الثمن, ومهما كانتِ التضحيات، أملاً في إيجادِ أرضيةٍ صالحةٍ للانطلاقةِ العُظمى ونشرِ الإسلامِ في ربوعِ الأرض وعرضِ العقيدةِ بصفائِها ونقائِها على الناسِ دون ضغطٍ أو إكراهٍ. وهكذا كان الأمرُ في مكة, فيومَ رفضَ أهلُها الإيمانَ والتوحيد وآثروا الكفرَ والتقليد أصبحتْ مكةُ بلدَ كفرٍ ودارَ حربٍ, وحُرِّمَ البقاءُ فيها, وأصبحتْ مجاورتُها مع القدرةِ على مُغادرتِها واحدةً من كبائرِ الذنوب، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].
وأمَّا الدرسُ الثاني من دُروس الهجرةِ وهو ذو علاقةٍ وثيقةٍ بسابقهِ، ويوضحهُ ويجلّيهِ أنَّهُ لا قيمةَ للأرضِ ولا للوطنِ حين تفسدُ الأرضُ ويكفرُ الوطن. لقد هاجرَ النبيُ وأصحابهُ الوطنَ الذي تربَّوا فيه والأرضَ التي نشؤوا فوقها, وباعوها بأرخصِ الأثمانِ, واشتروا أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة، وفي هذا كلِّهِ صفعةٌ لكلِّ الذين يُمجّدون الأرضَ والرمال, ويُعظمونَ الصخورَ والترابَ على حسابِ العقيدةِ, حتى إنّهم ليفضلونها على جنّةِ الخُلدِ لو دخلوها، فيقولُ شاعرهم:
وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنهُ نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي
ويقول آخر:
وطني لو صوّروهُ لي وثنًا لهممتُ ألثم ذلك الوثنا
ويقول وثنيٌّ ثالث:
ويا وطنِي لقيتُكَ بعد يأسٍ كأنّي قد لقيتُ بكَ الشبابا
أديرُ إليكَ قبلَ البيتِ وجهِي إذا فهتُ الشهادةَ والْمتابا
وحتى الأطفالُ الصغار يُربّونَهم على مِثلِ هذا الإلحاد, اسمع إليهم وهم يُرددون:
وهبتُكِ رُوحي وغالي دمي وأَسمى أمانيِّ أن تسلمي
وأُشقي حياتي لكي تنعمِي وقلبي يُلبّيكِ قبلَ الفمِ
بلادي سلمتِ وروحي الفداء
فماذا بقيَّ لله إذًا؟! ماذا بقيَّ لله؟!
إنَّ الولاءَ ـ أيَّها المربُون ـ يَجبُ أن يكونَ للهِ وحده, فالأرواحُ لا تُبذلُ إلا في سبيلهِ, والدماءُ لا تُراقُ إلا من أجلهِ, والجهادُ لا يكونُ إلا لإعلاءِ دينهِ، أما حُبّ الوطنِ فإنَّما يَكونُ بمقدارِ حبِّ أهلهِ للإسلام وتمسكِ أهلهِ بالإسلام، وبغيرِ الإسلام تصبحُ الأوطانُ مجرّدَ أتربةٍ وحجارة, لا وزنَ لها ولا قيمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل [التوبة:38].
وأمَّا الدرسُ الثالثُ من دروسِ الهجرة فبيانُهُ أنَّ هذا الدينِ لا يَقومُ إلا بالتضحيةِ والبذلِ والعطاء, إنَّهُ دينٌ لا يُعلِّقُ كبيرَ أملٍ على الكُسالى والخانعين, ولا يمنحُ شرفَ حملهِ ونُصرتهِ للمتراجعينَ والمتثاقلين, إنَّ الدينَ ليس قضية بيعٍ وشراء أو منّةً وأذى, إنَّما هو جهدٌ وعناء, وبذلٌ وعطاء, وتضحيةٌ وفداء, ودموعٌ ودماء, وجراحٌ وأشلاء. قلِّبِ النظرَ أنَّى شئتَ في تاريخِ أسلافِك: أما خُلعتْ رؤوسٌ من أجلِ هذا الدين؟! أما بُقرتْ بطونٌ؟! أما قُطِّعتْ أطرافٌ؟! أما سُحلت عيونٌ؟! قلْ: بلى, بلى, بلى. ثم اجمعْ قُواكَ يا رعاك الله، واحملْ القرآنَ في يدٍ والسنةَ في الأخرى.
وهدِّم فراشكَ رمزَ الْخمول وقمْ للجهادِ ولا تقعدِ
وقم للنضالِ وخوضَ القتال وشمِّر عن الساقِ والساعدِ
لقد مضتْ قوافلُ الشهداء وقوافلُ المجاهدين إلى ربها، بعضُها إثرَ بعض، فماذا صنعت أنتَ أيُّها الأخُ الحبيب؟! ماذا قدَّمت لدينِك وأُمتِك المُعذّبة؟! ما مقدارُ الهمِّ الذي تحملهُ في قلبِك تِجاه قضايا الإصلاحِ والتغيير؟! كم شخصا أسديتَ لهُ نصيحة أو قدّمت لهُ موعظة؟! ما جهودُكَ في بيتك تجاهَ أُمكَ وأبيك وأُختكَ وأخيك؟! هل غمرتهم بإحسانِك وخفضت لهم جناحَ الذلِّ من الرحمة؟! هل صنعتَ شيئًا ما تَقي به أهلَ بيتك نارًا وقودُها الناسُ والحجارة؟! ما دورُكَ تجاهَ جيرانك؟! هل وعظتَ واحدًا منهم؟! هل دفعتَ إليه كتابًا ينفعُهُ أو شريطًا يسمعُه؟! ألا كفى ـ يرحمكَ الله ـ تسويفًا وتثاقلاً.
وتبوّأ ـ رعاكَ اللهُ ـ لنفسك مَقعدًا في قوافلِ الدُعاةِ المخلصين، تُحشر مع الأنبياءِ والصديقين والشهداءِ الصالحين.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بالذكر الحكيم، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعدُ: أيّها الموحدون، فدروسُ الهجرةِ كثيرة, وعبرُها متنوعة, والمقامُ مقامُ تذكيرٍ لا مقامُ بسطٍ وتفضيل, لكنَّنا نشيرُ أخيرًا إلى أنَّ الهجرةَ ماضيةٌ إلى يومِ القيامة كلَّما حِيلَ بين الناسِ وعبادةِ ربهم.
ثُمَّ تذكروا ـ يرحمكمُ الله ـ قولَه عليه السلام: ((المهاجرُ من هَجَر ما نهى الله عنه)).
فما أحرانا اليومَ ونحنُ نستقبلُ عامًا جديدًا، ما أحرانا إلى فتحِ صفحةٍ بيضاء, نصطلحُ فيها مع اللهِ سبحانه الذي أمهلَنا كثيرًا, وصبرَ علينا طويلاً, ومنحنَا الفرصةَ تلوَ الفرصة، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:132-135].
إننا مُطالَبون جميعًا بهجرةِ ما نهى اللهُ عنه إن كُنَّا نُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر ونُوقنُ بالجنةِ والنار, وهجرة ما نهى اللهُ عنه تُطالبُ بها الأمةُ كلُها من أعلى القمةِ إلى أسفلِ القاع؛ فالأمةُ كُلها تستقلُ سفينةً واحدة, فليسَ لأحدٍ أن يخرقَ في نصيبهِ خرقًا, فمتى خُرقت السفينةُ أو عُقرت الناقةُ فويلٌ للعربِ من شرٍ قد اقترب. إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
اللهُمَّ إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قُلوبنا ويقينًا صادقًا وتوبةً قبلَ الموتِ وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة ولا فتنةً مُضلة. اللهُمَّ زينَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين، وعن المُنكرِ ناهين يا ربَّ العالمين.
ألا وصلوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين وقائد الغُرِّ المُحجلين، وعلى آلهِ وصحابته أجمعين، وارض اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي...
(1/4530)
من وحي سورة العصر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
20/12/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفسير ميسّر لآيات سورة العصر. 2- ملامح من وحي سورة العصر. 3- حال العرب بعدما أشرق نور الرسالة. 4- أسباب تزعّم المسلمين الأوائل للعالم كله. 5- حال أصحاب النبي مع الإمارة. 6- لا بد من وقفة محاسبة جادة للاستفادة من واقعنا. 7- فضائل المسجد الأقصى. 8- وجوب توحيد الصفّ ونبذ الخلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
أيها المسلمون، إن سورة العصر جاءت في غاية الإيجاز والبيان؛ لتوضيح سعادة الإنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.
وقد أقسم الله تعالى فيها بالعصر وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإنسان، وما فيه من أصناف العجائب والعبر الدالة على قدرة الله وحكمته. أقسم على أن الإنسان في خسارة ونقصان؛ لأنه يفضل العاجلة على الآجلة، وتغلب عليه الأهواء والشهوات، وقيل: هو قسم بصلاة العصر؛ لأنها أفضل الصلوات.
فكل جنس الإنسان في خسران، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال، بين الإعداد المادي والمعنوي، وترجموا الأقوال إلى أفعال وأعمال، واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضا عن الشهوات العاجلة، وفضلوا نعيم الجنة الدائم على نعيم الدنيا الزائل، فهؤلاء هم الفائزون حقا؛ لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس.
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ أي: أوصى بعضهم بعضا بالحق وهو الخير كله، من الإيمان والتصديق وعبادة الرحمن.
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أي: وتواصوا بالصبر على الشدائد والمصائب، وتواصوا على فعل الطاعات وترك المحرمات.
نعم أيها المؤمنون، لقد حكم الله تعالى بالخسران على جميع الناس إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ فإن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا كمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله وحق العباد.
إن سورة العصر تصف الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار، وتعطي وصفا دقيقا للأمة الإسلامية في آية واحدة، هي قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو لم ينزل الله سِوى هذه السورة لكفت الناس".
أيها المسلمون، إن الحقيقة الكبرى التي تقررها هذه السورة بمجموعها أنه على امتداد الزمان في جميع العصور ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، هو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه، وكل ما وراء ذلك ضياع خسران.
أيها المسلمون، وننظر اليوم ومن خلال هذا الدستور الذي يرسمه لنا القرآن الكريم، فيهولنا ويرعبنا ويخيفنا أن نرى الخُسر والخسران والدمار والهلاك يحيط بالبشرية في كل مكان بلا استثناء، يهولنا إعراض البشرية عن هذا الخير وهذا النور، والأمر الذي هو أشد هولا وخوفا هو إعراض الكثير من المسلمين عن هذا الدين وهم أصحاب دعوة الإسلام، كما أن البقاع التي انبعث منها هذا الخير وهذا النور أوّلَ مرة تترك راية الإسلام وراية الإيمان وراية العدل، لتتعلق برايات عنصرية كالقومية، ولتتمسك بمبادئ وشرائع غريبة عن الإسلام كالاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والتي معناها حكم الشعب للشعب، والصحيح أن الحاكمية لله وحده، علما بأن البشرية جمعاء ـ وبخاصة المسلمين ـ لم ينالوا خيرا ولا السعادة في التاريخ كله وقت اتباعهم لها، بل نالت ونالوا الظلم والطغيان والشتات والويل والدمار.
ومن الحقائق التي لا يستطيع عاقل أو منصف إنكارها أنه لم يكن لهذه الشعوب ولهذه الأمم ذكر في الأرض ولا في السماء، حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية التي تنتسب إلى الله تعالى، ولا تنتسب إلى الغرب أو الشرق. حقا إنها راية الإسلام، راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إنها الراية التي انتصر العرب تحتها وقادوا البشرية جمعاء قيادة صالحة رشيدة واعية، فأصبحوا سادة بعد أن كانوا مسودين، وحكاما بعد أن كانوا محكومين، وأعزاء بعد أن كانوا أذلاء، وأقوياء بعد أن كانوا مستضعفين.
نعم أيها المسلمون، لقد ظهر المسلمون وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة البشرية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سير سريعا متزنا عادلا. وقد يسأل سائل ويقول: ما سبب ذلك؟ ويأتي الجواب ليقول: إن السبب يرجع إلى وجود صفات ومميزات فيهم تؤهلهم لقيادة الأمم، منها على سبيل المثال لا الحصر أن المسلمين أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ربانية، فلا يقنّنون ولا يشرّعون من عند أنفسهم؛ لأن في ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يتخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء كما يقال؛ لأن الله جل جلاله جعل لهم نورا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة ودستورا يحكمون بهما الناس، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
إن المسلمين الأوائل لم يتولوا القيادة والحكم بغير تربية خلقية وتزكية نفس وتأهيل راشد، بخلاف الأمم والأفراد ورجال الحكومات والدول في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية سيد البشر محمد بن عبد الله الذي تخلّق بأخلاق القرآن، والذي مدحه رب العزة بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فقد كان الحبيب محمد يؤدب أصحابه ويزكيهم، ويأخذهم بالزهد في الحياة الدنيا، وبالورع والتقوى والعفة والأمانة والعدل، والإيثار وخشية الله تعالى في السر والعلن، وكان يأخذهم بعدم الاستشراف والتطلع للإمارة والمناصب والحرص عليها، وكان يقول لهم: ((إنا ـ والله ـ لا نولي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحدًا حرص عليه)) متفق عليه، ولا يزال يقرع سمعهم قول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والكراسي والمناصب، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، كما أنهم لم يزكوا أنفسهم وينشروا الدعاية لها وينفقوا الأموال سعيا وراءها، ولم يقطعوا الوعود للناس على أنفسهم، ولم يبنوا لهم قصورا في الهواء، ولم يملوا الشوارع باليافطات ويغطّوا الجدران بالملصقات المزركشة وبالدعايات المبالَغ فيها، بل كانوا يضعون نصب أعينهم قول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى [النجم:32]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]. وقول الرسول : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أؤتمن خان)) رواه البخاري.
أيها المؤمنون، والأهم من كل ذلك أن المسلمين الأوائل لم يتنازلوا عن شيء من عقيدتهم أو دينهم أو مبادئهم أو أرضهم من أجل الحصول على الإمارة. لا أيها المسلمون، لا أيها المؤمنون، لا يا أتباع محمد، لا وألف، لا لم يكونوا كذلك، بل كانوا إذا تولوا شيئًا من أمور الناس لم يعدوه مغنما، بل عدوه أمانة في أعناقهم وامتحانا لهم من الله، وكانوا على علم بأنهم موقوفون عند ربهم ومسؤولون عن الصغير والكبير، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، وتذكروا دائمًا قول الله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165].
أيها المؤمنون، هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي وضعت سورة العصر قواعده ومبادئه ومواده، ومن هنا كان الرجلان من أصحاب الرسول إن التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة ثم يسلم أحدهما على الآخر.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المرابطون، لا بد من الوقوف طويلا أمام ما يجري من أحداث تعصف بهذه الأمة من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وبخاصة ما يجري على هذه الأرض المباركة، فالجراح عميقة، والأحداث تعلو على التصديق، والمآسي تغطي على التفكير السليم بضخامتها وشراستها. وهذه الأحداث بحاجة إلى تأمل لاستخلاص العبر والعظات حتى لا تتكرر المآسي.
ولا بد للمسلمين بصورة عامة وللفلسطينيين بصورة خاصة من فهم لأحداث التاريخ والاعتبار بما مضى، فالأرض تتعرض للنهب والسلب والتقسيم، والإنسان يتعرض للقتل وللأسر، والمقدسات يداهمها الخطر، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك الذي بنته الأنبياء، وانتسب إليه كثير من العلماء، وسكنه وشد إليه الرحال كثير من الأولياء، وسقطت على أرضه قوافل الشهداء، وهو عش العلماء وعقر دار الإسلام في نهاية الزمان، وأهله مرابطون إلى يوم القيامة، وعلى أرضه المباركة المقدسة تعيش الطائفة الظاهرة المنصورة، الركعة فيه بخمسمائة ركعة، والتفريط فيه تفريط في الإسلام، وكل مساس فيه مساس بمشاعر المسلمين كافة؛ لأنه شريان قلوبهم وسر وجودهم على هذه الأرض المباركة. ومن واجب الجيل المعاصر أن يحذو حذو السابقين في الحفاظ على مدينة القدس مع ما فيها من مقدسات، وعندما تصبح القدس متعمقة الجذور في النفوس والقلوب ستشرق شمسها وستتبدد ظلمة ليلها، وستفتح ذراعيها وقلبها لاستقبال من يكسر قيدها والأغلال التي تكبلها والجدران التي تحيط بها، وما ذلك على الله بعزيز. ولله در القائل:
يا قدس مهما الليل طال فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولى ولن يعود ولست في هذا مغال
الفجر آت لا مَحالة والظلام إلى الزوال
لاحت تباشير الصباح وجاء دورك يا بلال
أيها المسلمون، وعلى ضوء ما يجري على الساحة العربية والإسلامية والفلسطينية فإن المطلوب من الشعوب العربية والإسلامية التضامن ورص الصفوف، ليتحقق الأمل في توحد الكلمة ونبذ الخلافات. إذا ما تحققت الوحدة فإنها كفيلة بأن تصنع من هذه الشعوب كتلة قوية فاعلة ومؤثرة على الساحة الدولية، بما تمتلكه من عقيدة ومن موارد وطاقات، ولا يمكن لهذا الإنجاز إن يتحقق بالأماني والأحلام أو برفع الشعارات البراقة والمزايدات الرخيصة والتنازلات المهينة والتخلي عن الثوابت الإسلامية، إنما يتحقق باتباع المنهج الرباني والدستور الخالد الذي أنزله الله تعالى لهداية البشرية وسعادتها، بإقامة دولة الإسلام.
(1/4531)
الانتصار لرسول الله
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الإيمان بالرسل
سعود بن عابد الحربي
المدينة المنورة
20/12/1426
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار حملات التشويه. 2- إنكار المسلمين في الدانمارك لما وقع من الاستهزاء بالنبي. 3- تمادي الصحيفة في غيّها وجريمتها. 4- وقفات مع هذا الحدث. 5- نداء لعموم المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فإن تقوى الله خلَف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ.
عباد الله، لا يخفى عليكم ما قامت به الصحف الدنماركية من الحملة الإعلامية الشرسة المحمومة على أزكى البشرية وخير البرية من تشويهٍ لسيرته ووصفه بأقبح الأوصاف في رسوم شنيعة وصور قبيحة، تبًّا لهم ساء ما يعملون. وعلى مدى ثلاثة أشهر وهذه الصحف تصرّ على غيِّها وتتمادى في طغيانها، غير آبهة بمقامه الشريف أو مشاعر المسلمين في شرق الأرض وغربها.
وقد عمد إخواننا من الجالية المسلمة في الدنمارك، ومعهم غيرهم من المواطنين الدنماركيّين، وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمارك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ، فكُتبت المقالات ووُجّهت الرسائل إلى الحكومة الدنماركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً، وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من 5000 مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في عاصمة الدنمارك ضدّ الصحيفة وطالبوها بالاعتذار. غير أن السلطات هناك ومسؤولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبرّرات حرّية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته.
ولا زال مسؤولو الصحيفة والحزب الحاكم الذي تنتمي إليه يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجّم على الرسول الكريم الذي قال الله له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدَّمة إليهم.
فكان من الواجب علينا وعلى غيرنا ممن حمَّلهم الله أمانة البيان والبلاغ البيان في ذلك وإنكاره غضبة لله وانتصارًا لرسوله ، إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل.
فلنا مع هذا الحدث هذه الوقفات نعتذر فيها إلى الله من قلّة حيلتنا وضعف قوّتنا وهواننا على الناس، نجملها في وقفات معدودة، مِدَادُهُا دمُ القلوب، ورقعتها مُهْجَةُ الأنفس، نقولها دفاعًا عن أحبِّ حبيب ومن هو أعز علينا من كل قريب، ونذيعها ذودًا عن أزكى البرية وأطهر البشرية صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر :
الوقفة الأولى: نقدّمها لكم أنتم أيها المؤمنون، وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فرسولكم محمد شامة في جبين التاريخ، فما أشرقت الشمس ولا غربت على أطهر منه نفسًا، ولا أزكى من سيرة، ولا أسخى منه يدا، ولا أبر منه صلة، ولا أصدق منه حديثًا، ولا أشرف منه نسبًا، ولا أعلى منه مقامًا. جمع الله له بين المحامد كلّها فكان محمّدًا، ورفع الله ذكره وأعلى قدره فكان سيدًا. هو سيد ولد آدم ولا فخر، سيبعثه الله يوم القيامة مقامًا محمودًا، تتقاصر دونه الأطماع، وتتطامن دونه الأماني، إنه الشفاعة العظمى يوم الموقف، يوم أن يتخلّى عنها أولو العزم من الرسل ويقول هو : ((أنا لها، أنا لها)).
جمع المحامد كلّها، وحاز من المكارم أجلّها، محمود عند الله؛ لأنه رسوله المعصوم ونبيه الخاتم وعبده الصالح وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه وخليله من أهل الأرض، ومحمود عند الناس؛ لأنه قريب من القلوب حبيب إلى النفوس، رحمة مهداة ونعمة مسداة، مبارك أينما كان، محفوف بالعناية أيمنا وجِد، محاط بالتقدير أينما حلّ وارتحل.
كان العرب يعيشون جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، كانوا أسارى شبهات وأرباب شهوات، يعبدون الأصنام، ويستقسمون بالأزلام، ظلّوا على هذه الحال إلى أن بزغ نور الإسلام وسطع فجر الإيمان وتألّق نجم النبوة.
ولِد الهادي العظيم، فكان مولده فتحًا ومبعثه فجرًا، بدّد به الله جميع الظلمات، وهدى به من الضلالة، وعلّم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وكثّر به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذلّة، وأغنى به بعد العيلة. فصلى الله وسلّم عليه ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، فلن تضيره هذه السّخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم.
ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سمعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ويخلد ذكره الحسن، ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّدٌ)). فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: ((يشتمون مُذَمَّمًا)) كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فَعَلَ الله بمذمَّم. ومُذَمَّم ليس هو اسمه عليه الصلاة والسلام، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وهكذا تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعًا لا تمثل رسول الله محمدًا ، لا في رسمها، ولا في رمزها، لا في رسمها أي: ملامح الوجه، فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبشرًا وسرورًا، وجه محمد له طلعةٌ آسرة، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجابًا وتقديرًا. ولا في رمزها، فمحمد ما كان عابسًا ولا مكشرًا، وما ضرب أحدًا في حياته، لا امرأة ولا غيرها، تقول عائشة زوج رسول الله ورضي الله عنها: ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. رواه البخاري ومسلم.
وإنه لمن الحسرة والبؤس على الصحيفة الدنماركية وعلى حكومة الدنمارك أن يكون مجرد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
الوقفة الثانية: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالَم إلا شقاءً وبؤسًا، فلا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح بغيًا وعدوانًا، بما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين، فهذا المسلك يتحقّق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم.
وإن مثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤسًا، ذلك أننا جميعًا بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد ، فكان المستهزئون به عليه الصلاة والسلام المشوّهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يصدّ الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته، وهذا الصنف من الناس توعّده الله في كتابه وندّد بسوء فعالهم: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:3].
وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردّى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقيّة نحو المقدسات.
الوقفة الثالثة: إن ادعاء هذه الصحيفة وما تتشدّق به من حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع؛ لأن جميع دساتير العالم ومنظّماته تؤكّد على احترام الرسل وعلى احترام الشرائع السماوية واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.
وقد جاء في ميثاق شرف المجلس العالمي للفيدرالية الدولية للصحفيّين ما ينصّ على ذلك؛ ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقًا فإننا نعتمد أيضًا على ميثاق صحفي شريف، جاء فيه: "سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء".
ولا شك أن ما نشرته الصحيفة الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك، ومسيء لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى، كلّهم يعظّمون رسول الله محمدا عليه الصلاة والسلام، وسيبقى ذلك العمل مسيئًا لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض، وستبقى الدنمارك ـ إذا لم تعالج هذه الإساءة ـ مصدر قرف واشمئزاز من عقليات تقطن فيها وتعادي الرسل والشرائع السماوية وتسخر بها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار، وحط عنهم بفضله الذنوب والأوزار، أحمده سبحانه وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده رسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار من المهاجرين والأنصار والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الرابعة: لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار وسبيل الفجار، فتلك الإساءة التي نشرتها هذه الصحيفة لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة الذين حاربوا الأنبياء والمصلحين، وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم فقال تعالى: فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]، وقال سبحانه عن اليهود: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وقال الله عزَّ وجلَّ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:33، 34].
الوقفة الخامسة: ليحذر المؤذون للأنبياء؛ فإن الله قد توعّدهم بالانتقام، فقد كانت هذه الصحيفة ومحرّروها في عافية من دنياهم وانهماك في شهواتهم قبل أن يتعمّدوا الاستهزاء بالرسول ، ولكنهم بما نشروه وكتبته أيديهم قد أدخلوا أنفسهم ومن تواطأ معهم في الوعيد الإلهي المسطّر في القرآن الكريم: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: إنَّ مبغضك ـ يا محمد ـ ومبغض ما جئتَ به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هُوَ الأَبْتَرُ : الأقلّ الأذلّ المنقطع كلّ ذِكرٍ له.
فهذه الآية تعمّ جميع من اتّصف بهذه الصفة من معاداة النبي أو سعى لإلصاق التهم الباطلة به، ممن كان في زمانه، ومن جاء بعده إلى يوم القيامة.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحدّ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول أهل الفقه والخبرة عمَّا جرّبوه مراتٍ متعدّدةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرّض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه" انتهى.
والأيام بيننا وبين أولئك المبطلين المستهزئين، لننظر من تكون له العاقبة، ومن الذي يضلّ سعيه ويكذب كلامه وتظهر للعالمين أباطيله وافتراءاته، فقد قالها أمثالهم، فلمن كانت العاقبة؟! وأين آثارهم؟! وأين مثواهم؟! قال الله جل شأنه في القرآن الكريم: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب:57].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن سُنة الله أن من لم يُمكن المؤمنين أن يعذّبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإنَّ الله سبحانه ينتقِم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكتاب المفترى، وكما قال الله سبحانه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95]. والقصص في إهلاك الله المستهزئين واحدًا واحدًا معروفة، قد ذكرها أهلُ السِّيَر والتفسير، وهذا والله أعلم تحقيق قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]؛ فكُلُّ من شَنَأَهُ أو أبغضه وعاداه فإنَّ الله تعالى يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره. وفي الصحيح عن النبي : قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة)) ، فكيف بمن عادى الأنبياء؟! ومن حَارَبَ الله تعالى حُرِبَ.
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أُهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل. وهكذا بنو إسرائيل، إنما ضربت عليهم الذِّلة وباؤوا بغضِبٍ من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضمومًا إلى كفرهم، كما ذكر الله ذلك في كتابه. ولعلك لا تجد أحدًا آذى نبيًا من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة.
عباد الله، وختام هذه الوقفات نداء موجّه للمسلمين في شرق الأرض وغربها شمالها وجنوبها:
أولاً: اعلموا أن سمعة الإسلام وسمعة النبي مسؤولية كلّ واحدٍ منكم ذكورًا وإناثًا، فينبغي على كل أحد أن يكون سفير خير ومنبر هدى في بيان حقيقة دين الإسلام وحقيقة دعوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: أتوجه للتجار ورجال الأعمال بأن يكون لهم موقفهم الحازم غيرةً على نبيهم محمد ، فينبغي أن يوقفوا كل التعاملات التجارية مع الدنمارك، حتى يتم الاعتذار وبشكل علني ورسمي عن ذلك العمل الذي أقدمت عليه هذه الصحيفة المستهترة، وليتذكروا أن المال زائل، لكن المآثر باقية مشكورة في الدنيا والآخرة، وأعظمها حب رسول الله والانتصار له، ولهم أسوة في الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول في موقفه الحازم من أبيه المنافق بل رأس المنافقين، فقد ثبت في الصحيحين أنَّ المنافق عبد الله بن أُبيِّ بن سلول ذكر رسول الله بكلام سيّئ حيث قال: والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.. الحديث، وفيه في رواية الترمذي أنَّ ابنه الصحابي عبد الله بن عبد الله قال لأبيه: والله، لا تنفلت حتى تقرّ أنك الذليل ورسول الله العزيز، ولم يأذن لأبيه بدخول المدينة حتى اعتذَر ورجع عن قوله وقال: إنه الذليل ورسول الله هو العزيز.
فهل يستجيب رجال الأعمال المسلمون لهذا الواجب في الغيرة على نبيهم عليه الصلاة والسلام؟! وهل يكفُّون عن التعامل التجاري مع الدنمارك حتى يتمّ تقديم الاعتذار الرسمي واشتراط عدم تكرار هذه الجريمة.
ثالثًا: دعوة للمسلمين في كل مكان إلى إرسال استنكارهم والمطالبة بالاعتذار إلى الجريدة على عناوينها المنشورة على الشبكة العالمية، فهذا من أقلّ الواجبات علينا، ولا يكلّفنا شيئًا.
رابعًا: يجدر التواصل من قبل الشعوب الإسلامية مع وزارة الخارجية الدنماركية لإشعارها بالامتعاض والاستنكار لمساس الصحيفة المذكورة بمقدساتنا، وبيان أن ذلك لن يخدم تطوّر العلاقات القائمة على الاحترام فيما بين الشعوب الإسلامية والشعب الدنماركي.
خامسًا: لما كان المسوولون بالدنمارك غير مبالين بدعوات السلام والبيانات التي وجهت إليهم وبالنظر للإصرار على الحرية المزعومة في الاستهزاء والإساءة برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أو بأي من إخوانه النبيين عليهم الصلاة والسلام فأنه من غير اللائق أن يتوجّه الناس لاقتناء أيّ سلعة منشؤها الدنمارك وهم يجدون بديلاً آخر، حتى يكفوا عن هذه السخرية ويعتذروا منها علنًا ويتعهدوا بعدم تكرارها.
اللهم لا تعاقبنا بتقصيرنا في حقّ خليلك ورسولك محمّد، ووفقنا للإيمان به والعمل بما دلَّنا عليه، وإلى الذود عنه وعن شريعته، حتى نرد حوضه المورود ويسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا وتنفعنا بشفاعته يوم العرض عليك فلا تسخط علينا أبدًا.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله...
(1/4532)
دفاعًا عن محمد
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الإيمان بالرسل
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
20/12/1426
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغفلة عن متابعة جريمة الاستهزاء بالنبي. 2- أحداث هذه الجريمة النكراء. 3- رفض الحكومة الدانماركية الاعتذار مما وقع. 4- فضل النبي. 5- قانون معاداة السامية. 6- النفوذ الصهيوني. 7- انتقام الله تعالى لرسوله. 8- واجب المسلمين تجاه هذا الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فإن الله أمر بالتقوى في السر والجهر والخفاء والعلن؛ لأنه سبحانه يسمع النجوى، ويعلم السر وأخفى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول كلمة لا ترضاها، ونبرأ إليك من كل زلة غفل عنها القلب أو طاش بها الرأي، ونضرع إليك أن تجعل حياتنا كلها وأوقاتنا كلها وأعمارنا كلها خدمة لك ولدينك ولكتابك.
وبعد: "أن تجيءَ متأخرًا خيرٌ من أن لا تجيء"، كان هذا ما انقدح في ذهني وأنا أقلّب النظر في هذا الموضوع الخطير. كنت أمرُّ بحالةٍ غريبةٍ من الذهولِ الفكريّ والجمودِ الروحيِّ، ألهتْني عن متابعةِ الحدثِ في وقتِهِ والتعليقِ عليه في إبّانِهِ. غيبوبةٌ هي، إلا أنَّ صاحبها يتحرّك ويمشي ويتكلّمُ ويناقشُ، وانفصالٌ عن الحياةِ تبقى معه الحياةُ، موتٌ كلاَ موتٍ، أو حياةٌ كلا حياةٍ. لا فرقَ، فالأمرُ كما قالَ الشاعرُ:
نهضَ الموتى هوى من لم يمت كالنّعاس الموت لا شيء خرافهْ
ولعلي لم أكنْ وحدي، فقد كان ثمّةَ ذهولٌ عميقٌ يلفُّ العالم الإسلاميّ من أقصاهُ إلى أقصاهُ ، ذهولٌ بدتْ معه كل ردود الفعلِ أشبه بفرقعةٍ خافتةٍ في جوف قبوٍ هائلٍ مظلمٍ، ذهولٌ يشبهُ حالةَ بائسٍ مسكينٍ تخبّطه الضياعُ في متاهةٍ عقيمةٍ، فآنسَ من جانب الجدارِ بابًا ظنّ فيه نجاتَهُ، فلما جاءهُ وجده أشدّ شيءٍ ظلمةً ووحشةً، فانكفأ يلوكُ بين شدقيهِ عبارة: "إلى متى؟!".
ثلاثةُ أشهرٍ وعشرونَ يومًا مرّت منذ أن تجرّأت صحيفةُ "جيلاندز بوستن" الدانمركيّة على الإساءةِ لنبيّنا أشرفِ مخلوقٍ وأطهرِ إنسانِ وأرفع من خطا على هذه البسيطةِ. فهذه مائةٌ وعشرةُ أيامٍ أو ألفانِ وستمائةٍ وأربعون ساعةً تصرَّمتْ على هذه الفعلةِ الشنيعةِ، ثم أجيءُ أنا اليومَ بعد كلّ هذا الوقت لأتكلّم عنها!! تبًّا، أيُّ غفلةٍ هذه؟! وتبًّا مرةً أخرى، فأنا لم أكن الغافلَ وحدي، كانت عيناي طوال هذا الوقتِ تعبرُ الوجوهَ، وأذناي تلتقطُ الكلماتِ، وبصري يلتهم السطورَ، فلم أرَ سوى نَأَماتٍ هنا وهناك تنادي بصوتٍ مخنوقٍ يوشك أن يضيعَ وسط هدير الحياةِ الداوي.
في عامِ اثنين وتسعمائةٍ وألفٍ للميلادِ تجرّأ السياسيّ والمؤرّخُ الفرنسيُّ هانوتو على القولِ بأنّه لا دواءَ للتعصّب الإسلاميِّ إلا نسفُ قبرِ النبيِّ محمد. يومها مادَتِ الدّنيا وارتجّتِ الأرضُ، وكان الأمر على ما وصف أحمد محرّم:
غضب الْحماةُ لدينِ أحمدَ غضبةً نُصِرَ الإله بها وعزَّ الْمصحفُ
هاج الْحماةُ فهاجَ كلُّ مشيعٍ عجلِ الوقائعِ بالفوارسِ يعصفُ
ضجت شعوب الْمسلمين وراعهم ظلمُ الأُلى لولا السياسةُ أنصفوا
واضطرَّ هذا الوقح لأن يرجع عن رأيه في خطابٍِ رسميٍّ ألقاهُ من بعدُ.
وها نحنُ اليومَ نرى التطاولَ على ذاتِ النبيِّ ، لا على قبرِهِ فحسبُ، فما الذي حدث؟! لم تتراجعِ الدانمارك، بل أقدمت مجلّة نرويجيةٌ على إعادة نشر الصورِ ذاتِها بعد مائةِ يومٍ وفي يوم عيد الأضحى مشفوعًا بتعليقٍ لرئيس التحرير يقول فيه: "إنّ حريّة التعبير في منطقتنا مهدّدةٌ من دين ليس غريبًا عليه اللّجوء إلى العنف". ألم أقلْ لكم: إنّها حالةُ ذهولٍ غريبةٍ لم أكنْ فيها وحدي؟!
دعوني بعد موجةِ الارتباكِ هذه ألَملِم أطرافَ الموضوعِ وأروي لكم الحكايةَ من أولها: "في الثلاثين من شهر سبتمبر أيلول الماضي الموافق للسادس والعشرين من شعبان من هذا العام الهجريّ نشرت صحيفة "يولاندز بوسطن" ـ وهي من أوسع الصحف اليوميّة انتشارًا في الدنمارك ـ اثني عشرَ رسمًا ساخرًا كاريكاتوريًا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أقلُّ ما توصفُ بها أنها بذيئةٌ ومنحطّة إلى أبعد الحدود، ومع الرسوم نشرت الصحيفة تعليقًا لرئيس تحريرها عبّر فيه عن دهشته واستنكاره إزاء القداسة التي يحيط بها المسلمون نبيَّهم، الأمر الذي اعتبره ضربًا من الهراء الكامن وراء جنون العظمة، ودعا الرجل في تعليقه إلى ممارسة الجرأة في كسر ذلك "التابو"، عن طريق فضح ما أسماه: "التاريخ المظلم" لنبيِّ الإسلام ـ أظلمَ الله عينيكَ يا دعيّ ـ، وتقديمِهِ إلى الرأي العام في صورته الحقيقية التي عبّرت عنها الرسوم المنشورة".
أحد هذه الرسومُ ـ وقد رأيتُها بنفسي ـ يظهرُ فيه النبيُّ وعلى رأسه عمامةٌ ملفوفةٌ حول قنبلةٍ مشتعلة الفتيل، والآخرُ صُوّر فيها النبيّ رجلاً بربريًا يحمل خنجرًا ضخمًا ووراءه امرأتان تلفّعتا بالسوادِ في إشارةٍ بذيئةٍ لساديّةٍ مقيتةٍ، ويظهرُ في الرسمِ الثالثِ راعيًا بليدًا وراءَه غنمةٌ واحدةٌ لا يحسن تدبير أمرها.
وحين قدّم المسلمون في الدانمارك ـ مواطنين ومقيمين ودبلوماسيين ـ احتجاجًا إلى رئيس الوزراء رفض مقابلتهم بدَوره، وأبلغهم من مكتبه بأنّ الأمر يتعلق بحرية التعبير التي لا تتدخّل فيها الحكومة، وقيل لهم: إن بوسعهم اللّجوء إلى القضاء إذا أرادوا.
كتب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي خطابات عديدة لحكومة الدانمارك وللاتحاد الأوروبي، وكان الجوابُ ولا سيما من الجانب الدانماركي أن قضية حرية التعبير تمثل ركنًا أساسيًّا في الديمقراطية الدنماركية، الأمر الذي اعتبر رفضًا لاتخاذ موقف إزاء الحملة.
أسفر اجتماع القمّةِ الأخيرِ في مكةَ عن توصيةٍ تشير إلى القلق إزاء الحملات الإعلاميّة المسيئة إلى الإسلام ونبي المسلمين، وقرّرت منظمة المؤتمر الإسلامي إعلان مقاطعتها لمشروع دنماركي، يتمثّل في إقامة معرض كبير تحت عنوان: "انطباعات عن الشرق الأوسط".
تحركت وفود شعبية من الدانمارك وطافت بلدان العالم الإسلاميّ، أصدر الأزهر وغيره من المؤسسات الإسلامية الكبرى بيانات تدين ما حدث.
وفي النهايةِ كان غايةُ ما تفضّل به رئيس الحكومة الدانماركية أن أشار في كلام مقتضب إلى أن حكومته تدين أيّ تصرف يسيء إلى مشاعر جماعة من الناس.
وهكذا بكل استخفاف ظنّ سيادتُهُ أن الموضوعَ قد سُوِّيَ، وأنّ الجرح الغائر الذي فتقَته مجلةُ "جيلاندز بوستن" ونكأته مجلة "ماغازينت" قد شُفي، ونسي أو تناسى أن هذه الرسومات ما هي إلا جزء من "الحملة الدانماركية" ضد الإسلام، بدءًا من التصريح الذي نقل على لسان ملكة الدانمرك "ماجريت الثانية"، والذي قالت فيه: "إن الإسلام يمثّل تهديدًا على المستويَين العالمي والمحلّي". وخلطت فيه الملكة بين المتطرفين وبين الإسلام، وحثّت حكومتها إلى عدم إظهار التسامح تجاه الأقلية المسلمة، وانتهاءً بمواقع الإنترنت التي يطلقها دانمركيون أفرادًا ومؤسّساتٍ خاصةً تحذر من السائقين المسلمين لأنهم إرهابيون وقتلة، ومرورًا بقول النائب الدانماركيّ: "إن الإسلام منذ بداياته كان عبارة عن شبكة إرهابية"، وبالحملة العامّة في الصحف ومحطة التلفاز العامة التي أعلنت الحرب ضد الإسلام والمسلمين.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا أشرف الخلائقِ، ما أهونَ من ينالُ منك، وما أشرفكَ أنتَ.
أتهجوه ولست له بكفءٍ؟! فشرّكما لخيركما الفداءُ
يا من هو أولى بنا منّا، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ [الأحزاب:6]. يا من جعلك الله خاتم النبيين، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]. يا من جعلك الله أسوة للعالمين، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. يا من بعثك ربك رحمةً للبشرِ أجمعين، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. يا من توعّد اللهُ من آذاك بالعذاب المبين: والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]. يا من أُمِرْنا بتقديم حبه على كل محبوبٍ: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ [التوبة:24]، ((ثلاثٌ من كن فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...)) روه الشيخان، ألم تقل لنا يا أحبَّ الناسِ: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ؟! ألم تقل: ((أحبّوا الله لما يَغذوكم من نعمه، وأحبوني لحبّ الله إياي)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"؟!
صلى عليكَ اللهُ يا علمَ الْهدى
يا نورًا أشرقَ ذاتَ مساء
يا نبعًا باغت عطشَ الصحراءِ
فأيقظها خفقُ حياةٍ أنطقَ صمتَ الأحشاء
يا أملاً كحّل عين الفجرِ فرأرأ مبهورًا
يبصرُ كيف الليلُ يجرُّ ثيابَ الخزيِ يفرُّ بلا إبطاء
يا أحمدُ، يا خفقةَ روحٍ في زمنٍ نسيَ الإنسانُ به معنى الإنسانْ
يا نفحةَ عطرٍ تحملُ طُهرَ الوحيِ إلى كل مكانْ
يا رايةَ عدلٍ حينَ أقالَ الظلمُ العدلَ بحجّةَ أنَّ الظّلم إذا عمَّ تساوى فيه الناسُ فقامَ العدلُ بلا ميزانْ
صلى عليك الله ما صحب الدجى حادٍ وحنّت في الفلا وجناءُ
بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكًا بك الغبراءُ
المصلحون أصابعٌ جَمعت يدًا هي أنت بل أنت اليد البيضاءُ
اللهم صل وسلم على نبيك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
هذا هو نبينا نحبُّهُ كأنفسِنا، بل فوق أنفسنا، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن هشامٍ قال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال عمر: فأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي، فقال: ((الآن يا عمر)).
هذا هو نبيّنا الذي تطاول عليه الأرذلونَ جهلاً أو حماقةً أو صلفًا. أنا أعلمُ أن الغيظ الآن يغلي في قلوبكم كما يغلي في قلبي، وأعلمُ أنّ شعورًا حارقًا يجري في أوردتكم كما يجري في أوردتي، وأعلمُ كذلك مقدار الوجعِ الذي ينطوي عليه كل قلبِ صادقٍ منكم، أعلمُ ذلك لأنني أعلمُ مكانةَ النبيِّ في قلوبكم، لكنني سأطلبُ منكم مكرهًا أن تضعوا هذه المشاعر كلها في ثلاجةٍ لبعضِ الوقتِ، لبعضِ الوقتِ فقط، واعذروني على هذا الطلبِ المجنونِ، فقد بدأت الحديثَ ذاهلاً، وسأبقى فيما يبدو ذاهلاً. أريدُ أن نفيقَ قليلاً من هولِ الصدمةِ ـ وما أهولها ـ لندرسَ بعض آثارِها ونقتبسَ بعضَ عبرها.
هل سمعتُمْ من قبلُ عن قانون "معاداة السامية"؟! إنه القانون الذي وقّعه بوش قبل انتخابه الثاني عام 2004م بضغطٍ من اللوبي اليهوديّ، ويقضي بوجوب منعِ كل نشاطٍ معادٍ للساميّةِ، والسامية هنا اليهودُ أو الصهيونية أو إسرائيل. بموجبِ هذا القانون تصبحُ الدولُ كلها ملزمةً برصدِ أي نشاطٍ تشمّ منه رائحة المعاداة للسامية، ومن ثمّ تقديم صاحبِهِ للعدالةِ لينال جزاءه، وسيكونُ من معايير الولايات المتحدة في تعاملها مع دول العالم مدى التزامها بهذا القانون الغريب. وبالمختصر المفيد تتحول أمريكا بموجب هذا القانون إلى شرطي عالميّ لإسرائيل.
وأقرأ عليكم هذا النصّ من تقرير معاداة السامية المنشور في الموقع الرسمي للخارجية الأمريكية بقليل من التصرف في عبارة الترجمة: "اللاسامية هي بُغض اليهود كأفراد أو كمجموعة، بشكل يمكن عزوه إلى بغض الديانة اليهودية أو الإثنية اليهودية... فتصوير إسرائيل على أنها شبه شيطان والحطّ من قدر الزعماء الإسرائيليّين وتشويه سمعتهم أحيانًا من خلال مقارنتهم بالزعماء النازيين ومن خلال استخدام الرموز النازية لتصويرهم بشكل كاريكاتوري يشير إلى وجود تعصّب ضد السامية لا إلى انتقاد صحيح مشروع لسياسة تتعلّق بقضية مثيرة للجدل".
هل فغرتم أفواهكم عجبًا؟! افغروها زيادةً وأنتم تقرؤون الفقرة التالية من التقرير عن معاداة السامية في المملكة بلدِ الحرمينِ: "كانت هناك حوادث متكرّرة قام فيها الخطباء في الجوامع الذين تدفع الحكومة مرتباتهم باستخدام عبارات شديدة المعاداة لليهود في خطبهم، وفي حين أن وتيرة تكرر هذه التعابير تقلصت منذ هجمات أيار مايو 2003م في الرياض، إلا أنه استمر وقوع حوادث ابتهل فيها خطباء الجوامع من أجل موت اليهود، بما في ذلك الجامع الكبير في مكّة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة".
حسنًا أعلمُ يقينًا أن هذا القانون سارٍ تمامًا في الدانمارك والنرويجِ وفي أوروبا كلها دون أن يكون في تطبيقه تأثير على حرية التعبير التي لا تتدخل فيها الحكومة كما قال رئيس الوزراء الدانماركي جوابًا على احتجاجات المحتجّين على الإساءةِ لنبيّنا.
مزيدًا من الدهشةِ أيها السادة، أعودُ بكم إلى الوراء، إلى أكثر من ستين سنةً مضت حين حاول مؤرخٌ وصحفيٌّ بكل حياديةٍ مهنية وأدبٍ خطابيّ أن يقدّما للعالم الدليل الواضح على بطلانِ خرافة المحرقة النازيّة لليهودِ. ما الذي حصل لهما؟! أما الأول فقد اختفى كتابه واختفى هو كلّيّا من الحياة العامةِ ودفنه النسيان حيًّا، وأما الآخرُ فقد جُرَّ جرًا وضُرب ضربًا مبرّحًا وهو يتناول إفطاره في أحدِ المطاعم الشهيرة في لندن.
وأوشكَ حزبٌ كاملٌ أن يخرج من الحياة السياسية الألمانية لأنّه قبل في عضويّتِهِ رجلاً قال: "إن الأساليب التي يتّبعها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة تشبه الأساليب النازية ". أما رئيس الحزبِ المسكينِ فقد خسر كل فرصةٍ له في تولي منصبٍ وزاريٍّ حتى لو فاز حزبُهُ.
ويكتبُ جارودي المفكّر الفرنسي المسلم المشهورُ في صدرِ كتابه عن أساطير إسرائيل (ص13): "بعدما يربو على نصف قرن صدرت خلاله مؤلفاتي عن كبريات دور النشر الفرنسية أجدني مضطرّا اليوم لأن أصدر هذا الكتاب على نفقتي لأنني أقدمت على انتهاك حرمة أحد المقدسات، ألا وهو انتقاد السياسة الإسرائيلية".
وبعد هذا كله لن تتعجب إذا علمتَ أن أشدَّ الأوروبيين عداوةً لطغيانِ إسرائيلَ وفي أكثر الدول الغربية ديمقراطية يُضطرُّ لأن يلامس بشفتيه أذنَ صاحبِهِ إذا أراد أن يبوح ببعض أفكارِهِ.
هكذا إذًا أفلح اليهودُ في جعل رموزهم ومقدّساتهم وحتى أساطيرهم تحت حمايةٍ عالميّةٍ رهيبةٍ لا يجرؤ أحد على مسّها إلا بعد تفكير طويل، طويلٍ جدًا.
سامحوني إذا أثقلت عليكم بالأسماء الأعجميةِ والحكايات وخرجت بكم عن نفس الخطبة المعتاد، ولكنني فعلاً أكادُ أجنُّ من هذه الهيبةِ التي فرضها اليهودُ لهم ولكل ما يتعلّق بهم، على حين أننا اليوم نئنّ من الطعنِ في أشرفِ البشرِ أجمعينَ، ولا يكادُ يستمع إلينا أحدٌ؛ لذلك قلت لكم: لنضع مشاعرنا بعض الوقت في ثلاجةٍ في محاولةٍ للفهمِ.
إنَّ ما يزدادُ عندي رسوخًا على مرّ الأيامِ أنَّ القوةَ هي التي صنعتْ لليهودِ كلّ هذا. وحتى لا يطير بها فرِحٌ عجلانُ يبغي الوقعيةَ أو متهيّجٌ متميّزٌ غيظًا يبغي الإذن بالفتكِ أبيّن أن مقصودي بالقوةِ هنا القوة الشاملة: الحضورَ العالمي الفاعل، صناعةَ الحياةِ.
دائمًا نتهمُ أمريكا بأنها تقف مع اليهودِ، لكننا لم نسأل أنفسنا قطُّ: كيف استطاع اليهودُ أن يجعلوا أمريكا تقف معهم؟ كيف حوّلوا هذا الوحش الجبارَ ليكون أداة طيعةً في أيديهم؟ هنا سرّ اللعبة اليهوديةِ التي أُديرتْ بنجاحٍ.
استطاعَ اليهودُ أن يمسكوا بزمامِ التجارةِ والصناعةِ والإعلامِ والسياسةِ فصنعوا ما صنعوا، ولو ذهبتُ أحدثكم هنا عن نفوذ اليهودِ في هذه المجالات وما يمتلكونه لأمسى المساءُ وما انتهينا. لقد خرج اليهودُ بعد الحرب العالميةِ محطّمين منبوذين مكسورين، ولكنهم واجهوا واقعهم، تحمّلوا، صبروا، تشتّتوا، تمرّسوا، فصنعوا ما صنعوا.
أجِل بصرك الآن في الواقع الحضاري للأمةِ ماذا ترى؟ كيف نريدُ لأمّةٍ لا تمسكُ بأي مفصل من مفاصل الحضارةِ أن تفرض احترامها على الآخرين؟! صدقوني، حتى الجهادُ وحده لن يحلَّ المشكلةَ، أن يتناثر شهداؤنا في كلّ أرضٍ بعد إثخانٍ في العدوِّ لا يعني أننا ربحنا كل شيءٍ، وإن كنّا ربحنا أشياءً.
إننا نخوضُ مع عدوّنا معركة الحياةِ تمامًا كما نخوض معه معركةَ الموتِ، وحينما يتناسقُ نغمُ صناعِ الموتِ الكريم مع نغم صناعِ الحياةِ الكريمةِ نستطيعُ أن نقولَ: لا، فيلتفت العالمُ مضطرًا باحثًا عن سبيلٍ لإرضائنا.
هذا أولُ درسٍ عميقٍ يجبُ أن نتعلّمه مما جرى، وبنهايتِهِ يتوجّبُ عليَّ أن أقفَ فقد امتدَّ بي الحديثُ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبةُ، رغمَ كل ما أسلفتُ إلا أنني أبشركم ببشارةٍ ربانيّةٍ كريمة: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]. قال ابن كثير: "أي: إن مبغضك ـ يا محمد ـ ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأقل الأذل المنقطع".
إنها شهادةُ حمايةٍ ربانيةٍ، وانتقام من الله لكل من آذى نبيه ، قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحدّ. ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول أهل الفقه والخبرة عمَّا جرّبوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرّض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخّر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتحِ إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه. وقد شاهدنا أثر هذه الحمايةِ الربانيةِ في السيرة النبوية، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّدٌ)). فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه".
ومن شاهد الرسوم المقصودةَ أدرك أنها لا تمتُّ لنبيّنا بشيء لا شكلاً ولا سمتًا ولا هيئةً ولا رمزًا، فكان ذلك كشتم المشركين لمذمَّمٍ، أذًى أصابَ غير المراد.
أيها الأحبةُ، لستُ متوجّهًا هنا إلى التفصيل في بيانِ عظمةِ النبيِّ وانتفاءِ تلك التهم الحقيرةِ عنه؛ لأنني أخاطب مسلمين يعرفون قدر نبيّهم ، ويدركون جوانبَ عظمتِهِ وإنسانيّتِهِ، ويفهمون جيدًا مقدار ما أحدثه عليه الصلاة والسلام في حياة البشرية من تغييرٍ، ولكنني أتساءلُ: إلى أي مدى أفلحنا في نقل هذه الصورةِ العظيمة لنبيّنا إلى العالم؟!
إنني رغم كل ما أسلفتُ أومنُ أن البشرَ لا يكونون شيئًا واحدًا، وأن هذا المزيج البشريّ المعقّد في الدانمارك وغيرها من دول العالم لا يمكنُ أن يكون كلّه مطبقًا على تعمد الإساءة، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ [يونس:31]. لا شكّ أن هناك عقولاً مضلَّلة تحتاج فقط إلى من يبصّرُها.
ومشكلتنا أننا لم نكن في كثير من الأحيانِ سفراءَ خير لديننا ونبيّنا، حملنا صورةً مشوّهةً عبر مسلكَين متباينَين: مسلك الشهوانيّين الذين لا يرى منهم الآخرُ إلا العربدةَ والفجور والكذب والغش والخداع، ومسلك المغالين الذين لا يرى منهم الآخرُ إلا التفجير والتدمير والترويع أو على أقلّ تقدير العبوس المطلق والفظاظة. وبين هذين خسرنا قلوبًا كان يمكنُ أن تكون مسلمةً، أو على الأقل نصيرةً للإسلامِ.
فهل نجدد هنا النظر بشيء من التأمل لقوله تعالى: ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]؟!
أرجو أن لا يسردَ لي أحدٌ قائمةً طويلةً بجرائم الآخر، فنحن نعلمُها جميعًا، لكننا نبحثُ هنا عما يجب أن نفعله نحن، لا عما يجبُ أن يفعله غيرنا. وما دمنا في سياق الواجب الذاتي فلنختم حديثنا بتركيز معانيه، ما واجبك أيها المسلم؟
أولا: التحرق والتألمُ لما أصاب نبيّك من عدوانٍ مقيتٍ.
ثانيا: الدعاءُ على الظالمين المعتدينَ.
ثالثا: الإسهامُ في تحريك القضيةِ بكتابةٍ في صحيفة أو موقعٍ، أو بنشر رسالة جوالٍ، أو بإلقاءِ كلمةٍ في جامعٍ أو مجلسٍ خاص أو عام، أو على الأقل بتحديث أولادكَ بما فعله أولئك المجرمونَ.
رابعًا: اغتنام الفرصةِ لتربيةِ الأبناء والتلاميذ بل والمجتمع على حبّ النبيّ ، وتذكر كيفية حب الصحابة له وافتدائهم إياه بأرواحهم رضي الله عنه.
خامسًا: المقاطعةُ، ببساطةٍ شديدةٍ اترك كل شيء يسعك تركُهُ مما أنتِج في ذينك البلدينِ حتى يعتذرا، ولك سندٌ شرعيٌّ من فعل النبيّ ، ثمّ سندٌ سياسيٌّ من فعل منظمة المؤتمر الإسلاميّ. لن أسمّي شيئًا من المنتجاتِ خشية الخطأ، ولكن بلد المنشأ لكلّ منتجٍ معروفٌ. احتسب ما وسعك والله يأجرك.
سادسًا: الاجتهادُ في مراسلةِ الخارجية الدانماركية والنرويجية والجهات المسؤولة في الاتحاد الأوروبي، وكذا الصحافة الدانماركية والنرويجية، وستجدُ عبر الشبكة العنكبوتية طرقًا عديدةً لذلك.
وسامحوني على الإطالة، لكن أقلُّ ما نفعلُهُ دفاعًا عن نبينا أن نتكلم ونسمعَ، وأمَلي أن لا يكون هذا نهاية المطافِ.
(1/4533)
من وحي الهجرة
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, السيرة النبوية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
27/12/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تأمّل الأحداث التاريخية الكبرى والاعتبار بها. 2- الهجرة النبوية من أعظم أحداث التاريخ. 3- من فوائد الهجرة النبوية. 4- ضرورة أخذ الدروس والعبر من الهجرة النبوية المباركة. 5- استنكار ما وقع من الاستهزاء بالنبي في بعض الصحف الغربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، اتّقوا الله، واذكُروا على الدّوامِ أنَّ تصرّمَ الأعوام مؤذِنٌ بانقضاءِ الآجالِ واقترابِ الرّحيل، فلَيكُن لكم في مرورِ الأيّام حسنُ الاعتبارِ، فإنّه الباعثُ على انتهاج نهج المراجعة والمحاسبة لإقامة العِوَج وتدارك الفارط وميول الغاية من رضوان الله.
أيّها المسلمون، إنَّ الحوادِثَ والوقائع الكبرى في حياةِ الأمَم مصدرٌ حافل بالعِبَر زاخرٌ بالمعاني غنيّ بالعظات؛ ولذا كان الوقوف عندَها وقفاتٍ متأمِّلة ديدنَ أولي الألباب وسبيل الأيقاظ وطريقَ الصفوة من عباد الله، الذين يبتغون بذلك الوسيلةَ إلى استخلاصِ تلك العِبر والمعانِي والعِظات؛ أملاً في تبيُّن أوضحِ المسالك للوصول إلى الغاية وبلوغ المنزل في مأمنٍ مِنَ الزَّلل ومَنجاةٍ من العِثار. وإذا كانت هذه الوقائع تسمو بسموِّ موضوعها وتشرُف بشرَف صانعيها فإنَّ ممّا لا ريبَ فيه أنّ الهجرة النبوية المباركة هي في الطليعة من هذه الحوادث؛ لتعلُّقها بأسمى رسالة وأشرف رسول.
ولا غروَ أن كان في أخبار الهجرة وذكرياتها مِن الدّروس والعبَر ما لا يكاد يحِيط به الحصر أو يستوعِبه بَيان، ففي خروجِ هذا النّبيِّ الكريم صلوات الله وسَلامه عَليه ومعه صاحبُه الصِّدّيق أبو بكرٍ رضي الله عنه مهاجِرَيْن مِن هَذا الحِمَى المبارَك والحَرمِ الآمِن والبلدةِ الطيِّبة التي قال عنها صاحبُ الهجرة في الحديث الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والتّرمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عَديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسولَ الله وَاقفًا على الحَزْوَرَة [1] يقول: ((وَالله، إنَّك لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ الله إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ مِنكِ ما خرجتُ)) [2] ، وقال عنها أيضًا فيما أخرجَه التّرمذيّ في جامعه بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قالَ رَسول الله لمكّةَ: ((ما أطيَبَك مِن بلدٍ وأحبَّك إليَّ، ولولاَ أنَّ قومِي أخرجوني مِنكِ ما سَكنتُ غيركِ)) [3] ، في خروجِه هذا مِن مَسقط رأسِه الشريف وفيه مراتِع الصِّبا ومرابِع الشباب، وفي مُفارقة الوطنِ التي هي مِن أشدِّ العُسر الذي يتكلّفه المَرء، في كلّ ذلكَ إيثارٌ منه لرِضَا ربِّه وطاعةِ خالقِه ومولاه، وفيه رعايةٌ لمصلحة دينِه، وفيه نشرٌ لعَقيدتِه بالعمل على اتِّساعِ دائرةِ الهِداية وإزالة العقبات مِن طريقِ الدَّعوةِ؛ ليكونَ للناسِ حقُّ الاختيَار وحريّةُ القرار، امتثالاً لقولِ الله تعالى: وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ الآية [الكهف:29]، وفي هذا رسالةٌ واضحة من صاحب الهجرة إلى الناس كافّةً أنَّ العقيدةَ أغلى منَ الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمَى من الدِّيار، وأنَّ الإيمانَ أثمنُ منَ الأوطان؛ لأنَّه قوام الحياة وعمادُها، به تطيبُ وتَزكو وتعلو وتسمو، وفي رحابه يعبد المرء ربّه تلك العبادةَ التي هي المقصود من خلق الثقلين كما قال عز من قائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
وحينَ عظُم الخَطبُ وأَحدَق الخطرُ ببلوغِ المشركين بَابَ الغارِ الذِي كانَ فيه النبي وصاحبه رضي الله عنه قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رَسولَ الله، لو أنَّ أحدَهم نظرَ إلى موضعِ نعلَيه لرآنا، فقال رسول الله قَولتَه تلك التي تأخذُ بمجامعِ القلوبِ وتصوِّر الإيمانَ في أَرفعِ مَقاماتِه وأسمَى دَرجَاتِه: ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما؟!)) [4] ، وأنزَلَ سبحانَه مصداقَ ذلك في مَعرضِ التَّذكيرِ بالآلاء: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وأيُّ معيّةٍ ـ أيها الإخوةُ ـ تَعدِل هذه المعيّةَ؟! وأيّ قوّةٍ تكافِئ أَو تماثِل هذهِ القوّة؟! إنّها الحِصن الحَصينُ مِن كلِّ الغوائِل، والعدّة في كلِّ شِدّةٍ، والدّرع الواقي من كلِّ الشّرور، إنّها المعيّةُ الخاصّة بِالتّأييد والتّوفيقِ والحِفظِ والنّصر؛ ولذا جعَلها الله للمتّقين المحسِنين من عباده كما قال عز اسمه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
وبالجملةِ فإن الهجرة النبوية الشريفةَ كانَت بحقٍّ فَتحًا مبِينًا ونَصرًا عَزيزًا وتمكِينًا وظهورًا لهذَا الدّينِ، وهزيمةً وذُلاًّ وصَغارًا على الكافرين. وإنَّ هذه الأمةَ المسلِمة خليقةٌ بأَن تأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ المددَ الذي لا ينفَد والمَعينَ الذي لا يَنضَب والزَّادَ الذي لا يفنَى، فتختطَّ لنفسها خطّةَ رشدٍ ومناهج سير ومعالمَ هداية وسبيل سعادة؛ إذ هيَ جَديرة بأن تبعثَ في الأمة المسلِمة اليومَ ما قد بعثَته فيها بالأمسِ مِن روحِ العِزَّة وبواعثِ السموِّ وعواملِ النصر وأسبابِ التَّمكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [الأنفال:30]، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين.
نفعنِي الله وإيَّاكم بهَديِ كتابِه وبِسنَّة نبيِّه ، أقول قولي هَذا، وأَستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] قال في معجم البلدان (2/255): "الحزورة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة، وجمعها حزاور. وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشدّدون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه".
[2] أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي في المناقب (3925)، والنسائي في الكبرى (4252، 4253، )، وابن ماجه في المناسك (3108)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حزم في المحلى (7/289)، وابن عبد البر في التمهيد (2/288)، والحافظ في الفتح (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
[3] أخرجه الترمذي في المناقب (3926)، والطبراني في الكبير (10/267، 270)، والبيهقي في الشعب (4013)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3709)، والحاكم (1787)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3083).
[4] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله، نحمَده ونَستَعينُه ونَستغفِرُه، ونَعوذ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلاَ مضِلَّ له، ومَن يضلِل فلا هَاديَ له، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لاَ شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسولُه، اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، إنّ في العناية بالهجرة وذكرياتها خاصّة وبالسنة والسيرة الشريفة عامةً بدوام بيان وتَكرار مدارسةٍ وتوجيه الأنظار إلى ما تضمّنته من شريف المعاني وعظيم المواقف وبديع الحِكَم وما حفلت به من أكمل هدي وأنفع علم وأوضح طريق يستبين به سموُّ هذه الرسالة وشرفُ هذا الرسول وجميلُ مناقبه وجليل شمائله وعظيمُ فضائله وعموم المنّة على الناس كّافة ببعثته، إنّ في العناية بكلّ ذلك قيامًا ببعض حقوق هذا النبي الكريم على أمّته التي استنقذها الله به من الضلالة وأخرجها به من الظلمات إلى النور وهداها به سبُلَ السلام، وفي العناية بذلك أيضًا بيانٌ مخرجٌ عن إثم الكتمان وتبليغٌ لرسالة الله وذودٌ عن حياض دينه وذبٌّ عن حوزته ومنافحةٌ عن شريعته ودفعٌ لشُبَه المغرضين ودحضٌ لدعاوى الحاقدين وقذفٌ بالحقّ على باطل الشانئين المكذّبين المستهزئين وإسفار عن وجه جمال هذا الدين وكماله ومعالم الرحمة الشاملة التي أرسِل بها هذا النبيُّ الأكرَم كما قال عزّ من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أي: للناس كافّةً، لكن عميَ عن هذا أولئك الذين يسعون اليوم في النّيل من شخصه الشريف والقدح في دينه والمسبّة لشريعته والعيب لكتابه الذي نتلو فيه قولَ أصدق القائلين في مقام الوعيد لمن آذى رسوله وصفوتَه من خَلقه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال عز اسمه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].
وإنّ مما يشرح الصدورَ ويبعث على السرور ما وفَّق الله إليه حكومةَ هذه البلاد المباركة الطيّبة من الوقوف هذا الموقف الإسلاميّ الحازم القويّ إظهارًا لشدّة الاستياء وانتصارًا لنبيِّ الله وتحذيرًا من مغبّةِ التمادي في هذا النهج العدائيِّ الخطير، فجزاها الله أفضلَ الجزاء، وزادها توفيقًا وبصيرة، وأعانها على كلّ عمل يرضي الله ورسولَه ويفرح به المؤمنون ويكون فيه الأسوةُ لأهل الإسلام قاطبةً في كلّ الديار وفي جميع الأمصار.
ألا فاتَّقوا الله عِبادَ الله، واعملوا على كلّ ما تكون به العناية بحقوق نبيّكم عليكم، وفي الطليعة من ذلك الاستمساكُ بسنته والاهتداءُ بهديه والتخلُّق بأخلاقه والتحلِّي بشمائله والذود عن كلِّ ذلك بحكمةٍ وعلم ورويّة وإخلاص.
واذكروا جميعًا على الدوام أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتّقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4534)
ذبا عن رسول الله
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الإعلام, الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
حسن بن عبد الحميد بخاري
مكة المكرمة
20/12/1426
جامع باصمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة محبة النبي من الإيمان. 2- ما يتعرض له الإسلام اليوم من العِدَاء السافر والهجوم الشرس والسخرية والاستهزاء. 3- حكم من سبّ الرسول. 4- نماذج من التضحية والفداء دفاعًا عن رسول الله. 5- واجب الأمة الإسلامية نحو المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فتقوى الله للمؤمن خير زاد، وبحسبها تتفاوت غدًا منازل العباد، وبها يتفاضل الخلق عند ربّ العباد، واقرؤوا قول ربكم: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، وقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
إخوة الإسلام، بهذا الدين أكرمنا الله جل شأنه، فكانت لنا سعادة الدنيا والآخرة، وببعثة سيد المرسلين كان العهد الجديد للبشرية التي خرجت من ظلمات التيه ومن سراديب الشرك وغوايات الضلالة إلى رحاب الإيمان الفسيح ونور الحق الأبلج الذي حمل مشعله رسول الله ، ولقي في سبيل ذلك من الأذى والعَنت ما لقي، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، فحمل الرسالة وبلّغ الأمانة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فهدى الله به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ولم يزل شفيقًا على أمته عطوفًا مريدًا كل الخير لأمته، كما نعته ربه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، حتى إذا كان يوم القيامة سعى دونهم ودعا وشفع، فأكثر من يدخل الجنة من الخلائق أمتهُ، بل يدخلون الجنة ولا يدخلها قبلهم أحد.
فتالله، ما أسعد هذه الأمة بنبيها، وما أحظاها بشرفه وبركته ، بل ما أعظم حقه على أمته بعد أن بذل وضحّى لأجلها كل ذلك، حتى حاز لها سعادة الدنيا والآخرة؛ ومن أجل ذلك فلقد صار من مقتضى الشهادتين التي ينطق بها كل مسلم حبُّ رسول الله وطاعته ونصرته وتعزيره وتوقيره، كما قال ربكم سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9]، ولن يستقر إيمان عبد حتى تتربّع محبّة رسول الله على عرش قلبه، كما قال هو : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
معشر المسلمين، إن الصراع بين الحق والباطل محتدم إلى قيام الساعة، وإنما الواجب على عباد الله المؤمنين الذين أكرمهم الله بهذا الدين فنطقوا بالشهادتين وأحبوا الله ورسوله أن يذودوا عن حياض دينهم، وأن يحموا حمى شريعتهم؛ دفاعًا عن دينهم، وقيامًا بالواجب عليهم، كلٌّ حسب استطاعته، الرئيس منهم والمرؤوس، الأمير والمأمور، الراعي والرعية.
هذا، وإننا لفي زمن يشهد عداءً سافرًا وهجومًا شرسًا حاقدًا على الإسلام وأهله، حربيًا ونفسيًا واقتصاديًا ودينيًا، اجتمع فيه علينا الشرق والغرب، لم يجمعهم إلا كراهية هذا الدين وأهله، والغرب النصراني الحاقد بكل دوله يتزعم راية هذه الحرب السوداء، وها قد أعادوها حملات صليبية على بلاد الإسلام قهرًا واستعبادًا وظلمًا واضطهادًا، يسوقهم حقدهم، ويدفعهم كيدهم، وصدق الله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، ويومًا بعد يوم في ظل صمت الأمة العاجزة، يتطاول العداء ليمسّ عقائدنا وأصولَ ديانتنا ليصل إلى مقام الألوهية الجليل ومقام النبوة الشريف، لتخطّ أقلام النصارى الحاقدين سخرية واستهزاءً وشتمًا وانتقاصًا لسيّد البشر وإمام الأنبياء والمرسلين ، في صحافتهم التي توزّع بالملايين كلَّ يوم. أما إن بلاد الأمة قد احتلّوها، وخيراتها قد اغتصبوها، وأعراضها انتهكوها، ودماءها قد سفكوها، فلم تحرّك الأمة في ذلك ساكنًا، ولم يَلْوِ المسلمين على شيء، وسكتوا على دمائهم وأعراض نسائهم وخيرات بلادهم ودمار منازلهم، لكن أن يصل البغي إلى عِرض رسول الله فتظلّ الأمة صامتة!! فماذا بقي لنا من ديننا ومن حياتنا أجمع بعد كتاب ربنا وسنة نبينا ؟! ولئن سكتنا الآن فمتى نتكلم؟!
ألا مِن حقٍّ لله ولرسوله يؤخَذ من هؤلاء النصارى الحاقدين وعلى رأسهم دولة الدانمرك التي تبنّت في صحافتها ذلك السيل القذر في شتم المصطفى منذ ثلاثة أشهر أو أكثر؟!
ألا فلتعلمي ـ أمّة الإسلام ـ أن علماء الملة قد أجمعوا على أن مَن سبّ النبي فحدُّه القتل، قال إسحاق بن راهوية: "أجمع المسلمون على أن من سبّ الله أو سبّ رسوله أو دفع شيئًا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيًا أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله"، وقال الخطابي: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله"، وقال محمد بن سحنون من علماء المالكية: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السابَّ إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان ذِمِّيًّا فإنه يُقتل أيضًا في مذهب مالك ومذهب أحمد وفقهاء الحديث".
وجاء في كتاب الله عز وجل وعيد عظيم، قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63].
فأين صدق المحبة لرسول الله معشر المسلمين يومَ اكتفينا بمطاعمنا ومشاربنا وملابسنا وسائر شؤون حياتنا، ولم يتغيّر قلب أحد ولا وجهه لما يُصيب رسولنا وهو أعظم البشر حقًا علينا؟! ولو أن أحدنا نيل من عرضه وسمعته أو شرف أمّه وأبيه لما أطاق لذلك صبرًا، ولهانت عليه الحياة بعد ذلك، أنسمع ونرى ذلك التطاول المُعلن على مرأى العالم أجمع في حقّ نبي الأمة ثم لا يؤثر فينا ذلك؟! فلنراجع إيماننا إذًا، فوالله إنه لغير صحيح.
وإني مُسمعُكم ـ أصلحكم الله ـ طرفًا من مواقف أقوام ذوي إيمان حقّ، كيف أصابهم لما نيل من عرض رسول الله ومكانته:
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصفّ يوم بدر إذ التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان صغيران، فكأني لم آمن بمكانهما ـ أي: خشيت عليهما ـ، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عمّ، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟! قال الفتى: أُخبرتُ أنه يسبّ رسول الله ، قال: والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجَل منا، فتعجّبتُ لذلك. قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فانطلقا إليه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، ثم انصرفا إلى رسول الله فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته يا رسول الله، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) قالا: لا، فنظر إلى السيفين وقال: ((كلاكما قتله)).
وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المِغْول ـ كالسيف القصير ـ فوضعه في بطنها واتّكأ عليه فقلَتها، فلما أصبح ذُكر ذلك للنبي، فجمع الناس فقال: ((أنشد رجلاً فعل ما فعل، له عليَّ حقٌ إلا قام)) ، فقام الأعمى يتخطّى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتِمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْول فوضعته في بطنها واتَّكأت عليه حتى قتلتُها، فقال النبي : ((ألا اشهَدوا أنَّ دمها هَدَرٌ)).
وقد أمر النبي بقتل جماعة ممّن كان يؤذيه بالقول ويهجوه بالشعر أو ينتقص منه، مثل كعب بن الأشرف اليهودي الذي قال فيه النبي : ((من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله)) ، فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: ((نعم)) ، فقتله محمد بن مسلمة في قصة بطولية رائعة.
وكقصة المرأة الخَطْمية عصماء بنت مروان التي كانت تؤذي النبيّ وتهجوه، وتعيب الإسلام وتحرِّض على النبي ، فقال عمير بن عدي من قومها: اللهم إنّ لك عليَّ نذرًا لئن رددتَ رسول الله إلى المدينة لأقتلنَّها، ورسول الله آنذاك ببدر، فلما رجع انطلق عمير بن عدي في جوف الليل فدخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نِيام، منهم من ترضعه في صَدرها، فحسّها بَيده، فوجد الصبيّ ترضعه، فنحّاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه في ظهرها، ثم خرج حتى صلّى الصبحَ مع النبيّ ، فلما نظر إليه قال: ((أقتلتَ بنت مروان؟)) قال: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وخشِي عُمير أن يكون افتأت على رسول الله بقتلها، فقال: هل عليَّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: ((لا ينتَطح فيها عنزان)) ، فالتفت النبي إلى من حوله فقال: ((إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي)).
ورُفع إلى المهاجر بن أبي أمية ـ وكان أميرًا لأبي بكر على اليمامة ـ امرأتان مغنّيتان، غنّت إحداهما بشتم النبي فقطع يدها ونزع ثناياها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيّتها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي فعلتَ بالمرأة التي تغنّت بشتم النبي، فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقَتلها، لأن حدّ الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدّ، أو معاهد فهو محاربٌ غادر.
ولم يقل الفقهاء أنه يُستتاب، والسبب أن ذلك حقّ للنبي، وقد كان له أن يعفو عمّن شمته حال حياته، أما بعد مماته فليس للأمة كلّها أن تعفوَ عن ذلك، ولذلك فإنه يُقتل وإن تاب.
فاتقوا الله ربكم، وانصروا نبيَّكم، وذودوا عن حياض دينكم، واستغفروا الله ربكم، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن الله هدانا بنبيّنا، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته خيري الدنيا والآخرة، وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها.
وإنه لمن حق نبينا علينا ومقتضى الشهادة التي نشهد بها كل يوم ـ بل هو أدنى ما له من الحق علينا ـ ما أوجب الله من تعزيره ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل مؤذٍ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخَلق، ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.
وفي ذلك يقول ربنا عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:8، 9]، فتعزيره ونصره حال حياته كان بالجهاد معه وبذل الروح دونه كما فعل الصحابة، وأما بعد مماته فبالذّبّ عنه ونصر سنته وحمل الراية من بعده، والأخذ بالحق من كل من استطال على مقامه الأغر ومنصبه الشريف، وتفديته بالأنفس والآباء والأمهات، كل امرئ مسلم بحسب ما يستطيع؛ بالكتابة إلى سفارة تلك الدولة النصرانية الحاقدة إنكارًا وكراهية وبغضًا، وبملء إعلامنا في التلفاز والإذاعة والصحافة والمجلات ردًّا شنيعًا على تلك الكتابات الآثمة، وأن نُسمع العالم أجمع أن صدورنا قد ضاقت وبلادنا قد ارتجّت. وأضعف الإيمان ما يملكه كل واحد منا بأن يحوز رياله دونهم ويقاطِع منتجاتهم من أجبان وألبان ومشتقاتها؛ لتبور تجارتهم عندنا، وليعلموا أن عقيدتَنا وديننا أهمّ عندنا من شأن بطوننا.
فالله الله أن يراكم الله متخاذلين عن نصرة دينكم ونبيّكم، لئلا يقع في أفهام البعض أن المسؤولية ملقاة على عواتق أولي الأمر والمسؤولين فحسب، بل هو دين يقوم كلّ فرد بحسب ما يؤتيه الله من ذلك، وإن الدولة ـ وفقها الله ـ خاطبت رسميًا تلك البلاد النصرانية بالرفض لما حصَل، ورفعت رابطة العالم الإسلامي خطابًا كذلك، ويبقى دوري ودورك يا محبًّا لرسول الله، يا راجيًا لشفاعته، يا متَّبعًا لسنّته.
ثم صلوا وسلموا على خير البريّة...
(1/4535)
إلا تنصروه فقد نصره الله
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
حسن بن عبد الحميد بخاري
مكة المكرمة
27/12/1426
جامع باصمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية للإسلام. 2- فضائل الرسول وشمائله. 3- مظاهر الاعتداء على الرسول في الماضي والحاضر. 4- وجوب الدفاع والنصرة والذبِّ عن عرضه. 5- واجبات خمس تلزم كل مسلم دفاعا ونصرة لرسول الله. 6- كفاية الله لنبيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فنِعمُ الله عز وجل علينا ـ أمة الإسلام ـ كثيرة، وآلاؤه علينا متتابعة، بيد أنّ أجلّها على الإطلاق نعمة الهداية لهذا الدين والاغتباط بما خصّ الله به أمة الإسلام على سائر الأمم، فدينها خاتم الأديان الذي لن يقبل الله من عبد سواه، وكتابها خير الكتب جعله الله مهيمنًا على ما سبقه من الكتب، محفوظًا بحفظ الله من العبث والزيادة والنقصان، ونبيها خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وخليل رب العالمين.
ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدتُّ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيًّا
إخوة الإسلام، اصطفى الله محمدًا من بين الخلائق لحمل رسالته، وبعثه عز وجل إلى الثقلين بالهدى ودين الحق، فوضع به الأغلال والآصار، ورفع به الغشاوة عن الأبصار، واستنقذ به الخلائق من عذاب النار. فكم فتح الله به أعينًا عميًا وآذانًا غُلفًا، وكم شرح الله ببعثته الصدور، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور.
فحمل على عاتقه عبء الرسالة، وبلَّغ الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، فما ادّخر وُسعا في دعوة البشرية وهدايتها إلى صراط الله المستقيم، ولم يأل جهدًا في نصح أمته عليه الصلاة والسلام ودلالتها على خير ما يعلمه لهم، ولم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى تركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، واستنقطهم: ((ألا هل بلّغت؟)) ثم استشهد عليهم ربهم: ((اللهم فاشهد)). فحقٌ له أن يشرح الله له صدره، ويضع عنه وزره، ويرفع له ذكره. قال مجاهد: "لا أُذكر إلا ذُكرتَ معي": أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وقال حسان :
وشق له من اسْمه ليُجلَّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
معشر المسلمين، لقد أعلى الله مقام نبيه ومصطفاه ، ورفع قدره، وحمى جنابه أن يُمسّ بسوء، فليس يحطّ منه أو يدنّسه أو ينتقص من قدره قدر شعرة أحدٌ من خلق الله أجمعين.
كناطح صخرةً يومًا ليوهنها فلم يَضِرْها وأوهى قرنه الوعِلُ
أو كنافخٍ بملء رئتَيه ليطفئ نورَ الشمس لم يتجاوز نفخُه أنفَه ومنخرَيه، أو كباصقٍ على السماء إنما يعودُ بصاقه بين عينيه.
كيف وقد تولى الله أمره عليه الصلاة السلام: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وتكفّل له ذو العرش بكفايته ممن تعرّض له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]؟! فما ضره يومًا من الدهر انتقاص الحاسدين وشتم الحاقدين وشنآن المبغضين، إنما يرجع أولئك بالخزي والنكال، هذا حكم الله في كل مبغضٍ مؤذٍ لرسول الله : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: هو المقطوع المنبوذ.
وعلى مرّ التاريخ بدءًا بكفار قريش وانتهاءً بعباد الصليب الحاقدين المعاصرين تبرز شرذمة مشؤومة، ضاقت صدورها برسول الهدى والنور ، فلم تسعها الرحمة التي حملها بين كفيه للبشرية، ولم تأنس بنور الهداية الذي بُعث به للبرية، فلست تدري ممّ ضاقت به تلك الصدور المظلمة؟! أمن كريم خُلقه وجميل خصاله وسموّ شمائله وطيب سيرته التي طبقت الآفاق، أم من رأفته وشفقته ورحمته ولين قلبه عليه الصلاة والسلام، أم من عدله وإنصافه مع الموافق والمخالف على حدٍ سواء؟!
أما إنّ عداء النصارى لديننا وملتنا اليوم قد تجاوز كل الحدود، لما وصل بهم الأمر إلى التطاول الوقح على شخص المصطفى ، تنقّصًا وعيبًا واستهزاءً في رسوم ساخِرة حقيرة نشَرتها صحف دانمركية ونرويجية، وُزّعت بالملايين، يُقصد بها الحطّ والانتقاص من رسول الله ، تقشعرّ لمنظرها الأبدان، وتظلم منها الأعين والله، يكفيك ـ عبد الله ـ أن إحدى تلك الرسوم عرضت صورة رجل مخنَّث ذي لحية طويلة، وله ثديان بارزان كأثداء النساء، وقد نزل طرف لباسه وارتخى فظهر منه طرف الثديين، وكُتب بجوار الرسم بلغتهم تقول: هل بإمكانك أن تثبت أنَّ نبيَّك كان رجلاً؟ لعنهم الله وأخزاهم وقبَّح وجوههم. إلى آخر تلك الرسوم التي ما من صورة فيها إلا هي ألعن من أختها.
وتبقى اليوم أمّة الإسلام أمام هذا السيل القذِر من الهجوم الوقح على نبينا وحبيبنا وقرّة أعيننا، تبقى مرتهنةً بواجب الدفاع والنصرة والذبِّ عن عرضه عليه الصلاة والسلام؛ تعزيرًا له وتوقيرًا لجنابه الشريف، فإنّ ذلك جزء من أدنى الحقوق الواجبة له على أمته، فإن الله تعالى يقول: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:8، 9]، وأوجب النصحَ على أمّته له فقال فيما أخرجه مسلم: ((الدين النصيحة)) ثلاثًا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
قال أهل العلم: "والنصح لرسول الله إنما يتمّ بصدق الإيمان به وكمال محبّته وطاعته وتوقيره وتبجيله وإحياء سنته ومعاداة من عاداه وعاداها وموالاة من ولاه ووالاها والتخلق بأخلاقه ومحبة من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة وبذل المجهود في نصرته حيًا وميتًا والمسارعة في ذلك بالأنفس والأموال والتشبه به في زيّه وهيئته ولباسه وكل أحواله ".
فهذا بلاغ ـ يا أمة المختار ـ إلى كلّ من أكرمه الله بهذا الدين وباتباع هذا النبي الكريم، إلى كل قلب يخفق حبًا للحبيب ، إلى كل مسلم غيور على عرض نبيّه يقول مقالة حسان:
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمدٍ منكم وقاءُ
إلى كل من امتلأ صدره بالتّعظيم والإجلال والتوقير لرسول الله ، إلى كل من رجا لنفسه السلامة وتمنى أن يحظى يوم القيامة بالشفاعة وأراد أن يلقى نبيّه وحبيبه هناك على الحوض، منافحًا عن عرضه الشريف، مدافعًا عن مقامه الأغرّ، ناصحًا له بكل ما أوتي، فاديًا له بالنفس والمال وبالدنيا برمّتها.
هذا بلاغ لتعزير نبيّنا وتوقيره والنصيحة له، والذبّ عنه والذود عن حمى عرضه في واجب أضحى متعلّقًا برقبة كلّ مسلم منا، فإمّا أن يُبرئ ذمّته ويقوم بواجبه ويلقى الله ناصحًا لرسوله مدافعًا عنه، وإما أن يتخلّى عن دوره ويُلقي التبعة على غيره، فيلقَى الله خائنًا لرسوله متخاذِلاً عنه، وهنا تُلقَى الأسئلة بإلحاح: فما الواجب الذي يقوم به أحدنا وتبرأ به ذمته وينصر به نبيَّه ؟
وها أنا أوجز الجواب لك ـ عبد الله ـ في خمسة أمور واجبةٍ على كل مسلم ومسلمة، فأرعني سمعك يا رعاك الله:
أما الأولى: فهو إعلان النكير وإظهار السخط على مختلف المستويات؛ تعصّبًا لله ولرسوله، وحميةً لديننا وعقيدتنا، وحفاظًا على كرامتنا وعزّنا، كلّ امرئ بحسبه، لتسمع الدنيا كلّها بسخطنا لما نال نبيّنا، وعبر وسائل الإعلام المختلفة من تلفزة وإذاعة وقنوات ومواقع إلكترونية وصحف ومجلات، فاكتب وأنكر بنفثة مصدور، ولا تقل: غيري كتب وراسل وتكلّم، فغيرك لا يكفيك المؤونة، ولا يتحمّل عنك الواجب الذي أنيط برقبتك أنت، فإن لم تكن ـ أخي ـ من أرباب القلم أو أصحاب المنابر أو فحول الشعر فحسبك أن تبثّ مشاعر الغيظ والسخط في كل من حولك، من أهلك ووالديك وزوجتك وأولادك وزملائك في العمل وجيرانك في الحي وأقربائك في الأسرة، ليبثّ الجميع للجميع، ولتتّحد المشاعر وتتآزر العواطف في البيوت والشوارع والأسواق، فداءً ونصرة لرسول الله ، فهذا أول الواجبات وأُولى الخطوات، وهو لون من التواصي بالحق الذي أُمرنا به معشر المسلمين.
وأما الواجب الثاني: فهو الجهاد بالمال وفرض الحصار الاقتصادي على تلك الدولة النصرانيّة الحاقدة بمقاطعة كلّ منتجات دولة الدنمارك ومن سار سيرها كالنرويج، وكل من يحذو حذوها، وغالب بضائعهم أجبان وألبان ومشتقّاتها قد كتب عليها اسم دولتهم. فليتّق الله امرؤ مسلم أن يدفع ريالاً واحدًا يشتري به منتجًا من بضائعهم، وليتّق الله تجّارنا ورجال الأعمال فينا أن يبيعوا ويشتروا معهم أو يعقدوا صفقات أو شركات وإياهم، أفيرمون عِرض نبينا ويسخرون بأحبّ البشر إلى قلوبنا وأعظم الناس حقًا علينا ثم نربِح تجارتهم ونُروّج بضاعتهم؟! لا والذي أكرم نبيّه وأعلى قدره، إن ديننا ونبينا أجلّ وأعظم عندنا من تجارة أموالنا وشهوة بطوننا.
أما إنّ القوم قد اعتراهم القلق وتغشّاهم الخوف من خسائر فادحة ستحلّ بهم فيما لو قوطِعوا حقًا، فها هم يتوقعون البارحة أنّ خسائرهم ستتجاوز عشرات المليارات في مقاطعة لو ظلّت ستّة أشهر فقط؛ لأنهم عُبّاد دنيا فحسب وأصحاب مادة لا غير، خصوصًا وأن نصف صادراتهم الإجمالية التي يقوم جل اقتصادهم عليها تردُ إلى بلادكم يا أهل الحرمين، فهل أدركتم كم ستنتقمون من عدوكم وتثأرون من شاتم نبيكم فيما لو أحسنتم فرض الحصار ومقاطعة بضائعهم؟! ولكم في الأسواق ألف بديل وبديل عمّا ينتجونه ويصدرونه إلينا. وليكن لنا أسوة حسنة في ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة إذ أسلم، وكان أهل مكة يشترون الحنطة من قِبَله في نجد، فاستشعر دوره ومسؤوليته تجاهَ دينه مع قوم يحارِبون نبيّه، فأقسم لهم بالله: (والله يا أهل مكة، لا تأتيكم حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله ).
فهذا واجبنا الثاني يا محبيّ رسول الله، ممتثلين أمره فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)).
أما الواجب الثالث يا رعاكم الله: فهو الإقبال الصادق على سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام، والارتشاف من معينها الصافي ورحيقها المختوم وشهدها المصفّى؛ للتعرف التام على عظمة شخصيته وكريم شمائله وتفاصيل أخباره وأحداث سيرته، لنصلح خللاً عشنا عليه طويلاً، تمثّل في فجوة بيننا وبين سيرته ، فأفرزت جفوة قست منها بعض القلوب، وجفّت منها بعض العيون، ترون ذلكم جليًّا في جهل كثير منا ومن أهل بيتنا وأبنائنا وبناتنا بجوانب من حياته ، كأسماء زوجاته وعدد أولاده وأشهر غزواته، فضلاً عن الدقائق والتفصيلات، في وقت شُغل فيه البنون والبنات بل الآباء والأمهات بثقافات سخيفة من كرة ورياضة وأفلام غناء، يحيط بأسماء أصحابها وأخبارهم كثير من شبابنا، مع جهل بشع بسيرة أشرف الخلق وسيد البشر عليه الصلاة والسلام.
قال علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وعن جده: (كنا نُعلَّم المغازي كما نُعلَّم السورة من القرآن). ومن هنا كان جيل السلف وثيق الصلة بسيرة المصطفى وحياته.
ليكن هذا منعطف خير، نعود به ـ وفقكم الله ـ للانكباب على السيرة النبوية العطرة، وبثها في المساجد والبيوت والمدارس، وتنشئة الأجيال على الشغف والتعلّق بأخباره وأحداث سيرته ، الذي لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا على يديه وما جاء به، ولا يُنال رضا الله إلا من طريقه. الضرورة إلى معرفة سيرته وهديه أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، وما ظنكم بمن إذا غاب عنكم هديه وما جاء به طرفة عين فسدت القلوب وصارت كالحوت إذا فارق الماء ووُضع في المقلاة؟! فلئن كانت سعادتنا في الدارين متعلقة بهديه وسنته فيجب على كل من نصح نفسه وأحبّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأما رابع الواجبات المتحتمة علينا أمة الإسلام نصرةً لديننا ونبينا بعد دراسة سيرته والتعرف على هديه في العبادات والمعاملات والخصومات وأخلاقه وصفاته: فهو التطبيق العملي لتلك السنن التي باتَ مهجورًا كثيرٌ منها، أو منسيًّا عند كثير من المسلمين.
وللصراحة نقول: كم كنا من أشد الناس خذلانًا لنبينا قبل الهجوم عليه، وذلك بهجرنا لسننه وتفريطنا فيها وإهمالنا وتكاسلنا في كثير من جوانبها، وهو المبعوث لنا أسوة وقدوة ودليلاً، فكم آثرنا تطبيق بعض العادات والتقاليد مع علمنا بمخالفتها للسنة، وكم قدمنا هدي أنفسنا ورغباتها في أمور تعارض هديه الكريم ، ترى ذلك ـ رعاك الله ـ في حَلق اللحى وإسبال الثياب والتبرج في الأسواق والخلوة بغير المحارم، فضلاً عن هجران النوافل والمستحبات، كالسنن الراتبة وصلاة الوتر وصيام التطوع، ولا تسل عن جهل عريض بالأوراد والأذكار النبوية في المنام والاستيقاظ والصبح والمساء والدخول والخروج والطعام والشراب واللبس والخلع وما إلى ذلك.
فإذا ما رُمنا نصرة نبينا ورفع راية الدفاع عنه فلنحيِ سننه ولننشرها بين العاملين تطبيقا لها ودعوة إليها، وبحثًا عنها في كل صغير وكبير، قال سفيان ابن عيينة: "إن استطعت أن لا تحكَّ رأسك إلا بأثر فافعل". فلنُغِظ أعداءنا بتطبيق سنّة نبينا الذي سخروا منه، ولننشر في الدنيا سنة النبي الذي هزؤوا به، ولنثبِت لهم أنه الحبيب في قلوبنا قولاً وعملاً؛ برفع راية سنته والعمل بها في مظاهرنا وهيئاتنا ولباسنا وطعامنا وشرابنا وأخلاقنا وجدنا ومزحنا، وفي حرصنا على التمسك بشريعته فروضها ونوافلها، فإن ذلكم ـ والله ـ من أصدق دلائل النصرة له عليه الصلاة والسلام، ومن أعظم شواهد النصح له، ولنربِّ أولادنا ومن تحت أيدينا على حب السنة وحب صاحبها.
وأما خامس هذه الواجبات: فالدعاء بأن ينصر الله الإسلام وأهله، ويخذل الكفر وأهله، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تواضع كلّ شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذلّ كل شيء لعزته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدانا بنبيّه، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه عدد ما صلى عليه المصلون، وعدد ما غفل عن الصلاة الغافلون، وعدد ما عاداه وآذاه وشانأه المبغضون، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أمة الإسلام، فإن الله كفى نبيّه عدوان المعتدين وشنآن المبغضين، فقال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36]، ومن رام التطاول عليه فإنما جنى على نفسه، فلن يعود تطاوله إلا عليه خزيًا ونكالاً وعذابًا، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].
وأعلن الله للأمة كلّها تولّيه جل جلاله نُصرة نبيه فيما لو تخلّت الأمة جمعاء عن نصرته، فقال سبحانه: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، فالله عز وجل قد أغنى نبيَّه عن نصرة الخلق، وهو سبحانه كافيه وهاديه ومؤيّده وناصره، ومع ذلك فالابتلاء متوجّه للأمة بأسرها للقيام بواجب النصرة المُناط بها، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، وواجب النصيحة لرسول الله: ((الدين النصيحة... لله ولكتابه ولرسوله...)) ، ولإقامة شاهد الحب الصادق لرسول الله القائل: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ، فإنما هي واجبات خمسة تلزم ساحة كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله: إعلان النكير والسخط، والحصار الاقتصادي، والإقبال على تعلّم سيرة رسول الله والتنقيب عنها، والتطبيق العملي لهديه وسنته وبثها بين الأنام، والدعاء.
ويبقى ما وراء ذلك من واجبات ومسؤوليات للحكام والمسؤولين وصُنّاع القرار ومَن دونهم، كلّ بحسبه وبما خوّله الله أن ينصر نبيه ويدفع عن عرضه؛ حتى يعلم أولئك الأوغاد عُباد الصليب أن لرسول الله أنصارًا لا يرضَون أن يُدنّس جنابه أو أن يُمسَّ بسوء، وأن دون ذلك قطعَ الرقاب وإراقة الدماء فداءً لرسول الله ، وشعارُ كل واحد في الأمة: "نحري دون نحرك يا رسول الله، وعِرضي دون عِرضك يا رسول الله".
يا أمة محمد، هذا رسولكم الذي ضحّى بكل ما يملك من أجل أن يوصِل إليكم هذا الدين، من أجل أن ينقِذكم من عذاب جهنم، كم أوذي من أجلنا وعودي وحُورب وأهين، فشُتم وبُصق على وجهه الشريف، وطُرد ورُمي بالحجارة، وشُج رأسه وكُسرت رَباعيته، ودميت شفتاه وسال الدم على وجهه الشريف.
أفنعجز ـ اليوم ـ أن ننتصر له، وأن ندرأ عن عرضه وندافع عن جنابه بكل ما نملك؟! أفلا حملنا الشوقُ على التضحية والفداء لنبيٍّ اشتاق للقائنا؟! قال مرة لأصحابه: ((وددت أني لقيت إخواني)) ، قال: فقال أصحاب النبي : أوليس نحن إخوانك؟! قال: ((أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)). أفلا نتذكر يوم أن نجتمع به عند حوضه راغبين في الشرب منه؟! فما عسانا أن نقول إذا ما خذلناه بالصمت والعجز المهين؟!
اللهم فإنا نشهدك أن أعراضنا وأموالنا ودماءنا فداءٌ لعرض نبيك ، اللهم فخذ منها ما أحببت، وادرأ بها عن نبيّك ما شئت يا ذا الجلال والإكرام. اللهم انصر دينك وكتابك ونبيّك. اللهم انصر كل من نصر الدين، واخذل كل من خذله وكاد له يا رب العالمين...
(1/4536)
الدفاع عن الرسول
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
محمد حبيب الله محمد الشنقيطي
مكة المكرمة
20/12/1426
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحمة الله تعالى بهذه الأمة. 2- دعوة المصطفى وجهاده وصبره. 3- فضائله وشمائله. 4- جريمة السخرية بالنبي. 5- انتقام الله تعالى لنبيه. 6- موقفنا تجاه هذه الهجمة الشرسة. 7- حبّ الصحابة لرسول الله ودفاعهم عنه. 8- دعوة للوحدة وجمع الكلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد رحمنا الله تعالى رحمة واسعة حين خصّنا فجعلنا أتباع خير الخلق ، الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الذلّ والظلم والجهل والشتات والمهانة إلى العزّ والعدل والعلم والاجتماع والكرامة، مَنْ نحن لولا دين محمد وملته؟! وما قيمتنا لولا رسالته وشريعته؟! وما مصيرنا لولا دعوته وعقيدته؟! لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
بلغ الرسالة أحسن بلاغ، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. آذاه قومه فصبر ليبلّغ هذه الرسالة، ذهب إلى الطائف على قدميه يعرض الإسلام على قبائلها، فأغرَوا به صبيانهم، وأدمَوا قدميه وهو صابر في سبيل الدعوة، يعرض نفسَه على القبائل فتطرده فلا يثنيه ذلك شيئا، أصحابه يعذّبون في حرّ الهجير وهم يستغيثون بالله تعالى في سبيل هذا الدين، يؤمَر بالهجرة فيخرج من بلده مكّة ويقف على شفير خارج مكة ويقول: ((والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ووالله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت)). يشجّ رأسه يوم أحد، وتكسر رباعيته، ويتكالب الأعداء على قتله يوم الخندق، فيحزّبون الأحزاب طلبا لرأسه، ويدسّ له اليهود السمّ، ويحاولون قتله أكثر من مرّة، لكن ذلك لا يثني من عزيمته لنشر هذا الدين، حتى بلغ الإسلام مشارقَ الأرض ومغاربها.
لا تحصَى فضائله، ولا تعدّ مزاياه. ما من صفة كمال إلا اتّصف بها، زكّى الله تعالى عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وزكّى لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم:3]، وزكّى شرعه فقال: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وزكّى معلِّمه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5، 6]، وزكّى قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكّى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكّى أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وزكّاه كلَّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
نعته بالرسالة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وناداه بالنبوة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الممتحنة:12]، وشرفه بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وشهد له بالقيام بها فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19].
شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأتمّ أمره، وأكمل دينه، وبرّ يمينه. ما ودّعه ربه وما قلاه، بل وجده ضالاً فهداه، وفقيرًا فأغناه، ويتيمًا فآواه. وخيّره بين الخلد في الدنيا ولقاه، فاختار لقاء مولاه، وقال: ((بل الرفيق الأعلى)).
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول نبيّ الأمّة الهادي
واليومَ يأتي أقوام ما عرفوا الله طرفةَ ساعة، يعيشون في ظلمات الشهوات، أهدافهم وأفكارهم واعتقاداتهم منحطّة، يحاولون النيلَ من هذه المنارة الشامخة. تأتي صحيفة دنماركية وأخرى نرويجية لتستهزئ بأعظم البشر على مرأى ومسمع من جميع المسلمين، أين الغيرة؟! أين حب الرسول ؟! أين الدفاع عنه؟! أليس هذا هو مقام سيدنا رسول الله ؟!
هؤلاء سينتقم الله منهم لأنه قال في كتابه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]. آذاه عتبة بن أبي لهب وسخِر منه فقال : ((اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك)) ، فكان لا ينام إلا وسط رفاقه خوفًا من دعوة الرسول ، لكن ذلك لم يمنعه، وفي بعض أسفاره استيقظ على أسدٍ مفترس قد نشب مخالبه في صدغيه، فجعل يصرخ ويقول: يا قوم، قتلتني دعوة محمد، لكن ذلك لم يغن عنه شيئا.
مزّق كسرى رسالتَه، فدعا عليه ، فقتله الله في وقته، ومزّق ملكه كلّ ممزّق، فلم يبق للأكاسرة ملك بعده، تحقيقًا لقوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: مبغضك، فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينَه وأثره، وفي الصحيح عن النبي أنه قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب)) ، فكيف بمن عادى سيد الأنبياء ؟!
ويقول سبحانه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيرها: "وقد فعل تعالى، فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شرّ قتلة" اهـ.
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قال: المستهزئون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل، فأتاه جبريل، فشكاهم إليه رسول الله ، فقال: أرني إياهم، فأراه كلّ واحد منهم، وجبريل يشير إلى كلّ واحد منهم في موضع من جسده ويقول: كَفَيتُكَهُ، والنبي يقول: ((ما صنعت شيئا!)) فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بنيّ، ألا تدفعون عني؟! قد هلكت وطُعنت بالشوك في عينيّ، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته.
لكن يا عباد الله، ما موقِفنا نحن؟ يجب أن نسأل أنفسنا: هل نحن نحبّ رسول الله حبّا صادقا، أم أن الأمر مجرد ادعاء؟! يقول : ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّك الآنَ ـ وَاللَّهِ ـ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((الآنَ يَا عُمَرُ)).
وهذا أبو بكر رضي الله عنه يبكي فرحًا حينما علم أنه رفيق لرسول الله في هجرته، وهو يمشي أمامه في الهجرة يوم يذكر الرّصد، ويمشي خلفه يوم يذكر الطلَب، حتى إذا جاء أمر فَداه بنفسه.
وهذه نسيبة بنت كعب المازنية أم عمارة، امرأة تحمل السيف تذود عن رسول الله حينما تكشّف عنه الرجال، فيقول لها: ((سليني يا أم عمارة)) ، فتقول: أسألك مرافقتك في الجنة، حبّ في الدنيا وحبّ في الآخرة.
وبعد أن انتهت غزوة أُحد مرّ جيش النبيّ وهو عائد للمدينة بامرأة من بني دينار وقد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرًا يا أمّ فلان، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتى أنظرَ إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مُصيبة بعدك جلَل ـ تريد صغيرة ـ.
ولما أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه عندما كان مشركا يفاوض النبيّ في صلح الحديبية، فرأى نماذج من حب الصحابة له ، رجع إلى قريش فقال لهم: "أي قوم، والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملِكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمّدا، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمرَه، وإذا توضّأ كادوا يقتَتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له".
هذا هو حبّ الصحابة لرسول الله ، فهل نحن نحب رسول الله أو أن الأمر مجرّد ادّعاء؟! هل نوقّره؟! هل ننشر سنته؟! هل نتأدب بآدابه؟! هل نقتدي بهديه؟!
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: عباد الله تعالى، حبّ الرسول عقيدة يتّفق عليها كلّ المسلمين بشتى طوائفهم وأفكارهم، فكلّ القلوب مجتَمعة على حبّه ، لهذا يجب علينا أن نستثمِر هذه الأزمة العالمية التي تتنامَى بسبب التعرّض لشخصه في توحيد الأمّة وجمع كلمتها حول الرسول ؛ لتكون غضبة المسلمين لدينهم في الاتجاه الصحيح، يجب أن نشيع توقير الرسول وتعريف الجيل به وبشمائله ، يجب على الأمهات أن يرضعن أولادهنّ محبّة رسول الله ، وعلى الآباء أن يجعلوا من السيرة مادّة لجلسات العائلة، وعلى المعلّمين أن يخصصوا بعض حصَصهم لسيرته العطرة. وهل نجد فرصة لنتّفق عليها في زمان كثر فيه الاختلاف أعظم من فرصة أن تتّفق القلوب والجهود للدفاع عن الرسول ؟!
إنها فرصة تاريخية نشعر فيها بالسعادة إذا رأينا جهودَ الدول والشعوب والمؤسسات تتّفق جيمعا على شيء واحد، كيف وهذا الشيء هو الدفاع عن الرسول والذب عنه؟! يجب علينا أن نعلنَ حبّنا لرسول الله وغضبنا له، وأن نرفض التعامل مع هؤلاء الذين يسبّونه ، ونقاطع كل منتج يأتينا من عندهم.
اللهم يا حي يا قيوم، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، يا جبار السموات والأرض، يا سريع الانتقام، اللهم أرنا فيمن أساء لنبيّك عجائب قدرتك وصنعِك، اللهم شلّ أيديهم وألسنتهم، وأعم بصيرتهم وأبصارهم، اللهم اجعلهم عبرة للعالمين، اللهم يا من له العزة والجلال، ويا من له القدرة والكمال، ويا من هو الكبير المتعال، اللهم لا تبقِ لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أنت بهم عليم وعليهم قدير...
(1/4537)
فداك أبي وأمي
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
سلمان بن يحيى المالكي
مدينة تدريب الأمن العام
20/12/1426
جامع أبي بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل النبي وشمائله. 2- العداء السافر على المصطفى. 3- نماذج من شهادات الأعداء. 4- حكم من سب رسول الله. 5- نماذج من دفاع الله سبحانه لنبيه. 6- قِدم الهجوم الإعلامي على الإسلام ورسوله. 7- أسباب هذه الهجمة الشرسة ضد نبينا محمد وبيان مدى تأثيرها. 8- دور المسلم تجاه هذه الشائعات والتجاوزات على نبي الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم إنا نشكو إليك ضعفَ الحال وقلةَ الحيلة، وكثرةَ الذنوب وضعف الوسيلة، لا رجاء لنا إلا في رحمتك، ولا طمع إلا في عفوك، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. وأصلي وسلم على عبدك ورسولك محمد، بلّغ الرسالةَ وأدى الأمانة ونصح للأمة، وجاهدَ في الله حقَ جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خِيارِ هذه الأمة.
أما بعد: عباد الله، محمد أفضل الأنبياء وأشرف المرسلين، إمام العالمين وقائد الغر المجلين، أمين الله على وحيه ومصطفاه من خلقه، اختاره الله وبعثه رحمة للعالمين، حمل هداية رب السماء إلى أهل الأرض، نورُ النبوة ومشكاتُها وشُعاعُها، قرن الله اسمه باسمه في الأذان وجعل شأنه عاليًا، وتفضل عليه بالوحي والرسالة، واصطفاه من بين خلقه ليكون خاتمَ النبيين، وكان فضل الله عليه عظيمًا، جعل له لواء الحمد والمقام المحمود، صاحب الوجه الوضاء والطهر والقداسة والبهاء، أعظم استنارةً وضِياءً من القمر ليلة البدر، يفيض سماحة وبشرًا ونورا وسرورًا، طلعته آسرة تأخذ بالألباب، كل من رآه عرف صدقه في وجهه، من القوم من ارتعدت فرائسه وهو ينظر إليه، ومنهم من بكى إعجابًا به وإجلالاً، ما كان عابسًا ولا مكشرًا، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، إذا سُرَّ استنار وجه كأنه قطعة قمر، أهدب الأشفار، أكحل العينين، كأنه سبيكة فضة، مليح الوجه، يقول أنس : (ما مسست حريرًا ولا ديباجا ألين من كف الرسول ). كان يُعرف بريح الطيب إذا أقبل، أحسنُ الناس خلقًا، وأكرمُهم وأتقاهم، يمشي مع المساكين، تأخذه الجارية الصغيرة بيدها فينطلق معها لقضاء حاجتها، يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم، يأتي ضعفاءهم ويعود مرضاهم، يشهد الجنائز ويجلس ويأكل على الأرض، يعقِل الشاة فيحلبها، يخصف نعله ويخيط ثوبه ويخدم أهله، كان يبيت الليالي طاويًا لا يجد عشاءً، لا يجد ما يملأ بطنه من الدقل وهو التمر الرديء، يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة، كان أشجع الناس، يُتّقى به في الحرب والقتال، كان أرحم الناس، يمتلئ عفوًا وصفحا وسخاء وكرمًا وجودًا، تمر به الهرة فيسقي لها الإناء لتشرب منه، عظيمًا في أخلاقه، عظيمًا في آدابه، عظيمًا في شمائله.
ألَم تر أن الله خلّد ذكره إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسْمه ليجلّه فذو العرش مَحمود وهذا محمد
أوفر الناس عقلاً، وأسدّهم رأيًا، وأصحهم فكرة، وأسخاهم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يجود ويقول: ((أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا)). أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم وإباء: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)). أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، لا يتميز عن أصحابه بمظهر، ألين الناس عريكةً، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، وإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولا يستطيع أن يقف أحد في طريقه، كأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب؛ تعظيمًا لحرمات الله وغضبًا لها. أشجع الناس قلبًا، وأقواهم إرادة، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار قائلاً: ((أنا النبي لا كذب، أنا أبن عبد المطلب)). أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهرٌ كالفضيلة، في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، صاحب عفة وطهر ونزاهة، أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة، يَقِيدُ من نفسه، ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). يقيم الحدود، ويقسم بالعدل بين الناس، أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كلّ ذي حقٍّ حقه، فلربّه حق، ولصاحبه حقّ، ولزوجه حقّ، ولدعوته حقّ، أزهد الناس في المادّة، وأبعدهم عن التعلّق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يُقدَّم إليه، فلا يرد موجودًا، ولا يتكلّف مفقودا، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف، أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبؤَساء، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان.
خُلِقت مبرّأً من كل عيب كأنّك قد خُلِقتَ كما تَشاء
ولو لم يكن للنبيّ من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلاً لا يستقلّ العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفي الناس حامله بعض جزائه. إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتزّ لها ذوائب المنائر. إنه النبي محمد حيث الكمال الخُلقيّ بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى.
أيها المسلمون، ثلاثةُ أشهرٍ وعشرونَ يومًا مرت منذ أن تجرّأت صحيفةُ دانمركيّة من أوسع الصحف اليومية انتشارًا في الدانمارك على الإساءةِ لنبيّنا ، أشرفِ مخلوقٍ وأطهرِ إنسان وأرفعِ من خطا على هذه البسيطةِ، نشرت هذه الجريدة اثني عشرَ رسمًا ساخرًا كاريكاتوريًا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أقلُّ ما توصفُ به أنها بذيئةٌ ومنحطة إلى أبعد الحدود، على هيئة مسابَقَة عُرضت على أكثر من خمسين رسّاما، أظهر منهم اثنا عشر قبيحا وقِحا نبيّنا محمّدا أنه مجرم حرب، إضافة إلى بعض الرسومات التي تمس علاقة المسلم بربه في أقدس فريضة وهي الصلاة، مائةٌ وعشرةُ أيامٍ أو قل: ألفانِ وستمائةٍ وأربعون ساعةً تصرَّمتْ على هذه الفعلةِ الشنيعةِ، وذلك في يوم الثلاثاء الموافق 26 من شهر شعبان لعام 1426 للهجرة النبوية. ثم تقدم مجلة نرويجيةٌ على إعادة نشر الصورِ ذاتِها بعد مائةِ يومٍ، وبالتحديد في اليوم العاشر من ذي الحجة يوم الحج الأكبر، يوم عيد الأضحى المبارك، لتنكأ الجراح وتشنّ الغارة من جديد, إمعانا للعداء وإغاظة للمسلمين، مشفوعًا بتعليقٍ لرئيس تحرير تلك المجلة قائلا: "إنّ حرية التعبير في منطقتنا مهدّدةٌ من دين ليس غريبًا عليه اللّجوء إلى العنف".
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53]. كفرة فجرة شِرذمة مردة يشنون غارات على شخصية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، رسوماتٌ وصور آثمة وقِحة وقاحةَ الكفر بأهله. فيا لله، ماذا بقي في الحياة من لذة عندما ينال من مقام محمد ثم لا ننتصر له؟! ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر والتهكم المكشوف؟! أنغمض أعيننا؟! أنصم أذاننا؟! أنطبق أفواهنا وفي الجسد عِرق ينبض، وفي القلب حب يدفق؟! والذي كرّم محمدا وأعلى مكانته ، لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن نبينا ، ألا جفّت أقلام وشلّت سواعد وفُقعت عيون وغصت حناجر امتنعت عن تسطير الأحرف والنطق بالكلمات للذود عن حياض وجناب النبي.
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمّد منكم فداء
ولم تنته القصة بعدُ لتُبارَك هذه الرسومات من ملكة تلك الدولة النصرانية الصليبية الكافرة، وهي ـ وربي ـ كبقية دول أوربا وأمريكا الشمالية التي تدين بعقيدة التثليث الباطلة الفاشلة الفاسدة الكاسدة، ولا غرو ولا عجب، فمن الطبيعي أن تظل كغيرها عدوة لكلِّ ما يمت للإسلام بصلة، هذه الدولة ظلت منذ عدة أشهر تسخر عبر صحفها ووسائل إعلامها من رسولنا الكريم ونبينا العظيم ، لا لشيء إلا لأن بعض أبناء شعبها بدؤوا يفكرون جديًا بالتخلي عن نصرانيتهم واعتناق الإسلام، كغيرهم من شعوب العالم الذين أبهرتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تداعيات لا تخفى على أحد.
إنّ ما تقوم به الدنمارك وتؤيدها النرويج وتسكت عنه بقية دول العالم النصراني يؤكد أنّ الحرب القائمة بين الإسلام والنصرانية في أفغانستان والشيشان والعراق حرب دينية عقدية، وإن تبرقعت بغطاء مكافحة الإرهاب, أو تلفعت بمرط محاربة الدكتاتوريات في العالم.
عباد الله، لقد أنصف بعض الكفار نبينا عليه الصلاة والسلام لما قرؤوا سيرته ورأوا عظيم دينه أخلاقه، يقول مايكل هارت في كتابه الخالدون المائة: "لقد اخترت محمدًا في أوّل هذه القائمة ـ بعد أن ذكر مائة رجل ـ لأنه هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي، دعا إلى الإسلام وأصبح قائدًا سياسيًا وعسكريًا ودينيًا، ولما كان محمد قوة جبارة لا يستهان بها يمكن أن أقول: إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ". ويقول الأديب العالمي تُولُسْتْوِي: "يكفي محمدًا فخرًا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وإن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة". ويقول شِبْرِك النمساوي: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته". ويقول الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل في كتابه الأبطال: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث في هذا العصر أن يُصغي إلى ما يُقال من أن دينَ الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، وقد رأيناه طول حياته راسخَ المبدأ، صادق العزم، كريمًا برًا رؤوفًا، تقيًا فاضلاً حرًا، رجلاً شديد الجد مخلصًا، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جم البِشْر والطلاقة، حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، كان عادلاً صادق النية ذكي اللب".
وهكذا ـ عباد الله ـ تتوالى الشهادات من الأعداء ومن مخالفيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ما من أحد ادّعى النبوة من الكذابين إلا وظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين ما فضحه، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ميزه عن غيره، وصدقت خديجة رضي الله عنها لما قالت: (أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)، ولما سمعه ورقة بن نوفل عرفه وقال: (هذا الناموس الذي نزل على موسى)، وعرفه بحيرا الراهب بصفته وهو صغير، وعرفته الجن لما سمعوا كلامه، وعرفه ملك الروم هرقل لما سأل أبا سفيان أسئلة فأجابه عنها، ثم قال له هرقل: "سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ: رجل يأتّسى بقولٍ قيل قبله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك لقلتُ: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذبَ على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءَهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتمّ، وسألتك: أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبد الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملِك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلَم أنه خارج، ولكني لم أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه".
أيها المسلمون، نبينا محمد عندنا في مقام عظيم، وفي نفوسنا له منزلة كبيرة، سبُّه من أعظم المحرمات وكفر وردّة عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك القائل جادًا أم هازلاً، وعقوبة من سبّ النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا أنّ الله يذيقه العذاب المهين، إن كان مسلمًا لا تمنعه التوبة من قتله وإقامة الحد عليه على القول الراجح، وإن كان من الكفار فإنّ النبيّ قد جرّد الكتائب لقتلهم، كما فعل ببعض اليهود الذين وقعوا فيه وسبّوه وشتموه في شعرهم، فأرسل إليهم من اغتالهم على فرُشهم وفي عقر دارهم. ولما فتح مكة أهدر دم عبد الله بن أخطل المشرك، فقبض عليه وهو متعلق بأستار الكعبة، فجعل يتوسل يقول: يا محمد، من للصبية؟ فقال: ((النار)) ، وقتله عند الكعبة، تلك حرمة محمد بن عبد الله.
وصدق الله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وقال: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، وقال: فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ [البقرة:137]، وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "وقد فعل سبحانه وتعالى، فما تظاهر أحد يعني بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتله".
ولقد جاءت الروايات مبينة لهذا، فأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو النعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قال: (المستهزئون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطة السهمي والعاصم بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله فقال: أريني إياهم، فأراه كل واحد منهم وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده، ويقول: كَفَيتُكَه؛ فأما الوليد فمر برجل بن خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بَني ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطعنت بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فرُبط على شبرقة فدخل من أخمص قدميه شوكة فقتلته، وكان بعض أعدائه مع أبيه في سفر، فنزلوا منزلاً وهم على الشرك، فقال أبوه للقوم: إني أخاف من أصحاب محمد على ولدي، إني أخاف من السباع، اجعلوا حوله الأمتعة وناموا حوله، فجاء أسد وهم نيام، فشمهم حتى وصل إلى ابنه فافترسه).
وروى أنس : (أن رجلاً نصرانيًا أسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام يعني الوحي، فعاد نصرانيًا فارتدّ، وكان يقول: ما يدري محمّد إلا ما كتبت له، فادعى أنّ هذا القرآن منه، فأماته الله فدفنوه ـ أي: دفنه النصارى ـ، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض لليوم الثاني، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه، فحفروا له وأعمَقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس) رواه البخاري ومسلم.
وذكر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله عن والده محمد شاكر وكيل الأزهر سابقًا أن خطيبًا مفوّها فصيحا كان يمدح أحد الأمراء في مصر عندما أكرم طه حسين الذي كان يطعن في القرآن وفي العربية، فلما جاء طه حسين إلى ذلك الأمير قام هذا الخطيب المفوّه يمدح ذلك الأمير قائلا له:
جاءه الأعمى فما عبس بوجه وما تولى
وهو يقصد من شعره هذا إساءَة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله قال عن قصته عليه الصلاة والسلام مع ابن أم مكتوم: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1، 2]، فلما صلى الخطيب بالناس قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر رحمهما الله وقال للناس: "أعيدوا صلاتكم فإنّ إمامكم قد كفر؛ لأنه تكلّم بكلمة الكفر"، قال الشيخ أحمد شاكر: "ولم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله أنه رآه بعينه بعد بعض سنين، بعد أن كان عاليًا منتفخًا مستعزًا مهينًا ذليلاً خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقّى نعال المصلين ليحفظها في ذلّة وصغار".
وهذا أحدهم ذهب لنيل شهادة الدكتوراه خارج بلده، فلما أتم دراسته وكانت تتعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام طلب منه أستاذه النصراني أن يسجّل في رسالته ما فيه انتقاص للنبي عليه الصلاة والسلام وتعريض له، فتردد الرجل بين القبول والرفض، فاختار دنياه على آخرته، وأجابه إلى ما أراد طمعًا في تلك الشهادة، فما أن عاد إلى بلده حتى فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مروّع، ولَعذاب الآخرة أشد وأنكى.
اللهم شلّ أيد وأخرس ألسنة تطاولت على نبيك. اللهم أرنا في أعدائك وأعداء رسولك الذلة والصغار والعار والشنار يا رب العالمين. اللهم أرنا فيمن سبه مصيرًا أسود. اللهم انتقم لنبيك، اللهم انتقم لنبيك، اللهم انتقم لنبيك، إنك عزيز ذو انتقام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ليس له صاحبة ولم يتّخذ ولدًا، وخلق كل شيء فقدره تقديرا، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، البشير النذير والسراج المنير، حامل لواء الحمد، والشافع المشفع يوم الدين، أول الناس قيامًا من القبور، وأول الناس سيرا إلى ساحة البعث والعرض والنشور، وأول الناس ورودًا على الحوض، وأول الناس عبورًا للصراط، وأول الناس دخولاً الجنة، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، نشهد أنه رسول الله حقًا، والداعي إلى سبيله صدقًا، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا عليه الصلاة والسلام، اللهم ارضَ عن أصحابه وعن آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعن خلفائه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إن الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدم الإسلام، وهو أحد الأساليب التي اتخذها الكفار للصد عن سبيل الله تعالى، بدأ من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر، وهذا الهجوم له ألوان كثيرة ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق الشبهات والمغالطات والطعون، لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر انتقل الهجوم إلى لون جديد قذر لم يُعهد من قبل، وهو التعرض لشخص الرسول والنيل من عرضه وذاته الكريمة، وقد اتسم هذا الهجوم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء، مما يدل دلالة واضحة أن هذا التهجم له منظمات وله استراتيجيات خاصة، تتركز على استخدام وسائل الإعلام، بل ويقوم به أناس متخصصون مدعومون من بعض قساوسة النصارى لا كلّهم، وليست هذه الإساءات هي الأول من نوعها، ومن المؤسف أن يمضي عام 2004م بتأريخهم وقد أعلنوها حملة ظالمة جائرة قائلين: "مليون ضد محمد"; أي: مليون قسيس ضد محمد ، وها هو عام 2005م يمضي كالعام الذي قبله، ولا عجب فهذا القسيس الأمريكي جري فالويل يقول: "أنا أعتقد أن محمدًا كان إرهابيًا، وفي اعتقادي أن المسيح وضع مثالا للحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمدًا وضع مثالاً عكسيًا؛ لأنه لص وقاطع طريق"، ويقول بات روبت سون: "كان محمد مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثًا من الجنون"، وأحدهم يقول: "محمد شاذ جنسيا، يميل للأطفال، ويتملكه الشيطان".
نعم، لقد أغاظهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقد أغاظهم انتشار دينه، لقد أغاظتهم شريعة الجهاد التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، أغاظتهم قوة الإسلام وسرعة انتشاره، أغاظهم أن الإسلام أول دين في العالم ينتشر سريعا، أغاظهم هذا التوقير والاحترام الذي يحظى به نبينا عليه الصلاة والسلام، مع تقصير كثير من المسلمين تجاهه. إن هذه القضية التي تثير غيرة كل مسلم تدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة الشرسة ضد نبينا محمد والأغراض الكامنة وراءها ومدى تأثيرها.
إن من أهم العوامل الداعية لظهور مثل هذه الهجمات الشرسة على النبي هو سرعة انتشار الإسلام، والتي أثارت غيرة هؤلاء الأعداء، مما جعلهم يخافون من انتشاره السريع، ليس في الغرب فقط، بل والخوف أيضا من عودة المسلمين في العالم الإسلامي إلى تمسكهم بدينهم.
ثانيا: استغلال ضعف المسلمين في كثير من الجوانب الاقتصادية والإعلامية والسياسية.
ثالثا: حسد القيادات وخصوصا الدينية، وقد وجد أن كثيرا من هذه القيادات تغيظهم شخصية النبي ، لما يرون توقير المسلمين لهذا النبي الكريم وحبهم الشديد له.
رابعا: أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي أحد الأسباب الرئيسة التي جعلتهم يزيدون من تهجمهم ضد الإسلام ونبي الإسلام ، وإلا فالهجوم على الإسلام موجود من قديم، لكنها تظهر في وقت دون وقت، وتصدر من شخص لآخر، وكان المسلمون يقومون بمواجهتها مباشرة، أما الآن فقد أصبح الهجوم على النبي بشكل عام وعلى مرأى ومسمع من العالم.
خامسا: قضية التغريب، حيث يسعى الغرب إلى جعل العالم كله تحت هيمنته، سواء كان في الثقافة أو الفكر أو الاقتصاد، كما أنهم يريدون تغيير أفكار المسلمين لكي يوافقوا على خططهم في مجال العولمة، إذ أصبح الإسلام هو العدو الأساسي لهم وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
سادسا: خطر الإسلام وقوته وقدرته ووقوفه ضد الشيوعية، ومن خلال تجربتهم مع المسلمين رأوا أن المسلمين كما وقفوا ضد التيار الشيوعي أنهم سيقفون في يوم من الأيام ضد حضارتهم الغربية.
عباد الله، كيف نستطيع أن نواجه هذه الحملة؟ وما دور المسلم تجاه هذه الشائعات والتجاوزات على نبي الله ؟ وما الخطوات العملية التي ينبغي أن تقوم بها الدول الإسلامية وشعوبها؟
إن هناك كثيرا من الوسائل يستطيع المسلم بل والدول والشعوب عموما تطبيقها وفعلها على أرض الواقع، وخاصة إذا ما رتبت الأوليات، كيف لا وقضية نصرة النبي من أهم الأوليات التي تُناط بها الدول الإسلامية، وليست مشروعا شخصيا تحاك من ورائها مكاسب وأموال، وإنما هي قضية أمة وقضية عقيدة، ينبغي أن تتواطأ جميع المؤسسات الإسلامية في العالم على نصرة النبي والذب عن دينه وعرضه الشريف، وتعريف العالم بأن هذا الرسول رسول الإنسانية، وهو رسول العدالة والصيانة والديانة، كما ينبغي نصرة النبي في نفوسنا بتطبيقنا شرعه واتباعنا سنته وهديه، فإن هذا من أعظم النصر له، والمقاطعة المقاطعة التامة لهذه الدولتين الباغيتين وكل من ينهج نهجها سياسيًا واقتصاديًا؛ جزاء اعتدائهم على حبيبنا ، وقد عرض ذلك مجلس الشورى برئاسة سماحة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد حفظه الله، وكان من نتائج تلك المقاطعة السياسية من بلاد الحرمين ـ وفق الله ولاتها لكل خير وحرسهم من كل شر ـ أن تم استدعاء سفير المملكة بالدانمارك، ونتج عن ذلك مقاطعة مجموعة من كبار التجار للمنتجات الدولتين، حتى إن بعض البضائع ردت من ميناء جدة، ومنهم من أعلن المقاطعة علانية مما نتج عن هذه المقاطعة خسائر لا تحصى تجاوزت المليار دولار، وقد نشرت الصحيفة المشؤومة في موقعها على الإنترنت تقريرا عن المقاطعة الشعبية في المملكة، واهتمت شركة آرلا الدنمريكة وحدها بموضوع المقاطعة في السعودية، وقالت: "إن السياسيين والقادة الدينيين شجعوا الناس على المقاطعة، وشاركت محطات التلفزة في هذه الحملة بتعريف الناس بمنتجات شركة آرلا، ومن المتوقع أن تخسر الشركة في الأيام القادمة البلايين". وبينت أن المقاطعة حملة شعبية واسعة يقوم بها السعوديون تعبيرا عن غضبهم عن الرسومات التي نشرت عن الرسول محمد ، كما أشارت إلى أن السفير الدنمركي في السعودية خاطب الزعماء الدنمركيين قائلا: "إن الوضع في تطور خطير". وهذا ـ وربي ـ أقل القليل تجاه نبينا محمد.
كما أنه ينبغي عرض سيرته وذلك من خلال الوسائل المتاحة بالمقالة والمطوية والكتاب والبرامج المرئية والمسموعة، ومن خلال المدارس والمساجد والبيوت والمحافل، حتى يقف الصغير والكبير على تفاصيل سيرته وسنته ، كيف لا وهو منا ونحن منه؟! وقد فزنا به وشرفنا بالنسبة إليه. كما ينبغي تبادل العناوين والتعريف بكيفية الكتابة والاستنكار أقل ما نقوم به وتعريف الكفار الذين يعيشون بيننا بنبينا عليه الصلاة والسلام.
اللهم أعز دينه وأعل شأنه وأعل ذكره. اللهم اجعلنا من أتباعه حقًا، ومن أهل سنته صدقًا. اللهم ارزقنا شفاعته يوم الدين. اللهم اجعلنا من القائمين بحق نبينا يا عظيم. اللهم إنا نسألك وأنت العظيم القوي الجبار أن تهلك هؤلاء الذين وقعوا في نبينا، أرنا فيهم آية، اللهم إنا نسألك أن تسلط عليهم جندًا من عندك، اللهم أرنا فيهم هلاكًا وبيلا وخذهم أخذًا شديدًا، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1/4538)
الإسلام وسخرية اللئام
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد الله بن عبيد الله بن عطاء
المدينة المنورة
20/12/1426
جامع ربيعة بن مالك
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل النبي. 2- نماذج من مسلسل الاستهزاء والسخرية بدين الإسلام وبرسوله عليه الصلاة والسلام. 3- وقفات مع هذه الهجمات الشرسة. 4- الواجب على المسلمين تجاه هذا الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله جل وعلا، وخير الهدي هدي سيدنا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون، يتفق أهل الإسلام جميعا أن نبينا محمدا خير الأنبياء والمرسلين، وأنه نبي آخر الزمان، ختم الله به النبوة، وجعل رسالته سببا لدخول الجنة لمن بلغته فصدقها وآمن بها. ومن شك أن يهوديا أو نصرانيا أو غيرهما يسعه أن يدين بغير الإسلام بعدما علم به فليجدد إيمانه، يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]، ويقول تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((والذي نفسي محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) رواه مسلم.
وقد شهد ظهور الإسلامِ حربا شعواء من أهل الكفر والضلال، وناصبه العداء كثير منهم، لأنه غيّر المعالم، ونسف الأعراف الجاهلية المبنية على الظلم والعدوان، فأقَرَّ بالمساواة بين السيد والمملوك، وحَفِظَ الحقوق لأصحابها بغض النظر عن الجنس واللون والديانة، وحَرّمَ التفاخر بالأحساب والتنابزَ بالألقاب، وعَظَّمَ حق المرأة وكَرَّمها بعد أن كانت تُعَدُّ عارًا يجب وأدُه في المهد، إلى غير ذلك من المبادئ العظيمة التي تلألأ نورها مبددا ظلام الجهل والظلم، وفاح عبيرها لينثر في الأجواء مسكا طيبا. فمَكَّن الله لهذا الدين في الأرض بعد غربته، ويَسَّرَ الباري لنبيه محمد حتى بلغ هذه الدعوة للأمة كافة، وسمع الناس في كل مكان سماحة هذا الدين، وحسن خلق سيد المرسلين ، فدخل الناس في دين الله أفواجا.
لكن سنة الصراع بين الخير والشر مستمرة، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فمع كل هذه المكانة العالية والمقام الرفيع لحبيبنا ونبينا محمد ينبري بين فترة وأخرى من ينال من شخصه الكريم الشريف تارة، ومن دينه العظيم تارة أخرى، وما اليوم إلا امتداد للأمس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء)) رواه مسلم. فأيّ غربة أكثر من أن يكون عددنا أكثر من مليار مسلم ومع ذلك فنحن أقل شأنا في نظر الأعداء من كل الملل والنحل؟!
من غربة الدين ما نرى من تسلط أعداء الإسلام على بلدان المسلمين، والتحكم في مصيرهم، ونهب خيرات بلدانهم، بل ومهاجمة مدنهم وقراهم، وقتل العزّل من النساء والأطفال والرجال، تحت ستار من دعاوى كاذبة وتهَمٍ باطلة وقضايا مفتعلة.
إن مسلسل الاستهزاء والسخرية بدين الإسلام وبرسوله عليه الصلاة والسلام مستمر ما دام المسلمون لا يردون إلا عبر بوق الشجب والاستنكار، وما داموا منشغلين عن الدفاع عن دينهم ونبيّهم بسفاسف الأمور.
لقد رأينا وسمعنا كيف عمدت يهودية في إسرائيل للاستهزاء بخير خلق الله نبيّنا محمد ، ومُرْتد ألَّف كتابا ضَمَّنَهُ سخرية برسول الله محمد ، وأمريكي طالب بنسف الكعبة المشرفة ردا على ما يسمى بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وراعي البقر الغربي يهين كتاب الله بوضعه في المراحيض ليهين السجناء المسلمين لديه، ويزعم أنه ينشر الديمقراطية والعدل والأمن في العالم.
وتستمر الجهود الخبيثة في هذا الطريق العفن، وكان من آخرها:
1- ما صدر عن القساوسة "جيري فالويل" و"بات روبرتسون" و"فرانكلين جراهام" و"جيري فاينز" من إساءات مرفوضة وكلام ساقط نحو دين الإسلام ونحو رسول الله محمد.
2- ما صدر عن منظمة "رابطة الرهبان لنشر الإنجيل" التنصيرية المدعومة بأموال هائلة من الفاتيكان، حيث تعد من أهم مؤسسات الفاتيكان ومقرها روما، وتضم نحو مليون فرد يعملون ليل نهار وفي كل مكان من أجل وقف انتشار الإسلام في العالم بكل قوة بزعمهم، وعلى تشويه صورة النبي محمد ونَعْتِه بأبشع الصفات، من خلال مشروع أطلقوا عليه اسم: (مليون ضد محمد).
3- ما صدر عن الصحيفة الدنمركية "جيلاندز بوستن" ( Jyllands-Posten ) من السوء حين نشرت 12 رسمًا كاريكاتيريًا ساخرًا، يوم الثلاثاء 26 شعبان 1426هـ الموافق 30 سبتمبر 2005 م، تصور الرسول في أشكال مختلفة، وفي أحد الرسوم يظهر مرتديًا عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه.
4- وها هي المجلة النصرانية النرويجية "ماغازينت" ( Magazinet )، تنضم لهذا الاتجاه الآثم، وتعيد نشر تلك الصور الكاذبة الخاطئة تحت شعار حرية التعبير في يوم عيد الأضحى 1426هـ الموافق 10 يناير 2006م. وفي هذا يقول رئيس تحرير تلك المجلة "فيبيورن سيلبك" ( Vebjrn Selbekk )، يقول: "لقد ضقت ذرعًا شأني شأن الصحيفة الدنمركية من تآكل حرية التعبير الذي يحدث خفية"، ويقول: "لقد فعل العديدون بالفعل الكثير لكي لا يتم وأد هذه القضية، وبهذه الرسوم نود أن نقدم مساهمتنا الصغيرة".
هكذا يتتابع الأشرار في الاستهزاء بأطهر البشر وأزكى الخلق محمد عليه الصلاة والسلام.
لقد عمد إخواننا المسلمون في الدنمرك ومعهم غيرهم من المواطنين الدنمركيين وكذلك غيرهم من المقيمين في الدنمرك إلى إنكار هذه السخرية التي نالت أشرف إنسان في التاريخ، فكُتبت المقالات ووُجهت الرسائل إلى الحكومة الدنمركية وإلى الصحيفة المعنية، مطالبين بالاعتذار عن هذا العمل والكَفِّ عن مثله مستقبلاً، وقد تظاهر في شهر أكتوبر الماضي أكثر من (5000) مسلم وغيرهم من المتعاطفين معهم في العاصمة كوبنهاجن ضد الصحيفة وطالبوها بالاعتذار.
لقد أثار هذا التصرف الأرعن استهجان المسلمين في كل مكان، بل استنكره من غير المسلمين عدد ليس باليسير من عقلاء العالم، وقد طالب عدد من سفرائهم ممن عملوا في الدول الإسلامية على الاحتجاج، وطالبوا باعتذار الصحيفة للمسلمين، غير أن السلطات الدنمركية ومسؤولي الصحيفة رفضوا ذلك بمبررات حرية الإعلام والتعبير، وأنه لا شيء يستثنى من شموليته وحريته. ولا زال مسؤولو الصحيفة يرفضون الاعتذار، وينوون الاستمرار في منهجهم المتهجّم على الرسول الكريم الذي قال الله له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، متجاهلين بذلك المواثيق والأعراف الدولية، غير مبالين بالاعتراضات المقدمة إليهم.
وإذا تأملنا في خلفيات هذه التهجمات فلنا أن نقف الوقفات التالية:
أولاً: محمد أزكى البشرية، هذه السخريات ما هي إلا محض افتراء وكذب، فمحمدٌ رسول الله هو أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره هذه السخرية مهما عظمت أو تكاثرت، كما أخبرنا بذلك ربُّنا في القرآن العظيم.
ونحن نعتقد أن الله سبحانه سيحمي سمعة رسوله محمد ، ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّدٌ)). فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه.
قال الإمام العالم الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: ((يشتمون مُذَمَّمًا)): كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فَعَلَ الله بمذمم، ومُذَمَّم ليس هو اسمه ، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وهكذا تلك الرسوم التي دعت الجريدة الرسامين لرسمها ونشرتها على صفحاتها، إنها قطعًا لا تمثل رسول الله محمدًا ، لا في رسمها ولا في رمزها، لا في رسمها أي: ملامح الوجه؛ فوجه محمد هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، وجهه أعظم استنارةً وضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبشرًا وسرورًا، وجه محمد له طلعةٌ آسرة تأخذ بلبّ كل من رآه إجلالاً وإعجابًا وتقديرًا، ولا في رمزها فمحمد ما كان عابسًا ولا مكشرًا، وما ضرب أحدًا في حياته، لا امرأة ولا غيرها، تقول عائشة زوج رسول الله ورضي الله عنها: (ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) رواه البخاري ومسلم.
وإنه لمن الحسرة والبؤس على هؤلاء السفهاء أن يكون مجرّد علمهم عن محمد رسول الله هو ما استهزؤوا به، مما أوحت به إليهم الأنفس الشريرة، وصدق الله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
وقد شهد لمحمد عقلاءُ البشر ومثقفوهم، حتى من أهل الملل الأخرى، شهدوا له بالنُّبل والطهر والفضائل الجمَّة.
ثانيًا: السخرية بالأنبياء لن تزيد العالم إلا شقاءً؛ لا يخفى أن العالم اليوم يشهد اضطرابات عديدة، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح بغيًا وعدوانًا، مما يجعلنا أحوج ما نكون لنشر أسباب السلم والعدل، وخاصةً احترام الشرائع السماوية واحترام الأنبياء والمرسلين، فهذا المسلك يتحقق به حفظ ضرورات البشر في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وغير ذلك من حقوقهم ومقومات عيشهم الكريم. ومثل هذه الأطروحات العدائية والاستفزازية لن تزيد العالم إلا شقاءً وبؤسًا، ذلك أننا جميعًا بحاجة لمصادر الرحمة والهدى، والتي يسَّرها رب العالمين على يدي رسوله محمد ، فكان المستهزئون به المشوهون لحقيقة حياته ورسالته ممن يصد الناس عن الخير ويمنع من استقرار العالم وطمأنينته، وهذا الصنف من الناس توعده الله في كتابه وندد بسوء فعالهم: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:3].
وإنَّه لمن المؤسف لحال البشرية اليوم مع ما وصلت إليه من التقدم في مجالات عديدة من علوم الدنيا بما تتضمنه من الاكتشافات المبهرة، ثم يأتي في هذا الخضم من العواصم التي تدَّعي التحضر أصواتٌ مبحوحة وكتابات ساقطة تتردى معها تلك المجتمعات بسبب إسقاطات أخلاقية نحو المقدسات.
ثالثًا: دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد، إن ادعاء حرية التعبير في نشرها تلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع؛ لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة.
رابعًا: هذا الاستهزاء لا يخدم مصالح أحد أبدا، إن العقلاء في البلاد الغربية النصرانية ينبغي أن يدركوا كم في تلك الكلمات والاستفزاز من الأخطار الكبيرة على رعاياهم ومصالحهم في أقطار الأرض، بل وفي بلدانهم، وأنها قد تؤدي لمزيد التوتر، بما يتعين معه الكف عن هذا الغيِّ والبهتان. فقد تأخذ الحميةُ بعض المتحمسين للثأر ممن وقع في رسول رب العالمين ، ومئات الملايين يفرحون أن يموتوا دفاعًا عن نبيهم وعن مكانته الشريفة أن تمتهن، ولكن من ضمن هؤلاء من لا يَقْدِر أن يصفِّي حسابه مع من استهزئ وقال الإفك والبهتان لبُعده عنه؛ فيعمد إلى من يراهم يدينون بالنصرانية حوله فينتقم منهم ومن ممتلكاتهم لقربه منهم، مع أن هذا العمل الأخير لا يجوز، وقد حرمه ومنع منه رسول الله محمد فقال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) رواه البخاري، والمراد بالمعاهد من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمانٍ من مسلم، ويدخل في ذلك ما له صلةٌ بالأعراف الدبلوماسية التي التزمت بها الدول وتعارفت عليها. وأعمال التحريض والاستفزاز تلك ستؤدّي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح ومزيد الاضطراب والتوتر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد ، اللهم أحينا على سنته، واجعلنا اللهم في حملة الدفاع عنه وعن عقيدته، وتوفنا على ملته واحشرنا في زمرته، واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
أما بعد: فالواجب عليك ـ يا من أحببت المصطفى ـ أن تتحرك، الواجب عليك أن تتبع كل طريقة ممكنة لإنكار هذا المنكر ما استطعت لذلك سبيلا، هؤلاء الأقزام الأوغاد اللئام لم يتعرضوا لزعيم تاريخي، ولم ينالوا من شخص عادي، لقد تجرؤوا على خير البشر، تعرضوا لنبي السلام والإسلام، تعرضوا لسيد ولد آدم ، فلا تترك وسيلة ممكنة إلا فعلتها، وإذا أردت المزيد من العناوين لترسل لهم ذلك ففي صحيفة المدينة اليوم عناوين يمكن الاستعانة بها في هذا الباب. جعلنا الله من المدافعين عنه.
أنا لا أدعو للقتل والتفجير فهذا خلق الخوارج، ولكنني أهيب بجميع من مكنه الله من حمل أمانة القلم أو فتح عليه للانخراط في شبكة المعلومات وغيرها أن يدين مثل هذه الأعمال؛ حتى يعلم أولئك أن في عروقنا دماء الإسلام، وفي قلوبنا يتربع حب محمد عليه الصلاة والسلام، ولن نستطيع العيش بدون دماء ولا قلب.
إن هذا الوضع الذي يمر به الإسلام والمسلمون هذه الأيام قد أخبر عنه حين قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟! قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)) ، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: ((حب الحياة وكراهية الموت)) رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
(1/4539)
محمد في قلوبنا
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
27/12/1426
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل المصطفى. 2- حكم من سب الرسول. 3- نماذج من فداء الصحابة للنبي. 4- واجب المسلم تجاه ما أصاب النبي من أذى وسخرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن أعظم منّة من الله تعالى على عباده المؤمنين هدايتهم للدين الحنيف والشريعة الإسلامية التي جعلها الله خاتمة الشرائع والأديان، وكل ذلك انتظم عقده ببعثة محمد الرسول الأمين وخير خلق الله أجمعين، فهدى الله به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصّر به من العمى، وفتح به قلوبًا غلفا وآذانا صما، فحقّ لأهل التوحيد أن يفخروا بهذه النعمة العظيمة، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
هذا الرسول العظيم الذي رفع الله ذكره فلا يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسْمه كي يُجله فذو العرش مَحمود وهذا محمد
محمد الذي لعن الله مؤذيه في الدنيا والآخرة: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]. محمّد الذي عصمه الله من الناس وكفاه المستهزئين وبتر شانئه ومبغضه.
محمد الذي اختصه الله من بين إخوانه المرسلين بخصائص تفوق العدّ، فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد، وله الشفاعة العظمى وله الكوثر، وهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يفتح له باب الجنة، وهو أول شافع وأول مشفّع، وهو سيّد ولد آدم أجمعين الذي زكاه ربه تزكية ما عُرفت لأحد غيره قاطبة، فقد زكى الله عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وزكى لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم:3]، وزكى شرعه فقال: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وزكى قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكى أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، وزكى أخلاقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وزكى دعوته فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]. فنحن أمام رجل عظيم ما عرف التاريخ مثله في العظمة.
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول نبي الأمة الهادي
لذلك كان الإيمان به ركنا ركينا من أركان الدين، وكانت محبته عبادة وطاعة لله رب العالمين، مقدّمةً على محبة النفس والأهل والمال والعشيرة، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، ويقول النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) متفق عليه.
لذلك فقد آذانا وكدّر صفو حياتنا وعصر قلوبنا ما قامت به بعض الصحف الدنمركية والنرويجية المجرمة بإقرار ومباركة من حكومة بلادهم بنشر رسومات ساخرة تستهزئ برسول الله ، وتصفه بأوصاف باطلة مفتراة. أسأل الله أن يشلّ يد من أقدم على ذلك، فقد لعبت الخمر في عقولهم، وملأ لحم الخنزير بطونهم، فعبدوا الشيطان وأطاعوه فزيّن لهم سوء أعمالهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يُظهر للناس كمالَ عرضه وعلوّ قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة"؛ لذلك فالأمر عظيم والخطب فادح.
هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه وعند الله فِي ذاك الجزاء
هجوت مُحمدا برّا تقيّا رسول الله شيمته الوفاء
أتَهجوه ولست له بكفء وشرّكما لخيركما الفداء
فإنّ أبِي ووالده وعرضي لعِرض محمد منكم وقاء
وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على قتل من سبّ النبي ، وأنه يكفر إن كان مسلما، وينتقض عهده إن كان معاهدًا، بل ذكر بعض أهل العلم أن الحدّ لا يسقط عنه ولو تاب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان معنى السّبّ: "السب الذي ذكرنا حكمه هو الكلام الذي يقصد منه الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه".
روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله ركب حمارا، فانطلق ومعه المسلمون يمشون، فأتى عبد الله بن أبي بن سلول، فلمّا رآه ابن سلول قال: إليك عني فقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. الله أكبر، هذه صورة مما كان عليه قدر محمد في نفوس أصحابه رضي الله عنهم.
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال: أي عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخبرت أنه يسبّ النبي ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت لهما: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.
إذا فالسب والتنقيص ليس وليد اليوم، بل هو قديم قِدم الإسلام؛ لأن الكفر ملة واحدة.
هو الكفر لكن بالأسامي تجدّدا وأصبح ضدّ الدين صفّا موحدا
نسأل الله أن يردّ كيد الكائدين في نحورهم، وأن يردّهم على أعقابهم، وأن ينصر دينه وسنّة رسوله وعباده المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، إن المنصفين من عقلاء العالم ـ بغضّ النظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين ـ ليدركون بقراءة سيرة المصطفى ما كان عليه من كمال في الشخصية وتعامل راق وأخلاق عالية، وأنه ما بعث إلا لسعادة البشرية كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
عباد الله، أمام هذه الأعمال والممارسات المشينة يأتي السؤال المهم والملح: ما دورنا؟ وهذا سؤال قد تطول إجابته، لكن لعلنّا نجمله على شكل نقاط سريعة فنقول:
1- على المسلمين جميعا أن ينكروا هذا التصرف الأهوج الأرعن، وأن يعلموا أنه محادّة لرسول الله ، وكل على حسب استطاعته في الإنكار، ولعل من أنسب الإنكار إرسال الرسائل إلى الحكومة الدنمركية والنرويجية وإلى سفارتها وإلى تلك الصحيفة مطالبين بالاعتذار والكف عن هذه الأعمال التي لا تزيد النار إلا اشتعالا.
2- على المسلمين جميعا أن يعودوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وأن يتمسكوا بهما، فقد أثبتت هذه الفتنة الحب العظيم من المسلمين لنبيهم ، وأخرجت المعدن الصافي لقلوب كثيرين حتى ممن تهاون ببعض الأوامر وارتكب بعض النواهي. فنقول: أما آن لكم أن تعودوا إلى ربكم، وأن تقدروا حجم الهجمة الشرسة على دينكم ووطنكم وأمتكم، وتكونوا مشعل هداية ومنبر إصلاح؟!
3- على الحكومات الإسلامية أن تتخذ موقفا موحدًا ضد هذا الهجوم، فلا تتعامل مع دولة تظهر الاستهزاء برسول الله على صفحات جرائدها، إلا أن ترتدع وتعاقب المسيء ومن وراءه. وإننا إذ نذكر ذلك لنحمد الله تعالى أن كانت هذه الدولة هي أول من بادرت إلى هذا الأمر نصرة لنبي الهدى. نسأل الله تعالى أن يحفظها بالإسلام عزيزة منيعة.
4- فيما يتعلق بمقاطعة المنتجات نقول: لا شك أن الأصل في التعامل التجاري مع الكفار الجواز والحل، وكذلك شراء البضائع المباحة منهم، لكن من المعلوم أن شراء البضائع من دولة معيّنة ينعش اقتصادها ويجعلها في مصاف الدول المتقدمة، ومن هنا فإن ترك التعامل معها يجعلها تضرب ألف حساب وحساب لأخطائها وتعدياتها، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بجناب المصطفى.
5- ومن هذه الفتنة على المسلمين أن يتفاءلوا بنصرة سنة محمد ودينه؛ فقد ذكر شيخ الإسلام أن المسلمين لما حاصروا الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، والتي فيها بنو الأصفر قالوا: "كنا نحاصر المدينة الشهر والشهرين وهي ممتنعة علينا، وإذ تعرَّض أهلها لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجّلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين. قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
(1/4540)
وقفات مع عام فات
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الفتن, جرائم وحوادث
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
4/1/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة المحاسبة والمراجعة. 2- كثرة المتغيرات الكونية. 3- أنواع من الآيات والحوادث والكوارث. 4- دروس وعبر من هذه الآيات والحوادث. 5- حال الناس مع هذه الحوادث والكوارث. 6- نصرة المصطفى. 7- فضل صيام عاشوراء والمحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فحياة الإنسان مراحل، والناس في هذه الدنيا ما بين مستعدٍّ للرحيل وراحل، وكلّ نفسٍ يدني من الأجل، ودقّات قلب المرء تباعد عن الأمل، فالكيِّس الحازم من حاسب نفسه يومًا بيوم، وساعةً بساعة، فما ترون الناس إلاّ حيًّا أدركته منيّته، فواراه التراب، وصغير بل سنَّ الشباب، وشابّ امتدّت به الحياة حتى شاب، ومن وراء الجميع نقاش وحساب، فهنيئا لمن أحسن واستقام، والويل لمن أساء وارتكب الآثام، ويتوب الله على مَن تاب، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيّهَا المسلِمون، يحسُنُ التذكيرُ وتجدُر المحاسبَة حينَما تكون المناسبةُ، وها أنتم في مفتَتَح عامٍ، وقد ودّعتم عامًا قبلَه، وعامُكم المنصرِم جرَت فيه أحداثٌ وتجلّت فيه آيات، ولكنَّ الغفلةَ والركون إلى الأسباب والتعلّقَ بها تغلِّظ من قساوةِ القلوب.
أيّها المسلمون، يذكر الرّاصِدون ويتحدَّث الإحصائيّون عن تكاثُرِ المتغيِّرات الكونية على هذه الأرض وتتابُع الحوادث والكوارث في هذا العصرِ، حتى قالوا: إنَّ الزلازل في السنواتِ الأربع الماضية أكثرُ منها أربعَ مراتٍ مما لم يحصُل مثلُه سوى مرّة واحدة طوالَ عشرين سنة أو أكثر في أوائل القرنِ الماضي، ويقولون: إنّه كلّما تقدَّمت السنون زاد عدَد الزلازل والغِيَر وأنواع الكوارث والمثُلات.
ولعلَّ المتأمِّلَ والناظر بعينٍ راصدة وقلب يَقِظ يحاول أن يسترجعَ بعضَ هذه الآيات والحوادِثِ والكوارث والنّذُر ليجدَها ما بين موجٍ عاتي وماءٍ طاغي وخسفٍ مهلِك وزلزال مدمِّر ووباءٍ مميت، يرسل الله الجرادَ والقمَّل والضفادع والدمَ والطيور بأمراضها والأعاصيرَ برياحها والفيَضانَات بمائِها، في آياتٍ مفصّلات، أمراضٌ مستأصِلَة وأوبِئَة منتشِرة تحملها طيورٌ وتنقلها حيوانات، لا يملِك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيع أحدٌ صدَّها ولا السيطرةَ عليها مهما أوتيَ مِن علم في مكتشفاتِه ومختبراته ومخترَعاته وراصداته، لا يملك السيطرةَ عليها ولا الحدَّ من انتشارِها ولا دفعها أو ردَّها، إنها جنودٌ من جنودِ الله في البرّ والبحر والجوّ، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
جنودٌ غير متناهِيَة؛ لأنَّ قدرةَ الله غير متناهية، فالكون كلُّه بإنسِه وجنّه وأرضِه وسمائه وهوائه ومائِه وبَرّه وبحره وكواكبه ونجومِه وكلِّ مخلوقاته ما علِمنا منه وما لم نعلَم كلُّها مسخَّرة بأمرِه، سبحانه يمسك ما يشاء عمّن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى من يشاء، وكيف لا تُدرَك عظمةُ الجبار جلّ جلاله وضَعف جبابرة الأرض مهما أوتُوا من قوّة؟! كيف لا تدلُّ على عظمَةِ الجبّار ومنها ما يهلِك أممًا ويدمِّر ديارًا في ثوانٍ وأجزاء من الثواني، ومنها ما ينتقِل عبرَ الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يُرى، ومنها ما لا يُرى؟! نُذُر وآيات وعقوباتٌ وتخوِيفات، لا تدفعها القوى، ولا تطيقها الطّاقات، ولا تقدر عليها القدرات، ولا تتمكَّن منها الإمكانات، ولا تفيد فيها الرّاصِدات ولا التنبّؤَات، ولا تصِل إليها المضادّاتُ ولا المُصِدّات، من حيث يحتسِبون ولا يحتَسِبون، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً [الإسراء:68]، أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك:16-18].
عبادَ الله، إنها آياتُ الله وأيّامه، تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقُدرته وقوّته وعظيم سُلطانِه وعِزّته وتمامُ ملكه وأمرِه وتدبيره. إنَّ هذه الحوادثَ والقوارع توقِظ قلوبًا غافلة؛ لتراجعَ توحيدها وإخلاصَها، فلا تشرِك معه في قوَّتِه وقدرته وسلطانِه أحدًا، ويُفيق بعض من غرَّتهم قوّتهم، فيتذكَّرون أنَّ الله الذي خلَقَهم هو أشدّ منهم قوّةً، وبخاصّةٍ أولئك المستكبرون ممن غرَّتهم قوَّتهم وطال عليهم الأمَد، فرِحوا بما عندهم من العِلم، ولقد قال الله في أقوامٍ سابِقين: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، وقَالَ في آخَرين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:82-85].
أيّها المسلِمون، ومن مواقفِ العِبَر والادِّكار في هذهِ الآياتِ والنّذُر ما يرسِل الله فيها من التخويفِ والتّحذير كما قال سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وقوله في كسوفِ الشمس وخسوفِ القمر: ((إنهما آيتَانِ من آيات الله، يخوِّف الله بهما عباده)). فكَم من إنسانٍ يرَى آحادَ الناسِ مِن حولِه يُتَخَطّفون ويُقتَلون ويَقرَأ آياتِ الله لكنّه لا يعتبر، فإذا ما رأى مِن هذه الآياتِ الكِبار المخوِّفات تذكَّر وادَّكر، فهي ذِكرى لمن كان له قلب، يستوي في ذلك من حضَرها ومَن شاهدَها ومن وَقع فيها ومن نَجا منها ومن سَمِع بها؛ أعاصيرُ وزلازل وفيضانات وانهيارات وأوبِئة وأمراض من آيات الله وجنودِه، تذكِّر الغافلين وتنذِر الظالمين وتوقِظ المستكبرين ويَعتَبر بها المؤمنون ويرجِع بها المذنبون.
انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هدي نبيِّكم محمّد وخوفه من ربِّه مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعَله أمَنَةً لأصحابه، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، ومع هذا كان إذا هبّت الريح الشديدةُ عرِف ذلك في وجهِه ، وحين ينعقد الغَمام في السماء ويكون السّحابُ ركامًا يُرَى عليه الصلاة والسلام يقبِل ويُدبِر ويدخل البيتَ ويخرج، فتقول عائشة رضي الله عنها: ما بك يا رسول الله؟! فيقول: ((ما يؤمِّنُني أن يكونَ عذابًا، إنَّ قومًا رأوا ذلك فقالوا: هذا عارِضٌ ممطرنا، فقال الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24] )) حتَّى إذا نزَل المطر سرِّيَ عنه.
ومن المواقفِ في هذه الآياتِ والابتلاءاتِ ما يفتِن الله بهِ عبادَه القادرين الموسِرين، فيَنظرَ كيف يعملون: هل ينفِقون من مال الله الذي آتاهم؟ وهل يسارِعون في إخوانهم أم تراهم يقبِضون أيدِيَهم ينسَون ربَّهم وينسَون إخوانهم ويعيشون في غَفلَتِهم؟ وفي هذه الابتلاءاتِ حَدّث ولا حرج من أنواع الإغاثات التي يبذُلها الموفَّقون من غذاءٍ وكساء وعلاج وتعليم ومأوى وأنواعٍ من المساعدات والمواسَاة، لا تقَع تحت حصرٍ من حُسن معامَلَة وشفقة وإحسانٍ في القول والعمل، ومن رحم أهلَ الأرض رحِمَه ربُّ السماء، فلِلَّه الحكمة البالغةُ في خلقه وأمره وتدبيره وصُنعه وفي آياته وابتلاءاته.
أيّها المسلمون، وهذه الآيات والحوادث والكوارثُ ولو عُرِفت أسبابها المادّيّة وتفسيراتها العِلمية فلا ينبغي أن يُظَنَّ أن هذا صارفٌ عن كونها آياتٍ وتخويفات والنّظرِ في ما وراء الأسبابِ والتعليلات من أقدارِ الله وحُكمِه وحِكمَته، فهي آيات الله ومَقَادِره، يقدِّرها متى شاء، ويرسلها كيف شاء، ويمسِكها عمّن يشاء، يعجزُ الخلق عن دفعها ورفعها مهما كانت علومهم ومعارِفهم وقواهم واحتياطاتهُم واستعداداتهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا كان الكسوفُ له أجَلٌ مسمّى لم ينافِ ذلك أن يكونَ عند أجَلِه يجعله الله سببًا لما يقتضيه من عذابٍ وغيره لمن يعذِّب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممّن ينزل الله به ذلك، كما أنَّ تعذيبَ الله لمن عذّبه بالريح الشديدةِ الباردة كقوم عادٍ كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهلُ التفسير وقَصص الأنبياء. ـ قال رحمه الله: ـ وكذلك الأوقاتُ التي ينزل اللهُ بها الرحمةَ كالعشرِ الآخرة من رمضان والأُوَل من ذي الحجة وكجوفِ الليل وغير ذلك هي أوقاتٌ محدَّدة، لا تتقدّم ولا تتأخّر، وينزل فيها من الرحمةِ ما لا ينزل في غيرها" انتهى كلامه. وقال مثلَ ذلك وقرّرَه الإمامُ ابن القيّم في مفتاح دارِ السعادة.
عبادَ الله، وإنَّ مما يُخشَى أن يكونَ الركونُ إلى التفسير المادّيّ والاستكانةُ إلى التحرير العِلميّ والبعد عن العِظَة والذكرى من تزيينِ الشيطان، كما في قوله سبحانه: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].
عياذًا بالله عبادَ الله، تهتزّ البِحار وتتصدَّع الجبال ولا تهتزّ القلوب؟! وترتجف الدّيار ولا ترتجف الأفئدة؟! وتعصِف الرياح ولا تعصِف النفوس؟! وتتزلزَل الأرض ولا يتزلزل ابنُ آدم المخذول؟! يبتَلَون ويفتَنون في كلِّ عام مرّة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا كأصحابِ نفوسٍ قست قلوبها وغلُظت أكبادها وعظُم عن آياتِ الله حجابها، فلا تعتبر ولا تدّكِر، لا تكونوا من أقوامٍ جاءتهم آياتُ ربهم فكانوا منها يضحَكون، وتأتيهم الآيةُ وهي أكبر مِن أختها فكانوا عنها معرضين.
إنَّ من تأمَّل أحوالَ بعض الناس ومواقفَهم ومسالكهم رأى أمورًا مخيفة؛ فيهم جرأةٌ على حرماتِ الله شديدة، وانتهاك لحرمات الله عظيمة، وتَضييع لأوامره، وتجاوزٌ لحدوده، وتفريطٌ في المسؤوليات في العباداتِ والمعاملات وإضاعةِ الحقوق، فالحذَرَ الحذر رحمكم الله مِن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس:101، 102].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمون من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أهل الحمد والثناء، أحمده سبحانه وأشكره في السّراء والضراء، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، صلى الله سلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم القضاء.
أما بعد: أيّها المسلمون، ونحن في استقبالِ العامِ وفي مفتَتَح عامِ الهجرة النبوية نستَذكِر الهجرةَ بصاحبها عليه الصلاة والسلام وبأحداثها، ومِن أبرز دروسِها ما خاطب الله سبحانه وتعالى هذه الأمّةَ في هذه الآية: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]. ويحسَب المتأمّلُ أنَّ الأمةَ اجتهدت في نصرةِ نبيِّها محمّد هذه الأيّام.
مِن حقِّ كل مسلِمٍ أن يعبِّر عن فرحتِه العامِرة وسعادتِه الغامِرَة بهذه الهبَّة الإسلاميّة مِنَ الأمة المحمّدية، دفاعًا رائعا عن خيرِ البرية سيّدنا ونبيّنا وإمامنا وحبيبنا محمّد ، روحٌ جديدة عظيمة تسرِي في جسد الأمة تذكِّر بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفِهم كمثل الجسَد الواحد إذا اشتكى منه عضو تَداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)). في هبّة الغيرة على حبِّ محمّد تكاتفَتِ الأمّة وتداعت إلى الحقّ، وكان لهذه البلاد بلادِ محمّد مولدِه ومبعثِه ومهاجره ومتنزَّل كتابِه ومهبَط وحيِه كان لها دورُ الرّيادة مما يستحقّ الثّناء والإشادة، ثم تبِعَهم إخوانهم وأشقّاؤهم دوَلاً وشعوبًا.
رُبَّ ضارّةٍ نافعة أيّها المسلمون، فالمسلمون بإذن الله لم يصِلوا مرحلةَ الغثاء، لقد صار بوسعِهم في زمنِ العوَلمة أن يأخذوا موقِفًا مشتركًا يعبر قارّات الدنيا كلَّها، لم يعد بوسعِ العالم أن يتجاهلَ هذه الأمَةَ ومشاعِرَها لِيَخشى هبَّتها ونهضتها ولتَفرِضَ هيبتها.
إنَّ الاعتذارات حين تحصُلُ من المخطئين والمسيئين ليس التزامًا بمعايير الأخلاق واعترافًا بالحقوق، بل إنّه حسابٌ للمصالح وتقديرٌ للعواقب وهيبَة لمن أساؤوا في حقه، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
ولعلَّ فرحتَنا وبشائر آمالنا في أمّتنا تدعونا لأن نقفَ وقفةَ تأمّل أمام هذه الواقعة حادِثَة إفكِ العصر، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].
مِن هذه الوقفات والتأمّلات هذه المنزلة العظيمةُ للحبيب المصطفى الرّسول المجتبى، فحبُّه لا يبلى، ومنزِلته لن يُنالَ منها، فهو في المقام العالي والمكان الشامخ السامِق لدى أتباعِه إلى يوم الدين بأبي هو وأمّي ، حبٌّ عظيم وكأنّه بين أظهرِنا عليه الصلاة والسلام، ولعلَّنا إن شاء الله نَبلُغ منزلةَ إخوانِه الّذين أَخبر عنهم ولم يَرَهم وتمنَّى رؤيَتَهم.
ومِن هذه التأمُّلات والمواقِف اجتماعُ الأمّة بكلِّ مذاهبها واتِّحاد مشاعِرِها ومواقِفها وشعورِها بأنهم أتباعُ هذا النبيِّ وأتباع هذا الدينِ وأنَّ العدوَّ واحد وأنَّ الهدفَ واحد.
ومِن ذلك قوّةُ هذه الأمة وفاعِليّتها في شعوبها ودُوَلها.
ومِن ذلك افتضاحُ الأعداء النّاطقين منهم والصامِتين.
ومِن ذلك افتضاحُ المعايِيرِ، فمَن هو يا تُرَى المتَّهَم بالإقصاء؟! وَمَن هو المتَّهم بكرهِ الآخر وبُغض الآخر؟! ومَن هو المدعُو للتسامح؟!
ومِن باب افتضاحِ المعايير واضطِرابها ما قيل مِن حرّيّة الكلمة وحرّيّة الرأي وحرية التعبير، ومن المعلوم لدى العقلاءِ أنَّ الاستهزاءَ بالناس وقذفَهم والسخريةَ بهم ليس من الحرية في شيء، بل لا يمارِسها متّزنٌ فضلاً عن يقبَلها عاقل. ومِنَ المعلوم أنه حين كسِّرَت بعضُ التماثيل في بعضِ البلدان قامت قائمَتُهم ولم تَقعُد وأرجَفُوا بخَيلِهم ورَجِلهم واستكتَبوا أهلَ الشرق والغرب، وليس المقامُ هنا مقام تصويبِ ذلك أو تخطئَتِه، ولكنّه شاهدٌ لاضطرابِ المعايير وغَلَبة الأهواء وتوظيفِ الأحداث، ناهيكم بأمورٍ تواصَوا على منع الحديثِ عنها أو الكتابةِ فيها ضارِبين بما أسموه: حرّيّة الرأي وحريةَ التعبير عرضَ الحائط.
ومن هذه المواقفِ والدروس والتأمّلات عِظَم أثرِ الإعلام في إيجابياته وسلبيّاته، وما ينبغي أن يلتَفِت إليه القادرون من المسلمين من البذلِ في هذا المرفق وترشيده وتوجيهه لخدمة الأمّة، فالعصر عصرُ إعلام، والكلامُ للقنواتِ والفضائيات وشبكات المعلومات، فعلى القادرين من الأمّة وتجّارها وهم خير من يُدعَى وخير من يسمع: تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24]، حاشا بإذن الله، فأنتم أهلُ البذل والغَيرة والنّجدة.
ومِنها ضبطُ العواطف والسَّير في الموضوعِ برشادٍ ورَوِيّة، ويجب الرجوعُ إلى رجالِ الأمّة من أهل العلم والرأيِ والقَرار؛ حتى تؤتيَ الأعمال ثمارَها، ولا تكون الهبّةُ إثاراتٍ وعواطفَ لا أزمَّة ولا ضوابطَ، تُديرها هواتِفُ جوّالة وتحرِّكها عباراتٌ في شبكاتِ معلومات.
ومنها أنَّ نصرةَ نبيِّنا محمّد دينٌ يتقرَّب به المسلمون إلى ربهِم ونعمةٌ ينعِم بها الله عليهم، أما جانِب المصطفى فمحفوظ، وجانبه مَنصور، ولو تقاعس المسلمون وتخاذلوا فلقَد قال سبحانه: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، وقال سبحانه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38]، وقال في حقّه سبحانه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وقال له سبحانه: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وقال له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وقال له: فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، وقال له: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4].
هذهِ مواقفُ ودروس وعِبَر وبشائر، فاتقوا الله رحمكم الله، وتعلَّقوا بربّكم، وحاسبوا أنفسكم، واعملوا واجتهدوا وأخلِصوا وأبشروا وأمِّلوا، واستدركوا وأنتم في مستقبَلِ عامِكم وفي مستهلِّه، استدركوا أعمالَكم فرائضَ ونوافل، فأنتم في مقتَبَل هذا العامِ الجديد، فاستعتِبوا واستدركوا، وهذا هو شهر الله المحرَّم، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا.
وإنَّ من خير ما تستَفتِحون به عامكم ما ندَبكم إليه نبيُّكم محمّد من صيام يوم العاشر وصيامِ يومٍ قبله أو يوم بعده، يقول ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم: ما علِمتُ أنَّ رسول الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء الحديث. وفي الصحيح أيضا عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ النبيّ قال: ((صوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)).
فبادِروا إلى الخيرات، وسارعوا إلى المكرُمات، ومن كان صائمًا فليصُم يوما قبله أو يومًا بعده، ومن صام شهر الله المحرّم كلَّه فهو خير إلى خير، فأفضل الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرم كما جاء بذلك الخبر.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأروا الله من أنفسكم خيرا، وصلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى سيدنا ونبينا محمد خليل ربّه، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز قائلا عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد النبي الأمي، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
(1/4541)
الاستهزاء بالنبي
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
وسيم بن عبد الرحمن معلم
مكة المكرمة
27/12/1426
جامع سوق القوافل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المصطفى. 2- نماذج من حب السلف للنبي. 3- بشائر خير.
_________
الخطبة الأولى
_________
كنت أظن أني اليوم سأقف كما يقف كل خطيب في يوم الجمعة ليحدّث عن أحكام شرعية أو سنن مهجورة أو موعظة ترقّق القلوب، ولكن أنَّى لي أن أتكلم وأقول: لقد قال لنا نبينا... ونحن نسمع شتيمته ونرى رسومات تنشر وهي تسخر منه بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام؟! فكيف ـ يا تُرى ـ يطيب لنا حال ويهدأ لنا بال؟! فمعذرة يا رسول الله، ما عرفوك حق معرفتك، وما قدروك حقّ قدرك، وما أنزلوك منزلتك ومكانتك.
فحبّك ليس درسًا نتعلّمه، ولا قولاً نردّده، وليس شيئًا نتصنَّعه، بل يكفي لمن عرفك أن يؤمن بك ويحبك ويفديك بنفسه وماله؛ لا تحصى فضائله، ولا تعد مزاياه، فهو خير خلق الله إنسانا، ما من صفة كمال في الناس إلا اتصف بها، ولا قبيحة إلا وتبرّأ منها، أحبه من سمع عنه، فكيف بمن عايشه وصاحبه؟!
قال ابن إسحاق: إن رسول الله عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية مستنصلا من الصف فطعن في بطنه بالقدح وقال: ((استو يا سواد)) ، فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحقّ والعدل، قال: فأقدني، فكشف رسول الله عن بطنه، وقال: ((استقد)) ، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد)) ، قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير.
وفي البخاري عن سهل بن سعدٍ قال: جاءتِ امرأةٌ إلى النبيِّ ببُردةٍ فقالت: يا رسولَ الله، أكسوكَ هذهِ، فأخذَها النبيُّ محتاجًا إليها فلبِسَها، فرآها عليه رجلٌ من الصحابةِ فقال: يا رسولَ الله، ما أحسَنَ هذهِ، فاكسُنيها، فقال: ((نعم)) ، فلما قامَ النبيُّ لامَهُ أصحابهُ فقالوا: ما أحسَنتَ حينَ رأيتَ النبيَّ أخذَها مُحتاجًا إليها ثم سأَلتَهُ إياها، وقد عرفتَ أنه لا يُسألُ شيئًا فيَمنَعُه، فقال: رجوتُ برَكتَها حين لَبِسَها النبيُّ لعلِّي أُكفَّنُ فيها.
وعن جابر بن عبدِ اللهِ قال: كان جِذْعٌ يقومُ إِليه النبيُّ ، فلما وُضِعَ له المنبرُ سمعنا للجِذعِ مثلَ أصواتِ العِشارِ، حتى نَزلَ النبيُّ فوَضَعَ يدَهُ عليهِ.
وعن عائشة أن رسول الله كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: ((اعْبُدوا رَبَّكُمْ، وَأَكْرِمُوا أخاكُمْ، ولو كنتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ المرأةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها)) رواه الإمام أحمد.
وكان ثابت البناني رضي الله عنه إذا قابل أنس بن مالك رضي الله عنه قبَّل يده وقال: يد مسَّت يد رسول الله.
ويقول جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه: خرجت في ليلة قمراء مع النبي وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر رسول الله ، فلهو عندي أبهى من القمر.
ووقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد عام من وفاة النبي يحدث، ثمَّ غلبته العبرة فقطع حديثه ثلاث مرات؛ لا يستطيع أن يقول: قال رسول الله.
لنا الحق أن نحبه وأن نفخر باتباعه بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أحبك الصغار والكبار، والأحياء والجمادات، فماذا عسانا أن نقول؟!
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
في الجمعة الماضية تكلّمنا عمّن أساء إلى الرسول ، ودعونا الله أن يشفي صدور قوم مؤمنين، ولا أستبعد أن يكون منكم مجابَ دعوة قد أمّنها.
فهذه بشائر الخير تطرق أسماعنا ابتداءً من خادم الحرمين الشريفين وفقه الله الذي استدعى السفير السعودي في الدنمارك إلى البلاد، اللهم اجزه عن أمة الإسلام خيرًا، ومتعه بموفور الصحة والعافية في طاعتك، واجعله ذخرًا للإسلام والمسلمين. ولعلَّ الكثير قد هبَّ من تجار المسلمين وآحادهم وأفرادهم لمقاطعة من اعتدوا على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فبدأت تتفاقم خسائرهم ويُراجعوا حساباتهم حرصًا على دراهمهم، فهم عُبَّاد مال.
أيها المسلمون، انصروا نبيكم، وأظهروا مناقبه وآثاره وسننه فيكم، اتبعوه تفلحوا، اقتدوا به تجدوه ينتظركم على حوضه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر ابتدأه بنفسه، وثنى بملائكته العالية في قدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون فقال: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [لأحزاب:56].
اللهم أنت رب العالمين، أنت الواحد الأحد الفرد الصمد، أهلكت الأباطرة، وخضعت لك القياصرة، أسميت نفسك بالقهار، وأسميت نفسك بالجبار، زمام الأمور بيدك، يا من هو على نصر المؤمنين قدير، يا من لا يعلم جنده إلا هو، اللهم إنّ زرع الباطل قد نمى وحان حصاده، اللهم قيض له من الحق يدًا حاصده تقتلع جذوره وتنتهك شروره، اللهم من سخر برسولك فاجعلهم أسفل سافلين، واجعل تجارتهم في بوار، اللهم أرسل عليهم القحط والجوع، اللهم خذهم بالسنين ونقص الأموال والأنفس، اللهم اجعل تجارتهم في بوار، أذقهم أليم عذابك وشديد عقاب، واشف صدور قوم مؤمنين...
(1/4542)
الهجرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
27/12/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية التأريخ الهجري. 2- العناية بالتأريخ الهجري. 3- أهداف الهجرة النبوية. 4- وصف الصحابة الكرام في القرآن العظيم. 5- أهداف الهجمة الشرسة على رسول الإسلام. 6- التحذير من حملات هدفها تهويد القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، يستظل المسلمون في أرجاء المعمورة في هذه الأيام بظلال ذكرى الهجرة النبوة الشريفة، تلك الهجرة التي لم تغير حياة العرب فحسب، بل غيرت مجرى التاريخ البشري. إنها الهجرة التي انفردت عن سائر الهجرات، فلم تكن هجرته عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كأي هجرة حدثت من قبل أو ستحدث من بعد، إنها هجرة فريدة من نوعها، وهذا ما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يتخذ من حادثة الهجرة النبوية منطلقا للتاريخ العربي الهجري، وحصل إجماع من الصحابة الكرام على ذلك. وعليه فإننا نطالب المسلمين حكومات وشعوبا بالاهتمام بالتاريخ الهجري وعدم إهماله باعتبار أن حادثة الهجرة النبوية هي أهم وأبرز حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. فحري بالمسلمين في كل زمان ومكان أن يحيوا هذه الذكرى، وأن يتدارسوا تفاصيل حادثة الهجرة، وأن يستلهموا العبر والعظات منها؛ فإن في هجرة المختار موعظة لنا وفي هجرة المختار تنبيها.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لقد قال بعض المؤرخين المسلمين أن الهجرة من مكة كانت إيذانا بفتح مكة، لماذا؟ لأن الهجرة النبوية لم تكن هروبا من معركة أو فرارا من مواجهة، بل كانت تجسيدا للجهاد وترسيخا لقواعد الإيمان. ما كانت الهجرة طلبا للراحة والاستجمام ولا حرصا على الحياة، بل كانت استجابة لأمر رباني لاستئناف الحياة الإسلامية. لم تكن بحثا عن الخيام والأكل والشرب وتوزيع المؤن الغذائية، بل كانت ارتفاعا وتنزها عن العروض الدنيوية. ما كانت الهجرة النبوية طمعا في الاستيلاء على أرض أو قهرا لشعب ولا استغلالا لثرواته، وإنما هدفها السامي إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وتطبيق حكم الله في الأرض، وتحقيق العدالة بين الناس وإيصال الحقوق للمظلومين وكف أيدي الظالمين.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لم تمض ثماني سنوات من العمل الدؤوب والتخطيط الدقيق والجهاد المستمر حتى تحقق ذلك الفتح فتح مكة، والذي عرف بالفتح الأعظم لارتباطه بأقدس الأماكن ولاستعادته بأقل الخسائر، وتمكن الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار من تنفيذ الالتزام الذي قطعوه على أنفسهم، وذلك بإدخال مكة إلى رِبقَة الإسلام وحظيرته ودولته، بعد أن تحققت الأخوة الإيمانية الصادقة بين المهاجرين والأنصار، فكانت المؤاخاة بينهم أكبر وأعظم إنجاز ونصر للإسلام والمسلمين.
فأين نحن من هذه المؤاخاة يا مسلمون؟! أين المسلم الذي يقسم أمواله بينه وبين أخيه المسلم المحتاج أو المهاجر؟! كيف كان وضع المهاجرين والنازحين من الشعب الفلسطيني؟! نعم لقد أخذ شعبنا الفلسطيني درسا قاسيا من المحن التي مر بها بسبب الهجرة في عام 1948م، وبسبب النزوح عام 1967م، فرابط في أرضه المباركة المقدسة، وألقى خلفه خيام الذل والهوان ليعيش عيش الكرامة وليكسب ثواب المرابطة في أرض فلسطين.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لقد أثنى القرآن الكريم ومدح المهاجرين والأنصار على مواقفهم الإيمانية بقوله عز وجل في سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]، كما وصف القرآن الكريم المهاجرين بالصادقين بقوله تعالى في سورة الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، ووصف القرآن الكريم الأنصار بالمفلحين بقوله عز وجل في السورة نفسها بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، إن الهجرة قد توقفت بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)).
هذا وقد توصل الفقهاء إلى حكم شرعي يتعلق بالهجرة، ومفاده بأنه لا يجوز مفارقة الأوطان إلا إذا كانت الهجرة من أجل الجهاد في سبيل الله أو بنية خالصة لله عز وجل كطلب العلم أو السعي للرزق أو الفرار بالدين وبقصد العودة إلى الأوطان.
أيها المسلمون، في هذا المقام فإننا من على منبر المسجد الأقصى المبارك نقدم تحية إكبار وتقدير وثناء إلى إخواننا في مناطق 48 الذين ثبتوا على أرض فلسطين ولم يهاجروا إثر النكبة التي وقعت عام 1948م، وإلى إخواننا في مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة الذين ثبتوا على أرض فلسطين أيضا لم ينزحوا إثر نكسة حزيران عام 1967م.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، يتوجب على المسلمين خلال إحيائهم لذكرى الهجرة النبوية الشريفة إبراز الدروس والعظات من هذه الذكرى المجيدة، والتي من أبرزها المرابطة في الديار الإسلامية التي تتعرض للأخطار والدعوة إلى عدم الهجرة منها.
نعم أيها المسلمون، إن التنقل والسفر بين قطر وآخر من أقطار العالم الإسلامي أمر مباح ومشروع؛ لأن الإسلام لا يعترف أصلا بالحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية، فهي حدود مصطنعة وغير مشروعة، ولكن هذا لا يعني أن يتهرب المسلمون من المسؤولية، وأن يهاجروا من القطر الذي يتعرض إلى الأخطار والاعتداء، فالنصوص الشرعية والأحكام الفقهية أوجبت الثبات في البلاد وعدم الهجرة منها وعدم هجرانها، جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أتناول في الخطبة أمرين مهمين خطيرين:
أولاً: محاولات الإساءة إلى خير البرية محمد : سبق أن تعرضنا لهذا الموضوع حينما نشرت إحدى الصحف في الدنمارك رسومات ساخرة مهينة بحق نبينا الأكرم ، وتشكلت في أوروبا لجنة باسم: (اللجنة الأوروبية لنصرة خير البرية ) لمتابعة هذا الموضوع، ولا تزال هذه الهجمة الشرسة الحاقدة، ولما كانت ردود الفعل من قبل الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي والعربي ـ مع الأسف والألم ـ فاترة وضعيفة تجرأت صحف أخرى في النرويج لنشر نفس الرسومات قبل أيام، والتي سبق أن نشرت في الدنمارك، وهذا يؤكد أن الحملة المسعورة الظالمة هي حملة صليبية جديدة حاقدة ومبرمجة، وإنها أخذت تستشري في أوروبا وأمريكا متسترين تحت شعار "حرية الرأي والتعبير" كما يدعون ويزعمون، والله سبحانه وتعالى يقول: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
وهل التعرض للأديان وللأنبياء والمرسلين يدخل ضمن هذا الشعار المزيف؟! هل يجوز لأي شخص أن يتعرض للسيد المسيح ولسيدنا موسى عليهما السلام تحت شعار حرية الرأي والتعبير؟! والله تعالى يقول: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، وهل يتجرأ أحد أن يتعرض إلى الذين يعبدون البقر والحيوانات الأخرى؟! إنها حملة ضد الإسلام والمسلمين، لماذا؟ لأن الإسلام أخذ ينتشر ويشع نوره في أوروبا وأمريكا، والله سبحانه يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
سيدي يا رسول الله، إن لم يدافع عنك المسلمون فإن الله رب العالمين قد تولى الدفاع عنك بقوله: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، ومدحك رب العزة بقوله في سورة القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وسيبقى نور الإسلام مشعا في أوروبا وأمريكا وفي الكون كله لينير قلوب المؤمنين وليطمس على قلوب الكافرين الحاقدين.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، ثانيا: المسجد الأقصى المبارك (للمرة تلو المرة)، نشرت الصحف العبرية بحثًا صادرًا عن مركز القدس للدراسات الإسرائيلية يقترح فيه نقل صلاحية إدارة الأماكن المقدسة في الحوض التاريخي للقدس إلى الأسرة الدولية، ويقصدون بالحوض التاريخي للقدس منطقة المسجد الأقصى المبارك وبلدة سلوان، وهذا البحث هو قديم جديد، وقد سبق أن طرح عام 2000م في مفاوضات كامب ديفيد الفاشلة، والآن يعاد طرحه من جديد في المؤتمر الذي عقد في هرتسليا هذا الأسبوع. وفي البحث تبرير غير منطقي بأن تتولى جهة ثالثة الإشراف على الأماكن المقدسة، بحجة انعدام الثقة بين الفلسطينيين واليهود!
أما الطرح الإسرائيلي لتدويل الأماكن المقدسة فهو مقبول لديهم؛ لأنهم لا يملكون أصلا أماكن مقدسة، وبالتالي فإن الطرف الخاسر هم المسلمون، وعليه فإن الهدف البعيد من هذا الطرح الخطير الخبيث هو كف يد المسلمين عن المسجد الأقصى المبارك، أو على الأقل انتزاع اعتراف من المسلمين بأن لهم شركاء في المسجد الأقصى المبارك لتهويد المدينة. ونؤكد أن موضوع الأقصى غير قابل للنقاش، وهو إسلامي، وسيبقى المسلمون حماة للقرار الرباني بإسلامية هذه الديار، وسيبقى الأقصى أرضا وبناء وسماء وباطنا هو الأقصى، لا تغيير لواقعه الديني، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4543)
نصرة النبي
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
20/12/1426
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث الساعة. 2- جرائم الأعداء. 3- فضل المصطفى وشمائله. 4- حب الصحابة للنبي. 5- جريمة السخرية بالنبي. 6- سوء مصير المستهزئين بالنبي. 7- إيجابيات الحدث. 8- واجب نصرة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، وقال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ويقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، ويقول تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: مبغضك هو المحروم والمقطوع من خيري الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، لا يخفى عليكم حديث الساعة، مما جاء في بعض صحف دولتي الكفر الدنمارك والنرويج من اعتداء وتطاول على مقام النبوة العظيم، والحديث عما فعلوه مفصّل في وسائل الإعلام المختلفة.
لقد ذبحوا الشيوخ فأُسكِتنا، وقتلوا الأطفال فأُصمِتنا، وهَتكوا الأعراض فأُلجِمنا، أما وأنهم سبّوا نبينا وحبيبنا ومن جعلت أرواحنا فداه فلا وألف لا.
هكذا يفعل عباد الصليب، لم يتركوا نبيًا إلا نالوا منه، فامتلأت أناجيلهم المحرّفة بالنيل من الأنبياء وسبهم حتى صوّروهم بأبشع الصور التي يستحَى من ذكرها، أمّا أن يصل الأمر للاعتداء على نبينا الكريم وخير خلق الله أجمعين فلا والله، لن نسكت ولن نقف مكتوفي الأيدي، نحن المسلمون الوحيدون الذين نؤمن بنوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
أيها المسلمون، نبيّكم محمد سيد ولد آدم، نبي تقيّ ورسول نقي، أحبه الله واصطفاه، واختاره واجتباه, جمع الله له بين الخلّة والتكليم، وجعله أكثر الأنبياء أتباعًا وأعلاهم قدرًا ومقامًا، سماه الله أحمد، فذو العرش محمود وهو محمّد، كان أجوَد الناس بالخير، كان أجوَد بالخير من الريح المرسلة, ما عرض عليه أمران إلا أخذ بأيسرهما، أشد حياءً من العذراء في خدرها، ومن حيائه أنه لا يصوّب النظر في عين أحد إلا أرخى عينه، ما عاب طعامًا قط, إن اشتهاه أكله وإلا تركه، إذا تكلم لا يسرع ولا يسترسل، ولو عدّ العادّ حديثه لأحصاه، لا يحبّ النميمة، ويكره أن يبلِغَه أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، يقول أنس رضي الله عنه: خدمت الرسول عشر سنين، والله ما قال لي: لم فعلت كذا؟ ولم لم تفعل كذا؟ وهلا فعلت كذا. يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى، يبتسم في وجه محدّثه، وإذا صافح أحدًا لا ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزع، يقبل على محدثه حتى يظن محدثه أنه أحبّ الناس إليه، يسلم على الأطفال ويلاعبهم، يجيب دعوة الحر والعبد، ويعود المرضى حتى أهل الكتاب. ما اقترب أحد من أذنه يريد أن يكلمه حتى يسبقه فيحني رأسه له، يبدأ من لقيه بالسلام، خير الناس لأهله، يعلّمهم ويصبر عليهم، ويغضّ الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصِف نعله, ويخيط ثوبه، يأتيه الصغير فيأخذ بيده يريد أن يحدّثه في أمر فيذهب معه حيث شاء، يجالس الفقراء، ويجلس حيث انتهى به المجلس، ويكره أن يقوم له أصحابه، وقاره عجَب، لا يضحك إلا تبسمًا، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، ليس فاحشًا ولا متفحّشًا ولا صخابًا بالأسواق، لا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، لا يقابل أحدا بشيء يكرهه وإنما يقول: ((ما بال أقوام...)) ، لا يغضب لنفسه ولكن لحرمات الله يغضب.
دخل مكة فاتحًا منصورًا، فلم يدخل متكبرًا متجبرًا مفتخرًا شامتًا، وإنما كان مِلأه التواضع والشكر والحمد. وقف أمامه رجل عند الطواف فأخذت الرجل رِعدة عند وقفته أمامه فقال له: ((هوّن عليك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)). زهد في الدنيا وقد أتته راغمة، فكان يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، ويمر الشهر تلو الشهر ولا يوقد في بيته النار، وإنما طعامه الأسودان. كان رحيما بأمته, أعطاه الله دعوة مستجابة فادخرها لأمته يوم القيامة.
وكما كان أحسن الناس خُلُقًا كان أحسنهم خَلقًا، حتى يقول جابر رضي الله عنه: رأيت رسول الله في ليلة أُضحيان وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلَهو كان أحسن في عيني من القمر.
شهد بفضله الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، يقول صاحب كتاب (الخالدون المائة): "لقد اخترت محمدًا في أول القائمة لأنه الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي". وألّف إنجليزي كتابًا اسمه (محمد)، أحرقته السلطات البريطانية الحاقدة، قال فيه: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، وإن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل والتعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، فاعتبروه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصّلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل هو منقذ البشرية, ولو تولى أمر العالم اليوم لوفِّق في حل مشكلاتنا بما يؤمّن السلام والسعادة للبشر".
أيها المسلمون، لقد رفع الله ذكر نبيكم عاليًا، فلا يذكر الله إلا والنبي معه، ولا يتشهّد مؤذن إلا ويشهد برسالته، ولا يصلي مصلي إلا ويشهد له ويصلّي عليه، أرسله الله للناس عامة، فكان للعالمين نذيرًا، وكان خاتمًا للأنبياء والرسل، أقسم الله بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].
خاطب الله أنبياءه ورسله بأسمائهم فقال: يَا نُوحُ وقال: يَا إِبْرَاهِيمُ وقال: يَا مُوسَى وقال: يَا عِيسَى ، ولم يخاطب نبيّنا إلا بوصف النبوة أو الرسالة، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ويَا أَيُّهَا الرَّسُولُ. أعطاه الله جوامع الكلم، ونصره بالرعب. تفرد عن الأنبياء بالقرآن باقيًا إلى يوم الدين، وأُعطي الإسراء والمعراج، وتشرّف بالوصول إلى سدرة المنتهى، فرأى من آيات ربه الكبرى. أمّ الأنبياء في بيت المقدس، وأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهي الشفاعة العظمى. كان بركةً على أمته، فكانت أمته خير الأمم، وجعلت لها الأرض مسجدًا وطهورًا، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. هداها الله ليوم الجمعة، وجعلهم أكثر أهل الجنة. أيده الله نبيَّه بالمعجزات الباهرات، فانشقّ له القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وكثر الطعام والشراب بين يديه، رقَّ له واشتاق الحيوان والجماد، فخرّ له الجمل ساجدًا، وأخبر بنبوّته الذئب، وحنّ الجذع وصاح لفراقه، وانقادَ الشجر له, وسبّح الطعام بحضرته، وسلّم الحجر عليه.
أيها المسلمون، لقد ضرب أصحاب النبي أروع المثل في صدق محبتهم لنبيهم، حتى قال خباب وهو على خشبة الصّلب: (والله، ما أحب أن أكون في أهلي ورسول الله في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة). والصدّيق رضي الله عنه يسبقه إلى الغار يوم الهجرة، فيسد كل ثقب وفتحة في الغار، ويبقى ثقب يغلِقه بقدمه، فيُلدغ رضي الله عنه والنبي نائم على حجره, حتى تسقط دموع أبي بكر من الألم على وجه النبي. وهذا صاحب من أصحابه يغتمّ ويهتمّ لما فكر بأنه لن يرى النبي في الآخرة لأنه أرفع مكانة منه في الجنة، فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. والمواقف في ذلك أكثر من أن تحصر.
أيها المسلمون، أذيّة النبي من أفظع الفظائع، فما تظاهر أحد بالاستهزاء به إلا أهلكه الله وقتله شرّ قتله, ذلك أن الله يدافع عن الذين آمنوا، فكيف بنبيكم؟! وذلكم أن الله قد تكفل بالحرب لمن آذى له وليًّا، فكيف به صلوات الله وسلامه عليه؟! وذلك أن الله تعالى قال: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
وانظروا لمصير المستهزئين به والمؤذين له وما أنزل الله بهم من العذاب، فأهلك الله أبا لهب، وجعل في جِيد امرأته حبلا من مَسد، وهذا الوليد بن المغيرة وأبو جهل وعقبة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل وغيرهم ممن انتقم الله منهم. مزّق كسرى ملِك الفرس كتاب النبيّ حين بعث به إليه، فمزّق الله ملكه، فقتِل على يد أقرب الناس إليه. وارتدّ رجل نصراني كان يكتب للنبي ، فكان يقول بعد ردته: لا يدرِي محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فكان كلّما دفنوه لفظته الأرض خارجَها، ففضحه الله. وكان المسلمون يحاصرون بعض الحصون، فتمتنع عليهم حتى ييأسوا، فما يلبث من بداخل الحصن أن يسخَروا ويسبّوا النبيّ ، فيفتح الله على المسلمين من فورهم. وفي المقابل كان من ملوك الفرنج من يحتفظون في صندوق مصفَّح بذهب بخطابٍ لرسول الله ، يقول أحدهم: ما زلنا نتوارثه إلى الآن، لقد أوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا. ولما قال ابن سلول قولته المشهورة: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسخّر الله ابنَ هذا المنافق عبد الله رضي الله عنه، فوقف له على أبواب المدينة شاهرًا له سيفه قائلا: (والله، لا تدخلها حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز).
أيّها المسلمون، إن الواجب اليوم على المسلمين أن يهبّوا للدفاع عن رسولهم ونبيّهم ، ولئن كان الله قد تكفل بالدفاع عن نبيه فإن واجب النصرة ينبع من مكانةِ هذا النبي في قلوب المسلمين، فما من خيرٍ أصابنا إلا وله منّة علينا به؛ أخرجنا من الظلمات إلى النور، وكان بنا رؤوفًا رحيمًا، ولئن كنا ندافع عن نبينا اليوم فلِعلمنا بأن الطعن في صاحب الشريعة هو طعن في الشريعة ذاتها.
لقد قال النصارى واليهود في الله قولا عظيما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال له هدًا، ولكن ما فعله نصارى الدنمارك والنرويج أيقظ القلوبَ الغافلة والعقول الشاردة، وأعاد فتحَ الأعين النائمة. فلئن أراد هؤلاء السخرية والاستفزاز فقد أتاهم الله بأمر لم يحتسِبوه؛ لقد أتاهم الله بأتباع محمد الذين يبذلون حياتهم رخيصة في الدفاع عنه والانتقام له.
أيها المسلمون، لو تطاول أحد على شخوصنا أو قبائلنا أو رموزنا لقامت قيامةُ من انتُقِص, وهذا عِرض نبيكم يستهزَأ به ويسخَر منه ويشوَّه، إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا [التوبة:39].
لقد انطلقت حملة في الغرب قبل ذلك بعنوان: (مليون ضد محمد)، ولكننا نرجو أن يكون ردّنا: (مليار مع محمد). ووالله، إن تخليتم اليوم عن واجب النصرة فسوف يأتي الله بغيركم ثم لا تضرّوه شيئًا.
لقد وصل الذلّ بالمسلمين أن يستجدوا من هؤلاء الاعتذار، نريد منهم أن يعتذروا. لا والله، لن يجديَ اعتذارهم شيئًا، بل الأمر أكبر من ذلك وأخطر. إن سب النبي وانتقاصه جريمة عظيمة، ولقد أفتى علماء الإسلام أن من سبّ النبي فقد كفر، ولا تقبل له توبة في الدنيا، بل يقتل حتى وإن تاب، وأمره في الآخرة إلى الله. ونحن لا ندعو اليوم لقتال وسفكِ دماء، فهذا فعلُ المتهوِّرين والطائشين والجاهلين، ولكن هناك من الأعمال التي هي أبلغ ردٍّ للمسلمين على هذا الفعل، نبيّنها في الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، قوموا بواجب النصرة لنبيكم، فإن تنصروه اليوم ينصركم الله، ماذا تقولون يوم القيامة إذا سئلتم: رأيتم وسمعتم عِرض نبيكم قد انتهك فماذا فعلتم؟!
يا من ترجون شفاعتَه يوم العرض الأكبر، يا من ترجون أن يسقيَكم نبيكم من حوضه، هل تكونون على مستوى الحدث؟! إن شر البلية أن ينقدح في ذهن الناس أن النصرة سوف يقوم بها غيرنا ويكفينا همّها، وإني أقول: لن تبرأ الذمة حتى يشترك الصغير والكبير والجاهل والمتعلم والفقير والغنيّ, كلّ بحسبه. كثير منّا له من المواهب التي رزَقه الله إياها, فلا بارك الله في موهبة لا تستغلّ في نصرة النبي ، منّا الخطيب، ومنّا المعلّم، ومنّا الأديب، ومنّا الرسّام، ومنّا صاحب اللغة الأجنبية، ومنا الصحفيّ والكاتب، ومنا التاجر، ومنا من يتقِن استعمال الحاسب الآلي، ومنا الشاب القويّ، ومنا المسؤول، ومنا الرجل البسيط العادي، فكلٌّ ينصر بحسبه. هناك أعمال يشترك فيها الجميع، كالدعاء على من قام بهذا العمل وشارك فيه أو أيده أو رضي به أو سمع به ولم ينكِره.
ومن الأعمال المؤثّرة جدًا المقاطعة الاقتصادية للمنتوجات والشركات التي من هذين البلدين، وسلاح المقاطعة من أهمّ الأسلحة السريعة التي يعاقَب بها هؤلاء، ومعرفة هذه المنتوجات وشركاتها أمر ميسور، وعقاب هؤلاء ردع لغيرهم، وليعلموا أن خُمس سكان العالم بِيَدهم من الإجراءات ما يردَعهم عن غيِّهم.
لقد رفض هؤلاء الاعتذار، ورفض رئيس وزرائهم استقبال السفراء لمناقشة هذا الأمر, واعتبر المسؤولون في تلك الدولة أن ما نشر هو من باب حرية التعبير المزعومة, ولئن كانوا هم أحرارًا في التعبير على زعمهم فنحن أحرار فيما نشتري ونبذل أموالنا فيه.
أيها المسلمون، لقد أحسن ولي أمرنا ـ حفظه الله ورعاه وأيّده ـ حينما قام بسحب سفيرنا هناك بعد أن رفض المسؤولون هناك التجاوب مع نداءات العقل والحكمة، فكان تصرّفا محمودًا مشكورًا. ونحن اليوم أمام تحدٍّ عظيم في نصرته ، فإن رسائل الاستنكار التي تبعث إلى السفارة في الرياض وإلى المسؤلين في الدنمارك وإلى الصحيفة نفسِها لهي من أعظم ما يرهبهم في قلوبهم, ويعلمون مدى الغضب الذي في قلوب المسلمين, ويعلمون إلى أي مدى يحبّ المسلمون نبيهم. وبعض الناس قد يقول: أنا لا أعرف أن أكتب أو أعبر، ولكن ألا ترى لمثل هذا إذا حدثت له مشكلة ذهب واستكتب له كاتبا ليكتب له معروضًا لينهِيَ به مشكلته؟! أليس هذا الحدث هو أهم مشكلة لنا اليوم؟!
على الناس أن يكتبوا اليوم لأصحاب القنوات التي طالما راسلوها واتّصلوا عليها من أجل الغناء والفن وغير ذلك مما لا يليق، عليهم اليوم أن يكتبوا لأصحاب هذه القنوات ليذكّرونهم بالله ويطالبوهم بالمشاركة الفعالة مع هذا الحدث، وأن يخصّصوا من برامجهم ما يليق بسيّد الخلق مِن حقٍّ عليهم، وأن تعمل البرامج بالطرق الاحترافية التي تعرّف الناس بنبيّهم وقدوتهم. إن صوتي إذا انضمّ لصوتك وصوت الآخر أصبح مؤثرًا جدًا، وأصبحت هذه رغبة ملحّة ومطلب جماهيري.
على المعلّم أن يعدّ المطويّات والنشرات لطلابه بعد الإجازة في التعريف بنبيّ الأمة وعقد المحاضرات والندوات في المدارس، على الدعاة والعلماء أن ينطلقوا اليوم لتعريف الناس بالسيرة التفصيلية وكتابة الكتب التي تقرّب الناس لنبيّهم بصورة عملية ومشوقة. وإن صح الخبر فإن هناك عزمًا لإنشاء مجمّع للملك عبد الله للسنّة النبوية كمجمّع الملك فهد للقرآن.
هذه الجهود التي ينبغي أن تتواصل وتتوحّد مع بعضها البعض ينبغي أن تكون مشروعًا إسلاميًا كبيرا، نشارك فيه جميعًا، كبيرنا وصغيرنا، رجالنا ونساؤنا، فقراؤنا وأغنياؤنا، حتى ينظر الله إلينا وينظر لصنيعنا، فيرضى عنا ويبدّل أحوالنا، وليس شيء على الله بعزيز.
ونحن إذ نشكر اليوم مقام خادم الحرمين وولي عهده على موقِفهما المشرف فإنّ الشكر موصول للتجار الذين تجاوبوا، وللكتاب الذين كتبوا، وللناس الذين تفاعلوا مع الحدث بصور مختلفة، والقادم أكثر وأجمل.
أيها المسلمون، إنّا لنرجو أن يكون في هذه المحنة منحة عظيمة للمسلمين في الرجوع إلى سنة سيد المرسلين وإحيائها على جميع المستويات. إن لنبينا حقوقًا علينا كثيرة، منها طاعته فيما أمر والابتعاد عما نهى عنه وزجر. ومن حقوقه علينا محبّته حتى تفوق هذه المحبّة محبّتَنا لأنفسنا وأهوائنا ورغباتنا. ومن حقوقه علينا اتباع هديه ظاهرًا وباطنًا, أن نرجع إلى سنته فنبدأ بتطبيقها، فمحبة النبي ونصرته تكون بتطبيق سنته في جميع أحوالنا، فما كان منها واجبًا أوجبناه على أنفسنا، وما كان منها مستحبا سعينا للإتيان به قدر استطاعتنا.
علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نعكس بتصرفاتنا وأخلاقنا ما كان عليه نبينا، فنكون سفراء لسيرته وسفراء لهديه.
عباد الله، يقول الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]. فنحن إذا لم يخترنا الله أن نكون من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فإننا ليس أمامنا إلا الطريق الثالث وهو طريق الذين اتبعوه بإحسان, فنتّبع نبيّنا والمهاجرين والأنصار بإحسان، نفعل ما فعله لأنه فعله، ونترك الفعل لأنه هو تركه أو نهى عنه. علينا بنشر سنّته القوليّة والعملية في صفوف المسلمين، أن يتربى الأبناء على حبّه والارتباط به قولاً وعملاً، أن يصل صوتنا للعالم أجمع ببيان سيرته العطِرة وأيامه النضرة، أن يعرف العالم الجاهل به من هو محمد.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير وقدوة الناس أجمعين، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين. اللهم عليك بمن كذّب رسلك وقاتل أولياءك وسخِر بأنبيائك. اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يردّ عن القوم المجرمين. اللهم عليك بمن سخر بنبيّنا، اللهم شلَّ أركانه وأمِته ميتة السّوء وافضَحه يا ربَّ العالمين...
(1/4544)
الدفاع عن النبي وحماية جنابه من عدوان المعتدين
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الغامدي
مكة المكرمة
27/12/1426
جامع الخضراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل نبينا محمد ومنزلته. 2- مسلسل الاستهزاء والسخرية بالنبي. 3- دفاع الله تعالى عن نبيه. 4- عداء اليهود والنصارى لهذه الأمة. 5- جريمة الصحيفة الدنماركية. 6- افتضاح أدعياء الحرية واحترام الأديان. 7- واجب المسلمين تجاه الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أَيُّهَا النَّاسُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى أَنْ هَدَاكُمْ للإِسْلاَمِ، وَجَعَلَكُمْ مِنْ أُمَّةِ خَيرِ الأَنَامِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِنَّ مِنَ الأُمُورِ المُقَرَّرَةِ الثَّابِتَةِ التِي لاَ مَجَالَ فِيهَا للشَّكِّ وَالرَّيبِ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ إِمَامُ المُتَّقِينَ وَصَفْوَةُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمُ المُرْسَلِينَ، صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ وَاللِّوَاءِ المَعْقُودِ وَالمَقَامِ المَحْمُودِ وَالحَوْضِ المَوْرُودِ، أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَيَشْفَعُ للخَلْقِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ المَوْعُودِ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ وَاحْتِرَامَهُ حَيًّا وَمِيِّتًا مِنْ أَعْظَمِ الوَاجِبَاتِ التِي لاَ يَتِمُّ إِيمَانُ العَبْدِ إِلاَّ بِهَا، وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ وَنُصْرَتَهُ وَفِدَاءَهُ بِالنَّفْسِ وَالمَالِ وَالأَهْلِ دِينٌ يَدِينُ بِهِ المُسْلِمُ للهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كَرَاهِيَتَهُ وَبُغْضَهُ وَانْتِقَاصَهُ وَالاسْتِهْزَاءَ بِهِ وَبِدِينِهِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى، تُوْجِبُ العُقُوبَةَ وَاللَّعْنَةَ، وَتُهْدِرُ دَمَ فَاعِلِهَا وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ قَالَ: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
نَعَمْ عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِبِعْثَتِهِ ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، وَأَفْضَلَ الخَلِيقَةِ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَاخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَجَمَعَ لَهُ بَينَ الخُلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْلاَهُمْ قَدْرًا وَمَقَامًا، رَسُولاً للعَالَمِينَ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)).
لَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مَحَبَّتُهُ فِي النُّفُوسِ، وَأَجَلَّتْهُ القُلُوبُ، وَشَهِدَ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ وَفَضْلِهِ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالعَدُّو وَالصَّدِيقُ، وَلاَ يَزَالُ أَتْبَاعُهُ فِي ازْدِيَادٍ وَذِكْرُهُ خَالِدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، تَهْتِفُ بِهِ أَعْوَادُ المَنَابِرِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَخْلَدَ ذِكْرَهُ إِذَا قَالَ فِي الخَمْسِ المُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو العَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
عِبَادَ اللهِ، وَمَعَ مَكَانَتِهِ العَالِيَةِ وَمَنْزِلَتِهِ الرَّفِيعَةِ وَأَخْلاَقِهِ الحَمِيدَةِ وَفَضَائِلِهِ العَظِيمَةِ التِي زَكَّاهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ وَأَثْبَتَهَا لَهُ قَبْلَ النَّاسِ وَشَهِدَ بِهَا عُقَلاَءُ البَشَرِ وَمُثَقَّفُوهُمْ حَتَّى مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الكُفْرِ وَالمِلَلِ الأُخْرَى قَبْلَ البِعْثَةِ وَبَعْدَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالأَذَى وَالاعْتِدَاءِ وَالشَّتْمِ وَالتَّنَقُّصِ وَالتَّهَكُّمِ منْذُ بِعْثَتِهِ وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ، شَأْنُهُ شَأْن إِخْوَانِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ الذِينَ كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ تَعَالَى، وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ حِينَ قَالَ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
وَلاَ يَزَالُ مُسَلْسَلُ الفِرَى وَالأَكَاذِيبِ وَتَلْفِيقِ التُّهَمِ بِجَنَابِ النَّبِيِّ وَالاسْتِهْزَاءُ بِهِ مُسْتَمِرًّا، مِنْذُ بَدَأَهُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ إِبَّانَ البِعْثَةِ وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ؛ وَصَفُوهُ بِالجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، وَلَمَزُوهُ فِي عِرْضِهِ، وَغَمَزُوهُ فِي أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ، وَضَعُوا سَلَى الجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يُصَلِّي، وَأَدْمَوا عَقِبَهُ الشَّرِيفَ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ الكَرِيمَ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ، وَأَغْرَوا بِهِ السُّفَهَاءَ يَسُبُّونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْ عِرْضِهِ وَحُقُوقِهِ، وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا مِنْ قَتْلِهِ وَالتَّنْكِيلِ بِهِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ.
وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ حِمَايَةَ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ وَحِفْظَهُ وَنُصْرَتَهُ وَخُذْلاَنَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَإِهْلاَكَهُ وَخُسْرَانَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَهَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى شَاهِدٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَاتٍ تُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67]، إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، إِنَّا أَعْطَينَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [سورة الكوثر].
وَهَذِهِ وُعُودٌ ثَابِتَةٌ صَادِقَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ أَن لاَّ يَضُرَّهُ المُسْتَهْزِئُونَ، وَأَنْ يَكْفِيَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ العُقُوبَةِ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَهْدًا وَقِيلاً وَنُصْرَةً وَمَقْدِرَةً؟!
وَهَذَا هُوَ التَّأْرِيخُ بِعِبَرِهِ وَأَحْدَاثِهِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لاَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ مَا تَظَاهَرَ أَحَدٌ بِمُعَادَاةِ رَسُولِ الهُدَى وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَذَلَّهُ وَخَذَلَهُ وَأَمَاتَهُ شَرَّ مِيتَةٍ وَبَتَرَ نَسْلَهُ وَقَطَعَهُ.
أَينَ أَبُو لَهَبٍ وَأَبُو جَهْلٍ وَالوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ وَالعَاصِي بنُ وَائِلٍ وَصَنَادِيدُ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ الذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ فَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَنَاصَبُوهُ العِدَاءَ؟! وَأَينَ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالمُنَافِقُونَ الذِينَ حَارَبُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَطَعَنُوا فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ وَدِينِهِ؟! بَلْ أَينَ الأَكَاسِرَةُ وَالقَيَاصِرَةُ وَأَعْدَاؤُهُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ؟! هَلْ بَقِي لَهُمْ نَسْلٌ وَعَقِبٌ وَذِكْرٌ؟! كَلاَّ وَاللهِ، لَقَدْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَقُتِلُوا شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقَطَعَ اللهُ نَسْلَهُمْ، وَطَمَرَتْهُمُ الأَرْضُ، وَلَحِقَتْهُمُ اللَّعْنَةُ، وَبَاؤُوا بِثِقْلِ التَّبِعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَبَقِي ذِكْرُهُ عَلَمًا شَامِخًا، وَعَقِبُهُ مُتَتَابِعًا مَذْكُوَرًا، وَسِيرَتُهُ مَنْبَعًا ثَرًّا للمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيهَقِيُّ وَغَيرُهُمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قَالَ: (المُسْتَهْزِئُونَ: الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ وَالأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَالأَسْوَدُ بنُ المُطَّلِبِ وَالحَارِثُ بنُ غَيطَلَةَ السَّهْمِيُّ وَالعَاصٍي بنُ وَائِلٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمْ إِلَيهِ ـ بَعْدَمَا نَالَهُ مِنْهُمْ أَذًى عَظِيمٌ ـ، فَقَالَ: أَرِنِي إِيَّاهُمْ، فَأَرَاهُ إِيَّاهُمْ، وَجِبْرِيلُ يُشِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ، وَيَقُولُ: كَفَيتُكَهُ، وَالنَّبِيُّ يَقُولُ: ((مَا صَنَعْتَ شَيئًا)) ، فَمَا هِي إِلاَّ أَيَّامٌ حَتَّى مَرَّ الوَلِيدُ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلاً، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَنَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَلاَ تَدْفَعُونَ عَنِّي؟! قَدْ هَلَكْتُ وَطُعِنْتُ بِالشَّوْكِ فِي عَينَيَّ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيئًا، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَينَاهُ، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثٍ، فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الحَارِثُ فَأَخَذَهُ المَاءُ الأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خَرْؤُهُ مِنْ فِيهِ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَأَمَّا العَاصِي فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَرَبَضَ عَلَى شِبْرِقَةٍ، فَدَخَلَ مِنْ أَخْمَصِ قَدِمِهِ شَوْكَةٌ، فَقَتَلَتْهُ).
وَهَا هُو كِسْرَى يُمَزِّقُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ وَمِنْ رَسُولِهِ، فَيَدْعُو عَلَيهِ أَنْ يُمَزِّقَ اللهُ مُلْكَهُ، فَيُمَزَّقُ، وَيُقْتَلُ عَلَى يَدِ وَلَدِهِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ.
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللهُ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ؛ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؛ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: "فَهَذَا المَلْعُونُ الذِي قَدِ افْتَرَى عَلَى النَّبِيِّ أَنَّهُ لاَ يَدْرِي إِلاَّ مَا كَتَبَ لَهُ، قَصَمَهُ اللهُ وَفَضَحَهُ، بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ القَبْرِ بَعْدَ أَنْ دُفِنَ مِرَارًا، وَهَذَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ العَادَةِ، يَدُلُّ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ عُقُوبَةً لِمَا قَالَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ قَوْمٌ بُهْتٌ خَوَنَةٌ، نَقَضَةٌ للعُهُودِ، قَتَلَةٌ للأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَعْدَاءٌ للهِ تَعَالَى وَلِرُسُلِهِ وَدِينِهِ وَالمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي ذَلِكَ شَكٌّ وَلاَ رَيبٌ؛ فَقَدْ سَبُّوا اللهَ تَعَالَى سَبًّا قَبِيحًا، وَنَسَبُوا إِلَيهِ مِنَ الصِّفَاتِ القَبِيحَةِ مَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ عُقَلاَءُ البَشَرِ جَمِيعًا وَيُنَزَّهُون عَنْهُ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَحَارَبُوهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ وَآَذَوْهُمْ، وَرَمَوْهُمْ بِالنَّقَائِصِ وَالقَبَائِحِ، وَنَسَبُوا إِلَيهِم مِنَ البُهْتَانِ وَالفَوَاحِشِ مَا تَعُجُّ بِهِ كُتُبُ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ المُحَرَّفَةِ التِي بِأَيدِيهِمْ؛ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
وَقَدْ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ مِنْذُ بُعِثَ النَّبِيُّ وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى عَدَاوَةِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ وَالرَّسُولِ مَا عَاشُوا، فِي حَمَلاَتٍ شَعْوَاءَ مُتَتَابِعَةٍ، لاَ يَنْتَهِي مُسَلْسَلُهَا مِنَ العِدَاءِ وَالحِقْدِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالرَّسُولِ وَالإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ بَينَ الفَينَةِ وَالأُخْرَى، عَبْرَ وَسَائِلِ إِعْلاَمِهِمْ المُخْتَلِفَةِ، عَلَى مَرْأَى العَالَمِ وَبَصَرِهِ، الذِي يَدَّعِي العَدَالَةَ، وَيُنَادِي بِالحَقُوقِ وَاحْتِرَامِ الأَدْيَانِ وَالشُّعُوبِ وَالحُرِيَّاتِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وَالتِي كَانَ مِنْ آَخِرِهَا هَذِهِ الحَمْلَةُ النَّصْرَانِيَّةُ السَّافِرَةُ التِي تَقُودُهَا الصِّحَافَةُ الدَّانِمَرْكِيَّةُ وَالنَّرْوِيجِيَّةُ؛ مِنْ خِلاَلِ اثْنَي عَشَرَ رَسْمًا قَبِيحًا، يَتَوَالَى نَشْرُهَا مِنْذُ أَرْبَعَةِ شُهُورٍ، تُصَوِّرُ فِيهِ النَّبِيَّ الكَرِيمَ فِي أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ يَظْهَرُ فِي أَحَدِهَا مُرْتَدِيًا عِمَامَةً تُشْبِهُ قُنْبُلَةً مَلْفُوفَةً حَوْلَ رَأْسِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ عَدَدٌ مِنَ النِّسَاءِ المُتَحَجِّبَاتِ، وَفِي الأُخْرَى عَلَيهِ ثِيَابٌ مُرَقَّعَةٌ وَهُوَ يُدَرِّسُ أَصْحَابَهُ، وَفِي الثَّالِثَةِ حَوْلَهُ أَعْرَابٌ يُسَكِّنُهُم عَنْ طَلَبِ النِّسَاءِ، وَفِي الرَّابِعَةِ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ بِالسُّيُوفِ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ السَّفَاهَةِ وَالوَقَاحَةِ التِي يَرْمُونَ مِنْ خِلاَلِهَا إِلَى إِلْصَاقِ الرَّجْعِيَّةِ وَالتَّخَلُّفِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، وَأَنَّهُ مُجْرِمُ حَرْبٍ يُحِبُ النِّسَاءَ، وَأَنَّ النِّسَاءَ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ مَهْضُومَاتِ الحُقُوقِ لاَ يَسِرْنَ إِلاَّ خَلْفَ الرِّجَالِ.
يَتَطَاوَلُونَ مِنْ خِلاَلِهَا عَلَى جَنَابِ المُصْطَفَى الرَّفِيعِ وَدِينِهِ الحَنِيفِ، بِطَرِيقَةٍ هَمَجِيَّةٍ قَبِيحَةٍ، تُؤَجِّجُ الفِتَنَ، وَتَزْرَعُ الكَرَاهِيَةَ، وَتُنَمِّي الأَحْقَادَ، وَتُذْكِي العَدَاوَةَ بَينَ الشُّعُوبِ، فِي وَقْتٍ يَتَأَجَّحُ فِيهِ العَالَمُ عَلَى فُوَّهَةِ بُرْكَانِ ثَوْرَةٍ تُوْشِكُ أَنْ تَنْفَجِرَ بَينَ عَشِيَّةٍ أَوْ ضُحَاهَا.
وَمَعَ اسْتِنْكَارِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي العَالَمِ بِأَسْرِهِ لِهَذِهِ الهَجْمَةِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى المُصْطَفَى وَمُطَالَبَتِهِمْ بِمُعَاقَبَةِ أَهْلِهَا وَالاعْتِذَارِ لَهَا، إِلاَّ أَنَّ عُبَّادَ الصَّلِيبِ وَالطَّاغُوتِ يُصِرُّونَ عَلَى حِقْدِهِمْ، وَيَرْفُضُونَ حَتَّى الاعْتِذَارَ عَنْ فِعْلَتِهِمْ، بِحُجَّةِ حُرِيَّةِ الإِعْلاَمِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ؛ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَشَتَّتَ شَمْلَهُمْ، وَأَدَالَ دَوْلَتَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وَا أَسَفَاهُ ـ إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ ـ عَلَى المُسْلِمِينَ وَأَوْضَاعِهِمْ؛ أَكْثَرُ مِنْ مِلْيَارِ مُسْلِمٍ وَلَكِنَّهُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ، تَكَالَبَتْ عَلَيهِمُ الأُمَمُ الكَافِرَةُ، وَانْتُزِعَتْ مِنْ صُدُورِ عَدُّوهِمُ المَهَابَةُ مِنْهُمْ، فَدِيسَتْ كَرَامَتُهُم، وَضُيِّعَتْ حُقُوقُهُمْ، وَسُلِبَتْ مُقَدَّسَاتُهُمْ، وَأُرِيقَتْ دِمَاؤُهُمْ، وَاحْتُلًَّتْ أَراضِيهِمْ، فِي زَمَنٍ حُفِظَتْ فِيهِ حُقُوقُ البَهَائِم وَصِينَتْ دِمَاءُ المُعْتَدِينَ وَأَمْوَالُهُمْ.
قَبْلَ أَعْوَامٍ يُغْزَوْنَ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَيُذْبَحُونَ عَلَى أَرْضِهِمْ وَفِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَرَّدُونَ عَنْ أَوْطَانِهِمْ، فِي أَفْغَانِسْتَانَ وَالعِرَاقَ، وَقَبْلَهُمَا فِلَسْطِينَ، وَقَبْلَ شُهُورٍ يُدَاسُ قُرْآنُهُمْ مَصْدَرُ عِزَّتِهِمْ وَدُسْتُورُ شَرِيعَتِهْم وَمَنْهَجُ حَيَاتِهِمْ، وَاليَوْمَ يُسَبُّ إِسْلاَمُهُمْ، وَيُعْتَدَى عَلَى عِرْضِ نَبِيِّهِمْ وَيُسَبُّ وَيُسْخَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ عَلَى مَاذَا سَتَكُونُ الدَّائِرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَرَى بَعْضَ المُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَهُمْ يُوَالُونَ المُعْتَدِينَ، وَيَطْلُبُونَ رِضَاهُمْ، وَيَخْطُبُونَ وُدَّهُمْ، وَبَعْضُهُمْ صَامِتٌ لاَ يَنْطِقُ بِبِنْتِ شَفَةٍ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ لاَ يَعْنِيهِ، لاَ يَتَمَعَّرُ وَجْهُهُ غَضْبَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ وَدِينِهِ، بَلْ لاَ يُفَكِّرُ أَصْلاً فِي الاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَعْدَاءِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَمُقَاطَعَتِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تُرَدِّدَ بِمِلْءِ فِيكَ أَسَفًا وَحُزْنًا عَلَى أَحْوَالِ المُسْلِمِينَ:
لاَ يُلاَمُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ إِنْ غَدَا الرَّاعِي عَدُوَّ الغَنَمِ
وَلَوْ كَانَ المُسْلِمُونَ مُخْطِئِينَ لَسَارَعُوا بِالاعْتِذَارِ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُمْ، وَلَقَدَّمُوا الصَّدَقَاتِ وَالتَّنَازُلاَتِ، وَقَرَّبُوا القَرَابِينَ، وَلَدُكَّتْ أَرْضُهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَوَاللهِ مَا جَرَّأَ أَعْدَاءَ الأُمَّةِ عَلَى المُسْلِمِينَ إِلاَّ صَمْتُهُمْ وَتَخَاذُلُهُمْ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِمْ وَقَضَايَاهُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَكَمْ تَذِلُّ بِصَمْتِهَا اَلأَجْيَالُ وَالأَوْطَانُ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي ولَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اقْتَفَى.
أَمَّا بَعْدُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ثُمَّ اعْلَمُوا ـ رَعَاكُمُ اللهُ ـ أَنَّ هَذِهِ المَسَالِكَ المَشِينَةَ للمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَالضَّالِّينَ ـ إِخْوَانِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدِ الصَّلِيبِ وَالطَّاغُوتِ ـ لَتُوَضِّحُ للعَالَمِ كُلِّهِ عَوَارَهُمْ وَسَفَاهَتَهُمْ وَضَلاَلَهُمْ وَبُعْدَهُمْ عَنْ هَدْي المَسِيحِ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ وَمُوْسَى عَلَيهِمَا السَّلاَمُ وَكَذِبهُمْ فِيمَا يَدَّعُونَ؛ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ العَدَالَةَ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةَ وَحِفْظَ الحُقُوقِ وَالحُرِّيَّاتِ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ دِينٍ سَمَاوِيٍّ صَحِيحٍ، وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُوْسَى وَعِيسَى، وَكَذَبُوا وَاللهِ؛ فَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ، وَالأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا إِخْوَةٌ، دِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَعَقِيدَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَدَعْوَتُهُم جَمِيعًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ قَالَ: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)) ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ بَشَّرَ قَوْمَهُ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَيهِم بِمُحَمَّدٍ ، وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ المِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ لَيُؤْمِِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]. وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ المُدَّعُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى وَيَتَّبِعُونَ رَسُلَهُ الذِينَ أَرْسِلَهُمْ إِلَيهِمْ حَقِيقَةً مَا اعْتَدَوا عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَسَخِرُوا مِنْهُ وَطَعَنُوا فِي دِينِهِ وَحَارَبُوا أَتْبَاعَهُ.
وَلأَجْلِ هَذَا كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ عَقِيدَةِ الإِسْلاَمِ العَظِيمَةِ الإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ وَمَحَبَّتُهُمْ وَاحْتِرَامُهُمْ وَعَدَمُ التَّفْرِيقِ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَينَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:150-152].
أَلاَ فَلْيَأْخُذْ عُقَلاَؤُهُمْ عَلَى أَيدِي سُفَهَائِهِمْ، وَلْيَحْذَرُوا سُنَنَ اللهِ فِي المُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَلْيَتَذَكَّرُوا مَوَاقِفَ أَسْلاَفِهِمُ العُقَلاَء الذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ لِرَسُولِ اللهِ حَقَّهُ وَيَعْرِفُونَ قَدْرَهُ؛ مِنْ أَمْثَالِ النَّجَاشِيِّ وَهِرَقْلَ وَأَتْبَاعِهِ الذِينَ أَكْرَمُوا رُسُلَ رَسُولِ اللهِ إِلَيهِمْ، وَأَكْرَمُوا كُتَبَهُ إِلَيهِمْ، وَعَرَفُوا الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّهُ وَالذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى وَمُوْسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَثَبَّتَ اللهُ مُلْكَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِي الأَجْيَالِ اللاَّحِقَةِ لَهُمْ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لَيسَ لَدَى المُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَدِينِهِمْ، وَإِنَّ حُبَّهُ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ لَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُفَاخِرُ بِهِ المُسْلِمُونَ وَيَتَسَابَقُونَ إِلَيهِ، وَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَادِقٍ فِي إِسْلاَمِهِ وَإِيمَانِهِ أَنْ يَفْدِيَ رَسُولَ اللهِ بِكُلِّ مَا لَدَيهِ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمَالٍ، بَلْ حَتَّى بِنَفْسِهِ التِي بَينَ جَنْبَيهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُمْكِنَةٍ، وَأَنْ يَرُدَّ عَلَى هَؤُلاَءِ المُعْتَدِينَ عَلَى عِرْضِ أَزْكَى البَشَرِيَّةِ، وَيَنْتَصِرَ لَهُ، وَيُقَاطِعَ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ مُنْتَجَاتِهِمْ وَتَعَامُلاَتِهِمْ، لاَ سِيَّمَا هَذَينِ البَلَدَينِ المُعْتَدِيَينِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الوَاجِبَاتِ عَلَى المُسْلِمِينَ وَالحُقُوقِ التِي للمُصْطَفَى عَلَى أُمَّتِهِ، وَإِذَا عَجَزَ المُسْلِمُونَ أَنْ يَنْطِقُوا بِالحَقِّ وَيُدَافِعُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ وَقُدْوَتِهِمْ بِالحَقِّ وَيُعَزِّرُوهُ وَيَنْصُرُوهُ وَيَذُودُوا عَنْ عِرْضِهِ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيرٌ لَهُمْ مِنْ ظَهْرِهَا، وَأُفٍّ عَلَى الحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا إِذَا أُهِينَ إِمَامُنَا وَقُدْوَتُنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَفِي الأَرْضِ مُسْلِمٌ صَامِتٌ جَبَانٌ.
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ فِدَاءُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِِكَ وَرَسُوْلِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ...
(1/4545)
رد هجمة الكفار ونصر النبي المختار
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد الفتاح بن سعد عياش
المدية
4/1/1427
مسجد الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- الشانئون لدعوة محمد. 3- جريمة الاستهزاء بالنبي. 4- وجوب الذبّ عن عرض المصطفى. 5- إيجابيات الحدث. 6- واجب الحكام والعلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عبادَ الله، فقد امتن الله سبحانه وتعالى على الثقلين ببعثة نبينا محمد رحمةً منه عز وجل لخلقه، مصداقًا لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فأخرج الله بهذا النبيّ الأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن العذاب إلى الرحمة، بعدما اجتالتهم الشياطين عن صراط الله المستقيم، فأشرقت الأرض بنور الرسالة المحمّدية، ورغمت أنوف المبطلين، وانخنس الكفر وأهله، مصداقًا لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
وقد كان في مقدّمة ركبِ الشيطان ممّن شَرِقَ بالبعثة المحمدية ـ على رسولها أفضل الصلاة والسلام ـ بعضُ أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقد امتلأت قلوبهم غيظًا وحقدًا وحسدًا للإسلام وأهله مصداقًا لقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، وقال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. وهؤلاء الظالمون المعادون لدين الإسلام وللبشير النذير هم في حقيقة الأمر يقومون بأكبر جريمة في تاريخ البشرية؛ إذ إنهم يحولون بين الناس وبين أكبر نعمة امتنّ الله بها على الإنسانية، ألا وهي نعمة الإسلام، كما أنهم في ذات الوقت يعرِّضون من سار في ركابهم واتبع ضلالهم لسخطِ الجبار عز وجل ومقته في الدنيا والآخرة.
وإن المتأمل في الوقائع والحوادث في ماضي الزمان وحاضره ليظهر له بجلاء عداوة وكيد فئامٍ من أهل الكتاب من اليهود والنصارى للأمة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وتزداد عداوة بعض المغضوب عليهم والضالين للمسلمين ويزداد جنونهم وجنوحهم عن قواعد العدل والعقل والحق كلما ازداد انتشار الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فعند ذلك يزداد حقدهم وحسدهم، وتطيش أحلامهم وأفهامهم، فتتوالى من قِبَلهم الحملات الجنونيّة الظالمة على كل ما هو مقدَّس ومعظَّم في دين الإسلام، وكان من آخر ما حدث في هذا المجال الحملة الظالمة الآثمة التي تولّى كِبرَها وحَمَلَ لواءَها بعضُ وسائل الإعلام المقروءة في دولتي الدنمارك والنرويج، عندما أظهرت سيّد البشرية ـ فديناه بالآباء والأمهات ـ في بعض الرسومات الكاريكاتيرية الساخرة المسيئة، متجاوزةً حدود المنطق والعقل، ومنفلِتة من كل القيَم والمبادئ والأعراف، في استهتارٍ واضح بدين الإسلام الذي يَدين به ما يزيد على المليار نَسَمة من البشر على ظهر المعمورة.
بالله، ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم ينال من مقام محمد ثم لا ينتصر له ولا يُذاد عن حياضه؟! ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر والتهكم المكشوف؟! هل نغمض أعيننا ونصم آذاننا ونطبق أفواهنا وفي القلب عِرق ينبض؟! والذي كرم محمدًا وأعلى مكانته، لبطن الأرض أحبّ إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسول الحق. ألا جفّت أقلام وشُلّت سواعد امتنعت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن حوضِه وتدافع عن حرمته.
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم فداء
عرض نبينا وسيدنا وقدوتنا وإمامنا وحبيبنا فيها ينتقص وينتهك؟! صحف دنماركية تعبث بمقامه؟! ومقامه مقام الخلّة؛ فهو أحب الخلق إلى الله تعالى. فيا ويلهم من الله تعالى حيث قال: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) ، وأكبر الأولياء وسيدهم محمد بن عبد الله. فالله تعالى قد آذنهم بالحرب، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
المسلمون نوَّم! لو مالٌ تلِف أو بيت تهدّم أو وطن سلِب لسمعتَ صياحا ووَلْوَلَة وإقسامًا: لنثأرنّ قاتَلَه الله ما أكفره! فأين هم أهل الصولة والزمجرة؟! أين هم لم نسمع لهم حسّا، ولم نر قلما يدفع ظالما ما أفجره؟! إلا قليلا احتسبوا وغضبوا، فكتبوا واستنكروا، وعن الأمة عذابا كاد يحيق بها دفعوا، فالذب عنه فريضة، ولا يحلّ للأمة ترك الفريضة، ومن موجبات العقوبة الاجتماع على ترك الفريضة.
إن من حقوق النبي على أمته نصرته، وهي واجبة على جميع المسلمين؛ ذكورا وإناثا، علماء وولاة أمر وعوام، قولا وفعلا، كلّ بحسب قدرته واستطاعته، أدناها بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد، لقوله : ((من رأى منكم منكرا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وأيّ منكر أعظم من العدوان على مقام رسول الله ؟!
فهو فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الآخرين، مع وجوب إنكار القلب في كل حال، سواء تعيّن الذبّ والنصرة أو لم يتعيّن على آحاد المؤمنين؛ لأن الإنكار القلبي علامة الإيمان. والدليل على وجوب نصرته قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، فعلق الفلاح بالنصرة، فمن لم ينصره فليس من المفلحين. وقال تعالى: فَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ، فنصرة المؤمنين واجبة، ونصرة النبي أوجب. وقل سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ، ونصرة النبي من نصرة الله تعالى. وقوله : ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما)) ، فهذا في حقّ المؤمنين، وفي النبيّ أعظم.
ووقت النصرة وجود الظلم والعدوان على مقام النبي في ذاته أو أخلاقه أو دينه، فمتى وجد هذا النوع من الظلم والعدوان وجب على المؤمنين الذب عنه ، ولا يحل لهم أن يسكتوا أو يخضعوا ويرضوا، فإن فعلوا ذلك دلّ على خلل في إيمانهم وضعف في ولائهم لله ورسوله ، فلا يرضى بالطعن في النبي إلا منافق أو كافر، أما المؤمن فيغضب ويتمعر وجهه لأدنى من ذلك، لأذى يلقاه عوام المسلمين؛ لما بينه وبينهم من أخوة الإيمان، فأي عدوان على رأس المؤمنين وقائدهم ومقدمهم فهو عليه أشد وأنكى، بل حاله كحال خبيب بن عدي لما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا خبيب، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك فيأهلك؟! فقال خبيب: (والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي)، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمدا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، لئن ساء كلَّ مسلم ما نُشِر في بعض صُحُف الدانمارك فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لم يَخْلُق شَرًّا مَحْضًا، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فقد تضمّن ذلك السوء خيرًا، منه أنه ظهر وانكشف وجه الحقيقة عن وجه الحضارة الغربية، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ، وظهر لكل ذي بَصَر عداوة النصارى، وأنّ من يطلب رضاهم مُتطلِّب في الماء جذوةَ نار، وقول الله أصدق وأبلغ: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كما تجلّى نفاق بعض الصُّحُف والكُتَّاب الذين التَزموا الصمت تجاه هذا الْخَطْب الْجلل، فماذا عساهم يقولون؟! ماذا عسى أُغَيْلِمة الصحافة وسفهاء قومي يقولون؟! أليسوا الذين كانوا يُلمِّعُون الغَرْب والغُراب تحت شِعار (الآخر) سَتْرًا للكافر؟! إلا أنّ الحقيقة التي تجلّتْ كشَفَتْ عن وجوه من الحقائق وصَمت من كانوا يُنادون باحترام (الآخر) ومن كانوا يَودّون لو صَمَتَ دُعاة الإسلام، أليسوا هم من يُنادي بـ(حُريّة الفِكر)، فإذا هم يُنادون بـ(حُريّة الكُفْر)؟! إذا تكلّم (صادق) نَصَبُوا له العِداء، وإن تَبجّح (كافر) سَكَتُوا وكأنّ الأمر لا يَعنيهم، وهو لا يعنيهم لأن حبّهم للنبي دعوى من غير بيِّنَة.
ها هو (الآخر) بزعمكم يتطاول على دين الله وعلى رسول الله ، فبماذا أجبتم؟! تَهَافتْ دعاوى (قبول الآخر) الذي لم ولن يَقبلكم حتى يجتمع الماء والنار والضَّب والحوت، شأنكم في ذلك شأن ذلك (الْمُتَفَرْنِس) الذي أمضى عمره في التذلّل للغرب ولو كان على حساب دِين ومبدأ، فإذا الغرب يَرفضه ويَلفظه، بل وينبذه نَبْذ الحذاء المرقّع، وها هو يقول عن نفسه: "وأصبح (محمد أركون) أصوليًا متطرفًا، أنا الذي انْخَرَطْتُ منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي أصْبَحْتُ خارجَ دائرة العلمانية والحداثة"، ويقول أيضا: "والمثقف الموصوف بالْمُسْلِم يُشار إليه دائمًا بضمير الغائب، فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثّله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية؛ لأنه يَسْتَعْصِي على كلّ تحديث أو حداثة".
وقد أخبر الله عن ذلك الرفض وعن تلك العداوة المتأصِّلة بقوله: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
وفي هذا الْحَدَث تميّز الطيب من الخبيث والصادق من الكاذب، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
إذا اشتبكت دموع في خُدود تَبَيَّنَ من بَكى ممن تباكى
تبيَّن الْمُحبّ الصادق لرسول الله من الدَّعِيّ الْمُدَّعِي، وفي الغرب (مُنصِفُون) قد تُثيرهم تلك الحملات الشعواء على طلب الحقائق، فيهدي الله بِتلك الصحيفة رجالاً ونساء كانوا في (عَمَاء). ومن سُنّة الله: ((إن الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر)) كما في الصحيحين، وفي شِعْر أبي تمام:
وإذا أراد الله نَشْر فَضَيلة طُويت أتَاحَ لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جَاوَرَتْ ما كان يُعْرَف طِيب عُرف العُود
إن الصِّدام المباشِر والمساس الواضِح أبلغ وأيقَظ للقلوب، وهذا يُبيِّن مدى خطورة الغزو الفكري، وأنه أخطر من الغزو العسكر وإن كان مُدمِّرًا؛ ذلك أن اليهود والنصارى يقولون في الله قولاً عظيمًا، ومع ذلك وُجِد من يُحبّهم أو يتعاطَف معهم، إلا أن هذا الذي صَدَر من نصارى الدانمارك أيقظ في الأمة قلوبًا غافلة أو مُستَغفَلة، فالنصارى قالت قولاً عظيمًا في الله من قَبْل ومن بعد، قالوا في الله قولاً عظيمًا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. وما قالته النصارى في حقّ الله أعظم وأكبر، وقد أخبر الله وخبره الحقّ وقال وقوله الصِّدْق: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.
وإن تلك الحملات الشعواء على الإسلام وأهله لم تُغيِّر قناعات الشعوب. إن ما يُقال أو يُثار ضدّ الإسلام أو ضدّ نبيِّه يسوء كل مسلم، إلا أنّ هذا الشرّ لا يَخلو من خير، هُم يُريدون أمرًا، والله يُريد أمرًا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. دبّروا ومكروا وقلّبوا الأمور، فأبْطَل الله سعيهم، ووردّ كيدهم في نحورهم، وحاق بهم مكرهم. وهذه سُنَّة الله في نصر أوليائه وخُذلان أعدائه.
لقد سَعى المنافقون بكل حيلة، فَصَرّفوا الأمور، وأرادوها ظهرا لبطن وبَطْنًا لِظَهْر، وطلبوا بكل حيلة إفساد أمر رسول الله ، فَنَصَرَ الله نبيّه، وأظْهَر دينه، قال تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ أي: دَبَّرُوها من كل وجه، فأبْطَل الله سعيهم، كما قال ابن كثير: "يقول تعالى مُحَرِّضًا لِنبيه عليه السلام على المنافقين: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ ، أي: لقد أعْمَلُوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخُذلان دِينك وإخماده مدة طويلة؛ وذلك أول مَقْدَم النبي المدينة رَمَتْه العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبيّ وأصحابه: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه، فَدَخَلُوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلّما أعَزّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى: حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ " اهـ.
وقد أقسم النبي على نُصْرَة هذا الدِّين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزّ عزيز، أو بِذُلّ ذليل، عِزًّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) رواه أحمد وهو صحيح. والله ليكونن هذا وإن رَغِمَتْ أنوف، والله ليُتمَّنّ الله نوره ولو كَرِه الكافرون.
وفي الأخير نقول: يا حكامَ المسلمين، إن الواجب الشرعي يُحَتِّم عليكم الغضبَ لرسولكم وأن تجتمعوا وتتخذوا القرار المناسب تجاه هذه الممارسات الظالمة، وليتذكّر كل واحد منكم أن هذا العدوان الآثم على رسولنا الكريم لو كان موجهًا لواحد منكم لأقام الدنيا ولم يُقعِدها غضبًا وانتقامًا، فليكن غضبكم وحَميَّتكم لرسولكم أكبر من غضبكم لأنفسكم ودنياكم، وتذكروا قول المصطفى : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) ، وفي رواية: ((من أهله وماله والناس أجمعين)) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.
ويا علماءَ الإسلام ودعاةَ الملة، إن الواجب الشرعي يحتم علينا جميعًا أن نوظّف هذا الحدث توظيفًا إيجابيًا بتكثيف الجهود في دعوة الناس لدين الإسلام والتركيز على ثوابت الدين ومحكَماته، وفي مقدمة ذلك بيان عقيدة الولاء للمؤمنين والعداء للكافرين، وتجلية سيرة سيد الخلق إذ إن هذا هو الرد الناجع والمؤلم لأعداء الإسلام.
ونختم بدعاء عمر رضي الله عنه في القنوت: اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يُكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1/4546)
محبة النبي
الإيمان
الإيمان بالرسل
ناصر بن محمد الجعشاني
غير محدد
4/1/1427
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لزوم محبة النبي. 2- دعوة القرآن إلى محبة النبي. 3- محبة النبي في السنة المطهرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن محبة النبي من محبة الله تعالى، وهي لازم من لوازمها، كما أنها لازم من لوازم الإيمان، وشرط من شروط صحته، ولقد عرف أصحاب محمد حق محمد فأحبوه كما يستحق.
أيها المسلمون، إن من يقرأ القرآن الكريم ويطالع السنة المطهرة ليقف على الأمور التي تدعو إلى محبة النبي وتجبر من عرف رسوله بها على محبته وتوقيره وتعظيمه وإجلاله، فلنقف في هذه العجالة على شيء من ذلك.
أيها المؤمنون، لقد دعا القرآن الكريم إلى محبة النبي بأنواع الدعوات، فنبه إلى قدره، ولفت الأنظار إلى مكانته بين الأنبياء والمرسلين، وغير ذلك مما يجعل قارئ القرآن مجبرا محمولا على محبة النبي. والداعي إلى محبته كثير ووفير ولا بأس أن ننبه إلى بعضها.
أولا: اقتران لزوم محبته بلزوم محبة الله تعالى:
فالقرآن الكريم أوجب محبته كما أوجب محبة الله تعالى، فقرن لزوم محبة نبيه بمحبته عز وجل فقال: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: "فكفى بهذا حضّا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ؛ إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله".
ثانيا: اقتران اسمه مع اسم الله عز وجل:
لقد نبه القرآن الكريم إلى مدى قربه من ربه تعالى، فهو عبده ورسوله، وهو خيرته في خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، أعظم الخلق عنده جاها، وأسمعهم لديه شفاعة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه.فقد قرن اسمه مع اسمه تعالى في فوز الطاعة فقال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، وقرن اسمه مع اسمه في ضلال العصيان فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]، وقرن اسمه مع اسمه في منع الموادة لمن يحادّه عز وجل فقال: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
ثالثا: أن الله تعالى جعل اتّباعه وطاعته من لوازم طاعته ومحبته تعالى:
فقد وضع طاعته في طاعته فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، ونفى الإيمان عمن تشكّك في حكمه وتحرج فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
رابعا: أنه تفرّد في تزكية الله له من بين سائر من زكاهم الله جل وعلا:
فزكى الله لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، وزكى صدره فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]، وزكى عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وزكى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكى عمره فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، وزكى صفته فقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وزكى قلبه فقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وزكى ذكره فقال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وزكى جليسه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]، وزكى صلاته فقال: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وزكى فعاله فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وزكى خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
خامسا: بشارة الأنبياء بمبعثه عليه الصلاة والسلام:
فها هم يقولون: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، بل بشرت الأنبياء بمقدمه ومجيئه كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، ورزقني وإياكم محبته ومحبة نبيه عليه الصلاة والسلام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فلئن كانت هذه هي دعوة القرآن إلى محبته عليه السلام فلقد دعت السنة إلى محبته كذلك، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن النبي قال: ((فو الذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
قال القاضي عياض كما في شرح مسلم للنووي: "المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وشفقة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع النبي أصناف المحبة في محبته"، وقال ابن بطال رحمه الله: "من استكمل الإيمان علم أن حقّ النبي آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأنه به استنقذنا الله من النار وهدانا من ضلال".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: لأنت ـ يا رسول الله ـ أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال له عمر: فإنه الآن والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
قال سهل بن عبد الله التستري: "من لم ير ولاية رسول الله في جميع الأحوال ويرى نفسه في ملكه لا يذوق حلاوة سنته؛ لأن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)) ".
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)). قال أحدهم:
يا رب إن ذنوبي في الورى كثرت وليس لي عمل في الحشر ينجيني
وقد أتيتك بالتوحيد يصحبه حبّ النبي وهذا القدر يكفيني
أيها المسلمون، وفوق هذا كلّه فقد ثبت أن له أعلى مراتب المحبّة من الله تعالى وهي الخلة كما صح عنه أنه قال: ((قد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا)) ، وقال: ((ألا إني أبرأ إلى كلّ خلّ مِن خلّه، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله)).
وللكلام بقية نكمله في الخطبة القادمة إن شاء الله...
(1/4547)
نصرة الحبيب
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
سعود بن سعد الهاجري
الدوحة
27/12/1426
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات مع نهاية العام المنصرم. 2- عظمة الإسلام. 3- فضل النبي. 4- حب السلف للنبي. 5- تعرض النبيّ للأذية. 6- الحملات الدانماركية الإجرامية. 7- موقف المسلم تجاه هذه الحملات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإسلام، ها هو عام هجريّ جديد يطلّ علينا في هذا الأيام، أسأل الله أن يجعله عامًا مباركًا لأمة الإسلام والمسلمين. ومع قدوم هذه السنة الجديدة وانقضاء العام الماضي يجب أن يكون لكل منّا وقفات مع نهاية العام المنصرم؛ لعل الله أن يحيي بها القلوب وأن ينير بها العقول.
أولها: وقفة محاسبة للنفس، يعرف الواحد منا ماذا قدم وماذا أخر، هل أعدّ ليوم الرحيل؟ وهل استعدّ ليوم حرّه شديد؟
أما الوقفة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الوقفة السابقة فهي وقفة مع هجرة المصطفى الحبيب ، فنتذكّر أن الرسول هاجر من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة لِما لاقى من عداوة وبغضاء من كفار قريش وغيرهم من أعداء هذه الملّة السمحة، ومن هذا نعلم ـ إخوتي الأفاضل ـ علمًا يقينيًّا أن الهجمة على الإسلام لم تبدأ من زماننا الحاضر، ولا منذ سنة أو سنتين، ولا من قرن أو قرنين، بل كانت هذه الهجمة الشرسة الحقيرة منذ زمن رسولنا الكريم ، ولم تتوقف هذه الهجمات ساعةً واحدة، بل ولا يزال أبناء القردة والخنازير يخططون ويكيدون لهذا الدين بشتى الطرق والوسائل حتى يتحقق لهم ما يتمنون، وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة في كتابه العزيز فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
ونحن المسلمون من مبادئنا الأصيلة ومن تعاليمنا الجليلة أن نفتخر بهذا الدين، وأن نتشرف بأن جعلنا الله مسلمين ولو حصل ما حصل من أعداء الدين نحو هذا الدين العظيم، فمن لم يتشرف بهذا الدين ومن لم يفتخر بكونه من المسلمين ففي قلبه شكّ وقلة يقين، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44] أي: شرف لك، وشرف لقومك، وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة.
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا من العناية ركنًا غير منهدم
لَما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
ولذلك كان لزامًا علينا أن نفخر، وأن نشعر بالشرف والجلالة، يوم أن جعلنا الله مسلمين لا ضالين ولا مضلين.
عباد الله، والله إن ديننا عظيم وجليل، ولا يعرف قدر هذا الدين حق قدره إلا من كان مشركًا ثم دخل تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وإن من أهم مميزات هذا الدين وخصائصه أن رسوله ومبلغه هو المصطفى المختار محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي بأبي هو وأمي ، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لَها فبدّل حالَها
بل كرّم الإنسانَ حين اختار من خيْر البرية نجمها وهلالَها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
لَما رآها الله تَمشي نحوه لا تبتغي إلا سواه سعى لَها
هذا النبي العظيم كان عطوفًا بأصحابه، حليمًا بأعدائه، كان أجمل الخلائق وأصفى البشائر، لا تحصى فضائله، ولا تعد مزاياه، فهو خير خلق الله إنسانا، كان متواضعًا زاهدًا شجاعًا مقدامًا، تجمعت فيه جميع الأخلاق والصفات الحميدة والنبيلة، بل وأقسم الله تعالى بالنجم إذا هوى على تزكية المصطفى ، فزكى عقله: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]، وزكى لسانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم:3]، وزكى شرعه: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وزكى معلِّمه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5، 6]، وزكى قلبه: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكى بصره: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وزكاه كله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. نعته بالرسالة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وناداه بالنبوة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الممتحنة:12]، وشرفه بالعبودية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وشهد له بالقيام بها: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19].
به قامت دعوة الإسلام، وعلى يديه قامت راية الإيمان، وبفضله بعد فضل الله وصلت دعوته إلى جميع أقطار العالم من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ولو جلسنا ـ يا إخواني الكرام ـ نحكي ونتحدّث عن رسولنا الكريم أيامًا وأياما لما وفّينا حقّه، ولما ذكرنا شيئًا ولو يسيرًا في سيرته وفضله وعظيم قدره.
ذكريات مع الرسول وشوق ستثير الشجون منه الأجلا
كلما مر ذكره فِي فؤادي قال قلب المحب: أهلاً وسهلاً
حبه عبادة، حبه طاعة مفروضة، حبه إيمان وتصديق يتقرب العبد به إلى الواحد الأحد.
فالصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح أحبوه عليه الصلاة والسلام، وقالوا: عبد الله ورسوله، يبلغ عن الله، وهو أفضل الخلق وأصفى البشر، أحبوه لأنّ حبه كحلٌ للعينين وبلسم للأرواح وتشنيف للآذان وتضويع للمجالس وطيب للأنوف، يقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبه إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) رواه البخاري ومسلم.
والقصص الدالة على محبة الصحابة والسلف رضوان الله عليهم كثيرة وعجيبة، ولا نستطيع أن نذكر منها إلا الشيء اليسير؛ لأن المقام لا يسمح، ولو سمح المقام لذكرها لجلسنا أيامًا وأسابيع حتى نذكر جزءًا يسيرًا من هذه القصص الرائعة.
يقرأ الإمام مالك كتابه الموطأ في أحاديث الرسول ، فتلدغه العقرب ثلاث عشرة مرة، فلا يقطع الحديث، فيقول له الناس: يا إمام، رأينا وجهك تغيّر مرات كثيرة وأنت في المجلس! فقال: لدغتني عقرب وأنا أقرأ الحديث، قالوا: فلم لم تقطع الحديث؟! قال: استحييت أن أقطع حديث رسول الله من أجل نفسي.
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يسأل عن حديث وهو في سكرات الموت، فيقول: أجلسوني، قالوا: أنت مريض، قال: أجلسوني، كيف أسأل عن كلام الحبيب وأنا مضطجع؟!
هذا هو حبّ الرسول ، حبه عليه الصلاة والسلام طاعته، حبه عليه الصلاة والسلام اتباعه، حبه عليه الصلاة والسلام تعظيم سنته وتحكيم شريعته.
وبعد هذه القصص القصيرة الرائعة لا نعتقد أن الرسول كانت حياته مليئة بالورود، بل كانت حياته ـ بأبي هو وأمي ـ مليئة بالمخاطر والصعاب، ولكنه كان صابرًا جلدًا، لا توقفه الصعاب، ولا تمنعه المواقف العظام؛ لأن في زمنه كان هناك صنف من الناس جفوا عن الرسول وآذوه وشتموه وسبوه بأقبح الأسماء والصفات، فتارةً يقولون: إنه ساحر، ومرة شاعر، ثم مرة مجنون، وعلى هذه الطريقة يستمرّون، ولكن الله تبارك وتعالى انتقم لنبيه ، فأطفأ أبصارهم، وأعمي أفئدتهم؛ لأن هؤلاء القوم جعلوا رسول البرية وإمام البشرية لواءَ الشر في العالم والمسؤول الأوّل عن تخلّف المسلمين، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]. يأتي أحدهم وهو رجل معتوه، فيصف الرسول بأنه رجعي، وأنه بدويّ متخلف، أساء إلى العرب، فهو لا يعرف علم الاجتماع، ولا علم النفس، ولا علم التربية، ولكن هذا المعتوه الأحمق لم يعلم بأنّ رسولنا الكريم هو الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الحجر والشجر إلى عبادة الواحد الأحد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياء
وهذا شاعر الجنس والغرام والضياع عابدُ المرأة والكأس والأغنية، لا رفع الله شامته، ولا قبل حجته، تهكّم بالشريعة، واستهزأ بالدين، وسخِر من الرسالة الخالدة، بينما أتى هذا المجرم إلى أحد الأصنام والطواغيت فقال له:
ملأنا لك الأقداح يا من بحبه سكرنا كما الصوفيّ بالله يسكر
فأنت أبو الثورات أنت وقودها وأنت لنا المهدي أنت المُحرر
وبعد كل هذا نعلم أن هذه الهجمات الشرسة والحقيرة ـ أو ما يسمّى بنهيق الحمار ـ لم تبدأ في وقتنا الراهن، بل كانت منذ بداية الرسالة السماوية، ولكن للأسف يأتي أيضًا في هذا الزمان الحاضر أقوام ما عرفوا الله طرف ساعة، وما أعدوا لقيام الساعة، يعيدون التاريخ بصورة أخرى، فيتّهمون النبي ويصوّرونه على أنه إرهابي ومعه قنابل وأسلحة في كركتير في صحيفة دنماركية أجلّكم الله. فمعذرة يا رسول الله، ما عرفوك حق معرفتك، وما قدروك حق قدرك، وما عرفوا منزلتك ومكانتك. لقد كان الرحيم الشفيق في كل معركة ينهى عن قتل النساء والأطفال، وعن تخريب البيوت وقلع الأشجار، وحتى الطيور في أعشاشها ينهى النبي عن تخويفها وتفزيعها، فلم ينتقم الرسول يومًا لنفسه ولا لذاته وإنما لله ولله فقط، فما أعظمك يا رسول الله! أبعد هذا يتجرأ حقير من الحقراء وأحمق من الحمقى ونكرة من النكرات أن يتهم نبي الإسلام بالإرهاب وغيره؟! أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].
ولم تصدر الهجمات الجديدة من اليهود والنصارى المجرمين إلا من بعد ما رأى أعداء الإسلام ضعفَ الأمة الإسلامية وضعف عقيدتها وضعف اقتدائها برسولها وقائد رايتها، وهم ينفذون تمامًا ما ذكره الله تعالى في محكم التنزيل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين، ويا نجاة التائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
إخوة الإسلام، إخواني الكرام، وبعد ما سمعناه من هجمات شرسة وصيحات حقيرة في هذا الزمن الحاضر تجاه صاحب الرسالة السماوية ينبغي لنا كمسلمين أن نتخذ عددًا من المواقف المهمة والخطوات الفعالة نحو نصرة صاحب الرسالة، لا أن نقف مكتوفي الأيدي نشاهد ما يحدث حولنا ولا نهمس ولا نتحدث ببنت شفة.
فمن أراد أن يكون فعالاً في هذه القضية المهمة يجب عليه أولاً أن يقرأ سيرة المصطفى قراءةً جدّية لتطبيقها عمليًا في الحياة اليومية، لا أن يقرأ أحد من المسلمين أو يطلع على سيرة الحبيب مجرد اطلاع فارغ دون أيّ هدف واضح. ومن الكتب التي تعين المسلم في هذا المجال كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير وكتاب "الرحيق المختوم" لصفي الرحمن المباركفوري.
ثم يجب على المسلم أن يلتزم بالسنة الظاهرة والباطنة ابتداءً بإعفاء اللحية وتقصير الثوب والتزام السنن الرواتب وصيام الأيام الفضيلة حتى نكون متبعين لرسولنا حق الاتباع. بالإضافة إلى أنه يجب على كل مسلم أن يعلّم أبناءه ما استفاده من سيرة الحبيب حتى يتمّ توعية جيل المستقبل وتوسيع آفاقه لإدراك الخطر الذي يحيق بالأمة الإسلامية من كل جانب.
وأخيرًا وليس آخرًا ينبغي لكل مسلم في هذا الوقت الراهن أن يقاطع كل من أظهروا العداوة لرسولنا الكريم وقائدنا العظيم مقاطعة تامة وبصورة شاملة، وأخصّ منهم المنتجات الدنماركية والنرويجية؛ حتى يفيق الغافلون على إدراك أهمية الرسول في قلوبنا وفي أرواحنا، ناهيك على أنه يمكن لكل مسلم أن يساهم في نشر وتوزيع وطباعة الكتب التي تبين فضل الرسول وأثر دعوته على البشرية بأسرها، ولا أظن أن هذه الخطوة صعبة في ظلّ وجود العديد من المؤسسات الخيرية والدعوية في هذا البلد المبارك.
إخوة الإسلام، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة...
(1/4548)
تأصيل محبة النبي وحكم سبه
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
27/12/1426
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بين الحرية واستشعار المسؤولية. 2- مبدأ احترام الرسل والرسالات. 3- تغيير مصطلح الكافر. 4- حقيقة محبة النبي. 5- رسالة للمخذلين. 6- حكم ساب النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الموازنةَ بين الحريةِ واستشعارِ المسؤوليةِ يضعُ حدًا لاعتقاد البعضِ ممارسة حرياتهم على حساب الآخرين وبغير حق. إنّ السماح بوجود الحرية دون الشعور بالمسؤولية يعني أن تكون الحريةُ أقربَ إلى الفوضى، وإذا عمت عم الفساد الذي نهى الإسلام عنه وحذر أهله منه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وقال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، ويقول تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، ويقول: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]. هل حوِّلت الحياة في نظر القوم إلى عبثية وأنها حركة كونيّة لا علة لها ولا هدف، زينة وتفاخر، متاع حيواني كما هو السلوك البهيمي؟! أمّا الإنسان السوي فيعرف الغايات والأهداف، ويرتقي به ذلك في سلّم الإنسانية، حتى يربط الأحداث ويسمو بالتصور. إنها نقلة عظمى في تاريخ البشرية، تكشف عوار الفلسفات القديمة والحديثة: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة:37-39]. ماذا يريدون: حرية الفكر أم حرية الكفر؟!
إنّ معنى المسؤولية كقيمة هو شعور الإنسان دائمًا قيامَه بواجبه تجاه دينه وأفراد مجتمعه، وتجاه وطنه وأمته. وهنا نقول لمن يتجاوز الحدّ إلى البغي على الله وعلى رسله وعلى رسالاته باسم الحرية: أين أنتم من الدعاوى البراقة التي تنادي بحقوق الإنسان، وتنادي بخروق المرأة لا بحقوقها، وبتجريرها لا بتحريرها؟! أي إنسان أعظم من محمد ؟!
فمنظمات العالم تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بيِّنة، وقد حرّم اتفاق (فْيِنَّا) المساس بالأديان. وإذا استطاع اليهود على قلتهم أن يدرجوا من سبّ السامية ضمن مجرمي الحرب الذين تجب ملاحقتُهم؛ فهل يفعلها المسلمون بما لهم من ثقَل عالمي وأثر بالغ في ميزان القوى؟! ولذا فإنَّ الحرية المزعومة فيها انتهاكٌ لدين الإسلام وسخريةٌ برسول الله وإخلالٌ بحقوق الآخرين. فإذا كانوا أحرارا بالقول فنحن أحرار بالرفض، ولا يستطيع أحد أن يمارس الوصاية علينا أو يحدّد موقفنا.
إن الفئة الليبرالية التي استبدلت كلمة (الكافر) بـ(الآخر) تسامحًا ـ وهو تخاذل وتغيير وتبديل لكلام الله الذي سماهم الكفار ـ أرادت لنا هذه الفئة أن نتعايش مع اللّقب الجديد؛ كي تذهب العداوة إذا ذهب اللفظ، فجاء الآخر (الكافر سابقًا) وأهان أعظم رجل في الدنيا، لم تجدِهم التسمية؛ بل زادت (الآخر) شراسة وظلمًا. هذا هو (الآخر) الذي يدافع عنه بعضُ بني قومي ويردّد عقلانيتَه وحياده وإنسانيته، وهذا مسمار في نعش الحرية وحوار الحضارات تحوّل إلى هجوم على المقدسات وإرهاب في قالب التعبير وحرية الصحافة.
عباد الله، هل قصّرنا في البلاغ وضُلِّلت شعوب إلى هذا المستوى؟! نحن درسنا المخترعين في الصفوف الأولى لكثرةِ ما يشاد بهم وما قدّموا للبشرية، فماذا عن منقذِ البشرية؟! إننا بحاجة إلى تأصيل حب النبي في القلوب عبر برامجَ ومناهجَ ومواقفَ تعطي أثرًا إيجابيًا، محبتُه التي تكون باتباع شرعه والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه، محبته التي تكون بمعرفة سيرته ومعجزاته وأخلاقه، محبته التي تكون بتوقيره ونصرته والدفاع عنه في حياته وبعد مماته والذب عن سنته والرد على أعدائه. إن حبَّ النبي أصل من أصول هذا الدين، لا يستقيم إيمانُ إنسان بدونه، ولا يسعُ مسلمٌ أن يتجاوزه أو يتردّد فيه، فهو مرتبط بمحبّة الله سبحانه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادَّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرعَ المحمدي".
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين))، وفي الصحيح عن عبد الله بن هشام: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك))، قال عمر: فإنه الآن لأنت أحبُّ إلي من نفسي، فقال: ((الآن يا عمر)).
وهنا يأتي السؤال لك أيها المسلم، أنت الذي تعلن حبَّ النبي ونصرته ومتابعته وتوقيره، كم في بيتك من مخالفة لما جاء به النبي ؟ رفع الصوَر في البيوت، أكل الربا، قطيعة الرحم، والكذب والغيبة والنميمة، والظلم والتعدي، والكبر والخيلاء وغمط الناس، إسبال الثياب وحلق اللحى، وسماع الغناء وآلات الموسيقى، وإلقاء الأذى في الطرقات...
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا محالٌ في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعْتَه إن المحبَّ لِمن يحبُّ مطيعُ
خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أخرجه أهلُ مكة من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان: أنشدك اللهَ يا خبيب، أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك يُضرب عنقُ، وأنك في أهلك؟ فقال خبيب: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا. وسئل عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبُّكم لرسول الله قال: كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفَه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
وفي بار من بارات الهند وأناس من الكفار وبعضِ عُصاة المسلمين ممّن ابتلوا بالفسق والفساد في الفكر والأخلاق، وبينما كانوا يتناوَلون كؤوس الخمر ويتراقصون مع المائلات إذ تجرّأ أحد الكافرين فشتَم النبي بحضرة السُّكارى، فتحرّكت نزعة مِن إيمانِ أحدِ المسلمين واستيقظ من سبات السّكر؛ لأن نبيَّه محمدًا قد شتم، فقذف بيده كأسَ الخمر في وجه الشاتم، ودافع عن النبي ، ولم يكتف بذلك بل أعلنها توبة إلى الله وأوبة إلى دين رسول الله انتصارًا لهذا النبي العظيم.
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، قال الله تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:109].
رسالة واضحة للمخذِّلين الذين يسارعون في الاعتذار والدّفاع عن خوَنَة الأديان، والله تعالى يقول: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] أي: محاميًا.
هناك أناس يعدّون أنفسهم مثقَّفين ومتنوِّرين؛ لكنهم مفتونون. حقيقةً أتعجّب! لقد خدعونا طوال سنين طويلة، لماذا لا يخدعونا الآن؟! فانج بنفسك يا عبد الله، فقد أجمع العلماء على أن من سبَّ النبي من المسلمين فهو كافر مرتد يجب قتله.
وهذا الإجماع حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابيّ وغيرهم. دلَّ على هذا الحكم الكتاب والسنة، روى أبو داودَ (4362) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ دَمَهَا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (2/126): "حديث جيد".
سَبُّ النبي من أعظم المحرمات، وهو كفر وردةٌَ عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك جادًا أم هازلاً، وفاعله يقتل ولو تاب، مسلما كان أم كافرًا. ثمّ إن كان مسلمًا وتاب توبة نصوحًا وندم على ما فعل فإن هذه التوبةَ تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله له. يقول ابن تيمية: "إنْ سبَّ الله أو سبَّ رسوله كَفر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان السَّاب يعتقد أن ذلك محرّم أو كان مستحلاً أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، والقول بقتله ولو تاب من ذلك راجع إلى أن سبّ النبي يتعلّق به حقان: حق لله وحق لآدمي، فأما حق الله فهو القدح في رسالته وكتابه ودينه، وأما حق الآدمي فإنه أدخل المَعَرَّة على النبي بهذا السب، وأناله بذلك غضاضة وعارًا، والعقوبة إذا تعلّق بها حق الله وحق الآدمي سقط عنه حق الله تعالى بالتوبة، وبقي حق الآدمي لا تسقطه التوبة حتى يعفو عنه مستحقُّه، وقد تَعَذَّر عفوُه بموته، فبقي قتل الساب حقًا محضًا لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقُّه، فيجب إقامته" الصارم المسلول (2/438).
عباد الله، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:57، 58]، ففرَّق الله عزّ وجلّ في الآية بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجَلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
ومن هنا ـ عباد الله ـ نعلم أيضًا خطورةَ الاستهزاء بالدين وأهله، سواء عبر ما يعرض في المسلسلات والأفلام الهابطة التي تصوّر أهل العلم والفضل أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو شعائر الدين في صور لا تليق، بل وربما تعدى الأمر في ذلك إلى الهمز واللمز والاستهزاء، وما يصاحبه من تشويه وانتقاص لمقام أهل الدين والفضل. فهل يعي من يتجرأ على الدين وأهله خطورة ما أقدم عليه؟! وهل بعد هذا الجرم العظيم إلا الوقوع في الله ورسله وأنبيائه؟! وأخيرا هل ينبري الغيارى على أمتنا بإعلان مبادرة ترشد الغَضبة وتوحّد الهدف وتحتوي التجاوزات وترتقي بها عن الوقتيّة إلى الأمديّة؟! وبرغم تخلّف هذا أو تأخّره فسيعمل كلّ على شاكلته؛ فاستبقوا الخيرات، والله لا يضيع أجر المصلحين، ولا يصلح عمل المفسدين.
فهل ستكون لجنة على مستوى رفيع تتولى النوازلَ حتى لا تنسى؟! فسجناء المسلمين في معتقلات الظلمة والمجاعات والجفاف وحملات تجفيف المنابع... لتكون ملفاتُها حاضرةً وقضاياها ساخنة وخلفها مُطالب. وإذا كان الشؤم ضخمًا في حياة البشرية كلّها في الكلمات والبقاع والأشخاص فمحمد يحب الفأل الحسن. فإلى المحبوسين في قفص المادّة نحن متفائلون في زمن اليأس، وقراءتنا للأحداث على مستوى أمة المليار، فينا العلم والمال والحكم، فينا من لو أقسم على الله لأبره مِنَ الأتقياء الأخفياء أئمة الزهد والورع.
فما معذرِتنا يومَ نرد الحوض وعليه المصطفى ويذاد أقوام فيقول: ((أمَتي أمَتي..)) فيقال: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك؛ غيروا وبدلوا؟!
وصلوا على نبي الهدى والرحمة...
(1/4549)
يا أمّة المليار
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
11/1/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فجر الإسلام. 2- حامل النور. 3- وعيد من خدش في قدسية الرسالات. 4- فضل الصحابة وحبهم للنبي. 5- الفاجعة التاريخية. 6- استنكار جريمة الاستهزاء بالنبي. 7- أين حوار الحضارات؟! 8- الهبة الإسلامية. 9- واجب الذبّ عن النبي وحقيقة النصرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتّقوا الله عز وجل حقّ التقوى، فمن اتّقاه أفلح في دنياه وسلِم، واستبشر في أخراه وغنِم، ومن أعلى مراتب تقواه التي نبلغ بها القِمَم الانتصارُ لسيِّد العرَب والعجَم والذبُّ عن صفوة هذه الأمّة وخيار الأمم، فبذلك تُنال غاياتُ المُنى ونَعِم، ونِعِمَّا ذلك نِعِمّ.
أيّها المسلِمون، تبصُّرًا في أغوارِ التأريخ واستِكناءً لِحِقَب الحضَارات يُلفي المتأمّلُ أممًا لفّها ظلامٌ من الاستبدادِ مطبقٌ مُريع، بيدَ أنه يحمل في طيّاتِه نورًا يُرتقَب وأمّة في سموِّها تُزاحِم الشُّهُبَ. فها هي الرسالةُ المحمّدية العالميَّة ـ على صاحبِها أفضلُ الصلاة وأزكى التّسليمات ـ تترَى بُكرةً وعشِيًّا، يُصيخ بلهفٍ لها الزمان، وها هو فجرُ الأمّة الإسلامية يشرِق في كلّ مكان، وتتفتّح لها غِلَق الأَذهان، ويرِفّ ببركتِها وعظمتها كلُّ جَنان، قد حمَلت هذه الرسالةُ الخيرَ كلَّه والبرَّ دِقَّه وجِلّه والهدى أجمَعَه والعَدلَ أكتَعَه؛ فبِالإسلام أشرَق التأريخ، وبهديِ سيّد الأنام عرفتِ الإنسانيّة معنى وجودِها، وعلى هدي مُثُلنا وقِيَمنا رتقَت الحضاراتُ صدعَها ولمَّت شعَثَها، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
ولا يزالُ هذا الغيثُ الصيِّب المنهمِر يفتح المجاهِلَ بلا هَادٍ، ويعبُر القارّات دونَ اتِّئاد، ولقد اقتَضَت حكمتُه سبحانَه أن يكونَ المبلِّغ الأمين عن ربّ العالمين الرحمةُ التامَّة والنّعمَة العامّة محمّدَ بنَ عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، النّبيَّ الرؤوفَ الرحيم الوَصول، زاكيَ الفروع وساميَ الأصول، وكان الهَمُّ الذي بخَع نفسَه استرقَّ حِسَّه ـ يا أمّة الإسلام ـ انتشالَ البشريّة مِن مَومَات البغيِ والعنصريّة والأوثان إلى مَغاني العدل والرحمة والإحسان، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
ولا تَزال عظمةُ رِسالته وخَصائص نبوّتِه ميدانًا فسيحًا للمتأمِّلين ومَنهلاً رويًّا للبَاحثين المنصفين، كما هي نديَّةٌ نضِرة على الدوام، بل كلّما تمكّن الصّراع بين الحقّ والبَاطل ـ وها أنتم تعايِشونه ـ ازدادت عَبقًا واخضِرارًا.
معاشر المسلمين، أحبابَ سيِّد المرسلين، وهَذا النبيّ الأمّيّ الزّكيّ الرّضيّ مبشَّرٌ بصفاتِه البلجاء وشريعته الغَرّاء من قِبَل إخوانه الأنبياء والمرسَلين، يقول سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
فَيا عَجبًا! كيف يجحَد ذلك الجاحِدون ويَلغ فيه المستَهزِئون؟! وليس ذلك فحَسب، بل إنّ هَديَه عليه الصلاة والسلام هو الجامِع لما تفرّق فيهم من الفَضائل والمحامِد، وشريعتُه ناسِخَة وخاتمةٌ لجميع الملل والشرائع، وقد توعّد سبحانه مِن خدشِ قدسيّة رسالاتِ الله في أشخاص حملَتها ومُبلِّغيها منَ الأنبياء والمرسلين بالعذاب الأليم، وهو محادٌّ كلَّ المحادّةِ لجلال الله وعظمَته، كيف وهم عليهم الصلاة والسلام موضعُ حفاوته واصطفائه لبلاغ وحيه جلّ وعلا؟!
إخوةَ الإيمان، ومن تمام منَّة الكريم الوهّاب أن سوَّر هذا النبيَّ الأوّاب بكرام الصحابة ذوي النخوة والنجابة والفضلِ والإصابَة، أصفياء أَخيارٌ، كُماةٌ أَبرار، على عظمة كلِّ فردٍ منهم تقوم دولة وتنهض أمّة، وحبُّهم لِنبيِّهم أمرٌ تجرِض بِه اللَّهاةُ، وتتقَصّف دونه الأسَلات، سَأل أبو سفيانَ زيدَ بنَ الدَّثِنَّة وهو في الأسرِ قائلا: أنشدكَ اللهَ يا زيد، أتحبُّ أنّ محمّدًا الآنَ عندنا في مكانك تُضربُ عنُقُه وأنت في أهلك ومالك؟ فَرجف زيد قائلاً: والله، ما أحبّ أنّ محمّدًا الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تصيبُه شوكةٌ تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي ومالي، فصَاح أبو سفيانَ دهِشَا وقال: واللهِ، ما رأيتُ من الناسِ أحدًا يحبّه أصحابُه كما يحبّ أصحاب محمّد محمّدًا. الله أكبر، زيدٌ أَحبَّ، ففَدَّى الحبيبَ وذبَّ.
تزِن الْجبالَ رزانةً أحلامُهم وأكفُّهم خَلَفٌ من الأمطارِ
والباذلين نفوسَهم لنبيِّهم يومَ الْهِياج وسَطوةِ الْجبّار
وما ذاك إلاّ كِفاءَ نفسٍ غَنِيَت بالرَّحمة والسِّلم والحبّ والحِلم، وخلصت إلى أعلَى مراتب الصدقِ والطهر والعلم، فلِلَّه ما أعظمَ هذا الدّين، وما أقوى إيحاءَه، ولله ما أكرمَ هذا النبيَّ الجليل وأبهرَ بهاءَه، وما أجلَى هديَه وسناءَه.
لو أطلق الكونُ الفسيح لِسانَه لسرَت إليك بمدحِه الأشعارُ
لو قيل: من خيرُ العباد؟ لردّدت أصواتُ من سمِعوا: هو المختارُ
عليه الصلاة والسلام.
معاشرَ المسلمين في كلّ الأصقاع، إخوة العقيدة في كلّ البقاع، يُذَكَّر بذلك ـ أيها المحبون ـ في هذه الآونة الأخيرةِ التي غشّى الكونَ فيها لَيلٌ ثقيل، ولفَّه صَمتٌ مكدودٌ عَليل، وتصدّع فجر المسلِمين عن فاجعةٍ تأريخيّة سَفعاء، حيث نعَبَت أصوات بالإفكِ والبهتان، وجرت أقلامٌ في أودية الزّور والضلال والعصيان برسوماتٍ حاقدةٍ ماكرة، تنهدّ لها القَامة، وتتزلزل لها الهامَة، لقد استطالوا ويَا ويحهم، وتعَجرفوا ويا ويلهم، فسخِروا من أعظم جَناب وأكرمِ من وطئَ الترابَ نبيّنا محمّد ، استهزأ عَثكَلٌ عُمروط برسول رَبّ العالمين ورحمةِ الله للخلائق أَجمعين، إمامِ الأنبياءِ في الأرض وفي السماء، أبرّ الأمم على الإطلاق، وأعظمهم بإطباق، صاحِب المعجزات الظاهرات والآياتِ الباهرات.
سقطت مكانةُ شاتمٍ وجزاؤه إن لم يتُب مما جنَاه النارُ
ربّاه ربّاه، أيَهزَؤون برسول ربِّ الأرض والسماوات؟! أيَهزؤون بسيّد البريّات؟! أيتطاوَلون على الرحمة المهداةِ؟! أيَنتقِصون النعمة المسداةَ؟! إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57].
لَقد جاءَت تلك النفوسُ الباغيَة التي لَو صُوِّر الرِّجس والخبَثُ كِيانًا لما تَعدّاها، لقد جاءَت شيئًا إدًّا، يخرّ له الكون هدًّا، تبَّت لهم يدًا، وخُفِئوا أبدًا، يَستهزئون ويشتَفون، ويشهِّرون ولا يكتفون، ويتبجّحون بما ائتُفِك ولا يختفون، قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3].
بأبي وأمّي أنتَ دونَك مُهجتي في صدرِ من سلقوك أغرِسها مُدَى
ما أنقصوك فأنت أنت أجلّ خَلـ ـقِ الله منزلةً وأكمل سؤددًا
هيهاتَ أن تطيبَ لنا حَياةٌ، وأنّى نؤمِّل نصرًا أو نجاةً ولم نتقحّم لنصرةِ الهادي الحبيب لجَّةً ولا فَلاة؟! يا لَلبهيسَة وعظيم الفِرية! أين الأعراف الدوليّة؟! أين العالَم بهيئاتِه ومنظَّماته حِيال هذه الجريمةِ النكراء والفعلةِ الشنعاء؟! أين عقلاءُ العالم ومنصفو الإنسانيّة حِيال هذا الاستهزاء؟! أين المواثيق العالميّة التي تصدُّ هذا البهتان والافتراء؟!
فيا أمّة المِليار، ماذا قدّمتِ لنصرةِ المصطفى الحبيب المختار؟!
إنّا ليؤلِمُنا تطاوُلُ فاجرٍ ملأت مشاربَ نفسه الأقذارُ
ويزيدنا ألمًا تَخاذلُ أمّةٍ يشكو اندِحارَ غثائها الْمليارُ
إنّ دُوَل الإسلامِ وما فوقَها وما دونها أطرافَها وحُصونها والغبراءَ سهولَها وحُزونَها يجرّمون هذا الفعلَ الأثيم، ويستفظعونَ هذا الجرمَ اللئيم. وإنّنا نوجِّه ألهبَ النداء من منبر المسجد الحرام من منشَأ رسول الإسلام ومبعثِه ومَرباه، ونَستَصرخ باسمِ المسلمين جميعًا مُطالبين بإيقاعِ العقوبات المغلَّظةِ دونَ هوادةٍ على المستهزئين بالجناب المحمّديّ والمقام المصطفويّ، بُؤبؤِ العيون، المنزّهِ عن كلّ وصمة ودون، وكلِّ من واطأ الباغي وأعاد نشر تلك الرسوم؛ كي تُصانَ شرائع السّماء وتعظَّم مقاماتُ الأنبياء في كلّ زمان ومكان، مع المطالبة بتفعيل القراراتِ الدولية التي تَدين وتجازي تلك الجرائمَ والمخازي. لا بدَّ من تطبيق المواثيق العالميّة والقرارات الدولية التي تحاكم كلَّ مَن يتجرَّأ على الله ورسلِه وأنبيَائه ومُقدّساته، وتقاضي كلَّ من يتطاول على الشرائع والرسل والمقدّسات.
إنّ هذا الهزءَ والإدقاعَ عبرَ الشبكات والصّفحات ـ وايمُ الله ـ لو قوبِل به غيرُ نبيِّنا لأراق فيهِ أحبابُه أنهارًا من الدّماء، ولكان لهم مُنّةٌ من برهان وحجّة من سُلطان، فما بالُنا بأعظم الأنبياء قدرًا وأفضلِهم فضلاً وأعلَمهم بالله وأكرمهم على الله محمّدٍ خيرِ الأنام عليه من ربّه أفضل صلاة وأزكى سلام، النبيِّ الأكرم والمصطفى الأعظم، صاحِب المقام الأطهر والسَّنى الأغرّ؟!
هَجوتَ مُباركًا بَرًّا حنيفًا أَمينَ الله شيمتُه الوفاءُ
فإنَّ أبي وَوالدَه وعِرضي لعِرض محمّد مِنكم وِقاءُ
يقول شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله: "ولا ريبَ أنَّ من أظهر سبَّ الرسول وشتْمَه فإنّه يغِيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثرَ ممّا لو سفَك دماءَ بعضهم وأخَذَ أموالهم، فإن هذا يثير الغضبَ لله والحميّةَ له ولرسولِه "، ويقول رحمه الله: "مِن سنّة الله أن من لم يتمكّن المؤمنون أن يعذِّبوه منَ الذين يؤذون الله ورسوله فإنّ الله سبحانه ينتقِم منه لرسوله ويكفِيه إيّاه، وكلّ من شانَأه وأبغضه وعاداه فإنّ الله يقطَع دابرَه ويمحَق عينَه وأثرَه".
ألا فلتعلمِ الأمة جمعاء والعالم بأسرِه أن الله عزّ وجلّ ناصرٌ حبيبَه ومصطفاه وخليلَه ومجتباه، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
ما نالَ منك مُنافق أو كافِر بل منه نالت ذلّةٌ صَغارُ
حلّقتَ في الأفقِ البعيد فلا يدٌ وصلَت إليك ولا فمٌ مهذَار
أعلاك ربُّك همّةً ومكانةً فلَك السموُّ وللحسود بَوار
أيّها المؤمنون، وإنَّ هذا الحدث الذي أرجف العالمَ ليُعَجِّب الغُيُر ويحمِلهم على الاصطراخ والنداء: خبِّرونا ـ يا هؤلاء ـ عن حريّة التعبير وضوابطها؛ فإنّا في زعمكم نسيناها، ولتُنبِّئونا عن مواثيق قدسيّة الرسل والرسالات؛ فإنّا في ظنّكم أغفَلناها، أفلا تكون حريّةُ التعبير إلا حينما تُسَبّ مقدّسات المسلمين ويُنال من عظمائهم ويوقَع في أنبيائهم؟! لكنّها المعايير المزدَوَجة والمكاييل المضطرِبة.
عجبًا لهذا الحِقد يجرِي مثلما يجري صديدٌ في القلوب وقارُ
وإذا سُخِر من عظيم الدّنيا برمّتها بين من يزعمون الالتئامَ على المبادِئ والحقوق والرّقِيِّ والشرف فهيهات أن لا تُخفَر بينهم العهود وتخيس الذِّمَم.
ويحكم يا هؤلاء، أحيُوا العدلَ والصدقَ وانشروه، وأميتوا الصَّلَف والزَّيفَ واقبروه؛ تأمنوا البوائقَ التي يُخشَى اندِلاعُها.
وإنّه لا يخفى على النّصفَةِ والعقلاء أنّ هذه الآفةَ الخُلُقيّة الدنِسةَ التي انتهكت باستهزائها بالنبيِّ حرمةَ مليارٍ ونصف من المسلمين وتهكّمت بمشاعِرهم لتهوي بالأمَل في النهوض بدَعاوى احترام الآخر ودعاوى التسامُح وحوارِ الحضارات ودعاوى نشرِ السلام والوئام وما إليها من شناشِنَ أخزميّة، نعم تهوِي بذلك كلِّه إلى يَهماءَ قَرِق، لا بَاطلاً تردُّ، ولا زورًا تَقي.
ولقد استبان لكلِّ ذي بَصيرة من الذي يغذِّي التطرّفَ والإرهَاب، ويُذكي العنصريّة والعنفَ والكراهِية بين الشعوب، ويؤجِّج الإقصاءَ وصِراع الحضارات. وأمّا الذين استناموا وأصمّوا آذانهم عن نِداءات الاستفظاع لهذا الحِقد الدين واستدبَروا صرخاتِ التجريم واستنجازِ التحكيم فقد خانوا أماناتهم ودياناتِهم، ولن يضرَّ الإسلام وسيدَّ الأنام شيئا، كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21].
أمّةَ الإسلام، وإنَّ تِلكم الهبّات الصارمة والغضبات العارِمة لنصرة خيرِ العباد في أقصى البِقاع وشتى البلاد بمتنوّع الوسائل والطّرائق لا سيّما موقف بلاد الحرمين الشريفين الرسميّ الحازِم والشعبيّ الحاسِم وسائر البلاد الإسلاميّة وأحباب رَسول الله في كلّ مَكان لشدَّ ما أبهجتِ الغيور، وشَرحت بالبِشر الصدور، وكذا ما خطّته الأسَلات، فقد نوّرت من المحبِّ المُقَل، وآسَتِ الكَلمَ وحلَّتِ العُقَل.
الله أكبر، بصوتٍ واحد ملايين المسلمينَ في الأرض ترفع الشعار التأريخيّ: "إلاّ رسولَ الله"، وترفُض الاعتذارَ، وتطالِب بالمحاكمةِ. يا لها من مَواقفَ مؤثِّرةٍ، تُذكي عزّةَ المسلمين ووَحدتهم، وتعزِّز مكانَتَهم دوليًّا وهيبتهم عالميّا، ولقد قال الله عز وجل في إفك أسلافهم: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النّور:11].
ولَعمرو الحق، لقد زَفّت لنا تلكُم الهباتُ والغضبات موقفَ المقاطَعةِ السياسيّة والاقتصاديّة الصامِد منظومَ الأكاليل، وهذا القرارُ الحاسم وسواه سيتلُّ هؤلاء إلى قُضبان الذلّة والمحاكَمة تلاًّ، وأمّا الذين اثّاقَلوا عن نُصرة المجتبى والتّنديد ولم يُبالوا بالَه فليتَّقوا الله عزّ وجلّ، وليفيئوا إلى هذا المسعى الحميد.
ألا فلتشلّ الأيدي وتخرَس الألسن وتتقصّف الأقلام وليجفّ المداد ولينأ الإعلام إن لم يجَنَّد في الدفاع عن سيِّد الأنام رسول الهدى والرحمة عليه الصلاة والسلام.
وليكن منكم بحسبَان ـ يا رعاكم الله ـ أنَّ التهاب العواطف دون أناةٍ ورَويّة هو الهُوجُ القواصف التي تُسلِم الحججَ السائغة للعدوّ الكمين المتربّص على أنّنا أمّة ـ بزعمهم ـ لا تَنِي، تصطَخِب وتضطرب دون ضابط أو رابط. فالله اللهَ في ضبطِ العواطف وترشيد الانفعالات وعدم الاسترسال وراءَ أحلامٍ ومنامات ورسائل هواتِف محمولات وما إليها وتفعيل نُصرة المصطفى تفعيلاً منهجيًّا وتأصِيلا إيجابيًّا، ينطَلِق من عقيدةٍ راسخة ونصرةٍ دائمة، لا تمليها ردودُ أفعال طارِئة، فلتلجِموا ـ يا أحباب رسول الله ـ العواطفَ بلِجام التعقّل والحِكمة والتحرّك الإيجابيّ العمليّ في نصرةِ النبيّ الهاشميّ بأبي [هو] وأمي.
إنّي أقول وللدُّموع حِكاية عَن مثلها تتحدَّث الأمطار
إنّا لنعلم أن قدرَ نبيِّنا أسمى وأنَّ الشانئين صِغار
لكنّه ألَم المحبِّ يزيده شرفًا وفيه لِمن يُحبّ فَخار
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. استرجاعٌ عَلى ضُلوعٍ مِن الإساءة لنبيِّنا تحترق، ودموعٍ هامِيَة تستبِق. نعم استرجاعُ سنّة وثقةٍ وبَأس، لا قنوطٍ ويَأس، فالألسن الغضاب تفري فَريَ الصوارم العضاب، فالله المستعان، وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوّةَ إلا بالله العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيّد المرسلين، وجعلنا من أنصاره الغالبين، الذّابّين عن سنّته، المفدّين لها بالأنفس والأموال والبنين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان غفورا رحيمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أسبغ علينا نِعمًا عِدادًا، وبعث فينا سراجًا وقَّادًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توعَّد الأفّاكين لظى مِهادًا، فقد رضّوا لنا أكبادًا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبد الله ورسوله أعظم البريّة قدرًا وشرفًا، وأرأفهم فؤادًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الذين عزّروه ووقّروه وأمضوا في محبّته أرواحًا وأجسادًا، وكانوا في نصرته ضَراغمَ وآسادًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، وأطيعوه، وتوبوا إليه واستَغفروه، ونافِحوا عن حياض الحبيب المجتبى، وكونوا خيرَ من شفى في ذلك وكفَى، وحقِّقوا النصرةَ والوفا في الذبِّ عن جناب النبي المصطفى.
أيها الإخوة الأحبة في الله، وما تخوضه الأمّةُ من قمع الإساءةِ لنبيِّها فلِما أوجبه الله عز وجل من تعزيره وحبِّه وتوقيره وحمايته من كلّ مؤذٍ وشاني، ومِن المتقرِّر أنَّ المولى الحقّ سبحانه قد أغناه عن نصرةِ الخلق، ولكن وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25].
ولتدرِكوا ـ يا أحباب رسول الله رعاكم الله ـ أن نصرةَ رسول الله ليست في زعومٍ ودعاوى تُنشر، ولا عواطفَ وانفعالات تُبّثّ وتُنثر فحسب، كلاّ، فلن يغنِيَنا صَفّ الحروف إذا لم ننكِر بسنّته المنكرَ ونعرف المعروف. إنّ نصرته الحقيقيّة في اتِّباع هديه وسنته عليه الصلاة والسلام واقتفاء سَنَنه ومحجّته وعَدم مخالفته.
ودعوةٌ ملتَهِبة حرّاء أن يا قادةَ المسلمين في كلّ مكان ائتلفوا على نصرةِ نبيكم حقًّا، وهبُّوا لتجريم هذه الفِرى النّكرا بكلّ ثِقَلكم السياسي والاقتصاديّ، حكّموا شرعَ الله عز وجل وسنّةَ نبيِّه ، وارمُقوا أحبابَه بمقلةِ الوِداد والإخاء، وعلى محبّته وطاعتِه فليكن الولاء والبراء.
لن تهتدي أمّة في غير منهجه مهما ارتضَت من بديع الرأي والنُّظُم
خاطِبوا بعزم عقلاء العالم وشرفاءَه للتحرّك الجادّ في صدّ هذهِ التطاولات وردِّ هذه التجاوزات والاستفزازات.
أيّها العلماءُ والدعاة، طلاّب العلمِ الكفاة، ذبّوا عن جناب المصطفى الكريم، وانشروا سنّتَه خفّاقةً في العالمين، اعقدوا الدروس والمحاضرات والندوات لتعريفِ العالم بشمائله وفضائِله، وجِّهوا الأمّةَ إلى حقيقة الائتساء به ومحبّته.
أيّها المؤتمنون على وسائل الإعلام، أيّها المفكّرون وحملة الأقلام، اغتنموا هذه النُّهزَةَ السانحة لنشر سيرته العطِرَة بمختلف اللغات والترجمات؛ لتعبرَ العالَم والقارّات، خبِّروهم أنه رسولُ الإسلام والسّلام وأمين وحيِ الملك العلاّم، وأنه ـ بأبي هو وأمّي ـ جاوز في الشرفِ والقدر الجوزاء، وفي العظمةِ والسناء بُلَعًا في السماء، وَشِّعوا في بركاتِ رسالته وهديِه المؤلّفات والنشرات والقنوات والشّبكات، انبرُوا خفافًا وثِقالا لبيان محاسن الدين، أشهِدوا الدنيا والتأريخَ أن سيرة الحبيب دونها الشمسُ إشراقًا، ودونها السِّماك سموًّا وائتلاقا. وعسى الله أن يُقرَّ الأعين ويشفِيَ الصدور بقنواتٍ إسلامية فضائيّة عالمية تبثُّ بلغةِ القوم، تقول للعالم: هذا دينُنا الوضّاء، وهذا نبيّنا ذو الشمائل القعساء، ودون هذه هممُ ذوي اليسار والثراء.
فيا رجال المال والأعمال، أنفِقوا مما آتاكم الله في نصرة سيِّد المرسلين ودَعم الخطَط التي تنسف مكائد المستهزئين بخيرةِ الخِيَر وسيّد البشر عليه الصلاة والسلام.
أيّتها الأخوات المسلمات الفُضليات، انصرن نبيّكنّ وسنّتَه بالتمسّك بالحجاب والحِشمة والعفاف والحَذر من التبرج والسفور والاختلاط المحرّم ومكائد التغريب ودعاوى الإسفاف، نشِّئن الأجيال أحلافَ محبّته وطاعتِه، وروّوهم من معينِ منهجه وسيرتِه ، وبِذلك تتحقَّق نصرة الأمّة بكافة أطيافها وشرائِحِها لنبيِّها وحبيبِها محمّد.
سدّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وأعان العاملين المخلصين لنصرة دينهم والذبّ عن سنة نبيّهم ، إنه جواد كريم.
ألا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الخلق طُرًّا وأجلِّهم محتِدًا وقدرًا الذي أرسله ربّه للمدلجين بدرًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أزكى أعمالكم عند مليككم وأرجاها عند بارئكم ذبّكم عن جناب حبيبكم بكثرة صلاتكم وسلامكم على نبيكم محمد ، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولا كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم إنّا نشهدك على حبّك وحبّ نبيّك محمد ، ونشهدك أنه أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأموالنا وذرارينا، اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل الشانئون بجناب نبيك وصفيّك ، اللهم إنهم قد آذونا في نبينا وحبيبنا وقدوتنا وأسوتنا عليه لصلاة والسلام، فاللهم إن كان في سابق علمك أنهم لا يهتدون ولا يرعوون فاكفِ المسلمين شرورَهم، وانتقِم لهم منهم يا جبّار يا عزيز. إلَهَنا، انقطع الأمل إلا منك وخاب الرجاء إلا فيك وضعف الاعتماد إلا عليك، فاللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادَك المؤمنين، اللهم إنا أحببناك وأحببنا رسولك حبًّا صادقًا، اللهم فاغفر به ذنوبَنا، وأسعد به قلوبنا، وتقبّل هذه الكلمات، وجعلها لوجهك خالصات، وثقِّل بها ميزان الحسنات ذبًّا عن سيّد البريّات، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين...
(1/4550)
المسلمون بين التميّز والتميّع
الأسرة والمجتمع, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
18/1/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوة المسلم. 2- أهمية اتباع النبي. 3- خطورة البدع والمحدثات. 4- ضرورة مراجعة الأوضاع. 5- تأثير الإعلام الغربي على المسلمين. 6- حرمة مشاركة الكافرين في أعيادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ الوصيّة المبذولة لنا ولكم ـ عباد الله ـ هي تقوى الله سبحانه وخشيته في الغيب والشهادة، ولزومُ هدي نبيّه ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها الناس، إنَّ قوَّةَ المسلم ورفعتَه وعلوَّ شأنه لتكمُنُ بوضوحٍ في مدى اعتزازِه بدينه وتمسُّكِه بعقيدَتِه وأخلاقِه ومبادئه، وبُعدِه عن لوثةِ التقليد الأعمى والتبعيةِ المقيتة وراء المجهول. وإنَّ على رأس الاعتزاز والرّفعةِ التي هي مطلَب منشود لكلّ مجتمع ـ بله المجتمعات المسلمة ـ هو الاتباعَ والاقتداء لهديِ المصطفى والبُعدَ عن الإحداث والابتداع، اتِّباعًا مِلؤه التأسِّي المخلِص والمحبّة الدّاعَّةُ إليه، اتباعًا يُشعِر كلَّ مسلم ومسلمةٍ أن الخضوعَ في الدين والخلق الأدب إنما هو لله الواحِدِ الأحد؛ إذ كيف يحلو دين لا خضوعَ فيه ولا اتباع؟! ومن هذا المنطلق جاءَت الوصيّة الكبرى من الخالقِ جلّ شأنه لعبادِه المؤمنين بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، فكلُّ سبيلٍ غير صِراط الله عليه شيطانٌ يدعو إِليه، فيحبِّب سالكيه إلى البدَع، ويبعِدهم عن السنّة، وهي مرحلة من مراحلِ المراغمةِ بين الشيطان وبني آدم، وغوايةُ الشيطان وحبائلُه كالكلاليبِ التي تتخطَّف السالكين إلى مستنقعاتِ الدون والعَطَب؛ ليقع فيها المرتابُ المتردّد الذي خَلِي وِفاضه عن أسس الاتّباع والتمسّك بالسنة النبوية، فإمّا أن يكونَ ضحيّةَ النكوص والاستهتار لأوّل وهلةٍ، أو أن يصبح كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
أيّها المسلمون، لقد كان مِن أسُسِ محبَّة الله جل وعلا من قِبَل عباده أن يجعَلوا من وسائل هذه المحبّة الاتباعَ الصادقَ لنبيّه ؛ ليحسنَ القصد ويصدُق الزّعم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ كانت البِدَع والمحدثاتُ التي تقَع في المجتمعاتِ كالطوفان المغرِق، بيدَ أن السنّةَ الصّحيحة والاتِّباع الصادِق هما سفينةُ نوح التي من رَكِبها فقد نجا ومَن تركها غَرق، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
في الصحيحَين من حديث عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال: ((مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهوَ ردّ)) ، وفي روايةٍ لمسلم: ((كل عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)).
فهَذا الحديث ـ عبادَ الله ـ أصل عظيم جامع من أصولِ الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهِرِها، فكلُّ عملٍ لا يكون عليه أمرُ الله ولا أمرُ رسوله فليس مِنَ الدين في شيءٍ. قال النوويّ رحمه الله: "هذا الحديث مما ينبغِي حفظه واستعمالُه في إبطال المنكرات وإشاعةُ الاستدلالِ به كذلك".
إنَّ الناظرَ في أحوالِ المسلمين ومبادِئِهم ليَحكُم حكمًا لا ريبَ فيه ولا فُتون بأنَّ أهل الإسلام لا بد أن يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها، وأنّ عليهم أن يكونوا أمّةً متبوعة لا تابعة، أمّةً لها ثقلُها الثقافيّ والأخلاقي، أمّة لها مصدرها ووِردها الخاصّ الذي لا يساويه وِرد ولا مصدَر في الوجود، أمّةً تسبِق جميعَ الثقافات والحضارات بما لديها من مقوِّمات الاعتزاز والرفعة والغلبة، لا سيّما على المستوَى العقديّ والأخلاقيّ.
ولقد جرَت عادة الأمم والمجتمعات أن تأنفَ من الخضوع لمن يُبايِنها في الأخلاق والعادات والمشارب وإن لم يكلِّفها من يمارسُ هذا الإخضاعَ بزيادةٍ عمّا تدين به، بل إنها تستَنكِره حتى تنأى عنه وتَبتَعِد، وكلّما ابتَعَدت عَنه كلّما اقتربت آدابُ ذويها وأخلاقُهم مِن بعض، فلم يعد للعوائدِ الأجنبيّة عنهم وِردٌ ولا صَدر، ولا تلتَفِت إليها هِمم النّاس.
غير أنّ الهيجَانَ الإعلامي العارم المتسلِّلَ لِواذًا بين المسلمين قد سارَق خواطرَ كثيرين منهم وأخذ بألبابهم وحَدّق بأبصارهم؛ حتى صارَ له من الوقع والتأثير في طرقِه ما لا يمكِن أن يكونَ من خلال مطارِقِ البأس والقوّة، بل إنَّ مِن المؤسف جدًّا أن تتمكّن هذه الثورةُ الإعلاميّة والتصارع الحضاريّ والثقافي المكشوفُ من إحداث تمازجٍ تسبّب في أخذ الرّعاع واللَّهازم من المسلمين بأيديهم عاصبين أعينَهم إلى ما لم يكن من أصولِ دينهم وعوائدِهم، ولا هو من مُرتَكزَاته، فمحَوا بذلك الفوارقَ بين المسلمين وغير المسلمين، وأنّ لِلمسلمين من التشريعِ والاعتقاد والاتّباع ما ليس لغيرهم، فاختلَط الحابل بالنابل، وعظُم التأثّر بالثقافة الإعلامية المستورَدَة، وصارَ البَعضُ مِن المسلِمين منهومين في تلقّي كلّ جديدٍ وغَريب دون فرزٍ ولا إدراك للكُنه وما يحمل في طيّاته من مسخٍ وإضعافٍ للانتماء.
فيا لله العجب! أيُّ صدمةٍ هذه التي تحلّ بكلّ غَيور على بني ملَّته، يرى في أضعافها التراجُعَ في الاعتزاز والامتياز أمامَ الغارة الأجنبيّة الكالحة، ويرَى المسارقة الحثيثة المثمِرةَ حِجابًا كثيفًا يفقِد بعضَ المسلمين هويّتهم وتميّزَهم الخلقي والعقدي، كلّ ذلك إبّان انحسارٍ في التوعيةِ أورثَ إرسال الحبالِ على الغوارب؛ ليحلّ ببعضِ المجتمَعات ما ذكره المصطفى بقوله: ((لتركَبنّ سننَ من كان قبلكم حذوَ القذّة بالقذّة، حتى لَو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه)) ، قالوا: يا رسولَ الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) رواه البخاريّ ومسلم، وليصدُقَ فيهم ما ذكَره ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه حينَ قال: (أنتم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا وهَديًا، تتَّبعون عمَلَهم حذوَ القذّة بالقذّة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
ومَع ذلك كلِّه ـ عباد الله ـ فإنَّ لدى الناس من الفطرةِ والنشأة المتينة والتأصيلِ ما يمكن من خِلاله يقظةُ الوسنانين وإِذكاء مبدأ تدافع العوائِد والعقائد، والغلبةُ بلا شكّ للحقيقةِ التي لا تنقَطع بالمرّة، وإن خفَتَ توهّجُها حينًا بعد آخر إلا أنّنا نرى وميضَ برقها يلوح في أفئدةِ الغيورين من بني الإسلام وسطَ تلك الغيايات العارضة كلّما لاح في الأفقِ الوجه الناصِح والنذير العريان؛ حتى يتَّضح لكل رامقٍ أنّ صراع الثقافات وإن كان قويَّ الفتك لأوّل وهلةٍ إلا أنّه سريع العطَب أمام المعتزِّ بدينه وهويّته؛ إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غير أنها لا تموت قَطعًا، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:18-20].
بارك لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت، إت صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين.
واعلموا أنَّ من الأمور المحزنةِ والقضايا المفزِعة انسياقَ بعض المسلمين وراءَ طبائع وعاداتِ ومعتقدات غير المسلمين، من خلالِ الانخراط معهم في أعيادِهم وعوائدهم التي حرَّمها دينُنا الحنيف، وحذّرنا أشدَّ التحذير من الوقوعِ في أتُّونها.
ومما يزيد الأمرَ عِلّةً والطينَ بلّة أن نرَى فئامًا من البُسَطاء ينساقون وراء ذلكم، فيحاكون مواقعِيها زاعمين أنَّ في ذلك نوعًا من المجاراة الإيجابيّة والتلاقح في العاداتِ والثقافات، فصال كثيرون وجالوا في ذلِك، حتى أصبح المرء يعرِف منهم وينكر.
وعلى رأسِ ما ينكره المرءُ العاقل هو التأثّر والتأثير في أعيادِ غيرِ المسلمين واستسهال مثل ذلك الأمرِ بحجّة أنَّ الانفتاح العالميَّ لم يضع بين الناس فوارقَ وخصائص، وأنَّ الاشتراك في الأعياد والمناسباتِ العقديّة لا ينبغي أن تقفَ دونَه المِلَل، وهذا أمرٌ جِدّ خطير.
وإِن شِئتم فانظُروا ـ يا رَعاكم الله ـ ما وقَع من التأثير فيما يُسمّى: "عيد الحبّ" أو "عيد الأمّ" أو ما شاكَل ذلك بين صفوف المسلمين دون أن يعلَموا حقائقها وما تتضمّنُه في طيّاتها من مخاطرَ على عقيدة المسلم وخلُقه، وما يقع فيه معاقِروها من مخالفةٍ لهديِ النبي وارتكابٍ لما نهى عنه من مخالفةِ غير المسلمين.
والمشاهدُ لأصداءِ ما يُسمّى: "عيد الحبّ" ليوقن حقًّا درجةَ الغفلة والسّذاجة التي تنتَاب شبابَ المسلمين وفتياتهم في السباقِ المحموم وراء العوائدِ الأجنبية عن دينهم، دون أن يكلّفوا أنفسَهم معرفةَ أصولِ تلكم العوائد.
ويَزداد الأسف حين يغيب الوعيُ عن كثير من ضحايا ذلكم التغريب بأنَّ أصلَ عيدِ الحبّ عادة احتفاليّة يرجع تاريخها في بعضِ الروايات إلى القرنِ الثالث الميلاديّ؛ إحياءً لذكرى رجلٍ رومانيّ كان يبرِم عقودَ الزواج سِرًّا لجنود الحرب الذين مُنِعوا من ذلك لئلاّ ينشغلوا بالزواج عن الحروب، حتى افتضحَ أمر ذلك الرجل، وحُكم عليه بالإعدام، فجعلوا يومَ إعدامه عيدًا وذِكرى يتهادَون فيها الورودَ ورسائلَ الغرام، بل تجاوز الأمرُ أبعدَ من ذلك، حتى صارَ يومًا للإباحيّة عند بعض غيرِ المسلمين، وهو في الوقت الحاضِر يُعَدّ يوم عيد للعشّاق والمحبّين، يعبِّرون من خلاله باللّون الأحمر في لباسِهم وورودِهم ورسائلهم وغير ذلكم.
ودينُنا الحنيف دينٌ سماويّ ورسالة عالميّة، لها أثرها الإيجابيّ في المجتمعات، فلم يكن الإسلامُ يومًا ما محلاًّ لحصرِ المحبّة في يومٍ واحد، أو محلاًّ للبرّ بالأم في ليلةٍ واحدة، بل إنّه دين المحبّة والبرّ والمودّة في كلّ آنٍ وحين، فلقد صَحّ عن النبيّ أنه قال: ((والذي نفسي بيدِه، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)).
ثم إنَّ للإسلام من الخصوصيّة والامتياز ما لا يجوزُ في مقابلِه الوقوع في خصائص غيرِه، فإنَّ النبيَّ قدِم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هَذان اليومَان؟)) ، قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال رسول الله : ((إنَّ الله قد أبدَلَكما خيرًا منهما: يومَ الأضحى ويوم الفطر)) رواه أحمد وأبو داودَ والنسائيّ، وفي الصحيحَين أن النبي قال: ((إنّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا)) ، وقد صحَّ عن النبي أنّه قال: ((من تشبَّه بقومٍ فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داودَ.
ومِن هنا نعلم ـ عبادَ الله ـ أنَّ المشاركين في مثلِ هذه الأعياد من المسلمين قد وقَعوا فيما نُهِي عنه، ويَكونونَ بذلك قد ارتَكبوا مفسدتين: أولاهما: مفسدَة موافقة غيرِ المسلمين، والثانية: مفسدَة ترك مصلحةِ مخالفتهم، والله جلّ وعلا يقول: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ [الرعد:37].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4551)
روحي فداك يا رسول الله
الإيمان, قضايا في الاعتقاد, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الصحابة, جرائم وحوادث
إبراهيم بن علي الحكمي
الرياض
27/12/1426
جامع ابن عثيمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- حال العرب في الجاهلية. 3- حب الصحابة للنبي. 4- حب الحجر والشجر للنبي. 5- جريمة الدنمارك النكراء. 6- واجبنا لنصرة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الله جلَّ جلاله ذكَّر عبادَه المؤمنين منَّته وفضلَه عليهم بمبعث محمّد ، ليعرفوا قدرَ هذه النعمة، فيشكروا الله عليها، ويحمدوه، ويلتزموا ما جاء به محمد علمًا وعملاً: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المنّة ويعرفون قدرَها حقَّ المعرفة، علَّمهم القرآن والسنة وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين.
يا خير من جاء الوجود تَحيَّةً من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مِسْكًا بك الغبراء
كانوا قبل مبعث محمد في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبرًا النجاشي لما سأله قال: كنا عبادَ أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمدًا ، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور.
لما أطلّ محمدٌ زكت الرُّبى واخضر في البستان كلُّ هشيم
أيّها المؤمنون، إن لحبّ النبي رصيد في قلب كل مؤمن، فما من مؤمن إلا وله من حبه نصيب، فمستقلٌّ ومستكثر، وعلى قدر أمارات المحبة تكون حقيقتها، فسل نفسك وفتِّش في قلبك وعملك، حينها تعرف مقدار حبك.
معاشر الفضلاء، لقد عرف أصحاب رسول الله قدره وفضله فأحبوه حبًا فاق الوصف حتى صار أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، أحبوه بأقوالهم وأفعالهم، في يقظتهم ومنامهم، في دنياهم وأخراهم؛ فوجدوا بذلك حلاوة الإيمان.
يصف هذا الحبّ عروة بن مسعود قبل إسلامه كما روى البخاري في صحيحه عن عروةَ بن مسعود أنه قال لقريش وقد بعثته في شأن الصلح: أي قومِ، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّدٍ محمدًا، والله إن انتخم نخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيمًا له.
ولما أراد المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتى به إلا لأمرٍ جَلَل، فلما دخل عليه قال: ((أُذِن لي بالهجرة)) ، فقال الصديق: الصحبةَ يا رسول الله؟ فقال: ((نعم)) ، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحًا، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه.
وسُئل علي بن أبي طالب : كيف كان حبكم لرسول الله ؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
وعن بريدة بن الحصيب قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله لم نرفع رؤوسنا إليه إعظامًا له. رواه البيهقي.
وعن عمرو بن العاص قال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه. رواه مسلم.
وفي غزوة الرجيع لما غدر بنو لحيان بأصحاب النبي كان فيمن أسروه زيدُ بن الدّثِنَة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فاجتمع رهطٌ من قريش فيهم أبو سفيان، فقال له حين قُدِّم ليُقتل: أَنشدك بالله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا الآن عندنا مكانك نَضرب عُنقَه وأنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانِه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي، قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدًا.
هل رأيتم أعظم من هذا الحب أو أصدق من هذا الوفاء؟! إنها ليست طاعةً في ركعتين يركعهما، ولا امتثالاً لنهي عن لذة يشتهيها، إنها أنفسٌ تُباع وأشلاء تُمزق وأرواح تُزهقُ طاعةً لله ورسوله.
أيها المؤمنون، ويبلغ حب أصحاب رسول الله له تفكيرهم في الدنيا أن لا يجالسوه في الآخرة، فعن الشعبي قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت، وبكى الأنصاري، فقال له رسول الله : ((ما أبكاك؟)) قال: ذكرتُ أنك ستموت ونموت، فتُرفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك، فلم يخبره النبي بشيء، فأنزل الله عز وجل على رسوله : وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70]، فقال له النبي : ((أبشر)) أخرجه البيهقي في الشعب، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا.
فما أعظمها من بشرى نالها هذا الصحابي الذي نزلت هذه الآيات في حقه، وما أعظمه من أجر يناله كل مطيع لله ولرسوله.
وعن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى قيام الساعة؟ فقام النبي إلى الصلاة، فلما قضى صلاته قال: ((أين السائل عن قيام الساعة؟)) فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: ((ما أعددت لها؟)) قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله : ((المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فما رأيت فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بهذا. أخرجه الترمذي.
ولم يكتف سلفنا الصالح بهذه الدعاوى، ولم يتوقفوا عندها، ولم يركنوا إليها، بل برهنوا عليها عمليا بطاعتهم لربهم وتقديم مرضاته على كل ما سواه، وباتباعهم لنبيهم وتقديم أموالهم في سبيل الدعوة ودفاعهم عن النبي وعن الدين في معاركهم مع الكفار رجالاً ونساءً صغارًا وكبارا، وكانوا لا يرضون أن يسوأه مخلوق كائنا من كان.
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه، فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) فقالا: لا، فنظر رسول الله إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله)).
فانظروا إلى هذين الشبلين المسلمين، وانظروا إلى مقدار حبهما لنبيهما، ثم انظروا إلى أشبالنا وصغارنا هذه الأيام، وانظروا من يحبون ومن قدوتهم، ستجدون القدوة هم المغنون أو لاعبو الكرة النصارى والملاحدة.
وفي جانب النساء روى أهل السِّير عن محمد بن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. تريد صغيرة.
هذا في أخبار حب البشر، فما أخبار الحجر والشجر؟ روى الطبراني في الكبير عن جابر أن النبي قال: ((إن بمكة حجرًا يسلم علي، إني لأعرفه إذا رأيته)) ، وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي فوضع يده عليها فسكنت. وعند ابن خزيمة عن أنس بن مالك: فلما التزمه رسول الله سكت ثم قال: ((والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه ما زال هكذا حتى تقوم الساعة)) حزنا على رسول الله ، فأمر به رسول الله فدفن يعني الجذع. وفي خبر جابر فقال النبي : ((إن هذا بكى لما فقد من الذكر)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها المؤمنون، وإذا كانت نفوسنا قد تاقت شوقًا لمشاركة أصحاب رسول الله فيما هم فيه من الخير والأنس برسول الله ومسابقتهم لمحبته، فقد كدَّر النفوس أن أفئدة حاقدة وأنفسًا مبغضة وأعينًا حانقة عميت عن هذه المعاني العظيمة في سيرة نبيّ الرحمة ; فسخّروا أقلامهم للنيل منه مستغلين أولاً حقدهم عليه وعلى هذا الدين، وثانيًا التوجه العالمي للنيل من هذا الدين وكتابه ورسوله ، في سياق ما يسمى بالحرب على الإرهاب، حيث قامت صحيفة دانماركية تسمى "جلاندز بوست" يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ الموافق 30 سبتمبر 2005م بنشر رسوم كاريكاتورية لمن تزعم أنه رسول الله ذات ملامح شرّيرة، ومنها صورة رجل يلبس عمامة على شكل قنبلة، وصورة مع نسائه في محاولة لإلصاق تهمة الإرهاب بهذا النبي ودينه، ثم قامت مجلّة نرويجية اسمها "ماجازينت" يوم الثلاثاء 10/12/1426هـ الموافق 10/1/2006م بنشر الرسوم التي نشرتها سابقًا الصحيفة الدانماركية بذريعة حرية التعبير.
أيها الفضلاء، إن مقام النبي عند ربه عظيم، وإن من سنته أنه ينتقم لمن انتقص رسوله وخليله وصفوته من خلقه، يقول تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، وقال تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]. فما استهزأ أحد برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة.
وما نشر من رسومات في هذه الصحف لا تمثل شخصَ رسول الهدى ، بل هي صور أملتها عليهم شياطينهم، أما محمد فوجهه يشع بالضياء والنور, ولم يستطع أصحابه أن يملؤوا أعينهم منه إجلالاً له وقد عاصروه، فكيف بمن لم يجمعه به زمان ولم يربطه به خلق ولا إيمان؟!
لقد حكم الحقّ جل في علاه على كل منتقص للنبي أنه هو الأبتر، المقطوع الذكر، الذليل المهين. أين ملوك الأكاسرة والقياصرة؟! لقد مزّق كسرى كتاب رسول الله وسخر من رسوله, فدعا عليه النبي أن يمزق الله ملكه، فكان كذلك. وبالمقابل فقد علم بعض ملوك النصارى أن إكرام كتاب رسول الله يبقي فيهم الملك ما شاء الله. ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيّكم إلى جدّي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال المُلك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظّمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا" اهـ.
أحباب محمدٍ ، لقد وصفوا النبي بالقتل والدموية، والتاريخ بيننا وبينهم حكَمٌ، والأمر كما قال الشاعر:
حكمنا فكان العدل منا سجية ولما حكمتم سال بالدم أبطحُ
ولا عجب هذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضحُ
أيها المسلمون، ومهما بلغ من حال المسلمين من تفرّق وتنقص إلا أنَّ الخير عامٌّ بإذن الله، والأمة رغم جروحها ونزيفها إلا أن نبض قلوبها ولهج ألسنتها: "أرواحنا ودماؤنا وأموالنا وأعراضنا فدى للا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام".
أيها المؤمنون، إن من الوفاء أن نشكر كلّ من قام بالرد والاستنكار على هذا المنكر العظيم من كل غيور من المسلمين في العالم، توَّج ذلك الموقف المشرّف مِن ولاة أمر هذه البلاد من مجلس الوزراء ومجلس الشورى، وأخيرا استدعاء السفير بالأمس. وكذا ما قام به جمع من التجار وأصحاب الأموال بمنع المنتجات الدنمركية وعدم بيعها والإعلان على أبواب المحلات التجارية بالمقاطعة، فبارك الله في عملهم، وبارك لهم في أموالهم ثانيًا.
ما هو واجبنا لنصرة المصطفى ؟
أولاً: الاستنكار ولو ببرقية أو برسالة أو عبر البريد الإلكتروني، أو بالتصويت عبر الموقع الإلكتروني للحملة العالمية لنصرة المصطفى.
ثانيًا: مقاطعة منتجاتهم وبضائعهم، وقد وردت إحصاءات أولية غير دقيقة أن مجمل خسائر الدنمارك من المقاطعة والتي لا تزال في بداياتها بلغت أكثر من مليار دولار، فكما نقول: "لا للمخدّرات" فلنقل: "لا للمنتجات الدنمركية"؛ لأن القوم لا يقدرون إلا الريال والدولار. ولا يفهم من المقاطعة تحريم ما أحل الله لعباده، فكما لهم حرية الرأي فلنا حرية الشراء، وقبل ذلك العزة التي خصّها الله لنفسه ولنبيه وللمؤمنين على غيرهم.
ثالثًا: اتباع سنة النبي ونشرها، وهذا ردّ عملي على كل من يتّهم ديننا ونبينا بالإرهاب، وقبل ذلك هو واجب على كل أحد. فأين سنة النبي في بيوتنا؟! وأين هي في أخلاقنا؟! وأين هي في دعوتنا؟! وأين هي في معاملاتنا؟!
رابعًا: تفعيل دور الإعلام الغائب ـ وإن شئت فقل: النائم ـ عن نصرة الدين والذَّبِّ عن خير المرسلين ، والذي تفوّق بكل جدارة ـ للأسف ـ في إرضاء الشيطان وأعوانه وعرض الرذائل والتفسُّخ والانحطاط، وأين هم من نشر الإسلام وصورته الحقيقية في بلاد الغرب؟!
خامسًا: إرسال رسائل للمسبّحين بالغرب وأخلاقه صباح مساء، فها هم يبدون عداوتهم ويظهرون حقدهم، فمن هو الآخر الذي ندعو لمسامحته؟!
سادسًا: قراءة سيرة المصطفى ، وليكن مثلاً كتاب الرحيق المختوم فاكهة المجلس في كل بيت تتربى فيه الأسرة على معرفة نبيها ودينه وأخلاقه وسيرته.
سابعًا وهي المقدمة في عقيدتي وعقيدتك: أن نعلم أن العداء للدين وللرسول ليست قضية قديمة، بل هو أمر قديم جديد، فقد قال أسلافهم: أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53].
إمامَ المُرسلينَ فداكَ رُوحي وأرواحُ الأئمّةِ والدُّعاةِ
رُفِعْتَ منازلاً وشُرحت صدرا ودينُكَ ظاهرٌ رغمَ العُداةِ
وذكرُكَ يا رسولَ اللهِ زادٌ تُضاءُ بهِ أسَاريرُ الحَيَاةِ
وغرسُك مُثمرٌ في كلِّ صِقع وهديُكَ مُشرقٌ فِي كلِّ ذاتِ
ومَا لجنان عَدنٍ من طريقٍ بغيرِ هُداكَ يا علمَ الهُداةِ
وأعلى اللهُ شأنكَ فِي البَرَايا وتلكَ اليومَ أجلى الْمُعجزاتِ
عليك صلاةُ ربِّكَ ما تَجلى ضياءٌ واعتلى صوتُ الهُداةِ
يحارُ اللفظُ فِي نجواكَ عجزا وفي القلب اتّقادُ المورياتِ
ولو سُفكتْ دمانا ما قضينا وفاءك والحقوقَ الواجباتِ
أيها المؤمنون، صلوا وسلّموا على خير البرية...
(1/4552)
الدفاع عن الرسول المصطفى
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
سالم بن سلامة الجلعود
القطيف
27/12/1426
جامع الإمام فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبدأ احترام الرسل والرسالات. 2- فضائل المصطفى. 3- دفاع الله تعالى عن نبيه. 4- حقيقة حب النبي. 5- حب الصحابة للنبي. 6- حقد الغرب على الإسلام والمسلمين. 7- حقوق المصطفى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، كل الكتب السماوية وكلّ الأعراف الأرضية والقوانين الوضعية وكل الأخلاق الإنسانيّة تحرّم الاستهزاء بالرسل والرسالات، وتجرّم الاعتداء ببذيء القول على كرام الناس وقادة الإنسانيّة، فكيف إذا كانوا رسلاً كِراما وأنبياء عِظاما؟! بل كيف إذا كان المعتدَى عليه هو محمد ، محمد الذي أضاءت أركان الكون وتفلّجت فجاج الأرض بمبعثه؟!
وغير خفيّ على مَنْ يَقْدُر هذا النبيّ قدرَه أن ليس في طوق كاتب ولو ألقَت إليه البلاغة أعنّتَها تقصِّي المعاني التي انطوَت في هذه السيرة العظيمة، فهو الرسول العظيم والنبيّ الكريم، بل هو أفضل الرسل قاطبة، هو خير خلق الله أجمع، هو خير من ركب المطايا، ما ولدت النساء مثلَه، وما أظلّت السماء له نظيرا.
كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعث للثقلين: الأنس والجن، ورسالته هي خاتمة الرسالات، وهو خاتم الأنبياء والرسل، لا نبي بعده، فرسالته باقية ما دامت السموات والأرض.
هو من يفتح الجنة، هو الشافع المشفّع في المحشر، قال : ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشقّ عنه الأرض)) ، يقول أبو هريرة : (ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله ، كأن الشمس تجري في وجهه)، وقال ابن عباس: (كان رسول الله أفلج الثنيّتين، إذا تكلم رئي كأن نورًا يخرج من بين ثناياه)، وعن أنس قال: (كان رسول الله أزهر اللون، كأن عروقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفّى، وما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ، ولا شممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب ريحا من رسول الله ).
فصيح اللسان، واضح البيان، بليغ القول، موجز العبارة، موضح في الإشارة، غير متكلّف في اللفظ، جميل المنطق، سلس مبين، أوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم.
وصفته أم معبد في طريق هجرته فقالت: (رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزجّ، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظِمنَ يتحدّرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس، ولا مفنّد).
وقيل في شأنه أيضًا:
بلغ العلى بكماله كشف الدّجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلّوا عليه وآله
وقال حسان:
وأحسن منك لم تر قطّ عيني وأفضل منك لم تلد النساء
خلِقت مبرّأً من كل عيب كأنك قد خلقة كما تشاء
وفوق هذا وذاك قول الحق تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى ِبِهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالْجود الْمدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادرا ومقدّرا لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان فِي الدنيا هُما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك من مرضاته ورضا الكثير تَحلّم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب فكأنَّما جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وسمعتم ـ عباد الله ـ ما فعل أهل الحضارة بزعمهم، فأين الحضارة من سب الرسول؟! أين حقوق الإنسان التي يزعمون؟! أين الأخلاق التي يدعون؟! أين المبادئ والقيم؟! بل إنها براء منهم ومن أفعالهم.
إن الله يغضب أن ينال رسوله بسوء: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ [سورة المسد]، وقال في العاص بن وائل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [سورة الكوثر]، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95]، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [سورة الشرح].
إن عرض رسولنا ليس كلأً مباحًا لكل أفّاك أثيم، ولا حمى مهينا لكل أمّة، لقد هجا أحد المشركين رسول الله فما كان من شاعر الرسول حسان إلا أن تصدّى له فقال:
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مُجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركتك عبدًا وعبد الدار سادتها الإماء
هجوتَ محمدًا فأجبت عنه وعند الله فٍي ذاك الجزاء
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ فشرّكما لخيركما الفداء
هجوتَ مباركًا برًّا حنيفًا أمينَ الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصُره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لسانِي صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدّره الدلاء
فقال له : ((وقاك الله حرّ النار يا حسان)).
عباد الله، نحبّ الرسول وندعي ذلك، فماذا قدمنا؟ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. هذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتّبع الشرع المحمدي والدين النبويّ في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: ((مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، ولهذا قال: إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: "ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ"، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ".
عباد الله، في الصحيحين عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ((وماذا أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها كثير عمل، إلا أنني أحب الله ورسوله، قال النبي : ((المرء مع من أحب)) ، يقول أنس : فما فرحنا بشيء كفرحَنا بقول النبي : ((المرء مع من أحب)) ، ثم قال: وأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن أحشر معهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
إن محبة الرسول أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
وإن الحديث عن محبتهم رسولَ الله وآحاده ضرب من العجَب ونذكر بعض المواقف معدودةً لنرى كيف كانت محبة الصحابة لرسول الله :
هذا خبيب بن عدي مصلوبًا على خشبة القتل عند قريش، يقولون له: أتحبّ أنك سالم في أهلك وأن محمدًا مكانك؟ فيقول: والله، ما أحب أني سالم في أهلي وتصيب محمدًا شوكة. إنه لا يجعل قتله كفاء لقتله، ولكنه يرى موتَه هو أهون عليه من أن يصاب رسول الله بأدنى أذى حتى الشوكة.
وتلك أم سُلَيْم رضي الله عنها حين قال عندها رسول الله فجعلت تسلت العرق عن جنبه الشريف في قارورة معها، فاستيقظ بفعلها فقال: ((ما تصنعين يا أم سليم؟)) قالت: عرقك يا رسول الله نجعله في طيبنا.
ويقول سهيل بن عمرو: لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر فما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا.
قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
قال القاضي عياض في شرح الآية: "فكفى بهذا حضًّا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ؛ إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله".
وقال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، وقال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ، وقال أيضًا: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)) ، وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
رأى عبد الله بن المغفل رجلا من أصحابه يخذف فقال له: لا تخذف فإن رسول الله كان يكره ـ أو قال: ـ ينهى عن الخذف؛ فإنه لا يُصطاد به الصيد ولا يُنكأ به العدو، ولكنه يكسِر السن ويفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: أخبرك أنّ رسول الله كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف، لا أكلمك كلمةً كذا وكذا.
وهذا عمران بن حصين كان في رهط وفيهم بشير بن كعب، فحدّث عمران يومئذ فقال: قال رسول الله : ((الحياء خير كله)) ، قال: أو قال: ((الحياء كله خير)) ، فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف، فغضب عمران حتى احمرّتا عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله وتُعارض فيه؟! فأعاد عمران الحديث فأعاد بشير، فغضب عمران، قال أبو السوار العدوي: فما زلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به.
ولما قال عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها)) قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال الراوي: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبًّا سيئًا ما سمعته سبّه مثله قط وقال: أخبرك عن رسول الله وتقول: والله لنمنعهن؟! وفي رواية: فضرب في صدره وقال: أحدِّثك عن رسول الله وتقول: لا؟!
وبلغوا من الامتثال أجمله وأحسنه وأكمله، روى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال:كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟! قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟! قال: يمنعه قول رسول الله : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)).
وبلغ من شدّة تمسُّك سلف الأمة بسُنّةِ نبيِّها مبلغًا استفاضت معه أقوالُهم.
عباد الله، هذه فيمن خالف أمر المصطفى ، فكيف بمن استهزأ بشيء مما جاء به ؟! وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة:65، 66].
وإن مما يبعث على الأسى ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثّه صحف الدانمارك والنرويج، تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر ينمّ عن حقد دفين وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط محلّ الحقائق وتتيه في أودية الزور والبهتان، ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميرًا أو أقل من ذلك.
إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قس بالسفاهة باقل
وقال الدجى للشمس نورك باهت وقال السهى للبدر وجهُك حائِل
عباد الله، هذا يبين ما عليه مثقّفوهم والنّخب منهم والمتحدثون فيهم ومن يملك القلم ويدعو للحضارة ويوجّه الناس، فقد انكشف الغطاء الزائف عن الغرب وإدعائه الحضارة والحرية، وتعروا أمام العالم بأجمعه؛ حتى حار من يدافع عنهم مِن بني جلدتنا المنخدعون بهم، فما يدرون ما يقولون.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويجهد أن يأتي لها بضريب
فكيف بمن عادى الأنبياء؟! يقول الله جل الله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب:57]، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
يقول ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمُكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَا به أعدادٌ من المسلمين العُدُول أهل الفقه والخبرة عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حصارِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لمَّا حاصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحاصِرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه" انتهى.
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في ردّ ذلك الزيف وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طوِيت أتاح لها لسان حسود
وفضيلة النبي لم تطوَ، وإنما تتجدّد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْدِ الضحى.
ومن الغريب والعجيب أن بعض الناس لو طعن فيه أو في أبيه أو نسبه أو قبيلته لغضب غضبا شديدًا، ولكن عندما يتكلّم أحد في الرسول أو سنته التي هي وحي من الله تعالى لا يردّ بشيء، ولا شك أن هذا من علامات ضعف المحبّة للرسول الناتج عنها ضعف الإيمان والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولسائر المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الفضل المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين وخير الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الكرام إلى يوم الدين.
أما بعد: إنّ محبة النبي أصل عظيم من أصول هذا الدين، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
وللنبي الكريم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها:
أولاً: الإيمان الصادق به وتصديقه فيما أتى به، قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]، وقال تعالى: فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا [الفتح:13]، وقَالَ : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)).
الإيمان به هو تصديق نبوته وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك بالعمل بما جاء به تمَّ الإيمان به.
ثانيًا: وجوب طاعته والحذر من معصيته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7]، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13، 14].
وعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ)) ، وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟! قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)).
ثالثًا: اتباعه واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال تعالى : وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]. فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته، قال ((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)).
رابعًا: محبته أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة، قَالَ : ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
وعلامات محبته تظهر في الاقتداء به واتباع سنته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحبّ شيئًا آثره وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقًا في حبه ويكون مدّعيًا.
ولا شك أن من علامات محبته النصيحة له لقوله : ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)) ، قُلْنَا: لِمَنْ: قَالَ: ((لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)). والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وطاعته فيما أمر به واجتناب ما نهى عنه ومُؤازرته ونصرته وحمايته حيًا وميتًا وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها وتعليمها والذب عنها ونشرها والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة.
خامسًا: احترامه وتوقيره ونصرته، كما قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]. قال الإمام ابن تيمية: "التعزير اسم جامع لنَصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار".
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، وقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا [النور:63]، وحرمة النبي بعد موته وتوقيره لازم كحال حياته، وذلك عند ذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته وتعلم سنته والدعوة إليها ونصرتها.
سادسًا: الصلاة عليه ، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) ، وقَالَ : ((لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) ، وقَالَ : ((الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)) ، وقَالَ : ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ)) ، وقَالَ : ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)).
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي إلا هذا الحديث لكفى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ)).
سابعًا: عدم رفع الصوت فوق صوته :، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، وعن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب ، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان صواتكما في مسجد رسول الله ؟!
ثامنًا: وجوب التحاكم إليه والرضا بحكمه ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده.
تاسعًا: إنزاله مكانته بلا غلو ولا تقصير، فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، كما قال تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، وقال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، وقال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21، 22].
عباد الله، لقد مات كغيره من الأنبياء، ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام ة.
إمامَ الْمُرسلينَ فداكَ رُوحي وأرواحُ الأئمةِ والدُّعاةِ
رسولَ العالَمينَ فداكَ عرضي وأعراضُ الأحبّةِ والتُّقاةِ
ويا علم الهدى يفديك عمري ومالِي يا نبِي المكرماتِ
ويا تاج الهدى تفديك نفسي ونفسُ أولي الرئاسةِ والولاةِ
فداكَ الكون يا عَطِرَ السجايا فما للكون دونك من زكاةِ
فأنتَ قداسة إمَّا استُحلّتْ فذاكَ الموتُ من قبل الممات
ولو جحد البريّةُ منك قولاً لكُبّوا في الجحيم مع العُصاةِ
وعرضُك عرضُنا ورؤاكَ فينا بِمنْزلة الشهادةِ والصلاةِ
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ قيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم من جنه وأنسه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمّد صاحب الحوض المورود، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...
(1/4553)
رسول الله حقًّا
سيرة وتاريخ
الشمائل
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
11/1/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من شمائل المصطفى. 2- حكم من سبّ النبي. 3- مقدار النبي في قلوب أصحابه. 4- نموذج من السياسة النبوية الراشدة. 5- وصايا مهمة بمناسبة الانتخابات التشريعية الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، رسولنا مرسل من ربه، لا يمثل نفسه، وإنما يمثل الإرادة العليا، إرادة المولى عز وجل في علاه، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]. من قرأ سيرته عرف بصدق أنه لا يمكن أن يكون دعيًا ولا دجالاً ولا إرهابيًا. رسالته امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى شؤون الدنيا والآخرة. لقد كان يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا وقيامًا لله تعالى لا يفارقه أحيانا، وبكاء يفيض من خشية الله ألوانًا، لم ينتقم لنفسه مع الندرة، ولا شمت بعدوّ هزِم بعد النصرة، بل يعفو ويصفح عمن اعتدى. إن الدجالين لا يمكن أن يحملوا بين جنوبهم مثل هذا القلب الشاكر، ولا يمكن أن يكون لهم مثل هذا اللسان الذاكر، ولا يمكن أن يكون لهم مثل هذا البدن الصابر على طاعة الله وعبادته.
إن هذا القلب الطاهر قلب رسول الله المحب لربه الخائف من عذابه الراجي لرحمته المقبل عليه بكل همته، إنه دليل على أنه رسول الله، وقد يسأل بعضهم: لماذا ثأر المسلمون؟ وجوابنا واضح: إنما ثأروا لكرامتهم؛ لكرامة دينهم، لكرامة نبيهم، حفاظا على المقدسات. لقد استغضب المسلمون وكان من حقهم بل من واجبهم أن يغضبوا، استغضب المسلمون حينما مست عقائدهم في شخص رسولهم محمد.
عباد الله، جمهور علماء المسلمين يرون أن من شتم رسول الله لا تقبل له توبة وليس له إلا السيف؛ حتى لا يجرؤ الناس على هذا المحرم. هذا ما قرره العلماء من قديم الزمان، وألف فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الشهير الصارم المسلول على شاتم الرسول. وقد نتساءل هنا: أين الموقف الرسمي لحكام المسلمين؟! لم نسمع شيئا من حكامنا يا عباد الله، ولا أظن لو أن واحدا منهم وجهت إليه الإساءة سيسكت. أين العظمة الصديقية؟! أين الهمم العلوية؟! أين القوة العمرية؟!
انظروا ـ أيها المؤمنون ـ كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم معه، قال عروة بن مسعود الثقفي: والله، لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّقون إليه النظر تعظيما له. فهل يوجد ـ يا عباد الله ـ في حكامكم من له هذا المقدار العظيم؟! وصدق الله القائل: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127، 128].
سيدي يا رسول الله،
خلقت مبرأ من كل عيب كأنّك خلقتَ كما تشاء
كفاك شرفًا وفخرًا قول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، لقد جمع الله لك المحاسن كلها.
وإليكم ـ أيها المؤمنون ـ شيئًا من مواقفه، استمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى كلماته وانظروا إلى سياسته.
عباد الله، والناظر في سيرته في غزواته ومعاملاته لأعدائه يرى مواقف كثيرة تدل على عظيم قيادته وكمال معرفته وخبرته بأساليب الحروب وإدارة الجيوش، مع أنه لم يتعلم الفنون الحربية ولا الهندسة العسكرية في مدرسة أو كلية. لقد انتصر على قلة جيشه في مواقع كثيرة، ودخل مكة مصدر الهجوم ومنبع المؤامرات فاتحًا، وقضى على أعدائه وتتبعهم حتى قضى على نفوذهم، بعدما غدروا كثيرًا بمعاهداته، ولم يكفوا عن المؤامرات والمكائد. ولم تكن سياسته سياسة اعتداء وقهر وظلم، إنما كانت سياسته سياسة دفاع ومقاومة وعدل ومحبة وتسامح. ومن مواقفه السياسية الحكيمة أنه لما نقضت قريش صلح الحديبية أرسلت أبا سفيان إلى المدينة يسأل النبي تجديد العهد وزيادة المدة، فقال: يا محمد، إني كنت غائبًا في صلح الحديبية فجئت لأجدد العهد، فقال : ((فلذلك جئت؟)) قال: نعم، فقال: ((هل من حدث؟)) فقال أبو سفيان: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا لا نغيره ولا نبدل، فقال : ((فنحن على ذلك)).
فانظروا إلى هذا السياسة النبوية الراشدة، لم يعاقبه على نقض العهد، ولم يتوعد بالحرب حتى لا تتهيأ نفوسهم في التفكير في حرب ولا يعدون العدة لذلك، ولذلك فإنهم ما أحسوا إلا والنبي قريب من مكة مع جيشه.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي الوليد عبادة بن الصامت عن النبي قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، تتصدر الانتخابات التشريعية الفلسطينية اهتمامات العالم أجمع، فقد أشادت وسائل الإعلام والمراقبون الدوليون بالعملية الانتخابية التي جرت بكل نزاهة وشفافية، وأسفرت عن فوز كبير للحركة الإسلامية، وقد اعتبرها السياسيون بأنها ثورة خضراء على الذات داخل المجتمع الفلسطيني، فقد أثبتت النتائج رغبة الشارع الفلسطيني في إحداث التغيير نحو الإسلام. وعلى الرغم من تباين الآراء فإنني ـ ومن هنا من رحاب المسجد الأقصى المبارك الأسير ـ أشدد على أمور عدة، وهي جوهرية وحساسة لحماية أمتنا، فالنصيحة أمانة، ومن رفع شعار الإسلام عليه العمل بأحكامه وتعاليمه.
أولاً: تعزيز الوحدة الإيمانية: على شعبنا المسلم المرابط بكل اتجاهاته وميوله أن يرقى إلى مستوى الإيمان بالله ومستوى المسؤولية، وأن لا يتعامل مع الأحداث بردات فعل تؤثر على حاضره ووجوده ومستقبله. ونحن لا نزال نرزح تحت الاحتلال، وأمتنا أمة واحدة، ومأساتنا واحدة، علينا أن نحترم رغبة التغيير، فالعالم الذي أعرب عن نزاهة الانتخابات يجب أن تظل نظرته ذاتها لوحدة شعبنا.
ثانيًا: إعادة ترتيب الصف بما يعزز صمود شعبنا في أرضه، ونضع نصب أعيننا المصلحة العليا فوق كل اعتبار، لتكون كلمة الله هي العليا، بعيدًا عن الغوغائية والفكر المنغلق، وفرض سياسة النظام والقانون الذي لا يخالف تعاليم الإسلام.
عباد الله، إن كشف النقاب عن حالات الفساد وهدر أموال الأمة بملايين الدولارات تعتبر علامة خزي وعار في حقنا، وقد جعل الدول المانحة تنظر إلينا نظرة ريبة وتشاؤم حيال قضايانا المصيرية، فالاختلاسات كبيرة، والمتهمون من أصحاب النفوذ والمراكز القيادية كما ورد على لسان النائب العام. فالمطلوب هو إصلاح الفساد ومحاربة المفسدين، وعلى جميع المستويات لحماية المجتمع وصيانة حقوق الناس.
ثالثًا: أهمية اشتراك القوى الفاعلة في مجتمعنا واستغلال الطاقات وتحمل المسؤولية، ففي الاتحاد قوة، وديننا يدعو لمبدأ الشورى وتطبيق قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]
عباد الله، لا نريد أن يتكرر المشهد العراقي ولا المشهد الجزائري على الساحة الفلسطينية، وأرضنا لا تزال محتلة وهي أمانة في أعناقنا، فلا تدعوا مجالا للأعداء أن يجهزوا على منجزات شعبنا القوي الصابر المرابط، فالتضحيات كبيرة والدماء تسيل والشهداء يتساقطون والمعتقلون يتزايدون. نسأله تعالى أن يفرج كربنا، ونسأله تعالى أن يكشف الهم والغم عنا. ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
رابعًا: التأكيد على أن ديننا الإسلامي هو دين الحق والعدل والتسامح، وأنه لا يظلم أحدًا ولا يعتدي على أحد، ولنا في العهدة العمرية خير دليل وبرهان على حماية غير المسلمين في ظل دولة الإسلام والحفاظ على أماكن عبادتهم.
أيها المسلمون، إن التغيرات على الساحة ستكون بلا شك موضع المزايدات خلال الحملة الانتخابية الإسرائيلية القادمة، وقد يؤدي الأمر إلى تعزيز وصمود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى سدة الحكم، الأمر الذي سيزيد الأمور تعقيدا، ونعود إلى جذور الصراع العقدي على أساس الدين، وليس على أساس الأرض والوطن. فهل يتعظ المسلمون ويفيقون من سباتهم، فنحن أصحاب الحق وعليه سائرون إن شاء الله.
أيها المسلمون، إن المتتبع لردود الفعل الغربية يرى التناقض الواضع الفاضح بين التصريحات والبيانات التي تدعو لما يسمونه حرية الرأي والديمقراطية وبين ما تفرزه الانتخابات في أي بلد ما، فما كان لصالح أمريكا وأوروبا يلقى الدعم والتأييد، وما كان ضد مصالحهم الاستعمارية يحاربونه، وما أحداث الجزائر عنكم ببعيد، ولو أن أمريكا كانت تدرك أن نتائج الانتخابات ستكون على هذا الحال لما تغنت بالديمقراطية، ولما أصرت على إجراء الانتخابات في موعدها، ولكن الله تعالى أتاهم من حيث لم يحتسبوا.
عباد الله، ما الذي يراه شعبنا من أمريكا سوى المماطلة والتسويف والخداع؟! وها هي اليوم تتصرف وكأنها ربة البيت، وأنها لن تدفع المصروف اللازم إلا بإطاعة الوالدين، أمريكا التي اكتوى المسلمون بنار ديمقراطيتها الزائفة تحاول أن تمارس الابتزاز السياسي على شعبنا، مستغلة الأوضاع الاقتصادية المتردية. فهل نعطيها الفرصة ليكون القرار الفلسطيني هو قرار أمريكي؟!
أيها المسلمون، الأيام القادمة حاسمة، وإياكم ثم إياكم من الفرقة والخصام، إياكم من الابتعاد عن منهج الله، وحدوا صفوفكم وتذكروا سيرة نبيكم رغم أنف الحاقدين، تذكروا كيف آخى بين المهاجرين والأنصار بوحدة العقيدة وأخوة الإيمان، تمسكوا بحبل الله ولا تفرقوا، وأنتم تملكون من أسباب القوة ما يؤهلكم لقيادة البشرية، ألستم ـ يا أمة الإسلام ـ أصحاب الثروات الهائلة؟! لماذا تضعون أموالكم في بنوك أعدائكم؟! لماذا لا تسخرونها لمصلحة أمتكم؟!
عباد الله، تذكروا يوما مضى كنا فيه سادة العالم وقادة الدنيا، إذًا فلماذا هذا الضعف الذي نحياه الآن؟!
عباد الله، تيقنوا تمامًا أن لدولة الإسلام ظهورا وإقبالا قبل قيام الساعة، وسوف يأتي اليوم الذي يظهر فيه نور الإسلام، وصدق الحق وهو يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة على أمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).
أيها المسلمون، لقد آن الأوان أن نخرج من إطار الهزائم والنكسات، وأن نرجع إلى أيام الانتصارات، وسوف يتحقق ذلك إذا أقمنا دولتنا دولتنا الإسلامية والتي تسير بنا على منهاج الخلافة الراشدة.
(1/4554)
سلامة الصدور
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
25/1/1427
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القلب. 2- فضل تزكية النفس. 3- القلب السليم. 4- فضل سلامة الصدور. 5- صفات القاسية قلوبهم. 6- فضل مكارم الأخلاق. 7- الطريق لسلامة القلب. 8- وقفة مع ما يجري من الفتن بين مسلمي العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا غضب الجبار، فإنَّ أجسادكم على حرّ النار لا تقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عِبادَ الله، القلوب منبَعُ المشاعر ومَصدر العواطِف ومحرِّك الأَخلاق ومُوجِّه التصرُّفات، وإذا صلَحَت صلحت كلّ الأعمالِ والأخلاق، كما في الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذ فسدَت فسَد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) ، وفي مسند الإمامِ أحمد أن النبيَّ قال: ((لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)).
إنَّ تزكيةَ النفوس هي إِحدى الغايات التي بُعِث لأجلها الرسل، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة:2]. وكَثيرًا مَا تجِد الآيات تصُبّ معانيها على القلبِ؛ ذلك ـ أيّها الإخوة ـ أنّ الشجاعةَ والكرَم والحبَّ والعطف والشفقَة والإحسان والبرَّ والتقوى والإيثارَ والأنس بالله واللّذة بمناجاته والإيمانَ واليقين وكلَّ أنواعِ الخير لا يمكن أن توجَدَ إلا في القلوب الطاهرةِ الزكيّة، ولا يمكن أن تسكُنَ قلبًا ملوّثًا بالغلّ والحسدِ والأنانية والأثرة وسوءِ الظن بالآخرين؛ لذا كان من دعاءِ إبراهيم الخليل عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، وكانَ مِن دعاءِ نبيِّنا محمّدٍ : ((وأسألُك قلبًا سلِيما)) ؛ ولذا كان الصالحون والأخيارُ أحرَصَ ما يكونون على تفقّد قلوبهم وإِصلاحها وتصفِيَتها، ولقد علّق الله تعالى فلاحَ العبد على زكاءِ نفسه فقال سبحانه بعد أن أقسم أحَد عشرَ قسمًا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10].
أيّها المسلِمون، إنَّ القلوبَ السليمةَ والنفوسَ الزكيّة هي التي امتلأت بالتقوَى والإيمان، ففاضَت بالخير والإحسَان، وانطبع صاحِبها بكلِّ خلُق جميلٍ، وانطوَت سريرته على الصفاء والنقاءِ وحبِّ الخيرِ للآخرين، فهو من نفسِه في راحةٍ، والناس منه في سَلامة. أمّا صاحب القلبِ الخبيث والخلُق الذميم فالنّاس منه في بلاء، وهو من نفسه في عَناء. وإنَّ المسلم لا يحمل في قلبِه على إخوانه سوءًا ولا ضغينة، ولا تطيبُ السيرةُ إلا بصفاءِ السريرةِ، وأصحابُ الأخلاق الحميدةِ هم أقرب الناس مجلسًا من رسول الله ، وأخلاقهم الصادقة وصفاءُ قلوبهم توصِلهم إلى مراتب عليا من الجنّة، لم يكونوا ليبلغوها بِنَوافل العباداتِ الأخرى.
سلامةُ الصدور مِن كمال الإيمانِ وحسنِ الإسلام، يحبّه الله ويَرضاه، يألَف ويُؤلف، يحِبّ ويحَبّ، مع السعادةِ والانشراح الذي يجده في قلبه، ولا يصلح لسُكنى الجنة من تلوّث قلبُه بالأدران حتى يصفَى القلب؛ لذا قال الله عزّ وجلّ في أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((يدخُلُ الجنةَ أقوام أفئِدتُهم مثلُ أفئدةِ الطير)) ، وقد امتدَحَ الله تعالى الأنصارَ بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتي غيرهم، لا حسَدًا ولا غيرة ولا غلاًّ.
إنَّ العناية بسلام الصدور وصفاءِ القلوب من أهمّ المهمّات، فكيف ينجَح الداعي إلى الله إن لم يحمِل صفاءَ القلب ونقاءَ المشاعر؟! وكيف يلتَذّ بمناجاةِ الله من لم يَصفُ قلبه تجاهَ إخوانه المسلمين؟! كيف يرجو التوفيقَ من امتلأ قلبه ضغينةً على إخوانه المسلمين؟! إنّ الأخلاق الزكيةَ ضرورةٌ لصلاح الدنيا والفوزِ في الآخرة، والحقُّ أنه يستحيل قيامِ حضارة سليمة على قلوبٍ عليلة، وأنّه ما لم تستَقِم الضمائر وتَصفُ النيات فلن يكبحَ جماحَ البشر شيء، ولن تصلُح الأحوالُ ولن تنجَحَ الحضارات ولا الدعواتُ، ولن يمكِنَ بناء إنسان كبير دونَ أخلاقٍ متينة وجملة من الخلال تورِث الثقةَ وتبني الفرد الصالح.
أمّا القاسيةُ قلوبهم فتجد القسوةَ في سلوكهم والجفاء في أخلاقهم، مَيلٌ إلى اتِّهام الآخرين فلا يقبَلُ العذر، وفَرَح بافتضاحِ المخطئين مليءٌ بالشماتة، سوءُ ظنّ، بغيٌ وحسَد، أين هم من قول الله عز وجل: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]؟! والعفوُ هو اليسير، أي: اقبَل اليسيرَ الممكن مِن أخلاقِ الناس وأعمالهم كما قال مجاهد رحمه الله، اقبَل الأعذارَ، واسلك العفوَ والمساهلة، واترُكِ الاستقصاءَ في البحثِ والتفتيشِ عن حقائق بواطِنِهم، اصبِر على ذلك، واعفُ عن نقائصِهم وأخطائهم في الصحبةِ والجوار والأخذِ والعطاء لتمضي الحياةُ سهلةً ليّنة؛ لأنَّ الإغضاءَ عن الضعفِ البشري والسماحَة في تعاملات الدنيا من أخلاقِ الكِبار تجاهَ الصغار والأقوياء تجاهَ الضعفاء، وهكذا كانَ النبيّ ، لم يغضَب لنفسِه قطّ، فإذا كان في دينِ الله لم يقُم لغضَبِه شيء، كما أنَّ المسلم مأمورٌ بالإعراض عن الجاهلين وعدَمِ مجاراتهم في الخصامِ واللجاج؛ لأن ذلك يورِث الضغائن وينمّي الأحقادَ ويفسد القلوب، فإذا أطاشَ السفيه عقلَ الحليم فليستَعِذ بالله من الشيطان الرجيم.
أيّها المسلمون، أصحاب القلوبِ النقيّة والصدور السليمة لا يبحَثون عمّا تكنّه صدورُ الناس وتنطوي عليه سرائرهم، حبٌّ للخَير وسترٌ على المخطئ وسَعيٌ لإقالة العَثرة وسرورٌ بتوبةِ العاصي، قال الفضيل بن عِياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا من أدرَك بكثرةِ نوافل الصلاة والصيام، وإنما أدرَك عندنا بسخاءِ الأنفس وسلامة الصدور والنصحِ للأمة"، وفي الصحيحَين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عن قال: بايعتُ رسولَ الله على إقامِ الصلاة وإيتاء الزكاةِ والنصح لكلّ مسلِم، وقيل للنبي : أيُّ الناسِ أفضَل؟ قال: ((كلّ مخمومِ القلب صدوقِ اللسان)) ، قالوا: صدوقُ اللسان نَعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيّ النقي، لا إثمَ فيه ولا بغيَ، ولا غلّ ولا حسد)) رواه ابن ماجه والبيهقيّ بسند صحيح، وقد أخرج الإمام أحمدُ وغيره أنّ النبيَّ قال عن رجل من الأنصار: ((يطلع عليكم الآنَ رجلٌ من أهل الجنة)) ، وتكرَّر ذلك في ثلاثةِ مجالس، فلمّا تبِعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ولم يرَ مزيدَ عملٍ من النوافل سأله فقال: ما هو إلا ما رَأيت، غيرَ أني لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.
عبادَ الله، إن المتطلِّب بصدقٍ صلاح قلبه وسلامةَ صدره ليسلك لتحصيلِ ذلك مسالِكَه، ويستصلح قلبَه بما يطهّره، ويجنِّبه ما يكدّره، وأعلى المراتبِ لذلك مراقبةُ الله تعالى وتقواه وامتلاءُ القلب بمحبّة الله، وقد أوصى كلّ الأنبياء قومَهم بما وصّاهم الله به من التقوى لأنها نبعٌ يمدّ النفوس بمادّةِ تطهيرها، وقد قال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10]، وفي صحيح مسلِم أنَّ النبيَّ كان يقول: ((اللّهمّ آت نفسي تقواهَا، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها)) ، كما ينبغي أن يروِّضَ المسلم نفسَه على الرّضا بما قسَم الله وما رزق وقضَى وقدر، وإذا تذكّر المسلم ثوابَ الله ورِفعة الدرجات لمن طهر قلبه وأدرَك ما يعود عليه من الخيرِ في العاجل والآجل هان عليه ما يلقَاه وتحمَّل وصبر، ولا شكَّ أن هذا يحتاج إلى ترويضِ نفسٍ ومجاهدة، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ومَن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطه أحد، ومن قَنع بعطائه لم يدخُله حسَد، فليجاهِدِ المسلم نفسَه على دفع الخواطر الداعيَةِ إلى الحسد؛ فإنَّ الحسد من أخبث الذنوبِ القلبية، وقد ذكر ابن حجَر رحمه الله أن الغضبَ والحسد والحِقد من كبائرِ الباطن، وليجعل شعارَه حسنَ الظنّ بالمسلمين، وهذا واجِب لقولِ الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].
وإنَّ نهيَ النبيّ أن يتناجَى اثنان دونَ الثالِث من أجلِ أن ذلك يحزِنُه ـ كما في صحيح مسلِم ـ لهو مِن أجلِ تَطييبِ النفوس ومُراعاةِ المشاعِرِ وجَبر الخواطِر وسَدِّ مداخِل الشيطانِ ووَساوسه. وإذا كان القرآن نورًا وهدى ورحمة وبشرى فإنَّ امتلاءَ القلبِ به وترطيب اللّسان بتلاوَتِه يرقِّق القلوبَ ويُنيرهَا ويصفِّيها منَ الكَدَر، وإذا صاحَبَ ذلك دعاءٌ وتضرّع فما أحراه بالقبول، ومن دعاءِ المؤمنين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]. كما أنَّ الإحسانَ إلى الخَلق والصدقةَ على الفقراء من أسبابِ زَكاء النفس، وقد قال الله عز وجلّ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وقال: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18]. أمّا إفشاءُ السلام والبدَاءَة به فذاك شأنٌ عظيم، وقد قالَ النبيّ : ((لا تدخلُوا الجنة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتى تحابّوا، أوَلاَ أدلّكم على شيء إذا فعلتُمُوه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم.
إنَّ العفوَ والصفح ومقابلةَ الإساءة بالإحسان تعود على قلب صاحبِها بالسكينة والطمأنينةِ وهَدأة النفس وراحةِ البال، وقد قال الله عزّ وجلّ في وصفِ أهل الجنّة: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال سبحانه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت:34].
الاعتيادُ على البِشر وطَلاقَة الوجهِ والتبسّم في وجهِ أخيك المسلم مع أنه صَدَقة فإنه أيضًا يطيّب النفوس ويُقارب الأرواحَ ويشيع روحَ الإخاء والمحبّة وينشر الثقةَ والأمان. تجنّبِ المِراءَ والجدل فإنّه يذكِي العداوةَ ويورِث الشقاق ويدعو لطلب التشفِّي والانتصار. واجعل تقوَى الله دائما في قلبك، واذكر يومًا إذا بُعثِر ما في القبورِ وحُصِّل ما في الصّدور.
أيّها المسلِمون، إنَّ التغاضي والتغافُلَ عن أخطاء الآخرين من أخلاقِ الأكابر والعظَماء ودليلٌ على سموِّ النفسِ وشفافيّتها، ومن امتلأ قلبُه بالإيمان وصفَا من الأضغانِ فإنه سريع العفوِ والغفران، كوقفِ النبيّ الكريم يوسفَ عليه السلام حين قال لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92]. إنّه لم يعاتِبهم حتى مجرَّد المعاتبة، بل زاد أن دعَا لهم؛ ولذا استحَقّ ميراثَ النبوة ورفَع الله قدرَه في الدنيا والآخرة.
قال ابن الأثير رحمه الله متحدِّثًا عن صلاح الدينِ الأيّوبي رحمه الله، قال: "وكان رحمَه الله حليمًا حسَنَ الأخلاقِ متواضِعًا صبورًا على ما يكره كثيرَ التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمَع من أحدهم ما يكرَه ولا يعلمه بذلك، ولا يتغيّر عليه".
هذه ـ أيها المسلمون ـ أخلاقُ صاحبِ حطّين ومحرّرِ فلسطين وفاتِح بيت المقدِس، هذه أخلاقُ الأبطال؛ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كما هي حال الرسول الكريم وأصحابه الميامين؛ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. أمّا الأذلّةُ للكافرِين الأشدّاء على المؤمنين فلا تنتَظِر منهم فتحًا ولا نصرًا.
عباد الله، مصاحبة الأخيار ومجالسة أولى الفَضل مما يربي على مكارِم الأخلاق، ومجالَسةُ ذوي المروءاتِ يشرّف النفسَ ويعلي همّتها ويطهّرها من الرذائل، والإنسان مولَعٌ بمحاكاة من حوله، شَديد التأثّر بمن يصاحبه. وإنَّ من مصاحبةِ الأخيار مصاحبةَ سِيَرهم ومطالعة أخبارهم وإدامةَ النظر في سيرةِ سيّد البشر وفي سيرةِ صحابته الكرَام.
لقد كادَ النبيّ أن يهلِك من شدّة شفقَتِه على الناس وحرصِه على هدايتهم، حتى عاتبه ربه بقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، وقال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]. يمسَح الدّمَ عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ، يطارَد ويشرَّد ويؤذى ويكذَّب فلما عاد منتصرًا قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
إنها أخلاقُ الأنبياء، لا تحمِل الحِقد ولا الشحناء، ولا تعرف الحسَدَ ولا البغضاء، وعلى نهجِهم سار الأتقياء الصالحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائِرِ المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لاَ شَريك له الملك الحقّ المبين، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين ورحمة الله للناس أجمعين، صلّى الله علَيه وعَلى آله وصَحبه أجمعين.
أمّا بعد: أيها المسلمون، لا بدَّ من وقفةٍ مع ما يجرِي في بلاد الرافدين تقتضِيها أمانةُ الكلمة، ويدفعها ألَمٌ يبرّح الجوانِح وحالٌ تُشكى إلى الله.
إنَّ أكثرَ ما يوغِرُ الصدور ويشقّ الصفوفَ التعرّض لمقدّسات الأمَم ودورِ العبادة فيها، أيًّا كانتِ القناعات تجاهَها والرأي فيها. وما حدَث قريبًا في العِراق من استفزازٍ صريح واستعداءٍ صارخ لفئةٍ على فئةٍ أخرى بالاعتداءِ على قبرين هو استفزازٌ واستعداءٌ لا يقِرّه دينٌ ولا تَرعاه مصلحةٌ راشدة، وإنما هي إثارةٌ للفِتنة واستنزاف للدم المسلم وإثخانٌ في جسد العراق المنهَك، والذي صار يمسي على جرح ويصبِح على ذبح، يبيت على خَطف وتشرِق شمسه على نَزف، ليس من مَصلَحةِ العراق كلِّه الاستعجالُ في الاتهام فضلاً عن المبادرة بالانتقام، ولئِن كان المعتدِي على حرمةِ القبر مجهولاً فكيف يجوز أن يكونَ المعتدِي على المساجدِ وأئمّتِها معلومًا؟! كيف تقابَل حادثةٌ تتعدَّد احتمالات منفذِّيها بجريمةٍ فاعلُها كاشِف الوجه ظاهرُ الرّأس؟! كيف يُنتَقَم من الاعتداءِ على قبورِ عِباد الله بالاعتداءِ على بيوتِ الله، وأن يكونَ المساسُ بمراقِدِ أحفادِ رسول الله رَدّةُ فِعله حَرقٌ لِكتابِ الله وقتلٌ للمسلمين ومَنعٌ للصلاة؟! ما لكم كيف تحكمون؟! أفلا تعقِلُون؟! وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114].
مِائةٌ وسَبعون مَسجدًا تحرَّق وتخرَّب، ويقتَل المصلّون فيها، ويسحَلون في الشّوارع!! حسبنا الله ونِعم الوكيل، حسبنا الله ونِعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ما هِيَ واللهِ إلاّ فِتنٌ يوقِد نارَها المجرمون، ويصطلِي بعذابها الآمِنون، وما دام المحتلُّ جاثمًا والكلِمَة متفرّقة والأضغان تنفث سمومَها فإنّ الواقع يثور.
إنَّ العراقيين وهم في هذه المرحلة الحاسمةِ من تاريخهم في حاجةٍ لكظمِ الغيظ وضبطِ النفس وتغليبِ المصلحةِ العامّة على المصلحة الخاصّة والبُعد عن المساس بما يزيد بلادهم إنهاكًا وأرواحهم هلاكًا، وإلا فإنَّ الشرَّ إذا وقع فلَن يتخيّر طائفةً دون أخرى، ولن يلحقَ قومًا ويدَع آخرين.
يا أهلَ العراق، إنَّ إخوانَكم المسلمين يناشدونَكم الله أن تكفّوا أيدِيَكم وتضَعوا أسلحتَكم، وأن تتقّوا الله وتصلِحوا ذاتَ بينكم.
اللّهمّ أصلح أحوالَ المسلمين في العراق، واحقن دماءَهم، وأظهر أمنَهم، واهدِهم سبل السلام، واكبِت عدوّهم، يا حيّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
ثم صلّوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة سيّدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم اسلل سخائم قلوبنا، واشرح صدورنا...
(1/4555)
المنافقون والصيد في الماء العكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, نواقض الإيمان
إبراهيم بن عبد الله الدويش
الرس
22/3/1424
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله تعالى على بلاد الحرمين. 2- حال المنافقين في كل زمان ومكان. 3- مسؤولية الكلمة وأمانة قولها. 4- استغلال المنافقين لحدث تفجيرات الرياض في الطعن في الصالحين. 5- كلمة الأمير نايف في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- التحذير من المنافقين والتعاون معهم. 7- مسؤولية الصحافة. 8- تقدير وشكر لكتّاب وكاتبات حملوا هَمَّ أمانة الكلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد أعز الله هذه البلاد بأن جعلها مهبط الوحي ومنبع الرسالة، وقامت بفضل الله على التوحيد، رغم ما مَرَّ بها من عواصف وأحداث عالمية ومحلية، وما زالت ـ بفضل من الله ثم بفضل قادتها وعلمائها وأهل الخير فيها ـ نبعا لا ينضب لدعم المسلمين ونشر العقيدة الصحيحة في كل مكان، حتى امتازت بهذا، وأصبح علماؤها مصدر ثقة وطمأنينة لدى كل مسلم في الأرض.
ولهذا كانت وما زالت محاولات التشويه والتضليل والهجوم على عقيدتها ومقدساتها وهيئاتها ومؤسساتها وعلمائها ومناهج التعليم فيها والمرأة بحجابها وعفافها، ولا عجب أن نسمع هذا من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الإسلام، بل وليس عجبا أن نسمع هذا من أذنابهم من المنافقين الذين وصفهم القرآن وفضح أساليبهم في سورة التوبة: لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:48]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين: لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة.."، وهكذا هو ديدن المنافقين أمس واليوم وغدًا، كيد ومكر وجرأة وصفاقة وسخرية بالدين وأهله من علماء ودعاة وصالحين، واستهزاء بشرائع الدين من لحية وتقصير ثوب وغير ذلك، وبكل طريقة من مقال ورسم كاريكاتوري وغمز ولمز، وكنت قد حذرت في الأسبوع الماضي في وقفات مع التفجيرات ممن يصطاد في الماء العكر، ويستغل الفرص لهواه من اتهام الأبرياء أو تعميم الأخطاء أو رمي المناشط التربوية والمدارس القرآنية ومناهج التعليم ومنابر الدعوة كلها بالانحراف، وذكرت أن هذا مما يُسبب التطرف والغليان، خاصة في نفوس الشباب الذين يقرؤون ويسمعون الاتهامات الكاذبة تُوجه إليهم وإلى محاضنهم ولا يملكون إلا الاحتقان والانفعال، ولكن كما قال حذيفة بن اليمان : (إن المنافقين اليوم شرٌ منهم على عهد النبي ، كانوا يومئذٍ يُسرون واليوم يجهرون) أخرجه البخاري.
وكان من الممكن ـ معاشر الإخوة والأخوات ـ أن نتغافل عن مثل هذه الحملات، ونستغل الوقت ببيان حقيقة العلاج لأسباب تفجيرات الرياض، وتوجيه شباب الإسلام لمنهج أهل السنة والجماعة طريق الحبيب وأصحابه، طريق الحكمة والموعظة والمجادلة الحسنة، طريق طاعة ولاة الأمر وشد أزرهم والنصح لهم في المنشط والمكره، لولا أن هذا النزف زاد عن الحد، وهذا القيح أخذ صديده في المد، وضاقت نفوس الكثير من المسلمين العارفين، ولخشية التباس الأمر على العامة وتأثيره على شباب أمتنا، وأيضًا لظن أمثال هؤلاء المنافقين أننا وإن استنكرنا الحدث وأدنَّاه وأوضحنا خطورة هذا المنهج وأبنّاه ووقفنا مع ولي أمرنا ونصرناه أننا سنطأطئ رؤوسنا ونغمض أعيننا وسنخجل؛ لأن تلك الفئة صنعت ما صنعت باسم الدين، وأنها ستكون فرصة لهم للتدليس والتضليل، ولِبَثّ سمومهم والتهويل، فهم مخطئون خاسرون، فإننا على يقين ـ والحمد لله ـ بمنهجنا وطريقنا، نقول لمن أخطأ: أخطأت، ولمن جنى على النفوس البريئة الآمنة: هلكت وخسرت، دون تردد أو حياء، لكننا لا نقولها جزافًا أو رمي الكلام على عواهنه، بل نقولها بأدب المسلم، نقولها بإنصاف وتثبت وبمنهج واضح عظيم، نفعل ذلك مع الكافرين فكيف بالمسلمين الباغين والمعتدين؟!
من أجل ذلك كله كان لا بد من كلمة حق نصرةً للدين، وإنصافًا للعاملين المخلصين، وبيانًا لإرجاف المرجفين، وفضحًا لكيد ومكر المنافقين، فنحن في دولة مسلمة، وكلنا مسلمون، وازدراء بعض شعائر الإسلام طعنة في خاصرتنا جميعًا، بل إنها قد تدفع باتجاه مزيد من الإرهاب والتطرف، فلا بد من وضع حد لمثل هذه الأقلام الساخرة بشرائع الإسلام.
فالمتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام يلحظ اهتمامًا بالغا بمسؤولية الكلمة وأمانة قولها، فالرقابة دقيقة: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، والمسؤولية شاملة كاملة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]. والكلمة كلمتان: طيبة وخبيثة، والطيبون للطيبات، والخبيثون للخبيثات، وكلمة الحق ثابتة لا تزعزعها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل, يشهد لها القاصي والداني. وأما الكلمة الخبيثة فكشجرة خبيثة تؤذي بنتنها الجميع إلا المزكوم في فكره، يشهد بخبثها القاصي والداني، وسبحان ربي أيها المؤمنون، ألا تعجبون؟! ففي الوقت الذي تجلجل فيه الكلمة الطيبة من العلماء والمسؤولين والمثقفين الغيورين والتربويين الناصحين والصحفيين المنصفين لمواجهة هذا الحدث بالحكمة والبحث عن أسبابه الحقيقية والتناصح والتحاور للوصول لعلاج ناجع لمثل هذا الفكر والزيغ، أجلب أهل النفاق بخيلهم ورجلهم لبث سمومهم وإخراج أضغانهم على منهج هذه البلاد الطيبة واستقامة أهلها، بل أمعنوا في تسديد سموم أقلامهم لمفاتيح الخير والعطاء والبناء من العلماء وطلاب العلم والدعاة والمعلمين ورجال الهيئات والعاملين في المؤسسات الخيرية والإغاثة وكل خيّرٍ ومصلح، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
لقد ملك هؤلاء قلوب الناس جميعًا وحب الناس وثقة وتقدير الناس، فشرِقَ المنافقون وامتلأت قلوبهم، فشمروا كل التشمر، وخلعوا جلد الحَمِل، ولبسوا جلد النَّمِرِ، ولم يبق في القوس منزع، وانكشف ما وراء الأكمة، وظهر المخبوء، فألقوا الكلام على رُسَيْلاَتِهِ، فلجّوا وصجوا وملؤوا القرطاس وصالوا وجالوا وقالوا ومالوا.
على رسلكم يا هؤلاء، فإننا نعرف سبب نزفكم وتقرحكم، فلقد كان لهؤلاء جهد في الوقوف لمنكراتكم وفضح لمخططاتكم ونصح لولاة الأمر لإظهار مكركم، ولقد وُفق سمو وزير الداخلية وفقه الله في رد مكرهم وكيدهم، في سؤال حول عدد من التقارير والاتهامات الموجهة للمملكة وبالذات لبعض المؤسسات والهيئات الدينية الموجودة بالمملكة، والتي ذكرت هيئة الأمر بالمعروف بالاسم، واقترحت أنه آن الأوان بإنهاء أو إلغاء مثل هذه الهيئات التي تسهم في تفريخ الإرهابيين، فما هو تعليق سموكم حول هذا الأمر؟ فقال سمو وزير الداخلية: "بالنسبة لما ذكرت عن وجود لجان أو هيئات دينية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبصفتك مواطن سعودي فإني آسف أن يكون هذا مفهومك؛ لأن هذه الهيئات الموجودة ومنها هيئة الأمر بالمعروف هذه هيئات حكومية، هيئات الدولة، والدولة دولة الإسلام، وستظل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة ما دام الإسلام قائما في هذه الأرض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن أساسي في الدولة الإسلامية. والحمد لله نحن دولة إسلامية، وستظل باقية قائمة بأعمالها، وكذلك ما يماثلها من مؤسسات. أما كون أنه يحدث خطأ أو أخطاء من أفراد فهذا لا يغير من مكانة هذه الهيئة أي شيء، ثم هذه الأخطاء تحدث في الأجهزة الأخرى الحكومية التي هي بعيدة عن هذا المجال"، وأضاف سموه قائلا: "أرجو أن يكون مفهوما أنه ليس هناك أي تفكير في التغيير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القائم في المملكة، ولكن هناك تطوير، هناك تحسين في الأداء، هناك تقيد بالتمسك بالأمر بالمعروف كما ورد في كتاب الله وسنة نبيه". إلى آخر كلمات سموه جزاه الله خيرًا، والتي تنم عن فهم عميق لمكر هؤلاء وكيدهم.
عباد الله، ولا يعني هذا عدم وجود خلل أو أخطاء عند الصالحين والخطباء والدعاة وأهل الخير، بل هناك تراكمات وأخطاء وتقصير، ويحتاج إلى مراجعة جادة ومناصحة وتوجيه وتصحيح، لكن ليس طريقه بمهاجمة مظاهر الصلاح، ولا بالسخرية والاستهزاء، ولا بتنقص العاملين في طريق الدعوة والخير والبناء، بل بنقد الكاتب المنصف الناصح، وعندها: أهلاً وسهلاً بالنقد البناء والنصح الصادق، وكلنا معًا على طريق الصلاح والاستصلاح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
فاتقوا الله عباد الله، وقولوا قولاً سديدًا، واحذروا شبه المنافقين وسماعها، فإن الله قال عنهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، قال ابن كثير: " وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير"، وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ " أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم". فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من المنافقين وأساليبهم، وتنبهوا لخداعهم وأحابيليهم، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
وعلينا جميعًا أن نقف في وجه هؤلاء وحربهم على ديننا، فلا يسع السكوت، بل لا بد أن تتحرك كل الطاقات دفاعًا عن دينها، كل بما يملك من قلم سيال ولسان ناصح ودعوة في ظهر الغيب لهم بالهداية، وأن يكفي الله المسلمين شرورهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن الصحافة هي ضمير المجتمع الذي ينبض بمواطن الخلل والقصور، بأسلوب هادئ ناصح ليعالجها ويقترح الحلول، ويقول للمصيب: أصبت، ويشكره ويثني عليه ليزيد من همته ونشاطه، ويعلمه أن هناك من يُقدر جهوده ويثمنها، ويقول للمخطئ: أخطأت، لا لجرحه والتشهير به أو استعداء السلطة عليه، بل لنصحه ودلالته على الصواب أو المطالبة بتغييره.
ولا بد أن يعي الجميع أن مواجهة الغلو لا تكون بالتنفير من الدين وتشويه أهله وإظهار أهل العلم والصلاح بصورة منفرة، فإن الشعوب مسلمة وتحب دينها، وهي متمسكة به مدافعة عنه مهما أرجف المرجفون، ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)). فلا بد إذًا من اتزان الكلمة والاعتدال فيها، فالطرح المنصف له أثر كبير في الأمن والاستقرار. ولعل هذه الأساليب الصحفية الخاطئة والطرق الملتوية تحتاج إلى تقييم ومراجعة ودراسة من قبل القائمين على الصحافة والإعلام، وعقد الدورات والدراسات ليثمر إعلامنا، ولتكون الصحافة أكثر تأثيرًا وأكثر فاعلية.
و أبشروا ـ أيها المسلمون ـ واطمئنوا فدينكم منصور وعدوه مقهور، هذا وعد من الله لكم، لكن تنافسوا في نصرة الدين والدعوة إليه والذب عنه، فهو شرف عظيم، ولهذا يجب أن لا ننسى دور أولئك الكتاب والكاتبات الذين حملوا هم أمانة الكلمة وإصلاح المجتمع بحق، والذين يجاهدون بأقلامهم تلك التوجهات المنحرفة، مع ما يواجهونه من صعوبات وعقبات، وهم يحتاجون من كل المسلمين الدعاء والنصح لهم، بل وتكرار شكرهم والثناء عليهم واجب على الجميع، ليثمن جهدهم ويشعروا أن الناس معهم، ومن الإنصاف أن نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت. فجزاكم الله ـ يا أمناء القلم ـ عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ودفع الله عنكم مقالة السوء كما تدفعون عن دين ربكم كيد الكائدين.
اللهم بارك لهم في علمهم وأعمارهم وأموالهم وأزواجهم وأولادهم، وارفع درجتهم في الدنيا والآخرة، اللهم من دعا إلى ضلال اللهم فاهده ورده إلى الصواب، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك أجمعين، اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/4556)
النعم وشكرها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله على عباده. 2- فضيلة شكر الله وأهميته. 3- كيف يكون الشكر بالقلب واللسان والجوارح؟ 4- وصايا عامة للمسلم. 5- ليس من شكر الله السفر لبلاد الكفار. 6- يجب على المسلم أن يعرف مخططات أعدائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد سهل الله لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلاً، وأوضح لهم طرق الهداية، وجعل اتباع الرسول عليها دليلاً، واتخذهم عبيدًا له، فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلاً، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، وهو الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنة المرسلين كفيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أشهد بها مع الشاهدين، وأتحملها عن الجاهدين، وأدخرها عند الله عدة ليوم الدين، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، أرسله رحمةً للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، أرسله على حين فترة من الرسل، فيهدي به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته وتعظيمه وتوقيره وتبجيله والقيام بأوامره، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار وبئس القرار.
عباد الله، إن الذي يتأمل في حاله وحال المسلمين في هذا البلد الكريم يجد أننا نسبح ونرفل في نعم الله، نعم، نحن نتمتع بنعم الله في كل شيء، فقد أنعم الله علينا بالهدى وتيسير وسائل الخير وتوفر المساجد في كل مكان، ويستطيع الإنسان منا أن يعبد الله دون أن يمنعه أحد، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإيمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، قال الراغب: "يقال: مَنَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة".
فأنت ـ يا أخي الكريم ـ قد منّ الله عليك فجعلك في هذا المكان، لم يجعلك رقمًا في دول الغرب المادية الماجنة الكافرة، ولم يجعلك عجلةً مسنّنة تدور في دول الشرق المارقة الملحدة الشيوعية، ولم يجعلك إنسانًا مخدوعًا في فرقة من فرق البدع الضالة المضلة، وإنما حباك الله بالأمن والإيمان، وجعلك في بيتك أو خارج بيتك ليلاً أو نهارًا تحسّ بالطمأنينة وعدم الخوف إلا من الواحد الديان.
وحباك الله ـ أخي المسلم ـ من كل ما تشتهي من الطعام والشراب الطيب الحلال، ما طلب الإنسان صنفًا من الطعام إلا واستطاع إحضاره إلى بيته، ونجد أنه ما من فاكهة في العالم في الشرق أو في الغرب في الشمال أو في الجنوب إلا ووصلت إلى هذا البلد تحقيقًا لدعوة أبينا إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126].
هذه بعض النعم قد تكلمنا عنها، ونِعَم الله أكثر وأجلُّ من أن تعَدَّ أو تحصى، قال تعالى: وَأتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
لكن ـ أيها الإخوة الأحبة ـ كيف نحافظ على هذه النعم من الزوال؟ وكيف نتّقي غضبَ الله وعذابه؟
إذا كنت ذا نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
وقال تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، وقال: وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].
إذًا ـ أيها الأحباب ـ يجب علينا شكر النعمة، وإلا تحقق قول الله تعالى فينا: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، فذهبت النعم واندثر الخير واختفى الأمن والأمان نتيجة تضييع منهج الله والتخلف عن ركب المؤمنين الصادقين العاملين.
وهنا يحتاج الأمر منا إلى وقفة ما دمنا قد عرفنا فضيلة شكر الله وأهميته، فيجب أن نعرف كيف نشكر الله على ما حبانا به، فالشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح:
أما القلب فهو أن يقصد إلى الخير ويضمره للخلق كافة، ولا يكون في صدره حقد أو حسد أو بغضاء لأي إنسان.
وأما باللسان فهو إظهار الشكر لله بالتحميد، قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، وقال الرسول : ((التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر)) ، وروي أن رجلين من الأنصار التقيا فقال أحدهما لصاحبه: كيف حالك؟ قال: الحمد لله، فقال النبي : ((قولوا هكذا)).
وأما الجوارح فهو بأن تعبد الله حق العبادة، وتتوكل عليه حق التوكل، ولا تكون ممن يعبد الله في رمضان فقط، وينطبق عليهم قول قائلهم:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق
بل ينبغي أن تكون مثل صحابة رسول الله ؛ يدعون الله بعد رمضان ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان، ثم يدعون ستة أشهر أن يبلغهم رمضان حتى يحصلوا فضل رمضان.
وعليك ـ أخي المسلم ـ أن تجتهد في العبادة وتخلص فيها لله وحده، لا رياء ولا سمعة، وتحاول أن تخشع في صلاتك وتصحّح ما تقع فيه من أخطاء.
وعليك ـ أيها الأخ المسلم ـ الحرص على قراءة القرآن بشكل دائم، وللأسف نجد أن كثيرًا ممن يرضى عن نفسه ويعتبر أنه أدى حق الله لا يحسن قراءة القرآن ويلحن فيه، وهذا مما لا ينبغي، فكيف تعتبر نفسك مسلمًا عبدًا لله يا من لا تعرف أن تقرأ كتاب ربك الذي تتعبّد به، فترفع المكسور وتنصب المرفوع وتعكس معاني الآيات؟!
وينبغي عليك ـ أخي المسلم ـ حتى تشكر الله بأن تتعلم العلم الشرعي الذي هو فرض عين عليك، فتتعلم العبادة والطهارة وتحسينها ولا تخطئ فيها، ثم تأتي بعد ذلك العلوم الدنيوية التي هي فرض كفاية، إن قام بها البعض وتخصَّص فيها سقطت عن الآخرين.
وعليك ـ أيها المسلم يا من رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ـ أن تربي أولادك التربية الصحيحة، وأن تخصص من وقتك جزءًا كبيرًا للسؤال عنهم وتوجيههم ونصحهم. وللأسف أعرف كثيرًا من الناس لا يدري ولده في أي سنة دراسية هو فضلاً من أن يعرف هل هو مجتهد أم كسلان، أو أنه يداوم على الذهاب إلى المدرسة أم الذهاب إلى المقهى.
فعلى كل أب أن يراقب ولده ويراقب تصرفاته، ويحاسبه على ما يصدر من لسانه، وأن لا يترك ولده مهملاً أمام الفيديو والتلفزيون يشاهد الغث والسمين، وربَّ شريط فيديو يتناوله الصغار والشباب فيما بينهم يقلب كيان الولد ويفسده، وينقله من الإيمان إلى الكفر والعصيان.
وليعلم كلٌّ أن الله لن يحاسبه: لِمَ لَم يعمل حتى يجعل أبناءه وأهله في غاية الرفاهية والنعيم؟! ولكنه سيسأله سؤالاً شديدًا عن ابنه: هل علّمه القرآن أم تركه مع أهل المعاصي وأعوان الشيطان؟!
أقول هذا خاصة وأن الإجازة الصيفية قد بدأت، وبدأ معها التفلّت والضياع، فلذا كان من الواجب على الآباء توجيه أبنائهم نحو الأنشطة المفيدة، ومنها المراكز الصيفية التي ترعى فلذات الأكباد وتوجههم التوجيه الصحيح.
نسأل الله أن يعصمنا من الزلل والعصيان، وأن يتوب علينا، إنه هو التواب الرحيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإنه ليس من شكر النعمة أن تترك هذا الأمن والأمان، وتترك مصايف المملكة ثم تذهب إلى الخارج لقضاء العطلة الصيفية حيث المعاصي والفجور مُتاح لكلّ طالب بعيدًا عن رقابة الناس، وكأن الله لا يراك، تنظر النظرة الحرام، وتجرد أهلك من الحجاب، وتجعلهم يمشون خلفك كالقطيع الهائم على وجهه لا يهتدي إلى سبيل ولا يستطيع قائده وراعيه أن يهديه سبيلاً قويمًا.
ولنعلم ـ أيها الإخوة ـ أنه من قبيل شكر الله أن نعرف من أعداؤنا، ونتعرف على مؤامراتهم وتخطيطهم وهجمتهم الفكرية من أجل مسخ الشخصية الإسلامية، حتى يسهل القضاء علينا والفتك بنا بعد أن تكون قيمنا ومبادئنا الإسلامية قد ولت أدراج الرياح.
وإنه لمن المشين والعيب والعار أن لا يعرف كل مسلم فينا صغيرًا أو كبيرًا ما هي الماسونية، وما هي اليهودية، وما هو التنصير الذي يسمّي نفسه: التبشير، ولا يعرف ما هي الشيوعية ولا الرأسمالية، ولا يعرف من هم الشيعة الرافضة أو القاديانية أو الماركسية أو الصوفية أو العلمانية، ولا يعرف ما هي مخططاتهم، ولا يعرف كيف يتوقى شرورهم، ثم يريد أن تدوم النعم ولا يقع عذاب الله وسخطه.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/4557)
الحث على الصدق والتحذير من الكذب
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, مساوئ الأخلاق
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالصدق والتحذير من الكذب. 2- الكذب كله أسود مظلم مشين. 3- الصدق في الأقوال يؤدي بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال. 4- وصية الآباء والأمهات بتربية أبنائهم على الصدق ومجانبة الكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله، وعليكم بالصدق والاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحرِّي الصدق في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم، والالتزام بالصدق مهما كانت الظروف والأحوال، فإن الصدق ـ أخي المسلم ـ يعتبر دعامة أساسية في خلق الإنسان المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه، وعلى هذا أمر الله به عباده المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
وإن الاعتصام بالله جل وعلا والالتزام بالصدق امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى كانت المعالم الأولى للجماعة المسلمة التي رباها معلم البشرية ومرشدها ، صدق الحديث، ودقة الأداء، وضبط الكلام، وكانت خصلة الكذب من أوضع الخصال والرذائل، وأمارة من أمارات النفاق المرذولة في المجتمع المسلم، فإن الإنسان المسلم من الرجال والنساء مأمورون بالترفّع عن الكذب الذي يجعل صاحبه يتردّى في حمأة الرّذيلة، بل لم يكن هناك عذر لمن يتّخذ الكذب خلُقًا له حيث قال رسول الله : ((يُطبَع المؤمن على الخلال كلِّها إلا الخيانة والكذب)) [1] ، وكفى به من ضعة وهوان. وقد سئل رسول الله : أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم)) ، قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: ((نعم)) ، قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: ((لا)) [2].
وهذا لا يعني ـ رحمكم الله ـ تسويغ البخل أو تهوين الجبن، ولكنها إشارة لبيان بعض نوازع الضعف البشري التي تخامر الإنسان، ولكنه بعد ذلك يتغلب عليها، كما أنها إشارة لخطر الكذب، وأنه من أقبح المنكرات التي تسلخ من اتّصف بها من المجتمع الإسلامي، وتجعله في مصافّ المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، بل وأخطر من ذلك على الكاذب قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) [3].
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والكذب والوقوع في مزالقه واستسهال أمره، كالكذب مازحًا لإضحاك الناس، أو كذب الأم على طفلها أو الكذبة البيضاء أو كذبة أبريل، وليس في الكذب ما هو أبيض، فكله أسود مظلم حالك مهلك يجر الويل والنكبات، فكل هذا حرام، فإن الإسلام لم يرض وسيلة لذلك إلا في حدود الصدق المحض، وإن في الصدق والحلال مندوحة عن الكذب والبعد عن الحرام، قال رسول الله : ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له، ويل له)) [4] ، كررها لعظم شأن الأمر وخطورته، وعن أسماء بنت يزيد قالت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا بشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعد ذلك كذبًا؟ قال: ((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) [5]. فلتتق الله كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر بأن لا تكذب، وأن تربي أولادها على الصدق والبعد عن الكذب.
فالحذر الحذر ـ أيها المسلمون ـ من التردي والوقوع في حبائل الكذب والتلوث به في أي شكل من أشكاله، واعلموا أن مدح الناس والمبالغة في الثناء عليهم ضرب من الكذب المحرم، والحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فما عليك ـ أخي المسلم ـ إلا أن تزن كلامك قبل التحدث به، فتتحرى الصدق مهما هجس في نفسك من المخاوف، فالجدير بالمسلم أن يكون شجاعًا فيقول الصدق مهما كانت نتائجه، فإن رسول الله يقول: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) [6]. إن الصدق درجة عالية يرفع صاحبه إلى مصاف الصديقين فيفوز بالجنة، وإن الكذب يورث المهالك والخسران المبين.
واعلموا ـ أيها الناس ـ أن الصدق في الأقوال يؤدي بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال، ثم يكون مآله أحسن وأفضل وأعظم مآل، وإن حرص الإنسان على التزام الصدق في أقواله يكون سببًا في صلاح أعماله، ويجعل الحق يسطع على قلبه وفكره، ويضمن فوزه في الدنيا والآخرة، ويوفقه خالقه جل وعلا إلى سداد القول وطيب الكلام، ولذلك يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، أكرم به من قول، وأعظِم به من فوز.
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بالتزام الصدق الذي هو قمة في الإسلام ودرجة الرشد والخير التي لا يرقى إليها إلا أولو العزم من الرجال، والابتعاد عن رذيلة الكذب والإدمان عليه، ففيه ضياع الإيمان، وهو خسارة فادحة في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النحل:105].
[1] رواه أحمد في المسند (5/252)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "رواه أحمد وفي سنده انقطاع"، ولكن للحديث شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار وأبي يعلي بلفظ: ((يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب)) ، ورجاله رجال الصحيح كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (1/97).
[2] رواه الإمام مالك في الموطأ في الكلام، باب: ما جاء في الصدق والكذب (2/990)، قال أبو عمر بن عبد البر: "لا أحفظه مسندًا من وجه ثابت، فهو حديث حسن مرسل".
[3] رواه البخاري في الإيمان، باب: علامات المنافق (1/14)، ومسلم في الإيمان (58).
[4] رواه أحمد في المسند (5/5)، وأبو داود في الأدب، باب: في التشديد بالكذب (4990)، والترمذي في الزهد، باب: فيمن تكلم بالكلم ليضحك بها الناس (4315)، والحاكم في المستدرك (1/46)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وكذا ذكر الألباني في تخريج المشكاة (4838).
[5] رواه أحمد في المسند (6/438)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/54)، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه شهر بن حوشب فيه كلام، وحديثه حسن".
[6] رواه البخاري في الأدب، باب: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (7/95)، ومسلم في البر والصلة (2606).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن معلم البشرية وهاديها قد أوصى أمته بغرس فضيلة الصدق في نفوس أطفالها، حتى تتأصل في نفوسهم ويشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم من خلال البيئة التي يتربون فيها والمجتمع الذي يعيشون فيه، وعلى الأم بالذات مسؤولية عظيمة إن أحسنت القيام في بيتها في تنشئة أطفالها على الصدق، فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله : ((ما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، قال رسول الله : ((أما إنكِ لو لم تعطيه شيئًا كتبت عليك كذبة)) [1].
خذي ـ أيتها المرأة ـ درسًا، واغرسي الصدق في أولادك غرسًا، وحذار من تعويدهم على الكذب أو السكوت عليهم أو مجاراتهم فيه مهما تكن الظروف، والأم راعية مسوولة أمام الله جل وعلا.
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف يعلم رسول الله الأهل تنشئةَ الأولاد على الصدق، والتنزه عن الكذب الشين البشع أعاذنا الله منه.
وللأسف الشديد فإن الآباء والأمهات لم يأخذوا بوصية نبيهم ، بل عملوا بخلافها؛ فهم يكذبون أمام أطفالهم، ويكذبون عليهم، بل يستخدمونهم أحيانًا ليكذبوا على ألسنتهم إلا ما شاء الله، ونعوذ بالله من الكذب سره وعلنه، ظاهره وباطنه ومزحه.
فعليكم ـ عباد الله ـ بالعودة إلى مصدر دينكم وعزتكم، والأخذ بوصايا نبيكم ، فألزموا أنفسكم بالصدق، وربوا أولادكم على الصدق كذلك، فإن الصدق هو قمة الخير ونجاح الأمم، وقد جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا)).
فاتق الله ـ أخي المسلم ـ واتقي الله ـ أيتها المسلمة ـ في الكذب بصفة عامّة، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدث أخاه حديثًا هو له مصدّق وهو فيه كاذب، عياذًا بالله، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
[1] رواه أحمد في المسند (3/447)، وأبو داود في الأدب، باب: التشديد في الكذب (4991)، ورجاله ثقات غير المولى لم يسمَّ، ولكن له شاهد عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده صحيح لكنه منقطع.
(1/4558)
فضل الصلاة والسلام على النبي
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, فضائل الأعمال
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل النبي. 2- صيغ الصلاة على النبي. 3- فضل الصلاة على النبي. 4- حقيقة المحبة تكون بالاتباع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام الأحبة، لقد مجّد الله تعالى رسوله وأثنى عليه الثناء العاطر وأعلى قدره، وجعل له المكانة السامية على جميع الأنبياء والمرسلين، ورفع ذكره في الأرض وفي السماء، فقال تعالى لنبيه مذكرًا له بنعمته عليه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:1، 2]. قال مجاهد: "يعني بالتأذين". وفيه يقول حسان بن ثابت:
أَغَرُّ عليه للنبوّة خاتَمٌ من الله مشهودٌ يلوح ويُشْهدُ
وضمّ الإله اسمَ النبيّ إلى اسمهِ إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أَشْهدُ
فكلما ذُكرَ اللهُ تعالى ذُكِرَ معه في الأذان والإقامة والتشهد، وفي يومِ الجمعة على المنابر ويومِ الفطر ويومِ الأضحى وأيامِ التشريق ويومِ عرفة وعندَ الجِمار وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلاً عبدَ اللهَ جل ثناؤه وصدّقَ بالجنة والنار وبكل شيء ولم يشهد أن محمدًا رسولُ الله لم ينتفع بشيء وكان كافرًا.
ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بكثرة الصلاة على رسوله فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ففي هذه الآية الكريمة يخبرنا الله تعالى بما ناله الرسول من منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وما له من السيادة والمقام المحمود فيقول تعالى: إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبِيّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ، قال ابن عباس: (يباركون على النبيّ). فهذه الآية شرّف الله بها رسولَهُ حياتَه وموتَه، وذكرَ منزلتَهُ منه، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. وقد يحتمل أن يقال: إن معنى ذلك أن الله يرحم النبيّ، وتدعو له الملائكة ويستغفرون؛ وذلك لأن الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء.
يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادعُوا لنبيّ الله محمدٍ ، وَسَلِّمُوا عَلَيْهِ تَسْلِيما ، ويقول: وحيوه تحية الإسلام. وبنحو ذلك جاءت الآثار عن رسول الله ، فعن موسى بن طلحة عن أبيه قال: أتى رجل النبيّ فقال: سمعت الله يقول: إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: ((قل: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). وفي رواية مسلم وأبي داود عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
وفي الحثّ على الصلاة عليه وفي فضائلها جاءت أحاديث كثيرة، منها ما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)) ، قال عبد الرحمن: وأظنه قال: ((أو أحدهما)). وقوله: ((رغم)) أي: لصق بالرغام وهو التراب ذلاّ وهوانا.
وفي السنن الكبرى للبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله ارتقى المنبر فقال: ((آمين آمين آمين)) ، فقيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟! فقال: ((قال لي جبرائيل عليه السلام: رغم أنف عبد دخل عليه رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت: آمين)).
ومن فضائل الصلاة على النبي أيضا ما رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) ، وروى عنه أنه قال: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرًا وكتب له بها عشر حسنات)) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)).
وقال سهل بن عبد الله: "الصلاة على أفضل العبادات؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك"، وقال أبو سليمان الداراني: "من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي ، فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما"، وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: (الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلَّى على النبي ، فإذا جاءت الصلاة على النبي رفع الدعاء).
وقوله تعالى: وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا قال القاضي أبو بكر بن بكير: "نزلت هذه الآية على النبي ، فأمر الله الصحابة أن يسلّموا عليه، وكذلك من بعدهم أمِروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره". وروى النسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله جاء ذات يوم والبِشْرُ يُرى في وجهه، فقلت: إنا لنرى البشرى في وجهك! فقال: ((إنه أتاني الملك فقال: يا محمد، إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا؟!)) ، وعن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله قال: ((ما منكم من أحد يسلم علي إذا متّ إلا جاءني سلامه مع جبريل، يقول: يا محمد، هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام، فأقول: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته)) ، وروى النسائي عن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)). قال القشيري: "والتسليم قولك: سلام عليك".
ومن الفضائل الصلاة عليه أنها سبب في تفريج الكروب ومغفرة الذنوب، فعن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله إذا ذهب ربع الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)) ، قال أبي بن كعب: فقلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئتَ)) ، قال: قلت: الربع؟ قال: ((ما شئتَ، وإن زدت فهو خير لك)) قال: فقلت: فثلثين؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)) ، قلت: النصف؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)). قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يكفَى همك ويغفَر لك ذنبك)) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي رواية لأحمد عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: ((إذًا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمّك من دنياك وآخرتك)) ، وقوله: (إني أكثِر الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟) معناه: أكثِر الدعاءَ، فكم أجعل لك من دعائي صلاةً عليك؟ وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) رواه أحمد وأبو داود.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، إن الصلاة على النبي لها فضل عظيم، فلماذا قصّر فيها كثير من الناس، ولم يعرفوا لرسول الله قدره، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة وصاحب المقام المحمود؟! فعن أبي هريرة قال: أتي رسول الله يوما بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟! يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى رب كم؟! فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلَّمت الناس في المهد وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى)).
_________
الخطبة الثانية
_________
فهذا هو فضل الصلاة على رسول الله ، وهذا هو موقف رسول الله يوم الحشر والنشور، فاتقوا الله يا عباد الله، واعرفوا مقامَ رسولِ الله ، وآمنوا به وعزروه وانصروه ووقّروه وعظموه واتبعوا النورَ الذي أنزل معه، وإياكم والغلو فإنّ الانتسابَ الحقَ لدين الله والحبَ الصادقَ لمحمد لا يتحقق إلا بالتأسي به وتحكيمِ شرعه والتزامِ واتباع سنته، ومن فرطَ في ذلك وتنصّلَ وقصرَ فقد انقطع بالرسول سببه ولو قال المدائحَ وأقام الحفلات ونمّق الكلمات، فمن الناس من يستهين بسنته ويقصر في طاعته ويزعم أنه متمسك بمحبته، كيف يكون ذلك والله تعالى فرض علينا اتباعه لننال محبته: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يُحب مطيع
أيها الإخوة الكرام الأحبة، وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
(1/4559)
ابتلاء الرسول والصحابة قبل الهجرة
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الفتن
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض صنوف الأذى التي لقيها رسول الله من قومه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى. 2- بعض صنوف الأذى التي لقيها الصحابة من المشركين. 3- خبر هجر قريش بني هاشم في الشعب. 4- الدروس والعبر المستفادة من حادثة الهجرة النبوية. 5- فضل صيام عاشورا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة، علينا ـ ونحن نودع عاما هجريًا ونستقبل عاما آخر ـ أن نتذكر معًا أحداث الهجرة النبوية الشريفة المباركة، فلقد شاء الله تعالى لخير عبادهِ أن ينصر دينهُ ويُمَكِّنَهُ لمعتنقيهِ ذَوِي الإيمانِ والعملِ الصالحِ، بعد أن امتحنَهُم سبحانه بالشَّدائدِ ومستهم البأساءُ والضَّراءُ وأُوذوا في سبيله وظُلموا فصبروا صبرًا جميلاً، وهان عليهم هِجرَةُ الوَطنِ وتركُ ما لهم فيه من متاعٍ ومالٍ، وكانوا أهلاً لحُسنِ الحال في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41، 42].
لقد هاجر رُسُلُ اللهِ تعالى حرصًا على نشر دين الله تعالى وكسبِ رضاهُ الذي به عِزُ الدارين وَسَعْدُهُما، ولقد هاجر رسول الله بعدما أوذي في الله تعالى هو ومن معه من الصحابة الكرام، ففيما خرّجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفَي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله ، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط)) ، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعَث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحِبوا إلى القليب قليبِ بدر.
وروى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ؟ قال: بينا النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟!
كانت هذه الاعتداءات على رسول الله ، وتلك هي بعض صنوف الأذى لقيها رسول الله من القوم في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
وأما الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد لقوا ما لا يخطرُ على بال؛ كان الرجل إذا أسلم وله شرفٌ في قومه يأتيه أبو جهل فيقول: إما تعودَنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنسفّهن حلمك ولنقبِّحن رأيك ولنضعنّ من شرفك. وهذه هي ـ يا عباد الله ـ حرب التُّهم والإشاعات والأباطيل. وإذا كان الرجل ذا مال قال له أبو جهل: لتعودنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنخسِّرن تجارتك ولنهلكنّ مالك. وهذه ـ يا عباد الله ـ هي حرب السرقة والنّهب. أما إذا كان المسلم ضعيفا فحدث ولا حرج عن النار يُكوَى بها ظهره، وعن الغاز الناشئ من حصير يلفّ فيه ثم تحرق عليه من طرفَيها كما حدَث للزبير بن العوام ؛ إذ قيّدوه بالحبال وألقَوة في الحصير، ثم علّقوه على الحائط، ثم أوقدوا تحته نارًا فأحرقت أنفه.
حدّث ولا حرج عن القلوب القاسية التي تأتي بجمر يحمي ثم يلقى على المؤمن فلا ينطفئُ الجمر إلا بدهن ظهر المؤمن كما حدث لخبّاب بن الأرت؛ فكانوا يشدّون برجله الحبل ثم يجرّونه على الأرض، ويأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه ثم يضجعونه على فحام ملتهبة، ثم يضعون عليه حجرًا حتى لا يستطيع أن يقوم.
حدث ولا حرج عن النفوس المريضة التي تأتي بالمؤمنين فيعذبونهم بالسياط التي تلهب الصدور وبالرمال الساخنة التي تشوي الظهور وبالحجارة الثقيلة التي توضع على الصدر كما حدث لبلال، فكان أمية بن خلف يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة حتى أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، وكان يكرهه على الجوع، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وبلال يقول صابرا محتسبًا: أحَدٌ أحد.
حدث ولا حرج عن العقول الخرِبة التي تأتي بالحراب، فتشقّ بها البطون وتغرسُ في فروج النساء الأبرياء كما فعل بسمية أم عمار وبزوجها ياسر؛ كانوا يأخذون عمارًا وأباه وأمه وأخته فيقلبونهم ظهرًا لبطن، فيمر بهم رسول الله وهو يقول: ((اصبروا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة)) رواه الطبراني. وماتت سميةُ أمُ عمار التي رفضت أن تنطق بكلمة الكفر واستعلَت بدينها وبإيمانها على طغاة الأرض، والتي كانت من السبعة الأوائل الذين أظهروا الإسلام، فكانت أوّلَ قتيل في الإسلام في ذات الله تعالى. هكذا كانت المرأة في الإسلام تدافع عن عقيدتها بثبات ويقين، فهذه أول شهيدة قدمت دمها وحياتها في سبيل الله تعالى.
حدّث ولا حرج عن تتابع الظلم والاضطهاد بالمسلمين والقطيعة، ففي أول ليلة من شهر الله المحرم من السنة السابعة من مبعثه اجتمعت قريش، اجْتَمَعُوا على أَنْ يَكْتُبُوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ على بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ أَنْ لا يُنْكِحُوهُمْ ولا يَنْكِحُوا إلَيْهِمْ، ولا يُبَايِعُوهُمْ ولا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ؛ حتى يهلكوا عن آخرهم أو يسلموا لهم محمّدا، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وعَمَدَ أبو طالبٍ فأدْخَلَهُمُ الشِّعْبَ، شِعْبَ أبي طالب في ناحيةٍ من مَكَّةَ، فأقاموا به ثلاث سنين تلوّوا جوعًا وعطشًا وعريًا، ولحقتهم مشقّة عظيمة، فكانوا يضعون الحجارة على بطونهم اتقاءً للآلام التي تنهش في أمعائهم، كانوا يبحثون عن الخرق البالية يعصبون بها رؤوسهم لتخفيف الأوجاع، تحملوا البرد القارس والصقيع القاتل في تلك الشعاب، فكانوا يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، يقول سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة: ولقد رأيتني مع رسول الله فخرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع قعقعة شيءٍ تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فرضختها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها ماء، فقويت عليها ثلاثًا.
هؤلاء هم السادة الذين طردتهم قريش ظلمًا وعدوانًا حتَّى جَهِدُوا جَهْدًا شديدًا، ثم إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ على صحيفةِ قريشٍ الأَرَضَةَ لتأكل صحيفة المقاطعة، فلم تَدَعْ فِيْهَا اسمًا لِلَّهِ إلا أَكَلَتْهُ وبَقِيَ فِيْهَا الظُّلْمُ والقطيعةُ والبُهْتَانُ، وقيل: أكلت الصحيفة ولم تبق منها إلا "باسمك اللهم"، وصدق الله العظيم: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. وبذلك عاد المسلمون إلى مكة ليمارسوا الدعوة إلى الله تعالى، وانتهت المقاطعة الظالمة، ولكن المشركين عادوا إلى طغيانهم وظلوا على باطلهم واجتهدوا في إيقاع الإيذاء بالمسلمين، واجتمعت قريش في دار الندوة يبحثون عن أنجع الوسائل للقضاء على رسول الله ، ففي يوم الخميس من شهر صفر من السنة الرابعة عشر من النبوة اجتمع كفار قريش في دار الندوة، وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، فاتفقوا على قتل النبي.
هكذا ـ يا عباد الله ـ كان البلاء يصب على رسول الله وعلى أصحابه صبا، ولكنهم صبروا في ذات الله عز وجل حتى كانت الهجرة المباركة التي أنقذ الله تعالى بها عباده من الاضطهاد والظلم والطغيان.
_________
الخطبة الثانية
_________
هذه هي أحداث الهجرة النبوية التي فيها من الدروس والعبر، وأقدّم لكم ـ أيها الإخوة الكرام الأحبة ـ بعضًا من هذه الدروس المستفادة.
الدرس الأول من دروس الهجرة: فمن الأحداث السابقة ـ يا عباد الله ـ نعلم أن الهجرة لها شأن عظيم، وأن أساس نجاحها وفلاحها كان في انتقال قلوب المهاجرين من اتباع الشيطان والنفس والهوى إلى الإخلاص لله تعالى، ولذا قال : ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)). فمن انتقل قلبُهُ من ظلمة الشرك إلى نور التوحيد ومن الغواية إلى الهداية ومن الشر إلى الخير ومن الجهل إلى العلم كان مهاجرًا هجرةً قلبيةً، وكان عملُهُ صالحًا ومعاملَتُهُ حسنةً وخلُقُهُ كريمًا. فالهجرة القلبية ـ وهي التي يجب أن يقوم بها كلُّ مسلم ـ هي الهجرةُ الباقية إلى أن تقوم الساعةُ، فليهاجر كل مسلم بقلبه ونفسه من الشهوات إلى الطاعات ومن عبادة هواه إلى عبادةِ ربهِ ومولاه.
الدرس الثاني من دروس الهجرة: أن الهجرة تمثل قصة الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال، وتلك قضية تتكرر في كل زمان ومكان، وهي تمثل قصة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فإن الصراع بين الحق والباطل قائم منذ القِدَم وإلى قيام الساعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وتلك سنة الله تعالى، ولكن النصر في النهاية للحق وأهله والهزيمة للباطل وأهله، فعلى الدعاة إلى الله تعالى الساعين للإصلاح أن يتحلوا بالصبر والصدق والجد والإخلاص والحكمة والرفق وعدم استعجال الثمرات، فإن العاقبة الحميدة لكل مستضعف في الأرض ومضطهد في دينه متى ما صدق مع الله تعالى؛ لأن دروس الهجرة تقول: أليس الذي نصر عبده وهو على هذه الحال من الضعف قادرًا على أن يصنع مثله وأمثاله؟! أليس قادرًا على أن ينصر المسلمين وإن كانوا قلة في عددهم وعدتهم ولكنهم أقوياء في إيمانهم؟!
الدرس الثالث من دروس الهجرة: علينا أن نعلم أن الهجرة سنة من سنن الله تعالى الكونية التي لازمت الرسل والدعاة إلى الله تعالى، فما من رسول إلا أُخرجَ من داره أو عرَّضه قومه للإخراج، فهذه سنة من سنن الله تعالى، فإن الأقوام الذين عارضوا دعوة الرسل نجدهم يعرضون على رسل الله إما أن يعودوا إلى العقائد الفاسدة وإما أن يطردوا من ديارهم، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13، 14]. فلقد هاجرَ أبو الأنبياء إبراهيمُ عليه السلام قال عنه الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت:26]، وكذلك هاجر معه نبي الله لوطٌ عليه السلام، وهاجر شعيب وموسى وعيسى عليهم السلام.
فموسى عليه السلام أقام الحجج والبراهين الواضحة وجاء بالآيات الصادقة الدالة على نبوته ورسالته، ومع ذلك لم يستجب له قومه وأراد الطاغيةُ فرعون أن يقاوم هذه الحجج والبراهين بالأكاذيب والأباطيل والافتراءات، فعذب بني إسرائيل وقتل أبناءهم واستحيى نساءهم، فأمر الله تعالى نبيه موسى أن يهاجر بقومه، فخرج موسى عليه السلام مهاجرًا مع أخيه وقومه من مصر، فعلم فرعون بخروج موسى فجمع جنوده ليلحق بموسى، وسجل الله تعالى هذا الحدث فقال: وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:52-68].
وبذلك ـ يا عباد الله ـ نجى الله تعالى موسى وقومه وجعل ذلك آية وعبرة للمعتبر، فصام موسى ذلك اليوم شكرًا لله تعالى، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة مَرَّ بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله : ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)) ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله. وروى مسلم عن أبي قتادة أن رجلا سأل رسول الله عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
وهي صورة تتكرر، فصورة الأجرام تتكرر في كل زمان من أجل إخراج المسلمين من ديارهم، وهذا الذي يحدث في عالمنا اليوم من اعتداء سافر على المسلمين على مرأى ومسمع العالم، فأين دروس الهجرة في عالمنا اليوم؟! هاجر رسولنا وهاجر أصحابه الذين آمنوا به واستجابوا لدعوته، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]. فعلى كل مسلم أن يأخذ الدروس والعبر من أحداث الهجرة المباركة.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
(1/4560)
المطالب الفلسطينية من مؤتمر القمة العربية في لبنان
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
حامد بن سليمان البيتاوي
نابلس
8/1/1423
مسجد الحاج معزوز المصري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال المسلمين عند انعقاد القمة العربية ببيروت. 2- تقديم مجموعة مطالب لمؤتمر القمة العربية. 3- الانتفاضة هي الحل الوحيد لرد عدوان المعتدين. 4- قوافل من الشباب والشابات مستعدون للعمليات البطولية. 5- شكر وتقدير لأمهات الشهداء. 6- التذكر بصيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله عز وجل في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
أيها الإخوة المصلون الكرام، يا أبناء شعبنا، يا أمتي، يا خير أمة أخرجت للناس، مؤتمر القمة العربي سينعقد بعد أيام في بيروت في ظل مرحلة حرجة خطيرة؛ فشعبنا الفلسطيني يتعرض لعدوان وإرهاب إسرائيلي مستمر، إلا أن شعبنا لن يلقِيَ السلاح أبدًا ولن يستسلم، بل سيقاوم، وما هذه العمليات الجهادية البطولية والاستشهادية والتي هي كأمواج البحر، عملية إثر عملية، تمزق أجساد اليهود، هذا هو الرد على العدوان الإسرائيلي.
أيها الإخوة، ينعقد مؤتمر القمة والولايات المتحدة الأمريكية تقرع طبول الحرب لشنّ عدوان على العراق الشقيق، نسأل الله عز وجل أن يرد كيد اليهود في نحورهم، وأن يرد كيد أمريكا لنحرها، وأن يحفظ شعبنا، وأن يحفظ العراق وأمتنا من كل مكروه يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام، ولما كان من واجب العلماء أن ينصحوا ولاة الأمور، فلا خير فينا إن لم ننصح الحكام، ولا بارك الله في الملوك والرؤساء الذين لا يسمعون نصيحة العلماء؛ لذا فإننا نتقدم بمجموعة مطالب من مؤتمر القمة العربية:
أما المطلب الأول: يا حكام العرب والمسلمين، حكموا شرع الله في دوَلكم وعلى شعوبكم امتثالاً لقول الله عز وجل: وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، فالحكم بما أنزل الله هو المعروف الأكبر، وتعطيل الحكم بما أنزل الله هو المنكر الأعظم.
ثانيًا: يا حكام العرب والمسلمين، وحّدوا صفوفكم وأزيلوا الخلافات فيما بينكم؛ فالعالم لا يقيم وزنًا للضعفاء ولا المتفرقين، والله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول : ((يد الله مع الجماعة)) ، ونحن نقول لهذه الجماعة:
إلامَ الْخلف بينكم إلامَا وهذه الضجة الكبرى علامَا
وفيم البغض بعضكم لبعض وتبدون العداوة والْخصاما
المطلب الثالث: يا حكام العرب والمسلمين، قفوا مع شعبنا الفلسطيني في انتفاضته، وادعموه ماديًا ومعنويًا على خيار المقاومة لا على خيار المفاوضات والاقتراحات التي تطرح من هنا وهناك، فشعبنا يريد منكم أن تدعموه على خيار المقاومة والجهاد. ونحن نقول لهؤلاء الحكام: إن المسجد الأقصى والقدس وفلسطين هي أمانة في أعناق كل العرب والمسلمين، حكامًا وشعوبًا، فلا تفرطوا في حمل هذه الأمانة، ولا تتركوا الشعب الفلسطيني وحده في الميدان، وإن تخليتم عن نصرة قضيتنا وشعبنا فنقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وإننا نطالب الملوك والرؤساء أن يفتحوا المجال لشعوبهم أن تعبِّر عن دعمها المادي والمعنوي لنصرة شعبنا في انتفاضة الأقصى، وإنه لممَّا يدمي القلوب أن نشاهد هنا وهناك دولا عربية تجمح الشعوب، ولا تفتح لها المجال أن تعبر عن دعمها لشعبنا، حتى على شكل مظاهرة.
يا حكام العرب والمسلمين، أوقفوا كافة أشكال التطبيع مع العدو الإسرائيلي، إن التطبيع بأشكاله سواء كان التطبيع سياسيًا أو اقتصاديًا أو عسكريًا أو أمنيًا، إنه في ديننا يعتبر موالاة للكفار، والله عز وجل حذر من موالاة أعداء الله فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]. إنه مما يدمي القلوب أنه في الوقت الذي يشن العدو الإسرائيلي عدوانًا وإرهابًا على شعبنا وها هي وسائل الإعلام الإسرائيلي تقول: إنه قد زادت صادرات إسرائيل لبعض الدول العربية في وقت الانتفاضة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، ونحن نشكو إلى الله كل من يعمل على التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي وغيره مع العدو الصهيوني.
ومطلب آخر من ملوك ورؤساء العرب الذين سينعقد اجتماعهم في بيروت: لا تخذلوا العراق الشقيق، ولا تستجيبوا لأوامر الولايات المتحدة الأمريكية التي نسأل الله أن يذلَّها وأن يذلّ كل من يتعاون معها ضد الإسلام والمسلمين، لا تخذلوا العراق الشقيق، فإن قوة العراق هي قوة لشعبنا ولأمتنا، وإن ضعف العراق وهزيمته ـ لا قدر الله ـ هو إضعاف لشعبنا ولأمتنا. إن العدوان الأمريكي المرتقب على العراق والذي من أهدافه تقسيم دولة العراق إلى دولة كردية وشيعية وسنية، إنهم يريدون تمزيق العراق ليكون النظام مواليًا لأمريكا مما يشكل خطرًا على سوريا وعلى إيران وعلى الدول في الجزيرة العربية، لذلك فإن الواجب الديني والواجب القومي والإنساني يفرض على ملوك العرب والمسلمين أن يدعموا شعبنا الفلسطيني في انتفاضته، وأن يدعموا شعب العراق، وإن أي حاكم يسهّل لأمريكا مهمّتها لضرب العراق سواء عن طريق إيجاد قواعد لأمريكا في البر أو تسهيل مهمتها برًا أو بحرًا أو جوًا فهذه جريمة عظمى، خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. اللهم احفظ شعب فلسطين من العدوان الإسرائيلي، واحفظ شعب العراق من عدوان أمريكا المرتقب يا رب العالمين.
وأخيرًا إننا نطالب المؤتمرين في مؤتمر القمة أن يرتقوا وأن يرتفعوا إلى مستوى الأحداث الخطيرة المتلاحقة، فها هم كل أعداء الإسلام: أمريكا وأوروبا وإسرائيل وروسيا وأستراليا وكندا والهند، هذه الدول على اختلاف دياناتها وعقائدها وجنسياتها إلا أنها تجتمع على شيء واحد، هو الحرب على الإسلام والمسلمين، هو الحرب لشعبنا الفلسطيني والعراقي وأمتنا العربية والإسلامية، مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]. يعني أوروبا وإسرائيل وكندا والهند كلها تتعاون مع أمريكا لحرب الإسلام والمسلمين، إِلاَّ تَفْعَلُوهُ أي: إن لم يتحد المسلمون تحت راية المقاومة والجهاد ضد اليهود وضد أمريكا وضد كل من يعادي الإسلام ستكون هناك فتنة وفساد كبير.
ألا إني قد بلغت، اللهم فاشهد. إن لم يستجب الملوك والرؤساء لهذا المطلب وهو مطلب الجميع فإنه سيصدق عليهم قول الله عز وجل يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]. سيسقط هؤلاء الملوك والرؤساء، ستسقطهم شعوبهم، وسوف يحاسبهم الله عز وجل يوم القيامة، وصدق رسول الله القائل: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يا أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط، يا أمتي، يا خير أمة أخرجت للناس، وعودة إلى الحديث عن مطالب شعبنا لمؤتمر القمة العربي، ونركّز على المطالبة بدعم انتفاضة شعبنا على خيار المقاومة والجهاد، فشعبنا يرفض كل أشكال المفاوضات السياسية مع العدو الإسرائيلي، لا نريد اقتراحات أمريكا ولا مشاريعها، مشاريع زيني وما يأتي به زيني، إنهم يريدون شيئًا واحدًا يسمونه وقف العنف، يعني أن تستمر إسرائيل في عدوانها وقصفها واحتلالها لشعبنا ولوطننا، وأن يظل شعبنا مكتوف الأيدي، لا لن يكون شعبنا مكتوف الأيدي، وسيبقى يقاوم ويقاتل حتى ينال كل حقوقه بإذن الله رب العالمين.
إن وقف ما يسمونه بالعنف ووقف الحرب يعني نجاة إسرائيل من هذا المأزق، من هذا الطوق الذي يقلد رقبتها في انتفاضكم.
أيها الإخوة، إن انتفاضتكم لا زالت تزلزل كيان العدو الإسرائيلي وتكبده خسائر بشرية، وها أنتم ترون العمليات الجهادية كعملية البطل الاستشهادي بالأمس في القدس، وقبلها عند أم الفحم، وقبلها في غزة، وقبلها وقبلها... عمليات كموج البحر، هذا هو الذي يهزم اليهود، وسوف يرغمهم على الانسحاب أولاً من الضفة والقدس والقطاع بإذن الله عز وجل، كما انهزموا من جنوب لبنان. فستنهزم إسرائيل وتنسحب في القريب العاجل تحت ضربات المقاومة، لا عن طريق المفاوضات الذليلة، لا عن طريق المساومات، ولا عن طريق اللقاءات في الفنادق، وإنما عبر الجهاد في الخنادق.
ووالله، إن هناك عشرات الآلاف من الشباب كلهم يُلحّون كي يقوموا بالعمليات الجهادية الاستشهادية؛ كي يزلزلوا كيان العدو الإسرائيلي. ووالله أيها الإخوة، سمعت قبل أيام عن أمّ لها ولد كسيح لا يستطيع المشي يقول لأمه: يا أمي، أريد أن أقوم بعملية جهادية استشهادية، تقول له: يا ولدي، إنك لا تستطيع الحراك، قال: إن الله عز وجل قادر أن يبعثني هناك حتى أفجر العبوات بهؤلاء الصهاينة. ووالله، دعِيت لإلقاء محاضرة في مدرسة طالبات، وبعد إنهاء المحاضرة تقدّمت طالبة أمام زميلاتها تقول لي: يا شيخ، أيجوز لنا شرعًا نحن البنات أن نقوم بالعمليات الجهادية والاستشهادية ضدّ العدو الإسرائيلي؟ وكان الجواب: نعم؛ لأن الله عز وجل يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41]، نعم انفروا خفافًا وثقالاً، رجالاً ونساءً. لكن يا ابنتي الطالبة، لما يأتي الدور لكم فلن تتأخروا عنه بإذن الله. فهناك الآن قوافل من أبناء الكتائب وغير الكتائب مستعدون ويجهزون أنفسهم للجهاد والعمليات البطولية، وإن الشهيد عمار الشخشير الذي استشهد قبل أيام، المخابرات الإسرائيلية منزعجة قالت: عجبًا إن عمارا لا ينتمي لكتائب عز الدين القسام ولا لشهداء الأقصى ولا لشهداء أبو علي ولا لسرايا القدس!
نعم، أيها الإخوة، شعبنا كله عمّار وغير عمّار ضد الاحتلال الإسرائيلي بإذن الله عز وجل، وإن أمثال هؤلاء الأبطال الذي نفذوا عملية القدس وعملية أم الفحم وغيرها سيتقدمون ليزلزلوا الكيان الصهيوني بإذن الله تعالى، فهؤلاء الشهداء الذين رفعوا هامات شعبنا ورفعوا هامات الأمة العربية والإسلامية بإذن الله. ولذلك ننصح المسؤولين أن لا يستجيبوا لضغوط الصهاينة ولا لضغوط أمريكا، وأن لا يعتقلوا المجاهدين والمناضلين من كافة الفصائل.
وأنتم يا أبناء شعبنا، لا تلقوا السلاح أبدًا؛ لتظلَّ الأصابع على الزناد، بالرشاشات، بالقنابل، بالعمليات الاستشهادية، هذا هو نهجنا، والله معنا، وسينصرنا بإذن الله عز وجل.
أيها الإخوة، وبمناسبة ما يسمّى عيد الأم، وطبعًا في ديننا ليس هناك سوى عيدين الفطر والأضحى، وأنتم تعلمون أنه لا يوجد دين سماوي ولا قوانين وضعية أنصفت المرأة كما أنصف الله عز وجل ورسوله المرأة، أعطاها حقها في الإرث وفي التعلم والتعليم، وحقها في الجهاد، وحقها المالي والسياسي، وفي الزواج، وخصّ الأم في ذلك، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال : ((رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين)). نحن نحيّي كل الأمهات، ونخصّ بالذكر الأمهات الفلسطينيات اللاتي أنجبن هؤلاء الأبطال المجاهدين الاستشهاديين، نحن نحيي أم الشهيد، كل أمهات الشهداء، التي تحمل الرشاش مع ابنها وتودّعه كي يقوم بعملية استشهادية، وتدعو الله عز وجل أن يكتب له الشهادة، وأن يوفقه وأن يعمي عنه الأبصار، فاستجاب الله دعاءها وأفرغ في العدو عشرة قنابل وعشرة مخازن، فقتل وجرح العشرات، وبقيت تنتظر نبأ استشهاده إلى الفجر، ولما سمعت نبأ استشهاده "الشهيد محمد فرحات" سجدت لله سجدة شكرًا أن كتب الله له الشهادة، وأن وفقه في عمليته الاستشهادية. هذا النموذج وأمثاله كثير من أمهاتنا الفلسطينيات، أعدنَ الصورة المشرقة للصحابيات أمثال الخنساء.
سجّل يا تاريخ وسجل، يا شعبنا ويا أمتنا العربية والإسلامية، إن نموذج الخنساء قد تكرر في فلسطين، فنسأل الله عز وجل أن يجزي الأمهات كل خير، وأن يجزي الأولاد والبنات خيرا.
أيها الإخوة المسلمون، ولا ننسى أن نذكّر حضراتكم بأن وزارة الأوقاف الإسلامية قد عمّمت على المساجد في منطقة الشمال من أجل جمع تبرعات لمؤازرة إخواننا الذين تضرّروا عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي مخيّم بلاطة ومخيم جنين وغيره، سنقوم بحملة تبرعات من باب التكافل مع هؤلاء، فالله تبارك وتعالى أمرنا أن نتعاون على البر والتقوى.
ولا ننسى أن نذكركم ـ أيها الإخوة المصلون ـ صيامَ عاشوراء فهو التاسع والعاشر سوف يكون يوم السبت والأحد، وهذه الأيام نجّى الله موسى من فرعون، ونحن أحق بموسى عليه السلام من هؤلاء الصهاينة الذين لا يمتّون بصلة إلى سيدنا موسى عليه السلام ولا لغيره من الأنبياء، نعم فنحن أولى بهم من موسى، نذكركم ـ أيها الأخوة ـ بما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات...
(1/4561)
حق المسلم على المسلم
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أهمية التوحيد, الآداب والحقوق العامة
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
2/10/1423
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد. 2- وجوب العناية بحقوق المسلم. 3- حق المسلم على أخيه المسلم. 4- أخوة الدِّين أقوى من أخوة النسب. 5- التحذير من الانحراف والانجراف وراء من يَعدُّ النصارى إخوة له. 6- وجوب استنقاذ الأسير وفك العاني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأذكركم ونفسي بحقوقه وحقوق خلقه التي افترَضَها الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه.
إن ديننا الذي ارتضاه الله تعالى لنا منهجًا رَشدًا يجمع بين الحقوق والواجبات، ولا يذهب فيه سدى شيء من الصالحات، ولا ريب في أن الحقوق تجب على العباد بإيجاب الشارع الحكيم، أما في حقه تعالى فلا شيء يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه تفضلاً منه ومِنّة.
ومن جوامع الكلم وفصل الخطاب في بيان مجمل الحقوق وأوجب الواجبات ما رواه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف رسول الله ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: ( (يا معاذ بن جبل)) ، قلتُ: لبيك ـ رسول الله ـ وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (( يا معاذ بن جبل)) ، قلت: لبيك ـ رسول الله ـ وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (( يا معاذ بن جبل)) ، قلتُ: لبيك ـ رسول الله ـ وسعديك قال: (( هل تدري ما حق الله على العباد؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا)) ، ثم سار ساعة، فقال: ( (يا معاذ)) ، قلتُ: لبيك ـ رسول الله ـ وسعديك، قال: ( (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (( أن لا يُعذبَهُم)).
الناس ما عقَلوا لله عباد حتى وإن جهلوا يومًا وإن حادوا
يَحدوهمُ أملٌ في نيل مغفرة فِي يوم محشرهم لله إن عادوا
مادام مرتكزًا إفراد بارئهم فِي أصل فطرتهم والدين توحيدُ
عباد الله، إن توحيد الله تعالى بما أوجب توحيده به في أفعاله وأسمائه وصفاته وعبادة خلقه أوجب الواجبات وأهم المهمات التي عليها مدار الفوز والنجاة في الحياة وبعد الممات، ولهذا كثر النكير على من وقع في الشرك المنافي لتوحيد رب البريات، وآذن الله تعالى المشركين بالإياس من المغفرة ودخول الجنات، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:116].
ومن عدله المطلَق سبحانه وتعالى أن لا يُضيع شيئًا من حقوق العباد، حتى يقتصّ لصاحبها أو يرضيه برفع درجاته أو تكفير سيئاته، فما ربك بظلام للعبيد، ولا يرضى الظلم بين العبيد، بل يقول لمن دعا على ظالمه: (( وعزتي وجلالي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) كما روينا بإسناد حسن عن خير البشر. فإن برئت ذمتك من التفريط في جنب الله وسلمت من الوقوع في الشرك بالله فحذار حذار من الاستطالة في حقوق العباد أو التقصير فيما أوجب الله عليك صرفه لهم، فإنك موقوف ومحاسَبٌ عن كل اقتراف أو مجانبة للحق والإنصاف.
رُوي في المسند عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: (( الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوانٌ لا يترك الله منه شيئًا، وديوانٌٌ لا يغفره الله؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72] ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسَه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظُلمُ العباد بعضَهم بعضًا؛ القصاص لا محالة)).
نعم يا عباد الله ، إن حقوق العباد لا يستهين بها إلا غرّ مغبون جاهل بالعواقب والخواتيم، أما من اصطفاه الله وتولاه ووفقه لما فيه رضاه فلا يفرط في شيء منها، وأقلها ما جاء التأكيد عليه في السنة تخصيصًا، وهو حق المسلم المتعين الأداء على المسلم. عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس )) متفق عليه، وفي رواية في صحيح مسلم: (( حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتبعه)). وفي رواية مسلم هذه زيادات وقيود هامة في التعامل بين المسلمين:
أولها: زيادة حقوق المسلم عدَدًا، وفي هذا دلالة على أن العدد المذكور يفيد مراعاة حال السائل وليس الاقتصار على ما ذكر.
وثانيها: الأمر بالسلام مطلقًا على من يلقاه المسلم من المسلمين وليس مجرد رد السلام على من ابتدأه به، لما في إفشاء السلام من إشاعة المحبة والألفة بين أفراد المجتمع، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أن رسول الله قال: (( لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
وثالثها: إيجاب إسداء النصيحة لمن يحتاجها من المسلمين؛ لأن الدين النصيحة، ومن النصيحة الواجبة مناصحة المبتدع والرد على المخالف بما يرده إلى الحق ولا يزيده نفرة منه وبعدًا عنه، وقد دأب السلف على مناظرة المخالفين في أصول الدين وفروعه وأطرهم على الحق أطرًا بالحجة والبيان ليس غير، وما مناظرات إمامَي السنة وأهلها في زمنيهما أحمدَ ابن حنبل وأحمدَ ابن تيمية إلا معالم في الطريق، ترد على من يفر من المخالف إلى القذف والتشهير متذرّعًا بآراء آحاد العلماء في عدم مناظرة المبتدِعة، رغم شذوذ هذا القول ومخالفته لما عليه جمهور السلف قولاً وفعلاً.
ورابعا: يستفاد من هذا النص الشريف تقييد إيجاب تشميت العاطس بحمده لله تعالى، فإن قال بعد عطاسه: الحمد لله قيل له: يرحمك الله وجوبًا على الكفاية، ويتعين عليها بعدها أن يدعو لنفسه ولمشمته بما جاء في السنة كقوله: يهدينا ويهديكم الله ويصلح بالكم.
عباد الله ، إن حقوق إخوانكم من أهل القبلة عليكم لازمة ما دامت فيكم عين تطرف، ولا تنتهي إلا باتباع جنائزهم بعد مماتهم، فأدّوا إليهم حقوقهم، واسألوا الله حقوقكم.
وما دام الحديث عن حقوق العباد قائمًا فمن المناسب الإشارة إلى ما أقره رسول الله قبل الهجرة وطبقه بعدها عمليًا من أخوة الإسلام بين أبنائه والتآخي بين المسلمين، فـ (( المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه)) ، كما ثبت بذلك الحديث في الكتب الستة.
وأخوّة الإسلام أقوى من أخوّة النسب، ورابطته أوثق من رابطة الدم، ولا مسوغ شرعًا للتبجّح بالمصطلحات المبتدعة حديثًا من قبيل الأخوّة في الوطنية أو القومية أو غيرهما من الدعوات الجاهلية.
وحذار من الانحراف والانجراف وراء من يَعدُّ النصارى إخوة له؛ بدعوى أن الله تعالى وصف بعض أنبيائه بأنهم إخوان لبني قومهم، كما في قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85]، وقوله سبحانه: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [هود:50]، مع أنهم يغفلون عن أن الله تعالى لم يصف الأقوام بأنهم إخوة للأنبياء، وإثبات الصّفة ليس إثباتًا لما يقابلها كما هو معلوم عند أهل اللغة.
ومن العجب أن نعدّ الصليبيين إخوةً لنا في الوقت الذي نغفل فيه أو نتغافل عن الأخوة الحقة التي تربطنا بأبناء ديننا وملتنا وأهل قبلتنا في فلسطين وغيرها من بلدان المسلمين، فنسلِم إخوانًا ونخذل آخرين يقبعون في سجون الغزاة المجرمين، مع أن من حقهم علينا أن نقوم بواجب النصرة والإمداد لهم.
أين نحن من أقوال أئمة السلف وهداة الخلف، وقد أجمعوا على وجوب استنقاذ الأسير وفك العاني؟! قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد ذكر الأسرى المستضعفين: "إن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، بالبدن بأن لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك, أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو, وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال"، وقال ابن تيمية: "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".
فالله الله ـ يا أمة الإسلام ـ في إخوانكم، ارعَوا شؤونهم، وأعطوهم حقوقهم، وحذار من أن يكون في قلوبكم غل للذين آمنوا.
وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
أمّةَ الإسلام ، لا نَزال حديثِي عهد بشهر رمضان الذي أفَل نجمه قبل يومين، وسرعان ما بردت الهمم برحيله وعادت أحوال الكثيرين منا إلى ما كانت عليه قبل دخوله، وكأن الله لا يعبد إلا في رمضان، وهذه أمارة للخذلان ودلالة على الخسران؛ لأن رب رمضان هو رب شعبان وشوال وسائر الشهور.
فلنبادر ـ يا عباد الله ـ إلى تصحيح مساراتنا، وليشدّ بعضنا على أيادي بعض بالتذكير والمناصحة والإعانة على طاعة الله.
فاتّقوا الله يا عباد الله ، وتزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه.
وصلّوا وسلّّموا على نبيّه وآله وصحبه ومن والاه، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، إذ قال ربّ العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4562)
بين يدي رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
19/8/1423
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل شهر رمضان المبارك. 2-كيف يستقبل رمضان؟ 3- فضل الصيام. 4- التحذير من بدع وخرافات تقع في اليوم الأخير من شهر أكتوبر تشرين الأوّل كلّ عام. 5- حرمة مشاركة الكفار في أعيادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم وبالَ عصيانه ومخالفة أمره، وأذكّركم أ نّ الله تعالى يصطفي من خلقِه ما يشاء، ويفيض من بركاته ونعمائه على من يختصُّهم بفضله وكَرَمِه من العباد والأزمان والبلاد.
ونحن اليوم بين يَدَيْ موسمٍ من مواسم الخير والبَرَكة، اختصّه الله بما شاء من فضله وكَرَمه، فأنزل فيه أفضَل كُتُبَه، وتعبّدَنا فيه بالصيام والقيام والإطعام، فجَعلَ صيام نهاره فريضةً، وقيام ليله نافلةً، وفضّل لياليَه على سائر ليالي السنّة، واصطفى من بينها ليلةً سلامٌ هي حتى مَطلَعِ الفَجر، وخيرٌ هي من ألفِ شَهر.
وإنّ غائبًا يعود مرّة في العام لأهلٌ أن يُتهيَّأ لاستقباله ويُستعدّ لقدومه، وبخاصةٍ إذا كان خيره وبركته عمِيمَين، فطوبى للمشمّرين.
ما فتئ رمضان يعود علينا عامًا بعد عام، ونحن نخرج منه كما نلقاه، وقليل منّا من يكون بَعدَه على أحسن ممّا كان عليه قَبْلَه، أفلَم يأنِ لنا أن نعزم على اغتنام موسم قد لا ندركه فيما نستقبل من أعوام، ونكفّ عن التسويف والتأجيل وعَدَم المبالاة وقلّة الاهتمام؟!
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
عباد الله، إنّها فرصة لا يُفوِّتُها إلا متهاون مغبون، ولا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم، أما من أنار الله قلبه ونقّى فؤادَه، فتراه يستعد لرمضان قبل أن يلقاه بأمور كثيرة، من أهمّها أن يُقدّمَ بين يديه صيام شعبان جلّه أو كلّه، تأسيًا بنبيّه الذي دأبَ على ذلك، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان. وكان يقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) رواه البخاري.
وليس المقصود بذلك المواظبة على صيام شعبان كلّه، ولكن المقصود هو الإكثار من الصيام فيه. قال ابن المبارك كما في سنن الترمذي: "جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليله أجمَعَ، ولعله تعشَّى واشتغل ببعض أمره". ويؤيد هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن الصدّيقة رضي الله عنها أنّها قالت: كان يصوم شعبان إلا قليلاً. غير أنّه يُنهى عن تخصيص النصف الثاني من شعبان بالصيام؛ لحديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي وحسّنه والحاكم وصحّحه أنّ رسول الله قال: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)). أمّا من صام في أوّل الشهر فلا جناح عليه أن يصوم نصفه الثاني بَعضَه أو كلّه، وكذلك من كانت له عادة صيام صامها، كيومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، فيصومهما ولا حَرج. ولا يجوز للصائم أن يتقدّم رمضان بصيام يومٍ أو يومَين؛ لحديث الصحيحين: ((لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صومًا فليصم)).
ولهذا النهي حِكَمٌ جليلةٌ، منها الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل؛ لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، كما في النهي عن وصل صلاة مفروضة بصلاةِ نافلةٍ حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ومنها التقوي على صيام رمضان؛ فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض.
وممّا ينبغي أن يُستقبَل به شهر الصيام والقيام أيضًا، المبادرة بالتوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، والإكثار من الطاعات دِقِّها وجِلِّها، فهذا زمان التوبة.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبِ حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيِّره أيضًا شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهدًا فإنه شهر تسبيح وقرآن
عباد الله، كم من أخ نعرفه صام معنا وقام في رمضان الماضي وما قَبله، ثمّ صار إلى عالَمِ الدود واللحود، بعد أن استلّه هاذم اللذّات من بينِنَا، وسيأتي الموت على الجميع، إن عاجلاً وإن آجلاً.
تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر
فليسَ عن لُقيا المنيّةِ صارفٌ وليس من يدري الأوان فيُنذِر
يا نفس فالتمسي النجاة بتوبة فبتوبتِي نَحو النجاة سأُبْحِرُ
فهلا اغتنمنا هذه الفرصة للتزوّد، فإنّ خير الزاد التقوى، وهي الغاية الكبرى من مشروعيّة الصيام، قال تعالى: ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:].
فالصائم الصادق الصالح هو الذي يتّقي الله في صومه، فيصوم جوفه وفرجه وسائر جوارحه صومًا يكفّه عن المعاصي، ويحجزه عن الحرمات، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمع إلاّ خيرًا، ولا يفعل إلاّ خيرًا، ويُقلِع عن قول الزور والعمل به، فمن لم يكن كذلك فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، كما صحّ بذلك الخبر عن خير البَشَر فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه.
كيف لا وللصيام منزلة رفيعة بين العبادات؟! ففي الحديث القدسي الذي رواه الشيخان يقول ربّ البريات: ((كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها، إلاّ الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)). والحكمة في ذلك أنّ الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه أحد سواه. وقيل: قوله: ((فإنّه لي)) أي: لم يُتعبَّد أحد بمثله إلا أنا، فالعباد يركعون لبعضهم ويسجدون، وينفقون تزلفًا وتملّقًا، ويقصد بعضهم بعضًا، إلى غير ذلك مما يصرفه بعضهم لبعضٍ من الأعمال، أمّا الصوم فلا يُعرَف أنّ أحدًا يصوم لأحدٍ غيرِ الله.
والمؤمن الرشيد ـ يا عباد الله ـ يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي والمنكرات التي تكتظ بها وسائل الإعلام والإجرام، ويتزوّد بالتقوى والإنابة قبل تزوده بالطعام والشراب والثمار المستطابة.
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المباركْ
فيا من ضيَّع الأوقات جهلاً بقيمتها أفِق واحذر بَوَارَكْ
تدارَك ما استطعت من اللّيالي فخير ذوي الفضائل من تداركْ
وعليكم في رمضان خاصة بكتاب ربّكم خيرًا، فإن القرآن ورمضان شفيعان مشفّعان يوم القيامة، ((يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) كما في الحديث المسند.
منع الكتاب بوعده ووعيده مُقَل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه فهمًا تذل له الرقاب وتخضع
وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمّةَ الإسلام ، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، إنّ من رحمة الله أن نُدرك شهرَ رمضان في هذه الأعوام في فصل الشتاء الذي قال عنه بعض السلَف: "الشتاء ربيع المؤمن؛ قَََصُرَ نهارُهُ فصامَه، وطالَ ليلُه فقامَهُ". وهذا مصداق لقول النبيّ كما في حديث عامر بن مسعود : (( الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) ، وإسناده حسن كما في صحيح الجامع. فاستعينوا بالنعمة على النعمة يا عباد الله.
ولا يفوتني ـ والحديث عن موسمٍ من مواسم الخير ينبغي لنا اغتنامه ـ أن أشير إلى أنّ الأيّام القادمة حُبلى بموسمٍ من مواسم الشرّ ينبغي لنا أن نحذَره ونحذّر منه، ذلكم هو ما يُعرَف عند أهله بيوم الهَلَوِين، اليوم الأخير من شهر أكتوبر تشرين الأوّل كلّ عام.
يومٌ ورثت أوروبا النصرانيّة الاحتفال به عن الوثنيّة الإيرلندية التي كانت تعظّمه قبل الميلاد بزمنٍ طويل، باعتباره أحد الطقوس الوثنيّة الموغلة في القِدَم، وتحكي أساطيرُهم قصصًا عن منشأ الاحتفال بهذا اليوم، أشهرها تلك التي تعتبر اليوم الأول من شهر نوفمبر تشرين الثاني يوم تتلاقى فيه شهور الحياة وشهور الموت كلّ عام، فتخرج الأرواح، وتنتشر الأشباح، وتروج شعوذات السحرة، وطلاسم المشعوذين الفجرة.
ويغلِق الناس على أنفسهم الأبواب خوفًا من الأرواح الشرّيرة ليلاً، ويخرجون في اليوم التالي زرافاتٍ ووِحدانًا في مسيرات تنكّرية هستيريّة، يلبسون فيها الأقنعة، ويقرعون الأجراس والطبول، ويعزفون الأنغام الصاخبةَ الطاردة للأرواح الشريرة في زعمهم.
أمّا في البيوت فيعدّون أصنافًا محدّدةً من الأطعمة والحلوى، أشهرها، ويضعون أمام باب كل بيتٍ من بيوتهم قرعةً رطبةً، أخرجوا لبّها وبَقروا قشرها ليصنعوا منها هيكلاً يشبه وجه الإنسان، فإذا طَرَق بابهُم طارقٌ من الصبيان خَرجوا إليه ببعض ما صنعوه من الحلوى بهذه المناسبة، إرضاءً له، وخشية أن يكون روحًا شريرة قادمة من عالم الموتى متنكرًا في صورة طفل صغيرٍ، يلحق بهم الأذى ما لَم يُرضوه.
وفي هذه المناسبة الوثنيّة تعطّل دوائر الدولة والمؤسسات العامّة يومًا، والمدارس والمعاهد أسبوعًا، لإتاحة الفرصة أمام من يحتفون ويحتفلون بهذه المناسبة.
ولا ريب في أنّ مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات من كبرى المحرّمات؛ لما فيها من اللغو والزور، ودأب المؤمنين أنّهم لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقد روي عن كثيرٍ من السلف قولهم في تفسير قوله تعالى: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أنّها أعياد المشركين.
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد على شرط مسلم عن أنس بن مالك ، قال: قدِمَ رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: (( ما هذان اليومان؟) ) قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله : (( إنّ الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف نهى أصحابه عن اللعب في يوم لعبهم في الجاهليّة؛ تأكيدًا على تميّز المجتمع المسلم وعدم مشاركة المشركين، فضلاً عن تقليدهم ومتابعتهم في أعيادهم ومناسباتهم.
وإذا كان عمر بن الخطّاب منع أهل الذمة من إظهار أعيادهم في بلاد المسلمين ووافقه على ذلك الصحابة فكان إجماعًا سكوتيًّا منهم على ذلك، فإنّ قياس الأولى يتّجه إلى تحريم مشاركة المسلم لأهل الذمّة في أعيادهم في ديار الإسلام، وأشنع منهم وأغلظ في التحريم مشاركتهم في ذلك في دار الكفر أو الحرب.
كما يحسن التحذير ممّا دأب عليه قومٌ لا يعرفون الله إلاّ في رمضان، حيث يقبلون بشغف على محارم الله فينتهكونها بين يدي هذا الشهر الفضيل، فيختمون شعبان بالمعاصي التي سيُحال بينهم وبينها بالصيام في رمضان، وحالهم كما قال قائلهم:
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق عن الصغار
ولهؤلاء وأمثالهم من المقيمين على المعاصي ويغفلون عن علاّم الغيوب نَصيب من قوله تعالى: ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ والإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فاتّقوا الله يا عباد الله ، وتزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه، وصلّوا وسلّّموا على نبيّه وآله وصحبه ومن والاه، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، إذ قال ربّ العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4563)
توحيد الله أولاً
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
28/6/1423
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بالتوحيد. 2- أقسام التوحيد. 3- من حقوق الله تعالى على عباده أن لا يُشركوا في حكمه أحدًا. 4- شروط كلمة التوحيد. 5- الإخلال بالتوحيد سبب للتنكّب عن صراط العزيز الحميد. 6- وجوب العناية والاهتمام بأمور المسلمين. 7- درس مستفاد من التجربة السودانيّة في التقارب أو المصالحة مع الصليبيّين والوثنيّين في الجنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أمّة الإسلام، فإنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثًا ولم يتركهم هَملاً، بل خلقهم ليوحّدوه، وأرشدهم ليَعبُدوه، وجعل التوحيد لما سواه أصلاً، فمن وحَّدَه بما أخبر وعبده كما أمر كان لنيل رضاه والفوز والنجاة في أخراه أهلاً.
وقد توافقت فِطَر البشر على أنّ صلاح الفرع من صلاح الأصل وفسادَه من فساده؛ فإذا استقامَ الأصل واستوى على سوقه تشعَّبت فروعه طريّةً ندِيّة صالحةً متينةً قويّة؛ ولذلك قدّم الله تعالى أصول الدين على فروعه بالذكر والأمر، كما في قوله عزّ وجلّ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ محمد:19].
والدعوة إلى توحيد ربّ العبيد دعوة رسل الله قاطبةً من لدن أبيهم آدم عليه السلام وحتى خاتمهم محمّد ، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فإذا أردنا سعادة الدارين وخيرَ الخَيرَين فلنحقّق التوحيد أوّلاً؛ لأنّه أصل الأصول وغاية المأمول.
ما لم يكُ التوحيد أصلاً راسخًا للعابدين فكلّ فرعٍ فاسدُ
أرأيت بنيانًا تطاول أهله في رفعه والأسُّ هارٍ هامِدُ
ولأهميّة التوحيد علّق الله عليه مغفرة الذنوب وتكفير السيّئات، علاوة على رفع الدرجات في غرف الجنّات، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:116]، وقال جل وعلا: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي والدارمي ومسند أحمد أن النبي قال: ((قال الله جل وعلا: عبدي، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ـ يعني: بملء الأرض خطايا ـ ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا أتيتك بقرابها مغفرة)).
عباد الله، لقد حاوَل أهل العلم تقريب مسائل التوحيد في التعليم والتدريس، فقسّمه بعضهم إلى قسمين، وبعضهم إلى أكثر من ذلك، وأوسط التقسيمات وأبلغها في الدلالة على المطلوب هو تقسيم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله التوحيدَ إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتعريف القصد والطَلَب. وتحت القسم الأوّل تندرج معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، في ضوء ما أخبر به عن نفسه وأخبر عنه نبيّه المصطفى ، إيمانًا وتصديقًا وتسليمًا. أما القسم الثاني الذي يشمل القصد والطلب فتندرج تحته عبوديّة العبد لربّه وتأليهه إياه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزَجَر، مع توحيده في ذلك كلّه بالإخلاص له وعدم إشراك أحدٍ في عبادته. فلا يكمل إيمان أحدٍ ولا يخلُص توحيده لربّه حتى لا يشرك في عبادته أحدًا، ولا يصرف شيئًا منها لغيره، ويقيم فيصلاً بين حقوق الخالق وحقوق المخلوقين.
ومن حقوق الله تعالى على عباده أن لا يُشركوا في حكمه أحدًا؛ إذ إنّ لله الخلقَ والأمر، وليس ذلك لأحدٍ غيرِه، ولذلك خصّ بعض أهل العلم في القديم إفراد الله بالحكم ـ وفي اصطلاح بعض المعاصرين بالحاكميّة ـ من بين مسائل التوحيد بال ذِكرَ؛ لخطورة ما يترتّب على تحكيم غير شرع الله على عقائد العباد، وما يُفضي إليه من خروج من الملّة. قال ابن أبي العزّ الحنفي في شرح الطحاويّة (ص200) في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها : "فنوحّده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكّل، فهما توحيدان لا نجاةَ للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحُكم غيره".
عباد الله، لا يتحقق توحيد العبد بمجرّد قول: "لا إله إلا الله" ما لم يأت بشروطها ويحذَر نواقِضَها وموانِع تحقيقها، فمن جاء بها بشروطها استحقّ البشارة بدخول الجنّة. وشروطها سبعةٌ جمعها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في قوله:
العلم واليقين والقبول والانقياد فادرِ ما أقولُ
والصدق والإخلاص والمَحبّة وفّقَك الله لما أحَبَّه
فأوّل شروط الكلمة الطيّبة "لا إله إلا الله" هو العلم بمعناها وما فيه من النفي؛ نفي الألوهيّة عن غير الله، وما فيها من الإثبات؛ إثبات الألوهيّة لله تعالى وحده؛ لأن المراد هو الاعتقاد ولا اعتقاد بدون علم، قال الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]، وفي صحيح مسلم وغيره عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
ثانيًا: اليقين الجازم بكلمة التوحيد معناها ومقتضاها، واليقين هو أعلى درَجات العلم، بل هو العلم الجازم الذي لا شكّ فيه ولا ارتياب، فلا تجزئ معرفة معنى هذه الكلمة الطيبة ما لم يرافق العلم بها اعتقادٌ صادق راسخ، قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، وقال رسول الله لأبي هريرة كما في صحيح مسلم: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشّرة بالجنة)) ، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله عبدٌ بهما غير شاكٍ فيهما إلا حرمه الله على النار)).
ثالثًا: الرضا بالتوحيد وقبول ما يَلزَمُ العبدَ من تكاليف جرّاء ذلك، يقول تعالى: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:21-25] ، بل لا بدّ من الخضوع والانقياد قلبًا وقالَبًا.
رابعًا: الصدق في الإيمان والإخلاص في التوحيد، وهو نقيض النفاق والزندقة، ولولا هذا الشرط لاستوى الموحّد والمنافق في استحقاق البشارة بالجنّة، ولا يكاد يظهر صدق الصادق وخداع المخادع إلا في مواطن التمحيص والامتحان، قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]. وفي صحيح البخاري من حديث عِتْبَان بن مالك عن النبي أنه قال: ((إن الله حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه)) ، وفي رواية: ((إن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)).
خامسًا: الإخلاص لله تعالى، وهو تجريد التوحيد لله العزيز الحميد، حيث إنّ الله تعالى لا يقبل من العمَل إلا ما كان خالصًا، ومن تقرّبَ إليه بعمل أشرك فيه معه غيره تركه وشِركَه، قال الله عز وجل: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)).
سادسًا: الانقياد لله ولرسوله، إذ إنّ الإيمان ليس قولاً أجوَف مجرّدًا من العمل، بل هو قولٌ وعملٌ بالقلب واللسان والجوارح، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة، وهل الطاعة إلا بلزوم الأمر والنهي؟! قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب:36]، وقال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
سابعًا: محبة الله ورسوله، ومحبّة التوحيد وأهله، ومحبّة ما دلت عليه كلمته الطيّبة "لا إله إلا الله"، ومحبة أهلها العاملين بها. ولا يكون الحبّ صادقًا ما لم تبدُ أماراته، فعلامة محبته الله تعالى التزام شريعته ونصرة أوليائه ومجاهدة أعدائه، وعلامة حبّ نبيّه أن يكون هوى محبّه تبعًا لما جاء به المحبوب ، روى الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) ، وثبت أيضًا أنّ رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)).
تعصي الإله وأنت تزعم حبَّه هذا لعمري في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعته إنّ الْمحبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ
ونقيض المحبّة ـ يا عباد الله ـ هو البغض والكره، فمن كرِهَ شيئًا ممّا أوجبت "لا إله إلا الله" حُبَّه فقد كفر، وعلى من أراد السلامة أن يلزم الحَذَر. اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحبّ عملٍ يقرّبنا إلى حبّك.
عباد الله، هذه شروط لا إله إلا الله، فلا يفوتنكم تحصيلها، والله اللهَ في تحقيق التوحيد في نفوسكم وتطهير جنانكم وأعمالكم مما يضادّه أو يناقضه. وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمّةَ الإسلام، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
واعلَموا ـ رحمني الله وإيّاكم ـ أنّ الإخلال بالتوحيد سببٌ للتنكّب عن صراط العزيز الحميد، مع ما يترتّب عليه من فساد الدنيا وفوات الآخرة، ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب الإيمان بالأسماء والصفات كيف بات مجسّمًا يعبُد صنمًا أو جاحدًا يعبد عَدَمًا؟! ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب القصد والطلب، فطاف بالقبور أو تعلّق بالمقبور، كيف هان على الله أمره، فأفنى عمره بالتذلل إلى عباد مثله؟! قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194]. ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب الولاء والبراء، وظاهر الأعداء الكفرة على الأولياء المجاهدين البررة، كيف تسلّط عليه من تولاهم وظاهرهم فزادوه رهَقًا، واتخذوه تبعًا مسلوب الإرادة والكرامة؟! فسُحقًا سُحقًا. وهكذا دواليك، ما أخلّت البشريّة بتوحيد ربّ البريّة في جانب إلا تنكّبت عن الطريق السويّة وتخبّطت في دهاليز الضلالة الرزيّة.
ولا يفوتني ـ والحديث عن التوحيد ـ أن أشير إلى حاجة المسلمين المنهجيّة إلى توحيد الرؤى والجهود في أُطُر العمل الإسلامي المعاصر، إذ إن يد الله على الجماعة.
إنّ أولى الورى بتوحيد شملٍ أمّةٌ كان دينها التوحيدا
وإن لم يكن إلى التوحّد سبيل متاحة فلا أقل من الاهتمام بشؤون المسلمين والالتفات إلى أحوالهم والسعي على تحسينها بقدر الطاقة والسعة، وذلك من صُلب ديننا، وإنْ قال من قال: "دعوا السياسة وانصرفوا إلى العلم والعمل". إن العلم بالسياسة الشرعيّة والتبصر في أمور المسلمين وما يحاك لهم أو يراد بهم من صُلب ديننا الذي ارتضاه الله لنا شِرعةً ومِنهاجًا، بل ديننا عقيدة وعبادة وسياسة، وبين ذلك كلّه علاقة تكامليّة أرشد إليها من أنار الله بصيرته من أبناء هذه الأمّة، وصرَف عنها من صرَفَه لحكمةٍ أرادَها.
قال ابن أبي العزّ في شرح الطحاويّة (ص74): "و إنّما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه ـ أي: إلى النبيّ ـ في كثير من الأمور الكلاميّة الاعتقاديّة، ولا في كثير من الأحوال العباديّة، ولا في كثير من الإمارة السياسيّة، أو نسبوا إلى شريعة الرسول بظنّهم وتقليدهم ما ليس منها، وأخرجوا عنها كثيرًا ممّا هو منها".
وانطلاقًا من اهتمامنا بأمور المسلمين نشير هنا إلى درسٍ مستفاد من التجربة السودانيّة في التقارب أو المصالحة أو حتى الحوار مع الصليبيين والوثنيين في الجنوب، فنقول لمن التبست عليهم الأمور: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. فادّكروا يا أولي الألباب، وانظروا كيف يُطعن المسلمون في الظهر بسهام من جنحوا إلى مسالمتهم قبل أيّام قلائل. ألا فهل يتّعظ من يرددون عباراتٍ من قبيل: إخواننا النصارى وأصدقاؤنا وحلفاؤنا الغربيّون؟!
ألا وصلّوا وسلّّموا على نبيكم الأمين، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، فقال ربّ العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/4564)
مناقب أبي بكر الصديق (1)
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أبي بكر الصديق. 2- أبو بكر: اسمه ولقبه وإسلامه. 3- فضل إيمان أبي بكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي ـ وربي ـ سبيل الخلاص من كل هَمٍّ وغَمٍّ يلمّان بالعبد، وذلك لا يقتصر على هموم وغموم الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة، فالتقوى عظيمة الشأن، لا يلازمها إلا الموفَّقون.
أيها المؤمنون، ما أجمل وأحلَى الساعات التي يقضيها المسلم مع آيات من الذكر الحكيم، أو أحاديث سيد الأنبياء والمرسلين، أو مع سيرة أحد الخلفاء الراشدين. وفي هذا اليوم سنعيش مع قصة إسلام سيدنا أبي بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في الغار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، الذي أنزل الله في حقه قرآنا فقال: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40]، وقال عنه: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18]، وبشره بقوله: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21].
وهو خليفة رسول الله ، اسمه عبد الله، وكنيته أبو بكر. كان الصديق قبل إسلامه يجلس طويلا عند قس بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، وهؤلاء انعقدت أواصر قلوبهم على دين إبراهيم الخليل عليه السلام، وانسابت من أفئدتهم كلمات التوحيد للواحد الأحد وسطَ الهجير الوثني المستعر، كانوا يغنون للنبي القادم، كانوا يبشرون بالفجر الطالع، وفي ضياء حكمتهم الوثقى وهداهم المكين أبصرت روحه الطاهرة موكب النبوة يقترب، فجلس ينتظر ويُعدّ نفسه لأيام الهدى واليقين، وإنه ليمرّ بالناس متحلّقين حول أصنام لهم وجاثين أمامها فتكسو وجهه سحابة أسف مرير، ويسأل نفسه: أيمكن أن يكون هذا صوابا وهدى؟! أناس ينظرون ويسمعون ويعقلون، يخرون سجدا أمام حجارة مرصوصة لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لأنفسها ضرا ونفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا!
وقبل أن يطول التردد بأبي بكر تلتمع خواطره فيرى القدوة الحسنة والمثل الأعلى، يرى محمد بن عبد الله الصادق الأمين، فحرص على صحبته، فكان خدا لمحمد وصفيا له، وتمضي الأيام طاوية أشواق الذين يؤمنون أو يحسّون أنهم على موعد مع الغيب، ويصبر أبو بكر حتى يأتي أمر الله، ويقبل على شأنه وتجارته، وإذ يحين أوان رحلة جديدة إلى الشام، وفي الشام يسمع نفس اللّحن العذب المبشر بمقدم النبي العربي القرشي الخاتم.
عباد الله، إن أبا بكر لينتظر الرسول المقبل في لهفة غلابة، لا لأنه سيهتدي به وحده إلى الحق المبين، بل لأن الناس جميعا سيهتدون به من ضلالة ويفيقون به من غفلة.
كانت الخواطر تغدو وتروح على هذا النحو في وجدان أبي بكر وعقله، والآن وقد أنجز أعماله في الشام فإنه يتهيأ للعودة إلى وطنه وبلاده، وقبيل رحيله بأيام قليلة يرى رؤيا في منامه، يرى القمر وقد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت على جميع منازل مكة وبيوتها، ثم تضامت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول واستقر في حِجر أبي بكر. صحا من نومه وللرؤيا على وعيه سلطان مبين، وسارع إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات الروح ما تقر به عينه، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح، وقال لأبي بكر: لقد أهلّت أيامه، ويتساءل أبو بكر: من تعني؟ النبي المنتظر؟! ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن به وستكون أسعد الناس به.
كانت رؤياه بشرى من الحق جلّ جلاله لروحه المتطلّعة للنبي الخاتم، ومع الصباح شَدَّ أبو بكر رحاله مع القافلة العائدة إلى مكة، ومضت القافلة إلى غايتها تقطع الفيافي والقفار، تبيت إذا سترها الليل، وتنطلق إذا ناداها الصباح، لقد مضى زمن طويل منذ غادروا مكة إلى الشام، تُرى ماذا جَدَّ هناك من أمور؟!
كانت جماعة من قريش تنتظر القافلة، وحينما رأوها من بعد تنادوا وتجمّعوا لاستقبالها، وكلما اقترب القافلة من المنتظرين أحست منهم لغطا كثيرا واضطرابا، تُرى ما الذي حدث؟! والتَقى القادمون والمستقبلون في عناق ومودة تعالت خلاله الأصوات بالجديد الغريب من الأنباء.
ألا تعلمون أن قريشا منذ فارقتموها لا تنام الليل؟! وبدأ أبو جهل الحديث فقال: أوَحدَّثوك عن صاحبك يا عتيق؟ وكان أبو بكر قبل إسلامه يسمّى عتيقا، فأجابه أبو بكر: تعني محمدًا الأمين؟! قال أبو جهل: نعم، أعني يتيم بني عبد المطلب، يقول: إن في السماء إلها أرسله إلينا لنعبده ونذر ما كان يعبد آباؤنا، وقال: إن الله أوحى إليه وإن جبريل أتاه في غار حراء. في تلك اللحظات تألق وجه أبي بكر كأن الشمس قد اختصّته بكل ضيائها وسناها، وقال في هدوء مجلجِل: إن كان قال فقد صدق، ودارت الأرض بأبي جهل وتلعثمت خطواته وكاد جسمه يتهاوى فوق ساقيه المهزولتين، وتناقل الناس كلمة أبي بكر من واحد إلى آخر حتى صار لهم بها دوي كدوي النحل.
كلمة فذة جامعة: (إن كان قال فقد صدق). أجل، فهذه العبارة الأمينة المضيئة هي التي ستشكل كلّ حياته المقبلة، وستجعل من صاحبها أستاذًا للبشرية بعد رسول الله في فنّ الإيمان وفن الخلافة وفي كل خلق إسلامي عظيم.
انظروا إن موضوع الرسالة لم يكن جديدًا على أبي بكر، فهو بكل ما معه من ذكاء وفطرة قد قلب كل وجوه النظر السديد في هذه القضية، وانتهى إلى أن الله لن يترك عباده حيارى.
غادر أبو بكر الصديق داره إلى دار رسول الله تسبقه أشواقه، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام مقيمًا في داره مع زوجه خديجة رضي الله عنها، خديجة التي كانت أول العالمين إسلاما معه وإيمانًا به، قرع أبو بكر الباب ونادى، فتألق بشر الحياة جميعه على محيا رسول الله ، وقال مناديا خديجة: ((إنه عتيقٌ يا خديجة)) ، وسارع الرسول إلى لقاء صاحبه، وجرى الحديث بينهما في مثل سرعة الضوء وصفائه، قال أبو بكر: أصحيح ما أنبأني به القوم يا أخا العرب؟ أجاب الرسول سائلا: ((وماذا أنبؤوك؟)) ، قال أبو بكر: قالوا: إن الله أرسلك إلينا لنعبده ولا نشرك به شيئا، فقال رسول الله : ((وماذا كان جوابك لهم يا عتيق؟)) قال: قلت لهم: إن كان قال فقد صدق، وفاضت عينا رسول الله من الدمع فرحا وسرورا وعانق صاحبه، ومضى يحدثه كيف جاءه الوحي في غار حراء، وقرأ له أول ما أنزل من القرآن الكريم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، وخفض أبو بكر رأسه في خشوع وبكاء تعظيما للآيات الكريمة التي سمعها من فم رسول الله ، ثم رفع رأسه وشدّ بكلتا يديه على يمين رسول الله وقال: أشهد أنك صادق أمين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. هكذا أسلم أبو بكر في هدوء ويقين وقوة.
لقد تحدث الرسول فيما بعد كثيرًا عن أبي بكر، وكان مما قال عنه: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلاًً لاتخذت أبا بكر خليلاًً، ألا وإن صاحبكم خليل الله)) رواه الترمذي (3661)، وفي رواية: فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! رواه ابن ماجه.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((دخلت الجنة فسمعت فيها خشفةً بين يدي، فقلت: ما هذا؟ قال: بلال، قال: فمضيت فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين، ولم أر أحدًا أقل من الأغنياء والنساء، قيل لي: أما الأغنياء فهم ها هنا بالباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الأحمران الذهب والحرير، قال: ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية، فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها، ووضعت أمتي في كفة، فرجحت بها، ثم أتي بأبي بكر فوضع في كفة، وجيء بجميع أمتي في كفة فوضعوا، فرجح أبو بكر)) رواه أحمد.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4565)
أصحاب الأخدود
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/8/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرد قصة أصحاب الأخدود. 2- الفئة المؤمنة والفئة الكافرة. 3- تكرر هذه القصة في كل زمان. 4- حقيقة المعركة. 5- عاقبة الظالمين. 6- حقارة الدنيا. 7- النصر الحقيقي. 8- أطفال الحجارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ وَ?لْيوْمِ ?لْمَوْعودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ ?لأُخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء الذين فتنوا في دينهم، هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. وكان نكالاً دنيويًا بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم؛ ليلقوا فيها، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها ترددت، لا خوفًا من النار ولكن رحمةً بالطفل، فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيّدا مثبّتًا مصبِّرًا: يا أمّاه، اصبري فإنك على الحق، فتلقِي المرأةُ الضعيفةُ بنفسها وهي تحمل طفلها الرضيع في تلكم النار.
إنه مشهد مروّع وجريمة عظيمةٌ، يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصة مليئة بالدروس مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟!
لقد ذكر النبي قصة أصحاب الأخدود لأصحابه كاملة واضحة، ورواها الإمام مسلم في صحيحه، فَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يعَلِّمُهُ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ: حبَسَنِي أَهْلي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ. فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال: اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ، فأخَذَ حجَرًا فقالَ: اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ، فقال لهُ الرَّاهبُ: أي بُنيَّ، أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ. فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِي، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال: ما ها هنا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني، فقال إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ: منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال: ربِّي، قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي؟! قَالَ: رَبِّي وربُّكَ الله، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجيءَ بِالغُلاَمِ، فقال لهُ المَلكُ: أي بُنَيَّ، قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ: إِنَّي لا أشْفي أَحَدًا، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ، فجِيء بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ: ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ، ثُمَّ جِيء بجَلِيسِ المَلكِ فقِيلَ لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ، ثُمَّ جيء بالغُلامِ فقِيل لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ، فأبَى، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ، فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ، فقالَ لَهُ المَلكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقالَ: كفانيهِمُ الله تعالَى، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ، فذَهبُوا بِهِ فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك، فقالَ لَهُ الملِكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقال: كفانِيهمُ الله تعالَى، فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ، قال: ما هُوَ؟ قال: تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْمًا مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي. فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْمًا منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ، فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ، فقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، فَأُتِيَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ: أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ، قدْ آمنَ النَّاسُ، فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ، وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ، وقالَ: مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ: اقْتَحمْ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا، فقال لَهَا الغُلاَمُ: يا أمَّاهْ، اصبرِي فَإِنَّكَ عَلَى الحَقِّ)) روَاهُ مُسْلَمٌ.
إن قصة أصحاب الأخدود كما وردت في سورة البروج وكما ذكرها النبي حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل، فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها كان يخط بها خطوطًا عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ودور البشر فيها واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع، وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة. إنها قصة فئة آمنت بربها واستعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في حرية الاعتقاد والإيمان بالله العزيز الحميد، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها، ويتلهّون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق. وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تُفتن عن دينها وهي تُحرق بالنار حتى تموت. لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة، فلم يستذلها حبّ البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعًا، وارتفعت على ذواتها.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الكريمة هناك قلوب جاحدة شريرة مجرمة لئيمة، جلس أصحابها على النار، يشهدون كيف يتعذّب المؤمنون ويتألمون، جلسوا يتلهّون بمنظر الحياة تأكلها النار، والبشر يتحولون وقودًا وترابًا، وكلما ألقي فتى أو فتاة صبية أو عجوز طفل أو شيخ من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوسهم، وعربَد السعار المجنون بالدماء والأشلاء.
أيها المسلمون، والتاريخ يتكرّر ولكن بصور أخرى، الحقيقة واحدة والشكل يتغير. إن عقول الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي، فنرى اليهود قد ارتكبوا أبشع الجرائم في فلسطين المسلمة، والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتّموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحًا جديدًا في الشيشان، والآن تمارس الصليبية ما تمارس من أقسى أنواع الوحشية وأشد صور الإجرام في العراق. إنّ كل هؤلاء ظلمة مجرمون وإن اختلف شكل الأخدود.
إن قصة أصحاب الأخدود تتكرّر عبر الزمان في أكثر من مكان، وضحيتها هو هذا الإنسان.
إن نظرة البشر لكل شيء تطوّرت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم، فنرى الجمعيات أنشئت للرفق بالحيوان والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة وتجاهلهم من جهة أخرى؟! الجواب في قول الله تعالى في قصة أصحاب الأخدود: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
حقيقة ينبغي أن يتأمّلها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل؛ إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية، ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية، ولا معركة من أجل البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولا معركة لمحاربة الإرهاب وهم أصحاب الإرهاب، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام.
وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوًا لهم، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة، إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة؛ راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة. فمن واجب المؤمنين أن لا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيّت، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها.
أيها المسلمون، ولنرجع إلى قصة أصحاب الأخدود، ولنطوِ عبرَها كلّها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، تومض من خلال هذا العرض للقصة، تنفعنا هذه العبرة ونحن نواجه اليوم أشد أنواع المكر والكيد من كفار الأرض، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ، وذكرت تلك النهاية المروعة الأليمة لتلك الفئة المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفر التي أضرمت فيها النار، بينما لم يرد خبر في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، لم تذكر الآياتُ عقوبة دنيويّة حلّت بهم، لم تذكر أن الأرض خسفت بهم، ولا أن قارعة من السماءِ نزلت عليهم، انتهت القصّة بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود، والإعراضِ عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تذكر عقوبتهم الدنيويّة ولا الانتقام الأرضي منهم. فلماذا أُغفل مصيرُ الظالمينَ؟! أهكذا ينتهي الأمر؟! أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود، بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة، تذهبُ ناجية؟! هنا تبرز الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ القرآن وأعادت وكررت وأكدت وهي أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه؛ ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية: وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِي لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [البروج:8، 9]. فهذا الذي جرى كلّه جرى في ملكِه ليس بعيدًا عن سطوتِه، وليسَ بعيدًا عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَيء شَهِيدٌ [البروج:9]. فهذا الذي جرى لم يجر في غفلةٍ من الله، ولا في سهو من الله، كلا، ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيد على ذلك، مطلع عليه، إذًا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟ كيف يقترفون ما قارفوا ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟! يأتي الجوابُ: كلا لم يفلتوا، إن مجال الجزاء ليست الأرض وحدَها، وليست الحياة الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقي لم يجئ بعد، وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة، أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقيةُ والجزاء الحقيقي فهناك: إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:10]، هؤلاء الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيُحرقون، ولكن أين؟ في جهنم، نعم في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة، وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق في شدته وفي مدته، أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق؟! أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟! أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟! أين حريق الدنيا باستخدام الصواريخ الملتهبة والقنابل الذكية وحريق نار جهنم الذي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة؟! هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه، وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة، أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينة على الله جل وعلا، مر النبيُ وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم تلقى عليها النفايات والفضلات والجيف، فإذا بالرسول ينفردُ عن أصحابه ويتّجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوّهِ الخلقةِ قد مات، مشوّه الخلقة، صغير الأذن، قد انكمشت أذنه، فأمسك النبيُ بهذا التيس الميت فرفعه، ثم أقام مزادًا علنيًّا ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطبًا أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم؟)) : من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟ وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة شرائية، ولذا ألقيت مع الفضلات، قالوا: يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حيًا لما ساوى درهمًا لأنه مشوه، فكيف وهو ميت؟! لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟! فألقاهُ النبي ، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).
إن الدنيا هينة على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفة التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. وإذا كانتِ الدنيا هينة على اللهِ هذا الهوان فإن اللهَ جل جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه، وأيضًا لم يجعل العذاب فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه، كلا، إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين، قال الله تعالى: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?بًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزّل على رسول الله تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقيّ والعقوبةَ الحقيقيةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبّرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25، 26]، وقال الله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ?للَّهُ شَهِيدٌ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان ليست هي الغاية، وليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرّر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة. إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة، وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصارًا يشرّف الجنس البشري كلّه في جميع الأعصار، وهذا هو الانتصار.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعًا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحرّرون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يَقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟ إنه معنى كريم جدًا، ومعنى كبير جدًا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في هذه الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار.
إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهوّن عليها كل عسير، ويذلِّل لها كلَّ صعب وخطير، فتصبح الآلام راحة والعذاب نعيما والبكاء فرحا. ولقد رأيت ـ يا أخي الحبيب ـ في هذا الحدث العظيم كيف يصنع الإيمان الرجال وإن كانوا صغارًا في السن، وربما ازدرتهم الأعين أو استقلّتهم النفوس، لكن الإيمان يسمو بهم، فيصنعون ما لا يصنعه الرجال.
غلام صغير يبتلَى ويؤذى ويعرَّض للقتل مرارًا، بل يُذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يُزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفد ما لديه من ذلك جاد بأغلى ما يملك، جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد.
أيها المسلمون، هكذا سجّل هذا الغلام أعظم تضحية عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله، ولكي يُعبد الله وحده لا شريك له، فيموت كما يموت الشهداء، فلا يجد من ألم الطعنة إلا كما يجد أحدنا من القرصة، ويأتي يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك.
واليوم نشاهد أطفال الحجارة في فلسطين، وهم أطفال في أجسامهم، لكنهم أبطالٌ في أفعالهم، رجال في مواقفهم، فقد تربّوا على مائدة القرآن، يجاهدون في سبيل الله، لا يهابون طلقات القذائف، بل يتصدون لها بصدورهم وقلوبهم، إنها هِمَمُ رجال ترفض المهانة والذل. هؤلاء الأطفال اعتُقِل آباؤهم، وهُدّمت بيوتهم وهم يشهدون ذلك بناظريهم، إن هذا الطفل لا يملك سوى حجر، لكنه يرى نفسه شامخًا يتحدى دبابة الاحتلال دون خوفٍ أو وجل. والأمهات يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت والشهادة. صَبر هذا الشعب طويلاً وقدّم تضحياتٍ جسيمة، ودماؤه تُراق على أرض فلسطين، وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال وقتّلوا الأبرياء وحفروا الأخاديد ونقضوا العهود والمواثيق.
إن طفل الحجارة اليوم يريد أن يحقّق ما جاء في سورة الإسراء من وعد بالنصر حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله.
أيها المسلمون، لقد سجل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام ذلك الصلف اليهودي الذي أقدم وما يزال على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية. لماذا يُحجم العالم الذي يزعم أنه متحضر عن ردع المعتدي والأخذِ على يديه؟! أين المعاهدات؟! أين المواثيق التي تنص على ضمان السلام والتقليل من الإجرام؟! أين الأخذ على يد المعتدي ونصرة المظلوم؟! أين دعاة السلام والداعون له؟! أين المنظّرون لثقافته؟! أين محاربة الإرهاب في العالم وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تُخرب الديار وتحرق القلوب والأجساد، أجساد الشيوخ الركع والأطفال الرضع؟! إن هذه الدماء لن تثمر بإذن الله إلا نفوسًا أبيّة لن ترضى الدنيّة في دينها، ولتسقط تلك الدعاوى الساقطة، ولتنكسر تلك الأقلام الهزيلة التي ما زالت تُزيّن السلام غير العادل بزينة كالحة.
اللهم دمّر اليهود الغاصبين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم إن اليهود والنصارى طغوا وبغوا وأسرفوا في طغيانهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وصب العذاب عليهم من فوقهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم اجعلهم حصيدًا خامدين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم...
(1/4566)
الثوابت وتجديد الخطاب الديني
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/10/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خاصية الإسلام. 2- من ثوابت الإسلام. 3- مصطلح التغيير والتطور والتقدم. 4- الطعن من الداخل. 5- التشكيك في الثوابت. 6- السخرية والاستهزاء ببعض الشعائر. 7- موقف الإسلام من التطور. 8- مفهوم السماحة والحوار والانفتاح. 9- عبارة: تجديد الخطاب الديني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعنصر المرونة، وهذا من واقع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان. لكن هناك ثوابت لا تقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة ولا التغيير، ولا يمكن أن يقول بتغيير هذه الثوابت عالم معتبر.
فمن ذلك على سبيل المثال مسائل الإيمان والعقائد، فصفات الله سبحانه وتعالى والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر وغير ذلك من مسائل الغيب لا تقبل الإضافة مطلقًا، وكذلك الصلوات من فرائض ونوافل لا تجوز الزيادة فيها على المشروع، فلا جديد على الصلاة والصوم والزكاة والحج.
ومن الثوابت أن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات، ولا يقبل الله من الناس غيره، فمن مات على غير الإسلام فهو من أهل النار، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ومن الثوابت إقامة العدل ومنع الظلم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
ومن الثوابت شمولية الإسلام، فهو نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا لقوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]. فلا فصل بين الدين والعلم، ولا فصل بين الدين والسياسة، كما أنه لا فصل بين الدين والاقتصاد.
ومن الثوابت في حياة الأمة المحرمات اليقينية من السحر وقتل النفس والزنا وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات والسرقة والغيبة والنميمة والكذب وغيرها.
ومن الثوابت أمهات الفضائل من الصدق والأمانة والعفة والصبر والوفاء بالعهد والحياء والكرم والمروءة.
ومن الثواب أن الإسلام قد حرص على إقامة مجتمع العفاف والطهر، وقضى على انحرافات الجاهلية، فمنع الاختلاط ودواعيه، وحرّم الخلوة بالمرأة الأجنبيّة ومصافحتها، وحثّ على غض البصر، وأمر بلباس شرعي ساتر للمسلمة.
ومن الثوابت الأحكام القطعية في شؤون الأسرة والمجتمع التي ثبتت بالنصوص المحكمة، مثل إباحة الطلاق وتعدّد الزوجات وإيجاب النفقة على الزوج وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، فلا يسوغ لأحد تقييد الطلاق وتقييد تعدّد الزوجات والدعوة إلى الاختلاط وترك الحجاب بحجة تحرير المرأة والتمدّن والتحضّر والاستنارة. فهذه ثوابت في ديننا لا تقبل المناقشة.
ومن الثوابت أن الرجل والمرأة في ميزان الإسلام جناحان لا تقوم الحياة ولا ترقى إلا في ظل عملية مواءَمة بينهما، فالله خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. المرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليها القيام بالتكاليف الشرعية، فلها أن تتعلم ما ينفعها من علوم الدنيا والآخرة.
ومن الثوابت أن الخالق جل وعلا زوّد كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتوافق والمهمة التي يقومان بها، وجعل فروقًا بينهما، فالمرأة تختلف عن تكوين الرجل في بنائها الجسمي وتكوينها الجسدي، ومما تتميز به خصائص الأنوثة، سرعة الاستجابة، رقة العاطفة، غلبة الحياء، كثرة الخجل، قلة التحمل، والظروف الطارئة الطبيعية، اقتضت حكمة العليم الخبير ذلك، لتؤدّي دورها المرسوم في الحياة بما يتلاءم مع فطرتها، والزجّ بها في الميادين الخاصة بالرجل انتكاسة للفطرة ومصادَمة للواقع خِلقةً وحكمًا وشرعًا.
عنصر الثبات يتجلّى في رفض المجتمع المسلم للعقائد والمبادئ والأفكار والقيم والشعارات التي تقوم عليها المجتمعات الأخرى غير المسلمة؛ لأن مصدرها غير مصدره، ووجهتها غير وجهته، وسبيلها غير صراطه، ولذلك حرص رسول الله على تميّز المسلمين في كل شؤونهم عن مخالفيهم، فتميّز المجتمع المسلم أمر مقصود للشارع.
ومن الثوابت أن الإسلام لا يمكن تجزئته، فلا بد أن يؤخذ كله كما أمر الله، عقيدةً وعبادة، أخلاقًا ومعاملةً، تشريعًا وتوجيهًا. الإسلام ليس مجرد عقيدة بلا عبادة وعمل، وليس عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقًا بلا تعبد، وليس عقيدة وعبادة وأخلاقًا بلا تشريع ونظام يسود الحياة.
ثوابت المسلمين ذات قرار مكين، مستمدة من توجيهات الإسلام وهي صمام الأمان لهم، تقيهم من الضياع والانفلات، وتصل بهم إلى بر الأمان.
نتحدث عن الثوابت في حياة الأمة لأننا في عصر حفل بألوان من العلوم والمعارف راجت فيه مفاهيم متنوعة وتصورات مختلفة، عصرٌ يموج بالأحداث الجسام والأطروحات المستجدة، وبرز التأثير فاعلاً، فقد التقى العالم مشرقه بغربه، وجنوبه بشماله، ولا يكاد يمر يوم ولا تمر ساعة بل ولا تمر لحظة لا يُذكر فيها لفظ التغيير والتقدم والتطور من أقصى الأرض إلى أقصاها الآخر، وغدت قضية التطوير القضية الكبرى في حياة المسلمين.
وظهر على الساحة مع كل أسف من يتكلم باسم العلم والعلماء، صاروا يشككون الناس في ثوابت هي مستقرة عندهم، كانوا لا يقبلون فيها صرفًا ولا عدلاً. وشأن من ينتسب للعلم قد يهون عند صحفيين وقصّاص الجرائد والمجلات وممثّلين عبر الشاشات والفضائيات، صاروا هم المفتين في هذا الزمان.
ما بالنا نواجه هذه الأيام سيلاً من الكتابات والمقالات لأناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، صاروا يطعنون في ثوابت ديننا؟! حتى أحيانًا تتساءل عن هؤلاء الكتّاب: هل هم أقلام مستأجرة، أم أذناب للغرب، أم هم علمانيون لهم أهداف سيئة، أم قد يجتمع في بعضهم كل هذا وغيره؟! بل أحيانًا تتساءل: هل هؤلاء الكتّاب مسلمون أصلاً يؤمنون بنصوص الكتاب والسنة، مع أنهم يلبسون الزيّ الرسمي لأهل البلد حين توضع صورهم في زوايا مقالاتهم؟! لكن ما يصدر من أقوالهم العفنة وعقولهم الخربة عبارة عن كلام سيئ بعيد كل البعد عن المظهر الخارجي الذي يظهرون فيه على صفحات الجرائد والمجلات.
لقد أصبح التشكيك والتشويه الآن في كل شيء؛ في حجاب المرأة، وأصبحت تقرأ السخرية بالعلماء ورجال الدعوة وأهل الخير والصلاح، وتقرأ مقالات تشكّك بالسنة النبوية، وأصبح هؤلاء القصاص يصحّحون ويضعفون، وكأن صاحب المقال إمام من أئمة الحديث كأبي زرعة وابن حجر أو غيرهم، وصار التشكيك في مسائل أجمع عليها أهل العلم. أما الجهاد في سبيل الله فقد لقي حظًا كبيرًا من الطعن والتشويه، مع أنه باق إلى قيام الساعة، فما دام هناك كفر وإيمان في الأرض وحق وباطل فالجهاد باق.
متى كنا نتصور أن نقرأ بعض عبارات الردة من بعض الجرائد؟! كان هذا الأمر بعيد جدًا، واليوم تشم رائحة الردة في بعض المقالات. أما الكذب والتشهير والإثارة على حساب الثوابت والمسلَّمات فحدث ولا حرج. بل قد وصل الأمر إلى عرض مسلسلات تُعرض على الناس على أنها برامج اجتماعية هادفة لحل بعض القضايا والمشاكل، لكنه في حقيقة الأمر طعن في مسلَّمات وثوابت الدين، بل سخرية من قضايا قررها الشارع، مثل المحرَم بالنسبة للمرأة، والسخرية بمدرِّسي العلوم الشرعية، بل الاستهزاء والسخرية بعادات وتقاليد العديد من المناطق ممن هم في إطار جغرافي واحد. وجعلوا مقابر المسلمين موضعًا للتمثيل والتصوير، فتسأل وتقول: أين حرمة المسلم الميت الذي هو من ثوابت ديننا؟!
عجيب أمر هؤلاء! والأعجب من يظن أن التقدم والتطور بهذه الطريقة؛ الطعن في المسلَّمات والثوابت. إن هذه الفئة المتصدرة لمنابر الإعلام في هذا الوقت ممن يسمّون أنفسهم بالتنويريّين هم أخطر شريحة على المجتمع، بل خطرهم ربما يفوق خطر اليهود والنصارى، والمجتمع اليوم يمر بأمواج متلاطمة من الأفكار والآراء المصادمة لثوابت ومسلمات عندنا، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
وبين فترة وأخرى نفاجأ ببرامج وأطروحات أصبحت تمرَّر على الناس والناس يتقبلونها دون علم أو وعي، فمثلاً قضية الرأي والرأي الآخر، الذي صار يقدَّم للناس في برامج وحلقات عبر الفضائيات أو الإذاعة أحيانًا، هل تعلمون ماذا تعني هذه العبارة؟ وهل كل شيء يقبل فيه الرأي الآخر؟ فإذا كان معي إيمان فالرأي الآخر هو الكفر، وإذا كنت على السنة فالرأي الآخر هو البدعة. فالرأي الآخر في كثير من القضايا لا يمكن أن يقبل خصوصًا في الثوابت والمسلَّمات والأصول. فهم بهذه الطريقة يريدون أن يصلوا بالمجتمع أن يقبل كل شيء وإن كان يتعارض مع أصول الاعتقاد والمبادئ.
إن الإسلام ـ يا عباد الله ـ لا يمكن أن يقف ضد التطوّر النافع السائر في إطار الشريعة، ولهذا لا عجب أن تجد الإسلام يحث على العلم النافع والعمل والحركة، لا عجب أن نجد كتاب الإسلام الخالد يحدثنا في قصة آدم عليه السلام عن العلم، وفي قصة نوح عن صناعة السفن، وفي قصة داود عن إلانة الحديد، يحدثنا عن التخطيط الاقتصادي في قصة يوسف، وعن صناعة السدود في قصة ذي القرنين، ويقرّ الرسول نتائج الملاحظة والتجربة في شؤون الحياة كما في مسألة تأبير النخل فيقول: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)).
هذا هو الإسلام، لا يعوق سيرَ الحياة، ولا يؤخر نموها، بل فيه الدافع الذي يحفز على السعي والحركة مع الضمان أن تضل أو تنحرف عن الطريق.
إن التحديث الحق والتطوّر النافع هو السعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه رسول الله ، يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدين، يكون ذلك بإحياء مناهج في فهم النصوص وبيان معانيها، يكون ذلك بإحياء مناهج في تدوين العلوم والتعلم واقتباس النافع الصالح من كل حضارة وتنقية المجتمع من شوائبها.
إن مما أرهق المسلمين وأساء إلى الإسلام هو الانحراف مع دعوى التطوير في ثوابت الدين وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة لو استجابت لها إلى الانسلاخ من العقيدة والتحلل من الأخلاق والذوبان في الثقافات البشرية الأخرى.
والأدهى ـ عباد الله ـ أن يُنظر إلى ما له صلة بالدين وهدي المرسلين أنه رجعي قديم يجب التحلل منه لمسايرة ركب الحضارة زعموا. إن من رجع بأفكاره وعقيدته إلى الجيل الأول لا يُعد رجعيًا، بل هو مسلم صادق يطلب الطهر والعفاف، وهنا تتبين مسألة شرعية أن رَمي المسلمين بالرجعية لأنهم تمسكوا بشريعة رب العالمين ردّة عن الإسلام.
إذا كان التقدم والتطور والتغير على زعمهم نبذ الخلق والفضيلة وتسهيل مسلك الرذيلة فبئست هذه التقدمية، فليس كل تقدم محمودًا. والتقدم نحو السلب والنهب والعري والخمر والفسق والفجور، التقدم لنبذ الفضيلة وارتكاب الرذيلة لا يُعد محمودًا، التقدم نحو تهييج الشهوات وإثارة الأهواء وتقوية النفس الأمارة بالسوء تقدم نحو الدمار والهلاك.
من الأمور المنكرة ـ عباد الله ـ تحت مظلة التقدم والتطور والتنوير تبرير قِيَم غير المسلمين باسم سماحة الإسلام وتطوير الإسلام وانفتاحه أو تطوير الشريعة الإسلامية، ولا ريب أن باب الاجتهاد مفتوح للعلماء المجتهدين الربانيين فحسب، إلا أن هناك قواعد كلية لا يجوز الاجتهاد فيها، وأصولاً ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
إن قيمنا الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة هي الضمان الأوحد لإعداد جيل المستقبل، وإن البعد عن الصراط المستقيم تنكُّب للطريق، حتى لو قلنا: إنه مسايرة لطبيعة العصر الحديث. هناك فرق شاسع في المفهوم الانفتاحي على الآخرين وتبعية الأمة، ذلك أن عزة الأمة تأبى التبعية كي لا تذوب في المجتمعات الأخرى وتتبع أهواءها، ولا تقلدها ولا تتشبه بها، فتفقد بذلك أصالتها وشخصيتها المتميزة، فيضيع الدين والدنيا معًا.
أليس قد أنيط بهذه الأمة مهمة إنقاذ البشرية من سُعار الحضارة المادية؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا أصابها هي من شررها وشرورها ما أصاب الآخرين من أدواء المادية والإباحية. أليست هذه الأمة مطالبةً بأن تقدم البديل للحضارة المعاصرة؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا هي قلدت غيرها، واتخذتها مثلَها الأعلى، واتبعت سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
أي نمو وتقدم للمجتمعات المسلمة يُعدّ محمودًا إذا كان يحقق الأهداف الأساسية لحياة المسلم، وأبرزها العبادة لله رب العالمين، خلافة الله في الأرض، عمارة الأرض. وبقدر ما يحقق الإنسان هذه المقاصد أو الأهداف يُعد تقدمه حقًا ونافعًا، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ ?لدَّوَابّ عِندَ ?للَّهِ ?لصُّمُّ ?لْبُكْمُ ?لَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ?للَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [الأنفال:20-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومما يتردد على ألسنة البعض وكتابات البعض الآخر عبارة "تجديد الخطاب الديني"، هل تعلمون متى ظهرت هذه العبارة؟ وماذا تعني؟ وما هو المقصود منها؟
لقد ظهرت هذه العبارة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل: إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجةً لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوج.
وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدَّعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية وحتى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام دينًا وفكرًا، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثّلت في إصدار التوجيهات هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية والشرعية، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى دنيوي جديد عليها ليحل محل المحتوى الديني السابق.
وتزامن مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج للإسلام الإصلاحي، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت الإسلام العصري العلماني، وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب، بل بدأت الحكومة التركية ومعها دوائر أمريكية تروج بالفعل لنقل هذه التجربة العلمانية المغرقة في العداء للإسلام لتطبّق في أفغانستان مثلاً أو حتى باكستان باعتبارها نموذجًا للإسلام الإصلاحي أو المعتدل أو العصري، ثم يتم تعميمه بعد ذلك على بقية الدول. بل وصل الأمر في هذا الصدد أن أخذت دوائر سياسية أوروبية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها تطرح تصورًا يقول بأن عناصر من ذوي الأصول الإسلامية الذين هاجروا إلى الغرب واندمجوا وذابوا في مجتمعاته وتشربوا مجمل القيم والأفكار والتصورات الغربية هم الأجدر بأن يصبحوا من خلال ممارساتهم وكتاباتهم النموذج الذي يجب أن ينقل إلى البلاد الإسلامية ليُحتذى ويُقلّد، وأنهم بذلك الأجدر بنقل الشعوب الإسلامية من التخلف إلى الحداثة وروح العصر؛ ولذا ينبغي الحذر من كتاب خريجي الولايات المتحدة وأوربا إذا صاروا يتحدثون في قضايا شرعية.
واتخذت المسألة أبعادًا أقرب إلى الهزل واللامعقول عندما بدأت بالفعل عناصر من أشخاص ذوي أصول إسلامية ـ لكنهم تغربوا بالكامل وتعلمنوا ـ تفد إلى البلاد الإسلامية أو ترسل بكتاباتها وأفكارها إلى المنابر الإعلامية والثقافية وحتى الدينية باعتبارها النموذج الأسمى للاجتهاد الإسلامي العصري.
وفي تطور موازٍ أخذ الإعلام الغربي يكتشف أن هناك داخل وخارج البلدان الإسلامية مفكرين وكُتَّابًا هم كذلك أصحاب باعٍ في تطوير وإصلاح وتجديد وتغيير وعصرنة وتحديث الإسلام، وأنه يجب على الدول الغربية أن تشجعهم وترفع من شأنهم بالتلميع الإعلامي والدعم المالي والسياسي حتى يمكن فرض أفكارهم بدورهم على الأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية في البلاد الإسلامية. ومن المخزي أن هذه الخدعة الكبرى تمرر تحت شعارات جذابة براقة مثل الاجتهاد والتجديد والاستنارة وما أشبه، وينجرف وراءها الآن نفر من العلماء والرؤساء الدينيين المعينين إما جهلاً أو عمدًا في سعي وراء مكاسب دنيوية معروفة، غير أن هذه التحركات الغربية التي أشرنا إليها تعاني من ضعف قاتل يشل فاعليتها ويطعن في مصداقيتها والحمد لله، فمن الشذوذ البالغ أن يجد الناس أن من يتولى كبر الدعوة إلى إصلاح وتصحيح الإسلام والاجتهاد فيه عناصر أجهزة الاستخبارات والأمن الغربية ودوائر السياسة والإعلام والكنائس هناك، ولا يقل عن ذلك شذوذًا أن يجد الناس في بلدان المسلمين وبشكل مفاجئ أن غلاة العلمانيين واللادينيين والمتغربين في وسطهم ممن لم يعهد عنهم في يوم من الأيام أدنى اهتمام أو شغل بالهم والفكر الإسلامي إلا من حيث الهجوم الدائب على الإسلام هم الآن الأعلى صوتًا والأكثر نشاطًا في الدعوة إلى ما يوصف بأنه الاجتهاد الفكري وحتى الفقهي والإصلاح الديني.
فنسأل الله جل وتعالى أن يفضح أمرهم...
(1/4567)
رحلة الآخرة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/5/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحلة روح المؤمن إلى الدار الآخرة. 2- رحلة روح الفاجر إلى الدار الآخرة. 3- الحياة البرزخية. 4- البعث والنشور. 5- الحساب. 6- الصراط. 7- الجنة والنار. 8- حقيقة الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنه إذا بلغ الأجل الذي قدّر لكلّ عبد واستوفاه جاءَته رسل ربه عز وجل ينقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، فجلسوا منه مدَّ البصر، ثم دنا منه الملك الموكّل بقبض الأرواح، فاستدعى الروح، فإن كانت روحًا طيبة قال: اخرجي أيّتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيِّب، اخرُجي حميدة، والبشرى بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، فتخرج من بدنه كما تخرج القطرة من في السقاء، فإذا أخذها لم يدعها الرسول في يديه طرفة عين، فيحنّطونها ويكفّنونها بحنوط وكفن من الجنة، ثم يصلون عليها، ويوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض، ثم يُصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين، فينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيُستأذن لها فيُفتح لها أبواب السماء، ويُصلي عليها ملائكتها، ويشيّعها مقرَّبوها إلى السماء الثانية، فيُفعل بها كذلك، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل، فتُحيّى ربها تبارك وتعالى بتحية الربوبية: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام"، فإن شاء أذن لها بالسجود، ثم يخرج لها التوقيع بالجنة فيقول الرب جل جلاله: "اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى"، ثم ترجع روحه إلى الأرض، فتشهد غسله وتكفينه وحمله وتجهيزه، ويقول: قدموني قدموني، فإذا وضع في لحده وتولّى عنه أصحابه دخلت الروح معه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم على الأرض، فأتاه حينئذ فتّانا القبر، فيجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمّد ، فيصدقانه ويبشرانه بأن هذا الذي عاش عليه ومات عليه وعليه يبعث، ثم يفسح له في قبره مدّ بصره، ويفرش له خضرًا، ويقيّض له شابّ حسن الوجه والرائحة، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى النار، ويقول: انظر ما صرَف الله عنك، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويقول: انظر ما أعدّ الله لك، فيراهما جميعًا.
وأما النفس الفاجرة فبالضدّ من ذلك كلّه، إذا أذنت بالرحيل نزل عليها ملائكة سود الوجوه، معهم حنوط من نار وكفن من نار، فجلسوا منها مد البصر، ثم دنا الملك الموكّل بقبض النفوس، فاستدعى بها وقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فتطاير في بدنه، فيجتذبها من أعماق البدن، فتنقطع معها العروق والعصب كما ينتزع الشوك من الصوف، فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين، ويوجد لها كأنتن رائحة جيفة على وجه الأرض، فتحنط بذلك الحنوط، وتلف في ذلك الكفن، ويلعنها كل ملك بين السماء والأرض، ثم يصعد بها إلى السماء فيُستفتح لها، فلا يُفتح لها أبواب السماء، ثم يجيء النداء من رب العالمين: اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فتطرح روحه طرحًا، فتشهد تجهيزه وتكفينه وحمله، وتقول وهي على السرير: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟! فإذا وضع في اللحد أعيدت إليه، وجاء الملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه، فيتلجلج ويقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ولا دريت، ثم يضربانه ضربة، يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يفرش له نار، ويفتح له باب إلى الجنة فيقال: انظر إلى ما صرَف الله عنك، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، فيراهما جميعًا، ثم يقيّض له أعمى وأصم وأبكم، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك السيئ.
ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويعذب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختصّ كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار، وتسجر بطون أكلة أموال اليتامى بالنار، ويُلقم أكلة الربا بالحجارة ويسبحون في أنهار الدم كما كانوا يسبحون في الكسب الخبيث في الدنيا، وترضّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينيه إلى قفاه كما شقت كلمته النواحي، ويعلق النساء الزواني بثديهن، ويحبس الزناة والزواني في التنور المحمي عليه، فيعذب محل المعصية منهم، وما هو إلا سافل، وتسلّط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانية على النفوس البطالة التي كانت مشغوفة باللهو واللعب والبطالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما تصنع الهوام والديدان في لحومهم حتى يأذن الله تعالى بانقضاء أجل العالم وطي الدنيا، فتمطر الأرض مطرًا أربعين صباحًا، فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب، فإذا تكاملت الأجنة وكان وقت الولادة أمر الله سبحانه إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث، فتشققت الأرض عنهم فإذا هم قيام ينظرون، يقول المؤمن: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، ويقول الكافر: يَا وَيلنا من بعَثَنا من مرقدِنا؟! هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]. فيساقون إلى المحشر حفاةً عراةً غرلاً بُهمًا، مع كل نفس سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها، وهم بين مسرورٍ ومثبورٍ، وضاحكٍ وباكٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:38-41]، حتى إذا تكاملت عُدّتُهم وصاروا جميعًا على وجه الأرض تشققت السماء وانتثرت الكواكب ونزلت ملائكة السماء فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كل سماء كذلك، فبينما هم كذلك إذ جاء الله رب العالمين لفصل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميّز المجرمون مِن المؤمنين، ونُصب الميزان، وأحضر الديوان، واستُدعي الشهود، وشهدت يومئذ الأيدي والألسن والأرجل والجلود، ولا تزال الخصومة بين يدي الله سبحانه حتى يختصم الروح والجسد، فيقول الجسد: إنما كنتُ ميّتًا لا أعقل ولا أسمع ولا أبصر، وأنتِ كنتِ السميعة المبصرة العاقلة، وكنتِ تصرِّفينني حيث أردتِ، فتقول الروح: وأنتَ الذي فعلتَ وباشرتَ المعصية وبطشت، فيرسل الله سبحانه إليهما ملكًا يحكم بينهما فيقول: مثَلكما مَثل بصير مقعد وأعمى صحيح، دخلا بستانًا. فقال المُقعد: أنا أرى الثمار ولا أستطيع أن أقوم إليها، وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أرى شيئًا، فقال له المقعد: احمِلني حتى أتناول لي ولك، ففعلا، فعلى من تكون العقوبة؟ فيقولان: عليهما، فيقول: فكذلك أنتما.
فيحكم الله سبحانه بين عباده بحكمه الذي يحمَده عليه جميع أهل السماوات والأرض، وكل برّ وفاجر، ومؤمن وكافر، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [النحل:111]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]. ثم ينادي مناد: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم، وأهل الصليب مع صليبهم، وكل مشرك مع إلهه الذي كان يعبد، لا يستطيع التخلّف عنه، فيتساقطون في النار، ويبقى الموحّدون، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوجَ ما كنّا إليهم، وإنّ لنا ربًّا ننتظره، فيقال: وهل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، إنه لا مثلَ له، فيتجلى لهم سبحانه في غير الصورة التي يعرفونه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيتجلّى لهم في صورته التي رئيَ فيها أوّلَ مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرّون لله سجدًا، إلا من كان لا يصلّي في الدنيا أو كان يصلّي رياء، فإنه يحال بينه وبين السجود. ثم ينطلق سبحانه ويتّبعونه، ويضرب الجسر ويساق الخلق إليه وهو دحض مزلّة مظلم، لا يمكن عبوره إلا بنور، فإذا انتهوا إليه قسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا، فنور كالشمس، ونور كالنّجم، ونور كالسراج في قوّته وضعفه. وترسل الأمانة والرحم على جنبتي الصراط، فلا يجوزه خائن ولا قاطع، ويختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا، فمار كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، وساعٍ، وماشٍ، وزاحفٍ، وحابٍ حبوًا. وينصب على جنبيه كلاليب لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تعوق من علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومرضاته وعبوديته، فناجٍ مسلَّم، ومخدوشٍ مسلَّم، ومقطّع بتلك الكلاليب، ومكدوس في النار، وقد طُفئ نور المنافقين على الجسر أحوج ما كانوا إليه كما طُفئ في الدنيا من قلوبهم، وأعطوا دون الكفار نورًا في الظاهر كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن، فيقولون للمؤمنين: قِفوا لنا نقتبس من نوركم ما نجوز به، فيقول لهم المؤمنون والملائكة: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا. قيل: المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فخذوا من الإيمان نورًا تجوزون به كما فعل المؤمنون، وقيل: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار، فالتمسوا هناك نورًا تجوزون به. ثم ضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي يليهم من قِبَله العذاب، ينادونهم: ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا، مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير.
فإذا جاوز المؤمنون الصراط ـ ولا يجوزه إلا مؤمن ـ أمِنوا من دخول النار، فيُحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في دار الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا أُذن لهم في دخول الجنة.
فإذا استقرّ أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أُتي بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة، فيطّلعون وجِلِين، ثم يقال: يا أهل النار، فيطّلعون مستبشِرين، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد عرفه، فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار. ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت.
فهذا آخر أحوال هذه النطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوال وأطباق، تقدير العزيز العليم، تنقل الإنسان فيها وركوبه لها طبقًا بعد طبق حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة، قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس:17-23].
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى، وأن لا يجعلنا من الذين غلبت عليهم الشقاوة فخسروا في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا بأن أجسامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الدنيا دار بلاء وابتلاء وامتحان واختبار، لذلك قدّر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت صغيرها وكبيرها.
هذه الدنيا قد يُؤذى مؤمنوها، وقد يُسوَّد منافقوها، مُزجت أفراحها بآلام، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها قرار ولا يدوم لكل شخص حال، الفقير قد يَغنى، والضعيف قد يقوى، والمطارد قد يستوطن، والمُضيّق عليه قد يأتيه سعة رب العالمين، والمتوسِّع في كل شيء ما هي إلا لحظات إلا وضمّة القبر تحتضنه.
فاتقوا الله عباد الله، واتعظوا بماضيكم وحاضركم، فكم من ملوك وجبابرة فتحوا البلاد وسادوا العباد وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبرًا بعد عين، وأثرًا بعد ذات. وإلاّ فأين عاد وثمود وفرعون ذو الأوتاد؟! أين الأكاسرة؟! وأين القياصرة؟! ثم أين الجبابرة؟! السعيد من وعِظ بغيره، والسعيد من استدرك قبل أن يحلّ به الأجل.
قال بعضهم: دخلنا على عطاء السلمي نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: "الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي". ودخل المزني على الإمام الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: "أصبحت عن الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى ربي سبحانه واردا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنّيها، أو إلى النار فأعزيها". قال بعض الحكماء: "ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يَرؤُس".
فمن عامل الدنيا خسر، ومن حَمل في صفّ طلبها كُسِر، وإن خلاص مُحبها منها عَسر، وكل عاشقيها قد قُيّد وأسر، قال الله تعالى: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صل على محمد...
(1/4568)
الناس كالإبل المائة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب, حقيقة الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/4/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح ميسر للحديث. 2- تطبيقات للحديث في واقعنا المعاصر. 3- ثمرات الاستقامة. 4- الوصية بالتوبة والرجوع إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)) ، ورواه أيضًا الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم.
أيها المسلمون، لقد أعطى الله تبارك وتعالى رسوله محمدًا آيات دالات على صدق نبوته، ومن هذه الآيات أنه عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم كما صح عند مسلم وغيره أن رسول الله قال: ((أعطيت جوامع الكلم)) ، وهو أن يقول الكلمة أو الكلمات القليلات التي تحتوي معاني عظيمة جليلة وفوائد كثيرة متنوعة.
واليوم نقف مع هذا الحديث العظيم الذي هو من جوامع كلمه : ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
يصف النبي في هذا الحديث العظيم حال الناس في الفضل والكمال والاتصاف بالصفات الحسنة، فيبين عليه الصلاة والسلام أن أكثر الناس أهل نقص، أكثر الناس فيهم قصور، معظم الناس لا يحوزون الفضل والسبق فيما يتصفون به من صفات وما يقومون به من أعمال، وأهل الفضل عددهم قليل جدًا، والرسول هنا في هذا الحديث يشبه الناس بمائة من الإبل يبحث فيها صاحبها عن واحد ليتخذه للركوب، وهي الراحلة، فيكاد أن لا يجد، فالمعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس رجلا سهلا وطيئا ينفع الناس. ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)). فاسأل نفسك يا عبد الله: هل أنت هذه الراحلة من بين المائة من الناس؟ قال ابن بطال رحمه الله: "معنى الحديث أن الناس كثيرٌ، والمرضيّ منهم قليلٌ".
أيها المسلمون، ولهذا الحديث تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية، يمكن تنزيله على كثير من أحوالنا وتعاملاتنا ليتضح لنا شيء من معنى هذا الحديث، لنستفيد من عبره وفوائده:
خذ مثلاً حال كثير من المسلمين في استقامتهم على دينهم والتزامهم بأمر الله وطاعة رسوله، تجد أنهم كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة؛ فكم من المسلمين اليوم قام بحق لا إله إلا الله، هذه الكلمة التي يقولها المسلم في يومه وليلته عدة مرات، وكم من المسلمين اليوم الذين نقضوا هذه الكلمة بأفعال شركية تناقض أصل هذه الكلمة وتنقضها من أصلها، فلا يبقى لها أثر إلا تمتمات وهمهمات تخرج من بين الشفاه لا تفيد صاحبها شيئًا، وقد اجتثت من أصلها بدعاء أموات لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، وطواف حول قبور أناس يزعمونهم من الأولياء، ولو كانوا كذلك أيضًا لم يجز الطواف حول قبورهم وذبح القرابين لهم ووضع النذور لهم، وغير ذلك من مظاهر الشرك التي انتشرت في كثير من بلاد المسلمين. نسأل الله أن يصلح أحوالهم.
وإذا تأملت بعد ذلك حال المسلمين اليوم في هذا الوصف النبوي من البعد عن البدع وتطبيق السنة والمحافظة عليها وجدتهم كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة. تأمل ـ يا عبد الله ـ حال السنة اليوم كيف ذُبحت وهُجرت، وحلّ محلها كثير من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حجة لأصحابها إلا أنهم وجدوا من قبلهم يفعلها، ففعلوا مثلهم، وتلك حجة داحضة قد رد الله على المشركين مثلها، عندما احتجوا على شركهم بما وجدوا عليه آباءهم، فقال لهم: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170]. فهذه إذًا حجة غير مقبولة عند الله، فلينظر المؤمن لنفسه حجة يلقى الله بها يوم القيامة على ما يقول ويعمل.
أيها المسلمون، إن الناس اليوم في تطبيق السنة كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة، أقوام قد ألفوا البدع وتربوا عليها، إذا أنكر عليهم منكر ونصحهم ناصح أبغضوه، وبأنواع التهم رموه، كل ذلك أنه خالفهم فيما ألفوه، يرون البدعة سنة والسنة بدعة، قائدهم الهوى ودليلهم على غير هدى، يحبون من وافقهم على ما هم فيه ولو كان فيه ما فيه، ويبغضون من خالفهم وأنكر عليهم ولو كان إمامًا من الأئمة. لقد نطق رسولنا بالوحي عندما قال: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
أيها المسلمون، ثم تأملوا حال كثير من المسلمين اليوم في أخوّتهم ومودّتهم وصداقتهم لبعضهم البعض، تجدهم في صدق الأخوة كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة، فكم من إنسان نزلت به نازلة وحلت به ضائقة فإذا فكر وفكر فيمن يُنْزِلُ به هذه الضائقة من إخوانه ليكون له عونًا وسندًا بعد الله ويعينه على فك ضائقته لم يجد أحدًا من إخوانه يفك له على كثرتهم وسعة ما بسط لهم في رزقهم. أين الأخ الصديق الذي لا يبخل على أخيه بشيء؟! مثل هذا لا يكاد أن يكون موجودًا اليوم إلا ما رحم ربي. لقد أصبحنا اليوم نعيش وضعًا أشبه ما يكون بحال الناس يوم القيامة، كل يقول: نفسي نفسي. أنانية مفرطة، وحب للذات، لا يهم الكثير منا إلا نفسه، يقدم مصلحته على كل أحد، وليس مستعدًا أن يضحي بشيء من حطام الدنيا ولو من أجل أخيه الشقيق، فكيف بإنسان بعيد لا تربطه به إلا أخوة الإسلام.
ولذلك تأمل إنفاق كثير من المسلمين اليوم على حاجاتهم الخاصة وشهواتهم، وقارن ذلك بإنفاق من أنفق منهم في الصدقات على إخوانه المسلمين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها أو ممن هم حوله، ترى الفرق الكبير والبون الشاسع بين النفقتين والله المستعان. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة". ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
أيها المسلمون، وتأملوا أيضًا حال المصلين اليوم على ضوء هذا الحديث، تجدهم كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة. كم هم اليوم المحافظون على الصلوات الخمس في المساجد كما أمر الله من بين هذا العدد الهائل الذين ينتسبون إلى الإسلام. ومن المحافظين كم عدد الذين يصلون صلاة شرعية على وفق ما أمرنا الشارع حيث قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ثم كم عدد الذين يخشعون في صلاتهم من بين أولئك الذين يصلون الصلاة على صفة صلاة رسول الله. تجد أنك في نهاية الأمر قد تخرج من المجموع الكلي للمسلمين بما قاله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
وكذلك ـ معاشر المؤمنين ـ لو تأملنا حال الناس مع الخلق الإسلامي الرفيع الذي أمرنا به ديننا وحثنا عليه تحت ضوء هذا الحديث لوجدنا الناس حقًا كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة. فالصدق والأمانة والرحمة والوفاء بالوعد وحفظ العهد وغيرها من الأخلاق التي هي من صميم هذا الدين، تبحث عن هذه الصفات فيمن حولك من الناس فتكاد لا تجد راحلة. ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه أبو داود.
فتأمل ـ رحمك الله ـ كيف أنك قد تدرك مرتبة عبد يصوم النهار ويقوم الليل دون أن تفعل كما فعل من الاجتهاد، بأمر هين وهو حسن الخلق، بل إن حسن الخلق له وزن عظيم عند الله، فعن أبي الدرداء عن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي، ولكن المشكلة أن الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة.
وتأمل كذلك في حال الناس مع صلة الرحم، تجدهم كما أخبر كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة. فيا لله، كم تشتكي الرحم اليوم إلى ربها من القطيعة والهجر، وكم بكت أعين آباء وأمهات من عقوق أبنائهم وقطعهم لبرهم لهم وذلك بعد أن كبر الأبناء واستغنوا عن رعاية والديهم، وكبر الآباء واحتاجوا إلى رعاية أبنائهم، أفيحسب هؤلاء أن الله غافل عما يعملون أو راض بما يفعلون؟! كلا والله، ولكنهم قوم لا يفقهون.
فكن على ثقة ـ أيها القاطع لرحمك العاق لوالديك ـ بتعجيل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، والجزاء من جنس العمل، يقول : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) رواه أبو داود والترمذي.
أين هم أبناء اليوم من هذه النصوص؟! فبر الوالدين من أعظم القربات، بر الوالدين من أجل الطاعات، ببر الوالدين تتنزل الرحمات وتُكشف الكربات، بر الوالدين مفتاح كل خير ومغلاق كل شر، بر الوالدين من أعظم أسباب دخول الجنان والنجاة من النيران، بر الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر، بر الوالدين سبب في دفع المصائب، بر الوالدين سبب في إجابة الدعاء. فأين أنت من هذه النفحات يا عبد الله؟! لقد نطق رسولنا بالوحي عندما قال: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
أيها المسلمون، وإذا انتقلت إلى جانب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل للدين وبذل الجهد لإنقاذ الأمة مما تعانيه اليوم والتضحية بكل ما يملك الإنسان لإعزاز دين الله في الأرض فيتضح لك فعلاً أن الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة؛ ولهذا فإن جميع المحاضن التربوية والأنشطة الدعوية والمؤسسات الخيرية تشتكي قلة الطاقات العاملة، مع أنك تشاهد الشباب الذين سيماهم الصلاح بالآلاف، فأين هم عن العمل للإسلام وخدمة الدين؟! إنهم مع كل أسف كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة.
ولو ذهبنا نتتبع حالنا مع هذا الحديث لطال بنا المقام، وفيما ذكر كفاية، والحر تكفيه الإشارة.
والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ما ظهر منا وما بطن، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، وزينا برحمتك بالبر والتقوى، واجعلنا من عبادك المهتدين.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحياة مهما طالت أيامها وتتابعت سنينها وأعوامُها فلا بد للإنسان من أن يرتحل عنها، وأن يودع أصحابها وأهلها، في ساعة هي آخر الساعات، ولحظة هي آخر اللحظات، ووقفة هي آخر الوقفات، يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا، فينظر إلى الأصحاب والأحباب، ينظرُ إلى الأبناء والبنات، وإلى الإخوان والأخوات، وإلى الجيران والخلان، فكأن الحياة طيف من الخيال، وكأنها ضرب من الأحلام.
أيها المسلمون، من كان في هذه الحياة على استقامة فإنه لا يرى عند موته خزيًا ولا ندامة، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27].
من كان في هذه الحياة على استقامة أصلح الله أمره، وأحسن له عاقبته، وتنزلت عليه الملائكة بالبشائر، فابتهج وسُر وظهر السرور على وجهه، تراه مشرق الوجه مسرورًا.
من كان في هذه الحياة على استقامة ثبت الله قلبه عند الموت؛ فيرى بشائر ورحمات لم تخطر له على بال، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
من كان على استقامة في هذه الدنيا فإن الله يختم له بخاتمة السعداء، فلا يزال لسانه رطبًا بذكر الله حتى تأتيه سكرة الموت، فيكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، قال : ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة)).
فمن وطن نفسه على الصالحات والباقيات الطيبات المباركات أتاه الموت على خصلة من خصالها، فهذا يموت ساجدًا، وهذا يموت راكعًا، وهذا يموت بارًا بأمه، وهذا يموت في سفره يصل رحمه، فيختم له بخاتمة السعداء. فمن علامة حسن الخاتمة أن يموت العبد على عمل من الأعمال الصالحة، من ذكر الله جل جلاله أو غير ذلك من صلاة وصيام وجهاد وعبادة وقيام.
إنها الاستقامة التي يبتدئها المسلم في حياته, فتكون أول وقفة منك ـ أيها المسلم ـ أن تذكر بُعدك عن الله، وطول غربتك عن طاعة الله، فتريق دمعة على التفريط في جنب الله. تبدأ الاستقامة بدمعة من دموع الندم، بدمعة من دموع الحزن والألم على ما كان من الذنوب والهنات، وعلى ما كان من المعصية والسيئات. تبدأ الاستقامة من هذه اللحظة حينما تعلن الإنابة والتوبة، وتعزم على أن تسير إلى الله لعل الموت أن يأتيك على طاعة. فإلى متى الصدود عن الله؟! وإلى متى البعد عن الله؟!
تبدأ الاستقامة ـ عباد الله ـ حينما يخاف الإنسان مما بقي من عمره، فيسأل ربه العفو عما سلف وكان، ويسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان، فإلى الله عباد الله، فإنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
ليس هناك ساعة أفضل ولا أحب إلى الله جل وعلا من ساعة تطيع فيها ربك، وليس هناك ساعة أبرك ولا أهنأ للعبد من ساعة رضي الله عنه فيها. يحتاج المؤمن إلى الهداية لكي يصلح بها حاله مع الله جل جلاله، فما أحوج العبد إلى قربه من ربه ولو بكلمة ترضيه، والله غفور حليم، إن تقربت منه شبرًا تقرب منك ذراعًا، وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، وكم من عبد تاب إلى الله، وتذكر في ساعته كثرة الذنوب في جنب الله، فندم وأراق دموع الندم، فقام مغفور الذنب، إن الله غفور حليم، إن الله جواد كريم، وبمجرد أن يطلع إلى قلبك أنك تريد أن تصحح مسيرك إليه، وأن تصلح حالك بينك وبينه، فإن الله يوفقك ويسددك ويعينك ويهيئ لك من أمرك رشدًا، ويهب لك من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.
فأصلحوا لله قلوبكم، واستشعروا الندم في جنب ربكم، لعل الله أن يرحمنا ويرحمكم.
اللهم رحمةً اهدِ بها قلوبنا...
(1/4569)
إنا كفيناك المستهزئين
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
4/1/1427
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل هؤلاء المستهزئين. 2- تداعي الغرب لنشر الرسوم المسيئة. 3- إنما يضرون أنفسهم. 4- حفظ الله تعالى لنبيه. 5- صور لكفاية الله تعالى لنبيه. 6- دفاع الله تعالى عن صحابة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال كليلةُ: واعلم ـ يا دِمنةُ ـ أنَّ من قلةِ عقلِ المرءِ وسوءِ تدبيرِهِ أن يُطاولَ ما لا يقدرُ على مطاولتِهِ، وأن يُغالبَ ما لا يقدرُ على مغالبتِهِ، فيكون مثلُهُ في ذلك كمثلِ النملة الحمقاء.
قال دمنةُ: وما مثلُ النملةِ الحمقاءِ؟
قال كليلةُ: زعموا أنَّ نملةً ساءَها أن تكونَ صغيرةَ الحجمِ ضئيلةَ الجرمِ، تُفزعها وبني جنسها أقدامُ الدوابّ، وتشرّدها وأخواتِها خطواتُ فيلٍ كان بالجوارِ، فآلت على نفسها أن لا تدع حيلةً ولا وسيلةً تصنعُ بها الهيبةَ لأمّةِ النِّمالِ إلا فعلتْها. ففكرت وقدرت، وقدّمت وأخّرتْ، فهداها مريضُ تفكيرِها إلى أنّ العلةَ في اجتراء المخلوقاتِ عليهنّ أنهنّ يتفرّقن ويتبعثرن إذا ما خطت فوقهن أقدام الفيل الثقيل، وظنت ـ وبعض الظنّ إثم ـ أنّها لو اجتمعت مع بنات جنسِها فوقفن في وجه الفيل ثم شتمنه بأعلى أصواتهنّ وصمدنَ إزاءه لتضعضع الفيل وتزعزع، وكفّ قدمه وتكعكع، ثم سلك سبيلاً غير سبيله، وترك لأمّة النمالِ حريّتها الكاملةَ في التعبيرِ والتصرف.
فما زالت تلك الحمقاءُ حتى تألّفت حولها طائفةً من النمالِ ذهبن مذهبَها، وسلّمن لها القيادَ، فلما قدمَ الفيلُ اصطفّتِ النمال كما تصطفّ الجيوشُ، فما تركن قالةَ سوءٍ ولا عبارةَ شتمٍ ولا بيتَ هجاءٍ إلا صرخنَ به ملء حناجرهنّ، فما هو إلا أن أهوى عليهنّ الفيلُ بقدمِهِ فمحقهنّ من الحياةِ، فلم يسمع شتمَهنّ غيرُهنّ، ولا درى بهجائهنّ سواهنّ، ومضى الفيلُ لطريقِهِ لم يشعر بما كان.
هذا مثلٌ استحضرتُهُ وأنا أتابعُ ـ كما تتابعون ـ تداعياتِ الفعلةِ الآثمةِ للصحيفة الدانماركية التي تولّتْ كبر الإساءةِ إلى نبينا وحبيبنا محمد. قلتُ: هو مثلٌ، والمثلُ لا يعني المشابهةَ من كلّ وجهٍ، وإنما الشاهدُ فيه هلاكُ المرءِ حين يتعرّضُ لما لا قِبَل له بِهِ.
لقد قرأتُ ـ كما قرأتُم ـ أنّ صحيفةً فرنسيةً أعادتْ نشر الرسومِ الدانماركيّة زاعمةً أنّه يحقّ لها رسم صور كاريكاتورية لمحمّدٍ ويسوع المسيحِ وبوذا ويهودا، وأنّ ذلك يندرج تحت بند حرية التعبير في بلد علمانيّ، وقالت الصحيفة الفرنسيةُ: "لن نعتذر عن إعادة نشرها هذه الرسوم لأننا أحرار في التحدّث والتفكير والاعتقاد، وبما أنّ هؤلاء ـ تقصِد المسلمين ـ يقدمون أنفسهم على أنهم أساتذة في الإيمان ويجعلون القضية مسألة مبدأ فإنّ علينا أن نكون حازمين".
ولقد عرفتُ ـ كما عرفتم ـ كذلك أنَّ صحيفة ألمانيةً باءتْ أيضًا بإثم نشرها زاعمةً أنّه لا حصانةَ لأحدٍ عن التهكم في الغرب، وأنّ صحيفةً سويسرية ناطقةً بالألمانية نشرتْ رسمين منها، وأن صحيفتين إسبانيتين قامتا كذلك بتكرار النشرِ، بالإضافة إلى صحيفةٍ مجرية، وثلاث صحف هولندية، وتلفاز البي بي سي.
ولقد اطّلعت ـ كما لعلّكم اطلعتم ـ على أن صحيفة إيطالية ساقطةً بذيئةً صوّرتِ النبيّ وهو يأمر مجموعة انتحاريّين بالتوقف عن التفجير لأن الجنّة نفد ما بها من مخزون الحور العين!
ولا أدري إن كنتم قد عرفتم أنّ صحيفةً أردنيّة نشرت بعض هذه الرسومِ مشفوعةً بفلسفةٍ سمجةٍ باردةٍ لرئيس تحريرها يقول فيها: "يا مسلمي العالم، تعقّلوا، أيهما يسيء للإسلام أكثر من الآخر: أجنبيّ يجتهد في رسم الرسول أم مسلم يتأبّط حزامًا ناسفًا ينتحر في حفل عرس في عمّان أو أي مكان آخر؟!"، وكأننا إذ نشجبُ هذه الرسومات نرحّبُ بتلك التفجيرات!
حقيقةً بقدر ما شعرتُ بالغيظ والغضبِ شعرتُ بغيرِ قليلٍ من الشفقةِ على هؤلاءِ، إنّهم مساكينُ لا يدرونَ من يحاربونَ ولا من يُطاولونَ، إنّهم مساكينُ لا يدرونَ بمن يهزؤونَ ولا بمن يسخرون، إنّهم مساكينُ لا يدرون أنّ إساءَتهم لا ترتدُّ إلا عليهم، وأنّ ألفَ كنّاسٍ لو اجتمعوا في موضعٍ يثيرون الغبارَ بمكانسهم ليحجبوا ضياء الشمسِ لما سقطَ الغبار في النهاية إلا على رؤوسهم، وأنهم كالنملةِ الحمقاءِ تظنّ أن صراخَها يوقفُ أقدام الفيل. هم كمن يشتم الشمسَ والماءَ والهواءَ، ليس لشتمه من معنى سوى خرفِهِ المطبق وهذيانِهِ المحدق، أو كمن يلعنُ الضياءَ والعافيةَ والربيعَ، ليس للعنِهِ معنى سوى أنّه خرجَ عن حدّ العقلِ إلى حدّ الجنونِ. وسيبقى النهرُ عذبًا وإن شتمه ألفُ لسانٍ بأنّه ملحٌ أجاجٌ، وستبقى الشمسُ مشرقةً وإنْ زعمَ ألفُ دجالٍ أنها قطعةٌ من سوادٍ حالكٍ، وسيظلُ المطرُ يبعثُ الحياةَ وإن ادّعى ألفُ دعيٍّ أنّه سمٌّ يتسلل إلى عروقِ النباتاتِ. إنّ البحر الزاخرَ لا يضرُّهُ أن يلقيَ فيه الغلمان بحصياتِهِم.
وقد قال الأعشى فيما مضى لما تجرّأ بعض الأراذلِ على هجاءِ قبيلته:
ألست منتهيًا عن نحتِ أثلتِنا ولستَ ضائرَها ما أطَّتِ الإبلُ
كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنَها فلم يضِرْها وأوهى قرْنَهُ الوَعِلُ
نعم، ها هم هؤلاء السّاخرونَ الشانئونَ ينطحون صخرةَ النبيّ بكل ما أوتوا من قرونٍ إعلاميّةٍ، ولكن النهاية التي نعرفُها سلفًا هي نهايةُ الأعشى: "فلم يضرها وأوهى قَرنَه الوَعلُ".
لم يكونوا أوّل الشانئينَ، ولسنا أوّل الذابّين. لهم سلفٌ في كفارِ قريشٍ ومن جاء بعدهم، ولنا سلفٌ في حسانَ رضي الله عنه وأرضاهُ يوم انتفضَ في وجهِ هجاءِ أبي سفيانَ فقال أبياتَه الروائع:
ألا أبلغْ أبا سفيان عني فأنت مُجوَّف نخبٌ هواءُ
هجوتَ مُحمّدًا فأجبتُ عنه وعند الله فِي ذاك الجزاءُ
أتَهجوهُ ولست له بكفءٍ فشرّكما لخيركما الفداءُ
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواءُ
فإن أبِي ووالدَه وعِرضي لعرض محمد منكم فداءُ
قلت: إنّ تلك القرون الإعلامية النطّاحةَ لا تضرّ إلا نفسها يقينًا، وحربها تلك ليست مع بشرٍ، بل مع ربِّ البشر سبحانه وتعالى؛ ذلك أنّ النبيَّ محميٌّ بحمايةِ اللهِ، معصومٌ بعصمتِهِ، مكفولٌ برعايتِهِ، مردود عنه أذى من آذاه وسخريةُ من سخر منه واستهزاء من استهزأ به، وها أنا ذا أضعُ بين أيديكم هذه الوثائق الربانية:
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ [المائدة:67]، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [البقرة:137]، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]، إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، إنَّ الَذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب:57]، والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61].
هذه هي الوثائق الربانية التي تشهدُ بأنّ الله حافظٌ رسوله، ناصرٌ له، منتقمٌ له ممن ظلمه، آخذ له بحقه ممن سخر منه، كافٍ إياه ممن استهزأ به. قال ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول (144): "ومن سنة الله أن من لم يتمكّن المؤمنون أن يعذّبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإنّ الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه... وكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره"، وقال رحمه الله: "وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرّضوا لسبّ رسول الله ، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعدّدة، وهذا باب واسعٌ لا يُحاطُ بِهِ"، وقال السعديُّ: "ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة".
فتعالوا ـ أيها الأحبةُ ـ نستشهد التاريخَ كيف كفى الله رسوله المستهزئين به ، وكيف آذى من آذاهُ، تعالوا نعش في ظلالِ الآيةِ الكريمةِ: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
وأول ما أذكرُهُ في هذا الاستقراء التاريخيّ ما ذكره أهل التفسيرِ في سبب نزولِ هذه الآية، أعني قوله تعالى: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: المستهزئون هم الوليد بن المغيرة والأسودُ بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن غَيْطَل السّهميّ والعاص بن وائل، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله ، فأراه الوليد بن المغيرة، فأومأ جبريل إلى أكحلِهِ ـ وهو عرقٌ في اليدِ ـ، فقال : ((ما صنعتَ شيئًا!)) فقال جبريلُ: كَفَيْتُكَهُ، ثم أراه الحارث بن غيطل السهميّ، فأومأ إلى بطنه، فقال: ((ما صنعت شيئًا!)) قال: كفيتُكه، ثم أراه العاص بن وائل السهمي، فأومأ إلى أخمَصِهِ ـ أي: باطن رجله ـ، فقال: ((ما صنعت شيئًا!)) فقال: كفيتُكه. فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود بن المطلب فعمي، وذلك أنه نزل تحت شجرة فقال: يا بنيّ ألا تدفعون؟! إني قد قتلت، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فجعل يقول: يا بنيّ ألا تدفعون عني؟! هلكت بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه. وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها. وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنِه حتى خرج روثُهُ من فيه فمات منه. وأما العاص بن وائل فبينما هو يمشي إذ دخلت في رجله شِبْرِقة ـ نبتةٌ ذات شوك ـ حتى امتلأت منها فمات. أخرجه الأصفهاني في دلائل النبوة (1/63)، وانظر: الدر المنثور (5/101).
فهؤلاء خمسةُ نفرٍ من أعيانِ قومهم استهزؤوا برسول الله ، فكفاه الله إيّاهم بقدرتِهِ وعزّتِهِ سبحانَهُ.
وقد أخرج البزّار والطبراني في الأوسط عن أنسٍ قال: مرَّ النبيُّ على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبيّ؟! ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثلُ الظفر في أجسادهم، فصارت قروحًا نتنةً، فلم يستطع أحد أن يدنوَ منهم. نظر: الدر المنثور (5/100).
وفي الصحيحين خبرٌ آخرُ عجيبٌ عن رجلٍ من بني النجار كان نصرانيًا فأسلمَ، وكان يكتبُ الوحي للنبيّ ، ثم إنّه نكَص على عقبيه فتنصّرَ، ولحق بأهل الكتابِ، فكان يهزأ بالنبيّ ويدّعي أنه أدخل في الوحي ما ليس منه، ويقولُ: والله، ما يدري محمدُ إلا ما كتبتُ له. فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فدفنوه، فأصبح وقد لفظتْه الأرضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ الثالثةَ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا. أخرجه البخاري (3617)، ومسلمٌ (2781).
فسبحان الذي كفى نبيّه من استهزأ به وسخر منه.
ومن هذا البابِ قصةُ كسرى وقيصر المشهورةِ، فإنّ النبيّ كان قد كتب إليهما، فامتنع كلاهما من الإسلام، لكن قيصر أكرم كتابَ النبيّ ، وأكرم رسولَه، فثبّت الله ملكَه، وكسرى مزّق كتابَ رسول الله ، واستهزأ برسول الله ، فقتله الله بعد قليل، ومزّق ملكه كلَّ ممزّق، ولم يبق للأكاسرة ملكٌ. انظر: الصارم المسلول (144).
وكان من أثر ذلك ما ذكره السهيليُ أنّه بلغه أنّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلّب على طليطلة، ثم كان عند سِبطه، قال: فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع. ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
وإليكم هذا الخبر العجيبَ: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهّزا إلى الشام، فقال ابنه عتبة: والله، لأنطلقنّ إلى محمد ولأوذينّه في ربّه سبحانه وتعالى، فانطلق حتى أتى النبيّ فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبيّ : ((اللّهمّ سلّط عليه كلبًا من كلابك)). ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه فقال: يا بنيّ، ما قلتَ له؟ فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك؟ قال: قال: ((اللّهمّ سلط عليه كلبًا من كلابك)) ، قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه. فساروا حتى نزلوا بالشّراةِ وهي أرضٌ كثيرةُ الأسدِ، فقال أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإنّ هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومَعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهَنا، فلما لم يجد ما يريد تقبّض فوثب وثبَة، فإذا هو فوق المتاع فشمَّ وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفتُ أنه لا يتفلّت عن دعوة محمد.
وذكر الكتانيّ في ذيل مولد العلماء (1/139) أنّه ظهر في زمن الحاكم رجلٌ سمّى نفسه هادي المستجيبين، وكان يدعو إلى عبادة الحاكمِ، وحُكيَ عنه أنّه سبّ النبيّ وبصق على المصحفِ، فلما ورد مكةَ شكاهُ أهلها إلى أميرها، فدافع عنه، واعتذر بتوبتِهِ، فقالوا: مثل هذا لا توبة له، فأبى، فاجتمع الناس عند الكعبةِ وضجّوا إلى الله، فأرسل الله ريحًا سوداء حتى أظلمت الدنيا، ثم تجلّت الظلمةُ وصار على الكعبة فوق أستارها كهيئة الترس الأبيض له نور كنور الشمسِ، فلم يزل كذلك ترى ليلاً ونهارًا، فلما رأى أميرُ مكةَ ذلك أمر بهادي المستجيبينَ فضربَ عنقَهُ وصلبَهُ.
وذكر القاضي عياض في الشفا (2/218) قصةً عجيبةً لساخرٍ بالنبي ، وذلك أن فقهاءَ القيروانِ وأصحابَ سُحنُون أفتوا بقتلِ إبراهيم الفزاري، وكان شاعرًا متفنّنًا في كثير من العلومِ، وكان يستهزئ باللهِ وأنبيائهِ ونبينا محمد ، فأمر القاضي يحيى بن عمرَ بقتله وصلبه، فطُعن بالسكينِ وصُلب مُنكّسًا. وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته وزالت عنها الأيدي استدارت وحوَّلته عن القبلةِ، فكان آيةً للجميعِ، وكبّر الناسُ، وجاءَ كلبٌ فولغ في دمهِ.
وحكى الشيخ العلامةُ أحمد شاكر أنّ خطيبًا فصيحًا مفوهًا أرادَ أن يثنيَ على أحدِ كِبار المسؤولين لأنه احتَفَى بطَهَ حسين، فلم يجد إلاّ التعريضَ برسول الله ، فقال في خطبتِهِ: جاءَه الأعمى فما عبَس وما تولى، قال الشيخ أحمدُ: ولكنّ الله لم يدعْ لهذا المجرِم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسِمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان عاليًا منتفخًا مستعزًّا بمَن لاذَ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مَهينًا ذليلاً خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقّى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار.
وذكروا أن رجلاً ذهب لنيل الشهادة العليا من جامِعَة غربيةٍ، وكانت رسالتُهُ متعلقةً بالنبيّ ، وكان مشرفُهُ شانئًا حانقًا، فأبى أن يمنحه الدّرجةَ حتى يضمِّن رسالتَه انتقاصًا للمصطفى ، فضعُفت نفسه، وآثرَ الأولى على الآخرة، فلما حاز شهادتَه ورجع إلى دياره فوجئ بهلاكِ جميع أولاده وأهلِه في حادثٍ مفاجئ.
لا إله إلا الله، صدق الله: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ.
وليُعلمْ أن كفايةَ الله لنبيه ممن استهزأ به أو آذاهُ ليستْ مقصورةً على إهلاكِ هذا المعتدي بقارعةٍ أو نازلةٍ، بل صورُ هذه الكفايةِ والحمايةِ متنوعةٌ متعددةٌ، فقد يكفيهِ الله عز وجلَّ بأن يسلّطَ على هذا المستهزئِ المعتدي رجلاً من المؤمنين يثأرُ لنبيّهِ ، كما حصل في قصةِ كعبِ بن الأشرفِ اليهوديّ الذي كان يهجو النبيّ ، واليهوديةِ التي كانت تشتمُ النبيّ ، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، وأمّ الولدِ التي قتلها سيدها الأعمى لما شتمتِ النبيّ ، وأبي جهلٍ إذ قتلَه معاذٌ ومعوّذٌ لأنه كان يسبّ رسول الله ، والخُطْميةِ التي هجت النبي فانتدب لها رجلٌ من قومها كما في الصارم المسلول (95)، وأبي عَفَكٍ اليهوديّ الذي هجا النبيّ فاقتصّه سالمُ بن عميرٍ كما في الصارم المسلول (102)، وأنسِ بن زُنَيم الذي هجا النبيّ فشجّه غلامٌ من خزاعة كما في الصارم المسلول (103)، وسلامِ بن أبي الحُقَيق إذ ثأر للنبيّ منه عبد الله بن عتيكٍ وصحبه كما في الصارم المسلول (135).
ولعل أغربَ وأعجبَ وأطرفَ ما وقفتُ عليه في هذا البابِ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مؤلفه المشهور الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص134)، قال رحمه الله: "وقد ذكروا أنّ الجنّ الذين آمنوا به كانت تقصِد من سبّه من الجنّ الكفار فتقتله، فيقرّها على ذلك، ويشكر لها ذلك".
ونقل عن أصحاب المغازي أن هاتفًا هتف على جبل أبي قبيسٍ بشعرٍ فيه تعريضٌ بالنبيّ ، فما مرتْ ثلاثة أيامٍ حتى هتف هاتف على الجبل يقولُ:
نَحن قتلنا في ثلاثٍ مِسعرا إذ سفّه الحقّ وسنَّ المنكَرا
قنّعتُهُ سيفًا حسامًا مبترا بشتمه نبيّنا الْمطهّرا
ومسعرٌ كما في الخبر اسمُ الجنيّ الذي هجا النبيّ.
ومن صور كلاءة الله لنبيه ممن تعرّض له بالأذى أن يحولَ بين المعتدِي وبين ما أرادَ بخوفٍ يقذفُهُ في قلبِهِ أو ملكٍ يمنعُهُ مما أراد، وقد رُوِيَ أن غورثَ بن الحرثِ قال: لأقتلنَّ محمدًا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟! قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشمّه، فأعطاه إياه، فرُعِدَت يدُهُ، فسقَط السيفُ، فقال رسول الله : ((حالَ الله بينك وبين ما تريد)). انظر: الدر المنثور (3/119).
ومثلُ ذلك ما ذكره ابن كثيرٍ في تفسيره (4/530) من أن أبا جهل قال لقومه: واللات والعزى، لئن رأيتُ محمدًا يصلّي لأطأنّ على رقبته ولأعفّرنّ وجهه في الترابِ، فأتى رسولَ الله وهو يصلّي ليطأ على رقبته، فما فَجأهم منه إلا وهو ينكصُ على عقِبَيه ويتّقي بيَديه، فقيل: ما لك؟! فقال: إنّ بيني وبينه خَندقًا من نارٍ وهولاً وأجنحةً، فقال رسول الله : ((لو دنا مني لاختَطَفته الملائكة عُضوًا عضوًا)).
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنّ رجالاً من قريش اجتمعوا في الحِجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلةَ وإِسافَ أن لو قد رَأوا محمدا لقد قمنا إليه مقامَ رجل واحدٍ فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنتُه فاطمة تبكي حتى دخَلت على النبيّ ، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحدٌ إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال: ((يا بنية، ائتيني بوضوء)) ، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفَضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبيّ حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قَبضة من التراب ثم قال: ((شاهَت الوجوه)) ، ثمّ حصَبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصَا حصاةٌ إلا قُتِل يومَ بدر كافرًا. انظر: دلائل النبوة (1/65).
لا إله إلا الله، صدق الله: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ.
ومِن صورِ حمايةِ الله لنبيّة وكفايتِهِ إياه استهزاءَ المستهزئين أن يصرفَ الشتيمةَ والذّمّ والاستهزاءَ إلى غيره، فإذا بالشاتمِ يريدُ أن يشتمَهُ فيشتم غيره من حيث لا يشعر، قال : ((ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مذمّمًا، ويلعنون مذمّمًا، وأنا محمّدٌ)) رواه البخاري. قال ابن حجر في الفتح (6/558): "كان الكفار من قريشٍ من شدّة كراهتهم في النبي لا يسمّونه باسمه الدّال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمَه، ولا يعرَف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره".
لا إله إلا الله، وصدق الله: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ.
ومن صور هذه الحماية الربانيةِ أنْ يغيّر الله السنن الكونيةَ صيانةً لنبيّه ورعايةً له، وشاهدُ ذلك قصةُ الشاةِ المسمومةِ، فإنّ زينب بنتَ الحارثِ جاءت للنبيّ بشاةٍ مشويةٍ دسّت فيها سمًا كثيرًا، فلما لاك النبيّ منها مضغةً لم يُسغها، وقال: ((إنّ هذا العظمَ يخبرني أنّه مسمومٌ)) ، ثم دعا باليهوديّة فاعترفت.
فانظر كيف خرَم الله السنن الكونية من جهتين: أولاهما: أنّه لم يتأثّر بالسمّ الذي لاكه، وثانيتهما: أن الله أنطقَ العظمَ فأخبره عليه الصلاة والسلام بما فيه.
ومن صور الكفاية الربانية لنبي الهدى ممن آذاه أن يقذف الله في قلبِ هذا المؤذي المعتدي الإسلام، فيؤوبَ ويتوبَ، حتى يكونَ الرسول أحبّ إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين. ومن أعجبِ الأمثلةِ في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارثِ أخي النبيّ من الرّضاع، وكان يألف النبيّ أيام الصبا، وكان له تِرْبًا، فلما بُعث النبيّ عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادِها أحدًا قطّ، وهجا رسول الله وهجَا أصحابَهُ. ثم شاء الله أن يكفيَ رسولَه لسانَ أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايتِهِ. قال أبو سفيان عن نفسِهِ: ثم إنّ الله ألقى في قلبي الإسلام، فسِرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرتُ وخرجتُ حتى صِرت تلقاء وجه النبيّ ، فلمّا ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحوّلتُ إلى ناحية وجهِه الأخرى. قالوا: فما زال أبو سفيانَ يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومعه ابنه جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله، ليأذننَّ لي رسول الله أو لآخذنّ بيد ابني هذا حتى نموت عطَشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله رقّ لهما فدخلا عليه. انظر: سيرة ابن هشام (4/41).
فسبحان من حوّل العداوةَ الماحقةَ إلى حبّ وتذلّل وملازمة للباب طلبًا للرضا.
لا إله إلا الله، وصدق الله: إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن تمامِ كفايةِ الله لنبيّهِ وحفظِهِ له أن كلأه وحفظَهُ في صحابتِهِ رضي الله عنهم، فكفاهم من استهزأ بهم، وانتقم ممن سخِر منهم إكرامًا لرسوله.
وقد روَى ابن عساكر في تاريخِ دمشق (30/402) عن أبي المحياةِ عن رجلٍ قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الدّبر يعني الزنابير، فاستغاث فأغثناه، فحمَلتْ علينا حتى تركناه، فما أقلعت عنه حتى قطعته.
وروى كذلك عن محمد بن إسحاق بن عثمان السمسار قال: كان أخوَان بنيسابور من أهل مرو، وكانا يبغضان أبا بكر وعمر أشدَّ البغض، وقد صوّرا في بيتهما صورتَيهما، فكان يضربانهما كلّ يوم ضربات، وكان أمرهما وكلامهما وطعامهما واحدًا، فما مضى أيام حتى احترقا كلاهما في النار في المنزل.
وأعجبُ من هذا ما رواه الإمامُ أحمدُ في فضائل الصحابةِ (1/299) عن رضوان السمان قال: كان لي جار في منزلي وسوقي، وكان يشتم أبا بكر وعمر حتى كثر الكلام بيني وبينه، حتى إذا كان ذات يوم شتَمَهما وأنا حاضرٌ، فوقع بيني وبينه كلامٌ كثير حتى تناولني وتناولته، قال: فانصرفت إلى منزلي وأنا مغمومٌ حزين ألوم نفسي، قال: فنِمت وتركت العَشاء من الغمّ، فرأيت رسول الله في منامي من ليلتي فقلت له: يا رسول الله، فلان جاري في منزلي وفي سوقي، وهو يسبُّ أصحابكَ، فقال رسول الله : خذ هذه المدية فاذبحه بها، قال: فأخذته فأضجعته فذبحته، قال: فرأيت كأنّ يدي قد أصابها من دمه، فألقيت المدية وضربت بيدي إلى الأرض فمسحتها بالأرض، فانتبهت وأنا أسمع الصّراخ من نحو الدار، فقلت للخادم: انظر ما هذا الصراخ، فقال: فلان مات فجأة، فلما أصبحنا نظرنا إلى حلقِه فإذا فيه خطُّ موضع الذبح.
وعن سعيد بن المسيّب أنَّ رجلاً كان يقع في عليٍّ وطلحةَ والزبيرِ رضي الله عنهم، فجعل سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إنْ كان مسخِطًا لك فيما يقول فأرنى به آفةً، واجعله آية للناس، فخرج الرجلُ فإذا هو ببخْتِيٍّ ـ جملٍ ضخمٍ ـ يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله، فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا ويقولون: هنيئًا لك أبا إسحاق، أجيبَت دعوتك. انظر: تاريخ بغداد (9/96).
فهؤلاء قوم أشرافٌ كِرامٌ أجلّةٌ قد نصرهم الله بشرف صحبتهم للنبيّ ، فكيف لا يكفي الله نبيّه عليه الصلاة والسلام؟! كيف لا يكفيه وقد جرت سنتُهُ سبحانَهُ بإهلاك الأمم السابقةِ حين تؤذي أنبياءها وتقابلهم بقبيح القول أو العمل؟! كيف لا يكفيه وهو سيّد الأولياءِ وقد قال تعالى: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحربِ)) ؟! كيف لا يكفيه ولحوم العلماء مسمومةٌ فكيف بلحوم الأنبياء؟! إنّ الله كافٍ رسولَه أيها المؤمنون، وإنّ لنا الشرف والمنزلة والرفعة بأن نكون من الأسباب التي يُكفى بها النبيّ ، وأن نبحث عن كيفية تحقيق ذلك.
ولا يتّسع المجالُ هنا للتوسّعِ في تفصيل هذه الكيفيةِ، ولعل لها حديثًا مستقلاً إن شاء الله، ولكنْ حسبُكَ أخي الآن هذه الكلمة: كما غِرتَ على شخصِ نبيّك الكريم فغرْ أيضًا على شرعِهِ ومنهجِهِ، فإنّك إن فعلتَ هُديتَ إلى خيرٍ كثيرٍ، والله يتولاني وإياك...
(1/4570)
الكفر ملة واحدة
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
18/1/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السخرية والاستهزاء ديدن الكافرين. 2- وقوف الاتحاد الأوروبي بجانب الدنمارك. 3- دعوة للاتحاد. 4- بيان بخصوص الرسوم المسيئة لرسول الإسلام. 5- التحذير من المراكز التي تتعامل بالسحر. 6- قضية إيجار المحلات التجارية. 7- الاعتداء على مقبرة مأمن الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الإنعام والأنبياء مواسيا رسوله الكريم محمدا : وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10، الأنبياء:41]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة هود بحق سيدنا نوح عليه السلام: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، ويقول رب العالمين في سورة الحجر مدافعا عن نبيه ومصطفاه محمد عليه الصلاة والسلام: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله، لقد ورد لفظا الاستهزاء والسخرية في القرآن الكريم أكثر من خمسين مرة على لسان المشركين والكافرين بحقّ جميع الأنبياء والمرسلين، وبحقّ القرآن الكريم العظيم؛ لذا لا غرابة ولا استهجان في أن تقوم الدنمارك بخاصّة والغرب بعامة بنشر رسومات هابطة تحاول الإساءة إلى النبي الأكرم محمد ، ولا بدّ من التأكيد أن محاولات الإساءة إلى خير البرية محمد عليه السلام لا تقلّل من قدره ولا تحطّ من منزلته؛ لأن الله عز وجل قد رفع قدره وتولى الدفاع عنه، ولكن ما حصل في هذه الأيام هو امتحان واختبار للمسلمين، هل هم يحبون نبيّهم محمدًا ؟ نعم، لقد أثبت المسلمون في أرجاء المعمورة أنهم يحبّون خير البرية عليه السلام، ليس هذا بالأمر المستغرب، لماذا؟ لأنّ حب الرسول من الإيمان، وإن محاولات الإساءة قد أيقظت المسلمين من سباتهم على حبّهم لرسول الإنسانية والمحبّة عليه الصلاة والسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، ويقول عز وجل في آية أخرى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لا يزال موضوع الرسومات المسيئة يتفاقم يومًا بعد يوم، والسبب في ذلك أن بعض الدول الغربية أخذت في نشر هذه الرسومات لتقف إلى جانب الدنمارك حتى لا تكون الدنمارك منفرِدة في المواجهة، وحتى يتوزع جهد المسلمين بين هذه الدول. وعلى الصعيد السياسي فإن الاتحاد الأوروبي أعلن رسميا قبل يومين بأنه يقف إلى جانب الدنمارك متشدّقا بحرية الرأي والتعبير، كما أعلن بأن المقاطعة الاقتصادية للدنمارك هي مقاطعة للاتحاد الأوروبي، وأن الاعتداء على الدنمارك هو الاعتداء على الاتحاد الأوروبي، كما أعلن الاتحاد الأوروبي بأنه لا يؤيّد إصدار قانون من قبَل هيئة الأمم يتضمّن تجريم من يتعرّض للأديان وللأنبياء وللمرسلين.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يرغب الاتحاد الأوروبي في إصدار قانون يمنع التعرض للأديان والأنبياء والمرسلين؟ والجواب: لأن الاتحاد الأوروبي ليس لديه حرمه واحترام للإسلام ولنبيّ الإسلام، وهو مطمئنّ بأن المسلمين لا يتعرّضون لسائر الديانات ولا للأنبياء والمرسلين، فيرى الاتحاد الأوروبي أن إصدار مثل هذا القانون سيكون لصالح الإسلام والمسلمين، وعليه لا يريده ولا يؤيّده.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، من حقّنا أن نسأل الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي: إن الاتحاد الأوروبي أعلن وقوفَه رسميا إلى جانب الدنمارك وهي على باطل وهي معتدية، فلماذا نحن المسلمين لا تقف وقفةَ رجل واحد إلى جانب البلاد الإسلامية التي تتعرّض إلى أخطار وأزمات ونحن على الحق غير معتدين؟!
لقد سبق أن وقفت أفغانستان منفرِدة والعالم الإسلامي وقَف موقفَ المتفرّج، وكأن الأمر لا يعنيه، وقد حصل ذلك أيضا بحقّ العراق، بل وقف بعض العرب ضدّه عمليّا، فلماذا يا مسلمون لا يكون للمسلمين الآن موقف موحّد على الأقل كما يحصل لدى الاتحاد الأوروبي؟! والله سبحانه وتعالى يقول في سورة الأنبياء: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول الله عز وجل في سورة المؤمنون: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [لحجرات:10]، ويقول رب العالمين في سورة الصف: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، ويقول رسولنا الأكرم : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا)) ، ويقول أيضا: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، لقد أصدر واحد وأربعون عالما من أقطار العالم الإسلامي بما في ذلك فلسطين بيانا أوضحوا فيه موقفهم مما يجري على الساحة الإسلامية والأوروبية والعالمية من خلال ما يأتي:
أولا: إننا نشدّ على يد الأمة الإسلامية التي هبت لنصرة نبيّها ورسولها محمد ، ونحيّي الغضبة الإيمانية التي عبرت عنها الجماهير الإسلامية في العالم كله.
ثانيا: نؤكد على حرية الرأي المكفولة في ديننا الحنيف، والله سبحانه وتعالى يقول: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فالحريّة ـ يا مسلمون ـ لا تقوم على السبّ والشتم والتشهير والتجريح، وإنما يجب أن تقوم على النقاش العلميّ والموضوعي، والرسول يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) ، ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!)، وقد قيل: "إن حريتك تنتهي حينما تبدأ حرية غيرك"، فالحرية لها ضوابطها، ولها آدابها، أما الغرب فيحاول أن يستغل لفظ الحرية ليسيء إلى الإسلام ونبي الإسلام، وإنه يفسر حرية التعبير على مزاجه، وإنه يكيل بمكيالين.
أيّها المسلمون، يا أحباب رسول الله ، ومن البنود التي أشار إليها بيان علماء الأمة الإسلامية:
ثالثا: لا يجوز الاعتداء على رعايا الدول الأوروبية الذين يعيشون في الأقطار الإسلامية، فلا دخل لهم فيما جرَى في بلادهم، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء:15]، كما لا يجوز شرعا الاعتداء على السفارات والممتلكات.
رابعا: يتوجّب على المسلمين إحياء السنة النبوية في حياتنا العملية ووجوب مدارسة السيرة النبوية للأجيال الصاعدة، وأكرّر خطابي للآباء والأمهات بضرورة اقتناء كتب السيرة النبوية بالإضافة إلى القرآن الكريم، كما أذكر المعلمين والمعلمات بشرح مواقف عن حياة الرسول.
خامسا: يتوجّب تعريف الأمم والشعوب الأخرى غير المسلمة بأخلاق الرسول وشمائله من خلال وسائل الإعلام وبلغات متعددة.
سادسا وأخيرا: وجوب إصدار قوانين لمنع التعرّض للأديان والأنبياء والمرسلين في الدول الغربية ومن قبل الأمم المتّحدة.
سيدي يا رسول الله، إن قصَّرنا بحقك فمنك المعذِرة، وسنبقى الأتباع الأوفياء المخلِصين لك ولسنّتك الطاهرة ما حيِينا، فأنت نور، وهديك نور.
إن الرسول لنور يُستضاء به مهنّد من سيوف الله مسلول
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك ثلاث مسائل أتناولها بإيجاز:
أولا: مراكز لإسقاط الشباب والفتيات: نحذّر الشباب والفتيات من الذهاب إلى المراكز التي تتعامل بالسحر، فإن هذه المراكز تجعل ما يسمّى بالسحر تدخّلا وذريعة وسِتارا لإسقاط الشباب والفتيات، فاحذروا أيَّ مركز يتعامل بالسحر، وابتعدوا عنه، ولا تتعاملوا معه، واللبيب بالإشارة يفهم، اللهمّ هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
ثانيا: الإيجارات للمحلاّت التجارية: سبق للسلطات الإسرائيلية المحتلة أن أصدرت قانونا يتضمن رفع الحماية عن أجرة المحلات وليس عن المحلات نفسها، بحيث يحق للمالك رفع قيمة الإيجار، وأقامت السلطات الإسرائيلية إثر ذلك محكمة خاصة للنظر في القضايا والشكاوى التي تصِلهم من قبل المالكين أو المستأجرين، وسبق لنا أن نبّهنا لخطورة اللّجوء إلى المحاكم لما لها من سلبيات كثيرة، وطالبنا الغرفة التجارية مرارا بتشكيل لجنة تخمين تضمّ أعضاء من الغرفة التجارية ومن المحامين والمهندسين لوضع سلّم للإيجارات حتى يعود إليها المالك أو المستأجر حينما ينشب أيّ خلاف أو سوء تفاهم بينهما، ونقول بأن الإيجارات القديمة منخفضة جدا وهي بحاجة إلى إعادة النظر برفعها من خلال التفاهم والتراضي بدلا من اللجوء إلى المحاكم، وإني أتعرض لهذا الموضوع نتيجة طلب وإلحاح من عدد من المالكين، وأؤكد على ما قلته سابقا لعلّي أجد آذانا صاغية الآن انطلاقا من قوله سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
ثالثا: مقبرة مأمن الله: لا يزال الاعتداء على مقبرة مأمن الله بالقدس مستمرّا رغم صدور قرار من المحكمة الشرعية بالتوقف عن العمل وعدم إقامة ما يسمّى متحف التسامح كما يزعمون، وإن الشركة المنفذة لهذا المشروع العدواني غير التسامحيّ تدّعي بأن المحكمة الشرعية ليست ذات اختصاص للنظر في موضوع المقابر، وهذا ادعاء باطل، ونؤكّد أن المحكمة الشرعية هي ذات الاختصاص في موضوع الأراضي الوقفية والمقابر، كما نؤكد بأن أرض المقابر هي وقف إسلامي، وأن المتصرِّفَ بالمقابر والأراضي الوقفية هم المسلمون، ومن يمثل المسلمين هي دائرة الأوقاف الإسلامية، وقد أصدرنا فتوى شرعية قبل أيام مؤكّدين فيها على فتاوينا السابقة بحرمة المقابر ولا يجوز نبش القبور وبعثرة عظام الموتى، فيقول الرسول محمد : ((كسر عظم الميت ككسره حيا)) ، حتى شمل النهي عن الجلوس على القبور بقوله : ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) ، فما بالكم ـ يا مسلمون ـ فيمن ينبش المقابر ويعتدي على عظام الأموات؟! فالإثم أشد وأشد، ونحن نحتفِظ بحقنا الشرعي في هذه المقبرة وفي غيرها من المقابر مهما طال الزمان ومهما تعرّضت للاعتداءات، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4571)
برهان المحبة
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
25/1/1427
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطريق لمحبة الله تعالى. 2- حقيقة الإسلام. 3- حب الصحابة للنبي. 4- رحمة الرسول وحسن خلقه. 5- ضرورة ترجمة حب النبي إلى عمل. 6- كلمة بخصوص الوضع الفلسطيني. 7- استنكار ما يحصل في العراق من الاقتتال بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32].
أيها المؤمنون، إن من أسمى الغايات وأنبل الأغراض التي يستهدفها المرء في حياته الظفر بمحبة الله وتحصيل بره ورضاه. وللظفر بمحبة الله منهج مرسوم وطريق معلوم، وفي طليعة هذا المنهج متابعة رسول الله وحسن الاقتداء به والتأسي به في أقواله وأفعاله والتخلق بأخلاقه وآدابه، فذلك أهدى السبل وأقرب الطرق وآية كمال الإيمان وصدق اليقين.
أيها المسلمون، إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياما بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة، وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله وللرسول وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرّسول ، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره عن الآية الأولى: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله تعالى وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمّدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) ". ويقول عن الآية الثانية: " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي: تخالَفوا عن أمره فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ". فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادّعى وزعم في نفسه أنه محب لله تعالى.
أيها المسلمون، إن هذا الدين له حقيقة مميّزة لا يوجد إلا بوجودها، حقيقة الطاعة لشريعة الله والاتباع لرسول الله والتحاكم إلى كتاب الله، يقول الرسول : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) ، ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: (لو سلمت منا القلوب ما شبعت من كلام الله عز وجل، وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبة؟!).
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لَعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لِمن يحب مطيع
وعن أنس أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
وقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم الرسول أكثر من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ورضوا أن يبذلوا نفوسهم ومهجهم رخيصة في سبيل حبه وهم فرحون مستبشرون، وهذا زيد بن الدثِنة لما أخرجه أهل مكة ليقتلوه وكانوا قد أسروه قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله، ما أحب أن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأني لجالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحبّ أصحاب محمد محمدا.
أيها المسلمون، إن الحديث عن الحبيب محمد لهو حديث ممتع، شفاء لجفوة القلوب وقسوتها، كيف لا وهو رسول الرحمة وحامل الوحي وحامل ألوية العدل والسلام صاحب المقام المحمود ومخرج البشرية بإذن الله من دياجير الظلام والانحطاط إلى نور الإيمان الساطع؟! ولله در القائل:
تجود بالدمع عيني حين أذكره أما الفؤاد فللحوض العظيم ظَمِي
والقائل:
ملكَت سجاياه القلوب محبة إن الرسول إلى القلوب حبيب
نعم أيها المؤمنون، إن إيمان المرء لا يتم إلا بإجلاله والانقياد إلى شرعه ودينه، تلكم هي المحبة الصادقة التي أوصلت إلى الطاعة والاتباع الذي أشارت إليه الآية الكريمة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المسلمون، إن الرسول هو المثل الأعلى للإنسانية، فيوم أن اشتد إيذاء قومه له انطلق وهو مهموم على وجهه، فناداه ملك الجبال وقال: يا محمد، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين، فقال الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا)). وفي فتح مكة حين اشتد الخوف والفزع الهالع بمشركي مكة وظنوا أن الرسول سينال منهم وينتقم ضربَ الرسول المثل الأعلى بالعفو والصفح وقال: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرا؛ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
يا الله، يا الله، آذوه بالقول والفعل، وقابلوه بالجحود والنكران، فمنّ عليهم بالعفو والصفح، وصدق الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. أليس هو القائل: ((إنما أنا رحمة مهداة)) ؟!
أيها الناس، أيها العالم، فأين هو الإرهاب؟! وأين هو الدمار؟! وأين هو الفساد؟! وأين هو القتل؟! معاذ الله أن يكون ذلك مِن هديه صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المسلمون، ومع كلّ هذا الوضوح في هديه وفي حسن أخلاقه فقد تجرأ الأقزام والرعاع وأهل الباطل على مقامِه الكريم؛ مما أثار حفيظة المسلمين في أرجاء المعمورة، فانطلقت المظاهرات الغاضبة والمسيرات الحاشدة والاحتجاجات الشديدة على اختلاف أنواعها وأشكالها ووسائلها في كل مكان من هذا العالم، وبصور لم يسبق لها مثيل، لقد هزت العالم أجمع، وحركت مشاعره، وعرّفته بمدى حبّ المسلمين لرسولهم الكريم محمد وتفانيهم في الدفاع عنه والانتصار له. إنه التعبير الصادق عن المحبة الصادقة لرسول المحبة.
فصلوات الله وسلامه عليك يا سيّدي يا رسول الله، يا صاحب القلب الرؤوف الرحيم، ويا صاحب النفس التي ارتقت إلى السماء ففتحت لها الأبواب ورحّبت بها الملائكة الأطهار، نعَم أحبَّه الله واصطفاه وميَّزه على سائر خلقه، ولله در القائل:
أبى الله إلا رفعه وعلوَّه وليس لما يعليه ذو العرش واضع
أيها المسلمون، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
اللهم إنا نسألك حبك وحبّ رسولك محمد وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحبَّ إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، واليوم ترتسم علامة سؤال كبيرة على لوحة الأفق مفادها: وماذا بعد هذه الاحتجاجات التي ملأت الآفاق وشنّفت الآذان وهزّت المشاعر والوجدان وأعادت الأمل إلى القلوب؟ ويأتي الجواب بعد كل ذلك: لا بد من إبراز عدّة حقائق والقيام بخطوات إيجابية على أرض الواقع لترجمة هذا الحبّ لرسولنا وقائدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى عمل، ومن هذه الخطوات والحقائق:
أولا: استثمار ردّة الفعل التي حدثت عند الشعوب العربية والإسلامية بدعوتهم للعودة إلى الإسلام عقيدة وعملا وسلوكا واتباع نظام واحد ألا وهو نظام الإسلام واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام لتتكلّم باسمهم وتدافع عن دينهم وعن رسولهم الأعظم وتحافظ على حقوقهم وأوطانهم ومقدساتهم، ولا بد من التذكير بأن أول عمل بدأ به الرسول وقت دخوله المدينة المنورة هو إقامة الدولة على أسُس متينة مستمدّة من الشريعة الإسلامية ومن وحي السماء، وبقيت هذه الدولة قائمة قوية البنيان شامخة الأركان تحفظ الدين وتتبع نهج القرآن الكريم وسنّة الحبيب محمد وتحفظ للمسلمين كرامتهم وعزّهم ومجدهم وتحافِظ على أوطانهم ومقدساتهم وحقوقهم إلى أن حصلت المؤامرة الكبرى عليها من قبل أعداء الإسلام حيث عملوا على القضاء عليها بشتى الوسائل وكافة الطرق، حتى غابت معالمها عام 1924م، فذل المسلمون بعد أن كانوا أعزاء، وضعفوا بعد أن كانوا أقوياء، وتفرقوا بعد أن كانوا أمة واحدة، وانتهكت حرماتهم وسلبت بلادهم وأوطانهم واحتلت أراضيهم، وفي مقدّمتها أرض فلسطين أرض الإسراء والمعراج، وعلى أثر ذلك نشأت وقامت على الأرض العربية والإسلامية دول ودويلات، الكثير منها خاضع للشرق والغرب، لا تجمعها رابطة، ولا يوحّدها قانون. وأما عن الصراعات والخلافات بين هذه الدول فحدّث عنها ولا حرج؛ لبعدها عن منهج الله تعالى وتنكّرها لشريعة الإسلام.
ثانيا: قيام الأنظمة العربية والإسلامية بقطع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع كلّ دولة تحارب المسلمين في دينهم أو تسيء إلى رسولهم الكريم انطلاقا من قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8، 9].
ثالثا: إن البعض يرجِع ما حصل من إساءة إلى الرسول إلى جهل هؤلاء المسيئين بالرسول وبمكانته الدينية والاعتبارية، وعليه فإنه يتوجب على العلماء القيام بحملة تعرّف بتعاليم هذا الدين وبمكانة الرسول. أقول: هذه أمور يجب القيام بها، ولا أقلل من أهميتها، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهؤلاء المتطاولون والمسيئون يعرفون عن هذا الدين الإسلامي الشيء الكثير، ويعرفون مكانة الرسول الدينية، ويعرفون صدقه وأمانته وعدله وأنه رسول الرحمة ورسول السلام، ليس للمسلمين فقط وإنما للبشرية جمعاء، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. وهذا الموقف نفسه وقفه المشركون من قريش من قَبلهم، فكان هؤلاء المشركون يعرفون صدق الرسول وأمانته وعدله ورجاحة عقله معرفة حقيقية، إلا أنهم آذوه وكذبوه ونالوا منه قولا وفعلا، فكان ذلك يؤلم الرسول ويحزنه، فطمأنه رب العالمين بقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، فاطمأنت نفس رسول الله ، وقويت عزيمته وإرادته، وتابع دعوته حتى كتب الله له النصر المبين.
رابعا: ليس بعد بيان الله بيان، وليس بعد ثناء الله ثناء، وليس بعد مدح الله مدح، فقد مدح الله تعالى رسوله الكريم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا الخصوص. وعليه فإن ما أقدم عليه هؤلاء الأفاكون الحاقدون سيتحوّل إلى سهام ترتدّ إلى نحورهم وإلى نار تحرق صدورهم وقلوبهم، قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
خامسا: وانطلاقا من معرفتنا بموقف الرسول ممن آذَوه بالقول والفعل والمتمثل بالعفو والصفح والدعوة لهؤلاء بالهداية حيث كان يقول: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) فانه يتوجب أن يكون ردنا على هؤلاء المسيئين الحاقدين ومن يسير على نهجهم متَّفقا مع نهج النبوة ونابعا من تعاليم ديننا الحنيف ومتَّسِما بالحكمة والعقلانية عمَلا بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
أيها المسلمون، أيها المرابطون، وبالنسبة للوضع الفلسطيني فإني أقول وباختصار: إن حساسية الموقف وخطورة المرحلة تتطلّبان من الجميع الارتفاع عن المصالح الذاتية والغايات الفِئوية ووضع مصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية فوق كلّ الاعتبارات، فالاحتلال ما زال يجثم على صدورنا ويحتل أرضنا ويحوّلها إلى أجزاء وكنتونات، والاستيطان يستفحل ويمتدّ، والوصول إلى المسجد الأقصى أصبح صعب المنال، والحصار الاقتصادي يضرب علينا من كلّ اتجاه، وحملات الاعتقال والمداهمات مستمرة، ناهيكم عن المجازر التي ترتكب بحق أبناء شعبنا والتي أصبحت أمرا اعتياديا. إن هذه المجازر تذكّرنا وتعيد إلى أذهاننا ذكرى مجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن والتي تصادف غدا، هذه المجزَرة سقط ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى وقتَ صلاة الفجر على الرّكع السجود، إن بشاعتها ماثِلة في الأذهان، وستبقى طالما بقى هناك احتلال، فالرحمة لشهدائنا الأبرار الأطهار. وعلى ضوء ما ذكر لا بدّ من توحيد الصف والكلمة ولمِّ الشمل والاعتصام بحبل الله جميعا لتحقيق الهدف المنشود.
وأما بالنسبة لما يحصل في العراق الشقيق فإنه أمر مؤسف مؤلم حقّا، تدمى له القلوب، وتقشعر له الجلود، ولا يسعنا إزاء ما يحصل إلا أننا نتوجّه من على هذا المنبر إلى جميع إخواننا في العراق سنّة وشيعة لنناشدهم بالله العلي القدير أن يتقوا الله في أنفسهم وفي إخوانهم وفي وطنهم وشعبهم وأمتهم، وأن يعملوا على وَأد هذه الفتنة العمياء في مهدها لتفويت الفرصة على الأعداء والمحتلين، فربكم واحد، ورسولكم واحد، ودينكم واحد، وقبلتكم واحدة.
(1/4572)
دفاع عن الحبيب
الإيمان, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, الشمائل, جرائم وحوادث
شايع بن محمد الغبيشي
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المصطفى وشمائله. 2- جريمة الرسوم المسيئة للنبي. 3- وقفات مع هذه الحادثة. 4- واجبنا تجاه الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
حديثنا اليوم ـ عباد الله ـ عن السراج المنير الذي امتنّ الله به علينا، فأنار القلوب بعد ظلمتها، وأحياها بعد مواتها، وهداها بعد ضلالتها، وأسعدها بعد شقوتها، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:46]. عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله يقول: ((إني عبد الله وخاتم النبيين)) الحديث وفيه أن أم رسول الله رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام. قال شعيب الأرنؤوط: "حديث صحيح لغيره". وقال جابر رضي الله عنه: رأيت رسول الله في ليلة أضحيان ـ أي: ليلة مضيئة لا غيمَ فيها ـ، فجعلت أنظر إلى رسول الله وإلى القمر وعليه حلّة حمراء، فإذا هو أحسن عندي من القمر. رواه الترمذي. فكان النور الساطع بعد ظلام دامس، وكان الصباح بعد ليل طويل مظلم بهيم.
بزغ الصباح بنور وجهك بعدما غشت البرية ظلمة سوداء
فتفتقت بالنور أركان الدجى وسعى على الكون الفسيح ضياء
ومضى السلام على البسيطة صافيًا تروى به الفيحاء والجرداء
حتى صفت للكون أعظم شرعة فاضت بجود سخائها الأنحاء
يا سيد الثقلين يا نبع الهدى يا خيْر من سعدت به الأرجاء
حديثنا عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة، كنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله به، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. كنا على جهل وضلال وسوء أخلاق، فجاءنا بالهدى والنور ومكارم الأخلاق: ((إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق)). أنقذنا الله به من الموت على الكفر ودخول النار، كان أشفق بنا من الأم على ولدها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءَت ما حوله جعل الفَراش وهذه الدواب التي تقَع في النار يقَعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحُجُزكم عن النار، وأنتم تقحّمون فيها)) رواه البخاري، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، قال العلامة ابن سعدي رحمه الله تعالى: "هذه المنة التي امتنّ الله بها على عباده هي أكبر النِّعَم، بل أجلها، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقَذهم الله به من الضلالة وعصمهم به من التهلكة" اهـ
الحديث ـ أيها الكرام ـ عن خير البشر خيرِ من مشى على الأرض وخيرِ من طلعت عليه الشمس بل هو شمس الدنيا وضياؤها بَهجتها وسرورها، رِيقه دواء، ونفثه شِفاء، وعرقه أطيب الطيب، أجمل البشر، وأبهى من الدّرر، يأسر القلوب، ويجتذب الأفئدة، متعة النظر، وشفاء البصر، إذا تكلّم أساخت له القلوب قبل الأسماع، فلا تسل عما يحصل لها من السعادة والإمتاع، كم شفى قلبًا ملتاعًا، وكم هدى من أوشك على الهلاك والضياع. قال ابن الجوزي رحمه الله في وصفه: "من تحركت لعظمته السواكن، فحنَّ إليه الجذع، وكلّمه الذئب، وسبّح في كفه الحصى، وتزلزَل له الجبل، كلٌّ كنَّى عن شوقه بلسانه، يا جملةَ الجَمال، يا كلَّ الكمال، أنت واسطة العقد وزينة الدهر، تزيد على الأنبياء زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، والسماء على الأرض، أنت صدرهم وبدرهم، وعليك يدور أمرهم".
هذا النبي العظيم الذي أرسله الله هداية ورحمة للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فأخرج الله بهذا النبيّ الأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن العذاب إلى الرحمة، بعدما اجتالتهم الشياطين عن صراط الله المستقيم، فأشرقت الأرض بنور الرسالة المحمدية، ورغِمت أنوف المبطلين، وانخنس الكفر وأهله، مصداقًا لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. فما أعظم إحسانَه للبشرية، وما أحوجَها في هذه العصور التي علا فيها زبد الباطل وانتفَش إلى نور الحق الذي جاء به.
عباد الله، بعد هذه المقدّمة المقتَضبة عن أعظم العظماء وسيّد الأولياء وإمام الأتقياء دعوني أنقل لكم الخبر الفاجعة والمصيبة الداهية، خبر يقرح أفئدة المؤمنين ويقضّ مضاجع المتقين، فما ذلك الخبر؟ لقد سُخِر من رسول واعتدي على شخصه الكريم، فما أجل الخطب، وما أعظم المصاب، حُقّ للعين أن تدمع، وحقّ للقلب أن يحزن، شلّت يدٌ خطّت الإساءة إلى خير البرية وسيّد البشرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
في يوم الثلاثاء 26/8/1426هـ الموافق 30 سبتمبر الماضي تعرّض الرسول الكريم إلى هجوم حادّ وحملة حاقدة في الصحافة الدانمركية، والتي بدأت عندما أراد مؤلّف كتب أطفال دانماركي أن يضع على غلاف كتابه صورة للرسول ، ورفض رسام الكاريكاتير المكلَّف بإعداد الغلاف رسم هذه الصورة، فقرّر المؤلّف إقامة مسابقة لرسم الرّسول، حيث تقدم لها 12 رسّامَ كاريكاتير، أرسلوا 12 صورة مسيئة لرسولنا الكريم، ولم تفوّت صحيفة "بيو لاندز بوستن" اليمينية المتطرّفة والتابعة للحزب الحاكم هذه الفرصة في التقاط هذه الصوَر ونشرها استهانة بمشاعر أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم، بالرغم من أن مسلمي الدانمارك والبالغ عددهم 200 ألف ـ والإسلام هو الديانة الثانية في الدانمارك بعد المسيحية البروتستانتية ـ حاولوا الاحتجاج على القرار، وذلك عن طريق رفع مذكرة إلى الحكومة الدانماركية، إلا أن الجواب كان هو الرفض وإصرار الحكومة على دعم حملة الهجوم تحت مسمى "حرية التعبير"، بل كان الموقف الحكومي الدانماركي أكثر شراسة برفض المدّعي العام تلبية طلب الجالية الإسلامية برفع دعوى قضائية ضدّ الصحيفة.
ولنا مع هذه الحادثة وقفات:
الأولى: عِظم هذه الجريمة، فهي تنتهك حرمة أعظم رجل مشى على الأرض رسول الرحمة والهدى، والاعتداء عليه اعتداء عل المولى جل وعلا واعتداء على الدين الذي جاء به ؛ ولذا فقد بين العلماء حكم من سبّ النبي ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من سب النبي من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حدّ من سب النبي القتل، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي رحمهم الله جميعًا، قال عبد الله بن الحكم: من سب النبي من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب.
الثانية: التأكيد على عقيدة الولاء والبراء، فالكفر ملة واحدة، وهو يناوب الأدوار في كره الدين وبغضه والعداوة له ولأهلة، فمرة هجوم على الإسلام، ومرة اعتداء على القرآن، واليوم العداوة لرسول الله. وقد أوضح الله هذا الأمر وجلاه، قال تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ، فالعداوة لرسول الله ودينه وكتابه باقية إلى قيامة الساعة، وهي رسالة إلى كل مسلم أن يجدّد عقيدته، فيحب رسول الله وحزبه المؤمنين، ويكره حزب الشيطان الكافرين.
الوقفة الثالثة: أن هذه الهجمة من أعداء الدين وأعداد النبي هي اختِبار لنا كمسلمين، هل نهبّ لنصرة نبينا وندافع عنه أم نبقى في غفلتنا ونومنا؟ وإلا فالله سبحانه قد تكفّل بالدفاع عن نبيّه ومصطفاه، قال الله جل شأنه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب:57]، وقال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94، 95]، وقال تعالى: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67]؛ ولذا يجب على كل مسلم أن يهب إلى نصرة حبيبه ويدافع عنه بكل ما يملك.
أسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا حبه، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجعلنا فداء له ولدينه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى ما بدر بدا وما ليل سجى، وعلى آله وصحبه أولي النهى.
أما بعد: الوقفة الرابعة: كيف نواجه هذا العدوان؟ وما الواجب على المسلم حيال نبيه ؟
أولاً: المقاطعة التامّة لدولتي الدنمرك والنرويج سياسيًا واقتصاديًا جزاء اعتدائهم على حبيبنا ، وقد عرض ذلك مجلس الشورى، وكان من نتائج ذلك المقاطعة السياسية من بلاد الحرمين وفقها الله وحرسها، فقد تمّ استدعاء سفير المملكة بالدّنمارك، ونتج عن ذلك مقاطعة مجموعة من كبار التجار لمنتجات الدولتين، حتى إنّ بعض البضائع ردّت من الجمارك، وأعلن العثيم مقاطعتَه لتلك المنتجات، ونتج عن ذلك خسائر خِلال الأيام السابقة تجاوزت مليار دولار، وحثّ العلماء على مقاطعة تلك المنتجات من قِبل عموم الناس، فهل نحتسب ذلك عند الله دفاعًا عن حبيبنا ورسولنا ودفاعًا عن ديننا وعقيدتنا؟ هل نقول: لا للمنتجات الدنمركية والنرويجية؟ آمل ذلك.
ثانيًا: عرضُ سيرته وذلك من خلال كلّ الوسائل المتاحة؛ بالمقالة والمطوية والنشرة والكتاب الصغير والكبير والبرامج المرئية والمسموعة، ومن خلال المدارس والمساجد والبيوت والمحافل، حتى يقف الصغير والكبير على تفاصيل سيرته وسنته ، فهذا الرجل أعظم رجل في التاريخ، وهو منا، ونحن منه، وقد فزنا به، وشرفنا بالنسبة إليه، فلا يليق بنا أن نجهل تاريخه وسيرته، فلا نعرف منها إلا القليل.
ثالثًا: طاعته، قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَّكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.
ربعًا: تعظيم النبي وتوقيره، كان محمّد بن المنكدر إذا ذكره بكى حتى يرحمه الجالسون، وكان ابن مهدي إذا قرأ حديث النبيّ أمر الحاضرين بالسكوت: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ.
خامسًا: الصلاة والسلام عليه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
سادسًا: الشوق إلى النبي.
نسينا فِي ودادك كلَّ غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على مَحبتكم ويكفي لنا شرفا نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقًا يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنّا لعمرو الله بعدك ما سلونا
سابعًا: تذكُّره وتمنى رؤيته، روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)) ، وروى أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((يقدم عليكم غدًا أقوام هم أرقّ قلوبًا للإسلام منكم)) ، قال: فقدم الأشعريّون فيهم أبو موسى الأشعري، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجِزون يقولون:
غدًا نلقى الأحبة محمّدًا وحِزبَه
فلما أن قدموا تصافحوا، فكانوا هم أول من أحدث المصافحة.
ثامنًا: محبّة قرابته وآل بيته وأزواجه، روى مسلم عن زيد بن أرقم مرفوعًا: ((ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله)) ، ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)).
تاسعًا: محبة سنته والداعين إليها، وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ.
(1/4573)
خطر الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي
محمد بن عبد العزيز المسند
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خمران مسكران. 2- خمر الغناء. 3- انتشار الغناء في هذا العصر. 4- مفاسد الغناء. 5- أدلة تحريم الغناء. 6- أقوال العلماء في الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوهُ حقَّ التقوى، وراقبوهُ في سركم وعلنكم، واحذروا غضبهُ وعقابه، فإنَّ أجسادَكم على النارِ لا تقوى.
أيَّها المسلمون، خمران مسكران مفسدان حرّمهما الإسلام، ونهى عنهما أشدَّ النهي، أحدهما يُسكِر البدن ويُذهبُ العقل، لكنَّهُ على الرغم من خطرهِ وعِظم شرّه لا يلبثُ صاحبهُ أن يفيقَ من سكره ويعود إلى رشده، وأمَّا الخمر الآخر فإنَّهُ يُسكر الروح ويُفسد القلب ويستولي عليه، فلا يبقي فيه مكانًا لمحبةِ الله وتعظيمهِ والأنس به، وهذا الخمرُ لا يَكادُ صاحبهُ يفيقُ منه إلا أن يتداركهُ الله برحمةٍ منه.
هذا الخمرُ الذي طالما خدَّرَ الأممُ والشعوب وسلبها حضارتها وانتصاراتها وشحذ شهواتها الحيوانية وتعلقت به النفوسُ تعلّقًا شديدًا أشدَّ من تعلقها بكتابِ ربها وسنةَ رسوله الكريم ، كلُّ هذا مع أنَّ أدلةَ الشرعِ قد تتابعت على تحريمهِ، وحذّرت منه، لمنافاتهِ لروح الإسلام الجادَّة وتعاليمهِ الطاهرةِ الرفيعة، هل عرفتموه أيّها المسلمون؟ إنَّهُ الغناءُ المحرّم، المصحوبِ بآلاتِ اللهوِ والمعازف، الذي ألِفهُ كثيرٌ من الناسِ واعتادوه، بل استحلّوهُ مصداقًا لقولِ النبي : ((ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)).
فهذا الحديثُ من أعلامِ نبُوتهِ ، وها نحنُ نرى اليومَ هذا الغناءَ الخبيث وهو يُبَثُّ من سائرِ المحطاتِ والإذاعاتِ إلاَّ القليل بلا نكيرٍ ولا تغيير، ولم يقتصرِ الأمرُ على ذلك حتى ضمُّوا إلى ذلك صور الصبايا الفاتنات الكاسياتِ العاريات المائلاتِ المميلات وهنَّ يتراقصنَ على أنغامِ الموسيقى بشكلٍ مخجل، فلا إلهَ إلاَّ الله، ما أعظمها من فتنة، وما أشدَّها من بلية، فلا تعجب ـ أخي المسلمُ ـ إذا علمتَ أنَّ اللهَ حرَّم الغناءَ بمكةَ قبل تحريمِِ الخمرِ بالمدينة، وما ذلك إلاَّ لخطرهِ على الإيمانِ والعقيدة، وقد عبَّرَ عن ذلك الإمامُ ابن القيم رحمهُ اللهُ بقوله:
فالقلبُ بيتُ الربِّ جلَّ جلالَهُ حبًا وإخلاصًا مع الإحسانِ
فإذا تعلَّقَ بالغناءِ أصارهُ عبدًا لكلِّ فلانةٍ وفلانِ
حُبُّ القرآنِ وحُبُّ ألحانِ الغنا فِي قلبِ عبدٍ ليس يجتمعانِ
واللهِ ما انفكَ الذي هو دأبهُ أبدًا من الإشراكِ بالرحْمنِ
واللهِ إنَّ سماعهم في القلبِ وال إيمانِ مثل السُمّ في الأبدانِ
وإذا أردت ـ أخي المسلمُ ـ معرفةَ خطر هذا البلاء فتأمل حال من ابتلوا بفتنةِ من يسمونها كوكَب الشر أو غيرها، كيف يسهَرون الليالي الطوال ودموعهم على خدودِهم يتجَاوبون مع التأوّهات والتكسّرات التي تصدرها تلك المغنّية الفاجرة التي خلعت جلبابَ الحياءِ وخوف الله سبحانه، ثمَّ تفكّر بعد ذلك كيف يتسنى لأمةٍ هذا حالُ أكثرِ أفرادها أن تبني مجدًا أو تستعيدَ عزًا أو حتى أن تدفع عن نفسها عدوًا أو طامعا، والتاريخُ شاهدٌ على أنَّهُ ما من أمةٍ أوغلت في الغناءِ والموسيقى إلا أصيبت بالضعف والوهن والفساد الخلقي كما تردت الأمة الرومانية واليونانية من قبل، وكما تتردى اليوم الأمة الغربية في أمراضها القاتلة، وذلك أنَّ الاستماعَ إلى الموسيقى والغناءِ الماجنِ يُولدُ في النفس الارتخاءَ الدائم ويشحذُ الشهوات، فتصعبُ التكاليفُ، وتستيقظُ الشهوة، وتعظمُ الحياة الدنيا ولذاتها في النفس، وتتلاشى الآخرةُ والعمل لها، لأنَّ الغناءَ والموسيقى ذروةُ اللهو، واللهو ذروة الحياة الدنيا، وفي ذلك كلهِ تخديرٌ لمشاعر الجهادِ والتضحيةِ والفداء، ويكفيكَ أن تنظرَ إلى تصرفات السامعين وحركاتهم المنافيةِ للوقار، وتستمع إلى أمانيهم في إشباعِ شهواتهم التي ألهبها هذا الغناء، يكفيكَ هذا لتحكمَ على هذا المنكرِ وأثرهِ المدمر في حياةِ الأممِ والشعوب، وهذا نذيرٌ للأمم اللاهية الراقصة، ومن هُنا تعلمُ.
أخي المسلم، لماذا يركّزُ أعداءُ الإسلام في مخططاتهم الإجرامية لإفسادِ العالم على نشرِ الغناءِ والرقص والموسيقى وتشجيع محترفيها والدعاية لهم، وقد ذكروا في بروتوكلاتهم أنَّهم سينشرون الفنَّ والرياضة، ويخدرون بهما الشعوب، حتى يخلوَ لهم الجوُّ، فيحكموا العالم ويتحكّموا فيه، وقد نجحوا في ذلك.
فإلى الذين يُردّدون في كلِّ مناسبة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهم يعلمون أنَّهم يُعلِنون بهذا ولاءَهم الكامل للهِ ورسوله ويُسلمون له قيادهم، إلى المؤمنين الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياتهُ زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، إلى هؤلاءِ أسوقُ حُكم الله تعالى في هذا المنكر الذي أصبحَ اليومَ معروفًا:
يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
فسَّر كثيرٌ من الصحابة والتابعين لهو الحديثِ في الآيةِ بالغناء، بل حلفَ على ذلك ابن مسعودٍ رضي الله عنه فقال: (واللهِ الذي لا إلهَ غيره، هو الغناء)، قالها ثلاثا. وروى البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، وهو نصٌ صريحٌ في تحريم المعازفِ بجميعِ أنواعها، ولو لم يكن في تحريم هذا المنكرِ إلاَّ هذا الحديث لكفى.
وقد اتفق الأئمةُ الأربعة رحمهم الله على تحريم الغناء، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على كسرِ آلاتِ اللهو كالعودِ ونحوه إذا رآها مكشوفةً وأمكنهُ كسرها.
وقال القاسمُ بن محمد: "الغناءُ باطلٌ، والباطلُ في النار"، ويقولُ الفضيلُ بن عياض: "الغناءُ رقيةُ الزنى"، وقال يزيد بن عبد الملك: "يا بني أميّة: إيَّاكم والغناء، فإنَّهُ يُذهبُ الحياء، ويزيدُ في الشهوة، ويهدمُ المروءة، وإنَّهُ لينوبُ عن الخمر، ويفعلُ ما يفعلُ السّكر"، وسمع سليمان بن عبد الملك صوت غناءٍ فأحضر المغنين وقال: "إنَّ الفَرسَ ليصهلُ، فتستودقُ له الرمكة، وإنَّ الفحلَ ليهدر فتضبعُ له الناقة، وإن التيسَ لينبُو فتستحرمُ له العنز، وإنَّ الرجلَ ليتغنى فتشتاقُ لهُ المرأة"، ثُمَّ أمر بخصائهم. فأيُّ رجلٍ بعدَ هذا يملكُ في نفسهِ شيئًا من الغيرةِ والرجولة يسمحُ لنسائهِ وبناتهِ الإصغاءَ إلى غزلِ الفجَّارِ من المغنين السافلين؟! فلعمرُو الله كم من حُرّةٍ صارت بالغناءِ من البغايا، وكم من حُرٍ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيورٍ تبدَّلَ به اسمًا قبيحًا بين البرايا.
هذه ـ أيّها المسلمون ـ أقوال سلفنا الصالح في غناءٍ معظمهُ زهدٌ وحرب، فكيفَ بما هو سائدٌ اليوم من غناءٍ ماجن، يُحرّضُ على الفاحشةِ ويشحذُ الشهوات ويفجر الغرائز الحيوانية؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروهُ وتوبوا إليه، إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العظيمِ الرحمن، الكريمِ المنان، المتفضلِ بواسع الرحمة والعطاء والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أيَّها المسلمون، لقد عمّت فتنةُ الغِناءِ في هذا الزمن وطمّت، حتى لم تدَع بيتًا إلا دخلته، وهذا والله نذيرُ شؤمٍ وعذاب، يقولُ ابنُ القيم رحمه الله: "فإنَّ من يُعظمُ المغنيات والمغنين ويجعلُ لهم نوعَ رياسةٍ وعزٍ لأجل ما يستمعُ به منهنَّ من الغناءِ وغيره قد تَعرضَ من غضبِ الله ومقته وسلب نعمه عنه إلى أمرٍ عظيم، ولله كم زالت بهؤلاءِ نعمة عمّن أنعم الله عليه فما رعاها حق رعايتها، وقد شاهدَ الناسُ من ذلك ما يطولُ وصفه، وما امتلأت دارٌ من أصواتِ هؤلاءِ وألحانهم وأصواتِ معازفهم ورهجهم إلا وأعقبَ ذلك من حُزن أهلها ونكبتهم وحلول المصائبِ بساحتهم ما لا يفي بتلك الشرور من غيرِ إبطاء، وسلِ الوجودَ ينبيكَ عن حوادثه، والعاقلُ من اعتبرَ بغيره"، وقال رحمهُ الله: "ومعلومٌ عند الخاصةِ والعامة أنَّ فتنةَ سماعِ الغناءِ والمعازف أعظمُ من فتنةِ النوحِ بكثير، وإذا شاهدناه نحن وغيّرنا وعرفناه بالتجارب أنَّهُ ما ظهرت المعازفُ وآلات اللهوِ في قومٍ وفشت فيهم واشتغلوا بها إلاَّ سلط الله عليهم العدو، وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقلُ يتأملُ أحوالَ العالمِ وينظر". وصدق رحمهُ الله، فهل من معتبر؟!
ألا فليتقِ الله أقوامٌ عكفوا على استماعِ هذا الغناء وآلاته وملؤوا به قلوبهم، وليتق الله أقوامٌ رضوا به في بيوتهم وبين أهليهم نابذين شرعَ اللهِ وراءهم ظهريًا.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم بدل خوفهم أمنًا، وذلهم عزًا، وفرقتهم اجتماعًا وألفة...
(1/4574)