حول حادث الإفساد في مدينة الخرطوم
الإيمان, فقه, موضوعات عامة
الحدود, الصلاة, الولاء والبراء, جرائم وحوادث
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
30/6/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم الصلاة والاستغفار للمشرك ووصفه بالشهادة. 2- وجوب دفع الصائل. 3- عدم جواز التعرض لغير المعتدي. 4- وجوب مناصرة المسلم. 5- خطر الشائعات والخروج على الحاكم في أوقات الفتن. 6- شدة عداوة النصارى للمسلمين. 7- وجوب إقامة حد الحرابة على محدثي أعمال الشغب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم تنزيله: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [التوبة:33].
أيها المؤمنون، كلنا عايش أحداث الاثنين 26 جمادى الآخرة 1426هـ، المتمثّلة في قيام فئة باغية بعد إعلان موت "جون قرنق" بقتل وجرح الأبرياء وإحراق المتاجر وانتهاك الأعراض وقطع الطريق، وفي ترحّم بعض الناس لهذا النصراني بل والشهادة بأنه من الشهداء! ولنا وقفات حيال هذا الحادث الأثيم.
أيها المؤمنون، لا يجوز لمسلم أن يستغفر لكافر أبدًا وإن كان أباه أو قريبه، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113، 114].
جاء في سبب نزول هذه الآية عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أُميّة بن المغيرة، فقال رسول الله : ((يا عم، قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أشهد لك بها عند الله)) ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُميّة: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله : ((أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك)) ، فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]. أخرجاه في الصحيحين.
قال ابن حجر موضّحًا معنى قوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ : "خبر بمعنى النهي" [1].
وجاء أيضًا في سبب نزولها عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟! فقال: أوليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟! فذكرت ذلك للنبي فنزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. أخرجه الترمذي وحسّنه الألباني.
ومن الآيات المحرمة لذلك قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:80]. فعزم النبي على أن يزيد على السبعين فنزلت الآية: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:6].
ومن الآيات: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]. نزلت بعدما صلّى النبي على عبد الله بن أُبي ابن سلول، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله بن أُبي لما توفّي جاء ابنه إلى النبي فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفّنه فيه وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه النبي قميصه فقال: ((آذِنّي أصلي عليه)) ، فآذَنَه، فلما أراد أن يصلّي عليه جَذَبَه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟! فقال: ((أنا بين خِيرَتَين، قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ )) ، فصلّى عليه، فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ. أخرجاه في الصحيحين.
وقد جاء في السنة ما يؤكد هذا الأمر، ففي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)). قال النووي: "وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. قال القاضي عياض رحمه الله: سبب زيارته قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله في آخر الحديث: ((فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت))" [2].
وجاء في تفسير الطبري عن عصمة بن راشد عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه، قلت: ولأبيه، قال:لا؛ إن أبي مات وهو مشرك [3].
وقد ثبت في المذاهب الأربعة أن هذا الفعل ـ أعني: الاستغفار للمشرك ـ لا يجوز.
قال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: "فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز" [4].
وجاء في المبسوط للسرخسي: "إذا وَجَدَ ميتًا في أرض كفر فالظاهر أنه منهم، فلا يصلي عليه إلا إذا تبيّن أنه مسلم" [5].
وفي روضة الطالبين للنووي: "ولا تجوز الصلاة على كافر حربيًّا كان أو ذميًّا" [6].
وقال ابن قدامة في المغني: "وأما أهل الحرب فلا يُصلّى عليهم لأنهم كفار، ولا يقبل فيهم شفاعة، ولا يستجاب فيهم دعاء، وقد نُهِينا عن الاستغفار لهم، وقال الله تعالى لنبيه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ، وقال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ " [7].
ولا يُشكِل على هذا ما أخرجاه في الصحيحين من قول النبي : ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ؛ لأنه دعا لهم حال حياتهم، وكلامنا في الاستغفار لهم بعد موتهم، ولذا قطع إبراهيم عليه السلام الاستغفار لأبيه بعدما مات على الشرك وتبين له بذلك أنه من أعداء الله. وثبت أنه دعا لدَوْس وهم على الكفر فقال: ((اللهم اهد دوسًا وأتِ بهم)) أخرجه الشيخان.
وإن من الغرائب ـ وما أكثرها ـ أن يوصف هذا الكافر بأنه من الشهداء! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [الكهف:5].
إن المسلم الذي يموت في ساحات الوغى لا يجوز أن نقطع بكونه شهيدًا، قال البخاري في الصحيح في كتاب الجهاد والسير: "باب لا يقول: فلان شهيد"، ثم ذكر حديثين يدلان على تبويبه: قول النبي : ((والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)). وكما جاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله : ((أما إنه من أهل النار)) ، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدًا. قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِح الرجلُ جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نَصْلَ سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك؟)) قال: الرجل الذي ذكرتَ آنفًا أنه من أهل النار فأعظَمَ الناسُ ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جُرِح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نَصْلَ سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) أخرجه الشيخان. هذا في المسلم، فكيف يُنعَتُ كافر بالشهادة؟!
ولهذين الحديثين قال عمر : لعلكم تقولون في مغازيكم: قُتِل فلان شهيدًا، مات فلان شهيدًا، ولعله أن يكون قد أَوْقَر عَجُزَ دابته أو دَفَّ راحلته ذهبًا وفضة يبتغي التجارة، فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال محمد : ((من قُتِل في سبيل الله فهو في الجنة)) أخرجه أحمد وحسّنه ابن حجر في الفتح.
معاشر العباد، من المقرّر في ديننا وجوب دفع الصائل وإن كان الصائل مسلمًا، فكيف بالصائل الكافر؟! فالصائل يُدفَع بالأدنى فالأقوى، فإذا لم يندفع شرّه إلا بالقتل قُتِل بلا إثم أو وَزَر، فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد)) أخرجه الترمذي، وقال : ((من قُتِل دون مَظْلَمَته فهو شهيد)) أخرجه أحمد والنسائي، وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) أخرجه مسلم، وثبت في جامع الترمذي أن عبد الله بن المبارك قال: "يُقاتِل الرجلُ عن ماله وإن درهمين". وقال الإمام النووي: "باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المَصُول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه" [8].
ومسألة دفع الصائل وجواز قتله إن لم يندفع شره إلا بالقتل مجمع عليها كما قال ابن حجر رحمه الله [9] ؛ ولذا قال خليل في المختصر: "وجاز دفع صائل على نفس أو مال أو حريم".
ولكن عباد الله، لا يجوز أن نعتدي على غير المعتدي، فالله سبحانه حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرّمًا، فالاعتداء يكون على المعتدين، ومن سلمنا من شرّهم وجب أن يسلموا من اعتدائنا، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:39-42]، وقال تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى [البقرة:194]. قال: فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ وليس على غيره.
أيها المؤمنون، مِن آكد واجبات شرعنا التي دعا لها نصرة المؤمن لأخيه المؤمن، قال تعالى: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ومعنى الآية: أن الكفار ينصر بعضهم بعضًا، ونحن إذا لم تحل هذه النصرة بيننا سادت الفتن والفساد.
ولقد سَيّرَ النبي جيشًا كاملاً لينصر امرأة نِيل من حشمتها ورجل أُرِيق دمُه، فكان هذا سبب غزوة بني قَيْنُقَاع، وقد قال النبي : ((المسلم أخو المسلم لا يسلمه)) أخرجه الشيخان، أي: لا يسلمه لعدوّه، بل يقوم بمناصرته، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم)) أخرجه أحمد وأبو داود.
وتأمل ـ رعاك الله ـ قوله: ((وهم يد)) ؛ هم: ضمير منفصل يدل على الجمع، ويد: لفظ مفرد، فهذه جملة تدل على التماسك العظيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
إن نصرة المؤمن لأخيه تكون في جميع الأحوال، قال : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: ((تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره)) أخرجه البخاري. فلا يجوز لمسلم يرى أعداء الله من النصارى يضربون أخاه أو ينتهكون عرض أخته المسلمة أن يقف موقف المتفرّج، فهذا جبن وخَوَر، ومن فعل ذلك فليس برجل.
وإن من مظاهر هذه النصرة هذه الدوريات التي يقوم بها شبابنا ليلاً؛ لحماية أنفسهم وجيرانهم وأماكنهم، فحيّاهم الله، وبارك فيهم.
عباد الله، إن مما يُؤجّج نار الفتنة إطلاق الشائعات التي تفتّ في عضدنا وتوهن قوتنا وتمزّق وحدتنا، فهذا هو الإرجاف، وهو محرم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الإرجاف: إشاعة الكذب للاغتمام به) [10] ، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن ذلك بقوله: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا [الأحزاب:60-62]. قال الجصّاص رحمه الله: "في هذه الآية دلالة على أن الإرجاف بالمؤمنين والإشاعة بما يغمّهم ويؤذيهم يستحق به التعزير والنفي إذا أصر عليه ولم ينته عنه" [11].
وجاء النهي عن إشاعة الأخبار الكاذبة حال الفتن لإلحاق الغم بالمؤمنين أيضًا في قوله: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
وقديمًا قيل: الأراجيف مَلاقِيح الفتن. وإنّ عدم التثبت في الأخبار وإشاعتها بلا تأكد كاد أن يذهب بحياة كثير من الناس، ولذا أنزل الله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
معاشر المؤمنين، ومما يوهن جسد الأمة محاولة بعض المنحرفين الاصطياد في الماء العَكِر، فيستغلون هذه الفتن وينادون بالخروج على الحاكم، ألا فليُعْلَم أن الفتن إذا حلّت كان من أعظم أسباب دفعها أن يكون الناس يدًا واحدة تحت قيادتهم وطاعة ولي أمرهم. ومن أعظم أسباب اشتعالها وبقائها وازديادها الخروج على الحاكم، فهذا يجعل الفتنة فتنًا والشرر نارًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] فتح الباري (8/508).
[2] شرح صحيح مسلم (7/45).
[3] جامع البيان (11/44).
[4] الجامع لأحكام القرآن (8/273).
[5] المبسوط (2/54).
[6] روضة الطالبين (2/118).
[7] المغني (2/220).
[8] كتاب القسامة الباب الرابع.
[9] فتح الباري (12/222).
[10] انظر: الجامع لأحكام القرآن (14/246).
[11] أحكام القرآن (5/245).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا معاشر العباد، تمر هذه الأحداث الحزينة لتؤكد ما حكاه الله في كتابه من شدة عداوة النصارى للمؤمنين، قال تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105]، وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109]، وقال: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. أما آن لنا ـ أيها المؤمنون ـ أن نعرف عدونا، فنحكم له بعقيدة البراء؟!
أيها المؤمنون، عَوْدًا على بدء أقول: قال تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [التوبة:33]. أتدرون فيمن طبّق النبي هذا الحكم؟! على أعراب قدموا على رسول الله المدينة فاجْتَوَوْها، فقال لهم رسول الله : ((إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها)) ، ففعلوا فصحّوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذَوْدَ رسول الله ، فبلغ ذلك النبي فبعث في أثرهم، فأُتِي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَل أعينهم، وتركهم في الحرّة حتى ماتوا. أخرجه الشيخان. سَمَل أعينهم: أذهب ما بها. وفي رواية: سَمَّر، وفي ثالثة: سَمَر أي: جاء بمسامير محمية ووضعها في أعينهم.
وهذا الفساد الذي حدث يوم الاثنين الماضي أعظم بكثير من فساد هؤلاء الأعراب، فحكم الله فيهم هو ما بيّنه النبي بفعله هذا، فنسأل الله أن يُسلّط عليهم من يقيم فيهم حدّ الله تعالى.
(1/4388)
العمرة: فضائل وأحكام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأعمال
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
14/7/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العمرة. 2- حكم العمرة. 3- فضل العمرة. 4- وقت العمرة. 5- تنبيهات لمريد العمرة. 6- صفة العمرة. 7- أحكام زيارة المسجد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:196]. أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإتمام العمرة له سبحانه، فالعمرة شعيرة من شعائر ديننا الحنيف.
والعمرة في لغة العرب: الزيارة، وهي في اصطلاح فقهائنا: زيارة البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة.
وقد أجمع العلماء على مشروعية العمرة، ولكنهم اختلفوا في حكمها، فقال بعضهم بوجوبها، والصحيح قول من قال باستحبابها. وأما قول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فلا يدل على وجوبها، بل غاية ما في الآية الكريمة الأمر بإتمامها لمن شرع فيها.
عباد الله، جاء في السنة النبوية المطهرة ما يدل على عظيم فضل هذه الشعيرة، فمن ذلك أنها تمحو الآثام وتكفر الذنوب، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه الشيخان. وندب النبي إلى الإكثار منها فقال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب)) أخرجه الترمذي والنسائي. وامتدح المعتمرين بقوله: ((الحُجّاج والعُمّار وَفْد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)) أخرجه ابن ماجه والبزار. فليستبشر من عزم على العمرة بهذه النصوص.
أيها المؤمنون، ليس للعمرة وقت معين، بل توقع في أي وقت ما عدا أيام الحج. وأفضل أوقاتها في رمضان لقول نبينا : ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) أخرجه الشيخان. فإن لم يتمكن المسلم من ذلك فليحاول القيام بها في أشهر الحج؛ لأن النبي اعتمر أربع مرات جميعها في أشهر الحج.
ولا ينبغي لمسلم أن يعتقد أن للعمرة في رجب ميزة معينة، فهذا مما لا دليل عليه، فقد دلت الأحاديث على أن النبي لم يعتمر في رجب، قال مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، فسئل: كم اعتمر رسول الله ؟ قال: أربعًا إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، فقال عروة: يا أماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟! قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب.، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد ـ أي: حاضر معه ـ، وما اعتمر في رجب قط. أخرجه الشيخان. وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال: لا ولا نعم. قال النووي: "قال العلماء: هذا يدل على أنه ـ أي: ابن عمر ـ اشتبه عليه أو نسي أو شك. ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة" [1].
وأما الوقت الذي ينبغي أن يكون بين العمرة والعمرة فقد قال الإمام أحمد لما سئل: كم بين العمرتين؟ قال: "ينتظر حتى يُحَمَّمُ رأسه. أي: يسودّ بنبات الشعر عليه".
معشر المؤمنين، من عزم على أداء هذه العبادة العظيمة فعليه أن يتنبه لهذه الأمور:
أن يخلص في عبادته؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وأن لا يريد بعمله الدنيا وحُطَامها، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15، 16]، وقال: من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:18].
ومنها أن يقف على أحكامها ويتعلم هدي النبي فيها؛ لأن الله لا يقبل العمل إذا خالف هدي النبي ، ولذا قال النبي لأصحابه يوم حجة الوادع: ((لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) أخرجه مسلم.
ومنها التوبة ورد المظالم، قال النبي : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار)) أخرجه مسلم.
ومنها أن يتزود لعمرته لئلا يريق ماء وجهه بسؤال الناس، قال النبي : ((من تكفَّل لي أن لا يسأل شيئًا وأتكفّل له بالجنة؟)) فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. أخرجه أحمد.
ومنها أن يعتمر بمال حلال؛ فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا، ومن اعتمر بمال سُحْت فإنما أتعب نفسه.
عباد الله، صفة العمرة أن يحرم المعتمر فيتجرّد من لباسه، ويلبس الإزار والرداء، وله أن يتطيب في بدنه، فإن بقي أَثَرُ الطيب وفاحت رائحته بعد الإحرام فلا حرج عليه في ذلك. وينبغي أن يختار البياض من الثياب. ولا يحل له أن يلبس الخُفّ إلا إذا لم يجد غيره. وليس للمرأة ثياب معينة لإحرامها، بل حجابها الشرعي هو إحرامها، لكنها لا تَنْتَقِب ولا تلبس القفّازين؛ لقول النبي : ((لا تَنْتَقِب المحرمة، ولا تلبس القفّازين)) أخرجه البخاري. وإذا مر الرجال بها سترت وجهها بلا نقاب.
ثم يشرع المعتمر في التلبية بعد أن يقول: لبيك عمرة، يلبي قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. يجهر بها في الطرقات، وهذا هو هدي النبي ، فإذا بدأ في الطواف قطع التلبية.
ويبدأ الطواف بمجرد دخوله للمسجد الحرام، والبداية والنهاية تكون عند الحجر الأسود، فإن استطاع أن يستلمه استلمه وقبّله وكبّر وبدأ طوافه، وإلا استلمه بعصا ونحوها وقبّل ما استلم به، وإن لم يتيسر له شيء من ذلك أشار إليه، ولا يقبّل يديه، وكبّر وبدأ الطواف.
وفي الطواف سنتان: الرَّمَل وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى، ويكون في الأشواط الثلاثة الأولى. والاضْطِبَاع وهو أن يجعل طرفي ردائه على كتفه الأيسر، ويبدي الكتف الأيمن، ويكون هكذا في الطواف كله. فإذا فرغ من طوافه أعاد ثيابه فوق كتفه، ولا يصلي ركعتي الطواف مُضْطَبِعًا.
فإذا جاء إلى الركن اليماني ـ وهو الركن السابق للحجر الأسود ـ استلمه بلا تقبيل، ويقول بينه وبين الحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. ويكون طوافه بالبيت على طهارة.
والمرأة إذا أحرمت ثم حاضت بقيت على إحرامها حتى تطهر، ولا تطوف بحيضتها.
وإذا شك الطائف في عدد الأشواط بنى على الأقل. وإذا أقيمت الصلاة صلى وأكمل طوافه ولم يستأنف من جديد. ولا يطوف داخل الحِجْر الذي يسمى بحِجْر إسماعيل، وإسماعيل عليه السلام لا علاقة له به؛ فالحِجْر جزء من الكعبة.
فإذا فرغ من الطواف قصد المقام وقرأ: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وصلّى خلفه ركعتين إن تيسر له ذلك، وإلا ففي أي مكان من المسجد، ويقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة الكافرون، وفي الثانية بالفاتحة والإخلاص. ثم يشرب من ماء زمزم، ويستلم الحَجَر الأسود إن تيسر له ذلك.
ثم يذهب إلى جبل الصفا، ويقرأ قبيل الوصول إليه: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ويقول: أبدأ بما بدأ الله به. ثم يرقى الصفا حتى يعاين الكعبة، فيرفع يديه ويقول: الله أكبر ـ ثلاثًا ـ لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بخيري الدنيا والآخرة، ثم يقول الذكر، ثم يدعو، ثم يكرر الذكر، ثم ينصرف، فإذا وصل إلى العلم الأخضر ركض بين العلمين من غير أن يؤذي أحدًا، فإن لم يتمكن من ذلك إلا بأذية بعض المسلمين فلا يركض؛ لأن ترك الأذية واجب، والركض مستحب، والواجب مقدم على المستحب.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فيا فوز المستغفرين.
[1] شرح صحيح مسلم (8/235).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإذا فرغ المعتمر من السعي حلق أو قصر، والحلق أفضل؛ لأن النبي دعا للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة. والواجب أن يعم المعتمر كل شعر رأسه بالحلق أو التقصير، أما تقصير بعض الشعر من بعض أجزاء الرأس فهذا ليس من هدي النبي في شيء. وليس على المرأة حلق، وإنما تأخذ من شعرها قَدْر أنملة من كل ضَفِيرة فيه.
عباد الله، إن من الأخطاء الشنيعة في ديننا أن تخرج المرأة للعمرة أو الحج بلا زوج أو محرم، فعن ابن عباس قال: قال النبي : ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) ، فقال رجل: يا رسول الله، إني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة، فقال : ((ارجع فحجَّ مع امرأتك)) أخرجه الشيخان. مع أن الصحابة ما كان ولا يكون مثلهم في الطهر والنقاء والعفة أرجعه النبي من جهاد وغزو ليحج مع زوجه.
واعلموا ـ وفقكم الله ـ أن زيارة المسجد النبوي سنة نُدِبنا إليها، ولكن لا علاقة لذلك بمناسك الحج أو العمرة، فمن اعتمر أو حج ولم يزر المسجد النبوي فلا إثم عليه ولا حرج. وإن آثر الإنسان الزيارة فهو أفضل، ولكنه ينوي بها زيارة المسجد لا القبر؛ لقول النبي : ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) أخرجه الشيخان.
ومن بدع هذه الزيارة أن الناس يُحَمّلون المعتمر السلام، ويقولون: قل للنبي : فلان يسلم عليك. وهؤلاء ينبغي أن يُوجَّهوا بحديث النبي : ((إن لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن أمتي السلام)) أخرجه أحمد.
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا...
(1/4389)
الغيرة على الأعراض
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
16/6/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الغيرة. 2- انعدام الغيرة سبب من أسباب فشو الفاحشة. 3- الغيرة سبيل الحفاظ على الأعراض. 4- الغيرة صفة المؤمنين وأولياء الله الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
الغَيْرة هي: الحَمِيّة والأَنَفَة، يُقال: رجل غَيُور، وامرأة غَيُور وغَيْرَى. والمِغْيار: شديد الغيرة. وفلان لا يتغيَّر على أهله: لا يغار عليهم [1].
قال الحافظ رحمه الله: "الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تَغَيُّر القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين" [2].
الغيرة على الأعراض من الأمور الجبِلّية الفطرية، وانعدامها دليل على انتكاس في الفطرة، وهو يفضي إلى انتشار الفواحش، ولا أدلَّ على ذلك من قصة يوسف عليه السلام، فإن أهل التفسير رحمهم الله بينوا أنَّ قول العزيز ليوسف عليه السلام: أعرض عن هذا [3] واكتفاءه به دليل على قلة غيرته، فكان أنْ أعادت امرأته محاولاتها لتحظى بما تريده من يوسف عليه السلام، فقد قال الله تعالى عن النسوة في سورة يوسف: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ [يوسف:30]، فجاء التعبير بالمضارع الدال على استمرارية سعيها، وقالت بعد ذلك لما طلبت اجتماعهن: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32]. ولو أنَّ زوجها عُرِف بغيرته لما حدث شيء من ذلك؛ لأن الغيور من الرجال تحذر امرأته من فعل ما يهيِّج غيرته، ولو أدى ذلك إلى أنْ تترك بعض ما لا إثم فيه، ولو قُدِّر أن صدر منها بعض ذلك فإنه يزجرها بما لا يجعلها تعاوده، وإليك أقوالهم التي تبين ما ذكرتُه من قلة غيرته:
قال ابن عطية رحمه الله: "وذلك أنَّ العزيز كان قليل الغيرة، بل قومه أجمعين، ألا ترى أنَّ الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال: يوسف أعرض عن هذا، وأنت استغفري، وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تُغوفِل عنها بعد ذلك؛ لأن دليل القميص لم يكن قاطعًا، وإنما كان أمارة ما، هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً" [4].
وقال القرطبي رحمه الله: "وقيل: إن القائل ليوسف: أعرض ولها: استغفري زوجها الملك، وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا، فلذلك كان ساكنًا، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود، الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف" [5].
وقال أبو السعود: "وقيل: كان ـ أي: العزيز ـ قليل الغيرة" [6].
وقال الرازي رحمه الله ناقلاً قول غيره مقررًا له: "إن ذلك الزوج كان قليل الغيرة، فاكتفى منها بالاستغفار" [7].
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبةً منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. ومع هذا فشاعت القصة، واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة في المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا فأرسلت إليهن، وأعتدت لهن مُتَّكَأً، وآتت كل واحدة منهن سكينًا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ليُقِمن عذرها على مراودته، وهي تقول لهن: فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّيَاثة " [8].
فهذا يبين أنَّ انعدام الغيرة سبب لانتشار الفواحش، أما الأدلة على أنَّ الغيرة تحمل على حفظ الأعراض والذود عن حماها فكثيرة:
منها أنَّ ابنة شعيب لما قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] أحفظته ـ أي: أغضبته ـ الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟! قالت: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين. فسُرِّي عن أبيها، وصدقها، وظن به الذي قالت [9]. فسؤاله لها دليل على صيانة عرضه، وسبب سؤاله الغيرة.
ومن غرائب أدلة ذلك أنَّ بلقيس التي أدركت سليمان عليه السلام كانت أمها من الجنِّ، وسبب ذلك أنَّ أباها كان وزيرًا لملك يغتصب نساء وزرائه، فأملت الغيرة عليه زواج جنية لا يراها ملكه [10].
ومن الأدلة أنَّ رجلاً دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين ـ عيدان يابسة ـ في ناحية البيت، فالتفت فإذا حَيَّة، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي: أن اجلس، فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله : ((خذ عليك سلاحك؛ فإني أخشى عليك قريظة)). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غَيْرةٌ، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى، فجئنا إلى رسول الله فذكرنا ذلك له وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: ((استغفروا لصاحبكم)) ، ثم قال: ((إن بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان)) أخرجه مسلم (2236). فهذا الفتى مع شدة تعلقه بأهله لكونه حديث عهد بعرس أراد أن يزجرها برمحه حماية لعرضه، وسبب ذلك غيرته.
ومما يدل لذلك أيضًا قول سعد بن عبادة : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفَّح ـ أي: بحدّه لا بعرضه ـ، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) رواه البخاري ومسلم [11].
وفي رواية لمسلم [12] قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله : ((نعم)). قال: كلا والذي بعثك بالحق، إنْ كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله : ((اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني)). وفي رواية قال رسول الله : (( يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟)) قالوا: يا رسول الله لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. قال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق، وإنها من عند الله، ولكني عجبت [13].
يقول النووي رحمه الله: "ليس قوله ردًّا لقول النبي ، ولا مخالفةً من سعد بن عبادة لأمره ، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف، وإن كان عاصيًا" [14]. وهذا الكلام من سعد كان قبل تشريع اللعان [15].
فهذا يدل على أنَّ الغيور لا يمكن أن يقر سوءًا في أهله، وهذا مما يقلل الشر والفاحشة.
ومن الأدلة كذلك سبب غزوة بني قَيْنُقَاع، فقد جاءت امرأة إلى سوقهم، وجلست إلى صائغ هناك، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًّا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فكانت الغزوة [16].
ولما أصَرَّت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد حجة الوداع أنْ تأتي بعمرة بعد قرانها أرسل النبي معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم لتُحرم منه، تقول: فأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده [17] ، فقلت: هل ترى من أحد معنا؟! رواه الطيالسي [18].
ومن طرائف ذلك أن الزبير بن العوام تزوج امرأة اشترطت عليه أن لا يمنعها من صلاة العشاء في مسجد النبي ، فلما أرادت أن تخرج إلى العشاء شق ذلك على الزبير، فلما رأت ذلك قالت: ما شئت، أتريد أن تمنعني؟! فلما عيل صبرُه خرجت ليلة إلى العشاء فسبقها الزبير فقعد لها على الطريق من حيث لا تراه، فلما مرت جلس خلفها فضرب بيده على عجزها، فنفرت من ذلك ومضت، فلما كانت الليلة المقبلة سمعت الأذان فلم تتحرك، فقال لها الزبير: ما لك؟! هذا الأذان قد جاء! فقالت: والله، لقد فسد الناس في هذا الزمان [19].
ومن أجمل ما يدل على ذلك وأحسنه ما أورده ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية النهاية إذ قال: "ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ـ أي: سنة 286 ـ أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا. فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقرَّ بما ادَّعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة" [20].
إني لأمنَحُك الصُّدُودَ وإنّني قَسَمًا إليك مع الصُّدُود أَمِيلُ
إنَّ المؤمن يحمي عرضه بدمائه، لا يتهاون فيه، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرّهم النبي بالشهادة، قال عليه الصلاة والسلام: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)) رواه أصحاب السنن [21].
ومما يدل على أثر تحقيق الغيرة للعفاف أنَّ الناس يراعون للغيور غيرته، وربما تركوا ما لا جناح فيه مراعاةً له، فهذه أسماء رضي الله عنها تقول: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضِح غير فرسه، فكنت أَعلُف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرزُ غَرْبه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: ((أخ، أخ)) ؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. أخرجه البخاري ومسلم.
ولما قال سعد بن عبادة ما قال قالت الأنصار: إنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. رواه البيهقي [22].
قال الشنقيطي رحمه الله: "كثير من البلاد التي تركت الصيانة صار نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ومن كل سوء" [23].
فهذه النقولات تؤكد أنَّ ضياع الغيرة مُفْضٍ إلى ضياع الشرف والعفة، مُؤْذِن ببلاء عريض، ولذا كان الخسران جزاء من فقدها، قال : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والدَّيُّوث [24] ، ورَجُلَة النساء)) رواه الطبراني والحاكم [25].، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (( إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ)) رواه مسلم.
وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرُّمَيْصَاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةً ـ أي: حركة ـ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فولّيت مُدْبِرًا)) ، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! متفق عليه [26]. أي: أعليها أغار منك؟! [27].
[1] اللسان: مادة غور (5/41).
[2] فتح الباري (9/320).
[3] أي: لا تذكره لأحد. انظر: جامع البيان (12/197).
[4] المحرر الوجيز (3/239).
[5] الجامع لأحكام القرآن (9/175).
[6] تفسير أبي السعود (4/270).
[7] التفسير الكبير (18/100).
[8] مجموع الفتاوى (15/119-120).
[9] جامع البيان للطبري (20/63).
[10] انظر: الجامع للقرطبي (13/211).
[11] صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب: من رأى مع امرأته رجلاً فقتله (6454)، وكتاب التوحيد، باب: قول النبي : ((لا شخص أغير من الله)) (6980)، صحيح مسلم: كتاب اللِّعان (1499).
[12] صحيح مسلم: كتاب اللعان (1498).
[13] مصنف عبد الرزاق (7/114)، ومسند أبي يعلى (5/124)، وسنن البيهقي (7/394).
[14] شرح صحيح مسلم (10/131).
[15] انظر: المسند (1/238).
[16] انظر: السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام الحميري، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد (3/314).
[17] احتملته الغيرة فطعنها بعصاته.
[18] مسند الطيالسي (1/218).
[19] انظر: التمهيد (23/406-407).
[20] البداية والنهاية (11/83).
[21] سنن أبي داود: كتاب السنة، باب: في قتال اللصوص (4772)، سنن الترمذي: كتاب الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1421)، سنن النسائي: كتاب تحريم الدم، باب: من قاتل دون أهله (4094).
[22] سنن البيهقي (7/394).
[23] أضواء البيان (3/28).
[24] الذي لا يغار على أهله. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/147).
[25] معجم الطبراني الكبير (12/302)، مستدرك الحاكم (1/144).
[26] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3070)، وكتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب (3476)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر (2395).
[27] انظر: فتح الباري (7/45).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4390)
فوائد من حادثة الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
فوائد وعبر من حادثة الإسراء والمعراج
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن حادثة الإسراء والمعراج اشتملت على كثير من الفوائد والعبر، وهذه بعضها:
1- لما كان بيت المقدس مُهَاجَر كثير من أنبياء الله تعالى كان الإسراء بنبينا إليه؛ ليجمع له بين أشتات الفضائل. ومن حكم ذلك أن يعلم أن هذه الأمة المحمدية أولى بهذا البيت من غيرهم، ولكن بسبب إعراضنا عن شرع ربنا ضاع بيت المقدس منّا.
وإن من البشارات النبوية التي يحسن التنويه إليها هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم.
2- كان الذهاب بالنبي إلى بيت المقدس ليلاً؛ لأنه زمن يأنس فيه المسلم بالله، منقطعًا عن الدنيا وشواغلها.
3- لما ذكر الله تعالى الإسراء نعت النبي بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]. ومن تأمل القرآن الكريم يجد أن الله تعالى نعت نبيه بنعت العبودية في أسمى أحواله وأرفع مقاماته، ففي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، ولما ذكر إنزال الكتاب عليه قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1]، وقال مخبرًا عن الوحي إليه: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] ، وقال عن جميع المرسلين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171، 172]. فالعزّ كل العزّ في أن تكون عبدًا لله تعالى.
4- اختلف العلماء في تأريخ الإسراء والمعراج اختلافًا عظيمًا، فذكر الإمام القرطبي المالكي رحمه الله في التفسير خمسة أقوال [1] ، وذكر السيوطي رحمه الله لذلك خمسة عشر قولاً [2]. وهذه فائدة تتفرّع عنها الفائدة التالية:
5- أنه لا يشرع للإنسان أن يخص ليلة المعراج بقيام من بين الليالي، ولا نهارها بصيام من بين الأيام؛ إذ لو كان ذلك من الشرع في شيء لما اختُلِف في تحديدها هذا الاختلاف، إذ كيف تُشرَع عبادة في ليلة لا نص في تحديدها ألبتة، وإنما هي أقوال دون إثباتها خَرْطُ القَتَاد. قال ابن رجب الحنبلي: "و أما الإسراء فقيل: كان في رجب، وضعّفه غير واحد" [3].
ولا يستشكلنّ أحد أن ليلة القدر لم تُحدَّد؛ لأنها في وتر العشر الأواخر من رمضان كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وأما الليلة الموافقة لليلة الإسراء والمعراج فلا يصح في تحديدها إلا قول من قال: هي في إحدى ليالي العام. وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن يرتب الشرع عبادة عليها؟!
ثم إنه ينبغي أن نفرق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان، فالذي اعتاد أن يصوم صومًا لو وافق صومه ليلة المعراج ـ لو فرضنا أن تأريخها معلوم ـ فله أن يصومها، لا لكونها ليلة المعراج، وإنما لكون صومه وافق ذلك، وهكذا قل في شأن القيام. أما أن يخص الإنسان ليلة أو يومًا بقيام أو صيام لم يدل الشرع على تخصيصها فهذا مما لا يُشرَع.
ومن الأدلة على التفريق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان قول النبي : ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) أخرجه مسلم. فالنبي لا ينهى عن عبادة الصيام والقيام، وإنما ينهى عن تخصيص العبادة بيوم لم يشهد له الشرع باعتبار، ونحن لا ننهى عن الصيام والقيام، وإنما ننهى عن تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بذلك.
6- من الواجب اعتقاده أن الإسراء والمعراج كان بجسد النبي وروحه، لا بروحه فقط؛ لما يلي:
ـ لأن هذا هو الذي يتماشى مع ظاهر النصوص، وليس من دليل يصرف هذه النصوص عن ظاهرها.
ـ ركوبه للبُرَاق، وهي دابة فوق الحمار ودون البغل. ولو كان الإسراء بروحه لم يكن من حاجة للركوب.
ـ قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ ، فلو كان الإسراء بروحه لقال: روح عبده.
ـ لو كان بروحه لما كذبته قريش؛ فإن عقولهم لا تنكر أن الأرواح قد تجوب الآفاق في لحظة.
ـ قول الله تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54].
7- أن أفضل الأنبياء نبينا ؛ لأنه تقدم عليهم وصلّى بهم، وبلغ في المعراج مبلغًا لم يبلغه أحد منهم. وهذا مما لا ينازع فيه أحد.
8- بعض الناس ـ هداهم الله ـ يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج، وقد اصطلحوا على أنها ليلة السابع والعشرين من رجب! وفي تقديري أنه لو كان لا بد من إبداء المشاعر لكان إبداء مشاعر الحزن أولى من إظهار الابتهاج والفرح؛ ذلك لأن النبي أسري به إلى بيت المقدس، فأين بيت المقدس الآن؟!
ثم إنا نستسمح المحتفلين أن نسأل سؤالاً: هل احتفل النبي وأصحابه بهذه الليلة؟ فإن قالوا: نعم قلنا: هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وإن قالوا: لا قلنا: ((أحسن الهدي هدي محمد )) أخرجه البخاري. فليسعنا ما وسع رسول الله وأصحابه.
9- لقي النبي في السماء الأولى: آدم، وفي الثانية: عيسى ويحيى، وفي الثالثة: يوسف، وفي الرابعة: إدريس، وفي الخامسة: هارون، وفي السادسة: موسى، وفي السابعة: إبراهيم عليهم صلوات الله وتسليماته.
والحكمة في اختيار هؤلاء الأنبياء ـ والله أعلم ـ أنه بمقابلة آدم عليه السلام يتذكر أنه أُخرِج من موطنه وعاد إليه، فيتسلّى بذلك إذا أخرجه قومه من موطنه. وأما عيسى ويحيى عليهما السلام فلِما لاقاه من شدة عداوة اليهود، وهذا أمر سيلقاه النبي في مدينته. وأما يوسف فلِما أصابه من ظلم إخوته له، فصبر عليهم، وقد طرد أهل مكة النبي ، وأرادوا قتله. وأما إدريس فلرِفْعة مكانه التي تَشْحَذ الهمة لنيل أعلى الدرجات عند رب السماوات. وأما هارون فلأن قومه عادوه، ثم عادوا لمحبته. وأما موسى فلشدة ما أوذي به من قومه، حتى إن نبينا قال في ذلك: ((يرحم الله أخي موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي ملاقاة إبراهيم عليه السلام في آخر السماوات مُسنِدًا ظهره للبيت المعمور إشعار بأنه سيختم عمره الشريف بحج البيت العتيق.
10- أن الهداية بيد الله، وأن من حجبها الله عنه فلن تجد له هاديًا ونصيرًا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مَسْرَاي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به)) أخرجه مسلم. ومع ذلك كذّبوه وسفّهوا كلامه، بل ارتد بعض ضعاف الإيمان.
11- وفي قصة المعراج أن جبريل كان يستفتح أبواب السماء، فيقال له: من؟ فيقول: جبريل. ففيه دليل على أن المستأذن إذا قيل له: من؟ سمى نفسه بما يعرَف به، ولا يقول: أنا، وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي في دَيْن كان على أبي فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا!)) كأنه كرهها. أخرجه البخاري ومسلم.
12- وجد النبي أبواب السماء مغلقة وكانت تفتح لهما، وفي هذا من الإكرام له ما لا يخفى؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها كذلك [4].
13- حديث المعراج دليل من مئات الأدلة التي تدل على علو الله تعالى على جميع مخلوقاته؛ فقد رأى النبي حجابه بعد السماء السابعة.
14- وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ [المدثر:31]، فقد أخبر النبي بأن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه. فعدد ملائكة الرحمن لا يحيط به إلا هو سبحانه.
15- قبح الغيبة وبيان عاقبة أهلها، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) أخرجه أبو داود.
16- ومن دروس المعراج إثبات عذاب البرزخ للحديث السالف. وفي بعض طرق قصة المعراج ذكر لبعض المعذبين، إلا أن علماءنا طعنوا فيها؛ ولذا أعرضت عنها.
17- الحادثة بجملتها فيها تسلية للنبي بعدما امتلأت جوانب حياته بسحائب الكآبة والأحزان، فكانت هذه الحادثة التي اضمحلّت أمامها تلال الغموم الناتجة من ازدراء قومه له وتكذيبه. إن المرء إذا أراد أن يقنع الناس بمبدأ معين وتصدى أهله وعشيرته لتكذيبه والنيل منه بسبب ذلك واجه من الأحزان قدرًا لا يحيط به إلا الله تعالى؛ لأن باقي الناس ممن ليسوا بأهله أولى بتكذيبه واستهجان طرحه.
وظلم ذوي القُرْبَى أشدُّ مَضَاضَةً على الْمرء من وَقْعِ الْحُسَامِ المُهَنَّدِ
ومن هذا يستفاد أن مع العسر يسرًا، وأن من الضيق فرجًا، وبالشدة رخاءً.
18- مكانة الصلاة في دين الإسلام، فإن الله اختصها بأن فرضها على نبيه بلا واسطة.
19- أكثر أمة يدخلون الجنة الأمة المحمدية، فإن النبي لما أراد مفارقة موسى عليه السلام إلى السماء السابعة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. أخرجه البخاري ومسلم.
20- بركة النصح للمسلمين؛ فإنه بسبب نصح موسى لنبينا خفف الله عنه الصلاة المفروضة إلى خمس صلوات.
21- أن الله تعالى كلم نبينا كما كلم موسى عليه السلام، والذي يقف على الخصائص المحمدية على صاحبها أزكى صلاة وأتم سلام يعلم أن الله أكرمه بالآيات التي أُكرِم بها كثير من الأنبياء قبله، وزاده خصائص لم يُعطها أحد قبله.
22- عظيم رحمة ربنا بنا، قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
23- الاستحياء من الله هدي نبوي كريم، فإن نبينا قال لموسى عليه السلام لما طلب منه الرجوع بعدما صارت الصلاة خمس مرات: ((إني قد استحييت من ربي)). وقد أمر بذلك النبي بقوله: ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قالوا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله.، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
24، 25- خطورة الشرك، وعظيم فضل أواخر سورة البقرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة [5] ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قال: فَرَاش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات. أخرجه مسلم.
26- أن رسولنا لم ير ربه بعينه، وإنما رآه بفؤاده؛ لقول أبي ذر : سألت رسول الله : هل رأيت ربك؟ قال: ((نور أنى أراه)) أخرجه مسلم، ولقول أمنا عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرْيَة. أخرجه مسلم.
27- فضل أبي بكر الصديق الذي لم يخالج قلبه شك في صدق خبر النبي ، بل سارع إلى التصديق لما أخبرته قريش بخبر الإسراء بقوله: إن كان قالها فقد صدق، فرضي الله عنه وأرضاه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الجامع لأحكام القرآن (10/210).
[2] انظر كتابه: الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا، طبعة دار الحديث بالقاهرة (60-62).
[3] لطائف المعارف (1/101).
[4] الآية العظمى (ص71).
[5] قال النووي رحمه الله: "كذا هو في جميع الأصول: السادسة. وقد تقدم في الروايات الأخر من حديث أنس أنها فوق السماء السابعة. قال القاضي: كونها في السابعة هو الأصح، وقول الأكثرين، وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى. قلت: ويمكن أن يُجمع بينهما فيكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة " شرح صحيح مسلم (3/2).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4391)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
7/7/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن في حياة الناس. 2- الأمن نعمةٌ امتنَّ الله بها على عباده. 3- وسائل حفظ الأمن. 4- الإسلام دين الأمن. 5- الأمن من عذاب الله أعظم الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين والناس أجمعين أن يذكروا نعمه عليهم، فقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَليْكُمْ [المائدة:11]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَليْكُمْ [فاطر:3]. وإن من أعظم نعم الله التي يجب أن نذكرها ونذكّر بها نعمة الأمن.
ولقد مر بنا قبل بضعة أيام في هذا البلد [1] أن عاث الغَوْغَاء من الناس فيه فسادًا؛ فقتلوا، وسرقوا، وانتهكوا الأعراض، وحرقوا المتاجر والمساكن، ساعات عاشها الناس بلا أمن، كيف كان حالنا فيها؟! فهذا مما يجسّد لنا أهمية هذه النعمة العظيمة التي يعقل مكانتها من ابتلي بفقدها.
وإن مما يدلل على ذلك من نصوص الشرع قوله تعالى: وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هََذَا بَلدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَال وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَليلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ [البقرة:126]، وقوله تعالى: وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا البَلدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. فبدأ بالأمن قبل الرزق لفائدتين: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتب ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدرّ عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فقد الأمن، ولأنه لا يطيب طعام ولا يُنتفَع بنعمة رزق إذا فقد الأمن.
ومن أعظم أدلة ذلك أنه مطلب الناس أجمعين؛ فإبراهيم عليه السلام يدعو الله أن يحقق هذه النعمة لموطنه، ويوسف عليه السلام يطلب من والديه دخول مصر مخبرًا باستتباب الأمن بها: فَلمَّا دَخَلُواْ عَلى يُوسُفَ آوَى إِليْهِ أَبَوَيْهِ وَقَال ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ [يوسف:99]، ولما خاف موسى أعلمه ربه أنه من الآمنين؛ ليهدأ روعه وتسكن نفسه: وَأَنْ أَلقِ عَصَاكَ فَلمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلى مُدْبِرًا وَلمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِل وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31].
ومما يدل على أهمية هذه النعمة أن رسولنا كان إذا رأى الهلال قال: ((الله أكبر، اللهم أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله)) أخرجه الترمذي والدارمي.
ومن ذلك أنه لما رحم أهل مكة يوم فتحها ذكرهم بما ينالون به الأمن؛ مما يدل على أهميته لدى المؤمنين والكافرين، فقال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)) أخرجه مسلم.
وهل أدل على أهمية هذه النعمة من أن العبادات لا يتأتّى الإتيان بها على أكمل صورها إلا بنعمة الأمن؟! فالصلاة قال الله فيها: حَافِظُواْ عَلى الصَّلوَاتِ والصَّلاَةِ الوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلمَكُم مَّا لمْ تَكُونُواْ تَعْلمُونَ [البقرة:238، 239]، وقال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لهُمُ الصَّلاَةَ فَلتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَليَأْخُذُواْ أَسْلحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَليَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لمْ يُصَلواْ فَليُصَلواْ مَعَكَ وَليَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلحَتَهُمْ وَدَّ الذِينَ كَفَرُواْ لوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَليْكُم مَّيْلةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَليْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ للكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء:102، 103]. فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ أي: أدّوها بكمالها وصفتها التامة.
ومن شروط وجوب الحج الأمن، فإذا وجد الإنسان نفقة الحج ولم يكن الطريق إليه آمنًا فلا يجب عليه الحج قولاً واحدًا، قال الله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ [البقرة:196]. ولما أخبر الله نبيه بأنهم سيدخلون البيت الحرام ويؤدون نسكهم بعدما صدّهم المشركون عنه قرن ذلك بالأمن فقال: لقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلمَ مَا لمْ تَعْلمُوا فَجَعَل مِن دُونِ ذَلكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].
وإن انتشار الدعوة الإسلامية المباركة يكون في وقت الأمن أكثر من غيره من الأوقات، ألا ترون أن رسولنا خرج إلى الحديبية ومعه خمسمائة وألف من أصحابه، فلما انعقد الصلح وكان من بنوده وقف الحرب عشر سنوات يأمن فيها الناس؛ دخل كثير منهم في دين الله؟! فبعد عامين وبضعة أشهر خرج مع النبي لفتح مكة عشرة آلاف من المسلمين.
وقال الله عن موسى عليه السلام: فَمَا آمَنَ لمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لعَال فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لمِنَ المُسْرِفِينَ [يونس:83]، ولكن لما أغرق الله فرعون ودمّر ما كان يصنعه وقومه دخل كثير من الناس في دين الله، حتى رأى النبي في منامه سوادًا عظيمًا، قال في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب: ((ورأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه)) أخرجاه في الصحيحين.
ولأهمية الأمن أكرم الله به أولياءه في دار كرامته؛ لأنه لو فقد فقد النعيم، قال رب العالمين: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، وقال: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:55]، وقال: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحًا فَأُوْلئِكَ لهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
ولذا قال نبينا مُعَرِّفًا الناس بعظيم مكانة هذه النعمة: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِرْبه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزَت له الدنيا)) أخرجه الترمذي.
عباد الله، لقد امتن الله في القرآن بهذه النعمة فقال: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَليَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش]، وقال: أَوَلمْ نُمَكِّن لهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِليْهِ ثَمَرَاتُ كُل شَيْءٍ [القصص:57]، وقال سبحانه: أَوَلمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلهِمْ أَفَبِالبَاطِل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، وقال: وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة:125].
وامتنّ الله بها على أصحاب نبيه ، فقال: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَليلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. وقال صالح عليه السلام لقومه: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ [الشعراء:146].
أيها المؤمنون، حري بالمسلم أن يتعرف على وسائل حفظ هذه النعمة؛ لأن الحياة لا تُطاق بدونها، ومن ذلك شكر الله عليها وإدامة ذلك، فالنعم تثبت بالشكر وتذهب بالجحود، قال تعالى في ذلك: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وقال في خصوص نعمة الأمن: لقَدْ كَانَ لسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَال كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلنَا عَليْهِمْ سَيْل العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُل خَمْطٍ وَأَثْل وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَليل ذَلكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلا الكَفُورَ وَجَعَلنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى التِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا ليَاليَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُل مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَاتٍ لكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19]، وقال: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُل مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112]. قال القرطبي رحمه الله: " سماه لباسًا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس" [2].
ومن وسائل حفظه تحقيق توحيد الله، فالتوحيد ـ عباد الله ـ أمن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ليَسْتَخْلفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الذِينَ مِن قَبْلهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لهُمْ وَليُبَدِّلنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ [النور:55]. فلا أمن إلا بإقامة العبادة الخالية من شوائب الشرك؛ فلا يُدْعَى غير الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا تشيد الأضرحة، ولا يطاف بها، ولا يتبرك بترابها، وغير ذلك من صور الشرك الأكبر المخرج عن دين الإسلام. وأما في الآخرة فقد قال الله تعالى: الذِينَ آمَنُواْ وَلمْ يَلبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُوْلئِكَ لهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، مهتدون في الدنيا، آمنون في الآخرة.
ومن وسائل حفظه تطبيق الحدود، فإقامة حدّ الحرابة والقتل أمن من إراقة الدماء، وإقامة حد الزنا أمن من انتهاك الأعراض، وقطع اليد أمن من انتشار السرقات فيأمن الناس على أموالهم، وحد القذف يمنع من الوقيعة بالباطل في أعراض المسلمين، فيأمن المسلم على عرضه أن يلغ فيه أحد، وحدّ شرب الخمر أمن من فساد المفسدين، وهكذا.
وقد دلت السنة النبوية على ارتباط الأمن بإقامة الحدود وتحكيم أحكام الله في عباد الله، قال النبي : ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) أخرجه ابن ماجه، فيرتفع الأمن بذلك، وصدق الله إذ يقول: أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ [الملك:14].
ومن وسائل حفظه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: فَلمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الذِينَ ظَلمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، وسكت عمن سكت ولن ينكر، ولم يخبر بحالهم.
ألا وإن مما يذهب بأمن الناس انتشار المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كفِّر الناس وأُرِيقت الدماء وقُتِل الأبرياء وخفِرت الذمم بقتل المستأمنين وفجِّرَت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسَة؟!
يا شباب الإسلام، إياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير، واعلموا أن من أعظم الواجبات الرجوع لأهل العلم الموثوق بعلمهم فيما يشكل عليكم؛ لأن الله جعلهم هداة مهتدين. نسأل الله أن يجتثّ هذه الأفكار الدخيلة من بيننا.
ومن وسائل حفظه ـ أخيرًا ـ معاملة الحاكم بمنهج السلف، فلا يخرج عليه، ولا ينصح من على المنابر؛ فإن هذا سبب لحرمان الناس من الأمن وإراقة الدماء ووقوع البلابل والفتن.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] يوم الاثنين 26 جمادى الآخرة 1426هـ.
[2] الجامع لأحكام القرآن (10/194).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإسلام هو دين الأمن، ولا يمكن أن يتحقق الأمن للناس إلا إذا دانوا بهذا الدين العظيم، فقد حرم قتل النفس وسرقة المال وأكله بالباطل، ونهى النبي عن ترويع المسلم، وقال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)).، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) أخرجه البخاري ومسلم. ولعن من أشار بالسلاح لأخيه المسلم، وحرم علينا الجنة حتى نؤمن ويحب بعضنا بعضًا، وأخبر بأن ذلك يتحقق بإفشاء السلام الذي يأمن الناس معه، وهو من شعائر الإسلام العظيمة، وقال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) أخرجه البخاري ومسلم، وقال في حق الكافر المعاهد: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري، وقال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حَجِيجه يوم القيامة)) أخرجه أبو داود.
معشر المؤمنين، أعظم أمن يجب على الناس أن يسعوا لتحقيقه الأمن من عذاب الله، قال تعالى: أَفَمَن يُلقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ [فصلت:40]؛ فإن أردت أن تفوز به فقف على الآيات التي بشر الله بها عباده بقوله: فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، وإن مما يحقق لنا ذلك الاستقامة على دين الله، قال الله: إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
الأمن من عذاب الله يكون بالسير على دروب الخير وبالإكثار من الحسنات، قال تعالى: مَن جَاء بِالحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89].
فاللهم لا تحرمنا هذه النعمة...
(1/4392)
السحر
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
2/5/1420
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البعد عن الدين سبب انتشار المعاصي في المجتمع. 2- رواج السحر بين الناس. 3- السحر كبيرة من الكبائر. 4- كيف يكون علاج السحر؟
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، السحر معصية قديمة تتوارثها الأمم والأجيال، المتأخر منها عن المتقدم، وهو كسائر المعاصي يروج سوقه ويكثر إذا هان أمر الدين، ويكاد يكون من المعدومات إذا عز الدين، فإن الأمم في عهد استقامتها لا تطيق أن ترى عاصيًا ولا معصية، فإذا رأت ثارت ثورة الأسد الغضبان، ولا تهدأ إلا إذا أرت العاصي ما يليق به ويناسبه من إهانة، تفعل ذلك غيرة على دينها وعلى ربها، وصونًا لسيرتها بين الأمم، وبعدًا عن غضب القاهر القادر وبطشه، فإذا رأى العصاة ذلك كفُّوا عن معاصيهم رحمة بأنفسهم، أو بالغوا في الاختفاء إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يفعلون. أما في عهد تفريط الأمم في دينها وتساهلها من ناحيته فإنها حينئذ تضعف غيرتها عليه، أو تنعدم انعدامًا من نفوسها، وفى هذه الحالة لو رأت ما رأت من المعاصي فإما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا تخيف العاصي ولا تزجره بل ولا تخجله، وإما أن يتفق الكل على الإغماض عن ذلك المجرم والتغافل عنه وتركه يفعل ما يشاء بلا أدنى التفات إليه، عندئذ يرفع ذوو الأهواء والشهوات رؤوسهم غير هيّابين، لا فرق بين ساحر وغيره.
ونحن في زمن ضعفت فيه العاطفة الدينية عند الناس إلا من رحم الله، حتى غدا ذوو الغواية يفخرون ويجاهرون في المجالس بغوايتهم، ومحبو الفضيلة صاروا يبالغون في كتمان فضيلتهم لئلا يكونوا مضغة في الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة، وأقل ما يسمعون أنهم متأخرون جامدون متنطعون، وأقل ما يرون من أرباب تلك الألسنة سخرية بهم وضحِكًا من عقولهم.
لما راجت الرذيلة في هذا العصر هذا الرواج كان غير غريب أن يروج السحر ويكثر، كما راج غيره من سائر المعاصي، لكن رواج السحر ليس كرواج غيره من عظائم الذنوب، فإن الزاني وشارب الخمر والقاتل والسارق وغيرهم يفعلون ما يفعلون وهم يعلمون والناس يعلمون أنهم يفعلون محرمًا، أما الساحر اليوم فلا يعلم أنه يعصي الله بسحره، بل الذي يعلمه أنه ملك من الملائكة أو رسول من رسل الله أرسل لمنافع العالمين، يكتب لهذه أن يحبها زوجها، ويكتب لتلك أن لا يتزوج عليها بعلها، ويكتب لهذا أن يعطف عليه قلب، ويكتب لذلك أن يمنعه عن زوجته منعًا، ويكتب لفلانة بوقفها عن الزواج طول حياتها، ويكتب لغيرها أن تنزف دمًا طول عمرها، ويكتب لليلى أن تبغض زوجها وتطلق في يومها، ويكتب لسعدى أن يصطلح معها عفريتها الذي ركبها، ويكتب لزيد أن يخرب بيته أو يغرق بستانه أو يجف ماء سقيه أو يقف حال معرضه ودكانه أو تكون له الوجاهة عند ملاقاة الأكابر والحكام، وما إلى ذلك مما يقولونه كذبًا وزورًا، ويؤلم غيره أو ينعمه.
هذا اعتقاده في نفسه، والناس يعتقدون فيه أنه ممن أوتي من الله أسرارًا باهرة، لم يتفضل تعالى بها على كثير من خلقه، فيفدون إليه أفرادًا وجماعات، يطلب كل منهم أن يعطف عليه، ويكرمه بالمبادرة إلى قضاء حاجته التي يطلبها، بمهارته الفائقة في السحر الذي انفرد به عن العالمين، يطلب هذا الطلب ويشفعه بما يشفعه من المال الكثير، ليحمله بتلك الكثرة على العناية به، وليتفضل بتقديمه على غيره من الطالبين.
وإني أرجو ممن يسمعني في هذا المكان المبارك أن لا يمرَّ بخاطره أني أبالغ في وصفي، وإن مرّ ذلك بنفسه فليبحث هو هذا الموضوع، وإني ضامن أنه سيقرر لا محالة أنه يخشى أن يجيء يوم يصرف فيه هؤلاء السحرة وجوه الناس إليهم عن كل شغل دنيوي أو أخروي، شغفًا بهم وولعًا بالوصول إلى مقاصدهم من طريق سحرهم المتقن كما يقولون.
هذا حال الناس مع هذه الكبيرة، ولذلك ترى أولئك الذين يدّعون أنهم سحرة تنهمر سيول المال إليهم انهمارًا، ويصبح أحدهم بعد أيام قليلة من مباشرته حرفة السحر من أرباب الثراء الواسع، فجريمة السحر صارت في هذا الزمان من أبواب الرزق بلا شك، وليس أي رزق، بل رزق هين قريب عظيم.
عرف ذلك الناس، فادعى كثير ممن لا يحسنون حتى القراءة والكتابة أنهم علماء روحانيون، يشفون بسحرهم من كل مرض مهما أعضل، ويقضون لكل ذي حاجة حاجته وإن كانت من قبيل المستحيل.
أيها المؤمنون، إن إثم هذه الكبيرة السحر إثم عظيم، قال الله تعالى: وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
هذه الآية تحتاج إلى كلام طويل لا يكفي الوقت لبسطه، ولكني ألفت الأنظار إلى قوله تعالى: وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ فإن قوله: يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ كأنه علّة للحكم على الشياطين بالكفر؛ فيكون تعليم السحر على هذا كفر، وألفت أنظاركم ـ عباد الله ـ إلى قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ فإنه يفيدك أن للسحر حقيقة تترتب عليه آثارها، ومن تلك الآثار إيقاع النفرة بين الزوجين حتى يتفرقا بالطلاق، وألفت أنظاركم إلى قوله تعالى: وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ فإنه يفهمنا أن مضارّة الناس بالسحر لا تقف عند التفريق بين المرء وزوجه، وبجانب هذا نفهم من الآية أنه سبب من الأسباب، لا يفعل فعله إلا إذا أراد الله ذلك، وانظروا قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ فإنه يفهمنا أن السحر ضار لمن يتعلمه لا نافع، وأي ضرر أكبر من جهنم التي توعد الله بها أهل المعاصي التي من أكبرها السحر؟! وإن ظن أحد أن المال الذي يكسبه السحرة فيه نفع فإني أقول: إنه ضرر عظيم لآخذه، لأنه سُحت، وكل جلد نبت من سحت فالنار أولى به، وأوجه أنظاركم إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ والخلاق النصيب.
ولعلكم لستم بمحتاجين إلى زيادة معرفة شناعة هذه المعصية بعد أن سمعتم كلام الله يقول في فاعلها: مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ فإن هذه الآية تقول: إن الساحر كافر؛ والكافر هو الذي لا نصيب له في الآخرة، وأما المؤمن مهما كان عاصيًا فإن له بإيمانه في الآخرة نصيبًا أيّ نصيب.
وتدبروا ـ عباد الله ـ في خاتمة الآية إذ يقول الله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فإنه ذم للسحرة أي ذم، واسمعوا قول الرسول في هذا السحر: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)) أخرجه البخاري (2767)، ومسلم (89). وبهذا فإنه جعل السحر من السبع المعاصي الكبيرة في العِظَم عن غيرها بأنها موبقة أي: مهلكة، وجعل ترتيبها في الكبائر بعد الشرك، وقبل بقية الكبائر المهلكات الفظيعة.
وحُكم الساحر القتل كفرًا عند بعض أئمة الإسلام، دون أن نقبل منه توبة، وعند بعضهم إن قَتل بسحره قُتل بمن قتله إن كان الغالب فيما أجراه من السحر القتل، وإن كان القتل به نادرًا فالقتل شبه عمد، وإن قال: أردتُ غيره فأصبتُه بسحري فهو قتل خطأ، ويعامل في الصورتين معاملة من يكونان منه، لكن إن صدقته العاقلة أي: ورثة المقتول.
وعلى كل حال يجب أن يعلم أن هذه المعصية من عظائم الإسلام وكبائرها، فلا يجوز تشجيع الساحر، ولا إقراره على سحره، ولا الذهاب إليه لمجرد الزيارة فقط، فكيف بالذهاب إليه وإعطائِه الكثير من المال وتعظيمه التعظيم الذي ليس بعده تعظيم، حتى يطلب منه قضاء الحوائج المهمة بسحره؟!
عباد الله، إن الأمر عظيم عِظمًا يعجز عن وصف عظمته أبلغ الخطباء والمرشدين.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الوقوع في هذه المعصية الشنيعة، وتوبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرنا منه، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله ربكم الذي جعل لكم في كلامه شفاء وهدى ورحمة وبشرى، فقد قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ?ئْتُونِى بِكُلّ سَـ?حِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاء ?لسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى? أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى? مَا جِئْتُمْ بِهِ ?لسِّحْرُ إِنَّ ?للَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يونس:79-81]، يعني السحر. قال ابن عباس: (من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية: مَا جِئْتُمْ بِهِ ?لسِّحْرُ إِنَّ ?للَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ?لْمُفْسِدِينَ لم يضره كيد ساحر، ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر)، وقال الشَّعبي: "لا بأس بالنُّشْرَة"، قال ابن بطال: "وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي, ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به; فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى, وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله" انتهى من تفسير القرطبى.
وعن عَبْد اللَّهِ بْن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)) رواه أحمد (22441) أي: السحرة.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا، وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا. رواه الترمذي (2058).
فإذا علمتم هذا فاعلموا أن علاج المسحور أو المحسود أو من به مس من الشيطان في كتاب الله تلاوة وعملاً واعتقادًا، وفى الدعوات النبوية والأذكار المأثورة عنه فيما يخص هذا الموضوع، وبالمحافظة على الوضوء قدر الاستطاعة، والمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، والسنن التابعة لها.
وخلاصة الكلام أن ملازمة التقوى هي المخرج كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فينجيه الله من كل كرب في الدنيا والآخرة.
(1/4393)
الشفاعة العظمى
قضايا في الاعتقاد
الشفاعة
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
2/3/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض أهوال المحشر. 2- شفاعة الرسول لأمته يوم القيامة. 3- أسباب الفوز بشفاعة الرسول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة قبلكم بتقوى الله تعالى قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل ونزول الموت والتفاف الساق بالساق وبلوغ الروح التراقي.
عباد الله، يحشر الناس يوم القيامة أنواعًا؛ ركبانًا ومشاة وعلى وجوههم، على أرض بيضاء كالفضة، ليس فيها عَلم لأحد، أي: ليس فيها ما يستتر به أحد، فإذا استقروا بها تناثرت النجوم وطمس ضوء الشمس والقمر وأظلمت الأرض بمحو سراجها، فبينما الناس كذلك إذ دارت السماء فوق رؤوسهم، وانشقت مع شدتها وعظمها وصلابتها وغلظها الذي هو مسيرة خمسمائة عام، فيفزع الخلائق لهول صوت انشقاقها، ثم تتناثر وتسيل كالفضة المذابة، وصارت وردة كالدهان، وصارت السماء كالمهل والجبال كالعهن.
وانتشر الناس كالفراش المبثوث عراة، فيقفون ومعهم أهل السماوات السبع وأهل الأرض من جن وشياطين، شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم، يموج بعضهم في بعض ويدفعه لشدة الزحام، وتدنو الشمس من رؤوسهم وقد تضاعف لهيبها، ويجتمع حرها وحر الأنفاس واحتراق القلوب من الخوف والحياء من العرض على الله رب العالمين، ويفيض العرق من كلِّ شعرة على صعيد الأرض، ثم يرتفع إلى أبدانهم بقدر منازلهم عند الله عز وجل، فيبلغ من بعض إلى ركبتيه، ومن بعض إلى شحمة أذنيه ويكاد يغيب فيه، وفي الصحيح أن العرق يبلغ في الأرض سبعين ذراعًا.
وسكتت حينئذ الأصوات، وقلّ الالتفات، وبرزت الخفيات، وظهرت الخطيئات، وشاب الصغير، وسكت الكبير، ونشرت الدواوين، ووضعت الموازين، وبرّزت الجحيم، ونطقت الجوارح بما كانوا يعملون، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]،
يَوْمَ تُبَدَّلُ ?لأرْضُ غَيْرَ ?لأرْضِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ?لْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، إِن كُلُّ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِلاَّ اتِى ?لرَّحْمَـ?نِ عَبْدًا لَّقَدْ أَحْصَـ?هُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:93، 94].
فيقفون كذلك خمسين ألف سنة لا يأكلون فيها أكلة، ولا يشربون فيها شربة، لا يُكلمون ولا يُنظر في أمرهم، حتى إن بعضهم ينادي ويقول: يا ربِّ، أرحني من هذا المكان ولو إلى النار، ولم يقع بعد حساب ولا عقاب، سوى ما كان لحقهم من شدة نفخة الصعقة التي تنفرج لها القلوب، فيقومون وقد تغيرت الوجوه واغبرت الأبدان، فإذا بلغ بهم هذا الجهد ذهبوا إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ـ أي: في أرض واسعة مستوية ـ ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ـ أي: إذا دعا داع أو نظر إليهم سمعوه وأدركهم ـ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَمَا لا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟! أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟! فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ، فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟! فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ ـ أي: أنهم لا يمنعون من سائر الأبواب ـ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّة ـ المصراعان جانبا الباب ـ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ ـ قرية بقرب الأحساء ـ ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى)) قرية من قرى الشام. رواه مسلم من حديث أبي هريرة (194).
عباد الله، يوم الحشر والعرض على من لا تخفى عليه خافية يوم عظيم طويل، لا بد لنا أن نُعِدّ له من الإخلاص في الإيمان والإكثار من الأعمال الصالحة وتصفية القلب من الشواغل عن الله وعن كتابه والابتعاد عن المعاصي، لا بدّ أن نُعِد ما يؤهلنا للفوز بالشفاعة العظمى والسعادة بها الكثير والكثير من الإخلاص والعمل، يقَولَ رَسُولُ الله : ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (99، 6570).
فأسعد الناس بالشفاعة العظمى في الإراحة من كرب الموقف المؤمن الخالص الذي يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصبه لَفْح من النار ولا يسقط [1]. فأخلص أيها المؤمن، فبقدر إخلاصك تسعد بالشفاعة.
جعلني الله وإياكم ممن نسعد بشفاعته، ونرد حوضه، ونحشر تحت لوائه، ونكون من رفقائه في الجنة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] فتح الباري (11/451).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، ومن أسباب الفوز بالشفاعة كثرة النوافل وقيام الليل، فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ، حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، أَقُولُ: لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ حَاجَةٌ، فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ : ((سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)) حَتَّى أَمَلَّ فَأَرْجِعَ، أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي فَأَرْقُدَ، قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: ((سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ)) ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي، فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي، قَالَ: فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ لآخِرَتِي، فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ، قَالَ: فَجِئْتُ فَقَالَ: ((مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ؟)) قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ فَيُعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ: ((مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ؟)) قَالَ: فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: ((سَلْنِي أُعْطِكَ)) وَكُنْتَ مِنَ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي، فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ لآخِرَتِي، قَالَ: فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ لِي: ((إِنِّي فَاعِلٌ، فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)) أخرجه أحمد ( 16143).
ومن أسباب الفوز بالشفاعة إجابة المؤذن والدعاء بما ورد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)) رواه مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (384)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ، إِلاَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه الترمذي من حديث جَابِرٍ (680).
ومن أسباب الفوز بالشفاعة سكنى المدينة والموت بها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لاَ يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلاَ أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لأوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلاَ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِِ)) رواه من حديث عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ (1363)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا)) رواه الترمذي من حديث ابْنِ عُمَرَ (3917).
ومن أسباب الفوز بالشفاعة كثرة الصلاة على الحبيب المحبوب ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ : ((أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً)) رواه الترمذي من حديث عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ (484).
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه من ذنوبكم، واحرصوا على السعادة الأُخروية الباقية.
(1/4394)
القلوب السوداء
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الفتن
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
17/2/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صاحب القلب الأسود قد فتح قلبه للفتن. 2- اختلاف أنواع القلوب حسب قبولها للفتن. 3- أنواع القلوب السوداء الثلاثة عشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته والحذر من مخالفته، واعلموا أن السعيد هو من يتقي الله في مأكله ومشربه ووظيفته ومتجره وفي عبادته لله ومعاملته لخلق الله.
أيها المؤمنون، يقول رسول الله : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم (144).
فالقلوب تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، واليوم سأفصل الكلام عن القلوب السوداء، وذلك من قول رسول الله : ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)).
عباد الله، وصاحب القلب الأسود قد فتح مسامات قلبه للفتن، يفهم ذلك من قوله : ((فأي قلب أُشربها)) أي: دخلت فيه دخولاً تامًا وأُلْزِمها وحلت فيه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ?لْعِجْلَ [البقرة:93] أي: حب العجل.
وعليه استحق أن يُنكت فيه نكتة سوداء، أي: ينقط في قلبه نقطة سوداء، ومع تكرار الفتن التي تعرض عليه وما يقابلها من عملية الامتصاص التي يقوم بها قلبه ينتشر السواد على أجزاء قلبه حتى يغطيه، فيكون مُرْبَادًّا أي: شديد السواد، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا أي: كقدح الماء عندما ينكفئ، يقول الإمام النووي: "وهو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب نكّس حتى لا يعلق به خير ولا حكمه، ويشتد سواده حتى يعمى، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه".
ولاختلاف درجات الفتن واختلاف درجات الامتصاص من قلب إلى قلب نرى أنواعًا كثيرة من هذا الصنف، أولها القلوب الغليظة، قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وغلظ القلب عبارة عن تَجَهّم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الزائغة، قال الله عزّ وجلَّ: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، أي: أنه يعرف الحق ويميل عنه ابتغاء الفتنة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الغافلة المغفلة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، أي: غفل عن الله، وشغل عن الدين والتوحيد وعبادة ربه بالدنيا وزخرفها، فعاقبه الله بأن أغفله عن ذكره، وختم على قلبه عن التوحيد، فلا يعرف موجبات التوحيد وما تقتضي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى استحق العذاب يوم القيامة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب القاسية، يقول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ [البقرة:74]، والقسوة الصلابة والشدة واليَبَس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، ويُشبه الإمام ابنُ القيم القلبَ القاسي وكأنه من معدن صلب، لم تقوَ درجات الحرارة الدنيوية من زواجر ومواعظ وعِبَر أن تلينه، فما بقي إلا نار جهنم كي تذيبه فيها، فيقول: "ما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن الله، خُلِقت النارُ لإذابةِ القلوبِ القاسية، فأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي".
وإذا قسا القلب قحطت العين، وقسوة القلب من أربعة أشياء؛ إذا جاوزتَ قدر الحاجة في الأكل والنوم والكلام والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المُغَلّفَة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88]، أي: عليها أغطية، وهو مثلُ قول الله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت:5]، وفي كلام العرب يقولون: غلفت السيف أي: جعلت له غلافًا، فقلب أغلف أي: مستور عن الفهم والتمييز، وهذا الصنف يقولون: إن قلوبَنا مغلفةٌ عن سماع الحق، فهم يرفضون مبدأ سماع النصيحة فضلا عن التأثر والانتفاع بها.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المريضة، يقول الله سبحانه وتعالى: فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، أي: تشوّفٌ لفجورٍ وهو الفسق والغزل، قال ابن تيمية في تفسير قول الله تعالى: فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]: "هو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تَعْرِضُ له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإن خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض". وما أكثرَ هذا الصنف الذي تكلم عنه شيخ الإسلام، وهو في ذاته الصنف الذي تكلم عنه الله سبحانه وتعالى في صدر سورة البقرة في قوله: فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، الذين قال لهم الدعاة إلى الإسلام: لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ [البقرة:11]، فردوا عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، فبسبب مرض قلوبهم انقلبت الصورة عندهم، فأصبح المنكر عندهم معروفا، والمعروف لديهم منكرًا.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المختومة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23]، أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئًا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها، ولهذا قال تعالى: فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة الهوى.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المطبوعة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، فلا يدخلها شيء من الهدى، فصاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم المرسلون من الوعظ والإنذار، وفي الحديث قال : ((مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ)) رواه ابن ماجه (1126).
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المكنونة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، وهي جمع كِنان، وأصله من الستر والتغطية، فذكروا غطاء القلب وهو الأكنة، وغطاء الأذن وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك.
فهذا الصنف من الناس لا يكتفي بما قاله صنف الناس من أصحاب القلوب المغلفة: قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، إنما يتجاوز ذلك، ويبدي عدم حبّه لسماع الخير، بل وعدم رغبته حتى في رؤية الداعية إلى الخير والدين والإسلام، فمجرد رؤيتُه تُنغص عليه لذاته الدنيوية، وهذا أيضًا يعتبر من أشرس أنواع الناس.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب العمياء، قال تعالى: وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46]. والعمى هو انعدام الرؤية، وعليه قال مجاهد: "لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظرُه شيئًا"، وهو تبلد حسي بحيث لا يدرك صاحبه مواطن الحق والعبرة.
فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إلى ربكم وتوبوا إليه توبة لا رجوع بعدها إلى المعاصي تصلح قلوبكم، وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [التغابن:11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأسأله باسمه الأعظم أن يمن علينا جميعًا بالإيمان التام والخاتمة الحسنة بعد طول العمر، وأن يثبتنا على السنة ويحفظنا من شر البدعة، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله علينا متشابهًا فنتبع الهوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، ومن أقسام القلوب السوداء القلوب المقفلة، يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه، والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب اللاهية، يقول الله سبحانه وتعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ?سْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:2، 3]، والمعنى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب، ويمكن أن تحدد شخصية صاحب هذا القلب، فإنه يستمع إلى الموعظة باستخفاف يصحبه استهزاء بالواعظ والموعظة، على صورة انشغال يفتعله كاللعب وغيره أثناء الموعظة.
ومن أقسام القلوب السوداء القلوب الزانية، قال رسول : ((كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ)) رواه مسلم (2657). ومعنى الحديث أن ابن آدم قدّر عليه نصيب من الزنا، فمنهم من يكون زناه حقيقيًا, ومنهم من يكون زناه مجازيًا، وذلك بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده بأن يقبلها أو بالمشي بالرِّجْلِ إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنا المجازي، والفرج يصدق ذلك كلَّه أو يكذبه، وتصديقه أن يحقق الزنا بالفرج، وتكذيبه انشغال فكره وقلبه بالزنا، كالذي يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وفي كلا الحالتين فهذا القلب قلب زان إما حقيقة أو مجازًا.
عباد الله، والخلاصة التي نصل إليها أن القلوب البيضاء ستة أقسام هي: القلوب المطمئنة، والقلوب السليمة، والقلوب المنيبة، والقلوب الوجلة، والقلوب المخبتة، والقلوب المقشعرة اللينة، والقلوب السوداء ثلاثة عشر قسمًا: القلوب الغليظة، والزائغة، والغافلة، والقاسية، والمغلَّفة، والمريضة، والمختومة، والمطبوعة، والمكنونة، والعمياء، والمقفلة، واللاهية، والزانية.
فاحرص ـ أخي المسلم ـ أن يكون قلبك من القلوب البيضاء، والحذر الحذر أن تعصي الله تعالى وتجري وراء كل فتنة وبدعة، فيسْوَدّ قلبك فيكون من أقسام القلوب السوداء، نعوذ بالله ثم نعوذ به من ذلك.
(1/4395)
مكة المكرمة (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
6/5/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآيات الدالة على فضل مكة. 2- فضائل مكة الواردة في حديث رسول الله. 3- سنة رسول الله في الطواف والصلاة في المسجد الحرام. 4- أمور كثيرة يظهر بها فضل مكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم بخير الوصايا، اتقوا الله حق التقوى.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنكم في بلد الله الحرام وفي أم القرى، البلد الذي حرمه الله منذ خلق السموات والأرض، البلد الذي ذكر الله فضله في كتابه في مواضع عديدة، فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ امِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:29]، وقال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26]، وقال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا ?لْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَ?تَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْر?هِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وقال جل جلاله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْر?هِيمُ ?لْقَوَاعِدَ مِنَ ?لْبَيْتِ وَإِسْمَـ?عِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]، وقال سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ ?لْبَلْدَةِ ?لَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [النمل:91]، وقال: إِنَّ ?لصَّفَا وَ?لْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ?للَّهِ فَمَنْ حَجَّ ?لْبَيْتَ أَوِ ?عْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ?للَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]، وقال تعالى: جَعَلَ ?للَّهُ ?لْكَعْبَةَ ?لْبَيْتَ ?لْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ [المائدة:97]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، وقال تعالى: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وقال تعالى: قَدْ نَرَى? تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ?لسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وقال تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ [النحل:112].
فهذه الآيات ـ يا عباد الله ـ أنزلها الله تعالى كلها في مكة خاصة، ولم ينزلها لبلد سواها.
ثم إن ما ورد في فضائلها في حديث رسول الله وفضائل أهلها ومن جاورها أحاديث كثيرة، فمما ورد أن رسول الله حين خرج من مكة وقف على الحَزْوَرَة ـ الرابية الصغيرة ـ فقال: ((والله، إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) رواه الترمذي (3925) وحسنه.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مبينا حرمتها: ((إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلا مَنْ عَرَّفَهَا)) رواه البخاري (1587).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عن فضل الصلاة فيها: ((صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ)) رواه أحمد (14847).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عن فضل الطواف بالبيت: ((مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ)) رواه ابن ماجه (2956)، وقَالَ : ((مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَكُفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَرُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ وَكَانَ عَدْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ)) رواه أحمد (27837).
فإذا دخل المسلم المسجد الحرام فليقصد الحجر الأسود، وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق، ويسمى الركن الأسود، ويقال له وللركن اليماني: الركنان اليمانيان، ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه، بشرط أن لا يؤذي أحدًا بالمزاحمة، فيستلمه ثم يقبله من غير صوت يظهر في القبلة، ويسجد عليه، ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثًا، ثم يقول: اللهم إيمانًا بك ووفاء بعهدك وتصديقًا بكتابك وسنة نبيك، ثم يصلي على النبي.
ثم ينوي الطواف لله تعالى، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفًا حول البيت أجمع؛ فيمر على الملتزَم وهو ما بين الحجر الأسود والباب، سمي بذلك لأن الناس يلتزمونه عند الدعاء، ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود ويسمى الركن العراقي، ثم يمر وراء الحِجْر، وهو في صوب الشام والمغرب، فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث، ويقال لهذا الركن والذي قبله: الركنان الشاميان، ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني، فإذا وصل إليه ولم يكن عليه ازدحام شديد فليمسح الركن من دون تقبيل، فإن لم يستطع فليقل: الله أكبر، على جهته بدون رفع يده، هذه هي سنة نبيكم ، ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه، فيكمل له حينئذ شوط واحد، ثم يطوف كذلك حتى يكمل سبعة أشواط، وكل مرة طوفة، والسبع طواف كامل، ثم يصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، عملاً بقول الله تعالى: وَ?تَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْر?هِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فإن لم يتيسر له ذلك فليصلها في أي مكان من المسجد الحرام، وذلك في أي ساعة من ليل أو نهار، على رأي كثير من جماهير العلماء.
أيها المؤمنون، وعن فضل الحجر الأسود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ)) رواه الترمذي (877) وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية: ((أنَّ مَسْحَ الركن اليماني والحجر الأسود كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا)) رواه الترمذي (959) وحسنه.
ومن سنة نبيكم الدعاء عند الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وأن يضع الداعي وجهه على جدار البيت تذللاً لله تعالى وانكسارًا، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْبَيْتِ. رواه أحمد (15122).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُهُ. رواه أبو داود (1899).
عباد الله، ومن لم يستطع أن يصلي داخل الكعبة فليصل في الحِجْر فإنه من الكعبة، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ يَدِي فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ لِي: ((صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ)) رواه أحمد (24095). ومن دخل الحِجْر فليدع تحت ميزاب الكعبة، فإنه من مواطن إجابة الدعاء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل لابن عباس: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم.
ومن تيسر له دخول الكعبة فليقتد برسول الله عندما دخلها؛ فليصل ما شاء من النوافل في قبالة بابها أي بأن يجعل ظهره إلى الباب، ووجهه إلى جدار الركن اليماني، ويقف مقدار ما يسعه لسجوده، وبهذا يكون قد وقف في مقام رسول الله الذي صلى فيه؛ وهذا التحديد بالتقريب قد ورد في حديث متفق عليه، وليستغفر في أركانها ويحمد الله ويدعوه بخيرات الدنيا والآخرة، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَرَسُولُ اللَّهِ الْبَيْتَ، فَأَمَرَ بلالاً فَأَجَافَ الْبَابَ ـ ردَّه ـ وَالْبَيْتُ إِذْ ذَاكَ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، فَمَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ الأُسْطُوَانَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ بَابَ الْكَعْبَةِ جَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ، ثُمَّ قَامَ حَتَّى أَتَى مَا اسْتَقْبَلَ مِنْ دُبُرِ الْكَعْبَةِ، فَوَضَعَ وَجْهَهُ وَخَدَّهُ عَلَيْهِ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ وَجْهِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: ((هَذِهِ الْقِبْلَةُ هَذِهِ الْقِبْلَةُ)) رواه النسائي (2914). وفي روايات أخرى ذكرها الطحاوى في شرح معاني الآثار أنه صلى في البيت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:96، 97].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن الله فضل مكة بأمور كثيرة، فمنها أنها مهبط الوحي ومركز نزول القرآن وابتداء ظهور الإسلام، ومنها أن القادم إليها يجب عليه التجرد من ثيابه ودخولها بإحرام بنية العمرة أو الحج، ومنها أنه ليس فيها إلا دين واحد وهو الإسلام فليس فيها دينان، ومنها أنه يمنع شرعًا دخول الكافر ودفنه فيها، ومنها أنه يحرم حمل السلاح فيها إلا لضرورة، ومنها أنه يحرم صيدها على جميع الناس، سواء في ذلك أهل مكة وأهل الحرم وغيرهم، وسواء المحرم منهم والحلال.
ومنها أن دماء الهدايا والجبرانات مختص بمكة وبالحرم، ولا يجوز في غير ذلك من البقاع، ومنها أنه يحرم قطع شجره ويضمن ما يقطع منه، ومنها أنه يحرم إخراج شيء من ترابه أو حجارته إلى الحل وإلى البلدان الأخرى، ومنها مضاعفة الحسنات فيها وأنواع البر الواحدة بمائة ألف، وبالأخص الصلوات في المسجد الحرام، ومنها أنه يبعث من مقبرتها سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفًا، وجوههم كالقمر ليلة البدر كما في الحديث، ومنها أن الدجال سيطأ جميع البلدان حين خروجه إلا مكة والمدينة وبيت المقدس، ومنها أنه ما من نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كذبه قومه إلا وخرج إلى مكة يعبد الله تعالى حتى يأتيه اليقين، وروى الأزرقي عن مجاهد أنه قال: "حج خمسة وسبعون نبيًا كلهم قد طاف بالبيت، وصلى في مسجد منى"، ومنها أن أهل مكة يتجهون في صلاتهم إلى الكعبة من جميع الجهات الأربعة، بخلاف بلدان العالم، فكل بلدة تتجه إلى الكعبة من جهة واحدة، وما أبهج منظر المسجد الحرام حين الصلاة، فإن الجميع يصلون حول الكعبة من جميع الجهات على اتساعه، ولا يوجد منظر يأخذ بمجامع القلوب ويشرح الصدور ويذهب الهم والغم ويجلب السرور كالصلاة في المسجد الحرام والجلوس حول الكعبة المشرفة.
إلى غير ذلك من فضائل مكة التي لا توجد على وجه الأرض بلدة تدانيها، وكفى أنها بلد الله تعالى وبلد رسوله ومولده، وبلد أصحابه المهاجرين الكرام، ومأوى الأنبياء والمرسلين والأتقياء والصالحين، وقبلة جميع المؤمنين، وفيها الموسم السنوي للحج، يفد إليها المسلمون من كل فج عميق، ليقيموا خامس أركان الإسلام الحج الذي لا يمكن أداؤه إلا فيها لاحتوائها على جميع المشاعر.
فاتقوا الله ربكم، واقدروا قدر ما أنتم فيه من نعمة جوار بيت الله الحرام، واشكروا الله على هذه النعمة شكرًا جزيلاً بالقول والعمل، واسألوه أن يرزقنا جميعًا حفظ حرمة الحرم وتعظيم شعائر الله التي جعلها في هذا البلد الأمين.
ألا وصلوا على البشير النذير.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك ورسولك سيدنا محمد الذي تشرفت مكة بظهوره فيها، وعلى آله وأصحابه الذين فازوا بتلبية دعوته واجتلاء نور طلعته، وتشرفوا بخدمته، فنالوا رضاك وعفوك وفضلك، صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم، وألحقنا بهم، واحفظنا وذرياتنا من الفتن وتوفنا مسلمين، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4396)
مكة المكرمة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المرضى والطب, فضائل الأزمنة والأمكنة
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
13/5/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ماء زمزم. 2- شفاء الأمراض بماء زمزم بإذن الله تعالى. 3- على المؤمن التسليم بفضل ماء زمزم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله ربكم، وتوبوا إليه، وأنيبوا له، يدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار.
أيها المؤمنون، حديثنا في هذا اليوم عما ورد في فضل ماء زمزم، ولا يخفى أن ماءَ زمزم نعمة عظمى وآية كبرى من آيات الله البينات في بيت الله وحرمه؛ إذ هو من عيون الجنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن زنجيًا وقع في زمزم فمات، قال: فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قِبل العين التي تلي البيت أو الركن، فإنها من عيون الجنة). أي: أن لها مادة من الجنة.
وماء زمزم من أعظم المنافع المشهودة التي يشهدها الحجاج والعمار في حرم الله، حيث يشربون ويتضلعون منه، وينالون من خيراته وبركاته، ويكسبون الدعاء المستجاب عند شربه، حيث إن ماء زمزم لِما شرِب له من حوائج الدنيا والآخرة، فهو حقًا من نعم الله العظمى التي جعلها الله تعالى للمؤمنين في هذا المكان المبارك مكة المكرمة.
وهو أولى الثمرات التى أعطاها الله تعالى لنبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين دعا بقوله: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فكان ماء زمزم سقيا الله وغياثه لولد خليله إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ذلك أن إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ لما ترك هاجر وابنها إسماعيل عند البيت المحرم، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، وانطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى إذا كان عند الثَّنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فكان ماءُ زمزم أولى الثمرات التي أعطاها الله لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين دعا بقوله: وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. وبهذا يتصف ماء زمزم بالأولية، كما يتصف البيت العتيق بالأولية، حيث هو أول بيت وضع للناس.
وهو الماء المبارك الشريف الذي ظهر في أطهر بقعة مباركة لسيد مبارك، بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، ماء له فضل عظيم وقدر كبير، فهو سيد المياه وخيرها وأشرفها وأجلها، وفي هذا يقول رسول الله : ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم)) قال الهيثمي في المجمع (3/286): "رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات". وهو ماء غسل به قلب النبي الأكرم ، وما كان ليغسل إلا بأشرف المياه.
وقد خص الله تعالى هذا الماء المبارك بخصائص فريدة وبركات عميمة، فقال رسول الله : ((إنها مباركة، إنها طعام طعم وشفاء سقم)).
وهو ماء بارك فيه رسول الله بريقه الشريف، فزاد بركة على بركة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ إِلَى زَمْزَمَ فَنَزَعْنَا لَهُ دَلْوًا فَشَرِبَ ثُمَّ مَجَّ فِيهَا ـ أي: أخرج الماء من فمه الشريف ـ ثُمَّ أَفْرَغْنَاهَا فِي زَمْزَمَ. رواه أحمد (3517). كان يشرب من زمزم حتى يشعر بالري في أضلاعه.
وماء زمزم طعام طعم؛ إذ جعل الله تعالى من خصائص ماء زمزم وفضائله أنه يقوم مقام الغذاء في تقوية الجسم، بخلاف سائر المياه؛ ففي قصة هاجر أم إسماعيل حين تركها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وابنها عند بيت الله الحرام وضعهما ووضع عندهما جرابًا ـ وعاء من جلد ـ فيه تمر وسقاء فيه ماء، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تشرب من الماء، ويدر لبنها على صبيها. وهكذا جعل الله تعالى ماء زمزم غذاء لأم إسماعيل وابنها عليهما السلام.
وماء زمزم علاج للحمى، فعَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى، فَقَالَ: أَبْرِدْهَا عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ، ـ أَوْ قَالَ: ـ بِمَاءِ زَمْزَمَ)) رواه البخاري (3261).
وذكر أحد المؤرخين قصة عجيبة عن فضل زمزم فقال: حججت مع جماعة ومعهم رجل مفلوج، فوجدته يطوف بالبيت سالمًا من الفالج، فقلت له: كيف ذهب ما بك؟! فقال: جئت إلى بئر زمزم، فأخذت من مائها، فحللت به دواة كانت معي، وكتبت في إناء: بسم الله الرحمن الرحيم: هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِى لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ [الحشر:22] إلى آخر السورة، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] إلى أخر الآية، وقلت: اللهم إن نبيك محمدا قال: ((ماء زمزم لما شرب له)) ، والقرآن كلامك فاشفنى بعافيتك، وحللته بماء زمزم وشربته، فعوفيت وتخلصت من الفالج بإذن الله تعالى من غير معالج، فلله الحمد على ذلك.
وقال الإمام ابن القيم: "وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة من عدة أمراض، فبرأت بإذن الله"، "ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها ـ أي: بزمزم ـ بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع".
وذكر الإمام تقي الدين الفاسي أن أحمد بن عبد الله الشريفي الفراش بالمسجد الحرام شربه ـ أي: زمزم ـ للشفاء من عمى حصل له فشفى منه.
عباد الله، ولو أردت أن أعدد القصص التي روتها لنا كتب التاريخ وغيرها من المجلات في عصرنا الحاضر عن كثير من المؤمنين شربوا ماء زمزم لمرض نزل بهم لطال بي الوقت، لكن الأهم من ذلك أن تشربه بعقيدة قوية ونية صادقة وإيمان لاشك فيه ويقين في كلام رسول الله بأن ماء زمزم لما شرب له، فاشربه إذا لنيات الخير الكثيرة المختلفة في الدنيا والآخرة، فمن السلف من قال عند شرب زمزم: نويت أن أشربه لظمأ يوم القيامة، ومنهم من شربه لزيادة العلم كالشافعى، فكان أعلم أهل زمانه، وشربه للقوة والفروسية والرماية، فكان قويا، فارسا يركب الخيل ويتقلب عليها ولا يسقط، وكان راميًا تصيب سهامه كلها، وغير ذلك من نيات الخير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، بعد كل ما تقدم بيانه من خاصية الشفاء التي جعلها الله في ماء زمزم وما فيه من خيرات وبركات وهو لما شرب له فليحذر كل من نفّر الناس عن ماء زمزم، أو زهدهم فيه، ولا سيما بعض الأطباء الذين ينصحون المرضى بشرب ماء الصحة بدل زمزم، بل يتعدى بعضهم إلى القول بأن ماء زمزم فيه أملاح كثيرة تضر بالمريض، ونحو هذا من الكلام الذي فيه تعدٍ وجرأة على ما صح عن رسول الله في ذلك، وهو لا ينطق عن الهوى، إنما يخبر عن الله عز وجل الخالق للمخلوقات والعالم بخصائصها وما جعل الله تعالى فيها من الخيرات والبركات. والمؤمن بالله ورسوله يكون حاله كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "قال ابن عباس رضي الله عنه: هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) ".
وماء زمزم قد قضى فيه رسول الله ، وأخبرنا عن خاصيته وما جعل الله تعالى فيه من الشفاء، فما على المسلم المؤمن إلا أن ينقاد ويسلم تسليمًا مطلقًا من غير توقف، والواجب على الآراء أن تكون تابعة لرأيه ، فلا يرفع صوت فوق صوته ، ولا رأي فوق رأيه ، وإلا فمن حكّم عقله ورأيه فيما جاء عن الله ورسوله ، فقد حبط عمله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْو?تَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ?لنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِ?لْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـ?لُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
فهذا ما يجب أن يكون راسخًا في قلب المؤمن، وهناك أمر آخر يشيعه بعض ضعفة النفوس من أن ماء زمزم تغير عما كان عليه في عهد رسول الله، ودخلت عليه مياه المجاري، وبالتالي يكون قد فقد خصائصه، وهذه أيضا من الأمور التي تفتت العقيدة في قلوب المؤمنين، وهو كلام باطل، وعن حلية الحق عاطل، ورحم الله الملك فيصل حينما قالوا له: نريد أن نحلل ماء زمزم في مختبرات فرنسا لأن به تلوث من مياه المجاري، فقال: نحن أعرف بماء زمزم من مختبرات فرنسا، ولم يرض أن يفعل ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، واشربوا ماء زمزم، وتمتعوا بها، واذكروا أن غيركم في البلاد الإسلامية يتمنى الواحد منهم القليل منه، وأنتم في مكة المكرمة تشربونه وتتوضؤون منه، فاحمدوا الله على نعمه، فبالشكر تدوم النعم.
(1/4397)
مناقب أبي بكر الصديق (2)
سيرة وتاريخ
تراجم
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
5/8/1418
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة أبي بكر قريشًا إلى الإسلام. 2- رسوخ إيمان أبي بكر &. 3- ثبات أبي بكر عند وفاة الرسول. 4- دروس مستفادة من حياة أبي بكر &.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله الذي لا تخفى عليه خافية، ولتكن التقوى لباسكم.
هذا، وقد كنت حدثتكم في الخطبة الماضية عن أحداث إسلام سيدنا أبي بكر الصديق، وفي يومنا هذا أتمم لكم الحديث عن الصديق.
أسلم أبو بكر الرجل الذي اصطفاه الله ليكون لرسوله الصديق وثاني اثنين وغَدًا يكون الخليفة، أسلم الرجل الذي وإن لم يكن نبيًا فإنه سيكمل دور النبي، وفي زيارته التالية لرسول الله لم يكن وحده، بل كان معه وفي صحبته خمسة من أشرف قريش، أقنعهم أبو بكر بالإسلام فجاؤوا يبايعون الرسول، أولئك هم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله. أجل، هؤلاء الخمسة الأعلام مرة واحدة، وكانت هذه أولى بركات أبي بكر. فعما قليل تنمو صفوف المقبلين على الإسلام، وسيقبل الناس بعضهم على بعض قائلين: محمد وأبو بكر. والله لا يجتمع مثلهما على ضلالة أبدًا.
ومهمة أبي بكر تتلخّص في أن يجعل من حياته كلها درعًا يحمي به الدعوة والداعي؛ الدين والرسول، وحين يوفق في مهمته هذه فتلك عنده هي الحظوظ الوافية التي يرجوها، وينتشي حبورًا بها، ويحس كلّما تزيدت أهوالها وأخطارها أنه أعظم أهل الأرض حظًا وأوفاهم سعادة وغُنمًا.
أيها المؤمنون، إن إيمان الصديق إيمان فريد من نوعه، إذًا فمن أي طراز كان إيمانه؟
إن مواقفه العظيمة في الإسلام تشهد برسوخه في إيمانه، بل إن إيمانه يعدل إيمان الأمة، كما وردت بذلك الأحاديث. ومن مواقفه العظيمة يوم بدر وقد جاءت قريش بحدها وحديدها وصناديدها وكبريائها وبأسها، ونزلت عند العُدوة القصوى من الوادي، وخرج المسلمون مع رسول الله وعِدَّتهم يومئذ ثلاثمائة، لا يملكون من سلاح المقاومة إلا نَزْرا يسيرا، والتقى الجمعان، وتتلظى أرض المعركة فجأة ورسول الله جالس في عريشه، حيث توسل إليه أصحابه أن لا يغادر خيمته مهما تدور رحى الحرب، وأبو بكر معه، بَصُر رسول الله بالمعركة المحتدمة الحافلة، ورأى أصحابه وهم قليلون، يكادون يذوبون وسط الخضم الوثنيّ المجنون، وكلما رأى شهيدًا يسقط طار معه قلبه حنانًا وأسى، وبلغ القتال ذروته الفاصلة، ولم يعد يسمع إلا صليل سيوف متوهجة تعزف لحن الموت والدم، وأحسّ الرسول أن كل مقدرات الدين قد صارت في الكفة المرجوحة، لا الكفة الراجحة، وخرج من خيمته باسطًا إلى السماء ذراعيه مثل شراعي سفينة دهمها موج عنيد عتيد، وراح يناجي ربه في ابتهالات عالية: ((اللهم إن تَهْلِك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني))، وتوالت ابتهالاته، وبحت نبراته، وفاضت عبراته، وسقط رداؤه من فوق منكبه.
وهنا اقترب أبو بكر في هدوء، فرفع رداء الرسول ، وأعاده إلى مكانه فوق المنكبين اللتين كانتا آنئذ تحملان أعظم أعباء الحياة، وفي كلمات متوسلة قال أبو بكر: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
عباد الله، لم يكن الرسول في شك من نصر الله القريب، فقبيل المعركة قال لأصحابه: ((إن الله وعدني النصر)) ، وقال لهم: ((إني أرى مصارع القوم)) ، ولكن مسؤولية المباشرة عن أصحابه وعن الدين الذي يواجه أول معركة مع خصومه عكست على مشاعره حماس المعركة وقلقها.
أيها المؤمنون، ومن شاء أن يرى إيمان أبي بكر في أحفل ساعاته، من شاء أن يرى الإيمان العُلْوىَّ الموصولَ بقيُّوم السموات والأرض فلْيَرَ هذا الإيمان يوم دعي الرسول إلى الرفيق الأعلى، فأجاب داعي الله إلى الدار الآخرة والقرب من الرحمن وسكنى أعلى الجنان، يومَ تلفَّت المسلمون فجأة، فلم يروا بينهم الحبيب المصطفى والأب الرحيم الذي كان يملأ جوانحهم حنانًا والنور الذي كان يملأ وجودهم ضياء، يومئذ تكشَّف جوهر الإيمان؛ إيمان رجل صِدِّيق، أعطى الله موثقه مع رسول الله ، فإذا انتقل رسول الله بالموت فإن هذا الإيمان لا يضعف بل يتفوَّق، ولا يجزع بل يَحْتَشِد ويتجمع، ولا يَنُوء ويثقل كاهله تحت وقع الضربة بل ينهض أيِّدًا صامدًا رشيدًا ثابتًا، ليحمل مسؤولياته وتبعاته.
وهكذا وقف أبو بكر أو بتعبير أدق: وقف إيمان أبي بكر يوم وفاة الرسول وقفة ما كان يقدر عليها سواه. يومئذ وبعد أن صلى أبو بكر بالمسلمين عاد الرسول في حجرته واستأذن أبو بكر رسول الله في أن يغيب عنه بعض الوقت، وذهب أبو بكر إلى داره بالعالية في أقصى المدينة، ومضى وقت ليس بالطويل قضى فيه بعض حاجات أهله، وإذا هو يتهيأ للعودة إلى رسول الله ، وإذا الناعي يقطع الأرض إليه وثبًا، ويلقي عليه النبأ الذي تخر له الجبال هدًا. حمد واسترجع، واختلطت دموعه الهاطلة بكلماته وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وسار نحو بيت رسول الله ، رابطَ الجأش قويّ الجَلَد، ولم يكد يقترب من المسجد حتى رأى الفاجعة الكبرى. لقد فقد المسلمون صوابهم حتى ابن الخطاب القويَّ الراسخ وقف بين الناس شاهرًا سيفه صائحًا: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله مات، وإنه ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال زعموا أنه مات، ألا لا أسمع أحدًا يقول: إن رسول الله مات إلا فلقتُ هامته بسيفي هذا. تلك كانت حال عمر، فكيف كان حال سواه؟!
لقد كان موت رسول الله فاجعة عظيمة للمسلمين على الرغم من سابق مرضه ، كأنهم ما تصوّروا أبدًا أن يقال لهم ذات يوم: مات الرسول. فلما أنفذ الله أمره واختار لجواره رسولَه وكتب على الناس أن يسمعوا في لجج من الهول والأسى كلمة الموت مقترنة بكلمة الرسول طار منهم صوابهم.
ولقد كان أبو بكر أحقَّ الناس بأكبر قدرٍ من الأسى والذهول والكمد على حبيبه؛ فهو صَدِيق العمر لمحمد منذ طفولة الحياة وشبابها، وهو صِدِّيقُه منذ أول أيام الوحي والدين، وهو قد أحبه حبًا وآخاه مؤاخاةً تجعل الصبر على فراقه فوق طاقات البشر، لكن أبا بكر كان يبدو كأنه لا تحركه طاقات بشرية، بل قوًى إيمانية، فتنزلت على قلبه سكينة عظيمة كما تنزلت عليه يوم الغار السكينة.
ولْندعْ شاهد عيان يصف لنا ثبات أبي بكر عند الصدمة الأولى: أقبل أبو بكر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء، ودخل على رسول الله وهو مسجًّى في ناجية البيت، عليه بُردُ حَبِرة، فكشف عن وجهه، ثم قبله وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًا وميتًا، إن الموتة التي كتبها الله عليك قد مِتَّها. ثم خرج وعمر يكلم الناس فدعاه للسكوت، فأبى عمر إلا أن يسترسل في قوله، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس يكلمهم، فلما سمعوه أقبلوا عليه منصتين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144]. فوالله، لكأن الناس يسمعون هذه الآية لأول مرة، أما عمر فقد وقع على الأرض حين علم من كلمات أبي بكر أنه الموت حقًا.
أفي هذه اللحظات الذاهلة والفاجعة المزلزلة يكون مثل هذا الثبات؟! (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). إنها كلمات توصي بالصبر، وتمنح العزاء لمن حضروا ذلك اليوم وللأمة كلِّها بعد رسول الله. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ)) رواه الدارمي (85).
ولقد أحسن أبو العتاهية رحمه الله في نظمه موافقا لهذا الحديث حيث يقول:
اصبِر لكلِّ مصيبةٍ وتَجلَّد واعلم بأنَّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ
أَوَما ترى أنَّ المصائبَ جمةٌ وترى الْمنييةَ للعبادِ بِمرصدِ
من لم يُصَبْ ممن ترى بمصيبةٍ هذا سبيلٌ لستَ عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت محمّدًا ومصابَه فاجعلْ مصابَك بالنبيِّ محمدِ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمِد في الكتاب نفسه، واستفتح بالحمد كتابه، ورضي بالحمد من عباده دليلاً على شكره، فلك الحمد ـ يا ربنا ـ حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، لقد عشنا لحظات مع أبي بكر وإيمانه بالله، فلنتخذ من هذا الإيمان مشعلاً، ولنستفد من مناقبه دروسًا في حب الله ورسوله وكيف يكون هذا الحب والإيمان، ودروسًا في التقوى، ودروسًا في الصبر، ودروسًا في الثبات، ودروسًا في الحلم والأناة، ودروسًا في الزهد والورع وترك الحرام والبعد عن الشبهات، ودروسًا في الاهتمام بأمر المسلمين وخدمة الدين وتعليمه للناس، وليكن الفرد منا مقتديًا بالصحابة الكرام قدر وسعه وطاقته، الذين قال الله في حقهم: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]، وعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ فَقَالَ: ((إِنِّي لا أَدْرِي مَا بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي)) وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. رواه الترمذي (3663).
(1/4398)
إنه الصيام
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/8/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من إيجاد الخلق. 2- نظر الكافر والمؤمن للحياة. 3- شكر الله تعالى على الهداية. 4- قبول أوامر الله تعالى. 5- فرح المؤمن بأركان الإسلام. 6- الفرح بقدوم رمضان. 7- أسرار الصيام. 8- فضل رمضان. 9- شروط وجوب الصيام. 10- التحذير من بعض الشركات الحديثة التي تتولى قضاء الديون بالفوائد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أذكِّر نفسِي وأذكِّرك ـ أخي المسلم ـ بحكمةِ الله من إيجادِنا وخلقِنا، وأنَّ حكمتَه من إيجادِنا ـ معشرَ الثقلين الجنّ والإنس ـ عبادتُنا له جلّ وعلا، تقرُّبنا إليه بما يحبّه ويرضاه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أخي المسلِم، نظرُك إلى الحياةِ ليس كنظرِ غيرِك، فغيرُ المؤمِنِ ينظر إلى هذهِ الحياةِ الدّنيا نظرَ التمتُّع بملذّاتِها وإعطاء النفسِ شهواتِها، فإذا نالَ الملذاتِ والمُتَع اكتفَى بذلك وكأنّه ما خلِقَ إلا لهذه المتَع، وذاك حالُ من لا يرجون حسابًا ولا يخافون عِقابًا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24].
أمّا نظر المؤمِنِ لهذه الحياةِ الدنيا فنظرُ المتدبِّر المتعقِّل الذي أيقَنَ بأنَّ الله إنما خَلَقه ليعبدَه تعالى، ليقبَلَ أوامرَه وليجتَنِب نواهيَه، إنّه يفكِّر في خلقه وإيجاده، فيتصوَّر نعمةَ الله عليه حيث أوجدَه من العدَم، يحمَد الله على حسنِ خلق الله له، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، يشكُر الله على أن كرّمه بالإنسانية من بين سائر المخلوقاتِ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
ثمّ المؤمِنُ بعد هذا يشكُرُ الله على هِدايَتِه للإسلام وأنَّ الله هداه لهذا الدّينِ وشرحَ صدرَه لقبول أوامِرِ الله ونواهِيه، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22]. يَشكر الله أن هدَاه للإسلامِ ومنَّ عليه بهذا النبيِّ الكريم وبهذا الكتابِ العَزيز، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، ويتذكَّر نعمةَ الله عَليه بهذا القرآنِ العزيزِ الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خَلفِه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
المسلم يقبَل أوامِرَ الله، ويعلَم أنّ هذه الأوامرَ سببٌ لعِزّته ورِفعته في الدنيا وكرامتِه عند الله في الدنيا والآخرة، يقبَل أوامرَ الله، وتَرتاح نفسُه بها، ويطمئنُّ بها قلبُه، وتسكُن إليها روحُه، فهو يعمُر هذه الحياةَ بأوامر الله التي أمرَه بها، ويكفُّ نفسه عن النواهِي التي نهاه الله عَنها.
يرَى نفسه في لذّةٍ وطمأنينةٍ إن هو أدَّى ركنًا من أركان دينِه، فيحمَد الله أن شرَع له الفرائضَ وأوجب عليه الواجِبات، فيراها النعمةَ العظمى والمنّة الكبرى، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بَنَى الله دينَ الإسلامِ على أركانٍ خمسَة، أساسُها وأصلُها تحقيق شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله عِلمًا وعَملاً وصِدقًا وإِخلاصًا ويَقينًا ومحبَّة وقبولاً لها، فيعبُد الله وحدَه لا شريك له، ويتَّبع هذا النبيَّ الكريم، ويؤمن بأنّه رسول الله إليه ليبلِّغه شرعَ الله ويأخذَ بيده إلى الطريق المستقيم صلوات الله وسلامه عَليه دائمًا إلى يومِ الدين، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52، 53].
ثمّ أركانُ الإسلامِ الأربعةُ مِن صلاةٍ وزكاة وصَوم وحجّ جاءت لتقرِّرَ أنّ المؤمنَ في قلبِه إيمانٌ صحيح، فإنَّ الإيمانّ مكوَّن من عملٍ واعتقادٍ وقول، اعتقاد القلبِ وعمَل القلب والجوارح وقَول اللسان، فليس إيمانًا بمجرَّدِ الأماني، ولكنّه الإيمان الحقّ الذي وقر في القلبِ وصدّقه العمل.
حينما يؤدِّي المسلم هذه الأركانَ يعلم أنّ لله حكمةً في كلِّ ركن من أركانِ دينه، يعلَم منها ما يعلَم، ويخفى عليه ما يخفَى، لكنّه في الجملةِ مسلِّمٌ لله أوامرَه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
يؤدِّي الصلواتِ الخمس لأنها الصِّلَة بينه وبين ربِّه التي تقرِّبه إلى الله، وتأخذ بيده لمعالي الأمورِ، وتبعِده عن الفحشاءِ والمنكَر، وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
يؤدِّي زكاةَ ماله ليطهِّر قلبَه من دَرَن الشحِّ والبُخل، وليزكّيَ نفسَه، وليطهِّر مالَه، وليسعَى في نموِّه وزِيادته، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
يحجّ بيتَ الله الحرام، وينفِق المال ويتعِب البدنَ، لكنّه يجِد اللذّة عندما يكون هدفُه وغايته ابتغاءَ مرضاةِ الله وطلب ثَوابه.
يأتيه شهرُ الصيام والقيام فيستبشِر به ويفرَح به، يفرَح به فرحًا عظيمًا، ويستبشِر بمقدَم هذا الشهرِ، ولسانُ حاله: الحمد لله الذي بلَّغني صيام رمضان، الحمدُ لله الذي جعلَني من الأحياء لأصومَ هذا الشهرَ وأتقرَّب إلى الله فيه بما يُرضيه عنّي من الأقوالِ والأعمال.
أتَى رمضان وأمّةُ الإسلام في فرحٍ واغتباطٍ بقربِ هذا الشهرِ، وكلّ يتمنَّى من ربِّه أن يكونَ أحَد الصائمين القائمين لله في هذا الشهرِ المبارك؛ ليرجوَ به ثوابَ الله ويتقرَّب إلى الله بذلك العمل.
إنَّ ربَّنا جلّ وعلا شرَّفنا بهذه الأوامر، فله الفضلُ والمنّة علينا بما شرَع لنا من هذه الأوامرِ وبما نهانا عنه من النّواهي.
إنَّ ربَّنا جلّ جلاله يوجِّه الخطابَ إلى أهل الإسلام إلى أهلِ الإيمان المستجيبين لله ورسولِه السّامعين المطيعين المنقادِين القابلين للأوامِر المسلِّمين لله مرادَه حينما يخاطِبُهم قائلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
يقِف المسلِمُ متدبِّرًا متأمِّلاً لهذا النّداء الربّانيِّ العظيم، يخاطِب كلَّ مسلم بأعلَى صِفَته وأكمَلها ألا وهي صفةُ الإيمان الذي يحمِل على الانقياد والاستجابة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ : شرِعَ لكم الصّيام، فرض عليكم الصيام، هذا الصّوم عبادةٌ لم تكونوا مختصِّين بها من [بين] سائِر الأمَم، بل هي عبادةٌ قديمة، كتَبها الله على مَن قبلَنا منذ آدَم عليه السلام إلى محمّد.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، لكنَّ لهذه الأمّة في هذا الشهر خصوصيّات لم تكن لأمّةٍ قبلَها من الأمم، وذاك لفضلِ هذه الأمّة وكرَمها على الله، صلواتُ الله وسلامه على نبيِّنا وسائِر الأنبياء إلى يومِ الدّين.
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؛ فلِكون الصوم عبادةً لها شأنُها ولها فَضلها ومكانتها صارَت عبادةً قديمة.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني: حكمةُ الله من شرعِ الصّيام لنا مجموعٌ في جزءِ هَذهِ الآيةِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أجل، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، كلمةٌ جامعة، كلِمة مستوفِيَة للكثِير، كلِمة هي من جوامِع الكلم التي أُعطِيَها نبيُّنا ، فيتأمَّل المسلم قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، ويتدبَّر كيف يكون الصّيامُ سببًا للتّقوَى، وكلُّ الأعمال الصالحة من صلاة وزكاةٍ وحجّ وغيرها من الواجبات هي أيضًا سببٌ للتقوى، فلماذا خُصَّ الصيام من بينِ العِبادات بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ؟! أجل، إنَّ المسلم حينَما يتأمَّل الصيامَ وفوائدَه ليعلَم حقًّا أنّه من أقوى الأسبابِ المحقِّقة للتقوى في قلب المؤمِن. التقوَى حقيقتُها امتثال أوامرِ الله على بصيرة من أمرِه واجتنابُ نواهي الله على علمٍ وبصيرة، يمتثِل الأوامرَ يرجو بها ثوابَ الله، وينتهي عن النواهِي يخاف [بفِعلِها] من عقابِ الله.
الصائِمُ حينما يمتنِع عن الطعام والماءِ ومواقعةِ النساء منذ طلوع الفجرِ الثاني إلى غروبِ الشمس ما الذي دعاه لهذا الانقياد؟! ما الذي فرضَ عليه هذا؟! أَحميَةً التَزمَها أم مجرَّد عادةٍ فعلها؟! لا، إنما كان امتناعُه عن ملذّات النفس وما تدعو إليه النفسُ وما تميل إليه النفس بطَبعِها من ماءٍ وطعامٍ ونِساء إنما ترَك ذلك لأجلِ الله، إنما امتَنع عنها في نهارِ الصّيام تقرُّبًا إلى اللهِ، إنَّ الذي دعاه خوفُه من الله وخوفُه من المقام بين يدَيِ الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
الصّائِم قد يظهَر للناس أنه صائم وهو في داخِلِ منزله آكلٌ شاربٌ آتٍ للنّساء، وأمَامَ الناس إنّه الصائم المتعبِّد، قد يكون هذا، لكن المؤمِن حقًّا بعكس هذا، حينَما تدعوه النفسُ إلى ما تميلُ إليه من طعامٍ وشرابٍ ونساء يترُكها لما قام بقلبِه من اليقين الجازِمِ أنَّ الله مطَّلِعٌ عليه وعالِم بسرِّه وعلانِيتِه، قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]. إذًا ففي الصّيام تقويةٌ لجانب الإخلاص، وفي الصيام تقويَة لصِدقِ التعامل مع الله، وفي الصّيام إظهارُ الخضوع والذلِّ لله جلّ وعلا.
إنّ الصائم والماءُ والشراب والمُتَع بين يديه، ينظر إليها بعَينَيه، وبإمكانِهِ تَناوُلُ ما شاء منها، إذًا فيدعوه عندما يؤلمه الجوعُ والظّمأ إلى شُكر الله على النّعمة التي هي عندَه وما ترَكَها إلاّ طاعةً لله، فيتصوَّر عظيمَ نِعَم الله عليه، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]. والنّعَم إنَّما يعرف قدرَها من فقَدَها، وهذا ليس فاقدًا لها، هي متواجِدة عنده لكنّه تركها لله، فيشكُر اللهَ ويزداد شكرًا لله وثَناء عليه.
إنّها تذكِّره بحال المعوِزِين والمحتاجين وبحال من تمرُّ الليالي والأيام والشهور وهم في بأساء وضرّاء وفاقةٍ وفَقر وعريّ، فيدعوه إلى رِقّة قلبِه ولين يدِه، فيمدّ يدَ الإحسان إلى الفقراءِ والمساكين والمعوِزين.
إنّه يربِّي في النفس قوّةَ الإرادة وتحمّل المشاقِّ والصبر على المتاعِبِ حينما يمتدُّ طولُ النهار وهو صائم لله جلّ وعلا، يعلِّمُه الصبرَ الحقيقيّ؛ الصبرَ على طاعةِ الله وعَدَم الملَل والضجَر، يعلِّمه الانضِباطَ في المواعيد، يعلِّمه قوّةَ الإرادةِ والتغلُّب على الهوَى وملذّاتِ النّفس.
إنّه صِحّةٌ للبدن، ينقِّيه من فضلات الطعامِ والشراب، ويهيِّئُه للمستقبل لحياةٍ طيبة.
إنّه دواءٌ للعبد، دواء لأمراضِ القلوبِ، عندَما يصوم المؤمِن رمضانَ فرمضانُ يكفِّر ما مضَى من الذّنوبِ، فيعِدّه لرمضانَ آخر وهو لا يزال في طُهرَة رَمضانَ ونقاءِ رمضان، ((الصلوات الخمس والجُمُعة إلى الجمعةِ ورَمضان إلى رمضانَ مكفِّراتٌ ما بينهنَ إذا اجتنبت الكبائر)) [1].
يَصوم رمضانَ بإيمانٍ واحتساب تَصديقًا لإخبار الصادقِ المصدوقِ : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) [2] ، إيمانًا بوجوبِه واحتسابَ الثوابِ وطلبه من ربِّ العالمين.
إّنه الصيامُ الذي يهذِّب السلوكَ، يهذِّب سلوكَ العبد، ويروِّضه على الخير، يهذِّب أقواله وأعمالَه، فهو يدعوه إلى الحِلم والأناءةِ والصفحِ والإعراضِ عنِ الجاهلين وعَدمِ مجاراةِ السفهاء في سَفَههم، يقول : ((فإذا كان [يوم] صومُ أحدِكم فلا يرفُث ولا يسخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقُل: إنِّي امرؤٌ صائم، إني امرؤٌ صائم)) [3].
أيّها المسلِم، أبوابُ الجنّة الثمانية تفتَّح لك في هذا الشهرِ لأهل الإسلامِ لقوّةِ الطاعةِ وكَثرتها ونُدور الإجرامِ من أهل الإيمانِ، وتُغلق فيه أبوابُ النار، وينادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ من النار في كلِّ ليلةٍ.
أيّها المسلم، شهرٌ عظيم من أشهرِ الله، هو سيِّد الشهور عند الله، يقول يومًا لأصحابِه: ((أتاكم رمضانُ شهرُ بركةٍ، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمةَ، ويحطّ الخطيئةَ، ويستجيب الدعاءَ، ينظر الله إلى تَنافسِكم فيه، فيباهِي بكم ملائكتَه، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا، فإنّ المحرومَ فيه من حرِم فضلَ الله)) [4].
أيّها المسلِم، احفَظ حدودَ هذا الشهرِ، والتزِمِ الأدبَ الشرعيّ فيه؛ ليكونَ الصيام بتوفيقٍ مِن الله صِيامًا كامِلاً، في الحديث: ((من صامَ رمضانَ وعرَف حدودَه وتحصَّن ممّا ينبغي أن يُتَحصَّن منه كفَّر ما قبله)) [5].
إنَّ الله يكتب نوافلَ هذا الشهرِ قبل أن يدخِلَه، ويكتبُ وزرَه وشقاءه قبل أن يدخِلَه، كما قال ذلك محمّد حيث يقول: ((أتاكم رَمضانُ، ما مرَّ بالمسلمين شهرٌ هو خير لهم منه بِمحلوفِ رسول الله ، ولا مرَّ بالمنافقين شهرٌ هو شرّ لهم منه بمحلوفِ رسول الله ، إنَّ الله يكتُب أجرَه ونوافلَه قبل أن يدخلَه، ويكتب شقاءَه ووزرَه قبل أن يدخِلَه، وذلك أنَّ المؤمنَ يعِدّ فيه القوَّةَ للعبادَة، ويعدّ فيه الفاجر تَتُبّع غفلاتِ المسلمين وعوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن يغتَنِمه الفاجر)) [6].
كان نبيُّكم يبشِّر أصحابَه بهذا الشهرِ، ويعُدّ لهم خصالَ الخير فيه تَرغيبًا لهم في الفضلِ وشحذًا لهِمَمِهم لكَي يزدادوا خيرًا، يُروَى عن سلمانَ الفارسيّ عن رسول الله مرفوعًا قال: خَطَبنا نبيُّنا في آخرِ يومٍ من شعبانَ ثمّ قال: ((قد أَظلَّكم شهرٌ عظيم مبارَك، شَهر جعَل الله صيامَه فريضةً وقيامَ ليلِه تطوّعًا، من تقرَّب فيه بخصلةٍ مِن خِصال الخير كانَ كمَن أدّى فيهِ فريضةً، ومَن أدّى فيهِ فَريضةً كان كَمَن أدّى سَبعين فرِيضةً فيما سِواه، وهو شَهرُ الصبر والصّبرُ ثوابُه الجنّة، وشَهر المواساةِ وشَهرٌ يزادُ في رزق المؤمنِ فيه، شَهرٌ أوّلُه رَحمة، وأَوسطه مغفِرَة، وآخِرُه عِتقٌ مِنَ النار، مَن فطَّر فيه صَائمًا كان مَغفِرةً لذنوبه وعِتقَ رقَبتِه منَ النار، وكان له مِن الأجرِ مثلُ أجرِ الصائم من غيرِ أن ينقُص من أجرِ الصائم شيءٌ، ومَن خفَّف فيه عن مملوكِه أعتقَه الله من النّار، من سقَى فيه صائِمًا شربةَ ماءٍ سَقاه الله مِن حوضي شربةً لا يظمَأ بعدها حتى يدخُلَ الجنّة، فاستكثِروا فيه مِن أربعِ خِصالٍ، خصلتَين تُرضون بهما ربَّكم، وخَصلتَين لا غِناءَ بكم عنهما، فأمّا اللّتان ترضونَ بهما ربَّكم فشهادةُ أن لا إلهَ إلا الله وتستغفرونَه، وأمّا الخصلَتان اللتان لا غِناءَ بكم عنهما فتَسألونَ الله الجنّةَ وتستعيذون به منَ النّار)) [7].
هَذا شهرُ رَمضَان، شَهر الصيامِ والقيامِ، شَهر تكفَّر فيه الذنوب والخطايا، وشهرٌ تجَاب فيه الدعواتُ، وشهر ينَال فيه المسلمون عظيمَ الخيراتِ.
يا أخي المسلِم، احمَد الله وأنت في عِداد الأحياء صَحيحًا مسلِمًا قادرًا على الصّيام، وتذكَّر حالَ من فقَدتَهم في مثلِ هذه الأيّام، تذكَّر من غيَّب الثرى أجسادَهم، تذكَّر أناسًا صَحِبتهم ثم فارَقوكَ، فاحمدِ الله على هذهِ النّعمة وتقرَّب إلى الله بالعَمَل الصالح. فرصةٌ للتائبين والنادمين، فرصةٌ للمخطئِين والمذنِبِين؛ أن يتوبوا إلى رَبهم في هذه الأيام والليالِي المباركةِ، فرصةٌ للمفرِّطين في أعمالهم أن يتدارَكوا نقصَهم، ويستعِينوا بالله على طاعَتِه، ويتوبوا إلى ربِّهم توبةً نصوحًا يَمحو الله بها ما مضَى من الذنوب، ويوفِّقهم فيها لعملٍ صالح يرضَاه عنهم.
يا أخِي، استبشِر بهذا الشهرِ، وافرَح به، واحمدِ الله على نِعمتِه، واعلم أنّ الله أحكَمُ منك وأرحَم، ما ابتَلاكَ لأجل أن تتركَ الطّعام والشّرابَ، ولكن ابتلاك لأن يَكونَ تركُك لهذه الملذّات سببًا لقوّةِ نفسك، لقوّةِ إيمانِك وإرادتك، لثباتِك على الحقِّ واستقامتك عليه.
أسأل الله الذي لا إلهَ غيره إِذ قرَّبنا مِن أيّامه أن يبلِّغَنا صيامه وقيامَه، وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعلَنا وإياكم فيه من الفائزِين برضوانه الناجين من عذابه المستغفِرين من الزلَل والخطَأ، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هَذا، وأستَغفِر الله العَظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغَفور الرّحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[5] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، أورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال: "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
[6] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
[7] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث ـ)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وكذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (589).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محَمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عِبادَ الله، يقول الله في آياتِ الصّيام: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
أجل، إنَّ الله تعالى أراد بنا اليُسر، فافترض صيامَ رَمضان أداءً على المسلم القادِر الصحيح المقيم، فالمسلمُ العاقِل القادر المقيمُ الصحيح يجِب عليه أداءُ الصيام في وقته، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
ثانيًا: غيرُ المسلم لا يخاطَب بالصيام؛ لأنَّ الصيام إنَّما يصحّ ممّن عبَد الله وحدَه، ومن عبَدَ غيرَ الله فكلُّ أعمالِه باطِلة، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
المجنونُ لا يجِب عليه الصّوم أثناءَ جنونِه؛ لأنّه غيرُ مكلَّف ولا مخاطَب.
الصغير لا يجِب الصومُ عليه، لأنّه إنما يجِب بالبلوغِ، لكن يعوَّد الصغار مِن صِغَرهم على الصيامِ ليرغَبوا فيه ويحبّوه وينشَؤوا على محبّةِ الصيام ويأخذوه على ذلك، وكان الصحابةُ يُصوِّمونَ صبيانَهم ويعطونَهم اللّعَبَ من العِهنِ ليشغلوهُم عن الطعامِ والشراب [1].
أيّها المسلِم، العاجِز عن الصّيامِ على أقسامٍ:
عاجزٌ عن الصيام لكِبَر سنِّه، وأنّه بلَغ من السنّ مبلَغًا يعجز فيه عن الصيام، فعليه أن يطعِمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، لم تنسَخ، بل نُسِخ منها القادِر، وبَقِيَت في حقّ العاجز لكِبَره من رجلٍ أو امرأة، فإِذا بلغ من السّنِّ مَبلغًا يعجز فيه عن الصيام ولا يطيقه فليخرِج خمسةً وأبعين كيلو من الأرزّ أو الحبّ، في أوّلِ الشّهر أخرجها أم في آخِرِه.
ثانيًا: الذي أصابَه مرَضٌ، وهذا المرَض من الأمراض الخطيرَةِ المخوفة التي يقرِّر الأطبّاءُ المختصّون في الغالبِ أنّه مرضٌ ملازم، وأنَّ الصومَ معه يهدِّد حياةَ الإنسان، فإنّه أيضًا يفطِر ويطعِم عن كلِّ يوم مسكينًا، قال جلّ وعلا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ. إذًا فالمريض الذي مرضُه مخوف لا يأمَّل زوالُه بأمر الله في الغالِبِ فإنّه يطعم عن نفسِه عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
المصابون بداءِ الكلَى والفشل الكلويّ والذين يزاوِلون الغسيلَ في اليومِ مَرّةً أو مرّتين هؤلاء يطعِمون ولا قضاءَ عليهم، وإن كان غسيلُه يومًا بعد يومٍ ويمكنه في اليوم الذي لا يستعمِل الغسيلَ فيه فإنَّه يصومه، وإن عجز عنه أطعَمَ عن كلّ يومٍ مسكينًا.
المصاب بانخِفاض السكَّر أو [بارتفاع] ذلك ممن يخشَى على نفسِه الصيام وأنه في أثناءِ انخفاضِه أو زيادته ربما يهدِّد حياتَه فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا ولا حرج عليه.
أمّا المرض الذي يعرِض ويزول في الغالب فكما قال الله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فيفطِر ويقضِي لا سيّما إن كان الصومُ يزيد المرضَ أو يؤخِّر بُرءَه فإنه يفطِر ويقضي عن كلّ يوم مسكينًا، ومتى كان المرض مهدِّدًا للصائِم فإنه يحرم أن يصومَ والمرض سبَبٌ لهلاكه لأنّ الله يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
المريض عندما يفطِر لأجل المرض فإن تمكَّن من القضاء فالحمد لله، ولو أنَّ المريض مرِض ثم ماتَ بعد رمضانَ مباشرةً ونحو ذلك ولم يمكِنه القضاء فإنّه لا قضاءَ ولا إطعامَ عليه. كذلك الشّخصُ الذي بلَغ من السنِّ مبلغًا فقد فيه ذاكرتَه في الغالب وأصبح لا يشعُر ولا يدرِي بمن حوله فهذا أيضًا لا إطعامَ ولا صيامَ عليه؛ لأنه فقد التكليفَ فلا شيءَ عليه، فالمصابون بالجلطةِ الدّمويّة وغيرها من الأمراضِ الملازمةِ التي تكون أحيانًا سببًا في فُقدان الذاكرةِ إما لكِبَر أو عظم المرض الملازمِ له فإنّ هذا لا قضاءَ ولا إطعامَ عليه لفَقد صِفَة التّكليف عليه.
المسافرُ الذي يجِد ضعفًا في أثناء سفرِه له أن يفطِرَ لأن الله يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، والنّبيُّ أفطر في السّفر، ولما كانَ في عامِ فتح مكّة ورأى ضرورةَ الفطر أمرَهم بالفطر وقال: أفطروا ليكونَ قوّةً لكم على مواجهةِ الأعداء. وإن تحمَّل المسافر الصومَ فصام فلا شيءَ عليه، أمّا إن شقَّ عليه الصومُ فالله يحبّ أن تؤتَى رُخَصه كما يكرَه أن تؤتَى معصيتُه.
فلنقبَل شرعَ الله، ولنؤمن بذلك ولنرضَ به، ولنحمد الله على هذه النعمة وعلى هذا التيسير، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
إخوتي المسلمين، في هذه الأيّام نشأت بعضُ الشركات، مهمّتُها البحثُ عمّن عليه التِزاماتٌ للمصارِف البنكية، تقول لهم: نحن نتكفَّل بتَسديد المبالِغ عنكم لكن شريطةَ أن يكونَ لنا نسبة فائِدة على هذا القرضِ، فإذا كان مقتَرِضًا مثلاً مائَة ألف أخَذ ثمانين ألفًا بمائة ألف وحان وقتُ السّداد تقول له هذِه الشّركةُ: نوفِي عنك المائةَ أَلف على أن تسدِّدَنا مائة وعشرة آلاف مقابِلَ محاسَبَتنا للمَصرف، فنأخذ عليك عشرةَ آلاف لأجلِ تعجيلِنا الدفعَ للمَصَارف ونريحك من تَعَبِهم، إنما المهمّ أن يكونَ القرض هذا والتسديد هذا بِنِسبة مِئوية مقابلَ الدّفع والإِراحة من المصارف. هذا ـ يا إخواني ـ هو عَينُ ربا الجاهلية، وفاعله ملعونٌ، وكاتِبه مَلعون، ومُجرِي العقد ملعونٌ على لسان محمّد ، فقد لعن آكِلَ الربا، ولعن موكِل الرّبا، ولعن كاتب الرّبا، ولعن شاهِدَي الربا [2].
فلنتَّقِ الله في تعامُلنا، ولنَبتَعد عن محارم ربنا، أسأل الله أن يحفظَ مكاسبنا ومكاسِبكم من الخبائث، وأن يطهِّرها من الحرام، وأن يغنِيَنا بما أحلَّ لنا عمّا حرّم علينا، إنه على كلِّ شيء قدير.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَمَاعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136) عن الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في المساقاة (1598) من حديث جابر رضي الله عنه.
(1/4399)
صيانة الصيام
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/9/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبشير الصائمين. 2- فضل الصوم وجزاؤه. 3- الترغيب في السحور. 4- استحباب تعجيل الفطر. 5- أدب الصائم. 6- مفسدات الصيام. 7- ضرورة اغتنام رمضان لترك التدخين. 8- مسائل متعلقة بالمرأة. 9- نصائح للمرأة المسلمة. 10- التحذير ممّن يشكّكون في تقويم أم القرى. 11- دعوة لحسن استعمال وسائل الاتصال. 12- نصيحة لأرباب القنوات الفضائي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، معشرَ الصائمين، أبشِروا بوعدِ الله الصادِق على لسانِ نبيِّه ، أبشِروا بما أعدَّ الله لكم من الثوابِ العظيم والعطاءِ الجزيل، أبشِروا فأنتُم على خيرٍ في صيامِكم، أبشِروا فصيامُكم مضاعَف أضعافًا كثيرةً لا يعلم قدرَها إلا الله، أبشروا فقد خصَّكم الله ـ يا هذه الأمّة المحمّدية ـ بخصائصَ لم تكن لأمّةٍ قبلكم، خصَّكم ـ يا معشر الصائمين من أمة محمّد ـ بخصائصَ لم تكن لأمّةٍ قبلكم، فاشكروا الله على نعمتِه وفضلِه، بُشرًى تكون أملاً لكم وحادِيًا لكم للخير وقوّةً في رَغبتِكم في الطاعة وحبِّكم لها، فالحمد للهِ على فضلِه وإحسانِه، ما شرَع الله الصيامَ لتعذيبكم، وإنما شرعه لتطهيرِ نفوسكُم وتزكيَة قلوبكم ومُضاعفةِ الحسنات لكم، فاحمدوا اللهَ على هذه النّعمةِ، واشكروه على فضلِه وإحسانه، في الصحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((كلُّ عملِ ابنِ آدم يُضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلاّ الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزِي به، يدَع طعامه وشرابَه لأجلِي، للصائم فَرحتان: فرحة عند فِطره، وفرحة يوم لقاءِ ربّه، والصوم جنّة، فإذا كان صَومُ أحدِكم فلا يرفَث ولا يسخَب، وإن أحدٌ سابَّه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائِم، والذي نفسِي بيدِه لَخَلوف فمِ الصائم أطيَبُ عند الله من ريحِ المِسك)) [1].
أخي الصائم، لنتأمَّل جميعًا هذا اللفظَ النبويَّ، ولنطَّلِع على ما فيه من الخيرِ والوعد الصادق، فنبيُّنا يقول عن ربِّه جل وعلا: ((كلُّ عمل ابن آدم له مضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها)) ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. فمِن رحمة الله أن العبدَ إذا عمل حسنةً جازاه الله بعشرِ أمثالها، بل إلى سبعمائة ضعف فضلاً منه ورحمة، وذلك أنّ العملَ يتضاعف أجرُه بقوّة الإخلاص وقوّةِ الإيمان وكَونِ هذا العملِ عملاً متعدِّيًا نافِعًا مفيدًا للغَير؛ كالصدقات الجارِية والأعمالِ النافعة والشفاعَاتِ المؤثِّرة وغيرِ ذلك، لكن الصيامُ استُثنِيَ من هذا كلِّه لِقولِ الله جلّ جلاله: ((إلا الصوم)) أي: فإنَّ الصيامَ يضاعَف بأضعافٍ لا يعلمها إلا الله، فالصائِم ليست حسناتُه مقتصِرَة على عشرٍ ولا على سبعمائة ضِعف، بل الصائمُ يضاعَف صومُه أضعافًا كثيرةً لا يعلمها إلا من تفضَّل بها، ما لا عَين رأَت، ولا أذُن سمِعت، ولا خطَر على قلب بشر. ((الصوم لي)) ، أضافه الله إليه، وكلُّ الأعمال له، لكن إضافة تشريفٍ وتكريم للصائِم، وأضعاف الجزاءَ إليه: ((وأنا أجزي به)) ، وهو ذو الكرَم والجود والفضلِ والإحسان، فناهيك بِعملٍ تولَّى جزاءَه رَبُّ العالمين، إنَّ الجزاء عظيم، وإن العطاءَ جزيل.
أيّها الصائم، إنَّ صومَك لا يأخذ الغرماءُ يومَ القيامة منه شيئًا، ظالِمُ الناس في أموالهم وأعراضِهم ودمائهم يمكَّن الغرماءُ من حسناتِه، فإن انقَضَت حسناته حمِّل سيئاتِ مَن آذاهم وظلَمَهم، لكن الصوم يدَّخِره الله للصّائم، فلا يأخذُ الغرماء منه، ليبقَى ثوابه للصائم، ((الصوم لي، وأنا أجزي به)). ينادَونَ يومَ القيامةِ ليدخُلوا أحدَ أبواب الجنة المخصَّصة للصائمين، ألا وهو باب يقال له: الريان؛ ليجِدوا هناك الثوابَ العظيم والعطاء الجزيلَ، ((وأنا أجزي به)).
أيّها المسلم، والصائم له فرحَتان في فطره: فَرحةٌ يومَ فِطره عندما يحضُر إفطاره وعندما تتوقُ نفسُه للطيِّبات التي أباحها الله له، فهو يفرَح بتناولها مع فرحِه بمُوافقةِ أمرِ الله في صيامِه وفطره، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، وفرحَة أخرى أعظَم وأجلّ يومَ قدومه على ربِّه يومَ يقِف العبد بين يدَي ربِّه، لا ينفعه مالٌ ولا بنون إلا من أَتى اللهَ بقلب سليمٍ، هناك يفرح الصائمون بصيامِهم يومَ يُقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، يومَ يجِد صيامَه مدَّخَرًا له أحوَجَ ما يكون إليه، يومَ يجِد صِيامَه قد رجح به ميزان أعمالِه، فهناك الفرحَةُ والسّرور والاغتباط. يخرُج الصائمون من قبورِهم يُعرَفون بطيب أفواهِهم، إنَّ طيب أفواههم عندَ الله أطيَب من ريح المسك، هناكَ الفرحةُ الكبرَى والفَوز الأعظَم، أيّامٌ صاموها في هذه الدّنيا فوَجَدوا الجزاءَ مدَّخَرًا لهم مِن الكريم الرحمنِ الرحيم، فما أسعَدَ الصائمين وما أعظم فرحتَهم في ذلك اليوم العظيم. إنَّ الصومَ جُنّة، واقٍ لك منَ السّيِّئات، حاجِز لك عن الإجرَام، روَّضَك على ترك الطعام والشرابِ المباح تعبُّدًا لله، فحريٌّ بكَ أن يقوَى علَى التأثير عليكَ على تركِ ما حرَّم الله عليك، فهو جُنّة يجنّك من النار ويقيك من لفحاتِ النار.
أيّها الصائم الكريم، خَلوفُ فَم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ونبيُّكم بيَّن لكم خصائصَ لَكم يا أيّتها الأمّة المحمدية، فقال : ((أعطِيَت أمّتي خمسَ خِصال في رمضانَ لم تُعطَها أمّة قبلَهم: خَلوف فمِ الصائم أطيَب عند الله من ريحِ المسك، وتَستَغفر لهم الملائكة حتى يفطروا)) ، مَلائكةُ الرّحمن المطيعونَ لله المسبِّحون لله يستَغفِرون لكم أيّها الصائمون، يثنون عليكم ويَدعون لكم بالمغفرة حتى تفطِروا تكريمًا من الله لكم، ((الله يزيِّن جنّتَه كلَّ يَوم)) ضِيافةً ونُزُلاً للصائمين وتَكريمًا لهم، ((يصفِّد مردَةَ الشياطين)) [2] ، فيضعفُ إرادَتهم ويقلّ شرُّهم، المسلمون قد أطاعوا ربَّهم، والمسلمون قد أكثروا من الطاعةِ والخّير.
أيّها الصائم، يُغفَر لك في آخرِ ليلةٍ من صيامِك إذا وفَّيتَ الأجرَ جاء الجزاءُ من جنس العمل، والله لا يخلف الميعادَ.
أيّها الصائم الكريم، إنّك في عبادةٍ في صومِك، وفي عبادة في فطرِك وسَحَرك، فأنت ساعَةَ تقوم للسّحَر لتتناوَل وجبةَ السّحر وإن قلَّت فالله وملائكتُه يصلّون عليك، الله يثنِي عليك، ملائكة الرحمن تثنِي عليك، يقول نبيُّك : ((إنَّ الله وملائكتَه يصلّون على المتسَحِّرين)) ، يقول: ((السَّحور بَركة، فلا تدعوه ولو جَرعة من ماءٍ، فإنَّ الله وملائكتَه يصلُّون على المتسحِّرين)) [3] ، فأنت تتناوَل وجبةَ السّحر وإن قلَّت تطلُّعًا لهذا الثناءِ العظيم وقدوةً بسيِّد الأوّلين والآخرين وطمَعًا في هذا الفضلِ العظيم، أنت تأكل والله يثنِي عليك وملائكتُه يثنون عليك، وما أعظمَ الثناءَ وأجلَّ الثناءَ، لو أثنى عليك في الدّنيا ذو جاهٍ لرأيت ذاك وِسامًا عليك، تتحدَّث به وتجعَله دائمًا نَصبَ عينَيك، فكيف والثناءُ مِن ملك الأرض والسماواتِ عالمِ السّرائر والضّمائر؟! كيف والثناءُ مِن ربِّك الذي خَلَقك وربّاك ومنحَك النّعمَ وفتَح عليك أبوابَ الخير؟! نبيُّك يقول لك: ((تحسَّروا فإنَّ في السحورِ بَرَكة)) [4] ، ويخبِرك بأنَّ سَحورَك إِعلانُ فَصلِ ما بَينك وبينِ صيام مَن ضلَّ مِن قبلك من الأمَم: ((فَصل ما بين صيامِنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحَر)) [5].
أيّها المسلم، أنتَ تقرُب من إفطارِك والنّفسُ تائِقَة للفِطر ومُتطلِّعة بَعد نهايةِ النّهار، فاعلم أنك إذا بادَرتَ بالفطرِ مِن أوّل غروبِ الشمس فإنّك من أحبِّ عباد الله إلى الله، يقولُ نبيُّكم : ((قال الله تعالى: أحبُّ عبادِي إليَّ أعجَلُهم فِطرًا)) [6]. وأنت حينَما تفطِر لا تزال بخيرٍ ما دمتَ تعجِّل الفطر، يقول لك نبيُّك : ((لا يَزال الناسُ بخير ما عجَّلوا الفطرَ)) [7].
أيّها الصّائم، لكَ دَعوةٌ مستَجَابة في صِيامِك، دَعوتُك إذا صَدقت لا ترَدّ، ((ثلاثةٌ لا ترَدّ دعوتهم: الإمامُ العادِل، والصائمُ حتى يفطِر، ودَعوةُ المظلوم يَرفَعها الله فوقَ الغمام ويقول: وعزّتي، لأنصرنَّك ولو بعدَ حين)) [8].
أيّها الصائم الكريم، فاشكُر اللهَ على نِعَمه، واشكره على إفضالِه وجزائه، واحمده على نِعمتِه، واعلَم أنَّ الواجباتِ الشرعيةَ جاءت لإعزازِك وإكرامك، جاءت لرفعِ منزلتك، جاءت لتأهيلِك إلى دارِ كرامةِ ربّك، فاحمدِ الله أن وفِّقتَ لهذا العملِ، واحمَدِ الله أن أعِنتَ على هذا العمل، واحمدِ الله أَن شرع لك هذا العمل، فكُن دائمًا حامِدًا لله مثنِيًا على الله ممجِّدًا لله شاكِرًا له على عمومِ آلائِه وعموم إِفضاله وإِحسانه، دائمًا قل: الحمد لله ربِّ العالمين، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِك.
أقولُ قَولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إليهِ، إنّه هو الغَفور والرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458 ـ كشف الأستار ـ)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[3] أخرجه أحمد (3/12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوّى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب (1070).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1923)، ومسلم في كتاب الصيام (1095) عن أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (2/237، 329)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث في ضعيف سنن الترمذي (111).
[7] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعدُ: أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخِي المسلِم الصائم، إنَّ صيامَنا أمانةٌ بيننا وبين ربِّنا، صِيامنا نوع من أنواع الأمانَة التي ائتمَنَنا الله عليها.
يا أخي الصائم، احذَر أن تفسِدَ صيامك، صُن صومَك واحفَظه عن كلِّ المفسدات، وترفَّع بنفسك عن كلِّ ما ينقِّص صيامَك.
يا أخي المسلم، قد تتعرَّض في الدنيا لمن يسبُّك ويشتمك لمن يقول لكَ القولَ السيّئ، فروِّض نفسَك على الصبر وقل له: إني امرؤ صائم، ادفَع السوءَ بالإحسان، وردَّ القبيحَ بالحسَن، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
أخِي المسلم، أجمَعَ علماءُ المسلمين أنَّ من تعمَّد الأكلَ أو تعمَّد الشربَ في رمضان أو تعمَّد إتيان النساء في رمضان أنَّ هذا منافٍ للصيام مفسِد للصيام مبطِل للصيام.
فيا أخي، قد أباح الله لنا في عمومِ الليل الأكل والشرب ومواقعةَ النساء، وتعبَّدنا بترك ذلك في نهار الصّيام، فاحذَر ـ أخي ـ من زلَّة القدَم، وترفَّع عن كلِّ ما قد يوقِعك في المشكِل فتندَم ولا ينفع الندم. هذا أمانةٌ بينك وبين الله وسِرّ بينك وبين الله، فالزَمِ الأمانة واحفَظها، واعلم أنَّ إتيانَ المرأة في نهار رمضان من مقيمٍ صحيحٍ معافًى أنَّ ذلك يبطل صومَه ويوجب عليه القضاءَ والتوبةَ إلى الله مما حصَل والكفارة المغلَّظة: عِتق رَقبة، فإن عَجز عنها صام لله شَهرين كاملين متتابعين، فإن عجز لمرضٍ أو كبر أطعَم ستّين مسكينًا، كلُّ ذلك تغليظٌ على المسلم وإِبعاد له عن هذا الأمرِ.
جاء رجلٌ للنبيِّ وهو جالِس بين أصحابِه فقال: يا رسولَ الله، واقَعتُ أهلي في رمضان، قال: ((هل تستطيع أن تعتِق رقبة؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابِعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعِمَ ستّين مسكينًا؟)) قال: لا، فأُتِي النبيّ بعِذقٍ فيه خمسةَ عشرَ صاعًا قال: ((خذ هذا وتصدَّق به)) ، قال: أعلى أَفقرَ مني يا رسول الله؟ والله، ما بين لابَتَي المدينةِ أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتِنا، فضحك النبيّ عجبًا من كونهِ جاءَ طالبًا للإنقاذِ ثم الآنَ يجتَهد ليحوز [تلك] الصدقةَ، قال: ((خُذه فأطعِمه أهلك)) [1] ، صلوات الله وسلامه عليه في دَعوتِه وتوجيهِه وإرشاده وحِلمه وصَبره وتحمُّله، هذا أخطَأ وزلَّت به القدَم، لكنه أدَّبه بالكفّارَة، فلمّا علِم أنّه الفقير في هذا المكانِ جعل تلك الصّدقةَ صدقةً على أهله؛ لأنه بأمسّ الحاجةِ إليها، فصدق الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
ولما وقع من أحدِ الصحابة شيءٌ من هذا قبلَ أن يُنسَخ في الليل جاء لأصحابه فكأنّهم عابوه، فجاء للنبيّ ورَفق به النبيّ، فجاء لقومه وقال: وجدتُ عندكم العسرَ والمشقّةَ، ووجدتُ عند رسول الله اليسرَ والرحمة، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين.
والأكلُ والشّرب مهما كان نوعُ المأكول أو المشروب مفسِدٌ للصّوم بعد أذانِ الفجر بعد طلوع الفجر وتأكُّدِنا من الوقت ومراعَاتِنا للوقت المعلوم، فمن أكل بعدما يؤذِّن المؤذّن أو تناول الماءَ ونحو ذلك فذاك مفسِد لصيامِه؛ لأنَّ اللهَ أمرنا بالإمساكِ إذا تبيَّن لنا الخيطُ الأبيض من الخيطِ الأسود، وهو بياضُ النهار وسواد الليل.
محاوَلَة الإنسان إخراجَ المادّة المنوِيّة من نفسِه أو كما يقال: بالعادة السريَّة المستهجنة هذا أيضًا مفسِدٌ للصّيام لأنَّ النبيَّ قال عن ربه: ((يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه لأجلي)) [2].
إذا أعطِيَ إبَرًا مغذّية تقوم مقامَ الأكل والشّرب وتغذّيه لكونه على سريرٍ ونحو ذلك فهذا أيضًا كأنّه أكل بفِيه، مفطِّر لصيامه بلا إشكال.
كذلك ـ يا أخي ـ سَحبُ الدم الكثير وإسعاف الآخَرين من دمك بما قد يؤول إلى ضعفِك فهذا مفطِّر لصيامك.
يا أخِي المسلم، أمّا خروج الدم منك من غَير اختيار كدمٍ يخرج من الفم أو الأنفِ أو الناسُور ونحو ذلك أو أيِّ جراحة فلا شيءَ عليك؛ لأنَّ هذا ليس بمقدورك. احتلامُ الصائم لا يؤثِّر عليه في صيامِه، يجب أن نصومَ صيامنا ونحفظَه ونسأل الله قبولَه وفضلَه.
أيّها المسلم، كن معِيَ لحظاتٍ قليلة، أنت تمسِك الساعَةَ الرابعةَ وتسعًا وعشرين دقيقة في هذه الأيام، تسمِك حتى الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة. يا أخي، ثلاثَ عشرةَ ساعة أمسكتها، إن كنتَ ممّن ابتُلِيتَ بداءِ التّدخين فهل تكون معِي أنَّ هذا الوقتَ الطويل يروِّضكَ نفسَك ويعوِّدك تركَه، فتمضي ثلاثَ عشرةَ ساعة تارِكًا له، فأضِف إليها مثلَها وقلِّص الأمرَ وتدرَّج، فعسَى الله أن ينقذَك من هذا الداءِ العضال الخبيثِ الذي يؤول إلى السّرطَان والأمراضِ الفتّاكة والهرَمِ السّريع.
يا أخِي، أنت مَعي نهارُك كلّه وقد تعفّفتَ عن التدخين طاعةً لربك وصَبرًا على طاعةِ ربّك، فهيّا بك ـ أخي ـ أن تضيفَ مع الساعات ساعاتٍ وأخرى وأخرَى إلى أن تستمرِيَ تَركه وتَذوقَ اللّذّةَ بتركه وتطمئِنّ إلى تركه عن قناعةٍ وإيمان وتصوُّرٍ للأضرار بعدما ترى صحّتَك وعافيتَك، وبعدما تأخذُ الفحوصاتِ بعد تركِه، ستطَّلع على أنّ الفحوصاتِ قد تحسَّنت، وأنَّ الأوجاعَ والأمراضَ الخطيرة قد زالَت، وأنّك أصبحتَ في نعمة وعافية.
أختِي المسلمة، إنَّ الله جعل الحيضَ سببًا للفِطر، وحرَّم على الحائض أن تصومَ في نهار رمضان، وأنّه يجِب عليها أن تقضيَ الأيام الماضيةَ؛ ولذا لمّا سئلَت عائشة قالت لها امرأة: ما بالُ الحائِضِ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟! قالت: كان يصيبُنا ذلك في عهدِ رسولِ الله، فنُؤمَر بقضاءِ الصّومِ، ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة [3].
أختِي المسلمة، خروجُ دمِ الحيض من المرأة مؤشِّر على صحّتِها وسلامتها وعافِيَتها، وانتِظام خروجه أيضًا دليلٌ على أنّها تتمتَّع بشبابها وقوّتها. إذًا محاوَلَةُ بعضِ الأخوات في رمضانَ تعاطي ما يرفَع الدّمَ أو العادَةَ الشهرية في رمضانَ طمَعًا للصّلاة والتعبُّد المقصَد حسَن، لكن هذا في حدِّ ذاته قد يكون ضررًا؛ لأنَّ الله أرحَم بالعباد.
وأيّتها المرأة المسلمة، إفطارك بالعُذر الشرعيّ لا ينقِّص ثوابَك عند الله، اسمعي نبيِّك يقول: ((إذا مَرض العبد أو سافَر كتب الله له ما كان يعمَله صحيحًا مقيمًا)) [4]. قيل لبعض السلف: ليلة القدر في فضلِها ألِلمسافر والمريضِ والحائض نصيبٌ من ليلة القدر؟ قال: "من قبِلَه الله فله نصيبٌ من تلكم الليلة".
أختي المسلمة، قد تتعاطى بعضُ النساء ما يسمَّى بما يمنَع الحملَ غير الحبوب من الأجهزةِ الخاصّة بها كما يسمَّى عندهم باللولب وأمثاله، وهذا قد يؤدِّي إلى استمرارِ الدّمِ معها دائمًا وكَثرته معها دائِمًا وأنّه أحيانًا قد يستمرّ معها الشهرَ والشهرين ما رأَت الطهرَ، فالحكم الشرعيُّ في ذلك ما أرشدَ إليه النبيّ من أنّها تنظُر إلى أيّام العادَةِ السابقة التي كانَت تجلِسها قبل هذا التغيّر، ويكفيها ذلك لأنّها بهذا في حُكم المستَحاضة، فتجلِس الأيام الماضيةَ المعتادة، والباقي تصوم فيه وتصلّي.
أختي المسلمة، إنَّ الله أوجب عليك غضَّ البصر وتحصينَ الفرج، أوجب عليك لزومَ الحِشمة، أوجَب عليك الحجابَ الإسلاميّ، أوجب عليك التستّر، حرّم عليك الخلوةَ بالأجنبيّ، حرّم عليك دخولَ مَن ليس محرمًا لك عليك صِيانة لكرامتك، حرَّم عليك السفرَ بلا محرم محافظةً على الكرامة والقِيَم والفضائل.
أخواتي المسلمات، إنَّ البعض منهن ـ هدَانا الله وإيّاهن ـ يخرجن في هذه اللّيالي إلى الأسواق، ويا ليتَ الخروج ساعة أو ساعتين، ويا ليتَ الخروج ليلة من أسبوع أو نحو ذلك، لكن للأسف الشديد تواصُل هذا الخروج في ليالي الصيام، والأسف الشديد طولُ هذا البقاء والتنقّل من مجمَّع إلى مجمّع آخر، والآسف الآخر خروجُهن متبرِّجات؛ الحجابُ قَليل والملابِس شفّافة والعطورَاتُ رائِحتُها قوِيّة وإلى غير ذلك.
فيا أيّتُها الأخَوات، اتَّقينَ الله في أنفسِكُنّ، اتّقين الله في المسلِمين، لا تَكوني سَببًا لتحرُّش الآخرين بِك، لاَ تكوني سَببًا لتطلُّع الفسَّاق والأَرذال [إليك].
ويا شَبابَنا المسلِم، اتَّقوا الله في أنفسِكم، احذَروا التّسكُّعات والسّهَرَ الذي لا خيرَ فيه والتجمُّعات التي لا تُفيد ولا تحقِّق غَرضًا، ولكن تقتل الوقتَ بما لا خيرَ فيه.
أيّها الصائمون، تعلمون أنّنا نَصوم ونفطِر؛ بطلوعِ الفجرِ الثاني نمسك، وبِغروب الشمس نفطِر، وهذا شرع ربِّنا. وتعلمون أنَّنا في هذا الزمنِ قد لا يستطيع كلُّ فردٍ منّا أن يعايِنَ بنفسِه الخيط الأبيضَ من الخيط الأسودِ، ففي المدُن والأنوارِ العظيمة قد لا يتمكَّن، وهذا التقويمُ الذي يحدِّد وقتَ الإمساك ويحدِّده بالساعةِ والدّقائقِ يجِب أن نتقيَّدَ به، وأن نعلمَ أنَّ هذا التقويمَ ـ أعني: تقويمَ أمِّ القرى ـ صادِرٌ من هيئةٍ علميّة لها صِفةُ العِلمِ ولها صِفةُ العلم أيضًا بالفلك، ومتَّفَق عليه قرونًا عديدة، منذ عهد الملك عبد العزيزِ غفر الله له، وقد أسِّسَ هذا التقويم واستمرَّ وله أكثر من ثمانين سنَة، وهو لا يزالُ منتظِمًا مرتَبطًا متناسِقًا لا اضطرابَ ولا انقسامَ فيه، ولعلَّكم أن تسمَعوا من بعضِ جاهلٍ وقليلِ علمٍ وقليلِ مَعرفة ومَن يسوء فهمُه ومن لا فهمَ عِنده ولا إيمانَ قويّ في قلبِه يقول: إنّنا نمسِك قبلَ الإمساك بثلثِ ساعةٍ أو نصف ساعة، ويريدون منّا أن نمسكَ إلى أن تطلعَ الشمسُ فنرَاها طالِعَة، وأما [ظهور] الفجرِ فلا يعتبرون به، هذه مغالَطات، هذه جهالات، هذه أمور يتحدَّث فيها جَهَلة لا يفهمون، وهم أهلُ قلّة علمٍ وفِقهٍ عن الله، وإنما يريدون تحويلَ المجتمع من ثوابِتِه إلى أن تفسدَ عبادتُه، فليَعلَم أيُّ مسلمٍ أكل أو شرب بعد طلوع الفجرِ على حسَب التقويم المعتَبَر أنَّ من أكل أو شرِب بعده فإنّ صومَه غيرُ صحيح ويجِب عليه القضاء والتوبةُ إلى الله، ولا تهتمّوا، ولا تصغوا إلى هذه الأقوالِ الزّائفةِ والأقوالِ الباطلة التي يتكلّم بها جهلةٌ لا يفهمون وقليلو علمٍ لا يتصوَّرون حقيقةَ ما يتكلَّمون به، وإنما محبّة للشّذوذ والإتيان بآراء شاطّة، يرونَ أنها بهذا ترفَع منزلتهم أو تثبِت أنهم ذوو عِلمٍ، والله يعلم أنهم ليسوا كذلك.
أيّها الشباب المسلم، إنَّ الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
يا أخي المسلِم، مِن إشاعة الفاحشةِ سوءُ استعمال بعضِ أبنائنا لوسائلِ اتّصال الجوّال، سوءُ الاستعمال وتبادُل الصور المختلِفة، يبثّ بعضُهم إلى بعضٍ صورَ نِساء عارِيَة، ويتداوَلونها بينهم، ولا يعلَمون أنهم بهذا ناشِرو الفاحشةِ مشيعونَ للفساد داعون إلى الفساد، هذه قِلّة حياءٍ يا أخي الشابّ المسلم، لماذا تسخِّر هذه الوسيلةَ النافعة إلى أن تحوِّلها وسيلةَ إجرام ودعوة للفجور والفساد؟!
يا إخواني، هذه أخلاقٌ سيّئة، لا ترضَونها لبناتِكم وزوجاتِكم وأخواتِكم، فكيف ترضَونها لبنات الآخرين وأخواتِ الآخرين؟!
أيضًا في المشاغل النسويّة على اختلاف أنواعِها أحيانًا قد يكون فيها أهلُ رذيلةٍ، يجعلون الكميراتِ الخفيّة لتلتقطَ صوَرًا للنساء وهن وهن كذا وكذا، كلُّ هذا ـ يا إخواني ـ مِن نشر الفاحشة، فليتَّقِ المسلم ربَّه، وليحافِظ على أعراض النّاس، وليحمِ عورات النّساء نساءِ المسلمين يحمِ الله عورتَه، ويستر على بنيهِ وبناتِه، وليعلم أن إساءتَه لنساء الآخرين قد يعاقَب ـ والعياذ بالله ـ في أهل بيته. فاتَّقوا الله في أنفسكم، وصونوا اتصالاتِكم عن الفساد، واجعلوها وسيلة نافعةً، ولا تحوِّلوها وسيلةَ إجرام.
ويا أربابَ القنوات الفضائية المختَلِفة، اتَّقوا الله في هذا الشهرِ، ولا تعرِضوا إلاّ مسَلسَلات نافِعَة هادِفة، تهدِف إلى الخير وتَدعو إليه، أمّا مُسلسَلات إجراميّة قد تصوِّر الدّينَ وأهلَه وتصوِّر بعضَ القرآن وما وعَد به المتّقين في دارِ كرامَته قد تصوِّرها هزوًا ولعبًا، فهذا أمرٌ خطير، فليتّقِ ربَّه، وليتَّق الله أهلُ القنوات الفضائية عمومًا، ولا يعرِضوا للناس إلاّ ما فيه الخير، وليعلَموا أنَّ أيَّ مسَلسلٍ إجراميّ فإنهم يكونون بهذا دعاةً إلى الضلال، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزرِ مثلُ أوزار من تبِعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد، وأن يجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بِدعة ضَلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِهِ الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] تقدم في أول حديث.
[3] أخرجه البخاري في الحيض (321)، ومسلم في الحيض (335).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/4400)
فضل الإسلام وعموم رسالته
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالرسل, محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/10/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عموم رسالة محمّد. 2- دعوة النبيّ الناس إلى الإسلام. 3- قصة أبي سفيان مع هرقل. 4- عظم خُلُق النبيّ. 5- دلائل النبوّة من قصّة هرقل. 6- دروس للدعاة إلى الله تعالى. 7- أهمية الأخلاق في الدعوة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إن ممّا اختصّت به رسالةُ محمد أنها رسالةٌ عامّة لجميع الثقلين: الإنس والجن، العرب والعجم، فهو سيّد المرسلين وأفضلهم على الإطلاق، وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين. أمّا رسالات الأنبياء قبله فهي رسالة إلى أقوامهم، كلّ رسولٍ فإنما هو مرسَلٌ إلى قومه خاصّة، وتنقضي رسالتُه بانقضاء قومه، قال الله جل وعلا عن نوحٍ عليه السلام: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى? قَوْمِهِ [نوح:1]، وقال عن هود عليه السلام: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الأعراف:65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف:73]، وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [الأعراف:80]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85]، وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16]، وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ الآية [الأنبياء:51، 52]، وقال عن عيسى عليه السلام: وَرَسُولاً إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ [آل عمران:49]، وعن موسى أنه أرسله إلى فرعون خاصة: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَـ?هِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى? فِرْعَوْنَ رَسُولاً الآية [المزمل:15].
وأما رسالة محمّد ففيها الشمول والعموم للكلّ، قال جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال: تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وقال: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، وقال جل جلاله آمرًا نبيه أن يقول: وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19]، وقال: نَذِيرًا لّلْبَشَرِ [المدثر:36].
أيّها المسلمون، ولما كانت رسالته بهذه المنزلة عامّة لكلِّ الخلق ابتدأ دعوتَه أولاً في قومه، فدعا إلى الله سرًّا من يثِق به مِن قومه، ثم أمره الله بأن يصدَع بدعوته: فَ?صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ?لْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]. ولما هاجر إلى المدينة وقوِيت شوكة الإسلام وانقاد معظمُ الجزيرة للإسلام وجّه رسائلَه وكُتبه إلى الملوك وزعماء العالم، يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بتوحيدِ الله.
فمِن كتبه التي كتبها أنّه كتب للنّجاشي حاكمِ الحبشة يدعوه إلى الله، فاستجاب لله وأسلم، ولما مات نعاه النبيّ وصلى عليه صلاةَ الغائب، وأخبرهم أنّه مات، فصفَّ الصحابة وراءه ثلاثةَ صفوف، وصلى بهم على النجاشيّ الذي أسلم وهو لا يزال بالحبشة [1]. وبعث كتابًا إلى مقوقس مصر يدعوه إلى الله، فلم يستجِب، لكنه قبِل الكتابَ، وأهدى للنبيّ شيئًا من الهدايا، منها مارية القبطيّة أمّ إبراهيم عليه السلام [2]. وبعث إلى كسرى الفرس فمزّق كتابَ النبي، فقال: ((اللهمّ مزّق ملكه، كما مزّق كتابي)) [3]. وبعث إلى هرقلَ قيصرِ الروم يدعوه إلى الله وإلى دينه [4].
وكان في هذه القصّة من العجائبِ والفوائد ما الله به عليم، ذلك أنّ رسالته مقِرٌّ بها أهلُ الكتاب معترِفون بها وبحقيقتها، لكنهم أنكروا ذلك ظلمًا وعدوانًا، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، وقال: ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لأمّىَّ ?لَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ [الأعراف:157]، فصفاته وأخلاقُه موجودَة في الكتُب السابقة، إلاّ أنّ أعداءَ الله اليهود أنكروا ذلك وجحدوه، قال تعالى: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:89].
في كتاب النبيّ إلى قيصر الروم أمورٌ عظيمة تدلّ على كمال هذا الدين، وعلى كمال أخلاق النبيّ ، واعتراف أعدائه بكمال نبوّته وكمال أخلاقِه وصدقه فيما دعا إليه.
حدّث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما عن أبي سفيان صخر بن حرب، وذاك بعدما أسلم أبو سفيان، قال أبو سفيان: كنّا في ركبٍ من قريش تجّارًا بالشام، فدعانا هرقل إلى مجلسه، فأتيناه ونحنُ بإيليا، فلما دخلنا في مجلسه قال لنا: أيُّكم أقرب الناس نسبًا بهذا الرجل؟ يعني محمدًا ، فقال أبو سفيان: أنا أقربهم به نسبًا، فقال لترجمانه: أدنِه مني، واجعلوا أصحابَه وراءَ ظهره، وإني سائله عن هذا الرجلِ الذي يزعم أنه نبيّ، أسأله فإن كذَبني فكذِّبوه، قال أبو سفيان: فوالله، لولا أني أخشَى أن يأثروا عني كذبًا لكذبتُ. فسأله عن أسئلة منها قوله: ما نسبه فيكم؟ قال: قلت له: إنّه فينا ذو نسب، قال: هل قال أحدٌ قبلَه قطّ تلك المقالة؟ قلت: لا، قال: هل من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: أشرافُ الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقُصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: وهل يرتدّ أحدٌ منهم سخطًا لدينه بعد إذ دخَل فيه؟ قلت: لا، قال: هل جرّبتم عليه كذِبًا قبل اليوم؟ قلت: لا، قال: هل يغدِر؟ قلت: لا، ونحن معه في مدّة لا ندري ما هو فاعِل، قال أبو سفيان: وما أمكنني أن أقول إلاّ تلك الكلِمة، قال: ما يأمركم به؟ قال أبو سفيان وهو إذّاك لم يسلِم، قال: يقول لنا: اعبُدوا الله لا تشركوا به شيئًا، ودَعوا ما [يعبد] آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعفاف والصِّلة. قال هرقل له مجيبًا: سألتُك عن نسَبه فقلتَ: إنه فيكم ذو نسب، وهكذا الرسُل تُبعَث في نسب قومها، وسألتُك: هل قال هذا القولَ قطّ قبله أحد؟ فقلت: لا، فقلتُ: لو كان قبله من قائلٍ لقلتُ: تأسّى بقول قيل قبلَه، سألتك: هل من آبائه من ملِك؟ فقلت: لا، قال هرِقل: لو كان له من آبائه مَلِك لقلت: رجلٌ يطلب مُلكَ آبائه، وقال له: سألتُك: أشرافُ الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهكذا أتباع الرسل، وسألتُك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلت: يزيدون، وهكذا الإيمانُ حتى يظهَر، وسألتُك: هل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعدَ إذ دخل فيه؟ فقلت: لا، قال هرقل: وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب، وسألتُك عمّا يأمركم به، فأخبرتَ أنه يأمركم بعبادةِ الله وترك ما يعبد آباؤكم وبالصلاة والصّدق والعفاف والصّلة، فإن كان ما قلتَ حقًّا فسيملِك موضعَ قدميّ هاتين، ولو أخلُص إليه لتجشّمتُ المشقّة إليه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدميه، قال أبو سفيان: فخرجتُ وقلت: لقد أَمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة، وإنه ليخافه ملك بني الأصفر [5].
أيها المسلمون، هذه أخلاقُ نبيّنا وهذه سيرته الحميدة، وهذه أعماله الجليلة، وهذه دعوته الصادقةُ ورسالته العامّة، هذه أخلاقه التي اعترف بها أعداؤه، أقرّ بها خصومه وأعداؤه المنازعون له، المحاربون له، المظهرون العداءَ له، ولكنّ الله أنطق ألسنتَهم بأخلاقه وصفاته، وبيّنوا حقيقةَ دعوته، فالمعارضون لدعوته لم يعارضوها تكذيبًا له، فهم يعلمون أنه أصدقُ خلق الله، وكان بمكّة يعرَف قبل البعثة بالصادق الأمين، كان أشدَّهم صِدقًا، كان أصدقَهم حديثًا، وكان أعظمَهم أمانة، فيسمّونه الصادق، ويسمّونه الأمين، فلقبه عندهم الأمين والصادق، كان أعفَّ خلق الله، لم يتعاطَ مسكرًا، ولم يقترف إثمًا، بل جبله الله على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، أدّبه فأحسن تأديبه، وعلّمه فأحسن تعليمَه، فكان المثل الأعلى في الأخلاق والقيَم والفضائل والأعمال النبيلة.
أجل، تلك صفاتُ محمّد ، تلك أخلاقه العالية، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
هذا الوثنيّ إذّاك وقرينه نصرانيّ، والوثنيّ والكتابيّ كلُّهم أقرّوا بأخلاق محمّد ، واعترفوا له بأنّ ما دعا إليه هي مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال التي ينادي لها. إنها لحكمةٌ إلهيّة، ولهذا قال أبو سفيان: فما زال الإيمان في قلبي، أُحِبُّ الإيمان، حتى شرح الله صدري للإيمان [6].
لنأخذ مِن هذه القصّة عظات وعبرًا، فهذا عدوّهُ، وكلّهم إذ ذاك أعداء له أقرّوا بأخلاقه، نسبُه ما اتهموه فيه، فهو خير الخلق نسبًا، قولُه الذي دعا إليه إنما هو بعد وحي الله له، ولذا قال الله عنه: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [يونس:16]، فهو قبل الرسالة لم يقل شيئًا، وإنما قال وأمر بعدما بعثه الله. ليس ذا مُلكٍ يطلب مُلكَه، ولكنه جاء رحمةً للعالمين؛ لأنّ أهل الأرض إذّاك قد عمّهم الجهلُ والضلال والبُعد عن الهدَى، وتساوى الجميعُ في ضلالهم وجهلِهم وظلُماتهم، فجاء الله به لينقِذَ الناسَ من الجهلِ إلى العلم، ويهديَهم من الضلال إلى الهدى، ويخرجَهم من الظلمات إلى النور، كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
نظر الله إلى أهل الأرض فمقتَهم عربَهم وعجَمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.
إنّه أتباعه هم الضعفاء، وذوو الجاه استكبروا وعاندوا، وأتباعه يزدادون، فالحقُّ واضح، كلّ من سمع قوله ورأى شخصَه علم أنه الصادق الأمين، فاستجاب له، ولذا قال عبد الله بن سلام: فاستبنتُ وجهَه، فرأيتُ أنّه ليس بوجهِ كذّاب [7].
والغدر والخيانةُ مترفّع عنهما، فهو لا يغدِر أبدًا، بل يوصي سراياه بقوله: ((لا تغدروا)) [8] ، والله يقول له: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58].
الكذبُ متنزِّه عنه، فما عرف الكذبَ على الخلق، فكيف يكذب على الله؟! ولذا قال هرقل لما قال: إنه لما لم يكذب على الخلق عرفتُ أنه لا يكذب على الله، فالكذب والغدر منزّه عنه.
أوامرُه التي أمَر بها عبادةُ الله وتركُ ما هم عليه مما كان عليه أسلافهم من عبادةِ الأوثان والأصنام، فإن العربَ قبل بعثته [كانوا] يعبدون أنواعًا من الآلهة، حتى إنَ بعضهم يعبد سبعة، ستة في الأرض وواحدًا في السماء. هذا حصين أبو عمران قال: ((كم تعبد يا حصين؟)) قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: ((من تُعِدّ لرغبتك ورهبتك؟)) قال: من في السماء، قال: ((إن أسلمتَ علّمتُك كلماتٍ ينفعك الله بهن)) ، فلما أسلَم قال: ((يا حصين قل: اللهمّ ألهمني رشدي، وقني شرَّ نفسي)) [9].
وقريشٌ إنما خاصَموا رسول الله لما أمَرهم أن يقصُروا العبادةَ على الله ولا يعبدوا مع الله غيره، قالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عُجاب؟! فهو يأمرهم بعبادة الله والتجرّد عن كلّ معبود سِوى الله؛ لأنّ عبادة ما سوى الله إنما هي باطل وضلال.
أمرهم بالصلاة ثاني أركان الإسلام المبرهِنة عمّا في القلب من الإسلام والفارقةِ بين المسلم والكافر، أمرهم بالصدق، والصدق خلقٌ كريم، والصدقُ أساس الخير والهدَى، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]، والصدق فضيلة والكذِب منقَصة ورذيلة، و((الصدق يهدي إلى البر، والبرّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدُق ويتحرّى الصدقَ حتى يكتَبَ عند الله صدِّيقًا، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي للنار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذّابا)) [10].
فهو صادق فيما أخبر عن الله، فهو الصادق المصدوق، وصادق في أموره كلِّها، والمسلم يقتدي به في صدقه وديانته، وأصحابُه الكرام الذين تربَّوا على يده لما صدقوا الله في إيمانهم كما قال جل وعلا: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ [الأحزاب:23]، صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، ولذا نشروا الإسلامَ وفتحوا القلوبَ والبلاد وأرسَوا دعائم الشريعة، بأيّ شيء؟ بصدقهم في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم، فإيمانهم ظاهرًا وباطنًا سواء، لا يختلف الظاهرُ عن الباطن، فلمّا كانوا أهل صدقٍ في إيمانهم قاوموا جيوشَ فارس والروم رغم كثرة العدَد والعدّة، لكن قابلوهم بقلوبٍ مؤمنة، بنفوس صادقة، لا تعرف النفاقَ والمجاملة، وإنما الصدق في الإيمان والصدق في الجهاد والصدقُ في المعاملةِ مع الله، والصدق ينفع حتى الكافر الصادقَ في باطله ينفعه صدقه؛ لأن صدقَه يدلّ على ثبوته على ما هو عليه، لكن المؤمن صدقُه ينفعه حيًّا وميتًا، صدقه في حياته وصدقه يوم لقاء ربّه، قال الله: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ [المائدة:119].
وإذا نظرتم إلى المستضعفين من المسلمين الذين يقاومون اليومَ قوةً كبرى من أكبر قوى العالم في عتادها وكثرتها وقلّة أولئك وضعفِ عددهم، ومع هذا صبروا أمام ذلك الزّحف الكافر الملحِد، وصدقوا وقاوموا، وحقًّا إنهم صدقوا؛ لأن هذا الصدق برهن عنه ذلك الثباتُ والقوة العظيمة، ومقاومةُ ذلك العدو المعروف بشراسته وقوّته البشرية والعددية والعدّة، ولكنّ الصدق مع أولئك، فأرجو أن يوفَّقوا لعملٍ صالح، وأن يصدُقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، فالصدقُ نجاة وعزّ وكرامة، والكذب رذيلة وخيانة.
ويأمرهم بالعفاف، إنها كلمة عظيمة، العفاف في الأقوال والأعمال، طهارةٌ في الأقوال، وبعدٌ عن الرذائل وما ينافي الدين والمروءة، هكذا يأمرهم محمد ، فإنّ الله حرم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ومحمّد يدعو إلى العفافِ في الأقوال والأعمال، ويدعو إلى صِلة الرحم، تلك أخلاقٌ كريمة وأعمال فاضلة، ولذا قال هرقل الروم: إن كان ما قلتَ حقًّا فليملكنّ موضعَ قدميّ هاتين، ولكنّ الخبيثَ ضنّ بملكه، ولم ينقَد للإسلام ولم يقبَله، ضنّ بملكه وقدّم ملكَه على آخرته، وذاك عدلُ الله في خلقه، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
قرأ على الروم كتابَ رسول الله الذي أرسل إليه: ((من محمد بن عبد الله إلى هرقل الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، وإن لم تسلم فإنّ عليك عذاب الأريسيين، قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ?شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] )) [11].
فالدعاةُ إلى الله إن سلكوا هذا المنهجَ العظيم، وهو منهَج محمّد في الدعوة إلى الله والتمسّك بهذا الدين قولاً وعملاً وصدَقوا الله في معاملته؛ فإنّ دعوتهم تُقبَل ويكون لها أثرٌ فعّال، وإنما يؤتى الناس من قِبَل أنفسهم، أقوال وأعمالٌ ليس بينها اتفاق، فالقول حسَن والعمَل يخالفه، فعياذًا بالله من مخالفة الأعمال للأقوال.
فالدعاة إلى الإسلام إن صدَقوا الله في دعوتهم وكانت دعوتهم قائمةً على أسُسٍ صالحة من منهج الكتاب والسنة والاقتداء بذلك والتأسِّي بما عليه سلفُ هذه الأمة وخيارها، فإنّ دعوتهم يرجَى لها خير، وهذا الإسلام إذا عُرض على الملأ بأخلاقِه وسماته العُلى فإنّ النفوس تقبَله، وإنما المصيبة قصورُ الدعاة في عَرض محاسِن هذه الشريعة وبيان فضائلها، فالإسلام إذا عُرض العرضَ الصحيح فالفِطر السليمةُ تقبله، وإنما يصدّ عنه مَن حال الله بينه وبين الهداية عياذًا بالله، وربّك يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ?لنَّبِىّ ?لأمّىّ ?لَّذِى يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ وَكَلِمَـ?تِهِ وَ?تَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الجنائز (1245، 1318، 1328، 1333، 1317، 1334)، ومسلم في الجنائز (951، 952) عن أبي هريرة وعن جابر رضي الله عنهما، وثبت عن غيرهما من الصحابة.
[2] انظر: الإصابة ابن حجر (6/375-377).
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4162) عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه.
[4] إرسال الكتاب إلى هرقل زعيم الروم أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773).
[6] أخرجه البخاري في الجهاد (2782)، ومسلم في الجهاد (1773) بمعناه.
[7] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1334)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[8] أخرجه مسلم في الجهاد (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه بنحوه.
[9] أخرجه الترمذي في الدعوات (3550)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2355)، والبزار (3580)، والطبراني في الكبير (18/174) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وفي سنده شبيب بن شيبة وهو ضعيف، وقد أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (3483).
[10] أخرجه مسلم في البر (2607) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن أبي سفيان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يروى عنه أنه قال: ((إنما بعثت لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق)) [1] ، فالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة هو ما عليه محمّد ، فكلّ خلقٍ كريم جاء به محمّد ، كلّ صفات رذيلة وأعمالٍ مشينة نهى عنها ، فهو داعٍ إلى كلّ خير، لا خيرَ إلا دلّنا عليه، لا شرَّ إلا حذّرنا منه، فالاقتداءُ به والتأسّي به في أخلاقه وأعماله هو خلُق المسلم، والداعي إلى الله الذي يأخُذ من منهَج محمّد طريقًا يسير عليه وصراطًا يسلكه هو الداعي الذي يمكِن لدعوته أن تؤثِّر بتوفيقٍ من الله، وإنما المصيبَة أن نعرِض عن منهجه، وأن نبتغيَ منهجًا غير منهجه وطريقًا غير طريقه، ونسلكَ صراطًا غير صراطه، فإذا سلكنا غيرَ ذلك فلا بدّ من نقص، وإنما جاءت البِدع والضلالات من أقوام لم يسلكوا منهجَ النبي.
خطّ النبي خطًّا مستقيمًا وقال: ((هذا سبيل الله)) ، ثم خطّ خطوطًا عن يمين ذلك الخط ويساره وقال: ((وتلك السبل، على كلِّ سبيل شيطانٌ يدعو إليه)) [2] ، فأربابُ البدَع والسلوك وأنواعُ الضلالات إنما نشأت من قومٍ بعدوا عن منهج محمّد ، وإنما استقام مَن استقام مِن الأمّة الذين ساروا على منهجه، واقتفَوا أثره، وتأسّوا به في أقواله وأعماله، أُوْلَئِكَ حِزْبُ ?للَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد ، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد، باب: حُسن الخلق (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في الكبرى (10/ 191) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[2] أخرجه أحمد (1/435)، والطيالسي (244)، والنسائي في الكبرى (6/343)، والدارمي (202)، وابن نصر في السنة (ص5)، والبزار (1694، 1718، 1865)، والشاشي (535، 536، 537)، وأبو نعيم في الحلية (6/263) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (6، 7)، والحاكم (3241)، وصححه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (525).
(1/4401)
روح الصيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
11/9/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الضيف الكريم. 2- حقيقة الصيام. 3- فضل الصيام. 4- مقصد التقوى في الصوم. 5- صرعى الفضائيات في هذا الشهر الكريم. 6- كلمة للممكَّنين من القنوات الفضائية. 7- كلكم راع. 8- هدي النبيّ في رمضان. 9- الحث على الإنفاق والجود. 10- فرصة رمضان. 11- رمضان شهر الانتصارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عِبادَ الله، خيرُ ما استكنَّ في الجَنان وثرَّ بهِ اللّسان الوصية بتقوى المولى الرحيم الرّحمن، فاتَّقوا الله ـ رحمَكم الله ـ في السّرِّ والعلن، وأصلِحوا من أنفسكم ما ظهر وما بطَن.
أيّها المسلمون، في نَجوًى عن الحياةِ النّمطيَّة الرتيبة ونأيٍ عن مألوفِ الزّمان وتطابُقِه تُنيخ أمّتُنا الإسلاميَّة مطاياها بين يدَي شهرٍ عظيم وضيفٍ مبجَّل كريم، بالخيراتِ جَميم، وبالفضائلِ عَميم، قد غمَر الكونَ بضِيائه، وعمر القلوب المعنَّاةَ بحبِّه ببهائِه وسنائه، شهرٍ جرَت بالطاعات أنهارُه، وتفتَّقَت عن أكمام الخير والبر أزهارُه، واستَمَع المسلمون في لهفٍ وشوق لمقاصده وأسرارِه، وأصاخوا في خشوعٍ وإهطاعٍ إلى مَراميه المستكِنَّة وأخبارِه. تفيضُ أيّامه بالقرُبات والسرور، وتنيرُ لياليه بالآيات المتلوَّات والنور، موسِمٌ باركَه الرحمن وخلَّده القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
معاشرَ المسلمين، وشهر رمضان المبارك الذي نجتَني فيه أزهَى أيّام العمر بالازدِلاف إلى مرضاة المولى جلّ في علاه والتّنافس في عبادته لهو موسِمٌ حفيلٌ بالطاعات، جعَلَه المولى من الصُّوى التي ينتهي إليها العباد؛ ليستأنِفوا حياةً جديدة، متدَفِّقةً بالزّكاءِ والنّبلِ، مكتَنِزةً بالقوّة والفضل، متوافينَ على قيمةِ الحياةِ الروحيّة ولذَّتِها وسرورِ النفس البهيّة وبهجتِها.
إخوةَ الإيمان، ولم يقِفِ الشارع الحكيمُ عند مظاهرِ الصوم وصوَرِه من تحريمِ تناول المباحاتِ والطيِّبات فحَسب، بل حرَّم كلَّ ما ينافي مقاصِدَ الصيام وغاياتِه الساميَة، وكلَّ ما يخدِش حِكَمه الروحية والخُلُقية. ولا جرَم، فقد أحاطَه بسياجٍ منيع من عفَّة اللسان والجوارِح وطُهرِ النفوس وصفائها وانجفالها إلى ربِّها وبارئها، في الحديثِ الصحيح أن رسول الله قال: ((إذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، وإن سابّه أحد أو قاتَله فليقل: إني صائم)) [1] ، وفي زَجرٍ شديدٍ يقول عليه الصلاة والسلام فيمَا أخرجه البخاريّ وغيره: ((من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فلَيس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه)) [2].
ولِما للصيام الحقيقيّ من فوائدَ شتى ومنافِعَ جُلّى، ولِما بنِيَت عليه الكَمَالات والفضائلُ من الصبرِ والورَع والعفّة والحياء والجود والعطاء وإشراقِ الروح وكَسرِ سَورة الشهوة وزَجرِ مدِّها أُفعِمَت أعطافُ الصائم بالسّموِّ والإعزاز وخُصّ بالحَظوةِ والعِنديِّة الأثيرةِ لَدى البارِي جلّ وعلا، يقول فيما يرويهِ عن ربِّ العزّة تبارك وتعالى: ((ولخَلوف الصائم أطيَب عند الله من ريح المسك)) [3].
ويمتدُّ امتنانُ المنان على عباده الصائمين والاحتفاءِ بعبادتهم الشريفةِ هذه فيقول في الحديث القدسيّ: ((كلّ عمل ابنِ آدم له إلاّ الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)) [4]. الله أكبر، فإلامَ تطمَحون ـ عبادَ الله ـ مِن خير عميمٍ ونعيم مقيم من ربٍّ رحيم ومولًى حليم كريم.
ناهيكم ـ يا إخوةَ الإيمان ـ بالفرَحِ الوارِف والغِبطة الدِّهاق اللَّذَين يستولِيان على الصائم إبَّان فِطرِه أن وفَّقه الله لحسنِ الصّيام في هذه الحياة ويَوم القيامِ للمَلِك العلاَّم، وتلك البشرَى مزفوفةٌ في قوله عليه الصلاة والسلام: ((للصائم فرحَتان يفرَحُهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه)) خرجه البخاري ومسلم [5].
أمّةَ الإسلام، ومن جُلَّى المقاصد والمآلاتِ التي تنوَّرها الشارع من الصيام وأمَّلها صفةٌ راسخة في الصائمين، تضيء دُروبَهم وتندِّي بالبصيرة قلوبَهم، تلكم ـ يا رَعاكم الله ـ هي التّقوَى، وأعظِم بها من ركنٍ أقوى، هي في الدنيا بَريد السعادةِ، وفي الآخرة رائدُ الحسنى وزِيادة، جاء ذلك مشرِقًا في ختامِ آية الصّيام في قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وتلك حقيقةٌ لا نراها غائبةً عن شُراة رضوانِ الله وبُغاة مغفِرَته وهداه، الذين اتَّخذوا رمضانَ لقلوبهم ربيعًا، وعن الآثام سدًّا منيعًا، وللأنسِ بالله وسيلةً وشفيعا، فيا نُعماهم، ويا سُعدَاهم، الرحمةُ بهم قد حفَّت، والألطافُ الربانيّة بجَرعائِهم رفّت، جازوا بحادي الأذكار والضَّراعات فدافِدَ الغفَلات والمغرِيَات، وعرَجوا سامِقَ الدرَجات بكتابِ الله وبلذيذ المناجاةِ.
معاشرَ الصائمين، ذلكم شأنُ شهر رمضان، خيرُ مغنَم ومكنز للحسنات وتكفيرِ السيئات، ولكن مع شديدِ الأسَى والأسف ضلَّ أقوامٌ عن مسالك الرّشاد في هذه الأيّام الغرِّ المباركة، فصاموا عن الطعامِ والشراب، وما صاموا عن فضائيَّات الخلاعة والمجونِ ومشاهدة فنونِ الفتون ومجالِس الغيبة والنميمةِ والبهتان ومنتديَات الشائعاتِ والطعون والاتِّهامات عبرَ وسائل الاتِّصال الحديثة التي تُعَدّ أعتَى مِقراض لفَريِ الأعراض، لا سيَّما أعراض العلماءِ والدعاة وأهل الفضلِ والخير والصّلاح.
حصِّن صيامَك بالسكوتِ عن الخَنا أطبِق على عَينَيك بالأجفانِ
فيا لله، لقد هتَكوا حجابَ الفضيلة هتكًا، وسفكوا حرمَة شهرِ القرآن سفكًا.
ومن المخزِيات القواصم التي أقضَّت منَ الغيورِ المضجَع وفضَّت منه المدمَع أنّ كثيرًا من الناسِ يكرَعون من وجَارِ تلك الشّبَكاتِ والقَنَوات الآسِن، فتسَمَّرَ بعضُ الأفرادِ والأسَر على تلك الموائِدِ الوبِيئَة دونَ ارعواءٍ أو خجَل، وا حَسرتاه أين آثارُ الصيام؟! وا خَجَلتاه أين أنوارُ القيام؟! لقد ارتَكَسوا في المآثم والمهالِك، وأحالوا اللياليَ الغُرَّ حوالك. وأقوامٌ لا يجعَلون التصوُّنَ والفضيلة مِلاكهم قد عجَّلوا هلاكَهم.
فعَفوًا عفوًا يا رمضان، فمَع كَونِ الشياطين تصفَّد فيك إلاّ أنّ بعضَ القنوَات لا تجِد رواجًا لها إلاّ في غرِّ لياليك، في سِباقٍ محموم وطرحٍ مَسموم لاَ يليق بزمانٍ فاضل وأمّة واعيةٍ.
فرُحماك ربَّنا رُحمَاك، أما يكفِي واعظا ويُغني رادِعًا قولُه سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]؟!
فأنَّى وكَيف ومَتى يَستفيق هؤلاءِ من رَقدَتهم ويَنهَضون من كَبوتِهم وهَذا شهرُ النّفَحاتِ والهِداياتِ والفتوحَاتِ بين أيدِينا، يَؤزُّنا إلى السّؤدَدِ والعَلياءِ، وفِئامٌ لا يَزالونَ في غَفَلاتهم سادِرين وعَن مجدِ أمَّتِهم لاهِين.
فإلى الممكَّنين من تلك القنواتِ والشّبكات يوَجَّه النداءُ الحارّ أنِ اتَّقوا الله، اتّقوا الله واخشَوه في هذهِ الأمّة أمةِ الصيام والقيام، فلها في جديدِ مآسيهَا ما تحتاج معَه إلى من يواسِيهَا.
فيا شديدَ الطَّول والإنعامِ إليك نَشكو محنَةَ الإسلامِ
وهنا لَفتةٌ لِلمرَّبين والمربِّيَات والآباءِ والأمّهاتِ أن يتَّقوا الله في أسَرِهم ومَن تحت أيدِيهم، فيُربّوهم ويُؤدِّبوهم، فكلُّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رَعيَّته، كما صحَّ بذلك الخبرُ عن سيِّد البشَر عليه الصلاة والسّلام مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهما [6].
كما أنَّ هنا هَمسةً للأختِ المسلِمة في رَمضانَ بأن تجعَلَ مِنه فرصةً للتّوبة والإنابةِ والمحَاسبةِ والمراجَعة والتزامِ مَسلَك العَفاف والحِشمةِ والحِجاب والحَياءِ ومجَانَبة مَسالِكِ التبرُّج والسّفور والاختِلاط المحرَّم.
إِخوتِي الصائمين والصائِمات، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله: "وكان هديُه فيه علَيه الصلاة والسّلام أكمَلَ هديٍ وأعظَمَه تحصيلاً للمَقصود وأسهلَه علَى النفوس" [7] ، وكان من هديِه في رَمضانَ الإكثارُ من العِبادةِ.
أمّةَ الصّيام والقيامِ، وإنَّ مِن كَمال هديِه عليه الصّلاة والسلام في رمضانَ البذلَ والإنفاق، قال الإمام الماوردِي رحمه الله: "مُنِح من السّخاء والجودِ حتى جاد بكلِّ موجود وآثرَ بكلِّ مطلوبٍ ومحبوب، كيف لا وهو القائلُ عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمّي: ((أنفِق بِلالا، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً)) [8] ".
وما الإنفاقُ والإحسان في هذا الشهرِ المبارَك الميمون للمعوِزين والمعسِرين والمدينِين إلاّ دليل حبٍّ شفيف وإيمان مزهِرٍ رهيف يحمِل النفسَ على المشاعر الرقيقةِ الحانية، فتسري في الأمّةِ الإسلاميّة كالريح الرُّخاء، فتبذُل في نداوةٍ ورَخاء. فمدّوا أيديَكم ـ يا رعاكم الله ـ لإخوانِكم بالعطاء تحوزُوا مرضاةَ ربِّ الأرض والسماء.
وإنَّا ـ أيّها الأحبة ـ إذ نقرَع بابَ الودِّ والعَطف ونشرَع قناةَ الحبِّ واللّطف لَنقول: شاهَت وجوهُ الشّانِئين على الأعمالِ الخيريَّة والإغاثيّة التي يفوح شَذاها في هذهِ الأرض المباركةِ، ولستم ـ يا بُغاةَ الخير والمعروفِ ـ الذين تفلُّ في هِمَمكم وعَزائِمِكم الأراجيفُ والافتِراءات والأكاذيبُ والمثبِّطات، ولا ينافي هذا ضبطَ المواردِ والمصارِف وترشيدَها. وإنَّنا لنَحمَد الله عزّ وجلّ أنَّ الجِهات الموثوقَةَ كثيرةٌ والمؤسّساتِ الأمينةَ عديدة، فلا تمسِك ـ يا محِبُّ ـ الكَفَّ لعلَّك عن النار تُذَادُ وتُكَفُّ بمنِّ الله وكرمه.
ولعلَّه غيرُ خافٍ على شريفِ عِلمكم ـ يا رعاكم الله ـ ما تعرَّض له إخوانٌ لنا في العقيدةِ مِن جرّاء الفَيَضانات والأعاصيرِ والكوارث والزّلازل والمحَن والحوادث، وآخرون مِن ضَرَاوةِ المجاعةِ والمسغَبَة وضَنك العَيش وشظَفِه، ممّا يُعَدّ من الفواجعِ المحزِنة وما يتطلَّب يدَ العون والمساعَدَة ورفعَ أكفِّ الضراعةِ بالدعاء لهم؛ شعورًا بالواجِبِ الإسلاميّ تجاهَ إخواننا المسلِمين المنكوبِين في كلّ مكان، ومسارعةً في التنفيسِ عن كربَتِهم لا سيّما في هذا الشهر المبارَك.
وهُنا يُذكَر فيُشكَر ويروَى فلا يطوَى الموقفُ المشرِّف لبلادِ الحرمين حرسها الله في مبادَرَتها لمساعدةِ إخوانِنا المتضرِّرين منَ الزلازل في باكِستان وكَشمير وغيرها.
ويجدُرُ التذكيرُ في هذا الشهر الكريم بفريضةِ الزكاة؛ فهي قرينَةُ الصلاة في كتابِ الله، فأدُّوها طيّبةً بها نفوسُكم.
رمضانُ ـ يا إخوةَ الإسلام ـ فرصةٌ لوحدةِ الأمّة على الكِتاب والسنة بمنهَج سلفِ الأمّة وتربيةِ الشبابِ والأجيَال على مَنهج الوَسَطيّة والاعتدال، في تجافٍ عن مَسالك الغلوِّ والجفاء وصَرَعات العولمةِ الثقافية والفِكر التغريبيّ أو التخريبيِّ المنحرِف وإعزاز شأنِ الحِسبة وأهلِها وإعلاءِ شَعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتأييدِ القائمين عليها وشدِّ أيدِيهم والحِفاظ على أمنِ الأمّة ورعاية مَصالحها وتجفيف منابِعِ الشّرِّ والفساد فيها.
فهل نحن مستَفيدون من مَدرسَته وناهلون من مَعين خيراتِه وبركاته؟! هذا هو المأمَّل، وعلى الله وحدَه المعوَّل، إنّه خَير مسؤول وأكرَم مأمول.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:77، 78].
نفعني الله وإيّاكم بالنور المبين وبهديِ سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفور رحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1829).
[7] زاد المعاد (2/27).
[8] أخرجه أبو يعلى (6040)، والطبراني في الأوسط (2572) والكبير (1/342)، وأبو نعيم في الحلية (2/280، 6/274)، والبيهقي في الشعب (3/209) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/27)، وقال الهيثمي في المجمع (3/126): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه مبارك بن فضالة، وهو ثقة وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن"، وهو في صحيح الترغيب (922). وورد من طريق مسروق عن بلال رضي الله عنه، ولكن اختلف عليه فيه، فقيل ذلك، وقيل: عن مسروق عن عائشة، وقيل: عنه عن ابن مسعود، وقيل: عنه مرسلا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله العزيز الغفور، العليِّ الشكور، أجزل للصائمين الأجورَ، وحباهم بالتُّقى والسّرور، جلَّ ثناؤه جعَل الصيامَ جُنّة دون رِماح الفجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً نرجو بها الفوزَ يومَ النشور، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خيرُ من جاهد في الله حتى اندَحَر الكفر خاسئًا في ثبورٍ وعمَّ الحقّ الأرجاء والنّورُ، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصَحبه الهداة البدور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وزكّوا أعمالكم وأقوالَكم في شهر القرآنِ بالصّدق والإخلاص، واغتَنِموا أوقاتَه الشريفةَ قبل أن يؤخَذَ بالنّواص، ولاتَ حِين مَناص.
معاشِر الإخوة الأحبّة في الله، ها هي العَشرُ الأولى عشرُ الرّحمة من شهرِنا قد تفصَّت وفارقتنا، ودَلَفت علينا عشرُ المغفِرة وعانقَتنا. فيا بغاةَ الخير ألا فجِدُّوا وأنيبوا، وبغاةَ الشّرّ ألا فأقصِروا وتوبوا وأضمِروا حُسنَ الفَال وجليلَ الفِعال وبادِروا بالأخذِ بأسباب المغفِرةِ والجدِّ في المحاسبة، فها هو الشهرُ الكريم كادَ أن ينتَصِف وكثيرٌ منّا من نفسِه لم ينتَصِف.
تنصَّفَ الشهر ولهفاه وانصرَما واختصَّ بالفَوز بالجنّاتِ من خدَمَا
ولْيَكن منا بحسبانٍ ـ يا رعاكم الله ـ أنّا في هذا الشهرِ الكَريم الميمونِ نجدِّد عهدَ الولاء لله والوفاءِ لدينه والاقتداءِ برسوله ومُصطفاه على حالٍ نرجو بها نصرَ الله وتأييدَه. وإنّنا في هذه العشرِ المباركة لنستَروِح نَوافِح أيّامِ الانتِصاراتِ والفتوح والظّفَرِ والبطولات، حيث وقعَت معركةُ بدرٍ الكبرى في السابِعَ عشَرَ من رمضان، حسَمَت بين حياتَين في تاريخِ البشريّة، يوم الفرقانِ يومَ التقى الجمعان: جمعُ الإيمان وهم قِلّة، وجمعُ الكفرِ الصّلِفِ وهم كثرة. خرَج المؤمنون بسلاحِ الإيمان واليَقين ودُروع الصّبر والعقيدة ومَراكب الصّبر والدّعوات المعطَّرة بخلوفِ الصيام والرّسول قائم يدعو ربَّه في إلحاحٍ وإنابة: ((اللّهمّ آتِني ما وعدتَني، اللّهمّ أنجز لي ما وَعدتني، اللّهمّ إن تهلِك هذه العصابةُ من أهل الإسلام لا تعبَدُ في الأرض أبدًا)) [1]. وقَضى الحكيمُ الخبيرُ سبحانه ببُشرى النّصر المؤزَّر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45].
وانهزَمَ حِزب الشيطان في ذِلّة وصَغار بعد العتوِّ والاستكبار، وانجَابَ قتامُ الشّركِ والضلال عن النورِ المنبَجِس من أفئِدَة المؤمنين الصائمين، وارتَفَع الحقُّ شامخًا إلى الآفاقِ، واستقام بهذَا النّصرِ العَظيم أودُ التّأريخ، وطلَع بدرُ يومِ بَدر عن دِينٍ خالص زيَّن الدنيا بالحقّ والعدل والأمن والسّلام، وطَبق الأرضَ بالرّحمةِ والخير للبشريّة جمعاء.
وإنّه لقمينٌ بنا ـ معاشرَ المؤمنين ـ والمحنُ قد برَّحَتنا وأثخنَتنا في بقاع كثيرةٍ ـ لا سيما في مسرَى سيّد الثقلَين وأولى القبلتين في فلسطين المجاهِدة وكذا في بلادِ الرافدَين ـ أن نستلهِمَ العِبَر والعِظات ونَنتَزِع القوّةَ والعزّة من هذه الأوقات المباركات، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، فلا مكانَ لليَأس، ولا مجالَ للإحباط، بل جِدّ وإيجابيّة وإخلاص وفاعليّة، وليَكُن ملء بُرودِكم أنّ لنا في كلّ يومٍ بدرًا أخرَى مع الشّهواتِ والملذّات وتيّارات الأهواءِ الفكريّة والشبهات.
ألا فلتبادِروا بالأعمال الصالحات في هذا الزمانِ الشريف وهذا الوقت المنيفِ لعلَّكم تفلحون.
هذا وصلّوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المجتبى والرسول المصطفى والحبيب المرتضى، سيّدِ الأنام، خير من صلّى وصام وتهجّد لله وقام، كما أمركم بذلك المولى الملك العلاّم، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين نبِيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد (1763) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1/4402)
حماية جناب التوحيد
التوحيد
الشرك ووسائله
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
11/9/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية العظمى. 2- وجوب صيانة التوحيد. 3- عمل السلف على سد ذرائع الشرك. 4- بدعية ستر القبور. 5- دعاء النبي أن لا يصير قبره وثنا يعبد. 6- إخلاص الصحابة الدين لله تعالى مع حبهم لرسول الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونَفسِي بتَقوى الله عزّ وجلّ، فلاَ سعادةَ إلا بتَقواه، ولا نجَاةَ إلاّ في طاعتِه وطَاعةِ رَسولِه.
إِخوةَ الإسلامِ، لأَجلِ توحيدِ الله خُلِقتِ الخليقَة، ولتحقيقِهِ شُرِعت كلُّ عبادة، فالتَّوحيد هو الغاية العظمَى والهدفُ الأسمى والمقصد الأسنى، يقول ربّنا جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ونحن في رمضانَ يذكِّرنا خالقُنا بهذه الغايةِ في قولِه عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وإمامُ الموحِّدين وسيّد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاةِ والتسليم يذكِّرنا بذلك في قولِه فيما يرويهِ عن ربِّه: ((الصّومُ لي وأنا أجزي به)) [1] ، وفي قوله : ((من صَام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) متفق عليهما [2].
ولهذا ـ أيّها الإخوةُ ـ تَواتَرت أحاديثُ رسولِ الله وأطبَقَت سنّتُه وسيرتُه وهَديه على تقريرِ وجوبِ حمايةِ جنابِ التّوحيد وسدِّ كلِّ طريق يخلّ به أو يخدِش كمالَه. نعَم، لقد بيَّن المصطفى وهو الرّحيم المشفِق بيَّن لأمّتِه ذرائعَ الشرك وحذَّرها منه وأبلَغ في النهيِ عنها، ومِن ذلك النّهيُ عن تعظيم القبور والغلوِّ في الأنبياء والصالحين، يقول : ((لا تطرُوني كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريم، إنما أنّا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسوله)) [3] ، بل وأصَّل عليه أفضلُ الصلاة والسّلام أصَّل أصلاً من أصولِ السياسةِ الشرعيةِ وقاعدةً من قواعِد الدولةِ الإسلاميّة لحماية الدين والدّنيا وصيانةِ التوحيد من كلِّ مظاهر الشرك وآثار الجاهلية، قال أبو الهيَّاج: قال لي عليّ رضي الله عنه: ألا أبعَثك على ما بعَثني عليه رسول الله ؟! أن لا تدَعَ تمثالاً إلاّ طَمستَه ولا قبرًا مشرِفًا إلاَّ سوّيتَه. أخرجه مسلم وأصحاب السنن [4].
وقد توارَثَ هذَا المنهجَ سَلفُ هذه الأمة، فعَملوا على سدِّ كلِّ ذريعةٍ توصل إلى الشركِ مباشرةً أو بواسطة؛ لئلاَّ يخسرَ العبد أهمَّ الغايات وأعظمَ المقاصد، ولئَلاَّ تقعَ أكبرُ المفاسد الوثنيّة الجوفاء والجاهليّة الجهلاء. في صحيحِ البخاريّ: قال سعيد بن المسيّب: حدّثني أبي أنّه كان فيمَن بايعَ رسولَ الله تحت الشجرةِ، قال: فلمّا خرجنا من العام المقبِل أُنسِينَاهَا فلَم نقدر عليها [5] ، وفي لفظٍ: فرجَعنا إليها العامَ المقبِل فعمِّيَت علينا [6]. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: رجعنا من العام المقبِلِ فما اجتمَع منّا اثنان على الشجرةِ التي بايَعنا تحتَها رحمة مِنَ الله [7].
قال النوويّ رحمه الله: "قال العلماءُ: سبَبُ خفائِها أن لاَ يفتَتِن الناس بها؛ لِمَا جرى تحتَها من الخير ونزولِ الرضوان والسكينةِ وغير ذلك، فلو بقِيَت ظاهرةً معلومة لخِيفَ من تعظيم الأعرابِ والجهّال إياها وعبَادَتهم لها، فكان خفاؤُها من رحمةِ الله تعالى" [8].
ثمّ حدَث افتِتانُ الناسِ بتلك الشجرة نفسِها أو غيرها في مكانِها؛ إذ أنّها لم تخفَ على بعضِ الصحابةِ كجابِر، فقطعها عمر رضي الله عنه، فقد روى نافعٌ قال: كان الناسُ يأتون الشجرةَ التي يقال لها: شجرة الرضوان، فيصلّون عندها، فبلغ ذلك عمَرَ، فأَوعَدَهم وأمَر بقَطعِها فقُطِعت [9]. قال الحافظ: "إسناده صحيح" [10].
إخوةَ الإسلام، دَواوينُ علومِ الإسلام شاهِدةٌ على أنّه لا أصلَ لهذه الأغطِيَة التي تُزعَم أنها أغطِيَة لقبرِ رسول الله أو قبرِ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه كما نُشِر ذلك في بعضِ وسائلِ الإعلام، فقبرُ رسولِ الله جاءَ وصفُه في حديث القاسم بنِ محمد بن أبي بكر رضيَ الله عنهم قال: دخَلتُ على عائشةَ فقلت: يا أمَّه اكشِفِي لي عن قبرِ النبيِّ وصاحِبَيه، فكشَفَت لي عن ثلاثةِ قبورٍ، لا مشرِفَة ولا لاطِئَة، مَبطوحَة بِبَطحاءِ العَرصَةِ الحمراء. أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي [11]. ورَوَى أهلُ السّيَر أنَّ الوليد بنَ عبد الملك رحمه الله كتَب إلى عمَرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله وكان قد اشتَرَى حُجُرات أزواجِ النبيِّ أن اهدِمهَا ووسِّع بها المسجِد، فقعَد عمرُ في ناحيةِ ثم أمَر بهدمِها، قال الرّاوي: فما رأيتُه باكِيًا أكثَرَ مِن يومئِذ، ثم بناه كمَا أراد، فلمّا أن بنى البيتَ على القبر وهدَم البيتَ الأوّل ظهَرتِ القبورُ الثلاثة، وكان الرملُ الذي عليها قد انهارَ، ففزِعَ عمَر وأرادَ أن يقومَ فيُسوِّيها بنفسِه، فقيل له: أصلَحَك الله، إنّك إن قمتَ قام الناسُ معك، فلو أمَرتَ رجلاً أن يصلِحَها، فقال: يا مزاحِم ـ يعني مولاه ـ، قم فأصلِحها [12]. قال إبراهيم النخعيّ: أخبرني من رأَى قبرَ رسولِ الله وصاحبَيه أنها مُسنَمَة ناشِزَة مِنَ الأرض عَليها مدرٌ أَبيَض. انتهى [13].
وكانت القبور الثلاثةُ في حُجرة عائشةَ رضي الله عنها خارِجَ المسجد على حالِها، وكانت الحجرةُ مغلَقَةً لا يتمكَّن أحدٌ من الدخولِ إلى قبرِ النبيِّ ، لا لصلاةٍ عنده، ولا لدعاءٍ، ولا لغيرِ ذلك، كما قرَّره شيخُ الإسلام وغيرُه من أهلِ العلم.
أيّها المسلمون، لقد أجاب الله دعاءَ نبيِّه بأن لا يجعَلَ قبرَه وَثنًا يعبَد، فقام المسلمون الأوائلُ بحمد الله وتوفيقِه وأحاطوه بثلاثةِ جُدرانٍ محكَمَة عالِيَة، وسُدَّت المداخل إليها، وجَعَلوا الجدرانَ مُحدقةً بقبره عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمَرَ السلطان نورُ الدّين زنكي ببناءِ سورٍ حولَ الحجرة الشريفة، فحفر خَندقًا عَمِيقًا وصبَّ فيه الرصاصَ، قال ابنُ القيّم في نونِيته:
ودعا بأن لا يجعَلَ القبرَ الذي قد ضمَّه وَثنًا مِنَ الأوثانِ
فأجاب ربُّ العالَمين دُعاءه وأَحاطه بثلاثةِ الجدرانِ
حتَّى اغتَدَت أَرجاؤُه بدُعائِه في عزّةٍ وَحِمايَة وصيانِ
كل ذلك لعِلمِ الصّدر الأوّل من سلف هذه الأمّة أنَّ الغلوَّ في قبور الأنبياء والصالحين واتِّخاذَها مساجدَ وتشييدَ الأبنِيَة وتعليقَ السّتورِ المزَركَشة عليها وإسراجَها بالشموع والأضواء ممّا حاربه سيِّدُ الخلق وعدَّه مظهرًا من مظاهرِ الشّرك، قال : ((اللّهمّ لا تجعل قبرِي وثنًا يعبد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أبنيَائِهم مساجدَ)) أخرجه مالك في الموطأ وإسناده صحيح [14]. والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.
ومِن هنا صرَّح المحقِّقون من العلماء على أنَّ تغطِيَةَ قبورِ الأنبياء والصالحينَ وغيرِهم وسترَها ليس مَشروعًا في الدين، بل هو بِدعَة شنيعة منكرَة باتِّفاق العلماء، قال شيخ الإسلام: "واتَّفقوا على أنّه منكَر إذا فُعِل بقبور الأنبياءِ والصالحين، فكيف بغيرهم؟!"، وبمثلِ ذلك صرَّح الحجاويّ في الإقناع والصنعانيّ في كتابه "تطهير الاعتقاد"، وبه صدَرتِ الفتاوى من العلماء المحقِّقين في العصور المتأخِّرة.
فالله اللهَ أيّها المسلمون، عليكم بهديِ سيِّد الخلق أجمعين، تمسَّكوا بدعوتِه وسنّته تسعدوا وتفلِحوا في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر (969).
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي (3930).
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي (3931).
[7] أخرجه البخاري في الجهاد (2798).
[8] شرح صحيح مسلم (13/5).
[9] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/100).
[10] فتح الباري (7/448).
[11] سنن أبي داود: كتاب الجنائز (3220)، مستدرك الحاكم (1368)، وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات (3/209-210)، والبيهقي في الكبرى (4/3)، وصححه النووي في الخلاصة (2/1024)، وابن الملقن في البدر المنير (5/319)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود.
[12] أخرجه الآجري كما في فتح الباري (3/257).
[13] رواه محمد بن الحسن في الآثار كما في نصب الراية (2/305).
[14] الموطأ: كتاب النداء للصلاة (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظنّ ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا به في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي ، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كما يَنبغي لجلالِ وجهِه وعظيمِ سلطانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانِه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، تمسَّكوا بتقوَى الله جلّ وعلا وطاعتِه؛ فهي خير سبَبٍ لنيل رضاه والفوزِ في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، لقد تَفانَى صحابةُ رسول الله في حُبِّ المصطفى، وقدَّموه على محبّةِ أنفسهم وأهلِيهم وأموالهم، أحبُّوه محبّةً عظيمة شديدة، شاغَفَت قلوبهم، وأثَّرت في حياتهم، فكانوا لا يتحرَّكون إلا وفقَ هديِه، ولا يعمَلون إلا وفقَ سنَّته، ولا يتخَلَّقون إلاّ بخُلُقه، ومع هذا الحُبِّ الشديدِ مِنهم والشّغَف العَظيم برسولِ الله ـ وحُقَّ لهم ذلك ونحن بذلك نَتَعبَّد الله ونَتَقرَّب إليه سبحانه بمحبَّتِه شَخصًا وسنّة وهَديًا ـ ولكنّهم رضي الله عنهم ما عُرِف عن أحدٍ منهم أنَّه تمسَّح بترابِ قبرِه ، وذلك لالتِزامِهم بالشَّرعِ والوقوفِ عندَه، فعُمَر الفاروق رضي الله عنه وأَرضاه يقول لمّا قبَّل الحَجرَ الأسود: (إنِّي أعلَم أنّك حَجرٌ لا تَضرّ ولا تَنفع، ولولاَ أني رَأيتُ رسولَ الله يُقبِّلك مَا قبَّلتُك) متفق عليه [1]. قال المحقِّقون مِنَ العلماء: أمّا التّمسُّح بالأبوابِ والجُدران والشّبابيكِ ونحوِهَا في المسجدِ النّبويِّ أو المسجِد الحرام أو مَا يُزعَم مِن وجودِ سترةٍ كانت علَى قبرِه فَهذا كلُّه لا أصلَ لَه، واعتِقادُ النّفعِ في ذلك من الشِّرك. انتهى.
وشَيخ الإسلام ابنُ تيمية رَحمه الله يقول: "وقد اتَّفق العُلماءُ على أنّ مَن سَلَّم على النبيّ عند قَبرِه أنّه لا يَتَمسَّح بحُجرتِه ولا يقبِّلها" [2] ، وبمثلِ هذا المعنى صرَّح العلاّمةُ ابنُ القيم ومحدِّث الشّام أبو شامَة مِن فقهاء الشافعيّة وابنُ عقيل من فقهاءِ الحنابلة وغيرُهم كثير وكثير.
وقد صحَّ عن ابنِ عمر رضي الله عنه وعن أبِيه وعن الصحابةِ أجمعين، صحَّ عنه أنّه كانَ يكرَه مَسِّ قبرِ النبيِّ [3] ، وعن سُهَيل بن أبي سهَيل أنّه رأَى قَبرَ النبيّ فالتَزَمه ومسَح قال: فحَصَبَني الحسنُ بنُ عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عن الحسَن وعن عليّ أجمعين فقال: قال رسولُ الله : ((لا تتَّخِذوا قبرِي عِيدًا)) الحديث رواه ابن أبي شيبةَ وعبدُ الرّزاق وهو صحيح عند المحقِّقين [4].
أيّها المسلمون، من أعظمِ ما نتقرَّب به إلى ربّنا جل وعلا هو الصلاةُ والسلام على سيّدنا وحبيبنا وقرَّة عيوننا وقلوبِنا محمد بن عبد الله.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك وأنعم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر فيه الحجر الأسود (1597)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270).
[2] مجموع الفتاوى (3/399).
[3] رواه محمد بن عاصم الأصبهاني في جزئه (27)، وانظر سير أعلام النبلاء (12/378).
[4] ينظر من أخرجه بهذا السياق.
(1/4403)
من ذكريات رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
11/9/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل رمضان. 2- رمضان شهر الانتصارات والفتوحات. 3- كلمة لحكّام المسلمين. 4- الحث على اغتنام أيام رمضان ولياليه. 5- التذكير بمكانة الأقصى والاعتداءات الواقعة عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها المرابطون في أرض فلسطين الحبيبة، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تُشدّ إليها الرحال، أيها الوافدون إلى المسجد الأقصى من جميع أرض فلسطين ومن كل مكان، مرحبًا بكم، نعم نحن في شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والبركات، شهر الصفاء والنقاء، ومَتْجر أهل الإيمان، الشهر الذي أحبه الله ورسوله والمؤمنون، الشهر الذي لو عرف المسلمون ما فيه من خير لتمنّوا أن تكون السنة كلها رمضان.
لقد اختص الله تبارك وتعالى الأمة الإسلامية به تكريمًا لها وتعظيمًا لشأنها، وإن الله جل جلاله قد امتنّ عليها بهذا الشهر الكريم، يتجدّد بعودته ـ على مرور السنين ـ سرورُ المسلمين، ويتكرّر به نعيمهم، وتقوم فيه سوق التجارة الرابحة في الأعمال الصالحة.
وقد كان الرسول يبشّر به أصحابه ويقول: ((أتاكم رمضان سيد الشهور، فمرحبًا به وأهلاً)) ، ورُوِي عنه من حديث سلمان في آخر يوم من شعبان قال: ((أيها المسلمون، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا، وهو شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد فيه رزق المؤمن، من فَطَّر فيه صائمًا كان مغفرة له وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)) ، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا نجد ما يُفطّر الصائم، قال: ((يُعطَى هذا الثواب من فطّر صائمًا على تمرة أو شَرْبة ماء أو مَذْقَة لبن ـ أي: جرْعة لبن مخلوط بالماء ـ ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، من خَفَّف فيه عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء لكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومن سقى صائمًا سقاه الله تعالى من حوضه شَرْبة لا يظمأ بعدها ويدخل الجنة)).
فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا من أوتيت جوامع الكلم، وجهت المسلمين إلى فضيلة هذا الشهر المبارك، ودعوتهم فيه إلى العمل الصالح الخالص الذي وعد الله عليه أعظم الجزاء وأفضل الأجور.
أيها المسلمون، شهر رمضان فيه ذكريات عزيزة على قلوبنا جميعًا، فهو شهر الفتوحات والانتصارات، وبقدر ما نستبشر بحلوله بقدر ما نعقد الآمال أن يبدّد الله حال الأمة الإسلامية إلى الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين ونشر الأمن والطمأنينة في ربوعها، وأن يردّها إليه ردًّا جميلاً، إلا أن شهر رمضان يحل بنا وأمتنا ـ كما تعلمون ـ مُثْخَنة بالجراح، ومُثْقَلة بالآلام.
أيها المسلمون، في هذا الشهر المبارك فُتِحت مكة، وفُتِحت عَمُّوريّة كذلك، وفتْحُها كان بسبب امرأة مسلمة لُطِمت على خدها من قبل فاجر كافر، فقالت كلمتها المشهورة: "وامعتصماه!". وعَمُّوريّة في تركيا، والمعتصم كان في العراق، حيث دولة الخلافة الإسلامية، وتصل استغاثة هذه المرأة إلى المعتصم، هذه المرأة لم تُذْبح، ولم يُفْتح بطنها، ولم تُمْسك من شعرها وتسحب على الأرض، لم يُقْتل أطفالها أمامها، إنما لُطِمت على وجهها، فكوَّن المعتصم جيشًا كبيرًا، وحرّكه بالرغم من نصيحة مستشاريه بعدم التحرك؛ لأن وضع الجيش لا يسمح، تحرّك المعتصم بالجيش، وحاصر عَمُّوريّة، وفتحها وهزم الروم.
أيها المسلمون، ارجعوا إلى تاريخكم، هذا التاريخ العظيم الذي يحدثنا عن بطولات أمتنا، وكيف وقف المسلمون صفًّا واحدًا، وكيف كانت قيادة الأمة وحُكّامها، كان الواحد منهم لا يذوق للنوم طعمًا، وهو يفكر بحال الأمة.
فيا حكّام المسلمين، ماذا ستقولون لله عز وجل يوم القيامة والمسلمون يذبحون هنا وهناك على يد أعداء الله؟! وماذا ستقولون لربكم يوم القيامة والمسجد الأقصى أسير؟! لا بد أن تستيقظ الأمة من سباتها، وأن تتحد تحت راية واحدة، هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه الراية حتمًا لها النصر والتمكين، وبغيرها لن تقوم لها قائمة. نعم، لا بد من العودة الصحيحة إلى الإسلام عقيدة وعملاً وسلوكًا، ففيه العزة والكرامة، وفيه السلام والأمن، وفيه الهداية.
وهذه الأمة أمة خير، وسيبقى فيها الخير إلى يوم الدين، فعلينا أن لا نقنط من رحمة الله ولا نيأس، فمهما أصاب هذه الأمة من مصائب وهزائم فإنها لا محالة ستصحو من غفوتها ومن سُبَاتها، وتعود إلى كتاب ربها وسنة نبيها، وعندها يتحقق لها النصر المبين، وما ذلك على الله بعزيز. إن النصر لآت بمشيئة الله تعالى، وستعود الحقوق إلى أصحابها، وستحل الهزائم بأعداء الله أجمعين، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وبادروا إلى التسابق في الخيرات والتعرض لنفحات الله تعالى، فإن لربكم في شهر الصوم نفحات، واشكروه تعالى لعودة هذا الشهر المبارك عليكم.
أيها المؤمنون، روى عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حُرِم فيه رحمة الله عز وجل)).
فسارعوا ـ أيها المسلمون ـ إلى طاعة مولاكم، واطّرحوا شهواتكم وأهواءكم، يكن لكم من الأجر العظيم والنعيم المقيم ما تَقَرُّ به عيونكم.
واعلموا بأن أعظم وسيلة تحفظ التوازن بين الجماعة المسلمة هي آداب الدين وأخلاقه، إنها تصقل النفوس وترتفع بها إلى درجات الصالحين، وإنها لتجمع للمتأدب بها بين سعادتي الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون، تذكروا بأن شهر رمضان هو شهر القيام والتراويح والذكر والتسابيح، فاعمروا لياليه بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، ورُبَّ دعوة صادقة بجوف ليل تسري حتى تجاوز السماء، فيكتب الله تعالى لكم بها سعادة الدارين، ورطّبوا ألسنتكم بقراءة القرآن تزكو نفوسكم وتنشرح صدوركم، وسارعوا إلى إخراج زكاة أموالكم إذا بلغت النصاب.
أخي الصائم، اجعل من صيامك محطة توبة ورجوع إلى الله تعالى القائل: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وعن سهل بن سعد أن النبي قال: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون، إن من أكبر النعم التي تستحق الحمد والشكر أن أكرمنا الله تعالى فجعلنا من أهل بيت المقدس عُمّار الأقصى وحماته، ومن أهل فلسطين الذائدين والمدافعين عنها بالمُهَج والأرواح وبالغالي والنفيس كما فعل سلفنا الصالح، وتلك منزلة عظيمة يتمناها كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، كيف لا وهي الأرض المباركة ببركة السماء، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها المسلمون، إن قضية القدس وقضية المسجد الأقصى يجب أن يكونا على رأس القضايا الهامة في حياة العرب والمسلمين؛ لأنهما يمثلان العمق الروحي والبُعْد الاعتقادي والوجداني الحضاري.
أيها المرابطون، وتفيض المشاعر والعواطف، وتتدفّق المحبة ممزوجة بالحسرة والألم كلما شاهدت العيون مدينة القدس أسيرة محتلة محوطة بالجدران، مُكبّلة بالأسلاك الشائكة، محرومة من أهلها الشرعيين، وهذا يذكرنا بقول الشاعر:
أحرامٌ على بَلابِلِه الدَّوْحُ حَلالٌ للطير مِن كلِّ جِنْسِ
أيها المسلمون، ومنذ عام سبعة وستين ومدينة القدس تتعرض لإجراءات وأعمال وممارسات بالغة الخطورة، تمثلت في هدم المباني وحفر الأنفاق وحرق منبر المسجد الأقصى المبارك والعمل على تهويدها وتغيير معالمها وآثارها وتفريغها من سكانها واقتراف المجازر فيها، والتي كان من أبرزها مجزرة الأقصى عام 1990م، سقط ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، لقد حدثت هذه المجزرة البشعة في مثل هذه الأيام المباركة، وما زالت ذكراها ماثلة في الأذهان والعيون. ثم جاء بناء جدار الفصل العنصري ليعزل مدينة القدس عزلاً تامًّا عن بقية المدن والقرى الفلسطينية، وليمنع أهل فلسطين من دخولها وشد الرحال إلى المسجد الأقصى من أجل الصلاة فيه.
فيا أمة العرب، ويا أمة الإسلام، أفيقي من هذا السُّبَات الذي طال أمده، أفيقي وتحملي المسؤولية كاملة قبل فوات الأوان، إن مدينة القدس والمسجد الأقصى يستغيثان فهل من مجيب؟! وهل من مُخلّص؟! وهل من منقذ؟! إنها أمانة في عنق كل مسلم.
وأما أنتم ـ أيها الفلسطينيون ـ فوحّدوا كلمتكم وأهدافكم، وكونوا على قلب رجل واحد، واطّرحوا نزاعاتكم وخلافاتكم جانبًا، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
ولله درّ القائل:
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تَكَسُّرًا وإذا افتَرَقْنَ تكسَّرتْ آحادا
وفي الختام أدعوكم لشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً في رمضان وغير رمضان، والله ولي المتقين.
(1/4404)
صبرًا رجال الأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
18/9/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة في المسجد الأقصى. 2- منزلة الأقصى في الإسلام. 3- الإشادة بثبات مسلمي فلسطين وصبرهم. 4- رمضان شهر التقوى والقرآن. 5- رمضان شهر العزة والانتصارات. 6- السبيل لعودة أمجاد الأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصائمون الكرام، يا وفود الرحمن إلى المسجد الأقصى المبارك، وقد شددتم رحالكم منذ بواكر هذا الصباح من بيوتكم ومخيماتكم وقراكم لتصلّوا صلاة الجمعة في رحاب أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تُشدّ إليه الرحال في دنيا الإسلام والمسلمين. وقد فزتم بذلك الفضل الجزيل بمخصوصية الزمان والمكان، فيوم الجمعة هو سيد الأيام، وشهر رمضان هو سيد الشهور، والمسجد الأقصى بارك الله فيه وبارك حوله، وضاعف ثواب العاملين فيه فضلاً من الله ومنّة، نسأله تعالى أن يتقبّل منا الصيام والقيام، وأن يجعلنا من المرابطين في مسجده الأقصى المبارك، وأن يكرم وفادتنا، ويجزل ثوابنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، ويتوب علينا وعلى المؤمنين من أمة سيدنا محمد ، وأن يعاملنا بما هو أهله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن حَشْدكم هذا في القدس ودُرّة جبينها وواسطة عقدها المسجد الأقصى المبارك ليؤكد بشكل قاطع للقاصي والداني حرصكم على هذه المدينة المقدسة، وحبكم للمسجد الأقصى الذي قرّر الله إسلاميّته، وحكم بمسجِدِيّته، وجعله آية من الذكر الحكيم وسورة من القرآن العظيم، فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]. وبهذا القرار الرباني والحكم الإلهي فازت أمتكم، وفزتم بشرف سِدَانة هذا المسجد العظيم الذي اقترن برموز التوحيد والعبادة في أقدس ديار المسلمين، وجزءًا من عقيدتكم، ومَعْلَمًا من معالم دينكم وحضارتكم. ولا يخضع هذا القرار الرباني لأهواء البشر أو لهيئة قضائية مهما كانت درجتها أو لجنة سياسية مهما كانت منزلتها، فكل ما يصدر من تصريحات أو فتاوى أو أحكام قضائية من الجهات الإسرائيلية المحتلة تنتقص من حق المسلمين في المسجد الأقصى وتمس عقيدتهم فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً، ولن يقبلها مسلم في هذا العالم خالطت قلبه بشاشة الإيمان وعزة الإسلام، وصدق الله العظيم: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن هذه الإجراءات التعسّفية التي يمارسها الاحتلال ضد شعبنا وأرضنا ومقدساتنا لن تزيد هذا الشعب إلا إصرارًا على تحقيق أهدافه في رحيل الاحتلال، وتمسّكًا بأرضه ومقدساته، فما زالت أرواح الشهداء تهتف بأبناء هذا الشعب للتمسك براية الكرامة ونشيد الحرية من قيد السجّان والجلاّد، وما زالت دماء ذرية المسلمين التي قضت في الدفاع عن قدسية المسجد الأقصى يوم حاول الموتورون من عصابات المستوطنين وضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم. ما زالت تلك الدماء تتدفّق في شرايين أبناء هذا الشعب الذي جعل من نفسه ونفيسه سياجًا يدفع عَوَادي الزمان وغوائل الأيام عن أقصاه المبارك الذي شرفنا الله جميعًا برعايته وسِدَانته وإعماره في زمان أحاطت به الأخطار، وتربّص به الطامعون، وغفل عنه العرب والمسلمون والحكام والمتنفذون بغير حياء من الله أو خجل من التاريخ، ولله در القائل:
يعيشُ المرءُ ما استحيى بخيرٍ ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ
فلا والله ما فِي العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الْحياءُ
جاء في الحديث الشريف عن الصحابي الجليل ذي الأصابع عن النبي قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بعدك بالبقاء؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعله ينشأ لك بها ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن شهر الصيام موسم النفوس الخيّرة والهمم العالية، فهو محطة إيمانية للتزود بالتقوى والتزام النفس بالطاعة والتخلّق بالأخلاق الحميدة الفاضلة، ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُث ولا يَصْخَب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)).
فهنيئًا لمن احتسب صيامه لله تعالى، وحافظ على صومه من كل شائبة أو ذنب يذهب بالأجر كالغيبة والنميمة وشهادة الزور، لقول الرسول : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
فتزود ـ أخي الصائم ـ من يومك لغدك، ومن دنياك لآخرتك، واجعل خير زادك الطاعة والتقوى، فالله تعالى يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
وقد أصاب من قال:
ترحَّلْ عن الدنيا بزادٍ من التُّقَى فعمرك أيام وهُنّ قَلائلُ
أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فأقبلوا على كتاب الله تلاوة وتدبّرًا والتزامًا بأحكامه وسيرًا على هدايته ومنهاجه، فقد كان شهر الصيام على امتداد التاريخ الإسلامي شهر العزة والانتصارات، يوم أخذت الأمة عقيدة التوحيد راية لعزتها وجيشها، وطبّقت شريعة الإسلام على جميع مناحي حياتها، فأعزها الله في بدر وهم أذلة، وعاد جيش الفتح إلى مكة بالنصر والظفر ليرسم للمهاجر طريق العودة المظفّرة إلى الوطن. وكان شعار "وا إسلاماه" فَيْصَلاً في عَيْن جَالُوت، حيث الهزيمة المنكرة للمغول والتتار الذين اجتاحوا حاضرة الخلافة الإسلامية بغداد التي يحتلها اليوم مغول العصر، فما أشبه اليوم بالبارحة، ولا خلاص إلا بالرجوع إلى كتاب الله والسير على سيرة السلف الصالح من القادة العظام والمحررين الكرام وأتباع النصر المبين الذي أضاء للمسلمين جوانب حياتهم، فالله يقول: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنَ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]. ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ضَمِنَ لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة).
فهيّا يا أمة الإسلام، خذي زمام المبادرة بعودة صادقة إلى كتاب الله، وجدّدِي عهد الأُوَل، الذين سبقوا في العزة والنصر والكرامة، فما زالت خير أمة أخرجت للناس، وأجيبوا داعي الله، فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، والرسول يخاطبكم بقوله: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).
(1/4405)
عيد الفطر 1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الزكاة والصدقة, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد في الإسلام. 2- حِكَمُ العيد. 3- وصايا عامة في الأوامر والنواهي للرجال والنساء. 4- التحذير من كيد إبليس وإبطال الأعمال الصالحة. 5- من أحكام زكاة الفطر. 6- من آداب العيد وسننه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروةِ الوُثقى.
عبادَ الله، إنَّ لكل أمّة أيّامًا يُظهرون فيها الفرحَ والسرور والبهجةَ والحبور، تكون عِيدًا لهم يتكرَّر في وقتٍ مَعلوم، وترتبِط هَذه الأعياد بتاريخِ تلك الأمّة وعَقيدَتها، قال الله تَعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (المنسك العيد) [1]. فإذا كانت الأمّة كافِرة لا كتابَ لها فأنّ الله يجعل لها عِيدًا بقَدَره وقضائِه لا بِشرعِه وكتابه، وإذا كانَت الأمّة مسلمة ذات كِتاب جعَل الله لها عيدًا بشرعِه ووحيِه، عن أنس قال: قدِم رسول الله المدينةَ ولهم يومَان يلعَبون فيهِما قال: ((مَا هذانِ اليومان؟)) قالوا: كنّا نلعَب فيهما في الجاهليّة، فقال: ((قد أبدَلَكم الله خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطر)) رواه أبو داود والنسائي [2].
والعيدُ في الإسلامِ في غايةِ الحِكمةِ وتمامِ المناسبةِ لمقاصدِ الدّين وكمال التشريعِ وسموِّ التعاليم الإلهيّة، فهو يأتي عقِب عبادتَين عظيمتَين من أركانِ الإسلام، يجتَهد فيهَا البدن، وتتوجَّه طاقاتُه وقدراتُه إلى أنواع من القربات، وتُستَنفدُ معظَم قوّة البدن في العبادة، فعيد الأضحى بعد معظَمِ أفعال الحجّ الشاقّة، وعيد الفطر بعد الصيامِ والقيام والذكر وأنواعٍ من الطاعات، وقد علَّمنا الله تعالى الأعمال التي تقرِّبنا مِنه، وشرَع لنا في تِلك الأوقاتِ الفاضلة عباداتٍ مختلفةً يتضاعَف ثوابها لشرَفِ زَمانها وفضلِ أيّامها ولياليها؛ رحمةً من الله بنا وإحسانًا إلى عباده وجودًا وكرمًا، ولو لم يعلِّمنا الله الخير والشرَّ والطاعة والمعصية لما اهتَدينا ولما صلَّينا ولا زكَّينا ولما عرفنا فضلَ تلك الأوقات ولما انتهَينا عن المعاصي والمحرَّمات، قال الله تعالى: وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ [الأنعام:91]، وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152]. فللَّه الحمدُ على نعمه الظاهرة والباطِنة.
والإسلامُ قد اعتَنى بجوانبِ التربيةِ الإنسانيّة، ووجَّه طاقات الإنسانِ وقدراته وصفاتِه إلى كلّ عمل صالحٍ مثمِر مفيد وإلى كلِّ فعل طيب رشيد، وحصَّن المكلَّفَ من كلِّ شرٍّ قريب أو بَعيد، فأعطى الله الروحَ حظَّها من غِذاء الذّكر والطاعة والعِبادة، وأطلقَ لها أشواقَها، وأعطى الجسدَ حظَّه المباحَ من المتاعَ المادّيّ، وفصَّل الحقوقَ، وأمَر أن يُعطَى كلُّ ذي حق حقَّه، وفي صحيحِ البخاريّ مِن السنّة الصحيحة: ((إنَّ لربِّك عليك حقًّا، وإنّ لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه)) [3].
هذا التشريع الكاملُ الذي يرعى المكلّفَ من جميع الجوانب وينقُلُه من حالٍ إلى حالٍ، فما إن يجِدَّ المسلم ويجتهد في العبادة ويجهِد بدنَه في الطاعة حتى ينقلَه الإسلام إلى المباح النافع الذي يستَعين به على طاعةِ الله عزّ وجلّ، فسبحانَ القائل: قُلْ أَنزَلَهُ ?لَّذِى يَعْلَمُ ?لسّرَّ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:6].
والعيد له حكمٌ وغايات، فمن حِكَمه وغاياتِه إظهار الفرَح والسّرور بتمام العبادةِ التي قَبلَه، قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]. ومِن حِكَم العيدِ وغاياتِه تعظيمُ الرّبِّ عزّ وجلّ بذكرِه وتكبيره وتَوحيده لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وإظهارُ الذلّ والمسكَنة لعظمَته، وبيان أنَّ اللّذاتِ والشهوات ورغبات الدّنيا حقيرة صغيرةٌ تافهة، وأنَّ الله هو الكبير المتعال الذي هو أهل التّقوَى وأهل المغفرة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومِن حكَم العيد وغاياتِه شهودُ المسلمين الخيرَ الذي ينزله الربُّ على المسلمين في مصلاّهم، وقد كانت حتى الحُيَّض في عَهدِ النبيِّ يشهدنَ العيدَ للخير ويعتَزِلن المصلَّى. ومِن حكم العيد وغاياتِه افتتاحُ المفطِّرات المباحَة بالصّلاة والذكر؛ لئلاَّ يجرِيَ المسلم وراءَ ملذّاته وينسَى ربَّه المنعِم الجليل. ومِن حِكمِ تَقارُب قلوبِ المسلمِين وصفاؤُها وتواصُلُهم وتعاطفهم واتِّحادهم الذي به يتعَاوَنون على إقامةِ الدين وإصلاح الدّنيا. ومِن حكمِ العيد إظهارُ نعمة الله على العبادِ بالتجمُّل والتمتُّع بالمباح، وفي الحديث: ((إنَّ الله إذا أنعَمَ علَى عبدٍ يحبّ أن يرَى أثرَ نعمته على عبده)) [4]. إلى غير ذلك من الحكَمِ التي يطول الحديثُ بذكرها.
عبادَ الله، إنَّ يومكم هذا من أسمائه يومُ الجوائز، يومٌ يفوز فيه أقوام ويحرَم آخرون، وَلِكُلّ دَرَجَـ?تٌ مّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:132]. يروى عن ابن عباس ويرفعه: ((إذا كان يومُ عيد الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض في كلّ بلد، فيقفون على أفواهِ السّكَك، ينادون بصوتٍ يسمعه جميع من خلقَ الله إلا الإنس والجنّ: يا أمّةَ محمّد، اخرُجوا إلى ربٍّ كريم، يعطي الجزيلَ، ويغفِر الذنبَ العظيم، فإذا برَزوا إلى مصلاّهم قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاءُ الأجير إذا عمِل عمَلَه؟ فيقولون: إِلَهَنا وسيّدَنا، أن توفِّيَه أجرَه، فيقول: أشهِدكم أني قد جعلتُ ثوابهم من صيامِهم وقيامهم رضائِي ومغفرَتي، ويقول: سلوني، فَوَعِزّتي وجلالي لا تسألوني اليومَ شيئًا في جمعكم هذا لآخرَتِكم إلاّ أعطيتموه، ولا لدنياكم إلا نظرتُ لكم، انصَرِفوا مغفورًا لكم، قد أَرضَيتُموني ورضِيتُ عنكم)) [5] ، وروى الطبرانيّ نحوه من حديث سعيد بن أوسٍ الأنصاري عن أبيه مرفوعًا [6]. قال مورق العجليّ: "فيَرجع قومٌ من المصلَّى كيوم ولَدتهم أمّهاتُهم".
عبادَ الله، الصلاةَ الصلاةَ، أقيموها في بيوتِ الله؛ فإنها عمادُ الدين، ففي الحديث: ((أوَّل ما يحاسب العبدُ على الصّلاة، فإن قُبِلت قبِلَت وسائر عمَله، وإن ردَّت رُدَّت وسائِرُ عمَله)) [7] ، فمن حفِظَها حفِظ دينَه، ومن ضيّعَها ضيّع دينه وحظَّه من ربّه، وصار مآله إلى الخسران في الدنيا والآخِرة. وأدّوا زكاةَ أموالكم طيِّبةً بها نفوسكم، فقد أعطاكم الجزيلَ، وطلب منكم القليلَ، وضاعفَ الأجر؛ فجعل الحسنةَ بعَشرِ أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة. واحفظوا صومَ شهركم، وحُجّوا بيتَ ربكم قيامًا بأركان الإسلام، وعليكم ببرِّ الوالدَين وصِلةِ الأرحام والإحسان إلى الضّعفاء والأيتام؛ ففي الحديثِ: ((إنما تنصَرون وترزَقون بضعفائكم)) [8].
ومُروا بالمعروف، وانهوا عنِ المنكر؛ فإنه سياجُ الإسلام وحارِس الملَّة والدين، وعليكم بصِدقِ الحديث والوفاءِ بالعهود وإنفاذِ الوعود؛ فإنَّ ذلك من الإيمان الذي أمَر به القرآن,
وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، واحذروا البدعَ فإنها تهدم الدينَ وتحرم من حوض النبيّ الأمين ، وحقِّقوا التوحيدَ لله رب العالمين؛ فمن حقَّق كمالَ التوحيد دخل الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب.
وإيّاكم وقتلَ النفس التي حرّم الله؛ ففي الحديث عن النبيِّ قال: ((لا يزال المسلِمُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا، فإذا أصابَ دمًا حرامًا فقَد بَلح)) [9] ، يعني: قد انقطَع وضاق عليه الأمر واشتدَّ كربُه. قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وإيّاكم والرِّبا؛ فإنه يمحَق البركةَ من المال ويدخِل صاحبَه النارَ، قال الله تعالى: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]، وعنه : ((الرّبا نيِّفٌ وسبعون بابًا، أيسرُها مثل أن ينكِح الرجل أمَّه)) [10].
وإياكم والزّنا؛ فإنه عارٌ ونارٌ وفقرٌ وعَذاب وصَغار، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديثِ: ((ما مِن ذنب أعظم عند الله بعد الشركِ مِن أن يضَعَ الرجل نطفتَه في فرجٍ حرام)) [11].
وإيّاكم المسكراتِ والمخدرات؛ فإنها شرٌّ ووبال ونَدامة وخَبال وغَضَب لذي العزّة والجلال، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((من شرِب مسكرًا بخسَت صلاته أربعين صباحًا، فإن تاب تابَ الله عليه، فإن عادَ الرابعةَ كان حقًّا على الله أن يسقيَه من طينة الخبال))، قيل: ما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: ((صديد أهلِ النار)) رواه أبو داود [12].
وإيّاكم وقولَ الزور وشهادةَ الزور والغيبةَ والنميمة وقذفَ المحصنات؛ فإنّ الله حرّم ذلك في الآياتِ البيِّنات.
وإيّاكم والمكاسبَ المحرَّمة وأموالَ الضعفاء والأيتام وأوقافَ المسلمين؛ فإنَّ ذلك ما خالَط مالاً إلاّ أفسدَه، ولا دخل بيتًا إلا نكّده ودمَّره.
وإيَّاكم والخيلاءَ والكِبر والإسبالَ في الثياب؛ فقد جاء في الحديثِ أنَّ الله تعالى يحشُر المتكبِّرين في صوَرِ الذرِّ يطؤُهم النّاس بأرجلهم، وفي الحديثِ: ((من جرَّ إزارَه خيَلاء لم ينظرِ الله إليه يومَ القيامة)) [13].
وإيّاكم ومضارّةَ المسلم؛ فمن ضارَّ مسلِمًا ضارَّه الله. واحذَروا الخصوماتِ الباطلةَ؛ فإنَّ مَن ادَّعى ما ليس له فهو في سخَط الله حتى ينزِعَ من خصومته. واحذَروا الحلِفَ الكاذب؛ فإنّ ذلك هو الأيمان الغموس، فإنّه يغمِس صاحبَه في جهنّم.
يا معشرَ النساء، اتّقِينَ الله تعالى، وأطعن الله ورسوله، والتزمن بآداب الإسلامِ، فعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله : ((إذا صلَّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفِظت فرجَها وأطاعت زَوجَها قيل لها: ادخلِي الجنّةَ من أيّ أبواب الجنة شئتِ)) رواه أحمد [14] ، وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدتُ الصلاة يومَ الفطر مع رسول الله ، فنزل نبي الله وشقَّ الرجال حتى أتى النساءَ مع بِلال، فقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، ثم قال: ((أنتنَّ على ذلك؟)) فقالت امرأة: نعم يا رسول الله [15]. ومعنى لاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ : لا يلحِقنَ بأزواجهِنّ غيرَ أولادِهم.
عبادَ الله، احذَروا عدوَّكم إبليس لعَنَه الله اللعنة التامّة، فإنّه كان في رمضانَ مقهورًا، ويريد أن يأخذَ منكم بثأره فيجعل الأعمالَ هباءً منثورًا، فدوموا على الطاعةِ واجعلوه دائمًا مَدحورًا، واذكروا بأنّكم تدلِفون وتساقون إلى آجالٍ معدودة وأعمارٍ محدودة، عمّا قليلٍ تنقَلون من هذه الدارِ؛ إما إلى الجنّة وإما إلى النار. وتفكّروا في القرون الخاليةِ والأمم الفانيةِ: أين ما كانوا فيه من العزِّ والنعيم وقوّة الأبدان وكثرة الأموال والأولاد والمقام الكريم؟! وتفكَّروا فِيمن صلَّى معكم في سِنينَ خلَت في هذا المكان مِنَ الأقرِباء والمعارِف والخلاّن: كيف اختَرَمتهم المنايا؟! فإنَّ ما نزَل بهم ملاقِيكم، وستَذوقون طعمَ الموتِ وتتجرَّعون منه البلايا، فأحسنوا العمَلَ، واقصُروا الأمَل؛ تنجُوا من عذابٍ عظيم وتفوزوا بالنعيم المقيم، فإنّ هذه الدنيا دار عمل ولا حساب، والآخرة دارُ حسابٍ ولا عمل، ومصير كلّ أحدٍ مرهون بعملِه، ولا تغترّوا بزهرة الدنيا فإنما هي أضغاث أحلامٍ وسرور أوهام.
قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: صلاة العيدين (1134)، سنن النسائي: كتاب العيدين (1556)، وأخرجه أيضا أحمد (3/103)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وابن حجر في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[3] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له (1978) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (2/182)، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته (2819) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (7188)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2260).
[5] أخرجه البيهقي في الشعب (3695)، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/535)، وأشار المنذري في الترغيب (2/60) إلى ضعفه، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (594).
[6] المعجم الكبير (1/226)، قال الهيثمي في المجمع (2/201): "فيه جابر الجعفي، وثقة الثوري، وروى عنه هو وشعبة، وضعفه الناس، وهو متروك"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (670).
[7] أخرجه الطبراني في الأوسط (1859)، ومن طريقه الضياء في المختارة (7/ 144-145) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وجعله المنذري في الترغيب (1/149) من مسند عبد الله بن قرط وقال: "لا بأس بإسناده إن شاء الله"، وقال الهيثمي في المجمع (1/292): "فيه القاسم بن عثمان، قال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1358). وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وتميم الداري رضي الله عنهم.
[8] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2896) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[9] أخرج الجملة الأولى منه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: وَمَن يَّقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا الآية (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما فإذا أصاب. وأخرج الجملة الثانية منه أبو داود في كتاب الفتن والملاحم، باب: في تعظيم قتل المؤمن (4270) عن أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ: ((لا يزال المؤمن معنِقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح)) ، وهو في صحيح سنن أبي داود (3590).
[10] أخرجه الطبراني في الأوسط (7151) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[11] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190) والهيثم تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1580).
[12] سنن أبي داود: كتاب الأشربة، باب: النهي عن المسكر (3680)، والبيهقي في سننه الكبرى (8/288)، وهو في الصحيحة (2039).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب: قول النبي : ((لو كنت متخذًا...)) (3665)، ومسلم في كتاب اللباس، باب: تحريم جر الثوب خيلاء (2085) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[14] مسند أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[15] صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ (4895)، وأخرجه أيضا مسلم في العيدين (884).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عدَدَ ما أظلم عليه الليلُ وأشرَق عليه النهارُ، الله أكبر عدَد ساعاتِ العشيِّ والإبكارِ، الله أكبر عَددَ خلقِه ومِداد كلماته وزِنَة عرشه، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الولي الحميد، المبدِئِ المعيدِ، يدبِّر الأمر يفصِّل الآياتِ ويحكُمُ ما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له فعّالٌ لما يريد، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الهادي إلى كلّ عملٍ برّ رشيد، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه ذوي الحظّ السعيد.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ سرًّا وعلانية؛ لتفوزوا بتجارةٍ لن تبور.
عبادَ الله، إنَّ الطاعة بعد الطاعةِ زِيادة في الثواب وقربةٌ للملِك التواب، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14، 15].
وقد فرَض رسولُ الله صدقةَ الفِطر على كلّ مسلمٍ مستطيع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاةَ الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيبٍ أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقِط على الذكر والأنثى والحرِّ والعبد والصغير والكبير من المسلمين [1] ، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صدقةَ الفطر طهرةً للصائم مِنَ اللّغو والرفَث وطُعمةً للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولةٌ، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صَدَقة من الصدقات. رواه أبو داود [2].
وتُخرَج يومَ العيد قبل الصلاة، وله أن يخرِجَها قبلَ العيد بيوم أو يومين.
وكان مِن هديِ النبي في العيدين التكبيرُ ليلةَ العيد وعند الخروج إليه، وكان لا يغدو يومَ الفِطر حتى يأكلَ تمرات [3] ، ولا يطعَم يوم الأضحى حتى يصلّي [4] ، وكان يرجِع من طريقٍ أخرى غير التي غدا منها للمصلّى [5]. وقد سُنَّ للعيدِ منَ الغسل والنظافةِ ولبس الجميلِ للتزيّن لأنّه مَجمع المسلمين ومظهرٌ من مظاهرِ الفرَح والسرور بعُلُوّ شعائرِ الدّين وقوّةِ المؤمنين.
عبادَ الله، إنه ليس السعيدُ من شهِد العيد ولا من أتَته الدنيا على ما يتمنَّى ويريد ولا من أجرَى الأنهارَ ولا من غَرَس الأشجار وجمَع الكنوز للادِّخار، لكن السعيد من اتَّقى العذاب الأليم وفاز بجنّات النعيم فأطاع العزيزَ العليم.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب: صدقة الفطر (1506)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985)، ولم يذكر فيه إلا التمر والشعير.
[2] سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609) وأخرجه أيضا ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: صدقة الفطر (1827)، وصححه الحاكم (1/409)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1420).
[3] أخرجه البخاري في العيدين (953) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (22474)، والترمذي في الجمعة (542)، وابن ماجه في الصيام (1756) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه ابن خزيمة (1426)، والحاكم (2812)، والحاكم (1088)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1422).
[5] أخرجه البخاري في العيدين (986) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
(1/4406)
مواسم الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم, فضائل الأعمال
محمد أحمد حسين
القدس
2/10/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد في الإسلام. 2- فرحة المسلم بالعيد. 3- الحكمة من تنوع الطاعات وتكرارها. 4- طاعة الله من أسباب التمكين في الأرض. 5- الحث على صيام الست من شوال وعمارة المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بالأمس احتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بعيد الفطر السعيد، وهو أحد العيدين اللذين شرعهما الله تعالى للأمة الإسلامية، ولا أعياد لهذه الأمة سواهما.
أما عيد الفطر فيأتي تتويجًا لموسم طاعة وأداء عبادة هي عبادة الصيام، والصيام ركن من أركان الإسلام، وهو فريضة محكمة كتبها الله على الأمم قبلنا، وأكرم أمّتنا بها، بصيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ويفرح المسلم في يوم الفطر وهو الفرحة الصغرى للصائم، حيث للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وقد وفّقه الله تعالى لإكمال صيامه، فيوم الفطر هو الفرحة العاجلة، فالصائمون هم ضيوف الرحمن في يوم العيد، وأكْرِم بها ضيافة حيث الجوائز من رب العالمين. وأما الفرحة الأخرى للصائم يوم يلقي الصائم ربه، وينال أجره من رب كريم يثيب بالجزيل ويمنّ بالفضل العظيم مخاطبًا عباده المؤمنين: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70]، ولحديث النبي : ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد)). نسأله تعالى أن يمن علينا بفضله وكرمه، وأن يشملنا برحمته فيدخلنا جنته لنكون من الفرحين والفائزين يوم لقائه، إنه هو البرّ التواب.
أيها المسلمون، من فضل الله على هذه الأمة أن جعل لها مواسم للطاعة ومواقيت للعبادة حتى يبقى المؤمن على صلة بربه عز وجل، ومن رحمة الله بعباده أن نوّع لهم العبادات، وفي هذا ترغيب للنفس على الطاعة وتربية لها على الالتزام والجد في تحصيل الثواب، فكانت الصلاة عبادة بدنية بأفعال معلومة وأذكار محدودة، وهي فريضة اليوم والليلة وعلى امتداد العمر، وهي عمود الدين وركن من أركان الإسلام، تهذب النفس، وتطهر القلب، وتحول بين الإنسان وبين المنكرات، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والرسول يقول: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من دَرَنِه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلاة الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا)) ، وفي حديث آخر أن رسول الله قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
وأما فريضة الصيام فهي مخصوصة في شهر رمضان من أيام السنة، وهي أيام معدودات يستطيع المسلم أداءها دون إرهاق أو مشقة زائدة. وفي هذه العبادة من الفضل والفضائل ما يزيد في المؤمن ملكة التقوى، ويعوّده على الخضوع والعبودية لرب العالمين، كما يهذب النفس بما يغرسه فيها من خوف الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، فالصوم سر بين العبد وربه، وهو أبعد العبادات عن الرياء، فالصائمون مخلصون لله في نواياهم، متوجهون إليه في سرائرهم.
أيها المسلمون، أما الزكاة ـ وهي الركن الثالث من أركان الإسلام العملية ـ فهي عبادة مالية محضة لا دخل للبدن فيها، سوى النية الصادقة بأداء ما فرض الله على الأغنياء في أموالهم، وهي طهارة للمال والنفس من الشح والبخل، وتطهر المال بالنماء والخير والبركة، لقوله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، والرسول يقول: ((من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)).
وأما الحج ـ وهو فريضة العمر مرة واحدة ـ فإنه يجمع بين العبادة البدنية والمالية.
وهكذا هي مواسم العبادة والطاعة، وهي محطات لتزود المسلم بالإيمان والتقوى والعمل الصالح بما يغذي الروح والبدن، ويجعل المؤمن في نشاط دائم وهو يؤدي هذه العبادات الفكرية والروحية والبدنية، فهو في محراب الصلاة يناجي خالقه بالقرآن الكريم والذكر الحكيم، وفي الصيام يحفظ سره ويصبر على شهوات النفس والبدن، وفي الزكاة يطهر نفسه وماله، وفي الحج يؤدي المناسك من طواف وسعي ورمي للجمار ووقوف بعرفات والمشعر الحرام تأسّيًا بالنبي وأداء لركن عظيم من أركان الإسلام، وهكذا يبقى المؤمن في شوق للطاعة والعبادة على مد السنين وتوالي الأيام.
فاحرص ـ أخي المسلم ـ على اغتنام أوقاتك في الطاعة، وخذ من قوتك لضعفك، ومن شباب لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك، فالسعيد من أشغل نفسه في الطاعة، والشقي من أتبع نفسه هواها ومن تمنى على الله الأماني، فهل من معتبر؟! وهل من مدّكر؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن طاعة الله بأداء العبادات والتزام أوامره واجتناب نواهيه لهي من أسباب التمكين في الأرض، وهي وصف يلازم أهل الإيمان، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، وقال جل من قائل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:55، 56].
فاجعلوا ـ أيها المسلمون ـ أوقاتكم مواسم عبادة، واشغلوا أنفسكم بالطاعة، فقد قيل: النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، من العبادات التي رغّب فيها الرسول في شهر شوال صيام ستة أيام منه، فعن أبي أيوب أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)).
وواصلوا شد الرحال إلى المسجد الأقصى على مدار أيام السنة، فالأعمال يُضاعف أجرها في هذا المسجد المبارك، كما أن جَمْعكم في المسجد هو ضمان لأمنه وحمايته بعد عناية الله من كيد الكائدين واعتداء المعتدين الحالمين بهيكل مزعوم في ساحاته أو على أنقاضه لا سمح الله. كما أن حشدكم في مدينة القدس برهان قاطع على إسلامية هذه المدينة ورد على من يحاول تهويدها وتطويقها بأسوار العزل العنصري وبإقامة المزيد من المستوطنات.
واصبروا وصابروا يا شعب الشهداء والمعتقلين، فإنكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، واعلموا أن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يُسْرَين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
(1/4407)
الوصية الجامعة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, خصال الإيمان
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
9/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع السائرين إلى الله تعالى. 2- حقيقة الولاية. 3- دلالة الله تعالى أولياءه لما فيه حفظهم. 4- وصية النبي لابن عباس. 5- ما يجب على العبد حفظه من أمور الدين. 6- حفظ الله للعبد. 7- تفريج الله عن أوليائه. 8- الإيمان بالقضاء والقدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فوصيّة الله للأوّلين والآخرين تقواه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [النبأ:31-36].
وبعد: أيّها المسلمون، السّائِرون إلى الله مِنهم السابقُ ومنهم المقتصِد، هِمَمٌ متفاوِتَة ودَرَجات متعالِيَة، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللّيل:4]، وأَعظمُهم منزلةً وأسبقهم فوزًا وأحظُّهم برعاية مولاه هَو من كان لله وليًّا وعنه رضيًّا، فيا سَعادةَ من كان الله به حفيًّا.
الوِلاية ـ أيّها المسلِمون ـ لَيسَت ادِّعاءً وتظاهرًا ولا استكانةً وتملُّقًا، إنها حَقيقة يوفِّق الله لها من شاءَ مِن عباده إذا سلَكوا سبيلَ رضاه، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ولما كانتِ الغايةُ التي خُلق لها الإنسان هي عبادَة الله وتوحيده وطاعَته وتمجيده الذي جعَل الدنيا دارَ ابتلاء وامتحان وجَعَل مِن سنّة الحياة كثرةَ العوارض والآفات والأعداءِ من الشياطين والشّهوات فإنَّ الله تعالى لم يسلِم عبادَه ولم يخذُل أولياءه، بل وعد سبحانَه بالحفظِ والرّعاية لأصفيائِه والنّصر والتّمكين لأوليائِه إذا هم قاموا بما أمَر واجتنبوا ما نهى عنه وزَجر وتوكَّلوا عليه حقَّ التوكّل وحفظوا دينَهم فلم يصرفهم عنه شهوةُ دنيا ولا طغيان فاجِر، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64].
وقد أرشَدَ النّبيّ في جوامِعِ كَلِمِه إلى طريقِ الولايةِ وما يكون به الحفظُ والصّيانة في حديثٍ قال عنه بعض العلماء: "تدَّبرتُ هذا الحديثَ فأدهشني وكدتُ أطيش، فوا أسَفا من الجهل به وقِلّة التفهُّم لمعناه"، فعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفَ النبيِّ فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمُك كلماتٍ: احفظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام وجفّت الصحف)) رواه الترمذي بسند صحيح [1] ، وفي رواية عند الإمام أحمد: ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفك في الشدّة، واعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأنّ الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يُسرًا)) [2].
أيّها المسلمون، تضمَّن هذا الحديث وصايَا عظيمة وقواعدَ كلّية من أهمِّ أمور الدين، والعملُ به تحقيقٌ للتوحيد وامتثال للأمر والنهي وكفايةٌ في أمر الدنيا والآخرة.
وقولُ النبي : ((احفَظِ الله)) أي: احفَظ حدودَه وحقوقه وأوامره ونواهيَه، فمن فعل ذلك استحقَّ حفظَ الله له وكان من الموعودِين بالجنّة كما قال الحقّ سبحانه: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].
ومِن أعظمِ ما يجِب حفظُه والعناية به إخلاصُ العبادةِ لله تعالى وحِفظ النفسِ مِن الوقوع في الشّركِ بشتَّى أنواعِه، فمَن أشرك بالله تعالى فقَد أضاع جهدَه وأحبط عمَلَه، قال الحقّ سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. والمسلِمُ العاقل هو الذي يتفقَّد نفسَه وعمله لئلاّ يقع في شيءٍ من محبِطات الأعمال.
ومِن أعظم ما تجِب المحافظة عليه من أوامرِ الله الصلاةُ التي أمَرَ الله بها بقولِه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وجعل الفوزَ والفلاح للمؤمنين الذين هم على صلَواتهم يحافِظون، وجعل مفتاحَ الصلاةِ الطهارةَ التي هي كفّارة للذنوب ماحِيَة للخطايا، وقد ثبت في الحديثِ الصحيح أنّ النبيَّ قال: ((لا يحافِظ على الوضوء إلا مؤمِن)) رواه ابن ماجه في سننه ومالك في الموطأ بسند صحيح [3].
ومما أمر الله تعالى بحِفظه الجوارحُ، خصوصًا الفم والفرج، والتي هي أكثر ما يدخِل الناسَ النار، وقد قال الحقّ سبحانه في مدحِ المؤمنين المفلِحين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، وقالَ: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، بل قد ضَمِن النبيّ الجنّةَ لمن حفِظ ما بين لحيَيه وما بين رجليه؛ وذلك أنّ الفمَ هو طريق أكلِ الحرام، وفيه اللّسان وهو طريقٌ لقولِ الحرَام، والفَرج قد تقع بسبَبه شهوةُ الحرام، فأكثر المعاصِي من هذه الأمور.
عبادَ الله، الجزاءُ مِن جنس العمل، وقد قال سبحانَه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وقَال: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، وكذلك من حفِظ حدودَ الله وحقوقَه والتزم أمرَه واجتنب نهيَه فإنّ الله تعالى يحفَظه ويرعاه ويكلَؤه، والحِفظُ عامّ في أمور الدنيا والآخرة، فمنها أنَّ الله تعالى يحفظ له مصالحَ دنياه، فيحفَظه في بدنِه وولده وأهلِه وماله، قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، أي: أنَّ هذا الحفظَ مِن أمر الله، والمعقِّباتُ الحافِظة هي الملائكة كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما [4] ، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((معقِّباتٌ لا يخيب قائِلهن أو فاعلهنّ دُبرَ كلّ صلاةٍ مكتوبة: ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاثٌ وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة)) [5] ، وفي صحيح مسلم أيضًا أنّ النبي قال: ((من صلّى صلاةَ الصبح فهو في ذِمّة الله، فلا يطلبنّكم الله من ذمّتِه بشيء)) [6] ، بل إنَّ الحفظَ يسري إلى الذريّة كما حفِظ الله للغلامين كنزَهما فقال سبحانه: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، وقال عمَرُ بن عبد العزيز: "ما مِن مؤمنٍ يموت إلاّ حفِظه الله في عَقِبِه وعقِب عقبه" [7] ، وقال ابن المنكدر: "إنّ الله ليحفظ بالرجل الصّالح ولده وولدَ ولدِه والدّوَيرات التي حولَه، فما يزالون في حفظ من الله وسِتر" [8].
وعَكس هذا من ضيَّعَ أمرَ الله أضاعَه الله، فضاع بين خلقِه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممّن كان يرجو نفعَه من أهله وغيرِهم.
وكما يحفظ الله تعالى عبدَه من شرِّ طوارِقِ الليلِ والنهار ومن الدوابِّ والهوام والإنس والجانّ فإنّ الله تعالى يحفظه أيضًا ويعصِمه في دينه وإيمانه، فيحفَظه من الشّبُهات المضِلّة والشهواتِ المحرَّمة، ويحفَظ عليه دينَه، فيتوفَّاه على الإيمان، وقد قال الله عزّ وجلّ عن يوسفَ عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وذلك أنّه حفِظ أمرَ الله في الغيبِ، وقال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23] في موطنٍ لا يراه فيه إلاّ الله، وهرب من المعصيةِ، ودعا الله أن يصرفَ عنه كيدَ النّسوة، كلُّ ذلك مما استحقَّ به أن يدفَعَ الله عنه البلاءَ ويصرِفَ عنه السوءَ والفحشاء، ثمّ آتاه الله الملكَ.
وقد يحفَظ الله العبدَ بأنواعٍ من الحفظ قد لا يشعر بها، وقد يكون لها كارِهًا. أما من ضيَّع فإنّه لا يُحفَظ، وقد قال الحسن وقد ذكر أهلَ المعاصي: "هانوا عليه فعَصَوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم" [9].
وفي قولِ النبي : ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفك في الشدّة)) حثٌّ على تقوَى الله وحِفظ حدوده في حال الرّخاء والصحّة والعافية والأمن، حتى إذا جاءَتِ الشدة وجدَ لُطفَ الله ورحمته وحفظَه ونصرَه أقربَ ما يكون.
ولما اشتدَّ الكرب بيونسَ عليه السلام في بطنِ الحوت نادَى في الظلمات أن لا إلهَ إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ من الظالمين، فاستجاب الله دعاءَه ونجّاه من كربِه وأنقذَه من غمِّه، قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]. ولما ذكر الله في سورةِ الأنبياء إجابتَه أيوبَ حين مسَّه الضرّ وذا النون وزكريّا قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وعند الترمذيّ بسندٍ حسن أنّ النبيَّ قال: ((من سرَّه أن يستجيبَ الله له عند الشدائد فليكثِرِ الدّعاءَ في الرّخاءِ)) [10] ، ومِصداقُ ذلك من كتاب ربِّنا قوله سبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
فيا من تكالَبَت عليه الخطوبُ وتكاثَرَت عليه الكروب، أين أنت من علاّم الغيوب؟! إذا سألتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنت فاستعن بالله، فهو الذي يعطي ويمنَع، ويخفِض ويرفع، ويضرّ وينفع، ما النّاس إلا عبيده، والأمر أمرُه، فكيف يُرجَى غيره؟! أم كيف يؤمَّل سواه؟! وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]. من الذي نجَّى نبيَّنا محمّدًا وصاحبَه في الغار؟! من الذي نجَّى إبراهيم الخليل حين قُذِف في النار؟! من الذي فلَق البحرَ لموسى؟! من الذي رفَعَ عيسى؟! من المرَجَّى لكلِّ كربَة؟! من المؤمَّل لكلّ نازلة؟! إنّه الله القدير.
أيها المسلمون، وفي زمنٍ تكالَب فيه الأعداء على المسلِمين وتداعَوا عليهم كما تداعَى الأكلةُ على قصعَتِها لسنا نخشى ـ والله ـ من عدوِّنا بقدر ما نخشَى من ذنوبنا، فمن كان الله معَه فمن يخاف؟! ومن كان عَليه فمن يرجو؟!
إنَّ المتحتِّمَ علينا أن نحفظَ الله في أنفسنا وفي ديننا، وأن نتنادَى بالعودة إليه، فإن صدقنا مع الله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2516)، وهو عند أحمد أيضا (4/409-410) [2669]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461). "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.. وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] مسند أحمد (5/18-19) [2803]، وأخرجها أيضا الحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[3] سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء (277) عن ثوبان رضي الله عنه، موطأ مالك: كتاب الطهارة، باب: جامع الوضوء بلاغا، وأخرجه أيضا أحمد (5/276، 280، 282)، والدارمي في كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الطهور (655، 656)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97). وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنهما، وقد صححه الألباني في إرواء الغليل (412).
[4] انظر: تفسير الطبري (7/350)، وعزاه أيضا السيوطي في الدر (4/612) لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[5] صحيح مسلم: كتاب المساجد (596) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم: كتاب المساجد (657) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
[7] انظر: جامع العلوم والحكم (1/467).
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (330)، والحميدي (373)، وأبو نعيم (3/148). وانظر: جامع العلوم والحكم (1/467).
[9] انظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص38)، وجامع العلوم والحكم (1/470).
[10] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3382) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو يعلى (6396، 6397)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"، وصححه الحاكم (1997)، وهو في السلسلة الصحيحة (593).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدَ من لم يزل لفضله ساعيًا ولعفوه راجيًا، أحمده وهو الرحيم سبحانه، يغفر ذنبًا، ويكشف كربًا، ويجيب داعيًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فإنّ مِِن أركان الإيمان الإيمانُ بالقضاءِ والقدر، وأنّه لا يقع في هذا الكونِ حادثٌ صغيرٌ ولا كبير إلا بقَدَر سابقٍ سطَّره القلم في اللوحِ المحفوظ بأمرِ الله تعالى وعِلمه وتقديره قبلَ خلقِ السماوات والأرض، فلا يكون شيءٌ إلاّ بمقتضى ذلك، علِمَ العبد أو جهل، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
ومِن هنا كان كمالُ توحيدِ المؤمنين، فأخبتت قلوبهم لأحكامِ القضاء، وهان عليهم الصّبر على البلاء والشّكرُ في السراء، وفوّضوا أمرَهم إلى الله، وسألوه المغفرة والرحمة واللطفَ والنّصرة، ولهذا خصَّ النبيّ ابنَ عبّاس رضي الله عنهما كما عمَّ الأمّةَ بهذه الوصيّة الجامعة، وهي الإيمانُ بالقضاء والصّبرُ على البلاءِ واليَقين على ربِّ الأرض والسّماء.
وعندَ استحضار هذه المعاني تطمئنّ النفوس الرضِيّة وتعيش حياةً هنيّة، بل إن جاءها الموتُ ماتت مِيتة سويّة، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاّ للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبَر فكان خيرًا له)) [1].
ثم خُتِم الحديث بقولِه : ((واعلم أنَّ في الصبر على ما تكرَه خيرًا كثيرا، وأنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)). يَا لله، يا لَها من كلماتٍ عظيمة لمن عقَلها والتزَمها، ومِصداقُ ذلك في كتابِ الله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]، ولن يغلِبَ عسرٌ يُسرَين، ولكن أين المؤمِنون الموقِنون؟! وكم في أعطافِ البلايا من ألطافٍ، ولقد رأى الناس في لطفِ الله وتيسيره عَجبًا.
وتأمَّل في لطيف المعنى في هذه الآية: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، أي: عندَ المصيبةِ إذا استحضر المبتَلَى أن المصيبةَ من عند الله هُدِيَ للصبر والرضا والثباتِ على الإيمان، فهدَى الله قلبَه لكلِّ خير، قال القرطبي: "وقرأ عكرمةُ: يهدَأ قلبُه، وقرأ مالك بن دينار بتخفيفِ الهمزة: يَهدَى قلبُه" [2] ، فهل سمِعَ بهذا المبتلَون الصابرون؟! وقد قال بعض السلف: "الحياةُ الطيّبة هي الرّضا والقناعة"، وقال ابن زَيد: "الرّضا بابُ الله الأعظَم وجَنّة الدّنيا ومُستَراح العابدين" [3].
ومِن لطائِف أسرارِ اقتران الفرَج بالكرب واليسر بالعسرِ أنّ الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى حصَل للعَبد اليأسُ من كشفِه من جِهَة المخلوقين، [فتعَلَّق] قلبُه باللهِ وحدَه وانقَطَع الرّجاءُ إلاّ إليه، وهذا هو حقيقةُ التوكّل على الله، وهو مِن أعظم الأسباب التي تُطلَب بها الحوائِج، فإنَّ الله يكفِي من توكَّل عليه كما قال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
هذا وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله النبيّ الأمّيّ.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) عن صهيب رضي الله عنه.
[2] الجامع لأحكام القرآن (18/124).
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/156).
(1/4408)
فتنة القبور
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/10/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ وقوع الشرك في البشرية. 2- دعوة الرسل إلى توحيد الله تعالى. 3- حماية النبي لجناب التوحيد. 4- تحذير النبي من فتنة القبور. 5- ضلال من يدعو إلى تعظيم القبور. 6- الموقف الشرعي من القبور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، خلَق الله أبانا آدمَ أبَا البشرِ بيدِه، ونفَخ فيه مِن روحِه، وأمَر المَلائكةَ أن يَسجدُوا لَه، فسجَدوا إلاّ إبليسَ استكبَر وكان من الكافِرين، فأهبطَ الله إِبليسَ مِن ملَكوت السّماواتِ، ولعَنه جلّ جَلاله، وجعَله قائدًا لِكلِّ رَذيلةٍ إلى يومِ القِيامة، فلمّا أيِس عدوُّ الله من رحمةِ الله سأل اللهَ أن يُنظِره إلى يومِ الدّينِ، وأقسَم بِعزّةِ الله ليُغوِيَنّ بني آدمَ ما استَطاعَ لِذلك سَبيلاً: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، وقال عنه جلّ وعلا [أنه] قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:62].
أسكَن الله أبانَا آدمَ الجنّةَ، وأباحَ له كلَّ شيءٍ فيها سِوى شَجرة واحِدة، أخبَر الله بها أبانا آدمَ، ونهاه وزوجتَه عنِ الأكل مِنها: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ [البقرة:35]، ولكن عدوَّ الله وَسوَسَ لأبينا آدَمَ، وزيَّن لَه الأكلَ من تِلكم الشّجرةِ، وقال له: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:20-22]. إذًا فأهبطَ الله أبانا وزوجتَه إلى الأرض، وقال لهما: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36].
بَقِي آدم وذرّيّتُه على توحيدِ الله الخالِصِ عِبادةً للهِ، تحقِيقًا للحِكمةِ التي لأجلِها خلَق الله الثّقلين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:65، 66]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36].
مَضى علَى آدمَ ومضَى على ذرّيّةِ آدَمَ ما يُقاربُ عَشرةَ قرون وهم على التّوحيدِ الخالِص، إفراد الله بالعبادةِ وليس مع الله شريكٌ في أيّ نوعٍ من أنواع العبادة، ولكنَّ عدوَّ الله إبليسَ سَعَى بمكرِه وخِداعِه ووساوِسه الضّالّة إلى أن حَرَف بني آدَمَ عن فِطرتهم المستقيمةِ، وأوقَعَهم في الشّركِ بالله، وزيَّن لهم ذَلك الباطلَ بوسائلَ مختَلِفةٍ، تدرَّج بها شيئًا فشيئًا حَتى أوقَعَهم في عِبادةِ غيرِ الله، وزيَّن لهم الباطِلَ، وحسَّن لهم السّوءَ والفسادَ.
كان قَومُ نُوحٍ كما كانَ أبوهم آدَمُ على تَوحيدِ الله ودينِه، فأتَى إلَيهم وقال لهم مُوسوِسًا وخادِعًا: إنَّ سَلفَكم الصالح الذين مَضَوا كَانوا على جانبٍ مِنَ الأخلاقِ والفضائلِ والأعمال، فلَو صوَّرتم صُوَرَهم ونَصَبتموها في مجالِسِكم، إذا رَأيتُم تلكَ الصوَرَ تذكَّرتم أولئك الأشخاصَ وأعمالهم وفضَائلَهم، فَزادَكم تمسُّكًا بما كانوا عَلَيه. فصوَّروا صوَرَ الصّالحين، ونَصَبوها في مجالِسِهم اعتِقادًا منهم بِصحَّة ما قاله عَدوّ الله دونَ أن يكونَ لهم نَظرٌ بعيد في أنَّها وَسائلُ شِركٍ ستَؤول بهم إلى ما لاَ خيرَ فيه. فلمّا مضَى الأوَائلُ وجاء مَن لا يَفقَه ما مَضَى أوحَى الشّيطان إليهم أنَّ أولئِكَ ما صوَّروا تلكَ الصّوَرَ إلاّ ليَستنزلوا بهم المطَرَ ويستَجلِبوا بهم النّفعَ ويستدفِعوا بهم الضرَرَ وأنهم وَسائِطُ بينَهم وبينَ الله، فعَبَد قومُ نوحٍ صالحيهم، واتَّخذوهم وسائطَ يَدعونهم ويَرجونهم ويؤمِّلون فيهم، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قال الله: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:24].
فلمّا وقَع الشركُ في قومِ نوحٍ وعبِدَت الصّوَر من دون الله وعُبِدت الأصنام من دون الله وصارَت آلهةً تعبَد ويُذبح لها ويسجَد ويُنادَى باسمها ويهتَف بها في الشّدائِد وأشرَكوا مع الله غيرَه وجعلوا للهِ شريكًا في عِبادتِه بعَث الله نوحًا عَليه السلام يَدعو قومَه إلى توحيدِ الله، ويُنذِرهم ويحذِّرهم من الشركِ بالله، وأنّه رسول الله إليهم، إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح:1]، دعاهم إلى الله سرًّا وجِهارًا ولَيلاً ونهَارًا، مَكَث فيهم أَلفَ سنةٍ إلا خمسِين عامًا، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، أغرق الله أهلَ الأرض قومَ نوحٍ، ولم ينجُ إلاّ نوح ومن معَه، ثم تتابعت الرسلُ إِلى الأمَمِ، ما مضَى رسولٌ إلا يعقبه رسول، كلُّهم دُعاةٌ إلى توحيدِ الله وتحقيقِ "لا إله إلا الله" كما قال جلّ وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وعمَّت الرسالةُ جميعَ الأمَمِ لِتقومَ حجّةُ الله على العِباد، رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، إلى أن كان خَاتمهم وسيّدهم وأكمَلُهم وأَفضَلهم وآخرُهم محمّدَ بنَ عبد الله صلوات الله وسلامُه عليه، بعَثَه الله على حِينِ فَترةٍ منَ الرّسل واندِراسٍ من العِلم والهدَى، بعثَه بالحنيفيّة السّمحةِ، بعثه داعيًا إلى الله وإلى توحِيدِه، فابتدأ دعوتَه بمكّةَ كمَا ابتَدأ به إخوانُه الأنبياءُ السّابقون، يدعو قومَه لـ"لا إله إلاّ الله"، يدعوهم لأن يَقولوا هذه الكلمةَ العَظيمةَ، قولَةَ صادقٍ موقِن بها فاهِمٍ لها عامِل بمقتضاها قابِلٍ لها منقادٍ صادِقٍ في قولها، وكان قومُه يعرِفون المرادَ، وهو أنَّ العبادةَ خاصّة بربِّ العالمين، فامتَنَعوا وأبَوا وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35، 36]. دعاهم إلى الله وصَبر وصابَر، فاستجاب له القليلُ، ثم هاجر إلى المدينةِ وما زالَ داعِيًا إلى توحِيدِ الله ودينِه إلى أن انتقلَ إلى الرّفيقِ الأعلَى بعدما تركَ أمّتَه على المحجَّة البيضاء، وقد أكملَ الله به الدّينَ، وأتمَّ به النّعمةَ فصلوات الله وسلامه عَليه، أدَّى الأمانةَ، وبلّغ الرسالةَ، ونصح الأمّةَ، وجاهد في الله حقَّ الجهاد.
أمّةَ الإسلامِ، إنَّ محمّدًا نهى أمّتَه عنِ الشّركِ قليلِه وكثيرِه، وحَذَّرهم من الشّركِ ومن كلِّ وسيلةٍ تفضِي إليه، مِن كلِّ ذريعةٍ تؤدِّي إليه؛ حمايةً لجنابِ التوحيدِ، وتحذيرًا للأمّة منَ الانزِلاق في وسائِلِ الشّرك، تحذيرًا لهم لأنَّ من حامَ حولَ الحِمى يوشِك أن يقعَ فيه، فكان صلوات الله وسلامه عَليه قائمًا بأمرِ هذه العقيدةِ خيرَ قِيامٍ، أقام بمكّة سِنينَ لم تُفرَض عليه الصلواتُ الخمس إلاّ في آخرِها، وكلّها أعوامٌ مجرَّدَة للدّعوة للتّوحيد وتحذيرًا منَ الشّرك وبيانًا لمفاسدِه وأضرارِه وسوءِ عاقبته في الدّنيَا والآخرة.
أيّها المسلم، فكَما نهى نبيُّنا عنِ الشّرك الصّريحِ وعَن أمرِه الواضِح نهانَا أيضًا عن كلّ وَسيلةٍ تفضي بنا إليه، عن كلِّ ذريعةٍ تقرِّبنا إليه، فإنّه حَمَى حِمَى التوحيدِ، وسَدَّ كلَّ الطّرُقِ الموصِلة إلى الشّرك، وحذَّر أمّتَه من وَسائلِ الشّركِ تحذيرًا عظيمًا، حتى في آخِرِ نفَسٍ من أنفاسِ حياتِه.
إنَّ أَعظمَ وَسيلةٍ تمسَّك بها عَدوّ الله دعوةُ النّاس إلى تعظيمِ الصّالحين وتَعظيمِ ذوِي الفضلِ والتّقَى، قائِلاً لهم: إنّ هَؤلاء أهلُ صَلاح يشفعون لكم عندَ ربّكم، فادعوهم واذبحوا لهم وانذُروا لهم واستَغِيثوا بهم واستجِيروا بهم ولوذوا بهم، كلّ هذا مِن وساوِس الشّيطان، ومحمّدٌ لمّا كانَ عظيمَ النّصيحةِ لأمّتِه كما قال الله عنه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] صَلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدينِ نهانا أن نغلوَ فيه وأن نرفعَه فوقَ منزلتِه التي أنزله الله إيّاها، فهو عبد الله ورسوله، شرّفَه الله بالعبوديّة له في أشرفِ المقامات: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، فهو عبدٌ لربِّه، عابِد له، مطيعٌ له، خاشِع له، خاضِع له، أعظَمُ الخلق تعظيمًا لله، وأعظم الخلقِ حبًّا لله، وأعظَم الخَلق خَشية لله، أعظَم الخلق طاعةً لله، صلوات الله وسلامه عَليه أبدا دائمًا إلى يومِ الدين.
علم أنَّ ضَلاَل من ضلَّ مِنَ الأمم قبلَه إنما هو بتعظيمِ قبورِ وضَرائِح الأولياء والبناءِ عليها واتِّخاذها مساجدَ والطوافِ بها وسؤال أهلِها كشفَ الحاجات والضّرورات والتعلّق بها وأخذ شيءٍ مِن ترابها والسّجود عليها والطواف بها والصّلاة عندها وتقريب الهدايا والنذور لها، علِم أنَّ هذه الضّلالات هي التي أوقعتِ الأممَ فيما أوقعتهم فيه.
فمن حبِّه لأمّته ونصحِه لأمّته وشفَقَته على أمّته وحِرصِه على هِدايتِهم كان شديدَ التحذيرِ مِن كلّ وسيلةٍ تقرِّبهم إلى الشرك، ففي آخرِ حياتِه تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما وهي التي ماتَ النبيُّ في حجرِها بين حاقِنَتِها وذاقِنَتها رضي الله عنها وأرضاها وعن أبيها وأمِّها، تقول: لمّا نزل برسولِ الله ـ أي: الموت ـ طفق يطرَح خميصةً له على وجهِه، فإذا اغتمَّ بها كشَفَها من سكراتِ الموت وآلامه، وهو يقول: ((لعَنَ الله اليهودَ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ)) [1] ، ((ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك)) [2] ، وقال لهم : ((اللّهمَ لا تجعَل قبرِي وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضب الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد)) [3]. ولولا هذا الخوفُ لأبرز الصحابة قبرَه في البقيعِ [4] ، لكن علِموا شدّةَ بغضه للشّرك وكراهيّته للغلوّ فيه، فدفنوه في حجرتِه حِرصًا منه عليه السلام وكراهيّةً لأن يناله أذى الشركِ بعدَ موته رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهو نهانا عن الغلوِّ فيه فقال: ((لا تطروني كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [5] ، وقال أيضًا : ((إيّاكم والغلوَّ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) [6]. رأى أحدُ أفرادِ بيت أهلِ رسولِ الله رجلاً يأتي عند قبرِ النبيّ فيسأل، فقال: يا هذا، لا تفعَل، فإنَّ رسولَ الله يقول: ((لا تتَّخِذوا قبري عيدًا، وصلّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني أين كنتم)) [7] ، وفي الحديث: ((إنَّ لله ملائكةً سيّاحين يبلِّغوني عن أمّتي السلام)) [8] ، فمن صلَّى عليه في أقصى الشّرق أو الغَرب كمن صلّى عليه بقربٍ مِن قبره صلوات الله وسلامه عليه.
أمّةَ الإسلام، إنَّ هناك فئةً ممّن أضلَّ الله عقولَهم وأعمَى بصائرَهم وصدَّهم عن الصراط المستقيم يرونَ الغلوَّ في قبورِ الأنبيَاء بالبناءِ عليها وتشيدِ البناء عليها واتِّخاذ تربتها مسجِدًا، يرون ذلك دينًا وإسلامًا، وهذا معاكَسَة لهديِ محمّدٍ ، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
إنَّ هديَ نبيِّنا وسنّتَه في القبورِ معروفة، فالله جلّ وعلا شرعَ أن يقبَرَ الميِّت حِفاظًا على شخصيَّته، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، فشرع أن يُوارَى الميّت في لحدِه، وأن يُوارى جسدُه حتى لا تتعدَّى عليه السّباع، فيوضَع في لحدِه، ويغلق اللّحد باللّبن، ويُهَال عليه التراب، ويصبِح مرتهَنًا في قبرِه بعمله، انقطع عِلمه بكلّ شيء، وأصبَحَت الروحُ في جِهة والجسد في جهةٍ أخرى، ولهذا النبيّ يقول: ((ما مِن مسلم يسلِّم عليَّ إلاّ ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) [9] ، فروحه مفارِقَة لجسَدِه، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30، 31].
هديُ النبيِّ هَذا في القبورِ، شرعَ لنا أن نزورَ الميِّت للدّعاء له والترحّم عليه، وأن نقول: ((السلامُ عليكم أهلَ الدّيار منَ المسلمين والمؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفِر الله للمستَقدِمين منا ومنكم والمستأخِرين، نسأل الله لنا ولكم العافية)) [10].
هذه الزّيارةُ الشرعيّة التي شرَعَها لنا نبيُّنا بقوله: ((كنتُ نهيتكم عن زِيارة القبور، فزوروها فإنها تذكِّركم الموتَ)) [11]. فلمَّا قوِيَت عَقيدةُ التوحيدِ في القلوب أُذِن لهم بزيارةِ الأموات للاتِّعاظ والاعتبار والإحسانِ إلى الميّت بالدعاء له فقط.
لم يشرَع لنا أن نصلِّيَ عند القبرِ، بل الصلاةُ في المقبرةِ غير الصلاة على الجنازة محرَّمٌ، في الحديث: ((لا تصلّوا إلى القبورِ ولا تجلِسوا عليها)) [12] ، لا تصلّوا إليها ولا تجلسوا عليها، فلا تعظِّموها ولا تهينوها، وفي الحديث يقول عليّ لأبي الهيّاج: ألا أبعَثك على ما بعَثني عليه رسول الله ؟! أن لا تدَع تمثالاً إلا طمَسته، ولا قبرًا مشرِفًا إلا سوَّيته [13].
أهلُ القبور قد فارَقت أرواحُهم أجسادَهم، لا ينفعون داعِيَهم ولا يسمعونه، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106].
إذًا فهؤلاء الذين ينادُون بتعظيم القبور أو ينادون بأن يُعاد البناءُ على الضّرائح أو يدعون إلى شيءٍ من هذا إنما هم دُعاة ضلالٍ لا دعاة هدى، ودعاة كفرٍ لا دعاةُ إسلام، فإنَّ الله جلّ وعلا بيَّن الحقَّ على لِسان نبيِّه ، والحرمان الشريفان ـ زادهما الله أمنًا واطمئنانًا واستقرارًا ـ منذ أن شرَّفَ الله الملكَ عبد العزيز رحمه الله بخدمتِهما ورعايتِهما والقيامِ بحقّهما وتبِعه على ذلك الملوكُ من أبنائِه بعده والحرمَان الشريفان في عزّةِ التوحيد وسلامةِ المبدأ، والقبورُ مهما كانت منزلتُها يعامِل المسلمون القبورَ بالعدل، يسلِّمون على الموتى، يزورونهم للدّعاء لهم، لكن لا يستغيثون بهم، ولا يطوفون بالقبورِ، ولا يسمَحون لمن يرفَع صوتَه عند القبور بقراءةِ قرآن أو أدعيةٍ باطلة، ويرونَ ذلك ضلالاً وشركًا؛ لأنّ القبور أهلُها لا ينفَعون ولا يسمعون، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً [الأحقاف:5، 6].
لمّا فتح النبيّ مكّةَ بدَأ أوّلَ ما بدأ به بإزالة الأصنامِ والأوثان، ورأى في الكعبةِ صورةَ إبراهيم وإسماعيلَ وهما يستقسِمان بالأزلام فقال: ((قاتل الله أولئك، ما كان للخليل ولا ابنِه أن يستقسما بالأزلام)) ، ودمَّر كلَّ الأصنام التي بجوارِ البيت، وكانت إذَّاك ما تزيد على ثلاثمائة وستين صنَمًا، ثم أمَر بهدمِ كلِّ القبور، فهدم اللاتَ والعزّى ومناة، ولمّا أسلمت ثقيف طلبوا منه أن يُبقِيَ القبورَ أيّامًا رِفقًا بالصغار والنساء، فقال: ((ولا ساعةً من الساعات)) ، وأمر بهدمِها كلِّها؛ إذ هي ضلالٌ تخالف ما دعَا إليه محمّد.
فالمسلمون يفرَحون بهذا، ويسَرّون ببقاء العقيدة الصافيةِ السليمةِ الخاليَة من الشركِ وذرائعِه ووسائلِه وكلّ ما يفضي إليه.
إنَّ محبّتَنا لرسولِ الله أصلٌ من أصل إيماننا، وإنَّ حبَّنا له فوق حبِّ النفس والولدِ والأهل والمال من كمال إيماننا، وإنَّ حبَّنا لآل بيتِ رسول الله حبُّنا لهم حبّ شرعيّ لمحبَّتنا لمحمد ، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، لكنّنا لا نغلو في قبرِ أحدٍ، ولا نرفع أحدًا عن منزلتِه، ونعتقد حقًّا أنّ العبادةَ لله، وأنَّ أهلَ القبور لا يسمعون ولا ينفعون، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]، إنما رجاؤُنا وتعلُّق قلوبِنا بربّنا الذي لا تأخذه سنة ولا نومٌ، الحي القيوم الذي يقول لنا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، والذي يقول لنا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186].
كم ضلَّ أولئك الذين عظّموا القبورَ، كم ضلّوا في مساعيهم، وأخطؤوا في تصوُّراتهم، وساءت أفعالهم، والله يقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال عن أنبِيائه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
إذًا فعقيدة المسلمين الصحيحةُ هي زيارة القبورِ الزيارةَ الشرعيّة وتحريمُ رفع البناء وتحريم البناء عليها والمنع من الصلاةِ عندها والمنع من الطواف بها والمنع من إهداءِ القربان لها والمنع مِن أخذِ تربَتِها ودعوة الناس إلى تجريدِ توحيدهم لرَبهم وخالقِهم جلّ وعلا، هذا دينُ الله، وهذه شريعَة محمّد ، وهذا هو عمَل المسلمين في القرونِ الخاليَة الماضيَة، وهذا ما عَليه هذه البلادُ منذ الدعوةِ الإصلاحيّة التي قام بها الشيخ محمّد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشدّ أزرَه وأعانَه على طريقتِه الإمام محمّد بن سعود رحم الله الجميع وأبقى في الجميع الخيرَ وسائرَ المسلمين، هذه عقيدة المسلِمين ودعوتهم الدعوة الصادِقَة المبنيّة على الكتاب والسنّة، لا على الآراء والظّنونِ والتخرّصات الباطِلَة التي يطلِقها من لا دينَ له ومَن لا إيمانَ عنده، ويزعم أنَّ هذا حبٌّ لأولئك الصّالحين، وإنَّ المحبّة الشرعيّة شيءٌ، وإن الغلوَّ والباطل والأكاذيبَ شيء آخر.
أعاذَنا الله وإيّاكم من الشّرك قليله وكثيرِه، وحفِظَ علينا عقيدَتَنا، وثبَّتنا عليها إلى أن نلقاه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (436)، ومسلم في المساجد (531) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في المساجد (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مالك في كتاب النداء للصلاة (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظنّ ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا به في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي ، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف".
[4] كما قالت عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري في الجنائز (1390)، ومسلم في المساجد (529).
[5] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[7] أخرجه أحمد (2/367)، وأبو داود في كتاب المناسك، باب: زيارة القبور (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه النووي في الأذكار (154)، وابن حجر في الفتح (6/488)، والألباني في أحكام الجنائز (ص213) وتحذير الساجد (ص140).
[8] أخرجه أحمد (1/441)، والنسائي في كتاب السهو، باب: السلام على النبي (1282)، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في فضل الصلاة على النبي (2774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (914)، والحاكم (2/421)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2170) وصحيح الترغيب (1664).
[9] أخرجه أحمد (2/527)، وأبو داود في المناسك (2041)، والبيهقي في الشعب (3/491) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه النووي في المجموع (8/272)، وابن تيمية في الاقتضاء (2/173)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (436)، وقال ابن حجر في الفتح (6/488): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1795).
[10] أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور (974، 975) عن بريدة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (5/350، 355، 356، 361)، وأبو داود في الجنائز (3235)، والترمذي في الجنائز (1054)، والنسائي في الضحايا (4430) من حديث بريدة رضي الله عنه، وأصله في مسلم في الجنائز (977) من غير ذكر حكمة الترخيص.
[12] أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر (972) عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر (969).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
واعلَموا أنَّ الخيرَ كلَّه في اتباع مَن سلَف، والشّرّ كلَّه في الاقتِداء بمن خَلَف وخالَفَ الحقَّ والهدَى، يقول : ((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليسَ مِنه فهو ردّ)) [1] ، ويقول: ((مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)) [2] ، فالعمل الحقّ والعبادة الحقّةُ ما كان عليه محمّد وأصحابُه، فهي العبادة الحقّة، وهو الدّين القيِّم، وما عدا ذلك فضلالٌ.
فلنتَّقِ الله في أنفسِنا، ولنتمسَّك بعقيدتنا الصحيحة، ولنُوضح للمَلأ هذه العقيدةَ الصافية المبنيّة على الأدلّة من الكتابِ والسنة، ليَحيَا من حيي عن بيّنة، ويهلَك من هلك عن بيّنة، والله حكيم عليمٌ في إضلالِ من يضلّ وهدايةِ من يهتدي، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعَة المسلِمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في كتاب البيوع وفي كتاب الاعتصام.
(1/4409)
أخلاق النبي
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
خلف بن حمود الشغدلي
المدينة المنورة
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء الله تعالى على الرسول. 2- خلُقه القرآن. 3- كرمه وجوده. 4- شجاعته. 5- لينه ولطفه وتواضعه. 6- كلامه وحياؤه وزهده. 7- أسماؤه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلون، لقد سمعتم فيما مضى شيئا من صفات النبيّ وشمائله الخِلقِيّة والجسديّة، وأمّا عن صفاته الخلُقية فلقد كان أكمل الناس خُلُقا، وكيف لا يكون هذا وقد زكى الله عقله فقال: النَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1، 2]، وزكى الله لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، وزكى الله جليسه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5، 6]، وزكاه ربه كلَّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، أي: إنك ـ يا محمد ـ على دين وأدب عظيم.
روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقال: نعم، فقالت: كان خلقه القرآن. ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجيّة له وخلُقا تطبَّعه وترك طبعَه الجبلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكلّ خلق جميل.
عباد الله، ففي الكرم كان رسول الله أكرم الناس، يعطي عطاء لا تبلغه الملوك، سأله رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومي، أسلموا؛ فإن محمّدا يعطي عطاءَ من لا يخشى فاقة. وقال جابر رضي الله عنه: ما سئِل رسول الله شيئا فقال: لا.
ولقد تعلّق الأعراب به يسألونه أن يقسم بينهم الغنائم في مرجعه من حنين، فقال : ((لو كان لي عدد هذه العضاة نعما ـ أي: إبلا ـ لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا)).
ولقد كان يؤثر على نفسه وعلى أهل بيته، ويعطي العطاء وهو إليه محتاج، ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أخي، إن كنا ننظر الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قلت: يا خاله، فما كان طعامكم؟! وما كان يعيشكم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار، وكانت لهم منايح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا. متفق عليه.
الله أكبر! هذا هو بيت رسولنا وإمامنا وقدوتنا، أين قادة ورؤساء الديانات الباطلة ورؤوس الناس وقادات الجماعات الضالّة والفصائل المنحلّة والمذاهب الهدّامة ومدّعو الديمقراطيّة الذين يتشدّقون بالكلام ويغرّرون الناس، والله يعلم أنهم سلبوا الناس أموالهم وحرياتهم وكراماتهم؛ ليعيشوا في النعيم الزائل ويشيّدوا عالي العمارات ويتمتّعوا بعالي المقامات وسائر الشهوات.
عباد الله، على مستوى المسلمين وذرونا من الكفار والكفر، فليس بعد الكفر ذنب، حدثني من أثق به أن هناك رجالا في بلد من بلدان المسلمين تزعّموا جماعة، ويا للأسف فكلّ يوم ينشقّ من المسلمين جماعة تضلّل عامّة المسلمين وتزعم أن الإسلام فيها، والمسلمون جماعة واحدة، ربّهم واحد، ورسولهم واحد، وقِبلتهم واحدة، ودينهم واحد. قال: وكان زعماء هذه الجماعة يخطبون بالنّاس، ويجمعونهم على غير كتاب الله وسنة رسوله، حتى صاروا حزبًا وحَربًا؛ حزبًا من دون الناس، وحربا على غيرهم، عامة أتباعهم فقراء عالة، قال: وهم شيّدوا القصور وجمعوا الأموال من الناس، فسكنوا القصور ونسوا القبور، وأخذوا الأموال ونسوا الوبال.
اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اجمع شتات المسلمين وارفع ما حل بهم، اللهم اجمع المسلمين على كتابك وسنة رسوله وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجمع كلمتنا ووحد صفنا وقوّ شوكتنا وأظهرنا على عدونا، واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا رخاء وسائر بلاد المسلمين، آمين آمين آمين.
عباد الله، وفي الشجاعة كان أشجع الناس وأمضاهم عزما وإقداما، كان الناس يفرّون وهو ثابت، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لما التقى المسلون والكفار ـ يعني في حنين ـ وولى المسلون مدبرين طفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وكان يقول حينئذ: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد الطلب)). وقال على رضي الله عنه: كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتّقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب للعدو منه. وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت ـ أي: ناحيته ـ فتلقّاهم رسول الله قد سبَقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحه لا سرج عليها والسيف في عنقه وهو يقول: ((لن تراعوا)).
ومع هذه الشجاعة العظيمة والبأس القوي فقد كان لطيفًا رحيما، فلم يكن فاحشًا ولا متفحّشا ولا صخّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. قال أنس رضي الله عنه: خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي: أف قطّ، ولا لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويضعهم في حجره، وربما بال الصبيّ في حجره فلا يعنف.
وكان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة مخافة أن تفتن أمه.
وكان يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وجاء الحسن والحسين ريحانتي رسول الله وسبطيه، وجاءا والرّسل يخطب الناس، فجعلا يمشيان ويعثران، فنزل النبي من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)).
أما كلامه فكان كما قالت أم المؤمنين عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه. متفق عليه. قال أنس: كان رسول الله يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه. رواه البخاري والترمذي.
وأما حياؤه فقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
وقال الحسين بن علي رضي الله عنهما: سألت أبي عن سيرة النبي في جلسائه فقال: كان دائم البشر سهل الخلق ليّنَ الجانب، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيِس راجيه، لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، وكان يصبر على جفوة الغريب في منطقه ومسألته، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّزه بانتهاء أو قيام.
وكان أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة، خيّره الله بين أن يكون ملكا نبيّا أو عبدا نبيّا فاختار أن يكون عبدا نبيّا.
أيها المسلمون، هذه درر وقطوف من أخلاق المصطفى ، فاتخذوها نبراسا لكم، واتبعوه لعلكم تهتدون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد ذكرنا شيئا من خصاله وأخلاقه ، وها نحن نعرج على أسمائه التي وردت في الصحيح.
قال جبير بن مطعم رضي الله عنه: قال رسول الله : ((لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد)) ، فبدأ بأشهر أسمائه، فمحمد أشهرها، وورد وتكرر في القرآن المجيد، وأما أحمد فذكر في القرآن حكاية عن قول عيسى عليه السلام، وهو على صيغة التفضيل من الحمد، والأنبياء كلهم حمادون، وهو أحمدهم أي: أكثرهم حمدًا.
ثم قال: ((وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ـ أي: أكون أمامهم وهم ورائي وعلى أثري ـ ، وأنا العاقب)) رواه البخاري ومسلم والترمذي، وزاد مسلم: ((ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم)).
ومعنى العقب، أي: الذي ليس بعده نبي، فهو عقب جميع الأنبياء.
قال ابن حجر رحمه الله: "ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير والمذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر. ومن أسمائه المتوكل كما في حديث ابن عمرو، ومن أسمائه المشهورة المختار والمصطفى والشفيع والمشفع والصادق والمصدوق".
ثم قال رحمه الله: "وغالب هذه الأسماء التي ذكرت هي وصف وصِف بها النبي ، ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية".
وروى الترمذي عن حذيفة قال: لقيت النبي في بعض طرق المدينة فقال: ((أنا محمد، وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة، وأنا المقفى، وأنا الحاشر ونبي الملاحم)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم ، وكل شيء عنده بمقدار، فأعدوا العدة، واحذروا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
يا عبد الله، كن كما تشاء فكما تدين تُدان، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فالمهلة اليوم والحساب غدا.
عباد الله، إذا سألتم فاسألوا الله، وإذا استعنتم فاستعينوا بالله، وتوكلوا على الله حقّ التوكل، واعتمدوا عليه، فإنه من اعتمد على عقله ضلّ، ومن اعتمد على ماله قلّ، ومن اعتمد على الناس ملّ، ومن اعتمد على قوّته ذلّ، ومن اعتمد وتوكّل على الله فلا ضلّ ولا قلّ ولا ملّ ولا ذلّ.
(1/4410)
خطبة استسقاء 8/10/1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
8/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله تعالى بإجابة الدعاء. 2- فضل الطاعة وأهميتها. 3- فساد الكون بفساد الإنسان. 4- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 5- افتقار العباد إلى الله تعالى. 6- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الناس، إنّكم شكَوتم إلى الله جدبَ دِياركم واستِئخارَ المطر عن إبَّان زمانِه عنكم، وقد وعدَكم الله عز وجل على دعائِكم، وأمرَكم بالدعاء، ووعدُه الحقّ، فقال تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، فأمركم الله بالدعاء، ووعدكم الإجابةَ، فاصدُقوا الله تعالى في دعائكم؛ فإنه عزّ وجلّ لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلمون، إنّ الله تبارك وتعالى جعَل الطاعةَ مشتملةً على الخيرِ كلِّه في الدنيا والآخرةِ، فجعل الخيرَ في هذه الدنيا وفي الآخرة في طاعةِ الله عز وجلّ، قال تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وقال تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]، وقال عزّ وجلَّ: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52]، وجعل الشرَّ كلَّه في الدنيا والآخرة في معصيةِ الله عز وجلّ، قال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23].
أيّها الناس، إنَّ للهِ تبارك وتعالى سُننًا في هذا الكون، قد أحكمها وأرادها وقدَّرها، وإنَّ صلاحَ هذا الكون جعَله الله تبارك وتعالى مرتبِطًا بصلاح الإنسان، إنَّ نيّةَ الإنسان وعملَه يَسرِي في هذا الكون عُلوِيِّه وسفليِّة بإرادةِ الله عز وجل؛ لأنّ الله عز وجلّ كلَّف المكلَّفين فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية:22]، فإنَّ الإنسان يجني ثمراتِ عمله الصالح في هذه الدنيا وفي الآخرةِ، وإنّه يصيبُه شرّ عمله في هذه الدنيا وفي الآخرة، وما يعفو الله عنه فهو أكثَر.
أيّها الناس، إنّه ما نزل بلاءٌ إلاّ بذنب، وما رُفِع إلا بتوبةٍ، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. وإنَّ الله أجرَى سنّتَه أنّ الإنسان إذا صلَح عمله أصلَح الله له كلَّ شيء، وإذا خالف أمرَ الله تبارك وتعالى أصابَه الله ببعض ذنوبِه، قال تبارك وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وأمَرَكم الله تبارك وتعالى بالرّجوع إليه، وقال تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عنِ النبيِّ قال: ((يقول الله تعالى: لو أنَّ عبيدِي أطاعوني لأنزَلتُ عليهم المطَرَ في اللّيل وأظهَرتُ لهم الشمسَ في النهار ولما أسمَعتُهُم صوتَ الرعد)) رواه الإمام أحمد [1]. وهذا الحديثُ يفيد بأنَّ العبادَ لو أطاعوا اللهَ عزّ وجل ورغِبوا إليه فإنَّ الله تبارك وتعالى ينزِل عليهم المطرَ، مطرًا لا أذَى فيه، مطرًا هنيئًا مريئًا، لا يقطع أشغالَهم، ولا يسمعون فيه ما يُؤذيهم. فانظروا ـ عبادَ الله ـ كيف رغَّب الله في طاعته وجعَلها سببًا لكل خير.
فاتَّقوا الله أيّها الناس، توبوا إلى اللهِ عزّ وجلّ؛ فإنَّ الله عزّ وجل لا تخفَى عليه خافِية، وإنَّ ربَّكم عز وجل يعلَم أنَّ ابنَ آدم سيعصي الله، وأنه سيتوب إلى الله إذا وفَّقه الله، وإنما أمَرَكم الله عزّ وجلّ أن تتوبوا إليهِ وأن ترجِعوا إليه كما قالَ النبيّ : ((كلُّ ابن آدم خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون)) [2] ، وعن النبيِّ عليه الصلاة والسلام في صحيحِ مسلم: ((والذي نفسِي بيدِه، لو لم تذنِبوا لذهب الله تعالى بكم ولَجَاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفِر لهم)) [3].
أيّها الناس، إن اللهَ تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]. اللّهمّ إنّا فقراء إليك في كلِّ أمورنا، فعُد علينا بفضلِك، واغفر لنا ذنوبَنا يا أرحم الراحمين، ولا تكلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين. وقد جاء عن ابن عمَر رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبيَّ قال: ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ بخمس وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: ما ظهرَتِ الفاحشة في قوم حتى يعلِنوا بها إلاّ ظهر فيهم الطاعون والأمراضُ التي لم تكُن في أسلافِهم من قَبل، ومَا منَعوا زكاةَ أموالهم إلا حبِس عنهم القطرُ من السّماء، ولولا البهائمُ لم يمطَروا، وما لم تحكُم أئمّتُهم بكِتاب الله إلا جعَل الله بأسَهم بينهم، وما نقَضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا فأخذَ بعضَ ما في أيديهم، وما نقَصوا المكيالَ والميزان إلاّ أخِذوا بالسنين وشدّة المُؤنَة وجورِ السلطان)) رواه ابن ماجه [4].
فيا عبادَ الله، توبوا إلى الله عز وجل، من كان له مظلَمةٌ عند أخيه فليستحلّه مِنها ولْيؤدِّ إليه مظلَمَته، يوم القيامة لا درهمَ ولا دينار، وإنما هي الحسناتُ، يُعطى المظلومُ من حسناتِ الظالم، فإن فنِيَت حسناتُ الظالم أخِذَ من سيّئات المظلوم، فطرحت على الظالم، ثم طرِحَ في النار والعياذ بالله.
فاتقوا الله أيّها الناس، اللّهمّ إنّا فقراء إليك في كلِّ أمورنا، اللهم إنا فقراء إليك في كل أمورِنا وفي كل أحوالنا، لا نستغني عن رحمتِك طرفةَ عينٍ يا ذا الجلال والإكرام، فلا تكِلنا إلى أنفسنا.
اللهم إنا فُقَراء إليك في ابتداءِ خَلقِنا، ذكرتَ لنا ذلك في كتابِك في قولك: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14].
اللهم إنا فقراء إليك في طعامِنا وفي شرابِنا، ذكرتَ ذلك لنا في كتابِك في قولك عزّ وجلّ: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:33-35]، وذكرتَ لنا ذلك في قولِك تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70].
نحن الفقراء إليك في لباسِنا، ذكرتَ لنا ذلك في قولك تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى [الأعراف:26].
ذكرتَ لنا أنّنا فقراءُ ـ يا ربَّنا ـ في كلِّ أحوالنا وفي كلّ أمورِنا، ونحن مقِرّون لك بالعبوديّة لا إله إلا أنت.
اللّهمّ لا تكِلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين، اللّهمّ اغفِر لنا ما قدّمنا وما أخَّرنا وما أسرَرنا وما أعلنّا وما أنت أعلمُ به منّا يا رب العالمين، اللّهمّ اغفِر لنا إنّك كنتَ غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا، اللّهمّ أغِثنا، اللّهمّ أغِثنا، اللّهمّ يا وليّ يا حميد يا رحمن يا رحيم يا ربَّ العالمين، اللّهمّ أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا عاجِلاً غيرَ رائث، اللّهمّ أغِثنا غيثًا مُغيثًا هَنيئًا مَرِيئًا مريعًا غَدقًا سحًّا عامًّا مجلِّلا، اللّهمّ أنزل في أرضِنا بركتَها وزينَتها يا ربَّ العالمين، اللّهمّ سقيا رحمةٍ، لا سقيا عذابٍ ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللّهمّ أحيِ بلدَك الميّت، اللّهمّ وأغِث عبادَك يا ربّ العالمين، وأسقِ بهائمك يا أرحم الراحمين ويا ربَّ العالمين.
اللّهمّ لا تؤاخذِنا بما فعل السّفهاء منّا، اللهم هؤلاء عبادُك يستغيثونَك يا ربَّ العالمين، اللهم هؤلاء عبادُك يطلبونَك ويدعونك يا ربَّ العالمين بعد فريضةٍ عظيمة، وقد قبِلتَ صيامَهم وقيامهم، اللّهمّ فأغِثنا يا ربَّ العالمين، اللهم أغِثنا غيثًا عاجلاً يا أرحمَ الراحمين، ولا تردَّ عنّا فضلَك يا ربَّ العالمين، اللهم لا تمنع عنا فضلَك بذنوبنا، فإنّك أنت الغفور الرحيم، اللّهمّ إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تستجيبَ لنا، إنك أنت الله لا إله إلا أنتَ قريبٌ مجيبٌ يا أرحمَ الراحمين.
عبادَ الله، أخلِصوا الدعاءَ لله، فإنه قريب مجيبٌ، يحبّ دعاءَ الملحِّين، ويجيب دعوةَ الدّاعين والمضطرّين، وتوجَّهوا إلى الله بسؤالٍ ودعاء مخلص لله، وأقلِبوا لباسكم تأسّيًا بسنّة رسول الله [5].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل دعاءَنا، وأن يغيثَنا، وأن يعجِّل بالغِياث للعبادِ والبلاد، وأن يجعل ذلك بلاغًا للحاضر والباد وقوّة لنا وبَلاغًا إلى حين، إنه على كلِّ شيء قدير، وهو أرحم الراحمين لا إله إلا هو.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
[1] مسند أحمد (2/359)، ورواه أيضا عبد بن حميد (1424)، والطيالسي (2586)، وصححه الحاكم (3331، 7657)، قال الهيثمي في المجمع (2/451): "مداره على صدقة بن موسى الدقيقي، ضعفه ابن معين وغيره، وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا صدقة الدقيقي وكان صدوقا"، زهو في السلسلة الضعيفة (883).
[2] أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، والدارمي (2727) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "غريب"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[3] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الاستسقاء (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا يوجد.
(1/4411)
على عتبة العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
18/9/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل العشر الأواخر من رمضان. 2- فضيلة قيام الليل والدعاء. 3- التذكير بأداء الزكاة وبذل الصدقة. 4- حرمة شهر رمضان. 5- الحث على اغتنام ما بقي من الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوَى.
أيّها المسلمون، شرُفت هذه الأمّةُ بشهرٍ تتطهَّر فيه النفوس من العصيان والآثام ومن مساوئ الأفعال والخصال، يشغَل المسلِمون فيه أوقاتَهم بالطّاعة وتِلاوة القرآن، ينزِّه الصيامُ نفوسَهم، ويهذِّب القِيامُ أخلاقَهم، ويُلين القرآن قلوبَهم، يتسَابقون في ليالِيه بالفَضائل، ويتنافسون في أيّامه بالجود، وفي عَشرِه الأواخر تزكو الأعمال وتُنال الآمَال، تقولُ عائشة رضي الله عَنها: كان النبيُّ إذا دَخَلتِ العَشر الأواخرُ أحيا الليلَ وأيقَظ أهلَه وشَدَّ المئزر. متّفق عليه [1]. وكان عَليه الصلاة والسّلام يضاعِف أعماله الصّالحةَ في شهرِ رمضان، ويخصّ العشرَ مِنها بالمضاعفةِ، تقول عائِشة رضي الله عنها: كانَ رَسول الله يجتَهِد في رمَضان ما لا يجتَهِد في غيره، وفي العَشرِ الأواخر منه ما لا يجتَهِد في غيرها. رواه مسلم [2]. إنَّها سوقٌ يتنافَس فيها المشمِّرون، وامتِحانٌ تبتَلَى فيها الهِمَم.
وفي العَشرِ الأواخرِ ليلةٌ مباركةٌ هِيَ تاجُ ليالي الدّهر، كثيرةُ البرَكاتِ، عَزِيزَة السّاعَات، القَليلُ مِنَ العمَلِ فيها كَثيرٌ، والكثيرُ منها مُضَاعَف، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، ينزِل مِنَ السّماءِ خَلقٌ عَظيم لشُهودِ تلكَ اللّيلةِ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4]، القَائمُ في ليلَتِها بالتّعبُّد مغفورٌ له ذنبُه، يقول المصطَفى : ((مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه)) متّفق عليه [3]. فيها تُفتَح الأبوابُ ويسمَع الخطاب، يصِل فيهَا الرّبّ ويقطَع، يعطي ويمنَع، يخفِض ويرفَع، تقول عائشة رضيَ الله عنها: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: ((قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي)) رواه الترمذي [4].
أيّها المسلِمون، أفضل الصلاةِ بعد الفريضةِ صَلاة الليل، ولم يكنِ النبيّ يدَعُ قيامَ اللّيل في سفرٍ أو حضَر، وكان يصلّيهِ قائمًا وقاعدًا حتّى تتفطّر قدَماه. وسارَ رَكبُ الصحابة المبارك على هديِ ربِّهم في ذلك، قال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، وقال سبحانه في وصفِ الصحابة: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].
والقيامُ للهِ في الظُّلَم من أعمَال أهل الإيمان، كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]. وصَلاةُ اللّيل أعظم ما يُرجَى وأزكَى ما يُقدَّم، وهي مِن أسبابِ دُخولِ الجِنان، يقولُ عليه الصّلاة والسّلام: ((يا أيّها النّاس، أفشُوا السّلامَ وأطعِموا الطّعامَ وصِلوا الأرحامَ وصَلّوا باللّيل والنّاسُ نِيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بسَلامٍ)) رواه الترمذي [5]. ولَيالي رَمضانَ مبَشَّرٌ من قامَها بغُفرانِ الذّنوبِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن قامَ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه)) متّفق عليه [6].
أيّها المسلمون، الدّعاءُ حَبلٌ ممدود بين السّماء والأرض، وهو المغنَمُ بلا عَناءٍ ومِن أنفعِ الأدوِيَة للدَّاء، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، في كلِّ ليلةٍ ساعةُ إجابةٍ، الأبوابُ فيها تفتَّح، والكَريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شِئتَ، فخزائِن الله ملأَى، والمعطِي كريم، وأيقِن بالإجابةِ فالربُّ قديرٌ، وبُثَّ إليه شكواك فإنّه الرّحيم، يقول النبيّ : ((إنَّ في اللّيلِ ساعةً لا يوافِقُها رجلٌ مسلِم يسأَل الله خيرًا مِن أمرِ الدّنيَا والآخرَةِ إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ)) رواه مسلم [7]. ونَسَماتُ آخِرِ اللّيل مظِنّة إجابَةِ الدّعوات، قيل للنّبيّ : أيّ الدّعاءِ أسمع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخر ودبُر الصلوات المكتوبة)) رواه الترمذي [8].
والعبدُ مفتقرٌ إلى محوِ أدران خطاياه والانكسار بين يدَي اللهِ والافتقارِ إليه، ومِن أرجَى أحوال التذلُّل الاعتكاف في بيتٍ من بيوت الله طلبًا لعفوِ الله، وكان نبيُّنا يعتَكف العشرَ الأخيرةَ من رمَضان [9]. وإذا قرب العبد من ربِّه لطَفَ الله به، وساق إليه الإحسانَ من حيثُ لا يشعُر، وعصمَه من الشرِّ من حيث لا يحتَسِب.
أيّها المسلمون، الزّكاةُ رُكنٌ من أركانِ الإسلام ومبنًى من مبانِيه العظام، فيها تقوَى أواصِرُ المودَّة بين المسلِمين، وفيها تطهيرُ النفوسِ وتزكِيَتها من الشحِّ، يقول عزّ وجلّ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وهِيَ حقٌّ واجِبٌ وشريعة عادِلة، فيها استِجلاب البركةِ والزيادةِ والخُلف من الله، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]. في الزكاةِ سموٌّ بالأرواح والأخلاقِ بالجود والسّخاء، بها يكتَمِل العدلُ ويعمُّ الرّخاء ويسعَد الفقراء، وهي حِليَة الأغنياء وزِينة الأتقياء ووصيَّة الأنبياء، قال عزّ وجلّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54، 55].
وجاء الوعيدُ في حقّ من بخل بها، قال سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، يَقول عَليه الصلاة والسلام: ((من آتاه الله مالاً فلَم يؤدِّ زَكاتَه مثِّل له مالُه شجاعًا أقرع ـ وهو الحيّة التي سقطَ فَروةُ رأسِها مِن كَثرة سمِّها ـ له زبيبَتان، يُطوَّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلِهزِمَتَيه ـ يعني شِدقَيه ـ ، ثمّ يقول: أنا مالُك أنا كَنزك)) ، ثم تلا النبيُّ قوله عزّ وجلّ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180]. متفق عليه [10].
فتواضَع بقلبك للمِسكين، وابذُل له كفَّ النّدى وادنُ منه واحنُ عليه، ولا تحتقِر فقيرًا فإنّ أكثرَ أهل الجنة همُ الفقراء، وأنفِق بكرَم يدٍ وسَخاوةِ نفسٍ يبارَك لك في المالِ والوَلد، والصدقةُ دواءُ الأمراض والأعراض، فابتغوا الضعفاءَ والمحاويج، وارزُقوهم ترزَقوا، وارحموهم تُرحَموا، فما اشتَكى فقيرٌ إلاّ من تقصيرٍ غنيّ.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه مِنَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعونَ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التراويح (2024)، صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1174).
[2] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1175).
[3] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3513)، وأخرجه أيضا أحمد (25384)، وابن ماجه في الدعاء (3840)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، وأقره الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (ص2487)، وهو في صحيح الترغيب (3391).
[5] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (757) من حديث جابر رضي الله عنه.
[8] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3499) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9936)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2782).
[9] أخرجه البخاري في الأذان (813)، ومسلم في الصيام (1167) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بمعناه.
[10] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1403) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلى إحسانِه، والشّكر له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأَشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عَبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وأصحابِه، وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: فللشَّهر العظيم حرمتُه، وعلَى المسلم أن يتجنَّبَ خوارقَ صيامه وأن يحفظَ بصرَه عن النظرِ إلى المحرّمات وسمعَه عن السيئات، وأن يصونَ وقتَه عن الملهيات، فللوقتِ الباقي في هذا الشهر قيمتُه، وللزمن اليسيرِ فيه قدرُه، فيه تسكَب العبراتُ بكاءً على السيئاتِ، فكم لربِّ العزّة من عتيقٍ من النارِ، وكم من أسيرٍ للذّنوبِ وصَلَه الله بعد القطعِ وكتب له السعادةَ من بعد طول شقاء.
وعلى المرأةِ أن تتجنَّبَ عثراتِ الطريق، وأن لا تخرجَ إلى الأسواقِ إلاّ لحاجةٍ، مع التزامِها بالعَفافِ والسِّتر والحياء.
وعلى المسلم أن يقدِّم في أيّام رمضان المبارَكةِ توبةً صادِقة بعملٍ مِن الباقيات الصالحات، فما الحياةُ إلاّ أنفاسٌ معدودة وآجالٌ محدودة، والأيّام مطاياكم إلى هذهِ الآجال، فاعمَلوا وأمِّلوا وأبشِروا، فالمغبونُ مَن انصرفَ أو تشَاغلَ بغيرِ طاعةِ الله، والمحرومُ من حُرِم ليلةَ القدرِ أو أدرَك شهرَ رمضان فلم يُغفَر له، قال عليه الصلاة والسلام: ((رغِم أنفُ امرئٍ دَخل شَهرُ رمضانَ ثمّ خرج فلم يغفَر له)) رواه مسلم [1].
ثم اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكَم التّنزيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه أحمد (2/254)، والترمذي في الدعوات (3545) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (908)، وهو في صحيح الترغيب (1680). وليس هو عند مسلم.
(1/4412)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بدر الدين بن محمد ناضرين
الخبر
18/4/1426
جامع السويكت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من عقاب الله تعالى. 2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين. 3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- مثل نبوي عظيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:23، 24].
عباد الله، اتقوا الله واحذروا غضبه وعقابه، واتقوا عذابًا لا يخص أهل الفجور والمعاصي وحدهم، بل يُهلكهم ومن سكت عنهم، ولا ينجو إلا من كان ينهى عن السوء، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
عباد الله، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا أن الخبث قد كثر، وأن الشر قد انتشر، وإن لم نقم بما أوجب الله علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن لم نغضب مما يُغضب الله، وإن لم تتمعر وجوهنا لانتهاك حرمات الله فلنهلكن مع الهالكين، ولنغرقن مع الغارقين، وليبدأن الله بعبد لم يتمعّر وجهه فيه، قال : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) ، وقال : ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب)) ، قالت زينب بنت جحش : يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم؛ إذا كَثُرَ الخبث)).
عباد الله، إن الله سائلنا عن قيامنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل أنكرت المنكر حين رأيته أم لا؟ وهل عملت على تغييره أم لم تعمل؟ وليس الله سائلك عن الناس: هل انتهوا عن سوئهم أم لا؟ فما على الرسول إلا البلاغ المبين.
عباد الله، يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة:71]. من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن صفة المؤمنين، وواجب عليه أن يقوم بما أمره الله بالقيام به، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل يجب هذا حتى على أصحاب المنكر وهم في منكرهم أن ينهى بعضهم بعضًا عن فعله، يقول تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، فحتى من تلبس بالمعصية واجب عليه أن يسعى لإصلاح نفسه وأن ينهى غيره عن فعلها، فترك النهي عن المنكر سبب لحلول اللعنة بالعبد حتى وإن كان من أصحاب ذلك المنكر، ولن تكون هذه الأمة خير الأمم إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن الله تعالى يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، إن قام به البعض كفى غيره، وإن لم يقم به أحد أثموا جميعًا، فلو رأيت منكرًا ولم ينكره غيرك تعين عليك إنكاره، فإن لم تفعل أثمت ومن رآه معك.
عباد الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُظهر الدين ويعز شأنه ويعليه، وبه يعرف الحلال من الحرام، وتعرف السنة من البدعة، ويَعز أهل الطاعة، ويذل أهل المعصية والفجور، ولو سَكت الناس عن إنكار المنكر لصار أمرًا عاديًا يألفه الناس، بخلاف ما لو أنكروا ونصحوا وتكلموا، يقول سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق"، ويقول الإمام أحمد: "إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً"، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله، فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمّون المؤمن فضوليًا.
فواجب على كل مسلم ومسلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب الاستطاعة، وبخاصة فيما تحت قدرتهم من منكرات البيوت وما في حكمها، قال : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). تنكر على كل من جاهر بمعصية الله مِن كل مَن خلقه الله، حتى لو لم يكن من المسلمين، من أهل الكتاب كاليهود والنصارى وغيرهم، فإنهم مأمورون بالإيمان بهذا النبي الذي أُرسل إلى الناس كافة، والذي بُعث إلى الثقلين، وهم مسؤولون عنه في قبورهم، ومسؤولون عنه يوم بعثهم ونشورهم، قال : ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) ، فهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الذين كفروا بمحمد وكذّبوه مأمورون بالإيمان به وبمتابعته، ومحاسبون على مخالفتهم شرع الله الذي أنزله عليه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر42-46]، فهم مع كفرهم وتكذيبهم بيوم الدين محاسبون على ترك الصلاة وعدم إطعام المسكين والخوض مع الخائضين، فحوسبوا بالمعاصي وأُوخذوا بها مع أنهم كفار.
ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه، بل عليه أن يسعى في إكمال نفسه مع أمره ونهيه لغيره، ولا بد لمن قام بهذا الأمر من التحلي بالرفق وسعة الصدر وإن سمع ما يكره، فلا يغضب كأنه منتصر لنفسه، ولينظر للواقعين في المعاصي بعين الشفقة والرحمة والنصح، وليعرف نعمة الله عليه حيث لم يقع فيما وقعوا فيه، ولا ينظر إليهم نظر ازدراء وإعجاب بالنفس، فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، وعليه بالتخلق بالصبر على ما يلقى، فهو ملاق أذى كثيرًا، يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وليبتعد عن المداهنة والمداراة، ولا يأسف على من هجره وقلاه، ولا يحزن على من فارقه وخذله، وليقطع أطماعه في الخلق، ويجعل تعلقه بربه ومولاه، لا يتوكل إلا عليه، فمن توكل عليه كفاه، ومن استغنى به أغناه.
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنه متى ما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ازداد ظهور الفساد، وأصبح أصحاب المنكر يأتونه بعزة وتبجح، يقوي بعضهم بعضًا على إظهار المنكرات وإعلانها, وعندها تخرب البلاد ويهلك العباد ويحل عذاب الله، وإن عذاب الله لشديد.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خير عباده، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أحمده سبحانه على نعمه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله جل في عليائه وكبريائه، وأصلي وأسلم على خِيرته من خلقه وأوليائه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لقائه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله.
عباد الله، ضرب لنا رسولنا مثلاً بينًا واضحًا يرشد من الضلالة ويهدي من العمى، إنه مثل من يأمر بالمعروف ومن يسكت عنه، مثل من ينهى عن المنكر ومن يتغافل عنه ويستحيي من إنكاره ويتغاضى عنه، قال عليه الصلاة والسلام: ((مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: ما لك؟! قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)) ، وجاء في رواية أن رجلاً منهم قال: ((ألا ترون لهذا يريد أن يغرقنا؟! فقال له آخر: دعه، فإنما ينقر مكانه)).
عباد الله، لقد كان رسولكم شديدَ الغيرة على حرمات الله، يغضب لها إذا انتهكت، وينهى عنها إذا ارتكبت، وقد كان لكُمْ فِي رسُولِ اللّهِ أُسْوةٌ حسنةٌ لِمنْ كان يرْجُو اللّه والْيوْم الآخِر وذكر اللّه كثِيرًا، فليجتهد كل منا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنعرف لهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام قدرها، ولنترك التلاوم وإلقاء التبعة على الآخرين، وحذار أن نكون ممن هان عليهم أن يعصى اللهُ ويبارزَ بالمعاصي ثم لا نحرك ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنينا، وكأن الغيرة على الدين قد عدمت من قلوبنا، ونزعم أننا أولياءُ لله نحب ما يحب ونكره ما يكره، ثم نخشى الناس ولا نخشى الله، ونُبعد عما يغضب الخلق ونُغضب الخالق، ونشتري رضا الناس بسخط الله.
ألا فلنستيقظ من غفلتنا، ولنرجع إلى رشدنا، ولنتذكر أن الله إنما خلقنا لنعبدَه، لا لنكون عبيدًا لهذه الدنيا، نجامل الناس على حساب الدين، ونداهن الناس ونغضب رب العالمين، ألا رُبَّ كلمة تتكلم بها من رضوان الله لا تُلقي لها بالاً تكون سببًا لسعادتك في الدارين، قال : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم القيامة)).
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا ممن استعمله لنصرة دينه وإعلاء كلمته.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال جل من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وأحبهم إلى يوم الدين...
(1/4413)
السحر والسحرة
الإيمان, فقه
المرضى والطب, نواقض الإيمان
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الإشراك بالله. 2- السحر والشعوذة من الإشراك بالله. 3- أسباب طلب الشفاء ودفع البلاء. 4- خطورة الذهاب للسحرة والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
لما نزلت هذه الآية على النبي وسمعها الصحابة رضي الله عنهم شق عليهم ذلك، وقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟! فقال لهم رسول الله : ((ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] )).
فالشرك هو أساس الخوف والفزع، وهو أساس الشقاء والغواية، فهو أعظم ظلم يرتكبه العبد؛ ولذا قاد الشرك أقوامًا كثيرةً إلى غاية الانحدار في مهالك وظلمات بعضها فوق بعض، وإن سعت إليهم دنياهم بزينتها وزخرفها وتمتعوا منها بلذائذها الحاضرة إلا أنهم في شقاء تلو شقاء، أضحى صدر الواحد منهم ضيقًا حرجًا كأنما يصعّد في السماء.
ولا أسعد من حياة الموحد لربه عز وجل، فلم يصرف العبودية لغيره، فكان له الهداية في الدنيا والأمن غدًا يوم يفزع كثيرٌ من الناس. ولله در من قال:
إن كان ربك واحدًا سبحانه فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدًا أنشأك لَم يشركه إذ أنشأك ربّ ثاني
وكذاك أيضًا وحده فاعبده لا تعبد سواه يا أخا العرفان
فلِواحدٍ كن واحدًا فِي واحدٍ أعنِي سبيلَ الْحق والإيمان
هذي ثلاث مسعدات للّذي قد نالها والفضل للمنان
فإذا هي اجتمعت لنفس حرة بلغت من العليا كلَّ أمان
لله ذياك الفريق فإنَّهم خصوا بِخالصة من الرحمن
شدّت ركائبهم إلى معبودهم ورسوله يا خيبة الكسلان
أيها الأحبة في الله، ومن الناس طائفة باعوا توحيدهم، وانغمسوا في ظلمات الشرك؛ لينالوا به متاعًا زائلاً ومطلبًا فانيًا، يأكلون به أموال الناس بالباطل، ويعتدون على غيرهم بالظلم والعدوان.
وتراهم من أجل ذلك المطلب يصرفون عبادتهم للشياطين، ويقرّبون لهم القرابين، ولربما كتبوا كلام الله بالنجاسات، أو ألقوا المصحف في أماكن القاذورات. وترى النجاسة شعارهم، فهم ملابسون لها، معاشرون للكلاب، وكثيرًا ما يأوون إلى الحمامات والقمامات والمزابل.
وكثير منهم من يجلس عاريًا في الأماكن المهجورة، ويذبحون الطيور والحيوانات ذاكرين عليها اسم الشيطان أو غيره مما يرضاه لهم، ولربما خلطوا الدم بالنبيذ بمسحوق مأخوذ من حيوان ميت ثم يشربون منه ويلطخون به أجسادهم، ولربما خرج الواحد منهم في الليلة المقمرة في مكان بعيد مهجور يمجّد شيطانه، ويردد الطلاسم التي تقربه إليه. تالله إن هذا لخسران مبين، وإن غطّوا تلك الحال منهم عن أعين الناظرين، ولكن هيهات أن تخفى حالهم.
أولئك هم السحرة والمشعوذون، الذين لا يتأتى لهم ما يريدون إلا بالتنازل عن أشرف ما يملكه العبد، وهو دينه، قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، ويقول سبحانه: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، ويقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) وذكر منها: ((السحر)).
فالسحر والشعوذة قرينا الشرك والكفر، بل إن الساحر كلما كان أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ورسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ.
أيها الأحبة في الله، وإن من الناس من يتعرضون للمصائب والبلاء، فيسعون جهدَهم في سبيل دفعها والتخلص منها، وليس عليهم في ذلك من حرج، ولكن المحذور أن تنسيهم تلك الرغبة الملحة في دفع ذلك البلاء عَرضَ تلك السبيل التي يسلكونها على الشرع: هل هي مما أباحه أو حرمه؟ فلا يبالي حينئذٍ أن تكون من الحرام، فيسعى فيها، ويغتر حين يتحقق له مراده، فيعرّض بذلك توحيده إلى الخطر.
ومن ذلك حال من يذهب إلى أولئك السحرة والمشعوذين وهم يعادون الله ورسوله؛ ليطلب منهم دفع البلاء الذي نزل به. فأين الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً؟! وهل أغلقت أبواب الله تعالى وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِي [البقرة:186]، وهو القائل سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]؟! وهل ضاق الفضاء الفسيح مما أباحه الله وشرعه حتى يُلجأ إلى من رضي بالشيطان معبودًا وبالشرك دينًا؟!
أيها الأحبة في الله، وما من داء إلا وقد أنزل الله تعالى له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، ولم يجعل الله عز وجل شفاء العباد فيما حرمه عليهم.
فليضرب المسلم في طلب الشفاء ودفع البلاء ما يرضاه عنه ربه عز وجل، ولذلك أسباب كثيرة، منها:
1- إصلاح النفس ومحاسبتها، وهذا من أنجع الأسباب، ولكن كثيرًا من الناس عنه غافلون؛ فإن كثيرًا من الناس من يصاب ببلاء، فيضرب ذات اليمين وذات الشمال لدفعه، فلا يترك قاصيًا ولا دانيًا إلا ذهب إليه، فاعلم أن الأمر أقرب من هذا بكثير، إذ هو في النفس التي بين جنبيه، فكم استولى عليها البعد والعصيان، فأوردها إلى ما عانى منه طويلاً، فلو رجع إليها وأصلح خرابها لوجد سبب ما اعتراه حقيقة، وتلك سبيل قل من يتأملها.
2- التضرع والخضوع بين يدي الله عز وجل ورفع الشكوى إليه وحده.
قالوا: أتشكو إليه ما ليس يَخفى عليه؟!
فقلت: ربي يرضى ذل العبيد لديه
3- ومن ذلك الاستعانة بالصبر والصلاة، فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153].
4- ومن ذلك التحصن بالأدعية والأذكار، فإنها يسيرة خفيفة في عملها، عظيم النفع والثواب.
5- ومن ذلك استعمال الرقية المشروعة، فيرقي المرء نفسه أو ولده أو قريبه، وهكذا. ولا بأس من طلب الرقية ممن عرف صلاحه وتقواه، ولكن يجب أن لا تتعلق النفوس بالناس، بل يجب أن تتعلق بالله وحده دون من سواه. فحذار أن يزاحم الأمل بالله أيّ أمل بسواه من المخلوقين.
أيها الأحبة في الله، والأسباب المشروعة بينة لا مرية فيها، فحذار أن يتعداها المرء إلى ما يفسد دينه وينقص توحيده، فقد قال النبي : ((من أتى عرافًا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)) رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أبو داود.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4414)
أوقات العمر
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, السياحة والسفر
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأيام والأعوام. 2- الوصية باغتنام العمر والوقت. 3- ضوابط وأصول تكون منطلقًا مباركًا في قضاء إجازاتنا بل وأعمارنا. 4- وصايا وإرشادات للمسافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، إن الأيام والليالي لتمضي على المرء أسرع ما تكون، لا تقف ساعة، ولا تمهل لحظة، تتقلب كغمضة العين وانتباهتها، كأنها تعجل بصاحبها إلى اليوم الموعود، يوم أن تقف أنفاسه عن التردد في أجوائها، ليوسّد باطن الأرض بعد أن كانت تدب خطاه أعلاها. وما أقرب العهد بين ساعة الميلاد التي يخرج فيها المرء من ظلمات ثلاث في بطن أمه وبين ساعة الفراق حين يوارى التراب، وما بين الساعتين عمرٌ يطول ويقصر نسبيًا من شخص لآخر، إلا أن حقيقته أنه قليل مهما امتدت بصاحبه الأيام.
وقد يُغفل عن هذه الحقيقة في خضم الحياة ومطالبها، فيمتد الأمل بصاحبه حتى يريه أنه يعيش الدهر كله، ولكن تدرك هذه الحقيقة يقينًا حين يعيش المرء لحظاته الأخيرة في دنياه، فإنه يعيد النظر إلى ما انقضى من عمره فيراه أقل من القليل، ولئن همست في أذنه: كم قضيت من أيامك؟ فإنه لن يرد عليك بهمسة مثلها، بل سيصدع أنها يوم أو بعض يوم. وهكذا ما أسرع انقضاءها، وما ألم انقضائها بأشد من ألم التفريط الذي سطّر في أيامها ولياليه، والذي سيحمله صاحبه على ظهره لينتشر له غدًا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فتلك هي قاصمة الظهر، أما ذات الفراق فألمه سرعان ما يسلى عنه، بل قد يكون راحة لصاحبه، وكما قيل:
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كلِّ حي
ولكِنّا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعدها عن كل شي
فلذا ـ أيها الأحبة في الله ـ كان لزامًا على كل واحد منا أن يكون شديد الحرص على ساعات عمره وأنفاس وقته؛ لتكون له حصيلةً في غده الذي سيقدم عليه بلا ارتياب. وإن لنا في أسلافنا المثل الجميل في اغتنام الأوقات والضنّ بها أن تعبث بها أيادي الهوى والشهوة.
ولقد كان نبينا يوصي أشد الوصية بذلك، فقد قال فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقدك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقد جاءه رجل يطلب منه وصية، فأوصاه بأن يكون لسانه رطبًا بذكر الله تعالى؛ لتبقى الحياة كلها معلقة بالله تعالى، كلما غفلت النفس عن طاعته كان ذكره واعظًا فيها وداعيًا إلى ابتغاء مرضاته.
وهكذا كانت تلك الوصايا مدرسةً تربى فيها سلف الأمة الأبرار، فكانت حياتهم يصدق أن يقال عنها: إنها وقف لله تعالى.
فهذا عمر كان لا ينام بالليل إلا قليلاً، وينشغل في النهار في قضايا الرعية، فقيل له في ذلك فقال: (إن نمت بالليل ضيعت نفسي، وإن نمت بالنهار ضيعت رعيتي).
وهكذا كان السلف الصالحون على هذا السبيل في الحرص على الأوقات واغتنام الساعات واللحظات، وإن التاريخ ليحدثنا بما لا يستوعبه أهل الأوقات الضائعة في زماننا، ليحدثنا عن نفوس قدرت للأوقات قدرها، وأيقنت ما تستقبله بين أيديها، فأبت أن تكون من أهل الغبن والحسرة، فسطّر لها التاريخ العجب في الحرص على الدقائق ولحظاتها.
أيها الأحبة في الله، أولئك القوم مضوا وانتهت أوقاتهم، فهل تراهم ندموا على تلك الساعات التي اغتنموها؟! أبدًا والله، بل إنهم يتنعمون في ظلالها بإذن الله تعالى.
وقد مضى أيضًا أولئك الذين نظروا في أوقاتهم فرأوها محنة ووبالاً، فسعوا في قتلها بالمعاصي والشهوات، فهل تراهم طرفة عين يحمدون ساعة من ساعات الشهوات التي قضوها أو ليلة من ليالي اللهو التي سهروها؟! كلا، بل حديث الصاحب لصاحبه:
تذكُر كم ليلة لَهونا فِي ظلها والزمان عيد
وكم سرور هَمى علينا سحابة ثرة تَجود
كلٌ كأن لم يكن تقضّى وشؤمه حاضر عتيد
سطره كاتب رقيب وضمه حافظ شهيد
يا ويلنا إن تنكبتنا رحمة من بطشه شديد
أيها الأحبة في الله، وها نحن نستقبل بين أيدينا الإجازة السنوية، بعد أن طال انتظار الطلاب لأيامها بعد عام قضوه في التحصيل العلمي. وإنها لأيام تستوجب الوقوف عندها؛ لأن كثيرًا من الناس قد يغبنُ فيها من حيث يشعر أو لا يشعر. فلا بد أن نوقن أنها قطعة من العمر يسطر فيها كل صغير وكبير ودقيق وجليل، فلا يظن أن تسقط فيها تكاليف الدين كما سقطت تكاليف الدنيا، بل هي من الأيام التي لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عنها، فلا بد أن تصان من حبائل الشيطان، ولا بد أن تطهر من دنس المعاصي، ولا بد أن تقضى بطاعة الله تعالى وبما أخرج من الطيبات التي لا تعد ولا تحصى.
أيها الأحبة في الله، وبين يدي هذه الإجازة لا أجدني محتاجًا إلى عرض برنامج متكامل لقضائها، ولكن لا بد من الوقوف مع أصول تكون منطلقًا مباركًا في قضاء إجازاتنا بل وأعمارنا، وذلك بأن يدور الواحد منا مع الشرع حيثما دار، محققًا أمر ربه مجتنبًا لنهيه متبعًا لنبيه آخذًا ما أتى به مجتنبا كل ما نهى عنه.
وبهذا يكون منطلقه في حركاته وسكناته، وفي كل ما يأتي ويذر، عبودية تامة لله تعالى؛ لأنه ما كان في يوم من الأيام ولا ساعة من الساعات عبدًا للشيطان ولا عبدًا للشهوة ولا عبدًا للهوى ولا عبدًا للآراء ولا عبدًا للمقترحات، ولكنه عزيز بعبوديته لربه وحده دون ما سواه.
فإلى كل واحد منا، لتقض إجازتك وتجعل هذا الأصل نصب عينيك، واجعل من إجازتك نصيبًا لحفظ كتاب الله تعالى وتدارسه، واجعل منها نصيبًا لتعلم سنة نبيك ، واجعل منها نصيبًا لأن تدعو إلى الله وتبلغ عن نبيك ولو آية، واجعل منها نصيبًا للِّقاءات الطيبة مع الأخيار الصالحين في مجالس وبقاع مضيئة بذكر الله تعالى والتعاون على طاعته.
هكذا اغتنمها بكل ما تقر به عينك وتطيب به نفسك في عاجل دنياك وغدًا، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
وأيضًا افرح بإجازتك وابتسم لها، ورفّه عن نفسك وأهلك، فإن الله تعالى حرّم عليك قليلاً وأحلّ لك كثيرًا، فلا يضيق عنك أفق الحلال فتخنق في ضيق الحرام، فإن ربنا تبارك وتعالى يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:32، 33].
فامض في إجازتك إلى ما شئت، ولكن لا تنس أنك عبدٌ لله تعالى في عمرك كله، والعبد رهن طاعة سيده، فلا تتعد حدوده، ولا تخالف أمره.
بارك الله لك في إجازتك، وأعقبك بها حلاوة تجدها في قلبك، وطيبًا تحياه في دنياك وآخرتك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، وللسفر حديث في الإجازات يطول، وسأختصره بهذه الكلمات إلى كل مسافر.
فإليك قبل أن تشد ركابك وقبل أن تبدأ الخطوة الأولى في سفرك بأن تنظر في مقصودك في سفرك والوجهة التي توليها فيه، فإن كانت إلى ما يحبه الله ويرضاه أو إلى ما أباحه فلتبدأ الخطوة، ولتتبع بها أخواتها بعد أن تستخير ربك عز وجل، فإنه أعلم بمصالحك.
فإن امتطيت الطريق فلتبدأ بدعاء السفر المأثور: ((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)).
واعلم أن خير زاد لك في سفرك هو التقوى، فقد جاء رجل إلى النبي يريد السفر وقال: يا رسول الله، إني أريد السفر فزودوني، فقال: ((زوّدك الله التقوى)) ، قال: زدني، قال: ((وغفر لك ذنبك)) ، قال: زدني، قال: ((ويسر لك الخير حيثما كنت)) أخرجه الترمذي والحاكم. وجاءه رجل أيضًا وقال: إني أريد سفرًا، فقال: ((أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شرَف)) ، أي: مرتفع، فلما ولى قال: ((اللهم ازْوِ له الأرض، وهوّن عليه السفر)) أخرجه الترمذي وابن ماجه.
وكان من هدي نبينا وأصحابه إذا علَوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا. وكان يأمر إذا نزل المرء منزلاً أن يقول: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شرما خلق)). وكان ينهى عن الوحدة في السفر، وكان يقول: ((لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)). وكان إذا بدا له الفجر في السفر قال: ((سمّع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذًا بالله من النار)) رواه مسلم.
وهكذا ـ أيها المسافر ـ لتكن على بينة من ذلك الهدى المبارك، ليكون حلّك وترحالك على هدى وسنة.
أيها المسافر، تلك الكلمات إليك حين تكون وجهتك إلى ما يرضاه ربك، أما إذا عزمت السفر إلى حيث تبيت بين ظهراني المشركين وإلى بقاعٍ تِمثالُ الخنا يقبع في كل موضع فيها وبوق الرذيلة يدوّي في كل ناحية منها، فهنا لن يسير الحديث معك إلى تلك الديار، ولكن سيقف مذكِّرًا وناصحًا بأن توقف الخطى، وتعلم أن عزمك ذلك فتنةٌ تعرّض بها نفسك ومن تصحبه معك. ولا يغرنك تلك الخصومات الهائلة والدعايات المزخرفة والعبارات التي تقدمها بين يديك شركات السياحة وأمثالها، ولتتفكر في نفسك: أي خير في سياحة تصبح فيها وتمسي والكنائس ومعابد الوثنية تملأ البقاع من بين يديك ومن خلفك؟! وأي خير في سياحة لا تجد فيها عينك عن الحرام مصرفًا ولا أذنك عن الحرام مصدًا، فترى في كل بقعة من حولك مكانًا للعهر والخنا، وتسمع في كل طريق صوتًا ينادي بالرذيلة؟! وأي خير في سياحة تعرّض فيها نفسك وأهلك وأبناءك وبناتك إلى حبائل الفتن، فتكون بذلك مفتاح شرّ عليهم مغلاق خير لهم؟! ولقد أخبر نبينا أن من الناس من هو مفتاح للخير مغلاق للشر، ومنهم من هو مغلاق للخير مفتاح للشر، فعلام تأخذ بمن تعول إلى مواطن تسطّر أحرف التقليد الأعمى على قلوبهم وتختم على الجباه ببصمات التبعية المقيتة، فتجعلهم يسيرون في ركب الهوى، حتى إذا كان ما كان مما لم يخطر لك ببال، عُضت الأيادي ندمًا، وعاد الركب يحمل العار في الدنيا والخسران في الآخرة، إن لم يكن ثمة توبة وندم؟!
فخذها نصيحة أخ مشفق، بأن تراعي في وجهتك ما أباحه لك ربك، وإن لك في الحلال الطيب ألف بديل عن الحرام الذي يزينه لك الشيطان. ثم اعلم أن كل خطوة تضعها وأخرى ترفعها ستسأل عنها وتحاسب عليها.
أما معالم السياحة في شرق أو غرب فلن تسأل عنها، فلن تسأل عن سور الصين: كم امتداده؟ ولا الجسور المعلقة: كم حمولتها؟ ولا برج إيفل: كم ارتفاعه؟ ولا ناطحات السحاب: كم أطوالها؟ ولكنك ستسأل عن عمرك: فيم أفنيته؟ وعن شبابك: فيم أبليته؟ وعن علمك: ماذا عملت به؟ وعن مالك: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ ستسأل عن هذا في نهاية سفرك الحقيقي الذي أنت فيه، حين تنقضي أيامك ولياليك، ولا يبقى إلا ما سطر فيها لتراه غدًا، فإن خيرًا حمدت الله تعالى، وإن كان غير ذلك فاللائمة عائدة على نفسك، والله المستعان.
(1/4415)
رعاية البنات
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف أهل الجاهلية من البنت. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- وصايا هامة لمن رزق ببنت. 4- مكر وخبث أدعياء الحرية وحقوق المرأة. 5- الحياء أشرف خلُق في المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، بعد طول انتظار لثمرة خرجت من صلب وأودعت مستودعًا تحوطه ظلمات ثلاث ها هو الأب يعيش تلك اللحظات الأخيرة لذلك الانتظار، فتراه يذهب ويجيء، ويقوم ويقعد، متهّلِفَ الفؤاد، غاية في إصغاء السمع لأدنى همسة بشرى تسعى إليه، فبينما هو كذلك إذ تأتيه البشرى أنك قد رزقت بأنثى. وهنا إن عبس الوجه وضاق الفؤاد فتلك سيرة الجاهلية الأولى، حيث يضيق الواحد منهم ذرعًا حين يبشر بالأنثى، كما أخبر الله تعالى عنهم: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
فقد بلغ الاستياء والبغض لتلك البشرى أن يدفن تلك الأنثى في التراب وأنفاسها تتردد في هذه الحياة، بل قد تبلغ الوحشية في أحدهم إلى أن يتردد في وأدها في بداية الأمر، ولكن يظل هذا الأمر يراوده بين الفينة والأخرى حتى إذا بلغت الأنثى أشدها زال ذلك التردد في نفسه، وأصبح عزيمة لا يدفعه عنها شيء، فسار بابنته مخادعًا لها، وهي في أمان وهل ستشعر بخوف مع أبيها؟! فإذا بالأب يلقيها في بئر أو حفرة أعدها مدَّعيًا أنه تخلَّص من العار أو مِن ثقَل النفقة.
تلك حالٌ سوداء مظلِمة في واقع الجاهلية الأولى، حتى إن أحدهم أنشد يومَ أن تكاثر الخطّاب على ابنته فقال:
إني وإن سيق إليّ المهر ألفٌ وعُبدانُ وذَودُ عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر
ولقد كان من مأثور قول بعضهم للتهنئة بالأنثى: "آمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتها، وصاهرتم القبر".
فتلك السيرة أيّ نفس ترضى بها؟! فعلام يظل البعض راضيًا أن يصاب بشيء من غبارها، فيعبس الوجه ويُظهر السّخْطَ حين تأتيه البشرى بالأنثى؟!
أيها الأحبة في الله، ونعود إلى ذاك الذي طال انتظاره فجاءته البشرى بالأنثى، وظننا به أن يطرح كل وساوس الجاهلية، فتستنير صفحات وجهه بتلك الهبة العظمى التي أسبغها عليه ربه عز وجل، فهي عظيمة القدر، رفيعة الشأن في ديننا، وقد سماها الله تعالى من أول خروجها إلى هذه الدنيا هبة، امتن سبحانه بها، فقد قال عز من قائل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49].
وقد جاء الفضل العظيم في الإسلام لمن رعى البنات وأحسن تربيتهن، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا)) وضم أصابعه.
فإليك يا من رزقت بالأنثى، إليك البشرى بتلك الهبة التي سيقت إليك، والتي تستوجب عليك جميل الحمد والشكر لربك عز وجل. وإليك أيضًا حديثًا تبصره وذكرى وتعاونًا على البر والتقوى.
وإليك حديثًا أبدؤه معك من يوم أن بدأت تتردّد تلك الأنفاس الطيبة في هذه الحياة، ويمضي في مسيرتها في هذه الحياة أملاً أن تكون نبتة صالحًا ونسمة مباركة على نفسها وعلى أهلها وعلى مجتمعها.
هو حديث حق أن يطول لامتداد سنين تلك الحياة، ولكن سأسابق سنينه ليكون أمارات وإشارات تلوح معالمها على رؤوس تلك السنين رغبة في الاختصار، وكما قيل: والحر تكفيه الإشارة.
فعليك ـ وقد جاءتك البشرى بتلك الأنثى ـ أن تدرك يقينًا أنها مسؤولية عظمى وأمانة كبرى قد حُمّلتها، فلتبدأ نظراتك الأولى إليها يحدوها العزم الصادق أن تسير بها أحسن سيرة، وتربيها جميل التربية، وتحفظها من كل ما يسوؤها في دنياها وآخرتها.
ومع تلك البدايات لتستكمل لها ما رغب الشرع فيه من الأذان بأذنها والعقّ عنها واختيار الاسم الحسن لها، ونحو ذلك. ثم لتمض في تربيتها على أحسن الوجوه، ولتعلم أنها ثمرة فؤادك، فلا تسلمها إلى خادمة تطبع على فؤادها بصماتٍ مشؤومة، بل أنت وزوجك أحق من يقوم برعايتها، ولئن تعذرت بشغل هنا أو هناك فلتعلم أنها من أهم أشغالك وواجباتك.
وفي سيرك في تعاهد تلك الغرسة لترسم أمامها معالم الأسوة الحسنة التي تكون منارات هدى تهتدي بها في طريقها، ففي خديجة وعائشة وفاطمة وحفصة وسائر الصالحات القانتات الأسوة الحسنة لكل فتاة، فأنعم بتلك الفتاة التي تسير سيرتهن وتقتفي آثارهن، وأنعم بمجتمع تحفّه بركات أمثال تلك الفتاة، إذ ستغذيه بالرجال الأماجد الذين يسدون ثغور الأمة وينشرون أنوار الرسالة.
فاجعل نبتتك ممتدة البصر والفؤاد إلى تلك السيرة الحسنة والقدوات الفذة، ولا تكن مفتاح شر لها، فتفتح لها أبواب التقليد الأعمى للكاسيات العاريات والكافرات العاهرات، فإن الحملة الجائرة التي يتولى كبرها أدعياء التقدم والحضارة لتلوح بالأيادي السود جاهدة أن تأخذ بها كل مصونة لتراها غريقة في أوحال الانحلال.
فاحفظ من حمّلت أمانتها من تلك الدعاوى الزائفة، فإن البنت ضعيفة سرعان ما تخدعها أباريق الدعاوي المنمقة، فإن لم تجد يدًا حانية تصونها عن تلك الأوحال فإنها قد تمشي إليها خطوة خطوة، إلى أن تقع في فخ لا تملك منه خلاصًا، وكما قيل:
خدعوها بقولهم: حسناء والغوانِي يغرهن الثناء
أتراها تناسب اسْمي لَها كثرت في مرادها الأسماء
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فكن لابنتك حصنًا حصينًا من تلك الهجمات التي يزين لها القول باسم حقوق المرأة وإعطائها حريتها ومواكبتها للحضارة، وهم في حقيقة الأمر يريدوها أن تكون ألعوبة تتقلّب من عين إلى عين ومن يد إلى يد، يريدونها أن تخرج من بيتها التي عزّت فيه؛ لتكون سلعة تعرض في المجلات، بل وفي قطع السيارات، ولتخرج تزاحم الرجال حتى لا تبقى لها حرمة، ولا يراعى في حقها حياء.
وتلك أحوال الأمم التي يصفق لها الأدعياء شاهدة بسوء الحال التي وصلت إليها المرأة، فما عادت هي الأم التي تلتف حولها أبناؤها، ولا الزوجة التي يرعى لها زوجها حقوقها، ولا الأخت التي يصلها أخوها، ولا البنت التي يتكفل الأب بجميع احتياجاتها حتى يسلمها إلى يد زوجها، بل إنه يمن عليها في أيام صغرها ثم يرسلها إلى حيث شاء، إلى أيادي الخلان أو إلى حتفها، فلا عليه بعد ذلك.
فعليك ـ أيها الأب المبارك ـ أن تحفظ تلك الأمانة، تحفظ سمعها وبصرها وفؤادها من تلك السموم الموجهة، والتي يبثها أصحابها كمواقع القطر عبر قنوات الشر المشؤومة.
فإنك إن فرطت وسُقط في يديك بعد هذا فستعضّ الأيادي ندمًا وحسرة في أيامك العاجلة، وغدًا فما الحيلة إلا أن يرتفع النداء: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، حين يكون مما تركتَ بنتٌ فتحتَ لها أبواب الشرّ، فصارت شُؤمًا تتقصّد فتنةَ كلّ رائح وغادي. فحافظ على الزهرة وهي في تصرّفك قبل أن تذبل ويسقط في يديك.
أيّها الأب المبارك، وإنّ الحياء هو أمارَة المرأة الصالحة، وهو أسمى صفاتها، ولئن فقدته فقد فقدت خيرًا كثيرًا. فلتكن على تنبّه شديد من تلك الصّفة في زَهرتك، فإنه في زمن مضى قريب كانت المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة، وإن خرجت فلا تمشي متوسّطة الطريق، بل تراها في كامل حشمتها، ومع ذلك تختار طرف الطريق حتى أن عباءتها لتمتلئ من تربة الجدار من شدة الحياء. وفي زماننا رأينا نساءً يمشين بين الرجال بالعباءة المتلاعب بها، وكأن لم يكن ثمّ أحد، بل وتنطلق بلسانها لمحادثة هذا وذاك، وكأنها تحادث إحدى زميلاتها، فتلك حال تحتاج إلى كثير من المراجعات لتعود فينا السيرة القريبة المحمودة.
أيها الأب المبارك، وأنت إلى هنا قد رأيت تلك الهبة التي بشّرتَ بها من سنين قد بلغت أشدها، وقد نالت منك حسنَ الرعاية والتربية، فكتاب الله تعالى ملأ صدرها وجوارحها، وسنة نبيها سبيلها في هذه الحياة.
فما أيمن اليد التي أخذَت بها إلى هذه الحال الطيبة، فحقّ لها أن تشكر ويرسل إليها الثناء، والفضل لله تعالى أولاً وآخرًا. وحين بلغت زهرتك هذا المبلغ فإنه لا بد من يد أخرى تشاركك الأمانة وتسعى في إكمال مسيرتها، ولا بد أن تتخير تلك اليد لتكون مباركة، تأخذ بها إلى أحسن أحوالها، ذلك أمر الزواج واختيار الزوج الصالح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4416)
سنة الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اضطراب الناس وحيرتهم عند المحن. 2- غفلة الناس عن سنة الابتلاء. 3- عموم سنة الابتلاء. 4- صور مما لاقاه نبينا من البلاء. 5- صبر النبي. 6- حِكم الابتلاء وفوائده. 7- خير العطاء الصبر. 8- العبودية في السراء والضراء. 9- واجب المسلم عند البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله وابتَغوا إليه الوسيلةَ، وتوكّلوا عليه وأنيبُوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطمَعًا، واذكروا وُقوفَكم بَين يدَيه، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلِمون، عندَما يَنزِل البَلاء وتحُلّ المِحَن وتدلهمّ الخطوب وتَعُمّ الرزايا تَضطرِب أفهامُ فَريقٍ مِنَ النّاس، وتلتاثُ عُقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذَا بِهم يذهَلون عَن كثيرٍ منَ الحقّ الذي يَعلَمون، ويَنسَون منَ الصّواب ما لا يجهَلون، هنالك تقَع الحَيرة ويثور الشّكّ وتروج سوقُ الأقاوِيل وتُهجَر الحقائق والأصولُ وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس ويُحكَم على الأمورِ بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتاب منير، ففي غَمرةِ الغفلةِ يَنسَى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاءِ مَاضيةٌ في خَلقِه، وأنَّ قضاءَه بها نافِذٌ فيهم، وكيفَ ينسَى ذلك وهو يَتلو كتابَ ربِّه بالغداةِ والعَشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقةِ بجلاءٍ لاَ خفاءَ فيه ووضوحٍ لا مزيدَ عليه، حيث قال سبحانَه: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال عزّ اسمه: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [آل عمران:186]، وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تقدّست أسماؤه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31].
إنّها ـ يا عبادَ الله ـ سنَّة ربانيّةٌ عامّة لم يَستَثنِ الله منها أَنبياءَه ورسُلَه مع علوِّ مقامِهم وشرفِ منزلتِهم وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً كما جاءَ في الحديثِ الذي أخرجَه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه في سننهم وأحمد في مسنده وابن حبّانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيحٍ عن سعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ فقال رسولُ الله : ((أشدُّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسَب دينِه، فإن كان في دِينِه صلبًا اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البَلاءُ بالعبدِ حتّى يَتركَه يمشِي علَى الأرض ومَا عَليه خَطيئة)) [1].
وقد نَزَل برسولِ الله مِن هذا البَلاءِ ما هو مَعلومٌ لكلِّ مَن وقَف على طَرَفٍ من سيرتِه وتأمَّل شيئًا من أَخبارها، وحَسبُكم ما نَاله مِن أذَى قومِه، وتكذيبِهم له، واستِهزائِهم به، وصَدِّهم النّاسَ عن سَبيلِه، وحملِهم لَه على مُفارقةِ وطَنه ومُبارحةِ أرضِه، وإعلانِ الحرب عليه، وتأليبِ النّاسِ حتى يُناصِبوه العداءَ ويَرموه عن قوسٍ واحدة، وغَزوِهم دارَ هِجرتِه ومَقرَّ دَولتِه ومأمنَ أهلِه وصَحابتِه للقضاءِ عليه ووَأدِ دينِه واستئصالِ شَأفَته، وممالأةِ أعدائِه من اليهود والمنافِقين في المدينة عليه، وكيدِ هَؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي وَاثَقهم به، والتحالفِ [مع] المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله غِيلة وغدرًا، بعدَما استَيأسوا من بلوغِ ما يرِيدون في ساحاتِ الوَغى وميادين النِّزال، فكَان مَثَلُه صَلَوات الله وسَلامه عليه كَمَثلِ مَن سبَقه على دربِ الابتِلاء من إخوانِه النّبيّين ثابِتًا للمحن، صابرًا على البَلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جِهادِه حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودَخَل النّاس في دِين الله أَفواجًا، وغَمَرت أَنوارُ الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومَضى إلى خالقِه رَاضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفسِ قَريرَ العين، تارِكًا في أمّتِه مِن بعدِه شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضلّوا بعده أبدًا: كِتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام كَما صَحّ بذَلك الحَديث [2].
عبادَ الله، إنّه لم يَكن عَجبًا أن ينهَجَ رَسول الله هذَا النهجَ هو وَالنبيّون من قَبلِه وأتباعه مِن بعده؛ فإنّهم يستَيقِنون أنَّ الله تعالى لم يَكتُب هذهِ السّنّةَ على العبدِ لِيهلكَه أو يقتلَه، أو يوردَه الموارد حتّى تضيق عليه نفسُه وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت وتورِثه فسادَ الحالِ في العاجلة وسوءَ المآلِ في الآجِلة، وإنّما كتبَها لحِكَمٍ عظيمة وفَوائدَ جليلةٍ ومقاصدَ جميلة تكاد تَربو على الحصرِ وتجِلّ عن العَدِّ، فمِن ذلك أنَّ هذه البَلايا إنّما جاءَت ليَمتَحِن الله بها صَبرَ عبدِه وليَبتَليَه فيتبيَّن حينئذٍ صَلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائِه وحِزبِه المفلِحين، فإن ثَبتَ للخطوبِ وصَبر علَى البَلاء اصطَفَاه واجتباه، وخَلعَ عَليه خِلَع الإكرَام، وألبسَه ألبِسةَ الفضل، وكساهَ حُللَ الأجرِ، وغشَّاه أَغشيةَ القَبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أوليَاءَه وحِزبَه خدمًا لَه وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عَقِبيه طُرد وأقصِي، وحُجِب عنه الرِّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء، وهَزمَته جيوشُ الشقاء، وهو لا يشعرُ بِتضاعُفٍ ولاَ هزيمة، لكنّه يَعلم بعد ذَلك أنَّ المصيبةَ صارَت في حقِّهِ مَصائب، وما بَين هاتَين المنزِلَتين: منزلةِ الصّبر ومنزلةِ السّخَط ـ كما قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله ـ صبرُ ساعة وتشجيعُ القَلبِ في تِلكَ السّاعة، والمصيبَةُ لاَ بدَّ أن تقلِع عن هذا وهذا، ولكن تُقلِعُ عن هذا بأنواعِ الكراماتِ والخَيرات، وعن الآخَرِ بالحِرمان والخِذلان؛ لأنَّ ذلك تقديرُ العزيز العليم، وفضلُ الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. انتهى كلامه يرحمه الله [3].
فعطاءُ الصبر إذًا هو خيرُ مَا يُعطى العبد من عطاءٍ كما جاء في الصّحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأَوسعَ من الصّبر)) [4].
ومِن حِكَم الابتلاء ـ أيّها الإخوة ـ تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تَعالى يُربِّي عَبدَه على السّرّاء والضّرّاءِ والنّعمةِ والبلاء، حتّى يستَخرجَ منه العبوديّة في جميعِ الأحوال، إذِ العبدُ على الحقيقةِ هو القائمُ بعبوديّة الله على اختِلافِ أحوالِه، أمّا عبدُ النِّعمة والسّرّاء وهُو الذي يعبُد اللهَ على حرفٍ، هو الشّكّ والقَلقُ والتّزلزل في الدّين، أو على حالٍ واحدة، فإِن أصابَه خيرٌ اطمأنّ به، وإن أصابَته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه، فهذا ليسَ من عبيده الذين اختارَهم سبحانه لعُبوديّته وشرَّفهم بها ووَعدَهم بحسنِ العاقبةِ عليها.
فالابتلاء ـ يا عبادَ الله ـ كيرُ القلوب ومحَكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاصِ ودَليل التّسليم وشاهدُ الإِذعانِ للهِ، وهُو كالدّواء النّافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رَحيمٌ به ناصحٌ له عَليمٌ بمصلَحتِه، فحقُّ المريضِ العاقِل الصبرُ علَى تجرّع صابِهِ وعَلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسّخَط والشّكوَى لئلاّ يتحوَّل نفعُه ضَررًا، فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
فعَلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ أن يكونَ صابرًا على الخطوب قائمًا بأمر الله محتسِبًا أجرَه عند الله.
ألا وإنَّ للصبر على البلاء أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السّبيلَ إليه، منها صِدقُ اللّجوء إلى الله، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضّراعة إليه، وتمامُ الإنابة إليه، وصِدقُ التّوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عنِ الذنوب، فقد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزَلَ بلاءٌ إلا بذَنب، ولا رُفِع إلا بتوبة) [5].
وأيضًا عليه تحسينُ الظنِّ بالإخوَة في الدّينِ عَامّة وبِأهلِ العِلم والفضلِ خاصّة؛ بحملِ أقوالِهم وأعمَالِهم على أَحسنِ المحامِل وأجملِها، وعليه الرّجوع إلى الراسخين في العلم باستيضَاحِ ما يُشكل والسّؤالِ عما يُجهَل.
وعَليه الحذرُ مِن الإعجاب بالرّأي، والبعدُ عَن التعجّل في إطلاقِ الأحكَام، والتسرّع في تفسير المواقف بمجرّد الهوى أو بالوقوعِ تحتَ تأثير ما يُسمَّى بالتّحليلات على اختِلافِ موضوعاتِها وتعدُّد مصَادرِها، لا سيّما حين تصدُر عَمّا لا يُعلَم كمالُ عقلِه ولا صِحّة مُعتقَده ولا سَلامَة مقصده ولا صِدق نصيحَتِه ولا صَفاءُ طويّته، ثم هي في الأعمّ الأغلَب علَى المصَالِح والمطَامِح والأهوَاء، ولذا يَشيعُ فيها الكَذِب والخطَأ والظلم.
ويجبُ تركُ القيل والقال الذي كَرِهه الله لعبادِه كما أخبر بذلك رَسول الله بقولِه في الحديث الصحيح المتّفَق عليه عنِ المغيرة بن شعبَةَ رضي الله عنه أنّ رَسولَ الله قال: ((إنَّ اللهَ تعالى حَرَّم عليكم عقوقَ الأمّهات ووأدَ البناتِ ومَنعًا وهات، وكَرِه لكم قيلَ وقال وكَثرةَ السؤال وإِضاعةَ المال)) [6] ، ويدخل فيه التّحديثُ بكلِّ ما يسمعُه المرء، فقد زجرَ النبيّ عن ذلكَ في الحديث الذي أخرجه مسلِم في صحيحه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكلِّ ما سمع)) [7] ، وفي لفظٍ لأبي داودَ في سننِه بإسنادٍ صَحيح: ((كفى بالمرء إِثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)) [8].
وإنَّه إذا كانَ حَريًّا بالمسلِم اتِّباعُ هذا النّهج الراشدِ السَّديد كلَّ حين فإنَّ اتباعَه له في أوقاتِ الشَّدائدِ وأزمِنةِ المِحن أشدُّ تأكّدًا وأقوَى وجوبًا وألزم امتثالاً، وصدقَ تعالى إذ يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابهِ وبسنّة نبيِّه ، أقول قَولي هذا، وأستَغفِر الله العَظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين مِن كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغَفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41)، والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
[2] وهو قوله : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وسنتي)) ، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
[3] طريق الهجرتين (ص417).
[4] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1469)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1053).
[5] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[6] صحيح البخاري: كتاب الاستقراض (2408)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (593).
[7] صحيح مسلم: مقدمة صحيحه (5)، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
[8] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4992) وقال: "لم يذكر حفص أبا هريرة، ولم يسنِده إلا هذا الشيخ"، يعني: علي بن حفص المدائني.
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستَعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ لَه، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهَد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلّم عليه وعلى آله وصَحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا اللهَ واعلَموا أنّكم مُلاقوه، وراقبوه وتوكّلوا عَليه، وأخلِصوا له، وحقِّقوا توحيدَكم، فإنَّ توحيدَ العبدِ ربَّه صمامُ الأمان وضَمانُ الفوزِ وأصلُ السَّعادةِ وسببُ دخولِ الجنّةِ والنّجاةِ من النّار.
واعلَموا أنَّ خيرَ الحديثِ كِتاب الله، وخَيرَ الهدي هدي محمّد بن عبد الله، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعَة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
واذكروا على الدوام أنَّ الله تعالى قد أمَركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين ورحمة الله للعَالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الأربعة...
(1/4417)
دين الرحمة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
9/10/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمولية المنهج الإسلامي وكماله واتزانه. 2- الرسالة المحمدية رحمة للبشرية. 3- مبدأ المساواة والعدل في الإسلام. 4- صور من رحمة الإسلام بالخلائق. 5- براءة الإسلام من تهمة الإرهاب 6- الحث على إدامة العمل الصالح بعد رمضان. 7- استنكار العبث بالأوقاف الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:107، 108].
أيها المسلمون، أيها الناس، لقد أرسل الله عز وجل رسوله محمدًا رحمة للناس كافة وللعالمين عامة؛ ليأخذ بأيديهم نحو الهدى والنور، وما يهتدي إلا أولئك المتهيّؤون المستعدون.
إن المنهج الذي جاء به محمد هو منهج يسعد البشرية كلها، ويقودها إلى السمو والكمال في هذه الحياة، كما أن رسالة الإسلام جاءت كتابًا مفتوحًا للعقول والقلوب، شاملة لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ولا تتغير. ولقد وضع القرآن الكريم أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجدّدة، وترك للبشرية استنباط الأحكام الشرعية والجزئية التي تحتاج إليها حياتها المتجددة المتطورة، وكفل الإسلام للعقل البشري حرية العمل بكفالة حقه في التفكير. ولقد دلت تجارب البشرية حتى يومنا هذا على أن الإسلام كان وما زال سابقًا لخطوات البشرية في عمومه، وهو يقودها دائمًا إلى الخير، ولا يقعد بها، ولا يعود بها إلى الوراء.
أيها المسلمون، إن منهج الإسلام المتوازن المعتدل لا يكبت طاقات البشرية ولا يحرمها من الاستمتاع بثمرات جهدها وعملها وبالطيبات التي أحلها الله تعالى، وبالمقابل فإن الإسلام لا يطلق للإنسان شهواته الطاغية المنحرفة التي تعكّر صفو حياة المجتمع.
أيها الناس، لقد كانت رسالة محمد رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده، صحيح أن المبادئ التي جاءت بها هذه الرسالة كانت غريبة على الناس وواقعهم في بداية الأمر، لكنهم سرعان ما أخذوا يقتربون من هذه المبادئ، ويشعرون بعظمتها، ويعودون إليها، ويطبقونها في حياتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان محمد رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق.
أيها الناس، لقد جاء الإسلام ونادى بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والعنصرية والجغرافية لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد، وكان هذا الأمر غريبًا ومستغربًا على واقع الناس يوم ذاك، حيث كان الأشراف والسادة يعتبرون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد. ومع مرور الزمن وانتشار نور الإسلام بدأ هذا الاعتقاد يتلاشى شيئًا فشيئًا، وإن كانت وما تزال إلى يومنا هذا أمم وشعوب في أوروبا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ بزوغ فجره.
وإن من أهم مبادئ الإسلام المساواة والعدل بين جميع الناس أمام القضاء والقانون حتى لو كانوا مختلفين في الجنس والدين، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ويقول الرسول : ((الناس سواسية كأسنان المشط)).
أيها المسلمون، وما تزال هذه المبادئ وارِفَة لمن يريد أن يستظلّ بها ويَسْتَرْوِح فيها نسائم السماء الرَخيّة في هَجِير الأرض المحرق وخاصة في هذه الأيام، وكأنّ الناس الذين يخوضون الحروب والمعارك ويحكمون البشر في هذه الأيام تقسو قلوبهم، وتجف دموعهم، وتنزع الرحمة من قلوبهم، ولكن رسول الله ومن اقتدى به وسار على نهجه وشريعته ليسوا من هذا الصنف، لقد كانوا رحماء حتى في المواطن التي يفقد فيها الرحماء رحمتهم، فهذا رسول الله يُؤذَى ويُضرَب ويُضطَهد ويُلقَى على ظهره الشريف فَرْث الجَزُور وهو ساجد بين يدي ربه، فيقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) ، ويوم فتح مكة ـ وقد فعل به أهلها ما فعلوا ـ كان موقفه غير المتوقّع، وقد أمكن الله منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اذهبوا أنتم الطلقاء)) ، وقال أيضًا: ((مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] )).
نعم أيها العالم، إن المواطن التي تغيب عادة فيها عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار كانت صفة الرحمة تبقى عند رسول الله في مكانها لا تطغى على غيرها، ولا يطغى غيرها عليها، وكانت رحمته تسع الناس جميعًا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وعقائدهم، ويحس بها المستضعفون قبل الأقوياء، والفقراء قبل الأغنياء. لقد بلغت رحمته الحيوان، فكان أرحم الخلق به، فهذا عبد الرحمن بن عبد الله يحدثنا ويقول: كنا مع رسول الله في سفر فرأينا حُمَّرَة ـ طائر مثل العصفور ـ، معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحُمَّرَة تُفَرِّشُ ـ تُرَفْرِفُ ـ، فلما جاء الرسول قال: ((من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها)). وكان صلوات الله وسلامه عليه كلما جهز جيشًا أو سرية قال: ((باسم الله، وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدًا)).
حقًّا أيها الناس، إنها الرحمة التي تفيض حتى تكاد تقتل صاحبها أسى لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار حتى يعاتبه الله عز وجل بقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6].
أيها المسلمون، وقد سار على هذا النهج وعلى هذه المبادئ من بعده أصحابه الكرام والمسلمون المخلصون، وسيبقى هذا الأمر نهج كل مسلم يفهم الإسلام على الوجه الصحيح إلى يوم الدين.
أيها الناس، هذا هو الإسلام، وهذا هو رسول الإسلام، وها هم أصحابه الكرام، فأين هي القسوة والغلظة والجفوة؟! وأين هو القتل؟! بل وأين هو الإرهاب؟! وعليه فإن الافتراء على المسلمين اليوم والذين ينادون بعودة الحياة الإسلامية من جديد لهو افتراء على الإسلام نفسه، وذلك من أجل أن تنزع العقيدة من النفوس، ومن أجل أن تحمل الأذهان صورة بشعة قاتمة عن هذا الدين الحنيف، وحتى يتصور الناس في جميع أنحاء المعمورة أن هذا الدين قد بني على الإرهاب، وأن دعاته ليسوا غير إرهابيين يعملون على نشر الذعر والرعب في البلاد، ونشر الفوضى وعدم الاستقرار بين الناس.
أيها العالم، إن الإسلام هو أبعد العقائد والملل والفلسفات والشرائع عن الإرهاب، وقد جيء به أصلاً لإشاعة الرحمة والأمن والسلام في هذه الدنيا، ولانتزاع أسباب الظلم والقهر بكل صوره وألوانه، جاء من أجل أن تقوم حياة الناس على الأمان والثقة والحرية المشروعة بعيدًا عن الفساد وعن التسلط والترويع والترهيب. إن الإسلام يحذّر أشد تحذير من ترويع الناس وإخافتهم وإشاعة الذعر في نفوس العباد بأي شكل من الأشكال، سواء بالإشارة بالسلاح أو التهديد بالكلام، وفي ذلك يروي النعمان بن بشير ويقول: كنا مع رسول الله في مسيرة فخفق رجل في راحلته فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله : ((لا يحل لرجل أن يروّع مسلمًا)) ، وروي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أخاف مؤمنًا كان حقًّا على الله أن لا يؤمّنه من أفزاع يوم القيامة)) ، وقوله: ((لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) ، إلى غير ذلك من النصوص الواردة في النهي عن ترويع الإنسان لأخيه الإنسان بأي شكل من الإشكال.
أيها المسلمون، فما بالكم فيما يجري ويحدث في بعض البلاد العربية والإسلامية وغيرها من قتل للأبرياء وتفجير للمباني والمؤسسات والسيارات؟! إنه فعل مشين تقشعر منه الأبدان، وتشيب لهوله الأطفال، إنه عمل خارج عن نطاق الإسلام وتعاليمه السمحة وأخلاقه النبيلة، كما أنه لا يمكن أن يصدر من إنسان يحمل نور الإسلام والإيمان في قلبه. إن المسلمين رحماء بالعباد، رحماء بالخلق جميعًا، وهم بذلك أبعد الخلق عن مظاهر القسوة والإجرام، والمسلمون هم وحدهم اليوم الذين يكتوون بجحيم الإرهاب المتمثل بسفك دماء الكثير من أبنائهم وهدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم والزج بهم في السجون والزنازين بدون رحمة ولا شفقة، وشعبنا الفلسطيني هو أكثر الشعوب الإسلامية معاناة من هذا الأمر، فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، قبل أيام انتهى شهر رمضان المبارك، شهر العبادة والطاعات، شهر الخير والبركات، واعلموا أن الطاعة للمولى عز وجل لا تتحدد بزمان، بل هي متصلة في رمضان وفي غير رمضان، ولهذا صح عن النبي أنه قال: ((أحب العمل إلى الله أدومه)) ، وقال الحسن البصري : "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت"، ثم قرأ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
فيا أيها المؤمنون، صلوا الإحسان بالإحسان، واتقوا الله ربكم، فإن من تقواه المداومة على عمل البر والإحسان وعقد النية على التزام المسلك الراشد الذي التزموه في شهر رمضان في مجانبة الذنوب والترفّه عن الآثام، وبذلك تزكو النفوس، ويصقل جوهرها، وتصل إلى درجة البررة من عباد الرحمن. ومن البر أيضًا مواصلة شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، وهو جزء من عقيدة المسلمين كما تعلمون جميعًا.
أيها المسلمون، وتعقيبًا على ما نُشِر في الصحف وتناقلته وكالات الأنباء حول وجود صفقة متمثلة بمبادلة غرفة في الطابق الثاني من مسجد ومقام النبي داود عليه السلام في مدينة القدس بحيث تعطى للفاتيكان مقابل كنيس يهودي في مدينة طوليدو في أسبانيا نقول: إن الموقع الذي يدور الحديث عنه هو مسجد إسلامي، ولا يمكن القبول بتغيير هذا الواقع لأي سبب كان، وقد أكدت الهيئة الإسلامية العليا في بيان مشترك مع مجلس الأوقاف أن المسجد والمقام للمسلمين وحدهم، وأنه لم يسبق لأحد من أتباع الديانات الأخرى أن نازعهم عليه أو ادعى ملكيته. كما حذر البيان من أن الاعتداء على مساجد وممتلكات المسلمين هو ظلم مرفوض، وهو استخفاف بحقوق المسلمين، وإن الاعتداء لا يكسب المعتدي أي حق في اعتدائه، وإن الحق يبقى لصاحبه مهما طالت مدة الاعتداء. وأكد البيان أن أملاك الأوقاف الإسلامية لها حرمتها ولا يسري عليها بيع ولا هبة ولا تنازل.
(1/4418)
قبل انقضاء رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
25/9/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة رمضان. 2- وجوب شكر الله تعالى على نعمة الهداية. 3- دعوة المقصرين لاغتنام ما بقي. 4- تحرِّي ليلة القدر. 5- فضل ليلة القدر. 6- التحذير من إحباط الأعمال الصالحة. 7- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله بلزوم طاعته والبعد عن معصيته، فتقوى الله حصن أمين وعاقبة خير وصلاحٍ وسعادة وفلاح.
عباد الله، لقد منَّ الله علينا بشهر رمضان المبارك، وجعله زمنًا وميدانًا للأعمال الصالحات، يتسابق فيه المتسابقون، ويجتهد فيه بعمل الخير المسلمون، فمن وفَّقه الله فيما خلا من أيامه لفعل الخيرات وترك المنكرات فليحمدِ الله على ذلك؛ بأن أعانه على الطاعة وحفظَه من المعصية، فإنّ الله تعالى يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231]، ويقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، ويقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، وعن سلمةَ بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا إلى خيبر مع النبي قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن من فضلك ما استغنينا فثبِّت الأقدامَ إن لاقَينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال : ((من هذا؟)) قال: أنا عامر، قال: ((غفر لك ربُّك)) ، وما استغفر رسول الله لإنسانٍ يخصُّه إلا استُشهِد. رواه مسلم [1].
فالنبيّ سرَّه أن أثنى عامرٌ رضي الله عنه بنِعم الطاعات على الربِّ الواهب النّعمِ بارئ النّسَم، فمن وفَّقه الله في تلك الأيام المنصرمةِ فعليه أن يشكرَ ربَّه، وأن يختمَ بقيّةَ الأيام المنيفةِ والساعات الشريفة بأفضل ما يقدر عليه من الطاعاتِ والحذر من المحرّمات، فإنَّ الأعمالَ بالخواتيم، والجوادُ عند الاقتراب من غاية الميدان يزيد جريه.
ومن قصّر في أيّامه الخالية فعليه أن يستدركَ ما فات، وأن يغتنمَ عمره قبلَ الممات، وأن يتوب إلى الله من العصيان، وأن يكون على ما يحبّ الرحمن فيما يستقبل من الزمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) رواه مسلم [2]. فكم من مستقبلٍ يومًا لم يكمله، وكم من مؤمِّلٍ لم يدرك أملَه، والأجل لا يأتي إلا بغتةً، لا يفرِّق بين صغير وكبير، ولا ذكرٍ وأنثى، قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
فاغتنموا ـ عبادَ الله ـ بقيّةَ شهركم بالتوبة إلى الله من جميع الذنوب، واغتنموه بالأعمال الصالحة، وتحرَّوا ليلة القدر، فقد تكون فيما بقي من الليالي الشريفةِ، فإنَّ الأحاديثَ تدلّ على أنها متنقِّلةٌ في ليالي العشر كلِّها، وما من ليلةٍ من ليالي العشر إلاّ وردتِ الأحاديث بتحرِّي ليلة القدر فيها، وأخفاها الله ولم يعيِّنها ليجتهدَ المسلم في الطاعات في العشر كلِّها، فإذا فعل ذلك أصابها، فمن وُفِّق لتلك الليلة فقد أصاب خيرًا كثيرًا، عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتر؛ في إحدى وعشرين، أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبعٍ وعشرين، أو تسع وعشرين، أو في آخر ليلة، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا ثمّ وفِّقت له غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)) رواه أحمد والطبراني في الكبير [3].
وليلةُ القدر يلتقي فيها أهلُ السماء بأهل الأرض، ويعمّ الأرضَ أنوار الملائِكة، ويعبدون الربَّ في الأرض كما عبدوه في السماء، وينفِّذون ما أمرهم الله به منَ الأقدار، قال الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:3، 4]، فالعبادةُ فيها أفضل من عبادة ثلاثٍ وثمانين سنة وأربعة أشهرٍ ليس فيها ليلة القدر.
يا من صفَت له الأوقات في شهر الخيرات، يا من عمَر شهر رمضان بالطاعات والصالحات، يا من زكّى بدنَه بالصلوات، يا من طهّر مالَه بالزكاة والصدقات، يا من فاضت عينُه بالعبرات، لا تجعلِ الأعمالَ الصالحة بعد رمضانَ هباءً منثورًا؛ فإنّ عدوَّك الشيطانَ يتربّص بك، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أيها المسلمون، احذَروا عدوَّكم الشيطانَ الذي يريد أن تكونَ حَياتكم لهوًا ولعبًا وكسَلاً عنِ الطاعات، ويريد أن يَنغمسَ الإنسان في اللّذائذ المحرَّماتِ والشهواتِ، وأن يَغرقَ في بحار الغفلةِ والموبقات، فاعتصموا بربكم، واثبتوا على صراط الله المستقيم، فإنّه الطريق إلى جنّات النعيم.، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1807).
[2] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2703).
[3] مسند أحمد (5/321)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (1152).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، الملك الحقّ المبين، أحمده وأشكره حمدًا يوافي نعمَه ويكافئ مزيدَ فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبدُه ورسوله المبعوث بالهدى واليقين؛ لينذرَ من كان حيًّا ويحقّ القول على الكافرين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، وتمسّكوا من الإسلام بالعروة الوثقَى.
أيها المسلمون، إنّ فرائضَ الإسلام كلَّها طهارة للإنسان وتكريمٌ من الربّ تبارك وتعالى لعباده، والمحرَّمات في الإسلام شرورٌ ومهلكات ومفسدات للقلوب والأبدان، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وإنَّ مما فرضه الله تعالى زكاةَ الفطر، طُهرةً للصائم وجبرًا لما يقع في الصيام من النقص، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على الحرّ والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى المصلَّى. رواه البخاري ومسلم [1]. وفي حديث أبي سعيد الخدريّ أنهم كانوا يخرجون على عهد رسول الله زكاةَ الفطر صاعًا من برّ، صاعًا من شعير، صاعًا من تمر، صاعًا من أقِط، صاعًا من زبيب [2].
وتُخرَج هذه الزكاة من القوت الذي يقتاته أهل كلِّ بلدٍ، كالذرة والدُّخن والأرز ونحو ذلك. وتجب زكاة الفطر بغروب شمس آخر يومٍ من رمضان. ووقتُ إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجز أن تخرَجَ قبل العيد بيوم أو يومين كما في البخاري [3] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللَّغو والرّفث وطُعمةً للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات. رواه أبو داود [4].
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسِه، فقال تَبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قالَ : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503، 1509)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984).
[2] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: صدقة الفطر صاعا من طعام (1506)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985).
[3] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1511) عن ابن عمر رضي الله عنه.
[4] سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الفطر (1927)، وصححه الحاكم (1/409)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1420).
(1/4419)
التحذير من الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
16/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب صيانة اللسان. 2- حقيقة الغيبة. 3- الغيبة كبيرة من الكبائر. 4- ضرر الغيبة وعقوبتها. 5- الموقف الشرعي من المغتاب. 6- مواضع تجوز فيها الغيبة. 7- التوبة من الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله حقَّ تقواه، فمن اتَّقاه وقاه، ومن أطاعه أسعدَه ولا أشقاه.
إخوةَ الإسلام، مِنَ الأصول المقطوعِ بها في الإسلامِ وجوبُ صيانة اللِّسان عن أذيَّة أهل الإيمان، ومِن هنا فقد حرَّم الإسلام كلَّ ما يخالف هذا الأصلَ، ومن ذلك مرضٌ خطير وداء فتَّاك ومعوَل هدّام، ألا وهو داءُ الغيبةِ.
إنها الغيبةُ التي حقيقتها ذِكر مساوئِ الإنسان وما يَكرَهه في غيبته، يقول : ((أتَدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلَم، قال: ((ذِكرُك أخاك بما يكره)) ، قيل: أرَأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيهِ ما تقولُ فقد اغتَبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه)) رواه مسلم [1].
قال ابن حجر رحمه الله في بيان الغيبةِ وتفسيرِها على التّفصيل: "هي ذِكرُ المرءِ بما يكره، سواء كان ذلك في بدَنِه أو دينِه أو دُنياه أو نفسِه أو خُلقه أو ماله" [2].
أيّها المسلمون، والغيبةُ التي هذه حقيقتها هي كبيرةٌ من كبائر الذّنوب والعصيان، حكاه غيرُ واحد من أهل العرفان كابن حجَر والقرطبيّ عليهما رحمة الرحمن، يقول ربُّنا جلّ وعلا: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، ويقول نبيُّنا محذِّرًا من الغيبة: ((إيّاكم والغيبة)) [3].
عبادَ الله، الغيبةُ خَصلة تنمّ على ضعفِ الإيمان وسلاطَةِ اللسان وخُبث الجَنان، فما أعظَمَ خطرَها، وما أشنَعَ جرمَها، يقول : ((يا معشرَ من آمن بلسانه ولم يدخُل الإيمان قلبَه، لا تغتابوا المسلِمين، ولا تتَّبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتَّبع عوراتهم يتَّبعِ الله عورتَه، ومن يتَّبع الله عورتَه يفضَحه في بيته)) الحديث سنده جيد [4].
إخوةَ الإسلام، الغيبةُ سبَبٌ لعذاب القَبر وسبيل لسوءِ المصير في الآخرة، روى ابن ماجه واللفظُ له عن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: مرَّ النبيّ بقبرَين فقال: ((إنهما ليعذَّبان، وما يعذَّبان في كبير، أمّا أحدُهما فيعذَّب في البول، وأما الآخر فيعذَّب في الغيبة)) [5] ، قال ابن حجر في الفتح: "أخرجه أحمد والطبراني بإسناد صحيح" [6] ، وعن جابر رضي الله عنهما قال: كنّا مع النبي فارتَفَعت ريحٌ منتِنة، فقال رسول الله : ((أتَدرون ما هذه الرّيح؟ هذه ريحُ الذين يَغتابون النّاسَ)) رواه أحمد [7] ، وقال المنذري: "رواته ثقات" [8] ، وقال ابن حجر في الفتح: "سنده صحيح" [9].
معاشرَ المسلمين، الحذرَ الحذرَ من الوقوعِ في غيبة المسلمين والتّجَاسر على أعراضِ المؤمنين، فإنها ـ أي: الغيبة ـ خطيرةُ الضّرر شنيعة الأثر، يقول : ((لما عُرِج بي مررتُ بأقوام لهم أظفارٌ مِن نحاس يخمشون بها وجوهَهَم وصدورَهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يَأكلون لحومَ الناس ويَقَعون في أعراضهم)) أخرجه أحمد وأبو داود وسنده صحيح [10] ، وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: ((مَن ذَكَر امرأً بشيءٍ ليس فيه ليعيبه به حبَسه الله في نار جهنَّم حتى يأتيَ بنفاذ ما قال فيه)) قال المنذري: "رواه الطبراني بإسناد جيد" [11].
إخوةَ الإسلام، تأمَّلوا هذه النصوصَ وتبصَّروا في مدلولاتها، قِفوا عند حدودِها تَسلموا من شرِّ اللسان وتنجوا من حبائلِ الشيطان قبل فوات الأوان، واعلَموا أنَّ الخسارةَ الكبرى أن يبذُلَ المسلم حسناتِه لغيره عن طريقِ ذِكر مساوئ المسلمين والنَّيل في أعراض المؤمنين؛ ولهذا كان السّلف لا يرَونَ العبادةَ في الصلاة والصوم فحسب، بل ويرونَ أنها في الكفِّ عن أعراضِ المسلمين، ويُروَى عن الحسن أنَّ رجلاً قال له: إنَّ فلانًا قد اغتباك، فبعث إليه رُطَبًا على طبق، وقال: قد بلغني أنّك أهديتَ إليَّ مِن حسناتك، فأردتُ أن أكافِئَك عليها، فاعذُرني فإني لا أقدر أن أكافِئَك على التمام.
أيّها المسلمون، وتزداد خطورةُ الغيبة ويعظُم شرّها حينما يتَّخِذها المسلم سببًا لنيلِ عرَضًا من أعراض الدنيا وحُطامها الفاني، فرسولنا يقول: ((مَن أكل برجلٍ مسلِم أكلةً فإنّ الله يطعمه مثلَها من جهنَّم، ومن كسِيَ ثوبًا برجلٍ مسلم فإنَّ الله يكسوه مثلَه من جهنم)) الحديث صحيح عند المحققين [12].
أيّها المسلمون، الواجبُ المحتَّم على من سمِع غيبةَ مسلم أن يردَّها ويزجرَ قائلها بالمعروفِ، فإن لم ينزجِر فارقَ ذلك المجلسَ، كما قرَّر ذلك النوويّ وغيره من أهلِ العلم، يقول : ((من ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ الله عن وجهِه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [13].
فاتقوا الله أيّها المؤمنون، والتزِموا بأوامرِ الله وأوامِر رسوله تفلِحوا وتسعَدوا.
أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر، باب: تحريم الغيبة (2589) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] فتح الباري (10/469).
[3] أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة (25) وفي الصمت (164) من حديث جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، وفي سنده عباد بن كثير وهو متروك. وانظر: السلسلة الضعيفة (4/325-326).
[4] رواه أحمد (4/420، 424)، وأبو داود في الأدب (4880)، وأبو يعلى (7423)، والقضاعي في مسند الشهاب (933)، والبيهقي في الشعب (5/296) عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (2/159، 3/110)، وهو في صحيح الترغيب (2340). وفي الباب عن البراء بن عازب وابن عمر رضي الله عنهما.
[5] سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة (349)، مسند أحمد (5/35، 39)، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (1/115، 3/52)، قال الهيثمي في المجمع (8/175): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير بحر بن مرار وهو ثقة"، وهو في صحيح الترغيب (2841). وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه.
[6] فتح الباري (1/321).
[7] مسند أحمد (3/351)، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في الصمت (216)، والبخاري في الأدب المفرد (732)، قال الهيثمي في المجمع (8/172): "رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في غاية المرام (429). وفي الباب عن أنس رضي الله عنه.
[8] الترغيب والترهيب (3/51).
[9] فتح الباري (10/470) وفيه: "سنده حسن".
[10] مسند أحمد (3/224)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4878) من حديث أنس رضي الله عنه، ورواه أيضا ابن أبي الدنيا في الصمت (165، 572)، والطبراني في الأوسط (8)، والبيهقي في الشعب (5/299)، وصححه الضياء في المختارة (2286)، وهو في السلسلة الصحيحة (533).
[11] الترغيب والترهيب (2/45). والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (8936) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وضعفه الألباني في غاية المرام (437).
[12] أخرجه أحمد (4/229)، وأبو داود في الأدب (4881)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في الكبير (20/309) والأوسط (697، 3572)، والبيهقي في الشعب (5/300) عن المستورد بن شداد رضي الله عنه، وهو في السلسلة الصحيحة (934).
[13] سنن الترمذي: كتاب البر (1931) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (6/450)، والبيهقي في الشعب (7635)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1575).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله كما ينبغِي لجلال وجهِه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ؛ فهي خير الزادِ ليومِ المعاد.
أيّها المسلمون، وقد ذكَر العلماء من مُنطلَق نصوصِ الشرع مواضِعَ تُباح فيها الغيبة للضّرورة إليها، وهي التظلُّم من ظالمٍ عند من يقدِر إنصافَه، وفي الاستفتاء، وفي النصيحةِ للمسلمين لتحذيرهم من شرٍّ ما، وفي إظهار المجاهِرِ بفسقٍ أو بِدعةٍ فيما يجاهِر به لا بِغيره، وفي التعريفِ بمن لا يُعرَف إلا بوصفٍ يتميَّز به عن غيره لا على جِهَة التنقّص، وما أمكن البعدُ عن الغيبة في هذه المواضع فهذا هو الأولى إذا تحقَّق المقصود بالتّعريض والتلميح.
ألا فتوبوا إلى الله، واحذروا هذا الجرمَ الكبير، وعلى المغتابِ التوبةُ إلى الله جلّ وعلا والتحلّلُ ممّن اغتابه والدعاءُ له وذِكر محاسنه وفضائله في المواضعِ والأماكن التي كان يَغتاب فيها.
ثمّ إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيِّ الكريم.
اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديّين...
(1/4420)
آداب الحج
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الحج والعمرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل شعيرة في الإسلام حكم وغايات. 2- فضل عشر ذي الحجة. 3- من آداب الحج: الاستخارة، الإخلاص والمتابعة، الرفقة الصالحة، التوبة، إتمام الفرائض. 4- الحج رحلة إيمانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل وقت ومكان، احفظوا أوامر ربكم تُحفَظوا، وعظّموا حرماته وشعائره تتقوا، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى حين شرع الشرائع وحدّ الحدود ونوّع لعباده الطاعات والعبادات فجعل منها أركانًا وواجبات وسننًا ومندوبات إنما شرعها سبحانه لحكم بالغة عظيمة، ونوَّعَها لأسرار لطيفة متينة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ثم إنه سبحانه جعل لكل عبادة آدابًا لا تصح ولا تقوم إلا عليها، ولا تؤتي ثمارها ونتائجها إلا بتوفرها ووجودها، علم ذلك موفقون فأخذوا بتلك الأخلاق والآداب، فاستفادوا من عباداتهم في دينهم ودنياهم، وجهلها مخذولون فأتوا في عباداتهم بالعجب العجاب، وصارت عباداتهم من قبيل العادات الموروثة، يخرجون منها كما دخلوا فيها، ويصدرون عنها كما وردوا إليها، لا صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا صيامهم يمنعهم من السب والشتم والقتال، زكَّوا فما زكَت نفوسهم، وحجّوا فما تركوا الرَّفَث والفسوق والجدال، وما ذلك إلا لأنهم أدوا تلك العبادات على غير ما شرع الله، أو لأنهم نقصوها حقها الواجب وأخلوا بآدابها المشروعة.
أيها المسلمون، ونحن في هذه الأيام الشريفة المباركة أيام عشر ذي الحجة المعلومة التي هي بنص الحديث أفضل أيام السنة على الإطلاق، فإننا مطالبون بتعظيم هذه الأيام كما عظمها الله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
وقد علمتم ـ أيها المسلمون ـ فضل هذه العشر المباركة وما يشرع للمسلم فيها من أعمال صالحة، والتي من أهمها وأفضلها حج بيت الله الحرام، أحد أركان الإسلام ودعائمه العظام، والذي وردت في فضله وبيان تكفيره الذنوب والسيئات الأحاديث الصحيحة الكثيرة، بما يثير شوق عباد الله إلى بلاد الله، ويحدوهم إلى تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة. وقد علم المؤمنون بما هنالك من حسنات مضاعفة ودرجات مرفوعة، وسيئات مغتفرة وتوبة مقبولة، فما زالت أفئدة منهم تهوي إلى البيت الحرام، وما فتئت نفوس تتطلع إلى رؤية هذا البيت العتيق والطواف حوله والتقلب في عَرَصَات مشاعره، تقاطرت وفودهم على هذا البيت منذ أُذِّنَ فيهم بالحج، يتوافدون من كل صَوْب وفَجّ، رجالاً على أقدامهم، وركبانًا على ما سخر الله لهم، يتوافدون من كل فِجَاج الأرض القاصي منها والداني، وحناجرهم تجأر بإجابة التوحيد ونداء الإخلاص: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
أيها المسلمون، يا من نويتم حج بيت الله الحرام إتمامًا لأركان دينكم العظيم، أو طلبًا للأجر وتزوّدًا من التقوى، اعلموا أن للحج آدابًا عظيمة وأخلاقًا قويمة، يحسن بالحاج أن يقف عليها ويعلمها، ويجمل به أن يأخذ بها ويعض عليها بنواجِذه؛ ليكون حجه كاملاً مبرورًا وسعيه مقبولاً مشكورًا، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) ، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن تلك الآداب ـ أيها المسلمون ـ أن يستخير الحاج ربه جل وعلا في حجه، وأن يستشير من يثق بدينه وعلمه، يستخير ويستشير في ملاءمة وقت حجه ومصلحته ورفقته وزاده، فإن الإنسان لا يدري أمن الخير له أن يحج هذه السنة أو التي بعدها أو مع فلان أو علان أو في تلك الحملة أم مع أولئك الرفقة؛ ولذا شُرِعت الاستخارة والاستشارة.
ومن آداب الحج الواجبة إخلاص النية لله تعالى والمتابعة لرسوله ، فلا يحج ليراه الناس أو يسموه الحاج، ولا رياء أو مفاخرة، بل يحج محبة لله وطمعًا فيما عنده، ورغبة في ثوابه وخشية من عقابه، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، وكان يقول لمن حج معه: ((خذوا عني مناسككم)). فعلى الحاج إخلاص النية لله تعالى والمتابعة لرسول الله في كل ما يأتي ويذر، فيسأل أهل الذكر عما أشكل عليه، ويتفقه في أحكام حجه قبل أن يقدم عليه، ولو أن يقرأ الكتب أو يستمع الأشرطة، فإن فيها خيرًا كثيرًا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومما يعين على ذلك ـ أيها المسلمون ـ أن يحرص الحاج أن لا يصحب إلا رفقة صالحة ناصحة، تعينه على الخير وتدله عليه، وتزوده العلم النافع والخلق الفاضل. وعلى الرفقة إذا خرجوا للحج أن يُؤَمِّرُوا من كان منهم ذا خبرة ناضجة ورأي سديد، وأن يلزموا طاعته والائتمار بأمره، وليحذروا من الاختلاف والمراء والجدل، أو المشاجرة والمخاصمة بالباطل، فإنها مما ينقص ثواب الحج أو يبطله، وليلزموا السكينة والرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وليحرصوا على راحة إخوانهم المسلمين الحجاج، وأن يحبوا لهم ما يحبونه لأنفسهم، وليحذروا من أذيتهم بغير ما اكتسبوا ولا ما اجترحوا؛ لئلا يحتملوا من جرّاء ذلك بهتانًا وإثمًا مبينًا. إنه لا بد ـ أيها الإخوة ـ أن يصبر الحاج على ما يصدر عن إخوانه الحجاج من أنواع الأذى، من زحام ومضايقة أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة، فالكريم يصبر على أذى ضيوفه حرصًا على إكرامهم وجبرًا لخواطرهم، فكيف بضيوف الرحمن ووفد الله؟! إن إكرامهم أولى ثم أولى، فهو دليل كمال العقل وغزارة الفهم، بل إنه دليل على إجلال الله وتوقيره ومتانة الدين وقوته، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].
ومن آداب الحج ـ أيها المسلمون ـ المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الخطايا والذنوب، والتخلص من حقوق العباد صغيرها وكبيرها، والتحلل من مظالم إخوانه المسلمين، ممن ظلمهم بقول أو فعل أو اعتداء، فإن ذلك أرجى لقبول حجه ورفعة درجاته، ومغفرة ذنوبه ومحو سيئاته، بل وتبديلها بالحسنات، وليحرص المسلم على تخير النفقة الطيبة من المال الحلال، ليُقبَل حجه ويُرفع دعاؤه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
ومن الآداب المشروعة للحاج غض البصر وحفظ اللسان واستشعار عظمة الزمان وفضل المكان، فالحاج الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه مشغول بنفسه وعيوبه، متذكر لخطاياه وذنوبه، مغتنم وقته بما يقربه إلى الله، لسان حاله يقول:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغِلُ
فهو متجنب لفضول الكلام وسيئه، مبتعد عن الغيبة والنميمة، مترفع عن السخرية بالناس والاستهزاء بهم، حَذِر من كثرة المزاح أو الإسفاف فيه، لا يسب ولا يشتم، ولا يخاصم ولا يجادل، غاض طرفه، حافظ لبصره، سليم القلب من التشتت والتشويش، بعيد عن الفتن والبلايا، معظم لشعائر الله، كافّ عن محارمه، آمر بالمعروف حسب قدرته واستطاعته، ناه عن المنكر ما وجد إلى ذلك سبيلاً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، متلطف بإخوانه، صابر عليهم، يرشد الضال ويعلم الجاهل، ويواسي المحتاج ويطعم البائس.
ومن الآداب التي يجب أن يحرص عليها الحاج ليكون حجه مقبولاً المحافظة على أداء الفرائض وإتمام الواجبات، لا أن يكون همه أن يقضي نسكه كيفما اتفق له، من غير استشعار لعظمة ما يقوم به، فإن كثيرًا من الحجاج ـ هداهم الله ـ من حين أن يسافر ويفارق بلده وهو لا يفكر إلا في موعد عودته ورجوعه إليه، وكأنه قد خلّف وراءه ثغرًا لا يسده إلا هو، فيستعجل بعضهم من أجل ذلك عجلة تخل بكثير من المناسك والشعائر، فيتركونها بالكلية من غير اهتمام، أو يأتون بها على غير ما شرعه الله، فلا ينالون من حجهم والحال تلك إلا التعب والنصب. فعلى الحاج الصبر والأناة، واحتساب هذه الرحلة في ذات الله من حين أن يفكر فيها حتى يرجع إلى بيته ويضع رحله، وليعلم أنه في جهاد وعلى أجر عظيم، فلماذا العجلة والتسرع؟! ولماذا الإخلال بالعبادة وقلة الاهتمام؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:25-37].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
أيها الإخوة، ماذا يصنع من يؤمّ هذا البيت إذا لم يجرّد التوحيد لله ويتابع نبيه ؟! ماذا يصنع من لم يكن فيه ورع يحجزه عما حرم الله، وحلم يرحم به عباد الله، وحسن صحبة لمن يصحب؟! ألا فلا يحقرن حاج من المعروف شيئًا، ولو أن يفرغ من دلوه في إناء المستسقي، ولو أن ينحي الأذى من طريق الناس، ولو أن يلقى أخاه ووجهه إليه منطلق، فخير الناس أنفعهم للناس وأصبرهم على أذى الناس. ولقد أعد الله جنات عدن للذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين.
إن الحج ـ أيها المؤمنون ـ رحلة إيمانية عميقة، في عبادات جليلة عظيمة، وذكريات عَبِقَة كريمة. في الحج ملتقى المسلمين الأكبر، وفي البيت مثابتهم العظمى، ملتقى الموحدين في المشارق والمغارب، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم.
وإن تجمعات الدنيا مهما بلغت في أهدافها ومقاصدها لن تبلغ سمو هذا الاجتماع الشامل المترابط المتآخي المتضامن في أهدافه وآماله، فاعرفوا لهذا الموسم قدره، وأعطوه حقه ومستحقه، واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
(1/4421)
المؤمن الصادق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, المسلمون في العالم, حقيقة الإيمان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
16/10/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب نزول قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ. 2- العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المسلم. 3- من صفات المؤمن الصادق. 4- توالي العمليات الإسرائيلية لتهويد القدس. 5- الاعتداءات الإسرائيلية على مسجد داود عليه السلام. 6- تدخل السلطات الإسرائيلية في شؤون المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
أيها المسلمون، لهذه الآية الكريمة سبب نزول، وملخّصه: كان الرجل يأتي المدينة المنورة فيسلم، فإن ولدت زوجته غلامًا أو أنتجت خيله مهرًا قال عن الإسلام: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته غلامًا أو لم تنتج خيله مهرًا قال عن الإسلام: هذا دين سوء. وهناك رواية أخرى لسبب النزول ومفاده: أن رجلاً يهوديًّا قد أسلم، فصادف أن فقد بصره وخسر ماله وتوفي له ولد، فتشاءم من الإسلام، فنزلت هذه الآية الكريمة من سورة الحج ـ وهي مدنية ـ لتوضح للمسلمين بأن العقيدة الإسلامية لا توزن بميزان الربح والخسارة، وليست هي صفقة تجارية ولا هي مصالح دنيوية، وأن الذي يعدها كذلك يكون مهزوز الإيمان، وتقوم عبادته على الشك وعدم الثبات واليقين والتمكين، وبالتالي يخسر الدنيا والآخرة، إنه يخسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه من ضياع المال أو الولد أو الصحة أو أي عرض من أعراض الدنيا فلم يصبر على البلاء، ولم يرجع فيه إلى الله عز وجل، فيبقى مضطربًا مزعزعًا، ثم إنه يخسر الآخرة بانقلابه على وجهه وانعكاسه عن عقيدته وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسّرًا له. اللهم لا تجعلنا فتنة للآخرين للقوم الكافرين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، آمين يا رب العالمين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن العقيدة بالنسبة للمسلم هي الركيزة الثابتة في حياته العملية اليومية، فإذا اضطربت الدنيا من حوله فإنه يثبت على هذه الركيزة، وإن تجاذبته الأحداث ولاحقته المصائب فإنه مُتشبِّث بهذه الصخرة التي لا تتزعزع، وإنه يستوي عليها ويتمكن منها ولا يتَلَجْلَج فيها.
إن المؤمن الصادق في إيمانه ـ يا مسلمون ـ لا ينتظر جزاءً مادّيًا دنيويًا على عقيدته، فهي في ذاتها جزاء ومكسب؛ لأن صاحبها يلجأ إليها ويستند عليها، وأنها ـ أي: العقيدة ـ تضفي عليه الطمأنينة والراحة والرضا.
إن المؤمن الصادق هو الذي يعبد ربه شكرًا له على هدايته وطمأنينته للقرب منه والأنس به، فيقول رسولنا الأكرم في الحديث القدسي: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليّ شبرًا اقتربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إليّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن المؤمن الصادق الذي يجعل من رسول الله قدوة له في مواقفه الإيمانية، والله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. إن المؤمن الصادق الذي يضع في نصب عينيه سيرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين ضحوا بالغالي والرخيص من أجل رفع شأن الدين ونشر الدعوة الإسلامية، وذلك لنيل الرضا من الله رب العالمين، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير وخَبّاب بن الأَرَت وخُبَيب بن عدي وياسر وسُميّة وعمّار وأسماء وعائشة وغيرهم العشرات، بل المئات من مصابيح الهدى في دَيَاجِير الظلام، فيقول رسولنا الأكرم من حديث مطوّل: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجِذ)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن المؤمن الصادق الذي يقنع ابتداءً بما قدّره الله له، ويقبل ابتداءً كل ما يجريه عليه ربه في السراء والضراء وحين البأس، ثم هل نتصور ـ يا مسلمون ـ من مسلم موحد بالله يقول: لا أصلي لأن الله تخلّى عنا ولم ينصرنا! ويقول: لا أدخل المسجد الأقصى المبارك حتى ينتهي الاحتلال الإسرائيلي! فهل الذي يقول مثل هذه الأقوال قد سأل نفسه: لماذا تخلى الله عنا؟! ولماذا لم ينصرنا؟! هل تذكّر قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]؟! وهل هذه الأقوال تصدر عن مسلم مؤمن متمكن من إيمانه وعقيدته؟! إنها أقوال انهزامية مهزوزة، تحمل في طياتها اليأس والقنوط والاعتراض على تقديرات الله رب العالمين، فهل يجوز للمسلم المؤمن أن يفقد ثقته بالله عز وجل؟! إن ديننا الإسلامي العظيم يدعونا إلى الأمل والتفاؤل: ((ولكنكم تستعجلون)).
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن العقيدة السليمة هي التي تؤدي إلى إسلام المخلوق للخالق الواحد الأحد الذي لن يتخلى عن جنده المؤمنين، وإن رب العزة قد قرر في اللوح المحفوظ بأن المسلمين هم الأعلون بقوله في سورة آل عمران: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. نعم أيها المسلمون، بأننا الأعلون، وسنبقى كذلك إن شاء الله، شريطة أن نتصف بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، ويقول في سورة آل عمران أيضًا: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]. فأجيبوني ـ أيها المصلون ـ بصوت واحد وبقلب واحد: من خالقنا؟ الله، من الواحد الأحد؟ الله، من تعبدون؟ الله، من ملجؤنا؟ الله، من ينصرنا؟ الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فتوبوا إلى الله، وارجعوا إليه دائمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك ثلاث مسائل بحاجة إلى توضيح وتعقيب من الناحية الدينية، وذلك بإيجاز:
المسألة الأولى: بشأن ما قامت به ما يسمّى بشركة تطوير الحي اليهودي في البلدة القديمة من مدينة القدس بتسجيل ألف وثلاثمائة عقار في البلدة القديمة في سجلات الطابو بأسماء يهود. إن هذه الخطوة الخطيرة إن صحت لتؤكد المحاولات الاحتلالية لتهويد المدينة بالاستناد إلى قوانين جائرة، منها قانون أملاك الغائبين، وقانون الأملاك المتروكة، وهذه خطوة غير مشروعة وغير عادلة، وتخالف القوانين الدولية، فلا يحق للسلطات المحتلة أن تغير من معالم المناطق التي احتلتها؛ لذا نعد هذه الخطوة باطلة، وما بُنِي على باطل فهو باطل، وإن الباطل لا يعطي لصاحبة الحق الشرعي مهما طال الزمن. في حين يُحرَم المواطنون العرب من رخص البناء، وأن بيوتهم معرضة للهدم والغرامات الباهظة جدًّا بهدف تشتيت المواطنين عن أرضهم وأراضي آبائهم وأجدادهم، ونؤكد أن السلام المعلن هو سراب خادع.
أيها المسلمون، المسألة الثانية: مسجد ومقام النبي داود عليه السلام بالقدس، هذا المسجد كان مقامًا قبل الحروب الصليبية في القرون الوسطى، وقد اعتدى عليه الصليبيون وحولوه إلى كنيسة، وبعد تحرير البلاد وتطهيرها منهم عاد المسجد إلى المسلمين. وفي عام 1967م وضعت السلطات المحتلة يدها عليه، وهناك محاولات لتحويله إلى كنيسة مقابل كنيس لليهود في إسبانيا، فالخاسر في هذا التبادل هم المسلمون، ثم تأتي البلدية الإسرائيلية بالقدس لتنفي أي تبادل بشأن مسجد ومقام النبي داود عليه السلام، وأن البلدية كما يقول رئيسها بأنها تحافظ على الوضع الراهن، فإن كان هذا الكلام صحيحًا فينبغي على المسلمين أن يقيموا صلواتهم فيه، وأخص بالذكر المواطنين المسلمين المجاورين لمنطقة النبي داود، والتجار في باب الخليل، ليقيموا شعائر الصلوات فيه.
أيها المسلمون، المسألة الثالثة: المسجد الأقصى المبارك. مما هو ملاحظ أن السلطات الإسرائيلية المحتلة لم يسبق أن تدخلت في شؤون الأقصى كما هو الحال في هذه الأيام بحجج أمنية واهية، وأن السلطات المحتلة تتذرع بهذه الحجج كأسلوب لمشاركة الأوقاف الإسلامية بإدارة المسجد الأقصى، فالأطماع واضحة لإرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف على حساب حق المسلمين في هذا المسجد المبارك، لنؤكد للمرة تلو المرة بأنه للمسلمين وحدهم بقرار من رب العالمين، ولا نقرّ ولا نعترف بأي حق لغير المسلمين فيه: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وحماك الله يا أقصى.
(1/4422)
واقعنا مع الصلاة
فقه
الصلاة
إبراهيم بن عبد الله صاحب
جازان
18/3/1425
جامع قرية المجديرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الناس مع الصلاة. 2- مكانة الصلاة في الإسلام. 3- مكانة الصلاة في الأديان السابقة. 4- الوصية بالاهتمام بالصلاة في أوقاتها. 5- رسالة إلى المؤذنين. 6- رسالة إلى أصحاب المحلات التجارية. 7- رسالة إلى الشباب. 7- السرّ في افتتاح الصلاة بقول: "الله أكبر".
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي لهم في مرض رسول الله الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول للعام الحادي عشر من هجرته عليه الصلاة والسلام ـ وهو اليوم الذي مات فيه ـ خرج وهم صفوف في الصلاة، فكشف رسول الله ستر الحجرة. ودعونا نستمع لأنس فليس من سمع كمن رأى، فلنترك الحديث له وهو يعبر لنا عن مشاعرهم في ذلك الوقت بعد أن غاب عنهم عليهم الصلاة والسلام أسبوعًا كاملاً، وهو يكابد ويعاني من الصداع والمرض، قال أنس: فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله ضاحكًا، قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج رسول الله، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصلَ الصف، وظن أن رسول الله خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله بيده أن أتموا صلاتكم، قال: ثم دخل رسول الله فأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله من يومه ذلك.
والسؤال هنا أيها الأحبة: كيف لو كشف رسول الله ستر حجرته في زماننا هذا ورأى أصحاب المحلات التجارية فاتحين محلاتهم يبيعون ويشترون والمؤذن قد نادى بالصلاة وقال: حي على الصلاة حي على الفلاح؟! فهل سيتبسم أو يعجبه ما هم فيه من تجارة وبيع وعدم مسارعة إلى ذكر الله وإقام الصلاة؟! وكيف لو كشف رسول الله ستر حجرته الشريفة ورأى النائمين عن الصلاة؟! فهل يا تُرى سيتبسم أو يعجبه ذلك؟! بل كيف لو كشف رسول الله ستر حجرته وشاهد رجالنا في بيوتهم قابعين ولا يستجيبون لنداء الله خمس مرات في اليوم والليلة يدوي على أسماعهم؟! أو كيف لو كشف رسول الله ستر حجرته ورأى الشباب في الملاعب يلهون ويلعبون وفي الليالي يسهرون وفي الطرقات يتسكعون وعلى القنوات والمواقع والصفحات متهافتون، أو رأى النساء يضيعن صلاتهن بأعمال المنزل التي قد تعجل أو تؤجل عن وقت الصلاة، أو مع بعضهن يبسطن وقت الصلاة، أو وهنَّ الأخريات على القنوات مفتونات أو بالهواتف مشغولات؟! كيف لو رأى رسولنا عليه الصلاة والسلام حالنا مع الصلاة؟! ماذا تراه يقول عنا؟! وبأي وجه سوف ينظر إلينا؟! أخشى ـ والله ـ أن يقول لنا: سحقًا سحقا بعدًا بعدًا. فقد خف ميزان الصلاة عند كثير من الناس رجالاً ونساء.
الصلاة ـ أيها الأحباب ـ هي الوصية الأخيرة للرسول عليه الصلاة والسلام، فقد اقتصر واختصر في رمقه الأخير ساعة وداعه للدنيا على الوصاية بها وبالرفيق الأعلى لما اشتدت به سكرات الموت، فعن علي قال: كان آخر كلام النبي : ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)) حديث صحيح، وفي الحديث الصحيح الآخر عن أنس بن مالك قال: كانت آخر وصية رسول الله وهو يغرغر بها لسانه: ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)).
أيها المسلمون، والصلاة هي مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، فالصلاة ميزان الأعمال، بها يتابع الإنسان زيادة إيمانه ونقصانه كما يتابع الطبيب بمقياس الحرارة حرارة المريض ونبضات قلبه، فعن أنس أن النبي قال: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) حديث صحيح.
الناس يتفاضلون في الصلاة قبل أن يتفاضلوا في غيرها من فضل علم أو ذكاء، وهي المقياس الصحيح وبها يُحكم على دين الرجل ومكانته في الإسلام، وليس امتياز هؤلاء الرجال الذين خلد التاريخ ذكرهم وسطر مجدهم وكان لهم فضل في الأقران المعاصرين ولسان صدق في الآخرين إلا لامتيازهم في الصلاة، وتفوقهم فيها على معاصريهم وأضرابهم، وبلوغهم فيها درجة الإحسان، ووصولهم فيها إلى أسمى وأعلى مكان.
وعلى الجانب الآخر فإن كل مستخفّ بالصلاة ومستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به؛ لأن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، فإذا أردت أن تعرف قدر رغبتك في الإسلام ففتش عن رغبتك في الصلاة، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وإذا أردت أن تقيس إيمان عبد فانظر إلى مدى تعظيمه للصلاة، ولنتذكر قول قدوتنا وأسوتنا وقائدنا عليه الصلاة والسلام: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، وفي الحديث الحسن يقول عليه الصلاة والسلام: ((من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)) ، وعن الحسن قال: "يا ابن آدم، أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟!".
أيها المصلون، والصلاة دعامة لجميع الشرائع السماوية، فهي أقدم عبادة، ولأنها من مستلزمات الإيمان لم تخل منها شريعة من الشرائع، ولم تنسخ فيما نُسِخ منها؛ إذ لا خير في دين لا صلاة فيه، ولهذا حث عليها جميع رسل الله عز وجل وأنبيائه سبحانه وتعالى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام دعاءه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، ونوه جل وعلا بشأن إسماعيل عليه السلام فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، وقال سبحانه مخاطبًا موسى عليه السلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، ونادت الملائكة مريم أم عيسى عليهما السلام: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، وقال عيسى عليه السلام متحدثًا بنعمة الله عليه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، وقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل، فجعل إقامة الصلاة من أهم مواد وبنود هذا الميثاق: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]، وقال جل وعلا مخاطبًا خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل صلاة وأتم تسليم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا ونعجل فطرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا)).
أيها المسلمون، بل قد جعل الله تعالى الصلاة هي عنوان الإسلام، وسمى الصلاة إيمانًا كما في قوله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، يعني: صلاتكم السابقة التي كانت قبلتها نحو المسجد الأقصى المبارك، وقال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة:31]، أي: فلا هو صدق رسول الله فآمن به ولا صلى، وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:48-50]، فوبخهم على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان، وقد ذكر الله جل جلاله الصلاة وحدها بذلك على أنها عماد الدين، ومثله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:92].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة الكرام، يجب علينا أن نتناصح فيما بيننا، وأن يدل بعضنا بعضًا على الخير أينما كان، ولا يكون إلا في طاعة الله تعالى واكتساب مرضاته جل وعلا.
فيا تارك الصلاة، إلى متى يدعوك ذو العرش المجيد الفعال لما يريد وأنت معرض عنه وبعيد؟! كم يتقرب إليك بالإحسان وأنت تبارزه بالعصيان، وعليك منه ملكان يحصيان، فبادر بالتوبة إلى بابه ولُذ بجنابه؛ فهو منك قريب ولدعائك مستجيب، عن البراء بن عازب قال: بينما نحن مع رسول الله إذ بَصُرَ بجماعة، فقال: ((على ما اجتمع هؤلاء؟)) قيل: على قبر يحفرونه، ففزع رسول الله ، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا)) حديث حسن.
وعلينا ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن نحافظ على الصلاة في وقتها المؤكد وموعدها وزمنها المحدد، لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)) متفق عليه، وكل نص في القرآن والسنة على إقامة الصلاة فإنما يُعنى به في المقام الأول المحافظة على الصلاة في وقتها، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم تكن إضاعتها تركها، ولكن أضاعوا الوقت"، وقال مسروق رحمه الله: "لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن"، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، قال سعد بن أبي وقاص : (سهوا عنها حتى ضاع الوقت). فهذا مُصلٍ من أهل الصلاة يتطلع بصلاته إلى النجاة من الويل، لكن لما فرط في وقتها استحق الويل.
وهي رسالة مضمنة بهذه النصيحة نبعثها بكل الشكر والتقدير ومعطرة بنفحات المسك وشذا العبير إلى المؤذنين بأن يتقوا الله تعالى في أوقات المسلمين، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((المؤذن مؤتمن، والإمام ضامن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) رواه أحمد. فهنيئًا لكم هذه الدعوة بالمغفرة من الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعل الله تعالى قد غفر لكم واستجاب فيكم دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام.
ورسالة أخرى مزدانة بالورود والزهور ومنشاة بالندى والعطور نبعثها لأصحاب المحلات التجارية، ونذكرهم فيها بقوله سبحانه وتعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38]، وبقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
ورسالة ثالثة مفعمة بالحب فواحة بالصدق أبعثها على طبق من ذهب لإخواني الشباب خاصة وعامة لكل الرجال والنساء والكبار والصغار، وهي قوله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. فاليوم عمل وغدًا الجزاء، وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ.
أيها الكرام، وانظروا إلى عزة الإسلام وإلى تميزنا عن غيرنا؛ فلقد شرع الله لنا افتتاح الصلاة بالتكبير وهي الكلمة المأثورة المتواترة المشروعة لافتتاحها، وهي قول: (الله أكبر)، ولو تفكرنا قليلاً في هذه الكلمة، فالله أكبر من كل شيء وأعظم من كل عظيم، إنها كلمة بليغة واضحة جلية، كلمة قوية مدوية مجلجلة، كلمة تفهمها كل الشعوب والمجتمعات والبيئات، ويعرفها كل زمان ومكان، تخشع أمامها الجبابرة، وتخضع لها القياصرة، وتهوي حيالها الأكاسرة، وتتهدم لها كل الأصنام، وتنمحي الأوثان، وتضطرب بها كل الطواغيت، فلا النصارى يكبرون صليبهم، ولا اليهود يكبرون تلمودهم، ولا البوذيون لإلههم، ولا المجوس لنارهم، فلا هؤلاء ولا غيرهم، الله هو الكبير فقط من كل شيء سبحانه، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:189]. فليكن في أنفسنا أكبر وأعظم وأجل وأقدس من كل شيء آخر، والدليل على ذلك لا بد أن يكون حيًّا ومفعَّلا ومطّبقًا، ألا وهو المحافظة على الصلاة مع جماعة المسلمين في وقتها وفي مكانها الذي أراده الله لها أن تكون فيه وأمر به رسوله، ولو هجرت المساجد وكل منا صلى في بيته فماذا يكون؟! وما هي النتيجة؟! أترك الإجابة لكم على ذلك.
عباد الله، صلوا وسلموا على سيدنا محمد.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4423)
آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللسان نعمة عظيمة من نِعَم الله. 2- خطورة اللسان. 3- آفة الغيبة. 4- آفة النميمة. 5- آفة الكذب. 6- آفة شهادة الزور. 7- آفة اليمين الغموس. 8- آفة الاستهزاء والسخرية. 9- التحذير من فضول الكلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى وتدبروا القرآن المجيد، واعلموا أن من اتقى الله وقاه، وجعل له من كل هَمٍّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
عباد الله، إن من النعم العظيمة على الإنسان نعمة اللسان والبيان، فبها يعبر الإنسان عن كل ما يريد، وهذه النعمة يتميز بها الإنسان على سائر المخلوقات، قال تعالى ممتنًا على الإنسان: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4]، وقال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]. وباللسان يتميز الإنسان عن العجماوات، فيترجم عن مكنونات الجنان ويخبر عن مستودعات الضمير.
والكلمة خفيفة على اللسان سهلة الجريان، لها مكانتها وقيمتها في نظر الشارع الحكيم وعند العلماء والعقلاء؛ فالعبد يكتب عليه كل ما يتكلم به، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. والمؤمن مأمور بأن يكون كلامه مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70، 71]، وأن لا يُحدِّث بكل ما سمع، قال النبي : ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع)) ، كما نهى المسلم أن يكون ثرثارًا أو متشدقًا أو متفيهقًا، قال : ((إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين)) ، والثرثار هو كثير الكلام تكلفًا، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق هو المتكبر.
وهذه النعمة الجليلة لا بد لها من شكر، وشكرها بتسخيرها في الذكر والشكر لخالقها ليلاً ونهارًا سرًا وعلانية، فالإنسان مسؤول عن هذه النعمة، قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، أي: ولا تتبع ـ أيها الإنسان ـ ما لا تعلم بل تأكَّد وتثبَّت.
إن الإنسان مسؤول عما استعمَل فيه سمعه وبصره وفؤاده ولسانه، فإذا استعمَلها في الخير نال الثواب، وإذا استعملها في الشر نال العقاب، فكل كلمة تخرج من هذه النعمة محاسب عليها الإنسان، إن كانت خيرًا فخيرًا وإن كانت شرا فشرًا، كما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) متفق عليه.
الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا
ما إن ندمت على السكوت مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا
وكما قيل: البلاء موكل بالمنطق، لذلك قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: لا نفع في كثير من كلام الناس سرًّا فيما بينهم إلا إذا كان حديثًا داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة أو الكلمة الطيبة أو التوفيق بين الناس, ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه فسوف نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا.
عباد الله، إن للسان خطورة عظمى؛ إذ به يسلم الإنسان في الدنيا والآخرة، وبه يعطب، وبه يقدَم، وبه يؤخر، ولذا ينبغي للمسلم أن يعي ويفهم أنه محاسب على ما يتفوه به، ولقد سئل النبي عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ((اللسان والفرج)). وها هو معاذ يقول له النبي بعد الوصية العظيمة في الصيام والإيمان والجهاد: ((ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((أمسك عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، قال: يا رسول الله، أوَنؤاخذ بما نتكلم؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في جهنم على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) رواه الترمذي.
عباد الله، اعلموا إنه قد أفلح وفاز من رزقه الله لسانًا ذاكرًا وشاكرًا، واعلموا أن العبد قد يشتري بكلمة طيبة رضوان الله ورحمته جل وعلا، وبكلمة أخرى قد يسخط الله عليه، قال : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه)) أخرجه البخاري.
ها هو أبو بكر يراه عمر وهو ماسكٌ بلسانه ويشير إليه ويقول: (هذا أوردني الموارد)، وها هو ابن مسعود على الصفا يقول وهو يخاطب لسانه: (يا لسان، قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم)، وقال عمر: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت زلاته، ومن كثرت زلاته فالنار أولى به).
عباد الله، ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه فلا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ودنياه، فالله يقول: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، أي: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم الكلام الحسن الطيب؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العداوة والفساد والخصام، إن الشيطان كان للإنسان عدوًا ظاهر العداوة. وقال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
عباد الله، إن كثيرًا من الأمراض الاجتماعية من غيبة ونميمة وسب وشتم وقذف وخصام وكذب وزور وغيرها للسان فيها أكبر النصيب، عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان؛ تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك, فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) رواه الترمذي.
إن المسلم إذا سمح للسانه أن يلغو في هذه الأعراض وغيرها كان عرضة للضياع والإفلاس في الآخرة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال : ((المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
ومن حفظ لسانه من كل سوء كان الجزاء عظيمًا والأجر كبيرًا، ولذا قال : ((من يضمن لي ما بين لحييه ـ يعني لسانه ـ وما بين رجليه ـ يعني فرجه ـ أضمن له الجنة)) أخرجه البخاري.
إن كنت تبغي العُلا للجنان فعليك يا صاح بحفظ اللسان
عباد الله، إنّ للسان آفات عظيمة قد تهلك الإنسان وتجعله في النار، من هذه الآفات:
أولاً: الغيبة، والغيبة هي كما عرفها النبي : ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، وقال تعالى: وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12]، وقال : ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
ومن الأحاديث المخيفة في هذا الباب قوله : ((إن أدنى الربا كأن يزني الرجل بأمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه لمسلم)). ويأتي ماعز بن مالك إلى النبي فيقول: يا رسول الله، إني زنيت فطهرني، وبعد إعراض النبي عنه ثلاث مرات أمر أصحابه برجمه بعد أن علم أنه قد فعل، وبعد أن رجم إذا رجلان يتحدثان يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا ستره الله ففضح نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فمر النبي وأصحابه بجيفة حمار فقال : ((أين فلان وفلان؟)) فقالوا: لبيك يا رسول الله، فقال لهما: ((انزلا فكلا من هذه الجيفة)) ، قالوا: يا رسول الله، وهل تأكل هذه الجيفة؟! قال: ((ما نلتما من عرض أخيكما قبل أنتن من هذه الجيفة)).
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن الغيبة قد تكون في البدن والنسب والخلق والدين والدار والثوب، وأخبث أنواع الغيبة غيبة أهل الخير والصلاح والعلماء، فلحومهم مسمومة، ومن اعتدى على العلماء بالسب ابتلاه الله بموت القلب، ومن سمع الغيبة هو مشارك في إثمها إذا لم ينهَ عنها ويعرض عن ذلك المجلس، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، وقال : ((من رد عن عرض أخيه كان حقًا على الله أن يعتقه من النار)). أسأل الله أن يطهر ألسنتنا وألسنتكم من الغيبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ثانيًا: من آفات اللسان النميمة؛ وهي نقل كلام الناس بعضهم في بعض بقصد الإفساد. عن حذيفة قال: سمعت النبي : ((لا يدخل الجنة نمّام)) ، قال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ [القلم:10].
فاتقوا الله عباد الله، واضبطوا ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تتلفظوا، فما كان خيرًا فتكلموا به، وما كان سوءًا فدعوه، واحذروا من آفات اللسان فإنها لا تزال بالمرء حتى تهلكه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ثالثًا: من آفات اللسان الكذب، والمؤمن قد يكون جبانًا وقد يكون بخيلاً، لكن لا يكون كذّابًا بأي حال من الأحوال، ولم يكن خلقًا أبغض إلى النبي مثل الكذب، وقد قال النبي : ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) ، وقال : ((ويل للذي يكذب ليضحك القوم، ويل له، ثم ويل له)).
وأعظم أنواع الكذب الكذب على الله تعالى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60]. ومن أعظم أنواع الكذب أيضًا الكذب على النبي ، فقد قال: ((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار)).
رابعًا: من آفات اللسان شهادة الزور، فقد جاء النهي عن ذلك كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقد جاء عن النبي قوله: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) وذكر منها: ((شهادة الزور، ألا وشهادة الزور)).
وكذلك اليمين الغموس التي تغمس بصاحبها في نار جهنم، حين يحلف الإنسان وهو يعلم أنه على باطل وأنه كاذب كل ذلك من اللسان، قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين منها يزل بها أبعد ما بين المشرق والمغرب)) رواه البخاري، وقال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، وذكر منهم: ((رجل منفق سلعته بالحلف، يقول: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت منها كذا وكذا)).
ومن آفات اللسان: اللعن والسب والسخرية والاستهزاء بالمسلمين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، أي: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين, ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات, ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا, ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب, بئس الصفة والاسم الفسوق ـ وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ـ بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه, ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي.
وقال : ((إن العبد إذا لعن شيئًا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمنيًا وشمالاً، فإذا لم تجد مكانًا رجعت إلى قائلها)) ، ويقول رسول الله : ((سباب المسلم فسوق)) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث الذي يرويه البيهقي: ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى به أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إياكم والفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)) ، ويقول فيما روى الترمذي: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)).
ومن آفات اللسان أيضا فضول الكلام والكلام فيما لا يعني، فقد قال : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، وعن أنس بن مالك قال: توفي رجل من أصحاب النبي فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله : ((أو لا تدري، فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه)) رواه الترمذي.
أسأل الله جل وعلا أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
(1/4424)
المرض: دروس وعبر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, القضاء والقدر, المرضى والطب
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التقوى. 2- حقيقة الدنيا. 3- لم يخلق الله تعالى شيئًا إلا وفيه نعمة. 4- من حِكَمِ الله في المرض والبلايا. 5- فضل الصبر. 6- نماذج من صبر الأنبياء والعلماء. 7- أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131]. فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه، وما من شرٍ عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
عباد الله، إن الدنيا دار بلاء وأمراض، ظل زائل ومتاع منتهي، ما من إنسان في هذه الدنيا إلا ولا بد أن يواجه فيها مرضًا وعافية وسرورا وفرحا وحزنا وسراء وضراء، كل هذا لماذا؟ لأن الله يقول: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [تبارك:1، 2]، ويقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7].
عباد الله، كثير من الناس قد يواجه المرض لكنه ينسى الصبر عليه، وينسى ما في المرض والبلايا من فوائد جمَّة في الدنيا والأخرى؛ فإن الله تعالى لم يخلق شيئًا إلا وفيه نعمة، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عرف المتنعمون قدر نعمة الله عليهم، ولولا الليل لما عُرف قدر النهار، ولولا المرض لما عُرف قدر الصحة والعافية، وأهل الجنة يفرحون ويزداد فرحهم عندما يتفكرون في آلام أهل النار، بل إن من نعيم الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من عذاب.
وإليكم ـ عباد الله ـ بعض فوائد المرض والبلايا:
أولاً: المرض تهذيب للنفوس وتصفية لها من الشر الذي فيها، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فإذا أصيب العبد فلا يقل: من أين هذا؟! ولا: من أين أتى؟! فما أُصيب إلا بذنبٍ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ما يصيب المؤمن من وصبٍ ولا هَمِّ ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) متفق عليه، وقد روي أن النبي دخل على مريض من أقاربه وهو مريض بالحمى، وقال المريض: لا بارك الله فيها ـ أي: الحمى ـ، فقال : ((لا تسبوا الحمى؛ فإنها مكفرة للذنوب والخطايا)) ، وقال : ((لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وقال : ((ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر)). والاختلاج هو الحركة والاضطراب.
وتعجيل العقوبة للمؤمن في الدنيا خير له من عقوبة الآخرة حتى تكفر عنه ذنوبه، عن أنس قال: قال رسول الله النبي : ((إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري.
عباد الله، من الناس من له ذنوب وليس له ما يكفرها، فيبتليه الله بالحزن والمرض لتصفيته وتنقيته من الذنوب إن صبر واحتسب، فعن عائشة أن رسول الله طرقه وجع فجعل يشتكي ويتقلب على فراشه، فقالت له عائشة: لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال النبي : ((إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمنًا نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة)).
ثانيًا: من فوائد المرض أنه يعقبه لذة وسرور في الآخرة، فإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، والنعيم لا يدرك بالنعيم، وكما قال : ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)).
عباد الله، إن الابتلاءات سنة ربانية اقتضتها حكمة الله سبحانه في هذه الدار، لتكون دارًا للامتحان في الشهوات والفقر والمرض والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، كما يكون الابتلاء بكثرة الأموال والأولاد والصحة، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
ومن جملة الابتلاءات الأمراض، حيث يبتلي الله بها من شاء من عباده، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله واسترجع وصبر أعطاه الله من الأجور ما لا يعلم، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. فكل الأعمال قد تجد لها أجرًا معينًا إلا الصبر لعظمته فأجره بغير حساب.
والمصائب والآلام ملازمة للبشر، ولا بد لهم منها لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]. قال بعضهم: "لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام"، وجاء في الحديث قوله : ((إذا مات ابن العبد قال الله لملائكته وهو أعلم: قبضت ابن عبدي، قالوا: نعم، فيقول وهو أعلم: فماذا قال؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فقال: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه: بيت الحمد)).
ويوم القيامة يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن جلودهم وأجسادهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء والأمراض عند الله.
ثالثًا: من فوائد المرض أنه يُعرف به صبر العبد على بلواه، وأن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.
هكذا أيها المسلمون، إذا صبر العبد إيمانًا وثباتًا كُتب في ديوان الصابرين، ويكفي الصابرين شرفًا أنهم في معية وحفظ الملك جل وعلا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. وإن حمد العبد وشكر كتب في ديوان الشاكرين، ويكفي الشاكرين شرفًا أنهم أهل الزيادة، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]. وأخرج مسلم عن صهيب أنّ النبي قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن)).
والصبر المأجور صاحبه هو الذي لا بد أن يتدبّر فيه أمورًا، منها أن يعلم أن المرض مقدّر من عند الله، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وأن يتيقن أن الله أرحم به من نفسه ومن والدته والناس أجمعين، وأن يعلم أن ما أصابه هو عين الحكمة من الله، وأن الله أراد به خيرًا لقوله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري، وأن ما أصابه علامة على محبة الله له، وأن يعلم أن الجزع لا يفيده، وإنما يزيد آلامه ويفوت عليه الأجر، قال علي بن أبي طالب: (إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور). اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر، يا رب العالمين.
رابعًا: إنّ المرض سبب للدعاء واللجوء والانكسار بين يدي الله، قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]. كم من أناس أعرضوا عن اللجوء إلى الله والدعاء والانكسار بين يدي الله جل وعلا، فمرضوا فلجؤوا إلى الله خاشعين منكسرين، فأهل التوحيد إذا أصيبوا ببلاء أو مرض صبروا ولجؤوا إلى الله وحده واستعانوا به وحده جل جلاله، قال : ((يقول الله عز وجل: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) رواه البخاري، وقال : ((قال تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) رواه البخاري، ومعنى ((احتسبه)) أي: صبر على فقده راجيًا الأجر من الله.
تأملوا ـ أيها المسلمون ـ البلاء العظيم عند أيوب عليه السلام، فقد ابتلاه الله في أهله وماله وولده وجسده حتى ما بقي إلا لسانه وقلبه، ومع هذا كله كان يمسي ويصبح وهو يحمد الله ولم يشك حاله إلا إلى الله جل وعلا، بعد سنين من البلاء والمرض رفع يديه إلى الله بكل ذلّ وانكسار وقال: أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين [الأنبياء:83]، فجاء الجواب من الجواد الكريم: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، وقال تعالى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].
وها هو عروة بن الزبير من أفاضل التابعين وأخيار التابعين، كان له ولد اسمه محمد من أحسن الناس وجهًا، دخل على الوليد في ثياب جميلة، فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش، ولم يدعُ له بالبركة، فقالوا: إنه أصابه بالعين، وخرج محمد هذا من المجلس فوقع في إصطبل للدواب فلا زالت الدواب تطؤه حتى مات، ثم مباشرة وقعت الآكلة في رجل عروة، وقالوا: لا بد من نشرها بالمنشار وقطعها حتى لا تسري لأماكن الجسد فيهلك، فنشروها، فلما وصل المنشار إلى القصبة ـ وسط الساق ـ وضع رأسه على الوسادة فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدّر من وجهه وهو يهلل ويكبّر ويذكر الله، فأخذها وجعل يقلبها ويقبلها في يده وقال: (أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله)، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت وأمر بها أن تقدم إلى المقبرة، ولما جاء من السفر بعد أن بترت رجله وفقد ولده قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، ولما قالوا: نسقيك شيئًا يزيل عقلك؟ قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، ورفض.
وها هو أبو قلابة التابعي الجليل ممن ابتلي في بدنه ودينه، وأريد على القضاء وهرب إلى الشام فمات بعريضة وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وهو مع ذلك حامد شاكر، وعندما سئل: على ماذا تحمد؟! فقال: ألم يعطني لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وبدنا على البلاء صابرًا؟!
أسأل أن يجعلني وإياكم من الصابرين والشاكرين، كما أسأله أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
خامسًا: من فوائد المرض أن الله يخرج به من العبد الكبر والعجب والفخر، فلو دامت للعبد أحواله لتجاوز وطغى ونسي المنتهى، لكن الله سلط عليه الأمراض والأوجاع وخروج الأذى والريح ليعلم أنه ضعيف.
يا مدعي الكبر إعجابًا بصورته انظر خلاك فإنّ النتن تثريب
لو فكّر الناس ما فِي بطونِهم ما ادّعى الكبر شبّان ولا شيب
فالعبد يجوع كُرها ويمرض كرهًا ويموت كرهًا، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. فمن كانت هذه طبيعته فلماذا يتكبر؟! ولماذا يتغطرس؟! يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7]، وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [المعارج:39].
قال ابن القيم رحمه الله: "لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً أو آجلاً".
سادسًا: من فوائد المرض معرفة العبد ذله وحاجته وفقره إلى الله، فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه سبحانه، فهم الفقراء إليه وهو الغني سبحانه، ولولا أن سلّط على العبد هذه الأمراض والبلايا لنسي نفسه ونسي خالقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله"، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
سابعًا: من فوائد المرض أن فيه مساواة تامة؛ فهي سنة الحياة، فلا يفرق المرض بين غنيٍ ولا فقير، ولا يعرف فقيرًا ولا عزيزًا، الناس سواء والمرض لا بد للجميع، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
ثامنًا: من فوائد المرض أنه يهمس في قلوبنا قائلاً: بنيتك ـ يا ابن آدم ـ ليست من الصلب والحديد، بل من مواد ضعيفة قابلة للتحلل والتفسخ، فدع عنك الغرور، واعرف عجزك، وتعرف أصلك، وافهم وظيفتك في الحياة الدنيا.
تاسعًا: المرض يجعلك تتأمّل فيمن ابتلاهم الله بأشدّ منك، فيجعلك تصبر وتحمد الله على ما أنت فيه وترضى بما قسمه الله لك.
ولقد كان الصالحون يفرحون بالمرض والبلاء ويعدونه نعمة كما يفرح الواحد منا بالرخاء، قال : ((وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)).
ولما كان الأنبياء والصالحون هم أحب الخلق إلى الله تعالى كان بلاؤهم أشد من غيرهم، فعن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأقل فالأقل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي وهو صحيح.
وهذا نبيكم سيد الخلق أجمعين كان أشد الناس بلاءً حيث يشتد عليه المرض أكثر من غيره، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله. رواه البخاري ومسلم. وقال أبو سعيد: دخلت على النبي وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: ((إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر)) ، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء)) ، قلت: ثم من؟ قال: ((الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها ـ يجمعها ـ، وإن أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)).
اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين، وقوّ إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا، ولا تمِتنا إلا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
هذا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على نبينا محمد...
(1/4425)
تأملات في سورة فاطر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الملائكة, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل ضيق وكرب سلاحه الإيمان والتقوى. 2- وقفات مع آيات من سورة فاطر. 3- صور من لطف الله ورحمته بأنبيائه. 4- أسباب تنال بها رحمة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : عباد الله ، إن كل مشكلة وكل معضلة وكل ضيق وكرب سلاحه الإيمان والتقوى ، قال جل وعلا : وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [ آل عمران : 120 ]، وقال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [ الطلاق : 2 ] ، وقال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [ الطلاق : 4 ]، وقال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [ الطلاق : 5 ]، وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ ا لأ عراف : 96 ]. هذا وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا؟! ومن أصدق من الله حديثا؟! اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار.
عباد الله ، سنقف وإياكم مع آيات من سورة مباركة ، إنها سورة فاطر، إنها سورة مكية، تنطلق لتحقق أهداف السورة المكية، فتبني العقيدة وتغرس مكارم الأخلاق وتتحدث عن توحيد الملك الخلاق جل وعلا.
تبدأ السورة المباركة بـ(الحمدُ لله)، الكلمة العظيمة المباركة كما قال المصطفى : ((والحمد لله تملأ الميزان)). تبدأ السورة بـ(الحمد لله) كما بدأت سورة الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1]، الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير [سبأ:1]. فما ذُكر الله بأفضل من الحمد، فالحمد كله راجع إلى الله وحده.
و(الحمد لله) هي العبادة الوحيدة التي تستمرّ في الآخرة؛ ففي جنة الله يقول المؤمنون كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34، 35]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. الله أكبر! فأهل الجنة لا يصلون ولا يصومون، ولكنهم يحمدون الله ويلهمون التحميد كما يلهمون النفس.
عباد الله، المؤمن يحمد الله على كل حال، وبالتالي لا يحزن عليه حبيب؛ لأنه يأتيه دائمًا وهو حامدٌ لله عز وجل، لا يشكو حاله، ولا يشمت عليه عدو؛ لأنه حامد راض بما قسم الله له وبما ابتلاه.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، فهو سبحانه مبدع وخالق السماوات والأرض على غير مثال، منشئ هذه الخلائق كلها التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا، والتي لا نعرف منها إلا القليل.
أيها المسلمون، لا يحتاج القلب الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء وأحجامها ومساراتها ليستشعر الرهبة والروعة في هذا الخلق العظيم. المؤمن يكفيه مشهد واحد ليوحد الله ويحمده ويسبحه، مشهد النور الفائض في الليلة الظلماء، أو مشهد الغروب الزاحف في الظلام الموحي بالوداع والانتهاء، بل يكفي المؤمن زهرة واحدة يتأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها ليسّبح الله المبدع.
تأمل فِي نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريكُ
فيا عجبًا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
وفِي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنّه الواحد
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ ، بعضهم له جناحان، وبعضهم له أربع، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ من فخامة الأجسام وتفاوت الأشكال والأجنحة. قال تعالى: فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، وقال تعالى: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقد رأى النبي جبريل ليلة الإسراء وله 600 جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقال : ((أطّت السماء وحُق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله وراكع)).
عباد الله، إن لله ملائكة منذ خلقهم وهم ساجدون، ولله ملائكة منذ خلقهم وهم راكعون، فإذا ما قامت القيامة قالوا: يا رب، سبحانك ربنا ما عبدناك حقّ عبادتك، سبحانك ربنا ما شكرناك حق شكرك، سبحانك ربنا ما قدرناك حق قدرك، سبحانه جل وعلا يزيد في الخلق ما يشاء. خلق آدم من غير أبٍ ولا أم، خلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم بلا أب، خلقنا جميعًا من أم وأب، وجعل أمًا وأبًا ولكن يجعل من يشاء عقيمًا.
فالله يزيد في الخلق ما يشاء، يزيد من بعض الجوارح عند بعض الناس ما يشاء، فمن الناس من يعلم أكثر مما يعلم الناس، ومنهم من يسمع أكثر مما يسمع الناس، يرى أكثر مما يرى الناس، يشم أكثر مما يشم الناس، سبحان من قسم الحظوظ فلا اعتراض ولا ملامة.
قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2]. نعم، إنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
عباد الله، هذه الآية حين تستقر في قلب المؤمن سيتم التحول العجيب في كل شيء؛ لأن هذه الآية تقطعه عن كل قوّة في السماوات والأرض، وتصله بقوة الله وحده، وتُيئِّسه من كل من في السماوات والأرض، وتصله برحمة الله.
هذه الآية ـ عباد الله ـ تغلق أمام العبد كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله الذي يملك كل شيء وبيده خزائن كل شيء، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:عباد الله، ورحمة الله تتجلى في كل شيء، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد فيه كلّ الراحة، وينام الإنسان على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك وألم. سبحان الله! يعالج الإنسان أعسر الأمور مع رحمة الله فإذا هي أيسر الأمور، وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي من أعسر الأمور وأشقّها.
عباد الله، اعلموا أنه لا ضيق مع رحمة الله، لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب الجب أو في شعاب الهلاك. فهؤلاء أصحاب الكهف خرجوا من قصورهم التي ما وجدوا فيها رحمة الله وانطلقوا في رحاب الله إلى الكهف، قال تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].
وها هو ابن القيم يقول: "كنا إذا ضاقت علينا الدنيا انطلقنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في سجنه، فنستمع إلى ذكر الله فيفرّج الله علينا همنا". شيخ الإسلام ابن تيمية الذي حُبس وسُجن والسجان يغلق الباب وهو يقرأ قول تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، ابن تيمية الذي قال: "ما يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، وصدري في يدي ربي".
عباد الله، المال والولد والزوجة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسِكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والسعادة والطمأنينة. يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء في الدنيا وزاد في الآخرة، ويمسك رحمته جل وعلا فإذا الرزق مصدر قلق وحسد وبغضٍ وبخل. يمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي في الحياة زينة ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة الأجر وخلف صالح، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وشقاء وتعب. يهب الله القوّة والصحّة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياةٌ طيبة وتلذذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوّة بلاء يحطم الجسم ويفسد الروح. اللهم امنحنا رحمتك في كل شيء. يعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هما أداة إصلاح ومصدر أمن، ويمسك رحمته فإذا هما مصدر قلق على فوتهما ومصدر طغيان وبغي بهما.
رحمة الله وجدها إبراهيم عليه السلام وهو في النار، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. النار سبب والله رب الأسباب، النار تحرق لكن الله جعلها لا تحرق. رحمة الله وجدها يوسف عليه السلام وهو في غيابت الجُب. رحمة الله وجدها يونس عليه السلام وهو في ظلمات ثلاث، في بطن الحوت وفي ظلمة البحر وفي ظلمة الليل، فانطلق بالتسبيح، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. رحمة الله وجدها كليم الله موسى وهو طفل مجرّد من كل قوّة في اليمّ لكن معه رحمة الله ترعاه.
عباد الله، لو غرست هذه الحقيقة في قلب المؤمن لأصبح كالطود الشامخ أمام كل شيء، لا يخاف أحدًا إلا الله، ولا يرجو إلا ثواب الله، ولا يسأل أحدًا إلا الله، ولا يستعين الا بالله، شعاره: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].
نعم، إنها آية واحدة من القرآن تفتح طريقًا للنور، وتفجر ينبوعًا من الرحمة، وتشق طريقًا ممهدًا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والسعادة.
أيها المسلمون، رحمة الله وسعت كل شيء، لكن لا تُنال هذه الرحمة إلا بأمور، منها:
أولاً: الإحسان في كل شيء، الإحسان في العبادة، الإحسان في الصلاة، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الإحسان في المعاملة مع الناس، الإحسان إلى الناس في دعوتهم إلى الخير، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
ثانيًا: تنال رحمة الله بالتقوى والزكاة والإيمان بالله واتباع محمد ، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:156، 157].
ثالثًا: تُنال رحمة الله برحمة الآخرين، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ومن لا يرحم لا يُرحم. ولقد دعا النبي لأناس بالرحمة، ف قال : ((رحم الله رجلا سمحًا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحًا إذا قضى)) ، وقال : ((رحم الله رجلا صلى قبل العصر أربعًا)).
اللهم ارحمنا أجمعين، وأدخلنا في رحمتك، وامنحنا رحمتك في كل شيء، وأدخلنا دار رحمتك يا رب العالمين. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، بفضلك عمن سواك، وبطاعتك عن معصيتك. اللهم قوّ إيماننا، وارفع درجاتنا، وتقبل صلاتنا يا رب العالمين.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4426)
فاستقم كما أمرت
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- فضل الاستقامة. 3- تعريف الاستقامة. 4- أسباب الاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، الاستقامة موضوع عظيم، جدير بكل مؤمن العناية بالاستقامة والحرص على ذلك في جميع الأوقات، وسؤال الله جل وعلا والضراعة إليه بطلب التوفيق لذلك.
عبد الله، احرص على الخير وبادر إليه وكن من أهله، واحذر الشرَّ وابتعد عنه وعن وسائله وأسبابه، وعليك بسؤال ربك والضراعة إليه أن يمنحك العون والتوفيق.
وهذه الدنيا هي دار الابتلاء والامتحان، هي دار العمل والإعداد للآخرة، فالله خلق الخلق ليعبدوه، وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وأعطاهم عقولا وأسماعا وأبصارا، وابتلاهم بالشياطين من الإنس والجن والشهوات. وهذه الدار دار عمل ليست دار نعيم، وهي دار الغرور، قال الله تعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، متاعها قليل كما قال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ [التوبة:38].
و لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالثبات على هذا الدين القويم والاستقامة عليه حتى الممات، وكان على رأس الخلق إمام الموحدين وقائد الغر المحجلين سيد المرسلين المعصوم حيث قال الله له: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أحسَّ عليه الصلاة والسلام برهبتها وقوتها حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليها: ((شيبتني هود وأخواتها)).
فالاستقامة ـ عباد الله ـ هي الاعتدال والمضيّ على نهج الله دون انحراف، مع اليقظة الدائمة والتدبر الدائم والتحري الدائم لحدود الطريق المستقيم.
وقال جل وعلا: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15]، كيف لا وقد جعل الله لمن آمن بدينه حقا واستقام على طريقه صدقا الفضائل العظيمة والمنازل الرفيعة والدرجات العلا في يوم تزل فيه الأقدام وتخف فيه الموازين؟!
ولا شك أن الاستقامة من أعظم المسؤوليات وأوجب الواجبات التي كلفنا الله عز وجل بها، وأن على المرء أن يبذل جهده ويسأل ربه العفو والغفران إذا ما قصّر أو أخل في حياته بشيء منها، قال الله عز وجل على لسان رسوله الكريم : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الناس لن يعطوا الاستقامة حقها، فقال : ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) رواه ابن ماجه.
وقد تنوعت أقوال سلف هذه الأمة في تعريفها والمراد منها، فها هو أعظم الخلق استقامة بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق يقول عنها: (الاستقامة أن لا تشرك بالله شيئا)، ويقول الفاروق أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب : (الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب)، ويقول ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: (استقاموا أي: أدّوا الفرائض، وحقيقة الاستقامة السداد في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد).
والحق ـ أخي المسلم ـ إن الاستقامة تعني التمسك بهذا الدين كله، صغيره وكبيره، قليله وكثيره، جليّه وخفيّه، والثبات عليه حتى الممات. ورحم الله شيخ الإسلام بن تيمية يوم قال: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة".
نعم الاستقامة طريق إلى الجنة ونعيمها والفوز بالنجاة من النار وجحيمها. الاستقامة تعني طاعة الكريم الرحمن ومتابعة أشرف الرسل من ولد عدنان. الاستقامة طريق إلى محبة الله والانقياد له وعبوديته وحب التلذذ بذكره. الاستقامة ثبات على الدين ولزوم لصراط الله المستقيم وثبات حتى الممات ، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
ومما يعينك ـ عبد الله ـ على سلوك سبيلها ونيلها والتشرف بأن تكون من أهلها ما يلي:
أولاً: الإخلاص لله تعالى، فإن من أعظم الأصول المهمة في دين الله تعالى تحقيق الإخلاص لله تعالى؛ إذ إنه حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وهو مما ينبغي للعبد المجاهدة فيه حتى يُرزق تمامه، سئل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب.
ثانيًا: متابعة المعصوم قولا وفعلا في كل ما يأتي الإنسان ويذر في حياته، فلا يكمن حب المسلم لرسوله إلا بمتابعته عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. ولا شك أن اتباع هدي المعصوم واقتفاء أثره في الأقوال والأعمال والأحوال أمر عظيم وطريق جليل لنيل الاستقامة والثبات عليها، وحق لمن فارق السنة أن يفارق الدليل، ومن فارق الدليل ضلَّ عن سواء السبيل.
ثالثًا: فعل الطاعات واجتناب المحرمات، فإن مما يعين العبد المسلم إلى الوصول إلى الاستقامة وتحقيقها محافظته على الطاعات فرائض كانت أو نوافل، وهي من أهمّ الوسائل التي تجلب للعبد محبة سيده ومولاه، قال في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)) رواه البخاري. فإذا أحب الله عبدا أعانه وسدده ووفقه للاستقامة على دينه، كما أن اجتناب المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها جليِّها وخفيِّها له الأثر الكبير في تحقيق معنى الاستقامة، إذْ يقول النبي الكريم : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه أحمد.
رابعًا: العلم، وأفضله بلا شك علم الوحيين: الكتاب والسنة، الذي هو أفضل القربات إلى الباري جل وعلا، وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وبه تحيا القلوب وتُعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال والحرام، وهو الدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء، وهو الصاحب في الغربة والحديث في الخلوة والأنيس في الوحشة، وبه يعرف العبد ربه ويوحده ولا يعبد غيره ولا يأنس إلا به ولا يلتجأ إلى سواه. ورحم الله عمرو بن عثمان المكي يوم قال: "العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حرون بين ذلك جنوح خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف؛ يتمّ لك ما تريد".
خامسًا: مصاحبة الصالحين. إن من أهم ما يعين على الاستقامة مصاحبة الصالحين ومجالستهم، وصدق الرسول يوم قال: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود.
سادسًا: الدعاء، وهو السلاح الخفي للمؤمن، وحقيقته إظهار العبد افتقاره إلى سيده ومولاه، وهو سمة من سمات المحسنين المستقيمين، قال تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. وليس شيء أكرم على الله من الدعاء، فهو من أجلّ وأهمّ الأسباب الجالبة للاستقامة بإذن الله تعالى، كيف لا والعبد يقرأ في كل ركعة من صلاته: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؟! اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الموصل إليك، ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته، فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته.
والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه، فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة.
صراط مَن؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ، فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه، أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه، إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين. ورحم الله إمام أهل البصرة الحسن البصري كان إذا قرأ هذه الآية: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] كان يقول: "اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة"، وروى الإمام أحمد والنسائي عن سفيان بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال : ((قل آمنت بالله ثم استقم)) ، قلت: فما أتّقي؟ ـ أي: أتوقّى شرّه ـ، فأومأ إلى لسانه.
والاستقامة الإقامة والملازمة للسير على الصراط المستقيم الذي جاء به رسول الله يهدي إليه، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى:53]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. إنه صراط واحد صراط الله، وسبيل واحد يؤدي إلى الله طريق التوحيد والعبودية لله وحده، فالماشي على الصراط المستقيم لا يحيد يمنة ولا يسرة فيضل ويقع في المتاهات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، لو تأملنا هذه الآية المباركة وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] لوجدنا إشراقات كثيرة، منها أن لا تخافوا من ردّ حسناتكم فهي مقبولة، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وأن لا تخافوا مما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم في الدنيا.
وهذه التنزّلات الملكية بالأمان من المخاوف ومن الأحزان وبالبشائر تتوارد عليهم وتتوالى وتتابع في جميع أحوالهم، وفي حالات المخاوف وأشدها عند الموت وفي القبر وعند البعث، ففي هذه المواطن الثلاثة المخيفة يكونون في أمان وسلام ويستبشرون بالأمن والأمان من الرحيم المنان، قال الله تعالى: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، فكيف ذلك؟!
إن الملائكة أحباؤنا الذين يدعون لنا بالخير ويلهموننا إياه ويحسّنون لنا الحسن ويحذروننا من الشر حين كان الشيطان يزيّنه لنا، يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه ابن مسعود : ((إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد من ذلك شيئًا ـ أي: الإيعاد بالخير والتصديق بالحق ـ فليعلم أنه من الله تعالى، فليحمد الله تعالى، ومن وجد الأخرى ـ أي: لمة الشيطان ـ فليتعوذ بالله من الشيطان)) ، ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
والملائكة يحضرون مجالس العبادة والصلاة وتلاوة كتاب الله، كما ورد في حديث رسول الله الذي رواه الإمام مسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)).
والملائكة هم معنا إن كنا من أهل الاستقامة والثبات في الآخرة، فكيف ذلك؟!
إنهم يكونون معنا في قبورنا يلاطفوننا ويؤانسوننا ويحتفون بنا؛ لئلا تعترينا وحشة في القبور وفي الحشر والنشر، ويصاحبوننا في سيرنا على الصراط المستقيم حتى نصل إلى الجنة إن شاء الله تعالى، وتتلقانا ملائكة الجنة فندخلها بسلام وأمان، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وهم الملائكة يشهدون للمؤمنين عند ربهم بطاعتهم وعبادتهم وأذكارهم وتلاوة كتاب الله لأنهم معهم يشاركونهم، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. ومن جملة الأشهاد الملائكة عليهم السلام، روى ابن ماجه عن أبي الدرداء أن النبي قال: ((أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها)) ، وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول)).
فالاستقامة نور في الحياة الدنيا وعزة وكرامة في الآخرة ومنازل الأبرار في الجنة. اللهم اجعلنا من أهل الاستقامة يا رب العالمين.
هذا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4427)
استقبال شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على اغتنام مواسم الطاعات. 2- أصناف الناس في رمضان. 3- مسؤولية الأولياء تجاه أبنائهم ونسائهم. 4- بلوغ رمضان نعمة كبرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، اتقوه تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، اتقوه تعالى حق تقواه، فلا يفتقدكم حيث أمركم، ولا يراكم حيث نهاكم، وتزوّدوا من دنياكم لأخراكم، واحرصوا على ما يقربكم من خالقكم ومولاكم، فإنه تعالى قريب مجيب، يعطي من سأله، ويجيب من دعاه.
أيها المسلمون، مسافران من بلد إلى بلد والطريق شاقة وطويلة، تزوّدا من بلدهما بشيء من الوقود، وخرجا يغذّان السير إلى البلد المقصود، وفي أثناء الطريق شغل أحدهما بما تقع عليه عينه من مناظر الطريق وملهياته، واستمر يقلّب طرفه في القادمين والذاهبين، فما علم إلا والراحلة تقف به في مكان لا وقود فيه ولا زاد، فظل في مهلكته ينتظر مسافرًا يراه على تلك الحال فيعطف عليه، أو لعل صديقًا يأتي به قدر فيحدب عليه وينقذه مما هو فيه، وأما الآخر فظل يسير وعينه على مؤشر الوقود، فكلما كاد ينفد وكادت الراحلة تقف مر على محطة شاملة متكاملة، فعطف راحلته وأمالها، وملأها وقودًا وأرواها، وتموّن هو بما أراد من طعام وشراب واستراح قليلاً، وهكذا ظلّ يسير منتبهًا متيقظًا، كلما مرت به محطة تزود منها وأخذ أهبته، حتى بلغ بلده وقضى أَرَبَه. فما تقولون في هذين الرجلين؟! وأيهما أشد فهمًا وأرجح عقلاً؟ لا شك أنكم ستقولون: إن من احتاط لنفسه واهتم بأمره هو الحصيف العاقل، وأما الآخر فقد ألقى بيده إلى التهلكة بتفريطه وإهماله.
أيها المسلمون، إن حال هذين المسافرين ـ لو تفكرنا مليًا وتأملنا قليلا ـ ما هي إلا حالي وحالك وحال فلان وعلان مع مواسم الخيرات والطاعات، والتي جعلها الله لنا بين حين وآخر محطات إيمانية نتزوّد منها بالوقود الحقيقي والزاد الأخروي، فاغتَنَمها عقلاء موفّقون فنجوا وفازوا، وأهملها حمقى مغفّلون فخابوا وخسروا.
وإن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة المرحومة ـ إذ جعل أعمارهم قصيرة وآجالهم محدودة ـ أن أبدلهم مواسم الخيرات والبركات، ومَنَّ عليهم بالأعمال المضاعفات، يعملون قليلاً ويؤجرون كثيرًا، وينفقون زهيدًا ويجزون مزيدًا، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
ألا وإن من المواسم العظيمة الجليلة والفرص الذهبية الثمينة ما نحن مقبلون عليه من أيام مباركة وليال فاضلة، ذلكم هو شهر رمضان المبارك الذي جعل الله صيام نهاره ركنًا من أركان الإسلام، وسن نبي الهدى لأمته في ليله التهجد والقيام، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
فيا لها من سوق للتجارة الرابحة مع الله يتزود منها المتزودون، ويا له من مضمار يتسابق فيه ذوو الهمم العالية ويتنافس المتنافسون، ويا لسعادة من كان في تجارته مع ربه صادقًا، ويا لفلاح من كان لهدي نبيه عليه الصلاة والسلام موافقًا، قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) ، وقال عليه السلام: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)).
أيها المسلمون، وكلما ازداد شهر رمضان اقترابًا زاد قلب المؤمن وَجَلاً واضطرابًا، فهو لا يدري أنفسه تدرك هذا الشهر وتبلغه فيهنّيها، أم تخرج روحه قبل دخوله فيعزّيها، ثم هو لا يدري بعد ذلك إذا أدرك هذا الشهر المبارك أيكون من الموفقين المسددين، أم من المخذولين المبعدين. فإن من المعلوم المشاهد لكل ذي عين وقلب أن كلاًّ يغدو ويعدو في إقبال هذا الضيف الكريم، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:4-11].
أما أصحاب القلوب الحية والعقول الراجحة فيبيعون أنفسهم في هذا الشهر للغني الوفي، ويقبلون على الكريم الرحيم الرحمن، يصومون إيمانًا واحتسابًا، ويقومون لربهم مخلصين قانتين، يرجون رحمته ويخافون عذابه، تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ربهم ينفقون، وما ذلك إلا لأنهم علموا أن بلوغ رمضان نعمة عظيمة تستحق الشكر للمنعم الكريم سبحانه، ولذلك فهم يقضون نهاره صيامًا، ويبيتون ليله سُجَّدًا وقيامًا، لا يرفثون ولا يفسقون، ولا يسبون ولا يشتمون، ولا في باطل أو لغو يخوضون، يقرؤون كتاب ربهم ويتلذذون بتلاوته، ويسبحون بحمده ويحمدونه على نعمته، قد حفظوا الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكروا الموت والبِلَى، سمو نفس وشرف هدف، ونبل غاية وهداية قلب، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. هؤلاء ـ والله ـ هم الذين يستفيدون من رمضان، وهم الذين يجدون فيه طعم الرجولة الصحيحة والحرية الحقة، لمثلهم تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولا ينسلخ عنهم الشهر إلا وقد غفرت ذنوبهم وكفرت خطاياهم، بأمثالهم تصلح الأحوال وتستقيم الأوضاع، وبوجودهم تسعد المجتمعات وتحيا الأمم، وما أشد حاجة الأمة إلى أمثالهم في كل عصر وفي كل مصر.
وأما أكثر الناس ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فهم مع رمضان أشتات غير متفقين، عن اليمين وعن الشمال عِزِين، منهم من لا يرى فيه أكثر من كونه حرمانًا لا فائدة منه وتقليدًا تعبّديًا لا مبرر له، فهم عازمون على الإفطار فيه مجاهرين بذلك أو مسرّين، فهؤلاء حمقى مأفونون، كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا، وظنوا أن في الصوم كَبْتًا للحرية المزعومة، والتي تعني عندهم أن ينطلق المرء وراء أهوائه وشهواته، يَعُبّ منها دون حد أو قيد، فهؤلاء ـ والله ـ بمنزلة هي من شر المنازل وأخبثها، وأنآها عن الله وأبعدها.
ومن الناس ـ أيها الإخوة ـ أشقياء تعساء، يستقبلون رمضان على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي، نوم في الفرش في النهار إلى ما بعد العصر، وسهر في الليل ممتد إلى طلوع الفجر، ليس رمضان عندهم إلا موسمًا للموائد الفاخرة، بألوان من الطعام والشراب زاخرة، ذو العمل منهم يتبرّم من عمله، وصاحب التعامل يسيء في تعامله، والموظف تثقل عليه وظيفته، وجوههم عابسة، وصدورهم ضيقة، وألسنتهم سَلِيطة، وغيظهم حانِق، لا يرون في رمضان إلا جوعًا لا تتحمّله أمعاؤهم، وعطشًا لا تقوى عليه عروقهم، فأي مسكنة وضعف يعيش فيه هؤلاء؟! إنهم لم يأخذوا من الحياة سوى جانبها الفضولي العابث، يتأثرون ولا يؤثّرون، يعيشون صعاليك وطفيليين، لا يعتزون بعقيدة ولا بخلق يتمسكون، ولا يفرحون بخير ولا في عبادة يخلصون.
ومن الناس صنف مُهْمِلُون مُهْمَلُون، أولئك هم الشباب والنساء، أما الشباب ـ هداهم الله ورعاهم ـ فهم يصومون عن الأكل والشرب فحسب، ويعيشون أوقاتهم في أثناء ذلك فارغين، لا هَمَّ لهم إلا أن يذرعوا الأسواق جيئة وذهابًا، يؤذون أنفسهم، ويؤذون المؤمنين والمؤمنات، يزعجون هذا ويوقظون ذاك، ويلحظون هذه ويضايقون تلك، يقطعون أوقاتهم في سهر عابث وسهر ماجن، وتكون لهم الطرق والشعاب وملاعب الكرة والأرصفة والزوايا والمقاهي أماكن شر وعبث وفساد، تعلّمهم كل بذيء من القول وفاحش من الفعل. وأما المرأة المسلمة ـ وما أدراك ما حالها ـ فكأنما خُلِقت للطهي والطبخ والتفنّن في أنواع المآكل وألوان المشارب، أو لتكون خَرَّاجَة ولاّجَة، كاسية عارية، فاتنة مفتونة، مائلة مميلة، غير ملتفتة إلى ما يقرّبها من خالقها سبحانه من تلاوة قرآن أو صلاة نفل أو صدقة أو دعوة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
إننا ـ أيها المسلمون ـ بحاجة ماسّة ماسّة إلى ما يقوّم أخلاق هؤلاء الشباب وأولئك النساء، ويزيد علمهم، ويرفع من ثقافتهم، ويحد من عبثهم وضياع أوقاتهم سدى. إننا يجب أن نقوم بواجب القيام والرعاية، وأن نوليهم أشد الاهتمام والعناية، وأن نغتنم هذا الشهر المبارك في تعليمهم ما ينفعهم في أخراهم، وربطهم بما يقربهم من مولاهم.
إنه ليس من القيام بالواجب في شيء ـ أيها الإخوة ـ أن يشتري الرجل لولده سيارة ويسلمه زمامها، ثم لا يسأل عنه بعد ذلك: متى ذهب؟! ولا: متى يعود؟! ولا: ماذا يفعل؟! ولا: مع من يمشي؟! وليس من إبراء الذمة وإخلاء النفس من التَّبِعَة أن يترك الأب ولده يسهر ليله وينام نهاره حتى عن الصلوات المكتوبة. ولنا أن نتساءل ـ أيها المسلمون ـ وعليكم أن تجيبوا بصراحة: هل قام بواجبه من أدخل في بيته أدوات اللهو ووفَّر فيه أجهزة الباطل؟! هل قام بواجبه من ترك نساءه يذهبن للسوق مع سائق أو مع طفل صغير؟! هل أدى أمانته واتقى ربه من يخرج للصلاة المكتوبة أو لصلاة التراويح ولا يأمر أهله وأولاده بذلك؟! كيف نريد من شبابنا ونسائنا أن يصوموا صومًا حقيقيًا ونحن لم نقم بما يجب علينا تجاههم من القيام والرعاية؟! كيف نريد منهم أن ينيبوا إلى ربهم ويتوبوا في شهر التوبة ونحن الذين أوصدنا باب التوبة في وجوههم؟! كيف نريد منهم أن يستقيموا ونحن الذين هيأنا لهم أسباب الزيغ والضلال؟! كيف نأمل منهم أن يهتدوا ونحن لم نهتم بتربيتهم التربية الإيمانية الصحيحة، ولم نجلب لهم من الوسائل ما يكفل لهم النشأة الإسلامية الحسنة؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأعدوا لاستقبال شهركم توبة نصوحًا، فإن باب التوبة ما زال مفتوحًا، طهروا بيوتكم من أجهزة اللهو والشر والفساد، واغتنموا أوقات شهركم بما ينجيكم يوم المعاد.
اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، وبلغنا برحمتك شهر رمضان، إنك جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسابقوا إلى مغفرته ومرضاته.
أيها المسلمون، لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، كنتم قد وعدتم أنفسكم قبله أعوامًا ومواسم بالتوبة والعمل الصالح، ولعل بعضًا قد أمَّل وسوَّف وقصَّر، فها هو قد مدَّ له في أجله، وأخّر وأمهل، فماذا عساه بعد هذا أن يفعل؟!
إن بلوغ رمضان نعمة كبرى ومنحة جُلَّى، لا يقدرها حق قدرها إلا المشمرون الصالحون، ولا يشكرها حق شكرها إلا الموفّقون المخلصون، وإنها لحسرة ما بعدها حسرة وخسارة لا تعدلها خسارة حين تنقلب المفاهيم لدى بعض المسلمين، فيصبح شهر التوبة والمغفرة عندهم موسمًا للسمر واللهو، وتصير أيام العتق من النار فرصة للتسلية واللغو، بل إنهم ليعدّون برامج خاصة كلها لهو وضحك ومجون، فغاية بِرّ هؤلاء بالشهر الكريم أن يكون محلاًّ للألغاز الرتيبة والدعايات المضللة، أو موعدًا لارتقاب ما يستجد من أفلام هابطة ومسرحيات مشبوهة، ترمي بشَرَر كالقَصْر لإحراق ما بقي في المسلمين من الحشمة والعفاف، وكأنما أصبح رمضان ميدانًا للمسلسلات الماجنة والمسابقات الهزيلة الهابطة، في تنافس بينها محموم غير محمود.
إن حقًّا على المسلمين ـ أيها الإخوة ـ أن يبكوا ولا يضحكوا، وأن يجدّوا ولا يهزلوا، وأن يفكروا فيما يصلح أحوالهم المتردية ويغير أوضاعهم المزرية، أين الإحساس بضراوة العدو وشراسة الكائدين؟! أين الشعور بتمالؤ أمم الكفر على الأمة وتداعيهم عليها؟! إن أوصالاً كبيرة من جسد الأمة تقطعت وتمزقت، وأخرى قد أعدت العدة للقضاء عليها وإضعاف شأنها. ما حال إخواننا في فلسطين وفي أفغانستان؟! وأين وصل الحال بآخرين في الفلبين والشيشان؟! نحن هنا نضحك أمام المسلسلات والمسرحيات، وهم هناك يبكون تحت وابل الطائرات والدبابات. فأين الصيام من أناس يضحكون وإخوانهم يبكون؟! وأين أدب الصيام من فئات تحب أهل الفساد، وتأنس بمجالس الغاوين، وتستسلم في معارك شهوانية يقودها الإعلام الفاسد المأجور؟!
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واتخذوا من استقبال شهركم موقف محاسبة وتوبة، ونقطة رجوع إلى الله وعودة إلى حماه، من كان تاركًا للصلاة فليتب، ومن كان مفارقًا للجماعة فلينب، ليطهر كل أب بيته من كل ما يغضب الله، فإنه سيموت وحده، ويبعث وحده، ويحاسب على ما قدمت يداه، ليكن كل إنسان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وليجعل من نفسه مشعل خير في أهل بيته وحيّه ومن حوله، لنكن أمة واحدة كما أراد الله منا حين قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
يا أسير الذنوب، هذا شهر التوبة. يا عاكفًا على المعاصي، هذا شهر الطاعة. يا مدمن الغيبة والنميمة والنظر إلى ما حرم الله، يا مستمع الغناء ويا آكل الربا، هذا شهر صوم الجوارح وصونها عن كل ما يغضب الله، هذا شهر القرآن فاتلوه، هذا شهر الغفران فاطلبوه. يا باغي الخير، هلمّ وأقبل، فقد جاء شهر الصيام والقيام والتشمير. يا باذل المعروف، أكثر وأجزل، فقد أتى موسم إطعام الطعام والتفطير، يقول نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((من فطّر صائمًا كان له مثل أجره)).
وانطلاقًا من هذا الوعد النبوي الكريم الصادق فستقام مشروعات لتفطير الصائمين في عدة جوامع في هذه المنطقة بإذن الله، فنهيب بكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تغتنموا الفرصة، وتحتسبوا الأجر، وتشاركوا في ذلك بما تجود به أنفسكم ولو كان قليلاً، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]. وننبهكم إلى أنه إن فاض شيء مما تجودون به بعد رمضان من مال أو تبرعات عينية فسيصرف في أوجه البر المختلفة، ولن يُدّخر.
(1/4428)
استقبال العام الدراسي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية, العلم الشرعي
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
15/7/1424
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر العلم في بناء الأمم. 2- فضل العلم وشرف أهله. 3- حال السلف مع طلب العلم. 4- تيسّر سبل العلم في المجتمعات المعاصرة. 5- أحوال المسلمين في العصر الحاضر مع العلم. 6- أهمية الأدب لطالب العلم. 7- الهمة بين طلاب الماضي والحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، لا شك أن العلم من المصالح الضرورية والحاجات الملحّة التي عليها تقوم حياة الأمة أفرادًا وجماعات، وبها يستقيم حالها شعوبًا وحكومات، وبغيرها لا يصلح أمرها ولا يقوى شأنها، وحاجتها إليه لا تقل عن حاجتها إلى الطعام والشراب والملبس والمسكن والدواء، وإنما احتل الكفار بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، كان من أهمها جهل المسلمين بأمور الدين والدنيا، وإنما انتشرت المذاهب الهدّامة والنِّحَل الباطلة لأنها وجدت قلوبًا جَوْفاء خالية من العلم، فتمكنت منها وتَغَلْغَلَت في سُوَيْدَائها، وهكذا فإن القلوب التي لا تتحصّن بالعلم والمعرفة تكون عُرْضَة للانخداع بالضلالات والوقوع في الانحرافات، وفريسة سهلة لذئاب الشر، ولقمة سائغة لكلاب الرذيلة.
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة دالة على فضل العلم، حاثّة عليه، مرغّبة في طلبه، مبيّنة عظم أجره، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، لا والله لا يستوون، لا يستوي من يعبد الله على علم وهدى وبصيرة بمن يتخبط في ضلالات الجهل والهوى والبدع والمحدثات، لا يستوي من هو عالم بسنة خير الورى متبع لها عاضّ عليها بالنَّواجِذ بمن هو متبع لآراء الرجال ومذاهبهم وأقوالهم عاملاً بما كان منها صحيحًا وما كان خطأ، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
وقد أعلى الله سبحانه شأن أهل العلم، ورفع قدرهم، وبيّن أنهم هم أهل الخشية له والخوف منه، وهم أهل الرفعة والدرجات، وهم أهل الإيمان والتصديق، قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال سبحانه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، وقال جل وعلا: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:6]. وقد أمر سبحانه نبيه أن يدعوه ليزيده علمًا، وبيّن أنّ: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) ، وأنّ: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة)) ، وقال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)).
ولما كان هذا هو فضل العلم وشأن أهله فقد كانت حال السلف في طلبه عجيبة، استثمروا في طلبه دقائقهم وساعاتهم، وأفنوا في تحصيله شبابهم وأعمارهم، وأمضوا في مدارسته ومطارحة مسائله أغلى أوقاتهم، فحصلوا منه ما يدعو إلى الدهشة ويبهر الألباب ويستنهض الهمم ويقوي العزائم، رحل جابر بن عبد الله إلى بلاد الشام مسيرة شهر ليسمع حديثًا واحدًا من عبد الله بن أُنَيس ، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر ليسمع منه حديثًا واحدًا، وقال أبو العَالِيَة: "وكنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم"، وحفظ الإمام أحمد مليون حديث، وحفظ أبو داود أربعين ألفًا، وكان أبو زُرْعَة يحفظ مائتي ألف ويقول: "أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". هكذا كان حال طلاب العلم في القرون الخالية والأزمنة الماضية، هِمّة يتقطع دونها السحاب، وعزيمة ينفتح لها مغلق الأبواب.
ولنا أن نسأل أنفسنا اليوم وقد سمعنا هذه النماذج المضيئة في جبين أمتنا: كم منا من يحفظ ألف حديث؟! بل من منا من يحفظ خمسمائة، بل مائة، بل أين هم حفّاظ الأربعين النووية؟! فضلاً عن أن كثيرًا من الناس لا يحسن قراءة القرآن كما ينبغي، بل بعضهم لا يكاد يقرأ الفاتحة التي هي ركن من أهم أركان الصلاة! إنه وإن وجد العذر لبعض آبائنا ممن عاشوا قبل ستين أو سبعين سنة بفقرهم وقلة ذات أيديهم وصعوبة وصولهم لمراكز العلم ومحاضنه وقلة المدارس وندرتها في ذلك الوقت، فإنه لا عذر لشبابنا اليوم ولا مبرر لهم في البقاء على الجهل أو الإقامة على الضلال، كيف والمدارس قد انتشرت في كل مدينة وقرية، والمعلمون وطلاب العلم موجودون في كل مكان، والوسائل ميسرة والاتصالات ممكنة، والكتب والأشرطة تباع بأبخس الأثمان، بل توزع بالمجان؟! فما على أحدهم إلا أن يخلص النية، ويحقق المتابعة، ويتصل بمن كان موثوقًا فيه من العلماء، ويختار الكتب النافعة والأشرطة المفيدة، فيقرأ ويستمع، ويتعلم ويعمل، ويفقّه نفسه ويرفع عنها الجهل، ويعلّم غيره، وينشر الخير في أمته.
وإن لشبابنا وطلابنا في مناهجنا الدراسية ومدارسنا النظامية سبلاً ميسّرة لنيل الفقه وتحصيل العلم الشرعي الذي به نجاتهم في أخراهم، وطرقًا كثيرة إلى بلوغ المقصود في كثير من فنون العلم الدنيوي الذي يجارون به من سواهم، ويتفوقون على من عداهم، فهل هم مقبلون على العلم والدراسة في حال صغرهم؟! هل هم حريصون على التفقه والتعلم في مرحلة فتوّتهم وقوتهم؟! هل يريدون أن يرفعوا عن أنفسهم الجهل ويستنيروا بنور العلم ما دام ذلك في إمكانهم؟!
إنها فرصة عظيمة، بل فرص متعددة، حري بالعاقل اغتنامها وانتهازها، فما يستطيعه المرء اليوم في شبابه وفتوته قد يعجز عنه غدًا في كبره وضعف قوته، وما يتهيأ له الآن في ظل وجود والديه وإنفاقهما عليه قد لا يتهيأ له غدًا لكثرة مشاغله وتعدد ارتباطاته. يقول الحسن رحمه الله: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، ويقول عَلْقَمَة رحمه الله: "ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو رقعة"، وقال عروة بن الزبير رحمه الله لبنيه: "هلمّوا إلي، وتعلّموا مني، فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم، إني كنت صغيرًا لا يُنْظَر إلي، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما شيء أشد على امرئ من أن يُسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله".
أيها المسلمون، إن أمة قد تهيأت لها سبل العلم ومُهِّدَت لها طرقه وتيسرت لها أماكنه وتعددت بين يديها وسائله ثم هي بعد ذلك ترضى بالجهل وتتقاعس عن طلب العلم وتنصرف عن العناية به وبأهله وتنشغل بأمور ساقطة وشؤون سافلة وتتبع رؤوسًا جهالاً ضلالاً، إنها لخليقة بأن تدفع الثمن غاليًا، وحريّة بأن تنقد الضريبة أضعافًا مضاعفة، فلقد سطّر التأريخ فيما مضى من أيامه ونطق الواقع بما لا مجال لرده ودفعه بأن للجهل آثارًا ضخمة وسلبيات وخيمة، سواء على مستوى الأفراد والمواطنين، أو على مستوى الأمة والمجتمع، ومن أبرزها ضعف الإيمان وقلة التقوى، وازدياد المعاصي واقتراف السيئات، وكثرة الفواحش وظهور المنكرات، وبروز الفتن وانعقاد الإحن، وانتشار الحسد، وعبادة الدنيا، وسائر الآفات المهلكة. إن الجهل يقيد الأمة بأغلال التخلف في جميع المجالات، ويؤدي إلى ضعفها وقلة هيبتها أمام أعدائها، ويقودها إلى الحاجة إليهم وإلى مخترعاتهم ومصنوعاتهم، وبالتالي إلى ما يحملونه من انحرافات في الفكر والسلوك ولا بد. بسبب الجهل تكثر المشكلات الأسرية، وتضعف التربية، ويضيع الأبناء، ويجني المجتمع ثمارًا مرة موجعة.
أما الأمة التي تولي العلم وأهله عنايتها ورعايتها، فتُقْبِل على التحصيل، وتسخِّر طاقاتها في سبيله، ويدرك أفرادها أهمية انخراطهم في مدارسه ومؤسساته، وقيمة التحاقهم بمعاهده وكلياته وجامعاته، فإنها تعيش في ظلال العلم الوارفة، وتتقلب في رياضه الغَنَّاء، فتجدها أمة مؤمنة بالله، عارفة له حق المعرفة، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، تلفيها أمة عاملة بعلمها، مستفيدة من ثقافتها، متمسكة بفضائل الأخلاق ومحامد الآداب، تقل فيها الفواحش والمنكرات، وتكثر فيها الطاعات والقربات، يعرف كل فرد فيها ما له وما عليه، ويعطى كل ذي حق حقه، مما يشعر الجميع بالسعادة النفسية واللذة الحسية، ويوردهم موارد النجاة في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة، ونحن في بداية عام دراسي جديد فإنه يحسن أن ننبه أبناءنا الطلاب إلى أن للتعلم آدابًا لا بد من توفرها أو أكثرها لمن أراد التحصيل، فإنا نرى أكثرهم عن آداب التعلم معرضين، وفيما يناقضها ويضادها واقعين، ألا وإن من أهمها تقوى الله عز وجل القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29].
ومنها الإخلاص لله تعالى، وذلك بأن يبتغي الطالب بعلمه وجه الله والدار الآخرة، بنية إنقاذ نفسه وأمته من الجهل، لا أن يبتغي بعلمه الرياء والسمعة، أو عَرَضًا من الدنيا قليلاً كان أو كثيرًا، قال : ((من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة)).
ومن الآداب التي يجمل بطالب العلم أن يتحلى بها ويتجمل بلبسها الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر، فإن العلم جهاد وليس بشهوة. وعليه كذلك أن يكون متواضعًا في طلبه العلم، وأن يحذر من الكبر والغرور، فإنه لا ينال العلم مستح ولا مستكبر. ويحسن بالمتعلم كذلك أن يكون متفرغًا للعلم مقبلاً عليه، منصرفًا إلى تحصيله، متأدبًا مع معلمه ومدرسيه، بعيدًا عن الجدال والمراء، محسنًا التلقي والإصغاء، بلباقة في النقاش ولين في الجانب، وأن يكون شعاره الذي يرفعه دائمًا: ((الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم:1، 2].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه.
واعلموا ـ أيها الشباب ـ أن طلب الشهوات والانسياق وراء العواطف وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم، ويفتر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن وذكاء العقل وقوة البصيرة، ولكن المتفوق منهم في دراسته قليل، والناجح منهم في اختباره ضئيل، والكاسب منهم في حياته العملية نادر عزيز، بل إن بعض الشباب قد يكون أقل ذكاء وأضعف إمكانيات ووسائل، ولكنه يفوق زملاءه، ويغلب أقرانه، ويتعدى حدودًا بعيدة، ويتجاوز عتبات عالية، يقف عندها كثير منهم مقتنعين بما وصلوا إليه، فإذا بحثت الأمر وطلبت السبب وجدته في مقدار ما يملكه كل طالب ويحمله من إرادة وعزيمة وهمة، وفي نسبة ما يدفعه ثمنًا للنجاح ويبذله، من صبر وجد واجتهاد، إضافة إلى وضوح الرؤية والدقة في تحديد الهدف.
ومن هنا أيها الآباء الفضلاء والمعلمون النبلاء والأبناء الأعزاء، فإن لزامًا علينا أن نعرف ونتبين أن من مظاهر بخس حق العلم وعدم تقدير المعرفة ما يعايش في أروقة بعض مدارسنا أو يشاهد على أبوابها من ضعف في همم الطلاب ودنو في مطالبهم ودناءة في أهدافهم وخِسَّة في مآربهم، حيث يعيشون في واد والعلم في واد آخر، منحرفين عن الصراط المستقيم، منصرفين إلى سبل الشر والفساد، تصرفاتهم صبيانية، وحركاتهم شهوانية، بعضهم يروّج المخدرات والمفتّرات، وآخرون يتبادلون الصور الفاضحات، وتنشغل فئة منهم بمطاردة المُرْدَان ومضايقة الغلمان، وأخرى بأشرطة الغناء واللعب بالسيارات، كتابات سخيفة على الجدران والممرات وفي دورات المياه وعلى الكراسي والمكاتب والكتب والدفاتر، بل حتى على المصاحف وكتب التفسير والفقه والحديث، نجاح بوسائل ممنوعة غير مشروعة، وتضييع للمعلومات وإلقاء للكتب بعد الانتهاء منها مع المهملات، وكم ممن يكوّنون تحزّبات وتعصّبات مع من هم على شاكلتهم، فيؤذون زملاءهم ببذيء الكلام من السب واللعن الشتم، أو يعتدون عليهم بسيئ الفعال من الضرب والطعن، أو يقعون مع أمثالهم في مهاوشات ومناوشات، نهايتها إزهاق أرواح بعضهم وذهاب نفوسهم، أو إصابتهم بجراحات وإعاقات، ناهيك عما يطال الآباء من جراء ذلك، من تحقير وإهانات وبذل أموال ووجاهات ودخول مخافر والسير إلى مراكز وإنشاء مكاتبات وطرد معاملات والدخول في قضايا ومشكلات كانوا في غنى عنها وراحة منها لو اتجه أبناؤهم إلى ما جاؤوا إلى المدارس من أجله، ووفّروا جهودهم لما هو أنفع لهم ولأمتهم، وعرفوا الهدف المطلوب منهم فسعوا إلى تحقيقه، وتركوا الانشغال بما لا فائدة لهم فيه ولا نفع من ورائه.
والعلوم ـ أيها الإخوة ـ ما وُضِعت إلا لتهدي إلى العمل النافع والسلوك الحسن، فلا شرف لها في نفسها وذاتها، وإنما شرفها بما يترتب عليها من عمل صالح وأثر حسن. وكيف تكون المفاخرة بفتيان درسوا من العلوم التجريبية ما درسوا ثم لم ينفعوا بلادهم في معامل، ولم يخدموها في مصانع؟! بل لم تستقم طباعهم، ولم تحسن أخلاقهم، ولم تنضج عقولهم أو تزك تصرفاتهم. إنه يجب أن يقترن العلم بالعمل، وأن تتبع المعرفة بالتطبيق، فمن علم خيرًا فليبادر إلى فعله، ومن علم شرًا فليحذر الاقتراب منه. لا تحسبنّ العلمَ ينفع وحدَه ما لَم يُتَوّجْ ربُّهُ بِخَلاقِ
فاتقوا الله أيها الآباء والمعلمون، ولنكن يدًا واحدة ونوحّد الجهود، ولنبذل ما في وسعنا وما نستطيعه، ليصلح أبناؤنا ويفلحوا.
(1/4429)
متى نستفيق؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
25/9/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد. 2- تدهور أحوال الأمة الإسلامية. 3- أثر النزاع والفرقة في إضعاف الأمم. 4- الحث على اغتنام الأيام الأخيرة من رمضان. 5- مستحبات يوم العيد. 6- الإفساد الأمريكي في بلاد المسلمين. 7- تردّي الأوضاع في الأراضي الفلسطينية. 8- الاستعدادات الأمريكية لضرب سوريا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ينادي الله تعالى يوم القيامة على رجل من أمة سيدنا محمد والناس في عَرَصَات القيامة سُكَارَى، ينادي الله على هذا الرجل ويقول له: عبدي، تعال لتحضر وزن أعمالك، ويُنصَب الميزان، والوزن يومئذ الحق، فيُنشر له تسعة وتسعون سِجِلاًّ، كل سِجِلٍّ منها على مَدّ البصر، وكلها خطايا وسيئات، فيسأله مولانا وهو العليم، ويقول له: عبدي، هل ظلمتك؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول له الله: ظلمك كَتَبَتِي؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول له الله: ألك حسنه يعود عليك خيرها اليوم؟ فيقول: لا يا رب.
إذًا العبد ينتظر الزبانية لتسلسله إلى جهنم، وعندها لا مال ولا أهل ولا دفاع ولا استئناف ولا نقض، العبد ينتظر الأوامر من الله لتحمله الزبانية إلى جهنم، الميزان مائل والسجلات مليئة بالخطايا، وعندما يحار العبد يقول له الرب جل جلاله: فإن لك عندنا شيئًا ونحن لا تضيع الأمانات عندنا، فيخرج الله له بطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله، فيضعها في كفة الحسنات فتطيش السجلات كلها في الهواء، وترجح الحسنات، فيقول العبد: يا رب، ما هذه؟ فيقول له الله: إنها لا إله إلا الله.
تسعة وتسعون سِجِلاًّ مُلئت خطايا، وعلم العبد أن المصير إلى جهنم، ولكن يتداركه الله ببر لطفه، ثم يقول له: يا عبدي، إنها لا إله إلا الله، قلتها في دنياك فاحتفظنا لك بها عندنا.
فتوجهوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى الله تبارك بكلمة التوحيد، الكلمة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، وقد ورد من حديث أنس عن النبي أنه قال: ((إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة، الإيمان عروقها، والصلاة أصلها، والزكاة فرعها، والصيام أغصانها، والتأذّي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله ثمرتها)).
عباد الله، أحوالنا اليوم لا تسرّ واحدًا من الناس، أحوال أمتنا الإسلامية لا ترضي إلا أعداء الإسلام، فهل سألنا أنفسنا: لماذا ضعفت أحوالنا؟! والجواب واضح: هو أننا ابتعدنا عن المنهج المستقيم الذي جاءنا به إسلامنا العظيم وبينه لنا رسولنا الكريم.
عباد الله، لماذا عاش سلفنا الصالح حياة طيبة؟ كيف فتحوا البلاد وحرّروا العباد؟ كيف استطاعوا القضاء على الفساد والاستبداد؟ كيف سادت أحوالهم وتميزت أعمالهم؟ كل منا يطرح هذه الأسئلة، وكلنا يعرف الإجابة، ولكن كثير منا لا يطبقون أوامر الله تطبيقًا سليمًا صحيحًا. ومن هنا يجب علينا أن نقوم بدورنا في الحياة، أن نجعل من إسلامنا دستورًا لنا ومنهاجًا لحياتنا، فنحيا حياة طيبة مطمئنة، فكثير من الناس أحياء ولكنهم كالأموات، لا يدركون سر حياتهم، ولا يقدمون لمستقبلهم ولا لأمتهم ولا لأنفسهم خيرًا، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87].
تذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الله يحب المؤمنين الأقوياء الذين يقفون أمام الشدائد والمحن بصبر وجَلَد، فلا يَهِنون، ولا يُصابون بالإحباط واليأس، ولا تنهار قواهم، بل يصمدون ويواصلون ويرابطون، وهي ثمرة إيمانهم بربهم وبرسولهم وبدينهم.
عباد الله، حافظوا على إيمانكم ويقينكم، وكونوا على ثقة بربكم، فهو صاحب اللطف الخفي، وهو القادر على نصرتكم وكشف الضر عنكم، وتذكروا أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فقد سَلَّمَ رسولنا في الغار من الكفار، ورحم في الغار أهل الكهف، وفرَّج عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، وهو الذي نجّى إبراهيم من النار، ونجّى موسى من الغرق، ونوحًا من الطوفان، ويوسف من غَيَابَات الجُبّ، وأيوب من المرض، وكتب النصر لداود على جالوت، وهو الذي نجّى عيسى عليه السلام من أعدائه، وهو الذي نصركم في يوم بدر وأنتم أذِلّة، وهو الذي فتح لكم مكة المكرمة، وهو الذي نصركم في مواطن كثيرة في يوم حُنَين وفي عَمُّورية وعَيْن جالوت، وفتح عليكم بيت المقدس، وجعلكم سادة العالم، يوم تمسُّككم بدينكم ونصركم ربكم أعزكم الله بنصره، وأيدكم بجنده، فكنتم خير أمة أخرجت للناس.
أيها المسلمون، أقيموا دولة الإسلام تعود لكم عزتكم وكرامتكم، سوف تحكمون الدنيا بعدلكم وسماحة دينكم وبقوة عقيدتكم وعلو همتكم وإيمانكم بربكم.
عباد الله، اسمعوا ماذا قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل، قال لهم: (يا بني إسرائيل، سيأتي عليكم زمان تقاتلون قومًا وتنتصرون عليهم، واعلموا أنكم لا تنصرون لأنكم صلحاء، بل أنتم يومئذ مفسدون، ولكنكم تنصرون عليهم لأنهم سيكونون أشد منكم فسادًا).
إن الله تعالى نصر الأتقياء، فإذا لم يكن هناك أتقياء فإن نصر الله يكون للأقوياء، ونحن للأسف ـ يا عباد الله ـ لا تقوى ولا قوة، ولذلك ضاعت الأرض، ضيعنا البلاد والعباد، ضاع المسجد الأقصى، أمة الإسلام ومنذ أربعين سنة لم تعرف أين المسجد الأقصى، لم تعمل لتحرير المسجد الأقصى، أمة نائمة غافلة تغط في سبات عميق، ليس لنا إلا التوجه إلى الله.
عباد الله، إن الشقاق والنزاع والخصام يضعف الأمم القوية، ويميت الأمم الضعيفة، فالعدو لا يتمكن منا ما دمنا متحدين، ما دمنا مجتمعين يدًا واحدة. واعلموا ـ عباد الله ـ أن أعداءكم لا ينامون ولا يغفلون، وأن سياسة الغرب في احتلال الشرق تقوم على قاعدة: "فَرِّقْ تَسُد"، فهلاّ اعتصمنا بحبل الله، هلاّ تمسكنا بكتاب الله، ألم تسمعوا قوله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]؟!
عباد الله، هذا شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن فرّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاغتنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام، فيا أصحاب الذنوب العظيمة، الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فمن يُعتَق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة.
عباد الله، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: (يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنّيه، ومن هذا المحروم فنعزّيه). قلوب المؤمنين المتقين إلى هذا الشهر تحنّ، ومن ألم فراقه تئنّ. فيا شهر رمضان تَرَفَّق، ودموع المحبين تَدَفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تَشَقَّق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقّع من الصيام ما انخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى من استوجب النار يعتق.
عباد الله، ومن شرف هذه الأيام المباركة أن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر في وتر منها، وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)). فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيها، فعسى أن تستدرك ـ أيها المسلم ـ ما فاتك من ضياع العمر، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن العفُوّ من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفوا بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه ولطفه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك)). وقد ورد في بعض الآثار أن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد فيعفو عنهم ويرحمهم إلا أربعة: مدمن خمر، وعاقًّا، ومُشاحِنًا، وقاطع رحم.
يا كبير الذنب، عفو الله من ذنبك أكبر، أكبر الأوزان في جنب عفو الله يصغر، ومن دعاء الصالحين يا عباد الله: اللهم ارض عنّا، فإن لم ترضَ عنّا فاعفُ عنّا.
عباد الله، أخرجوا زكاة أموالكم، وأخرجوا زكاة الفطر قبل يوم العيد إلى من يستحقها من الفقراء والمساكين والمحتاجين، ويسن للمسلم أن يغتسل ليلة العيد في النصف الثاني منها، وأن يتطيب ويلبس أحسن ثيابه، ويأتي إلى المسجد لأجل صلاة العيد، وأن يأكل تمرات قبل المجيء، ويندب حضور الولدان والنساء لشهود الصلاة والدعاء.
عباد الله، ويستحب لكم صيام الأيام الست من شوال، لما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)). ولا مانع من صيامها متتابعة أو مفرقة، ويقدّم قضاء الصوم عليها لمن كان عليه صوم قضاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ما زالت الأنظار تتجه إلى الحرب القائمة والتي تشنها أمريكا الظالمة وبريطانيا الحاقدة على شعب العراق المسلم، وأمتنا ـ وللأسف ـ لا تحرّك ساكنًا، أمريكا الظالمة والتي تَتَعَالَى بقوتها العسكرية نسيت أن هناك قوة أقوى منها، نسيت أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخسف بها الأرض، ويجعلها عبرة لمن يعتبر، ألم يسمعوا قول الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
فكفاكم ـ أيها الظلمة ـ فسادًا ودمارًا في الأرض، قتلتم وشرّدتم وهدمتم، فأنتم تعيثون في الأرض فسادًا، وسوف يأتي اليوم الذي تندمون فيه على سوء أفعالكم، وإننا من هذا المبنى الشريف نقول لكم: ارحلوا عن أرضنا المسلمة، لا نريدكم بيننا، فنحن مسلمون، وأنتم مفسدون في الأرض، تعشقون سفك الدماء، وتأكلون أموال الناس بالباطل، وتصدون عن الله، اللهم عليك بأمريكا وحلفائها، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين، واجعل الدائرة عليهم، وخَلِّص المسلمين من شرهم يا عزيز يا حكيم.
أيها المسلمون، أيها الوافدون إلى رحاب المسجد الأقصى المبارك من أنحاء فلسطين المسلمة رغم الحواجز والموانع، يا من يباهي بجمعكم الكريم رب العرش العظيم، وأنتم تسألونه هذه الساعة الرحمة والمغفرة والقبول والعتق من النار، حَدَثان هامّان يحتلاّن صدارة الأحداث واهتمام عالمنا الإسلامي العربي: أولهما: تدهور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وثانيهما: الضربة العسكرية الأمريكية الوَشِيكة لسوريا.
أيها المؤمنون، إن تدهور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة يعود أساسًا للانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لحقوق شعبنا الفلسطيني الذي لا يزال يكتوي بنار الاحتلال تحت سمع وبصر العالم أجمع، وفي عقاب جماعي لم يشهد التاريخ له مثيلاً، فأي استعمار حال دون استخدام السيارات الخاصة للمواطنين بالتنقّل والسفر عبر الشوارع؟! هل تريد إسرائيل من الفلسطينيين أن يعودوا لاستخدام الدواب والبغال والحمير في تنقلاتهم للحفاظ على أمن إسرائيل؟! إن هذا الإجراء القَمْعِي هو استخفاف بالفلسطينيين، فإسرائيل يحق لها عمل أي شيء دون اعتراض أحد، فإسرائيل عندما أعلنت انسحابها من قطاع غزة صدر عن زعمائها السياسيين والعسكريين سلسلة من التصريحات تنقض كل المواثيق والعهود والالتزامات، كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، وفيها استفزاز لمشاعر المسلمين: "لا انسحاب من مدن الضفة الغربية، ولا عودة للفلسطينيين من أرض الشتات إلى وطنهم، لا للسيادة الفلسطينية على القدس، لا لإطلاق سراح المعتقلين"، حتى إن معبر رَفَح الحدودي أصبح قضية أساسية للتفاوض: من يتسلّم إدارته؟ فأي انسحاب هذا؟! وأي سلام مزعوم؟!
وواصلت إسرائيل عمليات الاغتيالات للعديد من الفلسطينيين عشية انسحابها من غزة، وزَجَّت بالمئات في السجون من أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم الصامد الصابر، واستمرت في بناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الأراضي، وكشفت النقاب عن الحفريات والأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف، وسمحت للمتطرفين اليهود بالدخول إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك، في حين منعت وتمنع حاليًّا آلاف الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة المتلهّفين شوقًا للصلاة في المسجد الأقصى من الوصول إليه، فنقاط التفتيش تعيد أبناء الضفة الغربية قبل وصولهم إلى مشارف القدس الشريف.
كل هذه الممارسات الظالمة هي بواقع الأمر طعنة لآمال الفلسطينيين وتطلعاتهم واستخفاف بهم، وكان طبيعيًّا أن تتصاعد أعمال العنف والعنف المضاد، وأن تنقشع سحب الضلالة والوهم عن زيف السلام المزعوم، فلا سلام في ظل الاحتلال، ولا تعايش مع الغاصبين.
أيها المسلمون، إسرائيل في سياستها تعتمد وتستند إلى الدعم الأمريكي اللامحدود، فخلال لقاء الرئيس الفلسطيني مع نظيره الأمريكي الأسبوع الماضي رفض الرئيس الأمريكي الوفاء بعهوده ووعوده بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة على حد قوله، في حين شدد على ضرورة تجريد الفلسطينيين أو الجماعات المسلحة من السلاح، إسرائيل وأمريكا يسيران على نهج واحد ونسق مدروس وهو دفع الفلسطينيين إلى الاقتتال الداخلي والانشغال بأنفسهم بدل تكريس الجهود لإنهاء الاحتلال.
ولكن ليعلم الجميع وتعلم إسرائيل وأمريكا أن الدم الفلسطيني غال ومحرّم، وأن وحدة شعبنا الفلسطيني الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات، وسيبقى شعبنا الصامد الصابر عَصِيًّا على المحتلين.
أيها المسلمون، أما الحدث الثاني فهو الضربة الأمريكية الوَشِيكة لسوريا، فقد ذكرت وسائل الإعلام الأمريكي أن الإدارة الأمريكية وضعت خطة عسكرية لتوجيه ضربة محدودة لسوريا؛ لزعزعة الوضع وتغيير نظام الحكم، وستتركز الضربة على تجمعات القوات السورية المتاخمة لحدود العراق الشمالية، والتي تزعم أمريكا أنها مراكز ينطلق منها المسلحون المناهضون للاحتلال الأمريكي لأرض الرافدين، وتعمل الإدارة الأمريكية جاهدة لحشد التأييد الدولي لسياستها العدوانية، تمامًا كما فعلت خلال حملتها العسكرية ضد العراق، خاصة بعد أن زَجَّ تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة والمعروف بتقرير "ميلتس" بسوريا في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، وتسعى الإدارة الأمريكية بالتعاون مع حلفائها لتحويل الملف السوري إلى مجلس الأمن الدولي، غير أن التردد في توجيه الضربة العسكرية لسوريا يعود إلى جماعات الضغط الصهيوني في وزارة الحرب الأمريكية [التي] تنقسم على نفسها بين مؤيد ومعارض لهذه الحرب القذرة، فكثيرون يرون أن النظام الحاكم في سوريا لا يشكل خطرًا حقيقيًّا على إسرائيل، ويخشون من تغيير الواقع واستلام زمام الحكم في سوريا للتيار الشيعي العلوي كما حدث في العراق، فتصبح إسرائيل مهددة بامتداد شيعي من إيران حتى لبنان، حيث يتمركز حزب الله.
أما الفريق المؤيد للضربة العسكرية فيرون فيها فرصة للقضاء على التنظيمات الفلسطينية المناهضة لمشروع التسوية في الشرق الأوسط، وإضعاف حزب الله، وإضعاف الموقف السوري في أية معارضات مستقبلية، وتعزيز القبضة الإسرائيلية على هضبة الجولان إلى الأبد.
أيها المسلمون، الأعداء يخططون ويدرسون ليل نهار للإجهاز والقضاء على الأمة الإسلامية العربية رغم ما فيها من وَهَن وتخاذل واستسلام، وقادة وزعماء عالمنا الإسلامي ساهون غافلون مستسلمون.
أيها المسلمون، تذكروا وأنتم في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان شهر الانتصارات، كونوا على يقين أن خلاص الأمة الإسلامية من حالة الضعف والانقسام والهوان لن يكون إلا بإقامة دولة الإسلام، ولا يكفي لقيام الدولة الأماني والآمال والأحلام والدعاء، بل العمل الجاد البَنّاء، وتضافر الجهود، ونبذ كل الحلول الأمريكية لقضايا الأمة. فإلى متى التمسك بالوعود الأمريكية؟! إلى متى تصديق العهود الإسرائيلية؟! فإنهم لا عهد لهم ولا ذمة.
أفيقوا من سباتكم أيها القادة والزعماء، أفيقوا من غفلتكم، واعملوا على نهضة الأمة وعزتها بالعودة إلى كتاب الله وسنة المصطفى ، فهما السبيل الوحيد لعزة الأمة الإسلامية وانتصارها.
(1/4430)
الدوام على الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
2/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حقّ الله تعالى على عباده. 2- فضل الطاعة بعد الطاعة. 3- الحث على المداومة على الصالحات. 4- التحذير من كيد الشيطان. 5- فضل صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله بلزومِ ذِكره وشكرِه والقيامِ بعبادتِه ومجانبةِ معصيَتِه، فتقوى الله خيرُ ما اكتسَبتم وأعظَمُ ما ادَّخرتم.
عبادَ الله، إنَّ حقَّ الله عليكم عظيم، وإنَّ أمرَه كبير؛ لما أسدَى إلى الخلق من سَوابغِ النِّعَم، ولما دفَع عنهم من النِّقَم، ولما علّمكم من الكتابِ والسنة، ولما أعانكم عليه من الطّاعات، ولما حفِظَكم من المحرَّمات، قال الله تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12]، وقالَ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]. وأحبُّ الشكرِ إلى الله ما كان شُكرًا علَى الطاعاتِ والمعافاةِ من المحرَّمات.
أيها المسلمون، ما أحسنَ فعلَ الطاعة بعد الطاعة، وما أقبَحَ فِعلَ المعصية بعد الطاعة، فالعمل الصالح بعد العملِ الصالح زيادةُ ثوابِ الله، والعمل السيّئ بعد الطاعة قد يبطل العملَ أو ينقص ثوابَه، فكما أنَّ الحسنات يذهِبن السيئات كذلك السيئاتُ قد يبطِلنَ الحسنات أو ينقِصنَ أجورَها، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، وعن معاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنَةَ تمحُها، وخالِقِ الناس بخلُق حسن)) [1] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
يا من زكَّيتم أبدانَكم بالصّيام والقيامِ وطهَّرتم أموالهم بالزكاةِ والإحسان، يا من عكَفتُم على تلاوةِ القرآن، يا مَن صفَت له ساعاتُ رمضان في طاعةِ الرحمن، داوِموا على الطاعةِ وهَجر المعصية تفوزُوا منَ الله بالرضوانِ وتنجُوا من الخسرانِ، قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، يعني: اعبدِ الله حتى يأتيَك الموت، قال الحسن البصريّ رحمه الله: "ليس لعبادةِ المؤمنِ أجلٌ دونَ الموت" [2] ، وقيل لبشرٍ الحافي رحمه الله: إنَّ قومًا يجتَهدون في رمضان، فإذا ذهب رمضانُ تركوا، قال: "بِئس القومُ لا يعرِفون الله إلا في رمضان".
أيّها الناس، إنَّ ربَّكم الذي عبَدتم في رمضانَ هو الربّ العظيم الحقّ الذي هو أحقُّ أن يُعبَدَ في كلِّ زمان ومكان، فعِزُّك ـ يا ابنَ آدم ـ وفوزُك ونجاتُك من كلِّ شرٍّ هو في الذّلّ والخضوعِ لله والحبِّ له ودوام العبوديّةِ لله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، وعن سفيانَ بنِ عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأَل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)) رواه مسلم [3] ، والاستقامة هي دوامُ الطّاعة لله ربِّ العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفَعَنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في البر (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
[2] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص7)، وأحمد في الزهد (ص272).
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (38).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمنِ الرّحيم، مالكِ يومِ الدّين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوَعدِ الأمين، اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى، فإنَّ تقوَى الله خير زادٍ ليومِ المعاد.
واعلَموا ـ عبادّ الله ـ أنَّ عدوَّكم إبليس وذرّيّته أنهم يرصدونكم في كلِّ طريق خيرٍ كما قال الله تبارك وتعالى عن هذا العدوِّ، قال الله تبارك وتعالى: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، فالعابدون الطّائعون المديمون للطّاعاتِ هم الشّاكرون لله تبارك وتعالى، والتارِكونَ لعبادةِ اللهِ هم الكافِرون لنعمةِ الله عزّ وجلّ.
واللهُ تبارك وتعالى قد حذَّرنا من هذا العدوِّ فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6]، وهو لا يدخُل على الإنسانِ إلاّ مِن قِبَل نفسِه وهواه، فاحذروا النفسَ الأمّارة بالسّوء يا عبادَ الله، واحذَروا أن تتَّبِعوا أهواءَكم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، فأدُّوا حقَّ ربّكم عليكم، وداوِموا على طاعتِه، وفي الحديثِ عن النبيِّ : ((إنَّ الشيطانَ قعَد لابن آدمَ بكلِّ أطرُقه)) [1] ، فما من طريقِ خيرٍ إلاّ وقد قعَد لَه فيها؛ يريد أن يصدَّه عن ذلك.
عبادَ الله، وإنَّ أعظمَ النّعم وأجلَّها الطاعةُ بعد الطاعة، وإنَّ الله تبارك وتعالى قد فرضَ عليكم طاعات، وفتح أبوابَ الخيرات، وحثَّكم على عمَل الخير، وحذَّركم من أعمالِ السيِّئات. وإنَّ مما شرعَه رسول الله الصيامَ بعد رمضان، صيامَ ستٍّ من شوّال، وقد قال : ((مَن صامَ ستًّا من شوّال فكأنما صامَ الدهرَ كلَّه)) [2] ؛ لأنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالها، فرمضانُ بعشرةِ أشهر، وستّة من شوّال بصيامِ شهرين.
عباد الله، إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّدِ الأوّلين والآخِرين وإمامِ المرسَلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آلِ محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه أحمد (3/483)، والنسائي في الجهاد (3134)، وابن أبي شيبة (4/204)، والطبراني في الكبير (7/117)، والبيهقي في الشعب (4/21) عن سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4593)، والعراقي في تخريج الإحياء (3/13)، وهو في السلسلة الصحيحة (2979).
[2] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1164) عن أبي أيوب رضي الله عنه.
(1/4431)
عداوة الشيطان للإنسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الفتن
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ عداوة الشيطان للإنسان. 2- صور من كيد الشيطان بالإنسان. 3- سبل الوقاية من كيد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
أرشد الله عباده في هذه الآية إلى لزوم معاداة الشيطان، والحذر من كيده، والبعد عن طاعته، فإنه يقود كل من اتبعه إلى النار.
لقد أضمر الشيطان عداوته للإنسان منذ صوَّر الله آدم عليه السلام، ففي صحيح مسلم عن أنَسٍ أَنَّ رَسُولَ الله قال: ((لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطِيفُ به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلِق خَلْقًا لا يَتَمَالك)).
ولما نفخ الله فيه الروح أمر الله الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام تكريمًا له، فسجدوا إلا إبليس، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
لقد أعلن الشيطان ـ منذ تمرد وعلم أنه من الخاسرين ـ أنه لن يترك الناس حتى يغويهم عن الصراط المستقيم، كما قال الله سبحانه عن الشيطان: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، وقال سبحانه : قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].
وأسكن الله تعالى آدم عليه السلام الجنة، فلم يزل بآدم وحواء عليهما السلام حتى ذاقا الشجرة، قال الله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:20-22]. أُخرِج آدم وحواء من الجنة، وأُخرِجت ذريتهما معهما بكيد من الشيطان الرجيم، وهو لا يزال يكيد لابن آدم المكائد حتى يضله عن الهدى والصراط المستقيم.
الشيطان هو الذي زيّن لابن آدم قتل أخيه، ولم يكن القتل معروفًا في بني آدم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الآيات [المائدة:27].
وكل يوم يسعى في بني آدم بالشر والفساد، فيضل أقوامًا كثيرين، كما قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62]. إنه ليضل أناسًا حتى يقعوا في الكفر عياذًا بالله، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، والشيطان كاذب في دعواه أنه يخاف الله تعالى، كيف يخاف الله وهو مقيم على معصية الله تعالى، محارب لله ورسوله وأولياء الرحمن؟! ومن عجبٍ أن يكون خوف بعض الناس اليوم من الله تعالى كخوف الشيطان، يدّعي أحدنا الخوف من الله تعالى وهو مقيم على معصيته، يدّعي أحدنا الخوف من الله تعالى وهو يبارز الله بالمعاصي، يدّعي أحدنا الخوف من الله وهو يأكل الربا ولا يدري ماله من حلال دخل عليه أم من حرام، ولو خاف العبد من الله تعالى لما بارزه بالمعصية، فالخوف من الله يورث عند العبد تقوى الله باجتناب ما نهى الله عنه ورسوله ، وفعل ما أمر الله به ورسوله.
أيها المؤمنون، روى الإمام مسلم عن جَابِر بن عبد الله : قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدْنِيه منه، ويقول: نعم أنت)). وفي صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم عن أبي موسى الأشعري عن النبي قال: ((إذا أصبح إبليس بثّ جنوده، فيقول: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج، فيجيء أحدهم فيقول: لم أزل به حتى عق والده، فقال: يوشك أن يبرّه، ويجيء أحدهم فيقول: لم أزل به حتى طلّق امرأته، فيقول: يوشك أن يتزوج، ويجيء أحدهم فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء أحدهم فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت، ويلبسه التاج)).
وروى مسلم في صحيحه عن عبد اللهِ بنِ مَسْعُودٍ قَال: قال رَسُولُ اللهِ : ((ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّلَ به قرينه من الجن)) ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: ((وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) ، وفي رواية: ((ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)).
فهذا بيان ـ يا عباد الله ـ بكيد الشيطان للإنسان، وأنه ملازم لابن آدم يغويه ويضله ليعصي الله تعالى، فليكن المسلم على حذر من شيطانه، وليعتصم بالله، وليستعذ به من كيد الشياطين، قال الله تعالى: وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الزخرف:62]، وقال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:186]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، فأول ما يعتصم به العبد من الشيطان هو طاعة الله ومعصية الشيطان، والحذر من مكائده وخطواته.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، كيف يتخذ المسلم الشيطان عدوًا فينجو من كيده ويُعَاذ من شره؟
إن العبد إذا اتخذ الشيطان عدوًا فذلك يقتضي أن يسلك العبد جميع السبل التي تُعِيذُه من كيد الشيطان، وذلك بفعل ما أمر الله به ورسوله ، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله ، وبذلك يكون قد أطاع الرحمن وعصى الشيطان، والمؤمن إن أصاب الشيطان منه غفلة تذكّر ورجع، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
فمما يستعيذ به العبد من الشيطان الرجوع إلى الله تعالى وعدم الإصرار على معصية الله، والاستغفار من الذنوب والآثام، والتوبة النصوح، يقول الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وفي سنن ابن ماجه عن عبد اللهِ بن بُسْرٍ قال: قَالَ النبي : ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا)) ، وفي المسند ومستدرك الحاكم عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)).
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ بالاستغفار في الليل وفي النهار، فإنه يهدم الذنوب والآثام، وتُسْتَجلب به الرحمات والأمطار، ويُسترزَق به المال والبنون والجنات والأنهار.
أيها المؤمنون، وفي الكتاب والسنة حُرُوز كثيرة من كيد الشياطين لعلنا نأتي عليها في مناسبة أخرى.
اللهم إنا نعوذ بك من كيد الفجّار وشرّ الأشرار، وشرّ طَوَارِق الليل والنهار، اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك كنت غفّارًا، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/4432)
حرز العبد من الشيطان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الدعاء والذكر
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحافظة على الذكر من أعظم أسباب الوقاية من الشيطان. 2- ملازمة الشيطان للإنسان بقصد إغوائه. 3- حرص الشيطان على إفساد صلاة العبد. 4- آداب تقي من كيد الشيطان. 5- حرص الشيطان على إفساد العلاقة بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أعظم ما يعصم المرء به نفسه من كيد الشيطان هو المحافظة على ذكر الله وطاعته في المدخل والمخرج، فإن الشيطان أحرص ما يكون على صَرْف المسلم عن ذكر الله تعالى؛ ليستحلّ بذلك ماله ويستطيع إيذاءه، وما استحوذ الشيطان على قوم إلا في حال غفلة ولهو وبعد عن الله تعالى، ولذا كان المنافقون أقل الناس لله ذكرًا؛ لأنهم كما قال الله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]، وقد حذّر الله سبحانه المؤمنين من الغفلة عن ذكره وطاعته فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]. فإذا غفل الإنسان وشغل بماله وما آتاه الله من الدنيا كان للشيطان منه حظ ونصيب.
وقد أخبر النبي أن الشيطان يحضر ابن آدم عند كل شيء وفي كل وقت، كما في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت النبي يقول: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)) ، فهو على هذا يترصد بالإنسان في كل وقت وحين، فإذا نسي المسلم ذكر الله استطاع الشيطان النيل منه. أخرج النسائي عَنْ سَبْرَةَ بنِ أَبِي فَاكِهٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله يقول: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطْرُقِهِ، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟! وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جَهْد النفس والمال، فتقاتل فتُقتَل، فتُنكح المرأة، ويُقسم المال؟! فعصاه فجاهد)) ، فقال رسولُ الله : ((فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قُتِل كان حقًّا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصَتْه دابته كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة)).
وأعظم ما يحرص عليه الشيطان من المسلم أن يصده عن الصلاة، فأول ما يبدأ به الشيطان مع الإنسان في أمر صلاته أنه إذا نام عَقَد عليه ثلاث عُقَد ليُثْنيه عن القيام للصلاة، لا سيّما صلاة الصبح، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رسولَ الله قال: ((يعْقِدُ الشيطان على قَافِيَة رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، يضرب كل عُقْدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عُقْدة، فإن توضأ انحلّت عُقْدة، فإن صلى انحلّت عُقَده كلها، فأصبح نشيطًا طيّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)). فإذا عصاه المسلم وصلى جاءه الشيطان يُلبّس عليه صلاته، كما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ الله قال: ((إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فَلَبَّس عليه حتى لا يدري كم صلّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) ، يعني للسهو. وفي صحيح مسلم أن عثمان بنَ أبي العَاصِ أَتَى النبي فقال: يَا رسولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطانَ قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُهَا عَلَىَّ، فقال رسولُ اللهِ : ((ذاك شيطان يُقال له: خِنْزَب، فإذا أحسسته فتعوّذ بالله منه، واتْفُل على يسارك ثلاثًا)) ، قال: ففعَلْتُ ذلك فأذهبهُ اللهُ عَنِّي.
ومما يعصمك ـ أخي المسلم ـ من الشيطان الدعاء عند دخول المسجد بما في سنن أبي داود عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ عن النبي أَنَّهُ كان إِذَا دخل المسجدَ قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) ، قال: ((فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم)). وكم من الناس ـ أيها المؤمنون ـ من يلبّس الشيطان عليهم صلاتهم ولا يجاهد المرء نفسه في إحسان صلاته، والله المستعان.
عباد الله، وليسلم المرء من أذى الشيطان فقد حث النبي على ذكر الله تعالى عند دخول البيت والخروج منه وعند الطعام والشراب ونحو ذلك، كما في صحيح مسلم عن جَابِرٍ قال: سَمِعْتُ النبي يقولُ: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليُمِطْ ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان)) ، وفي مسلم أيضًا عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع النبي طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرّة طعامًا فجاءت جاريةٌ كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله : ((إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يُذكَر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها)) ، وفي مسلم أيضا عن جابرِ بن عبدِ الله أَنَّهُ سمع النبي يقولُ: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)).
ومن الآداب التي تقيك من كيد الشيطان غسل اليدين من الطعام قبل النوم، فقد روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((من باتَ وفي يَدهِ رِيحُ غَمَرٍ فأصابهُ شيء فلا يَلُومَنَّ إِلا نفسَهُ)). وعند خروجك من البيت اذكر الله يعصمك الله من الشيطان، ففي سنن أبي داود عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النبي قَالَ: ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله)) ، قَالَ: ((يُقال حينئذ: هُدِيت وكُفِيت ووُقِيت، فتتنحّى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدِي وكُفِي ووُقِي؟!)) ، وفي المسند عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبي قَالَ: ((ما من خارج يخرج من بيته إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله عز وجل اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته)).
عباد الله، ومن الآداب التي تعصم من كيد الشيطان ما رواه الشيخان عن جابر بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إذا كان جُنْح الليل ـ أو أمسيتم ـ فكفّوا صبيانكم؛ فإن الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قِرَبَكم واذكروا اسم الله، وخَمّروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم)).
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على التأدب بهذه الآداب النبوية، وأكثروا من ذكر الله تعالى، فإن الشيطان أبعد ما يكون من الذاكرين لله تعالى، كيف لا وهم المفَرِّدُون السابقون كما في الحديث الصحيح عن النبي ؟!
قال الله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، وكما أن الشيطان يحرص على إفساد صلة العبد بربه وصرفه عن إحسان العبادة والنيل منه فإنه كذلك يحرص على إفساد علاقة الناس ببعضهم، فإن من كيد الشيطان إساءة الظن بالآخرين والتحريش بين المسلمين، وقد جاء في صحيح مسلم عن أنس أنّ النبي كان مع إِحدى نِسائِهِ، فمرّ بِهِ رجلٌ فدعاه فجاء فقال: ((يا فلان، هذه زوجتي فلانة)) ، فقال: يا رسول اللّهِ، من كنت أظنّ بِهِ فلم أكن أظنّ بِك، فقال رسول اللّهِ : ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)). وفي الصحيحين عن صفِيّة بِنتِ حُييٍّ قالت: كان النبي معتكِفًا فأتيته أزوره ليلاً، فحدّثته ثمّ قمت لأنقلِب فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دارِ أسامة بنِ زيدٍ، فمرّ رجلانِ مِن الأنصارِ، فلمّا رأيا النبي أسرعا، فقال النبي : ((على رِسْلِكُما، إنها صفية بنت حُيي)) ، فقالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا)). وفي صحيح مسلم عن جَابِرٍ قَال: سَمِعْتُ النبي يقولُ: ((إن الشيطان قد أَيِِسَ أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)).
والشيطان يحضر الناس في بيعهم وشرائهم ليلقي العداوة بينهم بالغش والخداع، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة)) رواه الترمذي. وفي الصحيحين عن سليمان بن صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النبي وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وأحدهما يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النبي ؟! قَالَ: إني لَسْتُ بِمَجْنُونٍ.
أيها الناس، إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ؛ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، فاحذروا كيد الشيطان، وعليكم بذكر الرحمن والاعتصام به، فإن من التجأ إلى الله كفاه ما أهمه، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
(1/4433)
فضل أم الكتاب
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن عاصم من كيد الشيطان. 2- القرآن شفاء وهدى للمؤمنين. 3- فضل سورة الفاتحة. 4- تفسير سورة الفاتحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، لقد تقدم معنا الحديث عن كيد الشيطان للإنس والجان، وبيان شدة حرصه على إضلال أكبر قدر من المكلفين ليدخلوا النار عياذًا بالله، ومع ذلك فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من اعتصم بالله من شر الشيطان فإن الله عاصمه، وما شأنه إلا كما قال الله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].
أيها المسلم، لقد أنزل الله القرآن، وجعله عاصمًا لك من كيد الشيطان، فبنوره تتبدّد ظلمات الشياطين، وبهداه تجانب سبل الغاوين، وتلاوته تصرف عنك الشرور، جعله الله هدى ورحمة وشفاء للمؤمنين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، وقال سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
فالقرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات وأمراض الشبهات، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب والوعد والوعيد مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير والرهبة عن الشر ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف وبينها أحسن بيان مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صح القلب من مرضه ورفل بأثواب العافية تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. وإذا نال المرء من قراءته للقرآن هذا الخير لم يكن للشيطان عليه سبيل.
ولذا يحرص الشيطان على صد الإنسان عن القرآن ويوهمه أن ذلك ليس بنافع له، وإذا شرع الإنسان في القرآن يسعى لصرفه عن القرآن وتعلمه، والله يقول: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:98-100]. فالقرآن كله شفاء ورحمة وهدى، فلو قرأه الإنسان وتأمل معانيه ورق له قلبه وانقادت للعمل به جوارحه نفعه ذلك، ونال مراده بإذن الله.
ومقامنا اليوم مع فاتحة الكتاب وأم القرآن، فإنها السبع المَثَاني والقرآن العظيم الذي أوتيه النبي ، وإنه لم ينزل في القرآن ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، وهي الشافية، وهي الكافية، وهي الرقية التامة من الأدواء، وهي الصلاة، فإن الصلاة لا تصح إلا بها. روى البخاري عن أبى سعيد بن المُعَلّى أن رسول الله قال له: ((لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)) ، قال: ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: ((لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن)) ؟! قال: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هي السبع المَثَاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)) , وفي جامع الترمذي ومسند أحمد عن أبي هريرة قال: إن رسول الله قال لأبى بن كعب: ((أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها؟)) قال: ((فكيف تقرأ في الصلاة؟)) قال: فقرأت عليه أم القرآن، قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها للسبع من المَثَاني)).
هذه السورة العظيمة ـ يا عباد الله ـ أوجب الله على العباد أن يقرؤوها في صلاتهم في كل يوم وليلة، وفي كل صلاة فرضًا ونفلاً، فلو فكّر الإنسان في ذلك لحرص على أن يتفقه فيها، ويتعرّف على أسرارها، ويقف على معانيها.
لقد افتتح الله تعالى هذه السورة العظيمة ببيان توحيده واختصاصه بالحمد والثناء، فهو رب العالمين، المالك المتصرف الخالق القاهر فوق عباده، الأمر أمره، والملك ملكه، ولا رادّ لحكمه، من علم ذلك وأيقن به حقًّا لزمه الإقرار بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
وقوله سبحانه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي: يوم الجزاء والحساب، لا يملك أحد مع الله شيئًا، يدنيهم الله للحساب، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، إلا من عفا الله عنه، وقد جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : ((يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)).
وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي: لا نعبد إلا إياك يا رب، ولا نستعين إلا بك، فهي كقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ففي هذه الكلمة التزام العبد بتحقيق التوحيد وإفراد الله بالعبادة، فكم من المسلمين اليوم من يخالفها ويعمل بما ينقضها والله المستعان.
وختم الله السورة الكريمة بالترغيب في سلوك الصراط المستقيم، والترهيب من سلوك صراط الغاوين، والترغيب في متابعة المُنعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
إذا عرفت ـ أخي المسلم ـ ذلك تبيّن لك الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج ـ ثلاثًا ـ غير تمام)) ، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: أثنى على عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجّدني عبدي، ـ وقال مرّة: فوّض إليّ عبدي ـ فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
فتدبر ـ أيها المسلم ـ القرآن وأنت تقرؤه، وتأمل في معانيه ينتفع قلبك به، ولا تكن عنه من الغافلين اللاهين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، إن قراءة القرآن بتدبر وتمعّن مع علمٍ بمعانيه وفقهٍ لدلالاته العظيمة هي القراءة التي أمرنا الله بها في قوله سبحانه: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وهذه السورة العظيمة فيها الشفاء لمن قرأها وتأمّل معانيها، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن ناسًا من أصحاب رسول الله كانوا في سفر، فمرّوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راقٍ؟ فإن سيد الحي لَدِيغ أو مُصَاب، فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ الرجل، فأعطي قطيعًا من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي ، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسّم وقال: ((وما أدراك أنها رقية؟)) ، ثم قال: ((خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم)).
يقول ابن القيم: "ولقد مرّ بي وقت بمكة سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع" اهـ.
فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في تعلم القرآن وتفهم معانيه، ففيه كفاية للمؤمن عن الذهاب للسحرة والكهان، وفيه الرحمة والشفاء لأهل الإيمان.
اللهم اصرف عنا كيد الشيطان، واهدنا صراطك المستقيم، وتوفّنا مسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4434)
فضل البقرة والمعوذات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, القرآن والتفسير
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمرات الحديث عن فضل سور القرآن. 2- فضل سورة البقرة. 3- فضل آية الكرسي. 4- فضل خواتيم سورة البقرة. 5- فضل المعوذات وبيان معانيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، إن الحديث عن فضل سوَر القرآن وتعلم ما ورد عن النبي في ذلك يورث عند المسلم الرغبة في تعلم القرآن والإقبال عليه والحرص على حفظه، ويزداد بذلك إيمانًا وثباتًا، ويقوى قلبه على منازلة الشياطين والتقوّي على حربهم بهذا الكتاب العظيم. وقد سبق معنا الحديث عن فضل الفاتحة الشافية الكافية، واستمع معي الآن إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفضل في الأخذ بسورة البقرة وبعض آياتها.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي أُمَامة الباهِلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزَّهْرَاوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غَمَامَتان، أو كأنهما غَيَايتَان، أو كأنهما فِرْقَان من طير صَوَافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة)). وفيه أيضًا عن النَوّاس بن سَمْعَان أنه قال: سمعت النبي يقول: ((يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران)) ، وضرب لهما رسول الله ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: ((كأنهما غَمَامَتان، أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقَان من طير صَوَافّ تحاجّان عن صاحبهما)). وفيه أيضًا عن أبى هريرة أن رسول الله قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)). ففي أخذ المسلم لهذه السورة أمان من كيد الشيطان لنفسه وبيته، يقيه ذلك من كيد شياطين الجن وأعوانهم من شياطين الإنس من السحرة ونحوهم.
وقد اشتملت هذه السورة على آية عظيمة مَن حافظ على قراءتها دُبر كل صلاة لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت فيدخلها، إنها آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، فقد روى مسلم عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله : ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قال: قلت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، قال: فضرب في صدري وقال: ((والله، ليهنك العلم أبا المنذر)).
وعن أبى هريرة أن رسول الله لما وكله بحفظ زكاة رمضان قال: فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذه أبو هريرة، وقال: والله لأرفعنّك إلى رسول الله ، فقال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، فكان أبو هريرة يخلي سبيله حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال له أبو هريرة: هذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. قال: فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله : ((ما فعل أسيرك البارحة؟)) قلت: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ((ما هي؟)) قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي : ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟)) قال: لا، قال: ((ذاك شيطان)).
وأما خواتيم سورة البقرة فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما أُسرِي برسول الله انتُهِي به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها... قال: فأُعطِي رسول الله ثلاثًا: أُعطِي الصلوات الخمس، وأُعطِي خواتيم سورة البقرة، وغُفِر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات. وروى الترمذي عن النُّعْمَان بن بَشِير عن النبي قال: ((إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يُقرَآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان)). وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن ابن عباس قال: بينما رسول الله وعنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل عليه السلام بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفًا منهما إلا أعطيته. وفي الصحيحين عن أبي مسعود البدري قال: قال: رسول الله : ((الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه)).
فيا أيها المسلم، أقبل على القرآن تعلّمًا وتعليمًا، ولا تخش بعد ذلك من كيد الشياطين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، وقد ختم الله كتابه الكريم بالمعوذات الثلاث: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. قل هو الله أحد فيها صفة الرحمن، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وإنها لتعدل ثلث القرآن كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيها إبطال لمذهب اليهود الذين قالوا: عُزَير ابن الله، ولعقيدة النصارى الذين كفروا بقولهم: المسيح ابن الله، وللمشركين الذين أشركوا في عبادتهم غير الله والذين قالوا الملائكة بنات الله. روى مالك عن أبي هريرة أنه أقبل مع رسول الله فسمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد)، فقال رسول الله : ((وجبت)) ، قال: فسألته: ماذا يا رسول الله؟ فقال: ((الجنة)). وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ )) ، وفي رواية عند ابن حبان أن عقبة قال: يا رسول الله، علمني من سورة هود أو من سورة يوسف، فعلمه النبي أن يقرأ بسورة الفلق، وقال له: ((إنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله منها)). وصح عنه أنه قال: ((ما تَعَوَّذ مُتَعَوِّذ بمثلهما)). وصح عن عائشة أن رسول الله كان إذا اشتكى نَفَثَ على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طَفِقتُ أنفُثُ على نفسه بالمعوّذات التي كان ينفُث، وأمسح بيد النبي عنه. وكان يحث على قراءتها في الصباح والمساء وعقب الصلوات، وذلك لما اشتملت عليه هذه السور من التعوّذات العظيمة.
لقد اشتملت سورة الفلق على الاستعاذة بالله رب الفلق يعني الصبح، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ : وهي كلمة جامعة تشمل الاستعاذة من شر كل شيء، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ : وهو الليل إذا دخلت ظلمته، وانتشر فيه الشياطين، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ : وهم السحرة الكفرة، وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ : وهذه استعاذة من الأعين الخبيثة والأرواح الشريرة التي تصيب الإنسان، فما يخشاه المسلم من المس الشيطاني أومن عمل السحرة أو من العين الحاسدة فإن هذه السورة تدفعه بإذن الله.
وأما سورة الناس فإن المرء بقراءتها يقدم بين يدي استعاذته التوسل إلى الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته فيقول: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنَ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وهو الشيطان الجاثِم على قلب ابن آدم، فإن ذَكَر الله خَنَس، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ، فهذه استعاذة بالله مالك الملك من شر كل الشياطين من الإنس والجن.
أيها الناس، كثير منا في غفلة عن فضل هذه السورة، فلنجتهد في تعلم القرآن والعمل به ومدارسته آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك الكريم، اللهم حبب إلينا القرآن، واجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين...
(1/4435)
قصتي جريج العابد وأويس القرني
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, الوالدان, فضائل الأعمال
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم دعوة الوالد على ولده. 2- بر الوالدين مقرون في القرآن بعبادة الله. 3- قصة جريج العابد وما فيها من عبر. 4- قصة عمر بن الخطاب مع أويس القرني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
أيها الناس، حديثنا اليوم عن إحدى هذه الدعوات المُسْتَجابات، عن دعوة الوالد على ولده.
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما، ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى في كتابه الكريم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكد الله تعالى هذا المعنى في آية أخرى فقال جل وعلا: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج)) ، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات)) ، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله، جُرَيج رجل عابد تقي دعته أمه ولم يكن في لهو، بل كان في صلاة وعبادة فلم يجبها حتى غضبت عليه، ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات، أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ:
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغى يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم)) ، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه)) ، استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أُوَيس بن عامر؟ حتى أتى على أُوَيس فقال: أنت أُوَيس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُرَاد ثم من قَرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، فقال عمر : سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أُوَيس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مُرَاد، ثم من قَرَن، كان به بَرَصٌ فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل)) ، فاستغفر لي. فاستغفر له.
أيها المسلم، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة ببرّه لأمه، أُوحِي إلى النبي بخبره، وأخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس. وما أعظم برّ الوالدين!
فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا؛ فإن الجنة عند أقدامهما، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله.
(1/4436)
لا ضرر ولا ضرار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/10/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الخير للمسلمين. 2- تحريم الإضرار بالناس. 3- النهي عن الضرر في الطهارة. 4- رفع الحرج عن المسافر والمريض. 5- النهي عن الضرر في الجهاد وفي المعاملات المالية والاجتماعية. 6- النهي عن الضرر في الإرث والوصية. 7- النهي عن الضرر في الحقوق. 8- النهي عن الضرر بالزوجات. 9- النهي عن الضرر بالكتاب والشهداء. 10- صور أخرى من الضرر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ من خلُق المؤمن حبَّ الخير لنفسِه ولإخوانِه المؤمنين، فهو يحِبّ لهم ما يحِبّ لنفسِه، ويكرَه لهم ما يكرَهُه لنفسه، وفي الحديثِ عنه قال: ((لا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) [1] ، وإن كان تطبيق هذا بالكَمال أمرًا شاقًّا لمن أعانه الله ووفَّقه وسدَّد خطاه، وعلى كلٍّ فإذا عجزَ عن وصول إلى هذا الكمالِ فلا يعجَز عن دفعِ الضّرَر [وعَدمِ] إيصالِه للمسلمين جماعةً وأفرادًا. فالمسلم حقًّا يبذُل الخيرَ، وإن قصَّر في بذلِ الخير فإنّه يمتنع من أن يلحِقَ بالمسلمين ضَررًا في دمائِهم وأموالهم وأعراضِهم، ((والمسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمِن من أمِنه الناس على دمائِهم وأموالهم)) ، هكذا يقول محمد [2].
أيّها المسلم، إنَّ إلحاقَ الضّرَر بالأمّة أفرادًا وجماعة أمرٌ محرَّم عليك، يقول جلّ وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، فإِلحاق الأذَى بالنّاس أفرادًا أو جماعاتٍ كلُّ ذلك محرَّم في شريعةِ الله حتى ولو كان على غيرِ دِينِك، فإلحاق الضرَرِ بأيِّ إنسانٍ محرَّم، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
أيّها المسلم، ونبيُّنا بيَّن لنا حكمَ الضّرَرِ بالمسلمين فقال: ((من ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله به)) [3]. هذا الحديثُ يبيِّن لك أن الجزاءَ مِن جنس العمل، فمن فعل خيرًا وسعى في خيرٍ فإنَّ الله يوفِّقه ويسدِّده، ومن سعى في الشّرِّ والفساد فإنَّ الله يلحِق به الأذَى والضّرر جزاءً وفاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيّها المسلم، الضّرَر محرَّم بجميع صوَرِه، سواء كان هذا الضرَر تفويتَ مصلحة لفردٍ، أو كان هذا الضّرر إيصال الأذى بفردٍ آخر، فسواء مَنعتَه الحقَّ الواجبَ أو أَلحقتَ الضّررَ به، فإن فوَّتَّه مصلحةً له فقَد ألحقتَ الأذى والضرَرَ به، وإن تسبَّبتَ في إيقاع أذًى عليه فقد ألحقتَ الضررَ والأذى به.
أيّها المسلم، إنَّ شريعةَ الإسلام جاءت بالعدلِ بجميع صوَرِه، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]. فالمجتمعُ إذا تعاوَن أفرادُه ودفَعوا الضّررَ عن أنفسِهم وعن مجتَمَعهم عاش الفردُ وعاشت الأمّة في أمنٍ واستقرار وطمَأنينةٍ، ولكن إذا شذَّت فِئَة فألحقتِ الضررَ بالآخرين أو منَعَتهم حقوقَهم أو أوصلَت الأذى والضررَ عليهم فإنَّ ذلك يسبِّب فسادًا في مجتمَعِ المسلم.
أيّها المسلم، وإذا تأمَّلتَ شريعةَ الله جلّ وعلا رأيتَ الضررَ ممنوعًا على الإنسان في تعامُلِه مع ربّه، أو تعامله مع أهلِه: أبَوين أو زوجة أو أولادًا أو رَحِمًا، أو تعامله مع الآخرين: جيرانًا أو شركاء، أو من يتعامَل معهم، رأيتَ الضرَرَ محرَّمًا في هذا كله.
أيها المسلم، فخُذ مثلاً الماء الذي جعلَه الله شرطًا لصِحّة الصّلاةِ: ((لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدَثَ حتى يتوضّأ)) [4] ، عندما يتعذّر الوصول إلى الماء أو عندما يكون استعمالُ الماء ضارًّا بالإنسان فقد جعلَ الله التيمّمَ قائمًا مقامَ الماء عند عدمه أو عند العجزِ عنِ استعماله. في عهدِ النبيِّ سريّةٌ من قومِه احتَلَم أحدُهم فسأل أصحابَه: أَلي رخصةٌ في ترك الغسل من الجنابة؟ وفيه شجّةٌ في رأسه، فقال: ألي رخصة في ترك الغسل لأجل الشّجّةِ التي بي؟ فقالوا: لا نجِد لك رخصةً، فاغتسل فمَات، فقال : ((قتَلوه قتَلهم الله، ألم يسألوا إذ لم يعلَموا، إنما شِفاء العيِّ السؤال)) [5].
أيّها المسلم، وحرِّم عليك أن تلحِقَ الضررَ بنفسك في وضوئِك وغُسلك بأن تستعمِلَ الغسل أو الوضوءَ بشكلٍ يخرج عن نظامِ الشرع؛ فإنَّ الله جلّ وعلا أمرنا بغَسل الوجه واليَدين ومسح الرأس وغسلِ الرجلين في الوضوء، وبيَّن ذلك نبيُّنا ، فتوضّأ ثلاثًا، غسَل وجهَه ثلاثَ مرّات وكلَّ عضوٍ من أعضائه، يعني غسل وجهَه ثلاثَ مرّات، ويدَيه اليمنى واليسرَى ثلاثَ مرّات، ومسح برأسِه واحدة، وغسَل رجلَيه ثلاثًا. وجاء عنه أنّه اقتصَر على مرّتَين أو على مرّة، وحرّم الإسرافَ في الماء، وأخبر أنَّ للوضوءِ شيطانًا يقال له: الولهان يرغِّب المسلمَ في الوَساوس في طهارَتِه [6] ، ويثقِّلها عليه حتى يمضِيَ على واحدٍ منهم الساعاتُ وهو ما توضَّأ وما اغتسَل، كلَّما انتهى من وضوئِه قال: الوضوءُ ناقص، وكلّما انتهى من غسله قال: الغسل ناقص، فما يزال ذلك به حتى يخرجَ عن طورِ الاعتدال إلى الوساوِس الممقوتَةِ.
أيّها المسلم، ألا ترى ربَّنا جلّ وعلا عندما أباحَ للمسافر الجمعَ بين الصّلاتين، أباح الله الجمعَ للمسافر بين الصلاتين عندما يكون ذلك رِفقًا بالمسافر، فأباح له الجمعَ مع أنَّ الوقت شرطٌ لصحّة الصلاةِ، لكن أبيح الجمعُ لدَفع الضّرَر، وسُنَّ للمسافِر قصرُ الصلاة ركعتين، كلُّ ذلك مراعاةً للمصالح ودفعًا للضرر. وشُرِع للمسلم إذا عجز عن القيام في الصّلاة أن يصلِّيَ قاعدًا أو مُضجعًا أو على جَنبِه، ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلَى جَنب، فإن لم تستطِع فمستلقيًا)) [7] ، كلُّ ذلك رِفقًا به، وتسهيلاً عليه أداء الفريضة، فلو عجز عن الطهارةِ أو استقبالِ القبلة أو عن نظافةِ ملابسه لعدم وجودِ مَن يعينه صلَّى على حالِه، والله يعلم حالَه. وألا ترَى إلى محمّدٍ وهو يحثُّ الأئمَّة على مراعاةِ من وراءَهم مِن المأمومين، فيقول: ((أيّها الناس، إنَّ منكم منفِّرين، أيّكم أمّ الناسَ فليخفِّف؛ فإنَّ وراءه الصغيرَ والكبير والمريضَ وذا الحاجة، ومن صلَّى وحدَه فليطوِّل ما شاء)) [8].
أيّها المسلم، انظر إلى صيامِ رمضان أبيح للمسافر والمريض الفطرُ وأن يقضِيَا أيّامًا أُخَر، وجعِل الإطعام عِوَضًا عمّن عجز عن الصيامِ لكِبَر سنّه أو مرضه الملازم له، كلُّ هذا من رحمةِ الله، والنبيّ كان يواصِل الصيامَ، وذاك خاصّ به، فلمّا أراد الصحابة أن يواصِلوا مثلَه واصل بهم يومًا بعد يومٍ، ولما رأوا الهلال قال: ((لولا الهلالُ لواصلتُ بكم)) كراهيّةً لذلك [9] ؛ حتى لا يحمِلَهم على المشقّة والعسرِ. أفلا ترى حجَّ بيتِ الله الحرام، لم يفرِضه الله على المسلم إلا مرّةً في عمره؛ لِما يعلم الله من المشقّة التي تلحَق بالحاج في ذهابِه ورجوعه مهما تيسَّرت له السبل، فربُّنا لم يوجِبه إلاّ مرّة واحدة، فمن زاد فهو تطوّع، والله يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
أيها المسلم، وترى في الجهاد في سبيل الله، لما أمرهم بالجهادِ كان في أوّل الأمر أنَّ الواحدَ يعدل بالعشرة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65]، فصار الواحِد يعادِل عشرةً، ثم إنَّ الله خفَّف ذلك فقال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66].
أيّها المسلم، وفي تعامُلك مع الآخَرين في بَيعِك وشرائِك وأخذِك وعَطائك حرِّم عليك الغشُّ في البيع، وحرِّم عليك التدليس والإخبارُ بخلاف الواقع، فنبيُّنا يقول: ((من غشَّنا فليس منّا)) [10] ؛ لأنَّ غشَّك للمسلم وإخبارَك عن سِلعتك بسلامتها من العيوب إو إخبارك بأنَّ هذه قيمتُها وليست في الواقع هذا ضرَرٌ منك ألحقتَه بأخيك المسلم، وأخذتَ منه عِوضًا بلا مقابِل كامِل، وهو يقول لنا: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتَما محِقَت بركةُ بيعهما)) [11]. وحرَّم على المسلمِ النّجشَ، وهو أن يزيدَ في السلعة وهو لا يريد شراءَها، لكن لينفَعَ البائع ويضرّ المشتري. وحرَّم على المسلم أن يبيعَ على بيعِ أخيه، فإذا باع أخوك المسلِم سلعةً على آخر فلا يحلّ لك أن تدفَعَ ثمنًا أزيَدَ منها لتَأخذَها، ولا أن تعرِضَ سِلعة أقلَّ ثمنًا منها لتفسَخَ البيع من أخيك؛ لأنَّ في هذا إلحاقَ الأذى والضّرَر بأخيك، وفي الحديث: ((دَعُوا الناسَ يرزق الله بعضَهم من بعض، وإذا استَنصَحك أخوك فانصَح له)) [12].
أيّها المسلم، وحرِّم على المسلم أن يخطِبَ على خِطبة أخيه، فإذا خطَب امرأةً حرُم عليك أن تخطِبَها حتى يتبيَّن لك أنهم ردّوا ذلك، أو أذِن لك الآخر؛ حتى لا تلحقَ الأذى والضرر بأخيك المسلم.
أيّها المسلم، وأوجب الله على المتعامِلَين والشركاء في العمَل الصدقُ في تعامُلهم، وأن لا يخونَ أحدهم الآخر، وفي الحديث عنه : ((يدُ الله مع الشّريكين ما لم يخُن أحدهما الآخر، فإذا خانَ أحدهم الآخرَ رفعتُ يدي وجاء الشيطان)) [13]. وأوجب على المسلِم احترامَ الجار وقال: ((من كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليكرِم جارَه)) [14] ، وحرَّم عليه إلحاقَ الضررَ به، ففي الحديث: ((لا إيمانَ لمن لم يأمَن جارُه بوائقَه)) [15] ، أي: غَدراته وخيانته وتطلّعه على عورات الجار وإلحاقه الأذى به، حتى لا يجوز له أن يحدِثَ في ملكه شيئًا يتأذَّى به جارُه؛ صوتًا أو رائِحة أو نحو ذلك، بل يحترِم الجارَ ويرعَى له حقَّه وحرمةَ جِواره.
أيّها المسلم، وفي بابِ المواريث جاءتِ الشريعة فشرَعَت المواريث، وأعطت كلَّ ذي حقّ حقَّه، وقسم الله الأموال بَين الورثةِ قِسمةً عادلة مُنصِفة، لا يلحقها نقصٌ ولا عيب. ثمّ إنَّ الله شرَع للإنسان أن يوصِيَ، والوصيّة شرعها بأن تكون في ثلُثِ ماله أو الرّبع وأقلّ أو الخمس، ولهذا قال العلماء: تستحبّ الوصية لمن ترَك مالاً كَثيرًا، فإنَّ مَن ترَك المال القليل فكونُ ورثَتِه ينتفعون به ذاك عينُ البرّ والإحسان، ولكن إذا أراد أن يوصِيَ فليتَّق الله في وصيَّته، وكان الصحابة يستحبّون الوصيةَ بالخمُس، فإن تجاوز فالربُع، وإن تجاوز فالثّلُث، ولا يحقّ للموصِي أن يوصِيَ بأكثرَ منَ الثلُث؛ لأنَّ الله جلّ وعلا حرّم ذلك عليه، ونبيّنا يقول لسعد بن أبي وقّاص لما قال: عندي مالٌ وأجِدني مريضًا ولا يرثني إلاّ ابنةُ لي، أفأُوصي بكلّ مالي؟ قال: ((لا)) ، قال: فالثّلُثين؟ قال: ((لا)) ، قال: فالنّصف، قال: ((لا)) ، قال: فالثّلُث؟ قال: ((الثلُث والثلث كبير؛ إنّك أن تذَرَ ورثَتَك أغنياء خيرٌ من أن تذَرَهم عالةً يتكفَّفون الناس)) [16] ، فلم يمت سعدٌ حتى خلَّف عشرةً من الولد، فصلوات الله وسلامه على سيّد الأولين والآخرين.
وحرَّم على المسلم أن يوصِي لأيِّ وارثٍ إلاّ بإذن الورثة، فقال : ((إنَّ الله قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ فلا وصيّةَ لوارث)) [17] ، لا تقل: هذا قاصِر أخصُّه بشيء، وتلك فتاةٌ قاصِرة أخصُّها بشيء، الله يقول: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. فالعدل والتِزام الشَّرع فيه الكفايَةُ والغِنى. ثم إنَّ هذه الوصيّة لا يجوز أن تنطلِقَ من محبَّة الضرَر بالورثة، بل تنطلق من حيث محبّة الخيرِ لنفسِه ثم لورثَتِه؛ ولذا قال الله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12]، فإذا أوصى الموصي بوصيّة لقصدِ الإضرار بالورَثَة والإساءةِ إليهم ولم يقصِد بها وجهَ الله كان آثمًا في وصيَّتِه. ثم على الأولياءِ أن ينفِّذوا وصيَّةَ الموصِي إذا أوصَى في المشاريع النّافِعة، ولا يبدِّلوها ولا يغيِّروها إلا إن خالفتِ الشرعَ، وما لم يخالف الشرعَ يجِب تنفيذه، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].
وحرَّم على المسلم أن يلحِق الضررَ بمن يطلُب منه الحقَّ، فإنّك تطلب حقَّك بحقّ، وأمّا أن تضِرّ بمن عليه الحقّ إذا كان معسِرًا عاجزًا عن الوفاءِ فإيّاك أن تشمَتَ به أو ترفَعَه إلى المحاكِم وتشوِّه سمعتَه وأنت تعلَم أنه لا يقدِر على الوفاء، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. كما أوجَبَت السنةُ على من عليهِ الحقّ أن يبادرَ بالوفاء ولا يضرَّ صاحبَ الحقّ بتأخير حقِّه، فيقول : ((مطلُ الغني ظلمٌ يحِلّ عرضَه وعقوبتَه)) [18] ، وقال: ((ليُّ الواجِدِ ظلمٌ)) [19] ، فلا يجوزُ لمن عَليه الحقُّ المماطَلَة بحقوقِ الناس، ولا من له الحقّ أن يؤذيِ الغرماءَ، بل كلٌّ يلتَزِم العدلَ في الحقّ الذي له أو الحقّ الذي عليه.
أيّها المسلم، وفي بابِ الأسرةِ جاءت الشريعة بالعدلِ وتحريم إلحاقِ الضرَر بالزوجة، فيجِب على الرجلِ أن يعاشرَ امرأتَه بالمعروف لأنَّ الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. فمِنَ الإضرارِ بالمرأة أن يسيءَ عشرتَها ويعاملَها بالسوء من غير خلَل أو نقصٍ حاصلٍ منها، لكن لآمَةُ نفسِه وقِلّة مروءَته وحيائِه جعله يضارّ بها؛ لكي تفتَدِي نفسَها من جحيمِه الملتهِب وأخلاقِه الشّرِسَة وتعامله السيّئ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، وقال: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]، فإذا كانَتِ الزّوجةُ مستقيمةً في أخلاقِها مستَقِيمة في دينِها وتعامُلها، ولكن لم يقَع في قلبِك ودٌّ لها فحَرامٌ عليك أن تضارَّ بها لأجل أن تستَرجِعَ المهرَ الذي دفعتَه، فهو حقّ ملكَته، فأخذُك إيّاه ظلم، وكم يُتَقَّى شرّ بعض الناس والعياذ بالله، وتتحمَّل المرأةُ وأولياؤها دفعَ المهر له اتِّقاء مِن شرِّ لسانه وقِلّة حيائه وضعفِ مُروءته.
ومِنَ الإضرار بالمرأة أن تطلِّقَها ثمّ تراجعها في آخرِ أيّام عدَّتها إلحاقًا للضّرر بها. كانوا في الجاهلية يفعلون هذا، يطلِّقون فإذا قربَتِ المدّة راجعوا لتبقَى المرأة في ضرَرٍ متواصل، فجاء الشّرع فجعَل الطلاقَ ثلاثًا، وحرَّم عليه أن يراجِعَها لقصد الضّرَر، قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، وقال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]. ومِنَ الضرَر أن تميلَ مع واحدةٍ دون أخرَى، فتهجُر أخرَى وتقدِّم أخرى من بابِ الهوَى والميل، وهذا أمرٌ لا يجوز لك.
أيّها المسلم، ومن الضرر أن تُضارّ بالكاتب والشاهدِ، فمِن الضررِ بكاتب الحقّ والعدل أن يضرَّ بمن يكتب له، فيميل مع بعضِهم، وربما سجَّل عباراتٍ يكون فيها إلحاقُ ضررٍ بالآخرين، فإنَّ الله يقول: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282]، وأمر الكاتب أن يكتبَ بالعدل ويبتَعِد عن الضرر، ولا يضارَّ الكاتِب فيحمَلُ على ما يريد، والشاهد يَنبغي له أن يشهدَ بالحقّ، فلا نضِرّ شَخصًا بأن نحمِّله شهادةً لا يريد حملَها، أو نضارّ به بأن نحمِلَه على شهادة الزورِ والبهتان، فإنَّ هذا إلحاقُ ضررٍ بالآخرين. ومن الأضرار الدَّعاوَى الكَيديّة المقامَة بلا حقٍّ ولا برهان، لكن لتأخُّر معامَلات الناس والإضرارِ بهم.
فليتَّقِ المسلم ربَّه، وليجتنِبِ الضررَ، وليكن داعيةَ خيرٍ ينضح بالخير في أقواله وأعماله، أسأل الله أن يوفِّقَني وإيّاكم لصالح العمَل.
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بمَا فيه من الآياتِ والذّكر الحكِيم، أقول قَولي هذا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (3/453)، وأبو داود في الأقضية (3635)، والترمذي في البر (1940)، وابن ماجه في الأحكام (2342) من حديث أبي صرمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3091). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345).
[4] أخرجه البخاري في الحيل (6954)، ومسلم في الطهارة (225) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه الإمام أحمد (3048)، وأبو داود في الطهارة (337)، وابن ماجه في الطهارة (572)، والدارمي في الطهارة (752)، من حديث عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سنده مقال، وقد حسّنه بمجموع طرقه الألباني في تمام المنة (131)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/227)، والتلخيص الحبير لابن حجر (1/394، 395).
[6] أخرجه الطيالسي (547)، ومن طريقه الترمذي في الطهارة (57)، وابن ماجه في الطهارة (421)، وابن خزيمة (122)، والحاكم (578)، والبيهقي في الكبرى (1/197) وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث غريب، وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله، ولا يصح في هذا الباب عن النبي شيء، وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا، وضعفه ابن المبارك"، قال ابن سيد الناس كما في الفيض (2/503): "لا أدري كيف دخل هذا في الصحيح"، والحديث ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن عدي والبيهقي والنووي وابن الجوزي وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وذكروا أن رفعه منكر، وهو في ضعيف سنن الترمذي (9).
[7] أخرجه البخاري في الجمعة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه: ((فإن لم تستطع فمستلقيا)).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (702، 704)، ومسلم في الصلاة (466) عن أبي مسعود رضي الله عنه نحوه.
[9] أخرجه البخاري في التمني (7241)، ومسلم في الصيام (1104) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
[10] مسلم في الإيمان (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في البيوع (2079)، ومسلم في البيوع (1532)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[12] أخرجه بتمامه البيهقي في الكبرى (5/347) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما، وأخرج الجزء الأول منه مسلم في البيوع (1522) من طريق أبي الزبير عن جابر أيضا.
[13] أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الشركة (3383)، والدارقطني (3/35)، والبيهقي (6/78) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فإذا خانه خرجت من بينهما)) ، وليس فيه ((وجاء الشيطان)) ، وهي زيادة عند رزين. والحديث صححه الحاكم (2322)، وأعله الدارقطني بالإرسال، وضعفه الألباني في الإرواء (1468).
[14] أخرجه البخاري في الأدب (6019) عن أبي شريح رضي الله عنه، ومسلم في الإيمان (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح بلفظ: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، الذي لا يأمن جاره بوائقه)) ، وأخرج مسلم في الإيمان (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
[16] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد رضي الله عنه.
[17] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدارقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث)) ، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[18] هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[19] انظر: تخريج الحديث السابق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، مِن أنواعِ الضرَرِ إلحاقُ الأذَى مِن بعض مَن عَندهم مَسؤوليةُ الجمهور ومِن بَعض من يُراجعهم المراجعون، فيكون هذا المسؤول يلحِق الضرر بالآخرين، وصوَرُ ذلك أنّه لا يَقضي حاجةَ المحتاج، ولا ينفِّذ المعاملةَ، يضَعها في دُرجِ مَكتبه أيامًا وشهورًا وصاحِبُ الحقِّ متعلِّقةٌ نفسُه بحقّه، كلّما راجع ذلك الإنسانَ قال: العملُ متأخِّر والمعامَلَةُ متأخّرَة وإلى ذلك، تسويفٌ ووعود كاذِبة وهي في درج مكتَبِه ما يتّقي الله في المسلِم، يساوِمُهم على حقوقِهم، ويساوِمهم على إعطاءِ حقوقهم، ويحمِلهم على الرّشوة والطرُق السيّئة، وهذا كلُّه عين الخطَأ وإلحاق الضرَر بالأمّة، فواجب كلِّ مسؤول أن يتَّقِيَ الله وينفِّذَ الأمورَ المنَاطَةِ به تقوًى لله، في الحديث: ((الخازِنُ المسلم الأمين الذي يؤدِّي ما أمِرَ بأدائه طيّبةً بها نفسُه أحَدُ المتصدِّقين)) [1]. فكيف بمن يسعَى بالضرَر ويؤخِّر معاملاتِ الآخرين ويماطِل بها، إن يكن له فيها مصلَحَة أو لقريبٍ أو صديق مصلَحة أنجِزَت المعاملة في يومٍ واحد، وإلاّ موطِل بذلك الإنسان ليُحمَل على الأمورِ الرديئَة؛ إمّا على رِشوةٍ يدفعها فيستَمرِئ الباطلَ، وهذا الآخِذ لها يأخذُها بغيرِ حقّ، وهو ملعون في أخذه؛ لأنه عصَى الله وأخذ مالاً بغير حقٍّ، نسأل الله السلامة والعافية.
ومِن الإضرار بالمسلمين الإضرارُ بهم في طُرقاتهم ووضع الأذى في طرُقاتهم ومنتَزَهاتهم، والنبيّ يقول: ((اتّقوا اللاّعِنَين، الذي يتخلَّى في طريق النّاس أو ظلِّهم)) [2] ، وما يفعله البعض من إلقاء الزجاجةِ وهو سائرٌ في الطريق أو إلقاء زجاجة الماء أو أيّ مشروب، ويلقيها والسيّارة مسرِعة، فربما سبَّبت إلى ضررٍ يلحق بالإنسان. ومن الضرَرِ أيضًا ما يفعَله بعض المتهوِّرين في سياقاتِهم من تجاوُز الحدود وإِرباك السّير بطرُقٍ سيّئة، دليلٌ على ضعف البصيرة وقِلّة احترام الغير.
ومِن الضرر ـ أيّها المسلم ـ نقلُ الأخبار التي لا صحّةَ لها على وجهِ تُريد بها إلحاقَ الضرر بالمسلم وتعطيلَ حقِّه أو السعي في إلحاق الضرَر به بلا حجّةٍ شرعية، لكن تنتقِم منه لهواك، فتنقُل عنه وتنسب إليه أمرًا هو بريءٌ منه لأجل الانتقام منه، لا سيّما نقلها إلى من يملِك بعضَ الأشياء، فلا يجوز للمسلِم أن يسعَى في الفساد بنميمةٍ ووِشاية وأكاذيبَ واختراعِ كلِمات سيّئة وأمور لا حقيقةَ لها.
ومن [الواجب] ـ أيها المسلم ـ أن تجتَنِب الضررَ بنفسِك، فتسعى في خلاصِها من عذاب الله، ولا تعرِّضها للهلاكِ، والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فقتل الإنسان نفسَه كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وتعاطيه أيَّ شيء يضرّ عليه في صحّته أو يقطع نسلَه أو نحو ذلك وتعاطيه المسكرات والمخدِّرات وأنواع الإجرام ضرَرٌ على نفسه، وإن مدَّها لغيره تحمَّل السوءَ، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
ومِنَ الإضرار كتابةُ بعض الكتّاب وتحدّثهم عن قضايا الأمة بما لا يتَّفق مع شريعةِ الإسلام، مثل من يقدحون في القضاءِ الشرعيّ، ويحاولون تشويهَ القضاءِ الشرعيّ ونسبةَ الأخطاء إلى القضاء الشرعي؛ لأنَّ في قلوبهم مرضًا، يريدون الأمّةَ أن تحكمَ بقوانين وضعيّة وأنظمة بشريّة بعيدة عن الدين وتعاليمه. ومن إلحاق الضرر بالأمّة ما يكتبه البعضُ في تشويهِ سُمعةِ الإسلام وسمعةِ المنتسبين إليه والأقوال الباطلة والأكاذيب المفتَراة، فعلى كلِّ مسلم أن يتَّقيَ الله فيما يقول ويفعل.
أسأل الله لي ولكم الثبات على الحقِّ والاستقامةَ عليه، إنّه على كلِّ شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في الزكاة (1023) عن أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (269) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللّعّانين، وهذا لفظ أبي داود في الطهارة (25).
(1/4437)
أسماء الله الحسنى
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, الله عز وجل
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
23/10/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصل أركان الإيمان. 2- فضل معرفة أسماء الله وصفاته. 3- كمال الله تعالى. 4- شرح الأسماء الحسنى. 5- التعبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى. 6- لوازم معرفة أسماء الله تعالى وصفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربه نجا، ومن أعرضَ عنه هَوى.
أيّها المسلمون، العلمُ بالله أحَد أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَة أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول، قال ابن القيّم رحمه الله: "أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته" [1].
والقرآنُ كلّه يدعو الناسَ إلى النظر في صفات الله وأفعالِه وأسمائه، قال شيخ الإسلام رَحمه الله: "والقرآن فيه من ذِكر أسماء الله وصِفاته وأفعالِه أكثَر مما فيه من ذكرِ الأكل والشّربِ [والنكاح في الجنّة]" [2] ، والله يحبّ من يحبّ ذكرَ صفاته، وقد بشَّر النبي الذي كان يقرَأ سورةَ الإخلاص بأنَّ الله يحبّه لما قال: إني لأحِبّها لأنها صِفةُ الرحمن. رواه البخاري [3].
وأسماؤه سبحانَه أحسَن الأسماء، وصفاته أكمَل الصفاتِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها.
فربُّنا تعالى هو الرّحمن الرّحيم، وسِعت رحمته كلَّ شيء، ورحمتُه أوسَع صفاتِه، ((خلق مائةَ رحمةٍ، وأنزل منها إلى الأرضِ رحمةً واحِدة بين الجنّ والإنس والبهائمِ والهوام، فبِها يتعاطَفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحش على ولَدِها حتى ترفَع الدابة حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَه)) متفق عليه [4]. وما مِن أحدٍ إلاّ وهو يتقلَّب في رحمةِ الله، وكلّ نعمة تراها هي مِن رحمته، وكلُّ نقمة صرِفَت فهي من آثار رحمتِه، قال ابن القيّم رحمه الله: "وكان هذا الكتابُ (إنَّ رحمتي سبَقت غضبي) كالعهد من الله سبحانَه للخَلق، ولولاه لكان للخلقِ شأنٌ آخر"، ومَن كان قريبًا مِنَ الله كانت رحمةُ الله أولى به.
وهو سبحانه الملِك، المتصرِّفُ بخَلقه كما يشاء، لا يتحرَّك متحرّكٌ ولا يسكن ساكِن إلاّ بعلمه وإرادَته، يأمُر وينهى، يعِزّ ويذلّ بلا ممانَعة ولا مدَافعة، لا يعجِزه فيهما شيء، ففوِّض إلى الملكِ أمورَك؛ فبِيَده المقاليد، وتوكَّل عليه في جميعِ أحوالِك تجِده قريبًا.
وهو القُدّوس، المنزَّه عن النقائِصِ الموصوفُ بصفاتِ الكمال، فلا إلَه معَه يُدعى، ولا وَلِيّ معه يُنادَى.
وهو السّلام، السالِمُ من جميع العيوب وخَلَل الأوصاف، جميع المخلوقاتِ تُنزِّه ربَّنا من ذلك، قال عز وجل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجمعة:1].
وهو جلّ وعلا المؤمِن، خَلقُه آمِنون من أن يَظلِمَهم أو يَبخَسهم حقَّهم، فتزوَّد منَ التّقوَى فالأعمالُ محفوظةٌ مضَاعَفة.
وهو المهَيمِن على خلقِه، مطَّلِعٌ على خفاياهم وخَبايا صدورِهم، فلا تأمَن مكرَ الله إن عَصَيتَه.
وهو الشّهيدُ على أقوالِ وأفعال عِباده، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
هو العزيزُ، لا يُغلَب، عزَّ كلَّ شيءٍ فقَهَره، ذلَّت الصِّعاب لعِزَّته، ولانت الشدائد لقوَّتِه، إذا قضى الأمرَ في السماءِ ضَرَبتِ الملائكة بأجنِحَتها خضعانًا لقولِه كأنّه سِلسِلة على صفوان، من دنا منه بالطّاعة عزَّ، قال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، ومن بارزه بالمعصِيَة ذلَّ، فلا تنظُر إلى المعصيةِ وانظر إلى من عصيتَ.
وهو العليُّ الأعلَى، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
هو الجبَّار، جبَر خلقَه على ما يُريد، لا يمتَنِع منهم أحدٌ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، قال للسَّماء وللأرضِ: ائتِيا طوعًا أو كرها، قالتا: أتَينَا طائعين. وهو سبحانَه جابِرُ قلوبِ المنكَسِرين.
هو الكبير، كلُّ شيءٍ دونَه، ولا شيءَ أعظم ولا أكبر منه، وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، ((يجعل السمواتِ على إصبِع، والأرضَ على إصبِع، والجبال والشجرَ على إصبع، والماء والثرَى على إصبِع، وسائر الخلقِ على إصبع)) متفق عليه [5].
هو المتكبِّر وحدَه، ولا يليق الكِبْرُ إلاّ به، ومن تكبَّر من خلقه فمأواه سقَر، قال جلّ وعلا: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60]. والعبدُ واجبٌ عليه التذلُّل والخضوع لربِّه والتواضعُ لعباده.
وهو الخالِقُ، أوجدَ الكونَ وأبدعه، فأبهَر مَن تأمَّله، خلاَّقٌ أتقَنَ ما خلَق، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].
هو البارِئ، بَرَأ الخلقَ مِن عدَم؛ نجومٌ وشمس وقمَر وخَلقٌ في الأفُق، كلٌّ في فلَكٍ يَسبحون، أَدهشَت من تفكَّر فيها وتذكَّر.
وهو المصوِّر، صوَّر خلقَه على صفاتٍ مختَلفة وهيئاتٍ متباينة كيفَ شاء، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45]، وخلَق الإنسان في أحسنِ صورةٍ، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]. هو المصوِّر وحرَّم التصويرَ على خلقه، وتوعَّد المصوِّرينَ مِن خلقِه ولعَنَهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله المصوِّرَ)) رواه البخاري [6] ، وقال: ((كلُّ مصوِّرٍ في النار)) متفق عليه [7].
وهو الغفور، يمحو ذنوبَ مَن أنابَ إليه من عبادِه وإن تناهَت خطاياه، غفَر لسحرَةِ فِرعون كُفرَهم وسِحرهم ومُبارَزَتهم لنبيِّهم بسجدةٍ واحِدة لله مقرونةٍ بتَوبة، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
وهو القهَّار، الخلقُ تحت قَهرِه وقَبضته، ينزع روحَ من شاء متى شاء، لا يقع في الكونِ أمرٌ إلا بمشيئتِه ولو سعَى العبد إلى تحقيقه.
هو الفتَّاح، يَفتح أبوابَ الرزق والرحمة وأسبابها لعبادِه، ويفتح عليهم المنغَلِقَ من أمورهم وأَحوالهم.
وهو الرزَّاق، يرزُقُ العبدَ من السماء والأرض، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ [سبأ:24]، عمَّ برِزقِه كلَّ شيء، فما من دابَّة في الأرض إلاّ على الله رِزقُها، رزَقَ الأجنّةَ في بطونِ الأمّهات، ورزق السِّباع في القِفار والطيورَ في أعالي الأوكار والحيتانَ في قعر البِحار.
وهو الوهَّاب، يعطِي من أراد ما شاءَ، بِيده خزائن السّموات والأرض، وهَب ذرّيّةً طيّبة لأنبياء بعد بلوغِهم عِتيًّا من الكِبَر، وسأل سليمان ربَّه الوهّاب مُلكًا لا يَنبَغي لأحدٍ مِن بعدِه، فوهبه آياتٍ وعِبرًا مِنَ العطاء؛ رِيح وجِنّ وعَين قِطرٍ مسخَّرات بأمرِه.
وهو العليم، يعلَم السرائر والخفيَّاتِ، لا يخفَى عليه قول ولا فعلٌ مما يجتَرِحُه العباد، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت:62].
هو السَّميع، يسمَع النّجوَى وما أعلِنَ والسرَّ وما أخفَى، إن جهرتَ بِقولِك سمِعَه، وإن أَسرَرتَ به لصاحِبِك سمعه، وإن أخفَيتَه في نفسك علِمَه.
هو البصير، يرَى خَوافِيَ الأمور وإن دقَّت، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرة وإن خفِيَت، يرى في ظُلَم الليل ما تحت الثّرَى، ويُبصِر قَعرَ البحر في الدّهماء.
هو الظاهر والباطن، لا يخفى عليه دَبيبُ النملة السوداءِ على الصخرةِ الصّمّاء في اللّيلةِ الظّلماء، إن فعلتَ فِعلاً ظاهرًا رَآك، وإن عَمِلت باطنًا ولو في جوفِ بيتِك أبصرَك، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. ومن علِم أنَّ الله مطَّلِع عليه استَحَى أن يراه علَى معصِيَة.
هو الحكيم، لا يدخُل في أحكامه ولا تشريعَاته خللٌ ولا زَلَل، وليس لأحدٍ أن يراجعَ أحكامَ الله أو ينتَقِصها أو يضَعها للجدل، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، بل الواجب التسليمُ والإذعان لها والانقياد إليها، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، ولا يصلُحُ لعباده سِوى شرعه المطهَّر، ومَن سَخِر بدينه أو شرعِه أذلَّه الله.
هو اللّطيف، يَلطُف بعباده، يسوق الرزقَ إليهم وهم لا يشعرون.
وهو الخبير بأمورِ العِباد، لا يخفَى عليه شيءٌ، مطَّلِع على حقيقةِ كلِّ أمر، فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59].
وهو الحليم، لا يعجِّل العقوبةَ على عبادِه بِذنوبهم، ولا يحبِس إنعامَه وأفضاله عنهم بخطيئاتهم، يَعصونه ويرزُقهم، يذنِبون ويمهلهم، يجاهِرون ويستر عليهم، فلا تغترَّ بحلمِ الله وكَرَمه عليك، فقد يبغَتُك العذاب، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6].
وهو العظيم، إذا تكلَّم بالوحي أخذَتِ السموات منه رجفةٌ أو رِعدةٌ شديدة خوفًا من الله عزّ وجلّ، فإذا سمِع ذلك أهلُ السموات صُعِقوا وخرّوا لله سجَّدًا.
وهو الشّكور، يعطي الجزيلَ على اليسيرِ منَ العمل، ويَغفِر الكثيرَ مِنَ الزَّلَل، فلا تحقِر أيَّ عملٍ صالح وإن قلَّ، فالحسنة تتضَاعَف، قال سبحانه: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى:23].
وهو الحفيظ، يحفَظ أعمالَ العباد ويحصِي أقوالَهم، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، ويحفَظ عبادَه من المهالِكِ والمعاطِبِ، حفِظ يونسَ وهو في بطن الحوت في لُجَجِ البِحار، وحفِظ موسى وهو رضيعٌ في اليمّ، فتوكَّل على الله في حِفظ نفسك وأولادك، فلا تعاويذَ شركيّة، ولا تمائم ولا سَحَرَة ولا كُهّان.
وهو القويّ، لا يعجِزه شيء، قوِيّ في بطشِه، قال ابن جريرٍ رحمه الله: "إذا بطَش بشيءٍ أهلَكَه" [8] ، أمرَ جبريلَ بقلبِ قريةٍ عاتِيَة بالفواحش قوم لوطٍ فَعَلا بها بطَرَف جناحه ثم قلَبَها بمن فيها، وجعلها آيةً للاعتبار عبرَ القرون، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137، 138]. ومن تأمَّل قوّةَ من عصى تركَ ما عصَى.
وهو سبحانه الشافي، يشفي ويُعافي من الأمراضِ والأسقام، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، والأدوية أسبابٌ يجب أن لا يتعلَّقَ القلب بها.
وهو المنَّان، يبدأ بالعطاءِ قبلَ السؤال.
والله سبحانه هو المحسِن، غمَر الخلقَ بإحسانه وفضلِه.
هو الكريم، يعطي ويجزل في العَطاء، ليس بينه وبين خلقِه حِجاب، فاسأل وربُّك الأكرَم، وإذا فتَح الرزقَ على عبدِه لم يمنَعه أحدٌ، قال سبحانه: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]. وهو حيِيّ، ((إذا سأَلَه عبدُه عطاءً ورفع إليه يدَيه يستحِي أن يردَّهما صِفرًا)) رواه أحمد [9].
وهو الرقيب، لا يغفل عن خَلقِه ولا يضيِّعهم، وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون:17]، مطَّلِع على ما أكَّنَته ضمائِرُهم، قال الحسن البصري رحمه الله: "رحِم الله عبدًا وقَف عند همِّه، فإن كان للهِ مضَى، وإن كان لغيرِه تأخَّر" [10]. فقِف وقفةً عند كلِّ عمَل، فإن كان لله فتقدَّم، وإن كان لغيره فتأخَّر.
وهو الودود، يتودَّد إلى عبادِه بالنّعَم وترك العصيانِ، ومن ترَك شيئًا لأجلِه أعطاه المزيدَ. وهو ذو محبَّةٍ لعبادِه الصالحين، يحِبُّ التوابين منهم والمتوكِّلين والصابِرين.
وهو المجيد، ذو مَجدٍ ومَدح وثَناء كريمٍ، لا مجدَ إلا مجدُه، وكلُّ مجدٍ لغيره إنما هو عطاءٌ وتفضُّل منه سبحانه.
وهو الحميدُ، مستَحِقٌّ للحمد والثناءِ بفعالِه، يُحمَد في السراء والضراءِ، وحمدُه من أجلّ الأعمال، قال عليه الصلاة والسلام: ((والحمدُ لله تملأ الميزانَ، وسبحان الله والحمد للهِ تملآن أو تملأ ما بين السمواتِ والأرض)) رواه مسلم [11].
وهو سبحانه الحيُّ القيّوم، قائِم بأمرِ جميع الخلائق، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].
هو أحدٌ، لم يزل وحدَه، ولم يكن معه غيرُه، وتوحَّد بجميع الكَمَالاتِ، لا يشاركه فيها مشارِك.
وهو الصّمَد، تصمُد إليه الخلائق في حاجاتِها، وتبُثّ إليه شكواها، وتضع بين يدَيه ملِمّاتها.
وهو السيِّد، إليه الملجَأ وحدَه عند الشّدائد والكرُوب.
وهو القدير، تامّ القدرةِ والنّفوذ على كلِّ شيء، قال لنارٍ محرِقة: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت كما أمَر، وأمر بحرًا زاخرًا بالأمواجِ أن يكون طريقًا يبَسًا لموسى، ثم عادَ بحرًا على أكملِ حالٍ.
هو البَرّ، يحسِن إلى عبادِه ويصلح أحوالَهم، بَرّ بالمطيع في مضاعَفَة الثواب، وبَرٌّ بالمسِيء في الصّفحِ والتجاوُز، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28].
وهو التّوَّاب، لا يردُّ تائبًا، مَن جاء إليه في ليلٍ أو نهار قَبِلَه بل وأحبَّه، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222].
وهو العفُوّ، مهما أسرَفَ العبد على نفسِه بالعِصيان ثمّ تاب عفَا عن ذنوبِه.
وهو الرّؤوف بجميع خلقِه، يغدِق عليهم الأرزاق الدّارَّةَ وإن عصَوه رأفَةً منه بهم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65].
وهو الغنيّ، لا حاجةَ له إلى خلقِه، يدُه ملأَى لا تَغيضها نفقَةٌ، سَحَّاء الليلَ والنهارَ، يقول عليه الصلاة والسّلام فيما يروِيه عن ربِّه: ((يا عبادِي، لو أنّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا على صعيد واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألتَه ما نقص ذلك ممّا عندي إلاّ كما ينقص المخيطُ إذا أدخِل البحر)) رواه مسلم [12].
وبعد: أيّها المسلمون، فبأسمائه تعالى الحسنَى يُدعى، وبها وبصفاتِهِ العُلى يثنَى، والله يحبّ مَن يدعوه ويحمده، وأكمَلُ النّاس عبوديّةً المتعبِّد بجميع الأسماء والصفاتِ. وأسماؤُه تعالى لا حصرَ لها، منها تسعةٌ وتسعون اسمًا من أحصاها بالعلم بمعناها والعمَلِ بمقتضاها دخلَ الجنّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تَسمَعون، وأستغفِر الله لي ولَكم ولجميع المسلِمين من كلّ ذنب فاستَغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] الجواب الكافي (ص168)، وروضة المحبين (ص166).
[2] درء التعارض (3/61).
[3] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7375) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة (813).
[4] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6000)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2752) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4811)، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة (2786) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب اللباس (5962) عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشِمة والمصوِّر.
[7] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2225)، صحيح مسلم: كتاب اللباس (2110) واللفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] جامع البيان (7/64).
[9] مسند أحمد (23715) من حديث سلمان رضي الله عنه بمعناه، وأخرجه أيضا أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (876)، وهو في صحيح الترغيب (1635).
[10] رواه البيهقي في الشعب (5/458).
[11] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[12] صحيح مسلم: كتاب البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، مِفتاح دَعوةِ الرّسلِ وخُلاصة رسالتهم معرِفَة المعبودِ بأسمائه وصفاته وأفعالِه، ومعرفةُ الله وما يستحِقّه من الأسماء الحسنى والصفاتِ العلى والأفعال الباهِرَة يستلزِم إجلالَه وإعظامَه وخَشيتَه ومهابَتَه ومحبَّته والتوكّلَ عليه والرضا بقضائِه والصبرَ على بلائه، وعلى قَدرِ المعرفة يكون تعظيم الربِّ في القلبِ، وأعرفُ الناس به أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالاً، ومن عرَف أسماء الله وصفاتِه علِم يقينًا أنَّ المكروهاتِ التي تصيبُه والمحنَ التي تنزل به فيها مِن ضروبِ المصالح التي لا يحصِيها علمُه، والله يحِبُّ موجِبَ أسمائه وصفاتِه، فهو كريمٌ يحبّ الكريم من عبادِه، حليم يحبّ أهلَ الحِلم، عليمٌ يحبّ العلَماء، شكور يحبّ الشاكرين.
ثمّ اعلموا أنَّ الله أمركم بالصلاةِ والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/4438)
استعدوا للموت
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
7/1/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة أحداث هذا الزمان. 2- تفشي الغفلة عن ذكر الموت. 3- حتمية فناء المخلوقات. 4- آثار الموت على البشر. 5- أهمية الاستعداد للموت في كل وقت. 6- علامات حسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
حين يتأمّل المرء حال العالم بأسره اليوم يجد أنه يلتهب من الفتن والأحداث والقلاقل التي تذكو نارها يومًا بعد يوم، ضحاياها كثير، وكثير من هذا الكثير لا ذنب له فيها إلا القرب أو الجوار. ولا تكاد قضية أو مشكلة تخبو أو تنطفئ إلا وتنفجر أخرى، ربما كانت شرًا من الأولى. ولا يجد المتابع مشقّة أو كُلْفة في متابعة الحدث مهما كانت أرضه؛ وذلك من خلال تلك القنوات والإذاعات المتخصصة في نقل الأخبار والأحداث، التي تزعم أنها تنقلها لحظة بلحظة.
عباد الله، لقد غفل العالم عن حدث عظيم وخطب جَلَل، ما أكثر ضحاياه! فهو يعم القاصي والداني، والقريب والبعيد، ولا ينجو منه أحد، إنه الموت. إنك لا تكاد ترى للموت أثرًا، بل ولا حتى ذكرًا في حياة الكثيرين اليومية، فمع قلة الواعظين وامتلاء المجالس ووسائل الإعلام بالأخبار العالمية وأمور الدنيا الزائلة تجزم أن أناسًا تمر عليهم الأيام ما تذكروا الموت، ولا مرّ اسمه على مسامعهم.
إن العجب يتملكك حين ترى حال بعض المسلمين ـ هداهم الله ـ يأتيه الخبر بوفاة قريب أو صديق فلا يتحرك فيه إلا لسانه بترحّم واستغفار لذلك الميت، وأناس يأتون المقابر ويسيرون بين قبور الموتى وحديثهم عن الدنيا وزخارفها. لقد نسينا الموت والأهوال التي بعده، فأورثنا ذلك قسوة في قلوبنا وعدم اتعاظ بمصارع من حولنا.
ولأجل هذا فسنشرع ـ بإذن الله ـ هذه الجمعة وما ييسّر الله من الجُمَع بعدها في الحديث عن الموت وما يعقبه من الأهوال العظام في القبر والمحشر حتى ينصرف الناس إلى المثوى الأخير، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، عَلّ القلوب أن تستعد لذلك المصرع، وتتأهّب لهول المَطْلَع.
عباد الله، لقد كتب الله الفناء على كل شيء، فكل شيء هالك إلا وجهه، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]. فالموت أمر واقع، ما له من دافع، لا مردّ له ولا شافع، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، الجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، ويبقى الله الحي الذي لا يموت، ينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخِرًا ليس بعده شيء، كما كان أولاً ليس قبله شيء.
لقد حيّر الموت بأمره العقلاء، واستغلق بسرّه على الحكماء، لا يرحم صغيرًا، ولا يوقّر كبيرًا، ولا يعرف صديقًا، لباسه لا يستثني جسدًا، وكأسه لا يترك جوفًا، فكلنا لكأسه شارب ولطعمه ذائق.
ألا كُلُّ مولودٍ فللموتِ يُولَدُ ولستُ أرى حيًا عليها يُخلّدُ
تجرّدْ من الدنيا فإنك إنّما خرجتَ إلى الدنيا وأنت مُجرّدُ
وأنت وإن خُوّلْتَ مالاً وكثرةً فإنك في الدنيا على ذاك أوحدُ
وأفضلُ شيء نِلْتَ منها فإنه متاعٌ قليلٌ يَضْمَحِلُّ وينفدُ
فكم من عَزِيز أعقبَ الذلُّ عزَّهُ فأصبح مذمومًا وقد كان يُحمدُ
فلا تَحمدِ الدنيا ولكن فَذُمّها وما بالُ شيء ذَمَّهُ اللهُ يُحمدُ
عباد الله، عجب أمر هذا الموت! مفرّق للجماعات، وهادم للذات، فكم من أفراح قلبها أتراحًا، وسرور حوّله همًا وغمًا. والد بين أولاده يضاحكهم ويداعبهم في غمرة سعادة ونشوة فرح، فإذا بالفرح ينقلب حزنًا، والولد يصبح يتيمًا. وأم تملأ البيت بحنانها وشفقتها وبشاشتها، تحنو على صغارها، تقبّل هذا، وتمسح على هذا، وتداعب هذا، ثم لم يلبث الحال حتى زال ذلك الحنان، وغاب ذلك الإنسان، فذهبت الشفقة، وأعقبتها الحسرة. وصغير يملأ البيت صياحًا ولعبًا، يكسر إناءً ويحمل آخر، فإذا بشخصه يصبح خيالاً بعد قبض روحه، ويخيّم على الدار صمت رهيب. فلا إله إلا الله، ما أجلّ حكمته، وما أعظم تدبيره.
من يأمن على نفسه يا عباد الله؟! فلقد مات آدم صفيّ الله وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله، بل مات محمد رسول الله وأحبّ خلق الله إلى الله، وما في السماء والأرض وما بينهما مخلوق أفضل ولا أكرم على الله منه.
ولو كانت الدنيا تدومُ لأهلها لكانَ رسولُ الله حيًّا مُخلّدًا
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].
وإذا كان الموت مصير كل حي ونهاية كل شيء ألا فليتعظ العاقل، ولينزجر الغافل، فالموت أمر لا مفر منه، وكلنا إلى الله راجع.
وما المالُ والأهلونَ إلا ودائع ولا بدّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ
فاليوم تُعَزَّى، وغدًا يُعَزَّى فيك، واليوم تَبكي، وغدًا يُبكى عليك.
وإذا حَمَلْتَ إلى القبورِ جنازةً فاعلم بأنّك بعدها مَحْمُولُ
عباد الله، ولما كان الموت يأتي بغتة ولا يدري المرء متى يفجؤه أجله وجب عليه أن يستعد لذلك بالعمل الصالح وسؤال الله حسن الختام، فإن المرء يُبعث على ما مات عليه، والأعمال بالخواتيم، من مات وهو ساجد بُعِث وهو ساجد، ومن مات محرمًا مُلبّيًا بُعِث يوم القيامة كذلك، ومن مات شهيدًا بُعِث يوم القيامة وجرحه يَثْعُبُ؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ليعلم الناس أنه شهيد، ومن مات وهو يقارف المعصية ـ يسمع الغناء أو يحلق لحيته أو يدخن أو بين أحضان البغايا ـ بُعِث يوم القيامة كذلك. فانظر لنفسك ماذا أنت تختار.
اللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
كل إنسان يبحث عن الخاتمة الحسنة، فهي من علامات رضا الله عنه ورحمته به، ولحسن الخاتمة علامات استقرأها أهل العلم من النصوص، من ذلك:
أن يكون آخر كلام العبد من الدنيا "لا إله إلا الله"، فقد روى الحاكم عن معاذ أن النبي قال: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)).
ومن ذلك أن يموت الإنسان على عمل صالح، عن أنس قال: قال النبي : ((إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله)) ، قيل: كيف يستعمله؟ قال: ((يوفّقه لعمل صالح قبل الموت، ثم يقبضه عليه)).
ومن ذلك الشهادة في سبيل الله وما في حكمها كالهدم والحرق والغرق والمرأة في نفاسها، ومن سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، ثبت بذلك الخبر في صحيح مسلم عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ومن علامات حسن الختام الموت يوم الجمعة أو ليلته، ففي الحديث: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) رواه الإمام أحمد.
ومن ذلك الموت برَشْحَ الجبين، فعن بريدة بن الحصيب أنه كان بخراسان فعاد أخًا له وهو مريض، فوجده بالموت وإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر! سمعت رسول الله يقول: ((موت المؤمن بعرق الجبين)) رواه الإمام أحمد والترمذي. قال ابن العربي: "معناه: أن المؤمن الذي يهون عليه الموت لا يجد من شدته إلا بقدر ما يفيض جبينه ويتفصّد، وقال غيره: لأنه إذا جاءته البشرى مع قبيح ما جاء به من الذنوب خجل واستحيا فعرق جبينه".
اللهم هوّن علينا سكرات الموت، اللهم إنا نسألك حسن الختام والفوز بالجنة دار السلام.
عباد الله، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله)) ، وقد صامه النبي وأمر بصيامه، كما هو عند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على هذه السنة، وتذكروا بها تأييد الله لأوليائه ونصره لهم على عدوه وعدوهم، فهي ذكرى إنجاء الله لموسى وإهلاكه لفرعون...
(1/4439)
الاحتضار وفتنة القبر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, الولاء والبراء
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
14/1/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالغيب من أشرف صفات المتقين. 2- صفة احتضار المؤمن والكافر. 3- شدة سكرات الموت. 4- حرص الشيطان على إغواء المحتضر.5- صفة خروج روح المؤمن والكافر. 6- فتنة البرزخ وأهواله.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الإيمان بالغيب والتصديق والتسليم بما ورد في شأنه من نصوص الوحيين من أشرف صفات المتقين، بل هو أشرفها، وهو من علامات فلاحهم وهداية الله لهم، الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:1-5].
ومن الغيب الذي يجب على من أراد النجاة الإيمان به ما أخبر الله عنه في كتابه وأخبر عنه رسوله من المشاهد التي تحدث عند حضور أجل الإنسان، ثم ما يحدث حين يوضع في قبره، حيث يحدث في تلك الحفرة الصغيرة من الأحداث الجسيمة ما يحدث، وبعد ذلك اليوم العظيم يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].
وقبل أن نشرع ـ عباد الله ـ فيما نريد الحديث عنه ينبغي لنا أن نتنبه إلى أمرين:
الأمر الأول: أن نؤمن بكل ما جاءت به تلك النصوص من الكتاب والسنة من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها للخوض أو الجدال، بل نؤمن إيمانًا صادقًا ونسلّم تسليمًا كاملاً بكل ذلك كما ورد في الكتاب والسنة.
والأمر الثاني: أن توافق فعالنا أقوالنا، وأن نعمل ونجتهد في العمل تصديقًا لإيماننا بذلك، فإن من آمن بشيء عمل على وفقه، ومن آمن بالجنة والنار ولم يعمل للفوز بالجنة والنجاة من النار فما آمن حق الإيمان.
عباد الله، إذا حان الأجل وشارفت حياة الإنسان على المغيب أرسل الله رسل الموت لسَلِّ الروح المُدَبِّرة للجسد والمحرِّكة له، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]. فأما المؤمن فتأتيه الملائكة بصورة حسنة، وأما الكافر فتأتيه في صورة قبيحة، ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما الطويل في قصة المُحْتضِر وفتنة القبر يقول النبي : ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ بصره، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة ـ وفي رواية: المطمئنة ـ اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)) وذكر الحديث. ثم ذكر الكافر فقال: ((وإن العبد الكافر ـ وفي رواية: الفاجر ـ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سُود الوجوه، معهم المَسُوح من النار ـ والمَسُوح: جمع مِسْح، وهو ما يُلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفًا وقهرًا للبدن ـ فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب)) إلى آخر الحديث.
وهذه الحال من البشارة للمؤمن والتقريع والتوبيخ للكافر جاء ما يصدّقها في كتاب الله، فقد قال الله عن المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] الآيات، وقد ذكر طائفة من المفسرين أن هذا يكون حال الاحتضار؛ لأن المرء يكون في موقف صعب لا يدري عن ما يستقبله شيئًا، فتجيء هذه البشارة فيطمئن المؤمن، ويحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، وأما الكافر فقد قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، وفي الآية الأخرى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37]. ولمثل هذا التقريع والتوبيخ يكره هذا لقاء الله فيكره الله لقاءه، روى البخاري عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت! قال: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه)).
عباد الله، وللموت سكرات وكُرَب شِدَاد أقضّت مضاجع الصالحين، وأرّقت جفون المتقين، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، ولو نجا من سكرة الموت أحد لنجا منها أحب خلق الله إلى الله رسول الله ، تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله. ودخل ابن مسعود على رسول الله وهو يُوعَك فقال: بأبي أنت وأمي، ما أشد ما تجد من الوجع! قال: ((إني أُوعَك كما يُوعَك رجلان منكم)) ، قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين؟ قال: ((أجل)). وقد كان يتغشّاه الكرب صلوات الله وسلامه عليه فيُغشَى عليه ثم يفيق أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يضع يده الشريفة في رَكْوَة فيها ماء بارد فيمسح بها وجهه الطاهر ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)).
وقد يحدِّث بعضُ الناس بما يجد من الكُرَب، وممن حدّث بهذا عمرو بن العاص ، فإنه لما حضرته الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه، إنك لتقول: يا ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تَخْت، وكأني أتنفّس من سَمِّ إبرة، وكأنّ غصن شوك يُجذَب من قدمي إلى هامتي.
وما حرص الشيطان على إغواء إنسان حرصه عليه في سكرة الموت، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لما في الصحيح: ((الأعمال بالخواتيم)) ، وقوله : ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) ، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا.
وأما صفة خروج الروح ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما الطويل المتقدّم ذكر شيء منه، حين يقول ملك الموت للمؤمن ما يقول، يقول النبي : ((فتخرج روحه ـ يعني المؤمن ـ تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقاء، فيأخذها ـ وفي رواية: ـ حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفُتِحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعرَج بروحه من قِبلهم، فإذا أخذها ملك الموت لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحَنُوط، فذلك قول الله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، ويخرج منها كأطيب نَفْحَة مسك وُجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيُفتح لهم، فيُشيّعه من كل سماء مُقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى)) وذكر بقية الحديث.
وأما الكافر فحين يقول له ملك الموت ما يقول، قال : ((فتفَرّق روحه في جسده، فينتزعها كما يُنتَزَع السُّفُّود الكثير الشُّعَب من الصوف المبلول، فتُقطّع معها العروق والعَصَب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طَرْفة عين حتى يجعلوها في تلك المَسُوح، ويخرج منها كأَنْتَن ريح جِيفة وُجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له فلا يفتح له)) ، ثم قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سِجِّين، في الأرض السُّفْلَى، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنا أخرجهم تارة أخرى)).
اللهم هَوّن علينا سكرات الموت، وأحسن خاتمتنا، واجعل آخر كلامنا "لا إله إلا الله".
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد أن تخرج روح الإنسان تأتي مرحلة البرزخ، وهي حياة القبر، وفيه فتنة عظيمة. وهذه المرحلة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، يقول الله سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وهذا في فتنة القبر كما في بقية حديث البراء بن عازب المتقدم، وسيأتي ذكره. وأما السنة ففيها حديث البراء وحديث أسماء في الصحيحين: ((إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال)) ، ومن المعلوم أن فتنة الدجال أعظم فتنة، فقد روى مسلم عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال)). وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك لوروده في الكتاب والسنة. وليس المراد بالقبر تلك الحفرة الصغيرة فحسب، بل هي شاملة لحياة البرزخ إلى قيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو احترق وذَرَته الرياح.
وأما فتنة القبر ففي حديث البراء أن الميت المؤمن إذا أُمِر بروحه أن تُعاد إلى جسده ودُفِن قال النبي : ((إنه ليسمع قَرْع نِعَال أصحابه إذا ولّوا عنه مُدبِرين، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فيَنْتَهِرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم:27]، فينادي منادٍ في السماء: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويُفسَح له في قبره مَدَّ بصره، ويأتيه رجل حَسَن الوجه حَسَن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرّك، أبشر برضوان الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرّك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا سريعًا في طاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا، ثم يُفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: ربّ عَجِّل قيام الساعة؛ كيما أرجع إلى أهلي ومالي. وأما الكافر فتُطْرَح روحه من السماء طَرْحًا فتقع في جسده)) ، ثم قرأ رسول الله : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، ((فتُعاد روحه في جسده، فإنه ليسمع خَفْقَ نِعَال أصحابه إذا ولّوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فيَنْتَهِرَانه ويُجْلِسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال: لا دريت ولا تلوت، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويُضيّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب مُنْتِن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت بشرّك الله بالشر، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصية الله، فجزاك الله شرًا، ثم يُقَيَّضُ له أعمى أصم أبكم في يده مِرْزَبَّة لو ضُرِب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربة حتى يصير ترابًا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يُفتَح له باب من النار، ويُمهّد من فُرُش النار فيقول: ربّ لا تُقِمِ الساعة)). وهذا الحديث موجود بطوله مفرّقًا في كتب السنة.
ويبقى المؤمن في نعيمه والكافر في جحيمه حتى تقوم الساعة.
وأما بداية فتنة القبر فتبدأ من حين يُدفن، فهو يسمع قَرْعَ نِعَال أصحابه وهو يُسأل، ولذلك كان من هدي النبي إذا دُفِن الميت وَقَف عليه وقال: ((استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)).
ختامًا عباد الله، عَوْدًا على بدء نقول: إن الواجب علينا تجاه هذه النصوص وأمثالها مما ورد في شأن الغيبيات أن نؤمن بها، ونسلّم لها، ونستعد لما جاء ذكره فيها.
نسأل الله أن يرزقنا الثبات على دينه إلى أن نلقاه...
(1/4440)
أهوال القيامة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
21/1/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الإيمان باليوم الآخر. 2- بداية فناء العالم. 3- صفة البعث والمحشر. 4- أهوال موقف الحشر. 5- الحساب والميزان. 6- الحوض المورود. 7- صفة الصراط وهوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الإيمان باليوم الآخر من فرائض الدين وأسسه، بل هو ركن من أركان الإيمان العظيمة. وكثيرًا ما يَقْرِن الله تعالى بين الإيمان به سبحانه وبين الإيمان باليوم الآخر؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لا يمكن أن يؤمن بالله، إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة ويخافه من العقوبة، فإن من لا يؤمن به صار كمن حكى الله عنهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24].
وهذا اليوم ـ عباد الله ـ يوم عظيم وخَطْب جَسِيم، مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى من قامت عليهم الساعة؛ ليفصل بينهم ويجازيهم.
عباد الله، إن هذا الكون يجري بهذه الكائنات ويعجّ بها، فهو في حركة دائبة منتظمة، وسيبقى كذلك حتى يأمر الله بالفناء، حين يأمر جل وعلا إسرافيل عليه السلام بالنفخ في الصور وهو الملك المُوَكَّل به، فينفخ عليه السلام فيصعق الناس ويموتون، وتنتهي الحياة، بل تنتهي الدنيا كلها، وتبدأ الآخرة. وإسرافيل عليه السلام مستعد منذ وُكِّل بالصور، ينتظر الأمر الرباني لينفّذ، روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مُستعِد، ينظر نحو العرش مخافة أن يُؤمر قبل أن يرتدّ إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دُرِّيان)) وصححه الألباني، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((كيف أنعم وقد الْتَقَم صاحب القَرْنِ القَرْنَ ـ والقَرْنُ هو الصور ـ ، وحَنَى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ)) ، قال المسلمون: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا)) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني.
وإذا صُعِق الناس بَلوا وفَنوا، وكل إنسان فإنه يفنى ولا يبقى منه إلا عَجْب الذَّنَب، وهو العظم الصلب المستدير الذي في أصل العَجُز وأصل الذَّنَب، إلا الأنبياء؛ فقد حرّم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، فأجسادهم في قبورهم كما هي حتى يبعثوا. ثم يرسل الله مطرًا فينبت الناس من عَجْب الذَّنَب كما ينبت البَقْل، حتى إذا نُفِخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث فإذا هم قيام ينظرون.
وأول من يبعث رسولنا ، وهو أول من تنشق عنه الأرض، في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطِش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق فأفاق، أو كان ممن استثنى الله عز وجل)). ثم يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة عراة غُرْلاً أي: غير مختونين، فيحشرون على أرض غير هذه الأرض: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وينسف الله الجبال نسفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106، 107]. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عَفْرَاء كقُرْصَة النَّقِي)) ، يعني الدقيق النقي من الغش والنخال، قال سهل أو غيره: ليس فيها مَعْلَم لأحد.
ويجتمع الناس على صعيد واحد في ذلك الموقف العظيم، فيغشاهم من الكرب ما يغشاهم، ويصيبهم الرعب والفزع، يشيب الولدان وتَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2]، وتشخص الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، وتدنو الشمس من الخلائق مقدار مِيل؛ وأيًّا كان الميل ـ ميل المِكْحَلة أو المسافة المعروفة ـ فهي قريبة، ويبلغ العرقُ منهم مبالغ متفاوتة بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، أي: يصل إلى موضع اللِّجَام في الفرس وهو الفم، وتبقى طائفة في ظل ظليل، في ظل الله عز وجل يتنعمون، منهم السبعة الذين أخبر النبي في الحديث الصحيح عن أبي هريرة.
ويسعى الناس إلى آدم وأولي العزم من الأنبياء: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد؛ ليشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل بينهم، كلما كلموا نبيًا اعتذر وأحالهم إلى من بعده، حتى يأتوا أفضل الخلق وسيد النبيين والمرسلين محمدًا فيكلمونه فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب فيسجد تحت العرش فيَشْفَع فيُشَفَّع.
وتنزل ملائكة السماء الدنيا فيحيطون بالناس، ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم حتى السابعة، ثم يجيء الله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته على عرشه يحمله ثمانية من الملائكة ليفصل بين العباد.
ويُنصب الميزان فتوزن به أعمال العباد، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102، 103].
وتُنشر دواوين الخلق وهي صحائف الأعمال التي كتبها الملائكة الحافظون، فيُعطَى كل إنسان كتابه مفتوحًا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]. فأما المؤمن فيأخذ كتابه بيمينه ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19، 20]، يعني تيقنت الحساب وعملت له. وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره إذلالاً وتقريعًا ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].
ويحاسب الله الخلائق من الإنس والجن إلا من استثني، مثل السبعين ألفًا الذين أخبر النبي عنهم أنهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يَسْتَرْقُون ولا يكتوون ولا يتطيّرون وعلى ربهم يتوكلون.
ويخلو الله بعبده المؤمن، ويضع عليه سِتره فلا يسمعه أحد، ولا يراه أحد، ويقرّره بذنوبه: عملت كذا، وعملت كذا، فيقرّ ويعترف، ثم يقول الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. وأما الكفار فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. ويختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:21-23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
وفي عَرَصَات القيامة الحوض المورود لنبينا ، ولكل نبي حوض، وحوض نبينا أعظمها وأفضلها، طوله شهر وعرضه شهر، يصب فيه مِيزَابان من نهر الكوثر في الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، آنيته كنجوم السماء عددًا ووصفًا ولمعانًا، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا. وأما واردوه فالمؤمنون بالله ورسوله المتبعون لشريعته، وأما الذين استنكفوا واستكبروا عن اتباعه فإنهم مطرودون عنه.
ويُنصب الصراط على مَتْن جهنم، وهو جسر دَحضٌ مَزلَّة، أدق من الشعر وأحدّ من السيف، عليه كَلالِيب تخطف الناس، يمر الناس عليه إلا الكفار؛ لأنهم قد أُمر بهم إلى جهنم وسيقوا إليها. ويُعطى المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ويُطفأ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: انظرونا نَقْتَبس من نوركم، فيقال: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا، ويُضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه جهة المؤمنين فيه الرحمة والجنة، وظاهره جهة المنافقين من قِبله العذاب والنار.
ويكون مرور الناس على الصراط على قدر أعمالهم ومسارعتهم إلى طاعة الله في الدنيا، فمنهم من يمر كلَمْح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالفرس الجواد، ثم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ثم من يمشي، ثم من يزحف، ومنهم من تخطفه الكَلالِيب فتلقيه في النار كعصاة الموحّدين الذين قضى الله عليهم أن يُعذّبوا قبل أن يخرجوا إلى الجنة. وهذا المرور على الصراط هو الورود الذي في قول الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]. فورورد الكفار هو دخول النار، وأما ورود المؤمنين فهو المرور على الصراط فوق النار حتى يصيروا إلى الجنة.
(1/4441)
الجنة والنار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
28/1/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة أهل السنة في الجنة والنار. 2- طريق دخول الجنة والنار.3- أبواب الجنة. 4- وصف نعيم الجنة. 5- وصف عذاب النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله الجنة والنار، وجعل الأولى نُزلاً وكرامة لمن أطاعه واتقاه، وجعل الثانية مصيرًا ومستقرًا لمن خالف أمره وعصاه، فالعباد سائرون مذ خلقهم إلى هاتين الدارين، فمن أكرمه الله ورحمه دخل الجنة، ومن عامله بعدله دخل النار، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار داران حقيقيتان، وأنهما مخلوقتان الآن، وهما أبديتان لا تفنيان.
وأما كيف يصير أهلهما إليها؛ فأما الجنة فحين يجوز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بينهم؛ ليذهب الغِلّ والحقد الذي في قلوبهم، ويكون هذا بمثابة التطهير والتنقية لهم؛ ليدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غِلّ، كما قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43].
ثم يأتي أهل الجنة الجنة، وأولهم دخولاً لها خليل الله وكليمه وصفيه محمد ، يأتي فيقرع باب الجنة فيستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك. ثبت بذلك الخبر في صحيح مسلم عن أنس. ثم يدخل بعده أمته، فهي آخر الأمم في الدنيا وأولهم دخولاً الجنة، قال : ((نحن الآخِرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)) رواه مسلم.
وللجنة ـ عباد الله ـ ثمانية أبواب، ما بين المِصْرَاعَين من مَصَارِيع هذه الأبواب كما بين مكة وهَجَر أو مكة وبُصْرَى، فمن أنفق زوجين في سبيل الله من ماله دُعِي من أبواب الجنة، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعِي من باب الريّان، وقد يُدعَى الإنسان في جميع الأبواب، مثل أبي بكر الصديق.
وأما النعيم داخل الجنة فحسبك أن الله تعالى قال في الحديث القدسي في الصحيحين: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ، ثم قرأ النبي : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. ويكفيك أن أدنى أهل الجنة منزلة يقول الله له: ((أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول الله: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال الخامسة: رضيت رب، فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك)) رواه مسلم في صحيحه.
ونذكر في هذا المقام طرفًا يسيرًا من ذلك النعيم، وقد استفاضت النصوص بذكر شيء من تفاصيله.
فمن ذلك النعيم ـ نسأل الله عيشه ـ أن بناء الجنة لَبِنة من ذهب ولَبِنة من فضة، مِلاطُها المِسْك، وحَصْبَاؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزَّعْفَرَان، فيها غرف يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة طولها ستون ميلاً، وفي الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضَمَّر في ظلها مائة عام لا يقطعها، يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وفي الجنة جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان، وليست الفواكه والنخل والرمان كهيئتها في الدنيا، وإنما الاسم هو الاسم، والمُسمّى غير المُسمّى، قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، إن قام تناولها بسهولة، وإن قعد تناولها بسهولة، وإن اضطجع تناولها بسهولة، كلما قطع منها شيئًا خلفه آخر، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابهًا في اللون والهيئة مختلفًا في الطعم، ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا، يدعون فيها بكل فاكهة، آمنين من الموت، آمنين من الهرم، آمنين من المرض، آمنين من كل خوف ومن كل نقص في نعيمهم أو زوال، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مَجْذُوذ.
فيها أنهار من ماء غير آسِن، أي: لم يتغير ولا يتغير أبدًا، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا فساد، وأنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدع الرؤوس ولا يزيل العقول، وأنهار من عسل مُصَفَّى، تجري هذه الأنهار من غير حفر ولا إقامة أخدود، يصرفونها كما يشاؤون.
يطوف عليهم ولدان مخلدون، إذا رأيتهم حسبتهم في جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم لؤلؤًا منثورًا، يطوفون عليهم بكأس من مَعِين بَيضاء لذة للشاربين، بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدّروها تقديرًا، يُعطَى الواحد منهم قوة مائة في الطعام والشراب؛ ليأكلوا من جميع ما طاب لهم، ويشربوا من كل ما لذ لهم، ويطول نعيمهم بذلك، ثم يخرج طعامهم وشرابهم جُشَاءً ورَشْحًا من جلودهم كريح المسك، فلا بول ولا غائط ولا مخاط.
لهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والبول وكل أذى وقذر، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون، سلام قولاً من رب رحيم، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهن أبكارًا، كلما جامعها زوجها عادت بكرًا، وجعلهن عُرُبًا أترابًا، والعَرُوب هي المرأة المتودّدة إلى زوجها، أترابًا على سِن واحد.
فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، لا يبغون عنها حولاً ولا هم منها مخرجون، ينادي مناد: أن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وأن تشبّوا فلا تهرموا أبدًا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، ويحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا.
وفوق ذلك كله ما يحصل لهم من النعيم برؤية ربهم البر الرحيم، الذي منّ عليهم حتى أوصلهم بفضله إلى دار السلام والنعيم، فإنهم يرونه عيانًا بأبصارهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] وفي الصحيحين: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، لا تُضَامُون في رؤيته)).
اللهم إنا نسألك نعيم الجنة الذي لا ينفد، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما أهل النار فإنهم يُساقون زُمَرًا إليها وِرْدًا، فإذا جاؤوها فُتِحت أبوابها السبعة، ثم أُدخلوا فيها، ثم أُطبقِت عليهم، فهي عليهم مُؤْصَدَة في عَمَدٍ مُمَدَّدة، أُوقِد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، أجارنا الله وإياكم منها.
وأما جحيمها وعذابها فهي دار الذل والهوان والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزَّفَرات والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء والندامة والبكاء، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يُجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يُكلّمون، وعلى وجوههم فيها يُسْحَبون، وتوضع الأغلال في أعناقهم، ويُجمع بعضهم إلى بعض نكاية لهم وزيادة في العذاب، وطعامهم الزقّوم، كالمُهْل يغلي في البطون كغلي الحميم، ويلبسون ثيابًا من نار، وإن اشتهوا الماء فإنهم يُسقون من ماء صَدِيد، يتجرّعونه ولا يكادون يُسِيغونه، ويُسقون ماءً حميمًا فيُقطّع أمعاءهم. وتحيط بهم النار من كل مكان، لهم من فوقهم ظُلَل من النار ومن تحتهم ظُلَل. وإن أهون أهل النار عذابًا ـ كما في الصحيحين ـ من له نَعْلان وشِرَاكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المِرْجَل، ما يرى أن أحدًا أشد عذابًا منه، وإنه لأهونهم عذابًا.
فيا عبد الله، تلك صفة أهل الجنة، وهذه صفة النار، فماذا ستختار؟! إن من أراد الجنة جعل نعيمها نصب عينيه، فإذا أراد عملاً نظر؛ إن كان يُدنيه من ذلك النعيم ويزيده منه أقبل وأقدم، وإن كان يباعده منها أو يحرمه نَأى وأبعد. ومن خاف النار جعلها نصب عينيه، فإذا أقبل على عمل تفكّر؛ فإن كان يوجب له شيئًا من عذابها نأى بنفسه ونجا، وإن كان يوجب له النجاة منها بادر وسارع.
أيها المسلمون، بهذا انتهت هذه السلسلة، وإنا لنختمها بالتأكيد على ما ابتدأناها به: أن نؤمن بكل تلك الغيبيات كما وردت، ونصدّق بها ونسلّم، ثم نصدِّق الأقوال بالفِعَال، فنستعدُ ونعمل.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل...
(1/4442)
مقتل الشيخ أحمد ياسين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
القتال والجهاد, المسلمون في العالم, تراجم, جرائم وحوادث
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
5/2/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما أجمل أن ينال الإنسان ما تمنى. 2- الفرق بين موت الأبطال وموت الجبناء. 3- كان الشيخ مشروع شهادة. 4- دروس من حياة الشيخ واستشهاده. 5- جرائم اليهود عبر التاريخ. 6- أمريكا ورعاية الإرهاب اليهودي. 7- دور الإعلام العالمي في تشويه الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما أجمل أن ينال الإنسان ما تمنى، يبقى دهرًا طويلاً ـ ربما سنوات ـ يسعى لتحقيق مأربه وتحصيل هدفه فيصل مبتغاه ويربح مسعاه.
وتلك كانت حال شيخ المجاهدين في فلسطين الشيخ أحمد ياسين، لقد نال الأمنية التي تمناها، ووصل غاية الطريق التي سار فيها، ونال الموت شهادة أشهى ما يكون الموت، وحاله في هذه الشهادة أشبه شيء بحال عمر بن الخطاب الذي دعا في شهر وفاته الذي طُعِن فيه: (اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي، فارزقني شهادة في سبيلك، واجعلها في بلد نبيك)، فنالها عمر كما تمناها. وهكذا الشيخ أحمد ياسين رُزِق الشهادة على كبر سنه وضعف قوته، وبجوار الأرض المقدسة التي باركها الله. لقي الله وهو في ذمته، ((فمن صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)) ، وخرج من المسجد كالمغتسل من النهر الجاري، فهل يبقى من دَرَنه شيء؟! وفاضت روحه، ورفعت شهادته، وتم جهاده في يوم الاثنين الذي تُعرَض فيه الأعمال على الله.
إن كل الناس يموتون، لكن فرق بين موت الأبطال وموت الجبناء، وفضل الله يؤتيه من يشاء. لقد مات الشيخ المجاهدُ أحمد ياسين عظيمًا مثلما عاش كبيرًا، ولم يكن هيّابًا للموت، بل كان الموت وكانت الشهادة أغلى أمانيه.
مات البطل المجاهد ثابتًا على المبدأ الحق، صامدًا في وجه المخطط الصهيوني، مبتهجًا بكتائب الجهاد التي سقى شجرتها، وهي اليوم توقع الخسائر وتلقي الرعب داخل الأراضي المحتلة بالصهاينة المحتلين. ونزف دمه الطاهر على الأرض، لكنه مع ذلك حُقَنٌ في أوردة الملايين من المسلمين؛ ليظل نهرًا دَفّاقًا يدعوهم للجهاد والاستشهاد.
لقد كان الفارسُ الأعزل (مشروع شهادة)، وهو القائل في آخر لقاء معه: "نحن طلاب شهادة"، وكان رمزًا للصمود والشجاعة، وهو القائل: "التهديدات لا تهمنا"، وكان عاليَ الهمة، تجاوز حطام الدنيا وحقارتها، وصوّب همّه نحو الآخرة ونعيمها، ونرجو أن يكون الله قد حقق له ما تمنى.
لقد ساهم اليهود من حيث يشعرون أو لا يشعرون بدخول الشيخ أحمد ياسين التاريخ من أوسع أبوابه، والظنُّ، بل الأمل والرجاء أنّ قتل الشيخ ياسين ـ وبهذه الطريقة البَشِعة ـ سيبعث الحماس في قلوب طالما غفلت وتناست هذه القضية المهمة من قضايا فلسطين. وكذلك تشرق الأمة حين تحترق، وتتفجّر طاقاتها حين تُذل وتقهر، ودماء الشهداء ماءٌ لحياة الأمة وصحوتها. ومن أخافهم شيخ مُقْعد كيف يواجهون توالد النمور الساخطة تخرج من بطون المسلمات؟!
إن استشهاد الشيخ يمثل مرحلة أخرى في مسيرة جهاده، ويؤثر ذات الأثر الذي كان الشيخ يؤثره في حياته. إن الشيخ الذي قضى عمره وهو يبني في النفوس عزيمة المواجهة للعدو وقوة الصبر على المدافعة قد أعلى بناءه ذلك بروعة استشهاده.
إن شهادة الشيخ درس تربوي عميق يبين أن القوة الحقيقية في الإرادة والعزيمة والتصميم، وأن معاقًا مشلول الأطراف جعل دولة يهود تقف وجاهه، وتدخل معه معركة منازلة بالنذالة التي تليق برجس يهود. إن هذا المريض الذي لا يستطيع تحريك أطرافه استطاع تحريك شعب بأكمله وكشف الهدف الحقيقي للمواجهة، وجعل أبناء فلسطين يدخلون الجهاد من طريقه الصحيح.
لقد أعطى الشيخ درسًا في آخر لحظات حياته أن أصحاب العزائم القوية والمواجهة المتواصلة هم أصحاب الأيدي المتوضّئة والقلوب المؤمنة، وأن هؤلاء هم الذين يتذوقون لذة الجهاد، وبهجة التوق إلى الشهادة واسترواح نعيم الجنة. إن الشيخ رُزِق الشهادة عائدًا من صلاة الفجر في المسجد، فإذا كان الشوق إلى صلاة الجماعة يُخرِج شيخًا مريضًا معاقًا مستهدفًا في غَلَس الفجر ليكون وداعه للحياة بعدها، فأي دلالة يسكبها ذلك في نفوس الشباب؟! وأي معان نورانية يضيئها في جوانحهم؟! إن الذين يجيبون "حي على الجهاد" هم الذين يجيبون "حي على الصلاة".
يا أحمدَ الياسينَ إن ودّعتنا فلقد تركتَ الصدقَ والإيمانا
يا فارسَ الكرسي وجهك لم يكن إلا ربيعا بالْهدى مُزْدَانا
فِي شعر لِحيتك الكريْمة صورة للفجر حين يبشّر الأكوانا
قدّمت فِي الدنيا الْمُهُور وربما بشموخ صبرك قد عقدتَ قِرَانا
دمك الزكي هو الينابيع التي تسقي الجذور وتنعش الأغصانا
رَوّيت بستان الإباء بدَفْقِه ما أجملَ الأنهارَ والبستانا
ستظل نجمًا في سماء جهادنا يا مُقعدًا جعل العدو جبانا
أيها المسلمون، لم يكن قتل الشيخ بصواريخ اليهود أمرًا عجبًا، فهم قتلة الأنبياء، فكيف لا يقتلون الأولياء؟! لقد توفرت في اليهود مجموعة من الرذائل الأخلاقية والمفاسد السلوكية بصورة عجيبة لا يمكن أن توجد في أمة سواهم، والعجيب أن هذا الفساد والسوء لا يتمثل في جيل يهودي واحد، ولا في مجموعة يهودية معينة، ولكنها تحققت في الإنسان اليهودي أينما كان إن صحت تسميته بالإنسان؛ لأن الإنسان مشتق من الأُنس، ولا أُنس في يهودي.
وإن تلك المفاسد الأخلاقية التي تطبّعوا بها منذ قديم الزمان أصبحت جِينات وراثية تتناقلها أجيال يهود في كل زمان ومكان، بل إذا أردت أن تعرف اليهودي على حقيقته فاستحضر في ذهنك طائفة من الأخلاق الذميمة، وهي بمجموعها تمثل الشخص اليهودي قائمًا أمام عينيك.
عباد الله، إن الحزن يعتصر القلوب ويقطعها بمقتل الشيخ، وإننا والله لا نحزن لأنه قُتِل، فهو إنما قُتل في سبيل الله، وهي الميتة التي سعى إليها منذ سلك درب العزة والكرامة درب الجهاد، ولكننا نحزن لأن الأمة فقدته حيث كان طَوْدًا من أطوادها الشامخة، ومرجعًا رئيسًا للمجاهدين في الأرض المباركة.
نسأل الله أن يكتبه في عداد الشهداء، وأن يخلف على أمة الإسلام خيرًا منه.
بارك الله لي لكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد كانت الصواريخ التي قتلت الشيخ منبعثة من طائرات الأباتشي الأمريكية، وهي الدولة التي كانت ولا تزال تؤزّ الصهاينة في فلسطين أَزًّا، وتحمي حماهم، وتتولى كِبْر الدفاع عنهم في المحافل الدولية. وانظروا إلى تواطئها في هذه الجريمة مع حلفائها الصهاينة من خلال موقفها المخزي ـ وما أكثر مواقفها التي كذلك ـ، حيث لم تزد على الدعوة إلى ضبط النفس، بل تحدث بعضهم بأن هذا دفاع مشروع عن النفس، ثم تُتوّج هذه المؤامرة بالوقوف في وجه أي إدانة دولية من خلال الفيتو، وهي راعية السلام بزعمها. فهل جفّت دماء الشيخ أو ووري الثرى حينها حينما دعوا إلى ضبط النفس؟! ثم أي الفريقين المدافع وأيهم الغازي؟!
لقد زال القناع الذي كان يتخفى وراءه أدعياء السلام، وتجلى وجههم القبيح أمام كل من كان مُغترًّا بدعاياتهم البرّاقة الزائفة. فهل يرجو المسلمون من وراء هؤلاء خيرًا؟! وهل لا تزال أمة الإسلام قانعة بحل السلام، وهو والله استسلام؟!
إن هذه القضية بالذات من قضايا المسلمين أثبتت من خلال طول مأساتها أن الحل الوحيد هو القضاء على هذه الشرذمة الحقيرة، فالسيف ـ ولا دواء غير السيف ـ يقضي على هذا الوباء الخطير، ويطهر البلاد، بل يطهر الأرض كلها من نَتَنِه وعفنه.
وأخيرًا أيها المسلمون، إن على أمة الإسلام أن تفيق من رَقْدتها وسُباتها، فلا تنخدع بالبَهْرَجة الإعلامية التي يتفنّن فيها اليهود وأذنابهم من أرباب الإعلام العالمي، فإن هؤلاء الأوغاد يزيّفون الحقائق، ويلبّسون على العالم، فيعظّمون التوافه ويتفّهون العظائم، ويبطلون الحق ويحقون الباطل، ويجرّمون البريء ويبرّئون المجرم. وكل ذلك يريدون القضاء على الإسلام ومحاربته وتشويه صورته أمام العالمين، وليس لهم هدف سوى هذا، وإلا فبالله عليكم، لماذا يعتبرون اليهودي مؤمنًا بدينه ويمارس طقوسه الدينية بكامل الحرية إذا أطلق لحيته، وإذا أطلق المسلم لحيته عدّوه متطرفًا إرهابيًا؟! ولماذا الراهبة حين ترتدي ملابس تغطيها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها تعتبر مؤمنة قد وهبت نفسها لخدمة الرب، وإذا لبست المسلمة نفس الحجاب صارت رجعية متخلفة؟! ولماذا إذا تفرغت المرأة عندهم لبيتها ورعاية أطفالها تعتبر امرأة عظيمة قد ضحّت بمستقبلها من أجل أسرتها، وإذا فعلت المرأة المسلمة ذلك كما أمرها ربها طالبوا بتحريرها من التخلف؟! ولماذا حين تذهب أي فتاة متحررة إلى الجامعة تستطيع أن تلبس ما تشاء من الملابس المحتشمة أو العارية، وإذا لبست المسلمة التي تذهب إلى الجامعة الحجاب منعت من الدخول بحجة مخالفة المظهر الحضاري للحرم الجامعي؟! ولماذا إذا أجرم أحدهم لا يتم ذكر دينه ولا يسمى، وإذا اتهموا مسلمًا بجريمة جرّموا دينه معه، ووضعوهما معًا في قفص الاتهام؟!
أسأل الله أن يعز دينه، ويعلي كلمته، وينصر أولياءه...
(1/4443)
وقفات مع تفجير مبنى الأمن العام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, محاسن الشريعة
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
4/3/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الإسلام للضروريات الخمس. 2- استنكار تفجير مبنى الأمن العام. 3- حرمة دم المسلم. 4- بيان حال مرتكبي هذه الجريمة. 6- وجوب طاعة ولي الأمر. 7- وجوب الإيمان بالقضاء والقدر. 8- رسالة إلى رجل الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد جاء هذا الدين العظيم الكامل شاملاً لجميع ما يُصلِح حال المرء في دينه ودنياه وآخرته، وصالحًا لكل زمان ومكان، ذلك أنه بُني على أصول وقواعد تقتضيها الفِطَر السليمة وترتضيها العقول الصحيحة.
ومن تلك القواعد القاعدة العريضة العظيمة؛ وهي حفظ الضروريات التي بها قوام حياة الإنسان ولا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتَهَارُج وفَوْت حياة، وفي الأخرى فَوْتُ النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، وهذه الضروريات مرتبة حسب الأولوية والأهمية، هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال.
ومن كمال هذا الدين وعظمته أنه جاء بالخير والسلام للعالمين، وجاء بحفظ الحقوق للناس وتحريم سفك دمائهم بغير حق أو الاعتداء عليهم بأي شكل من أشكال الاعتداء؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
وإن ما حدث من التفجير الذي أفجع الناس يوم الأربعاء الماضي عمل إجرامي خطير وكبير لا يرضاه الله ورسوله، ولا يقره دين الإسلام، ولا يقبله من كان عنده أدنى ذرة من إيمان أو عقل، بل دين الإسلام وأهله منه بُرَآء. إنه محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، وهو صادر من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة.
ولنا مع هذا الحَدَث الجَلَل وقفات:
الوقفة الأولى: إن من أعظم الشنائع التي حواها هذا الجُرْم العظيم قتل النفس المؤمنة عَمْدًا بغير حق، إضافة إلى ما فيه من ترويع للآمنين والاعتداء على حرمة بلاد المسلمين وعلى نفوس بريئة، وهو ضرب من الإفساد في الأرض وإتلاف للأموال المعصومة.
إن قتل النفس المسلمة بغير حق جريمة عظيمة وكبيرة من الكبائر، وقد قرنه الله بالشرك، وقدّمه على الزنا، فهو أعظم منه، يقول تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، وأخرج الشيخان ـ واللفظ للبخاري ـ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندًّا هو خلقك)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تُزَانِي حَلِيلَة جارك)). قال عبد الله: فأنزل الله تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الآية.
وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، فمن قتل نفسًا واحدة حرّمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعًا في استيجاب غضب الله وعقابه ولعنه وعذابه العظيم.
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، وذكر منها: ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) ، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور ـ أو قال: ـ شهادة الزور)) أخرجه البخاري، وأخرج أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فُسْحَة من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني، وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار)) رواه الترمذي وصححه الألباني، وعن معاوية قال: قال رسول الله : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه النسائي والحاكم وقال: "صحيح الإسناد" وصححه الألباني، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِلّه) أخرجه البخاري. قال ابن حجر رحمه الله: "وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لمن قتل عامدًا بغير حق: تزوّد من الماء البارد؛ فإنك لا تدخل الجنة" اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله ما نصه: "واختلفوا في أكبر الكبائر بعد الشرك، والصحيح المنصوص أن أكبرها بعد الشرك القتل" اهـ.
ما ذنب الضحايا من القتلى والجرحى في هذا العدوان الأثيم؟! ما ذنب الأبرياء الذين على مكاتبهم يقومون بواجبهم المناط بهم؟! وما ذنب المساكين الذين جاؤوا لمتابعة شؤونهم ومراجعة أوراقهم؟! وما ذنب المارّة والمجاورين لذلك المبنى المدمّر؟! ما ذنب الطفلة الصغيرة التي قُتِلت في هذا الحادث أم أنّ قَدَرها أنها سكنت بجوار هذا المبنى المستهدف؟!
الوقفة الثانية: إن من قام بهذه الجريمة المنكرة فئة أغواها الشيطان، سَوَّل لهم وأملى لهم، زيّن لهم أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. لقد ادعوا أنهم ما جاؤوا إلا للجهاد، وما هذا ـ والله ـ صنيع المجاهدين، فالجهاد إنقاذ وليس إتلافًا، والمجاهدون مصلحون وليسوا مفسدين.
لقد أساء هؤلاء فهمَ الدين بسبب أخْذه عن الكتب أو عمن لم يُعرف بعلم أو بحسن طريقة فضلّوا وأضلّوا، وإن الدين من صنيعهم بَرَاء، وما أومأ إلى هذا من قريب ولا من بعيد، بل هو دين الرحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
صحيحٌ أن في ديننا الولاءَ والبراءَ، لكنّ الولاء أن نحب المؤمنين ونواليهم وننصرهم، والبراء أن نبغض الكافرين ونعاديهم، لا أن نعتدي عليهم.
ومن ديننا أن ولي أمر المسلمين واجبة طاعته ما لم يأمر بمعصية، ولا يجوز الخروج عليه إلا إذا رأينا كفرًا بواحًا وقدرنا على إزالته وتولية غيره من المسلمين، والمنكر إذا ترتّب على إنكاره منكر أعظم منه حرم إنكاره إجماعًا؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقلّ مَن خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولّد على فعله من الشر أعظم مما تولّد من الخير" اهـ.
عن عوف بن مالك أن النبي قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) ، فقلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنّ يدًا من طاعة)) رواه مسلم، وعن أم سلمة أن رسول الله قال: ((ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره بَرِئ، ومن أنكر سَلِم، ولكن من رضي وتابع)) ، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ((لا، ما صلَّوا)) رواه مسلم، وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)) ، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: ((تؤدّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) متفق عليه.
الوقفة الثالثة: إن من أعظم ما يجب أن يتحلّى به المسلم خاصة في مثل هذه النازلة الإيمان بالقضاء والقدر، أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيصبر ويحتسب.
وعلى المرء أن يلجأ إلى الله في كل حين، لكن حين الشدائد والمحن يزيد من تعلّقه بربه، ويلح عليه أن يرزقه الثبات حين تزل الأقدام، والسداد حين تزيغ الأفهام، ويسأله حسن العاقبة وصلاح المآل.
ثم إن علينا أن نعلم أن ما يصيبنا من البلاء فإنما هو بسبب ذنوبنا، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فلنراجع أنفسنا، ولنصلح من حالنا وحال من ولاّنا الله أمره من الرعية من زوج وولد، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41].
اللهم اهد ضال المسلمين، وردّه إليك ردًّا جميلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
هذه رسالة أوجّهها إلى رجال الأمن، وأقول فيها: يا رجال الأمن، استعينوا بالله واصبروا، ولا تهنوا ولا تحزنوا، فالله معكم ولن يَتِرَكُم أعمالكم، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104].
واعلموا أن المؤمن لا يصيبه نَصَب ولا وَصَب ولا تعب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه. وأمر المؤمن كله خير؛ صبور عند الضراء، شكور عند السراء.
احفظوا الله يحفظكم، وأنّى لعبد حفظه الله أن يطاله أحد بسوء. داوموا على كل ما يكون سببًا في حفظكم بإذن الله، ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله)) ، والْهَجُوا بالأذكار صباح مساء، فهي حافظة بإذن الله، واثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون. نسأل الله أن يوفقكم ويسددكم، إنه على كل شيء قدير.
وختامًا، ليعلم الجميع وليخبروا من وراءهم أن من الواجب الشرعي هنا على كل من علِم حول هذه المخططات الإجرامية ومنفّذيها التبليغ عنهم؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، والسكوت عن شيء من ذلك ذنب عظيم، وهو داخل فيمن لعنهم رسول الله في حديث علي بن أبي طالب عند مسلم حين قال: ((لعن الله من آوى مُحدِثًا)) يعني: ضَمّ جَانِيًا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ على أرض الحرمين وسائر بلاد المسلمين دينها وأمنها وإيمانها...
(1/4444)
نعمة الأمن
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
25/3/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن. 2- الأمن من أعظم نعم الله. 3- سبل محافظة الشريعة على الأمن. 4- خطر العلمانيين على الأمن في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن مما لا شك فيه أنّ الأمن من أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورةٌ لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وأهدافها وتطلّعاتها، ولا تزدهر حياةٌ وتسعَد نفس ويهنأ عيش إلا بالأمن والاستقرار، وما يأتي بعده من النعم فإن النفس لا يمكن أن تهنأ بها من دون الأمن.
بالأمن تصلح الحياة، وتنبسط الآمال، وتتيسَّر الأرزاقُ، وتزيد التجارات. الأمنُ تفشو معه الماشية، وتكثر الأمّة. الأمن تتقدَّم معه التنمية، وينتشر فيه العلمُ والتّعليم، ويعزّ فيه الدين والعدل، ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، وتوظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع. والأمن تُحقَن فيه الدّماء، وتُصَان الأموال والأعراض، وتنام فيه العيون، وتطمئنّ المضاجع، يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان. فالأمن مِن نعم الله العظمى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه، ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46].
لقد أنعم الله على كثير من الأمم بهذه النعمة نعمة الأمن، لكنهم لما كفروا نعمة الله وأعرضوا عن شرع الله عاقبهم الله فأبدل أمنهم خوفًا، فلا تسل عما يحلّ بهم بعد ذلك، يقول الله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، وقال سبحانه عن سبأ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:18، 19].
ولقد امتنّ الله بهذه النعمة على ساكني مكة فقال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57]، فلكونه آمنًا جُلِبت إليه ثمرات كل شيء؛ لأن المكان الآمن يُطمأن إليه، ويُطمأَن للبيع والشراء فيه والبقاءِ فيه؛ لأنه الآمن، فتتحقق به مصالح الناس، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]. فبيّن لهم نعمته بالأمن عليهم، وأنّ غير سكان الحرم بالذات يُتخطّفون يمينًا ويسارًا، في قلق واضطراب، وهم بكونهم في البيت الحرام في أمان واستقرار، فالله يذكرهم تلك النعمة، ليعرفوا قدرها، ويقوموا بحقها وواجبها.
ولقد كان ذلك الأمن ببركة دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. وتأمّلوا ـ يا رعاكم الله ـ كيف رتّب الرزق على الأمن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يسعى في طلب رزقه وهو غير آمن، ولذا فكثيرًا ما يقرن الله بين هاتين النعمتين في مثل هذه الآية، وفي مثل آية النحل المتقدمة: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل:112]، وفي قول الله تعالى لقريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]. وقد جاء في حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري أن النبي قال: ((من أصبح آمنا في سِرْبه مُعافًى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذَافِيرها)) رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وهو حديث حسن.
عباد الله، لقد جاءت تحذيراتُ الشريعة القاطعة وأصولُها الجامعةُ بالنهي الأكيدِ والتحريم الشديد عن كلّ عدوان وإفسادٍ يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال جلّ وعلا: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
ولأهمية توفر الأمن شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيّة والدفاعية بلا إفراط ولا تفريط للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيل ولم يسبق له نظير، فمن طبّق هذه الأحكام وامتثل أمر الله فيها تحقق له ما يبتغيه من الأمن.
فالقصاص والحدود شُرِعت لإحكام الأمن، من قَتل بغير حق قتِل، ولو لم يُقتل لقامت الثارات، وصار كلٌ يأخذ حقه بيده، ومن سرق قُطع، ولو لم يُقطع لصارت البلاد مَنْهَبَة؛ كلٌ يأخذ ما يشاء ويذر، ومن حارب وسعى في الأرض بالفساد يروّع عباد الله ويقتلهم ويأخذ أموالهم أقيم عليه حد الحرابة بالتقتيل أو بالصلب أو بالتقطيع من خلاف أو بالنفي من الأرض، ومن شرب الخمر أو قذف محصنًا جُلِد، وشُرِع التعزير لولي الأمر ليؤدب كل معتدٍ بما يردعه عن العودة إلى فعلته، فيأمن الناس ويطمئنون.
بل بالغَت التوجيهات الشرعيّة في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر ملزِمة قال : ((لا يحل لمسلم أن يروّع مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، ونهى أن يُشهر السلاح على أرض المسلمين، فقال : ((لا يُشِر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه.
وإذا سعى ساعٍ للإخلال بالأمن أو زعزعته أو إشاعة الفوضى فإن الناس يأخذون على يده ويتحدون ضده؛ لأنهم يعرفون قدر هذه النعمة، ولا يريدون أن يُسلَبوها؛ لأن مجتمعًا بلا أمن لا يهنأ بعيشه إن دام له عيشه.
عباد الله، ألا وإن مما ينبغي أن يُعلم أنه لا أمن بلا إيمان، فمن حقق الإيمان ظفر بالأمن، وبقدر ما يتحقق من الإيمان يتحقق مثله من الأمن، ومن استكمل شعَب الإيمان وخصاله استكمل صور الأمن وأشكاله، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إذا تبينت أهمية ضبط الأمن واستتبابه في المجتمع فإن هناك مرتبة من مراتبه هي أعظمها، وهي مرتبة الأمن في الدين، ومع ذلك يتساهل كثير من الناس فيها. والدليل على أن الأمن في الدين أعظم مراتب الأمن أن الأمن جاء لحفظ الضروريات الخمس، وأعظم هذه الضروريات الدين.
أقول هذا لأنبه إلى خطر أولئك الذين يثيرون الفوضى ويزعزعون أمن الناس في أديانهم، فيثيرون الشبه ويبثّون الشكوك حول هذا الدين وشعائره وشرائعه.
وأخص بالذكر تلك الشِّرْذِمة النَّتِنَة من الكَتَبة ذوي العقول الضيّقة الصغيرة الذين آذونا في ديننا؛ فصاروا يصفون تمسّكنا به وتشبّثنا به رجعية وتخلّفًا، وينتقصون أحكام الله وأنها لا تصلح في زمن الحضارة والعولمة، وينعتون القصاص وإقامة الحدود بأنها أحكام جائرة وغير إنسانية، وأن القضاء الشرعي قضاء بدائي مُتحجّر، ويدعون إلى التحرر والانفتاح، وتطاولت ألسنتهم على كتاب الله وسنة رسول الله ، فصاروا يصرّحون أو يلمّحون بأنه يدعو إلى العنف من خلال الدعوة على الجهاد أو عقيدة الولاء والبراء.
إن العلمانيين ومن تشبّه بهم ممن يُذكون نار الفتنة ويؤجّجون نارها أخطر الفئات على أمن الناس، هم والله أخطر من أولئك الذين يعتدون على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم. وإن الواجب على الناس ليأمنوا على دينهم وسائر حقوقهم أن يقفوا صفًّا واحدًا في وجه هؤلاء، فلا يغتروا بحماقاتهم التي تنبئ عن عقول مريضة ونفوس سقيمة، ولا يتأثروا بها. وعلى المصلحين المخلصين والدعاة الناصحين أن يدفعوا تلك الشبه، ويبينوا عوارها للناس، ويقوّضوا بنيانها، فلا تقوم لها ولا لأصحابها بعد اليوم قائمة.
(1/4445)
مات البابا وبقي الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم, قضايا دعوية
عبد السلام بن محمد زود
سدني
28/2/1426
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الإسلام. 2- الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من أحد سواء. 3- المستقبل والعاقبة والتمكين للإسلام. 4- انتشار الإسلام في الغرب. 5- تزايد عدد المسلمين في الغرب بعد أحداث 11 سبتمبر. 6- الوصية بالاجتهاد في نشر الإسلام. 7- أهداف الإعلام في الاهتمام البالغ بوفاة البابا يوحنا الثاني. 8- تأثير الإعلام في صياغة الأحداث والتأثير في عقلية القارئ والمستمع والمشاهد. 9- تحريم الصلاة والاستغفار والترحم على الكفار والمنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد خلق الله الناس واختار لهم الإسلام دينا، وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ودعاهم للإيمان به؛ ليسعدوا في الدنيا والآخرة. وقد بين وحي الله تعالى للناس كافة أن حاجتهم إلى الإسلام أشد من حاجتهم إلى الهواء والماء والطعام؛ لأنه لا نجاة للناس ولا سلامة إلا بالإسلام، فما الإسلام يا تُرى؟
الإسلام هو الدين الوحيد عند الله تعالى كما قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وسمى من دخلوا فيه قديما وحديثا بالمسلمين، فقال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78]، وكان الإسلام ولا زال هو دين الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالإسلام هو دين نوح عليه السلام حيث قال لقومه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، أول رسول يقول لأهل الأرض جميعا: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. والإسلام هو دين خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]. والإسلام هو دين ذرية إبراهيم عليه السلام: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:131، 132]. والإسلام هو دين يعقوب عليه السلام وبنيه، كما قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]. والإسلام هو دين لوط عليه السلام كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35، 36]، وهو بيت لوط عليه السلام. والإسلام هو دين موسى ومن آمن معه، كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]. والإسلام هو دين عيسى عليه السلام ومن آمن معه، كما قال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111]. والإسلام هو الدين الذي دخل فيه سحرة فرعون يوم أن شرح الله صدرهم له حيث قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]. والإسلام هو دين سليمان عليه السلام حيث قال: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42]. والإسلام هو الدين الذي لم تجد بلقيس ملكة سبأ دينا يصلح للدخول فيه غيره حيث قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44]. بل والإسلام هو دين المؤمنين من الجن، قال تعالى حكاية عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن:14]. والإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
وما جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد إلا بالإسلام، كما أمره تعالى بقوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. والإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده حيث قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. والإسلام هو الدين الذي من أراد الله به خيرا شرح صدره له، كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، والإسلام هو الدين الذي دعا يوسف عليه السلام ربه أن يتوفاه عليه، فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. والإسلام هو الأمنية التي يتمنى العباد جميعا ـ حتى الكفارـ أن يموتوا عليه، كما قال تعالى عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]. والإسلام هو الدين الذي يتمنى الكفار يوم القيامة أن لو كانوا من أتباعه، كما قال تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]. وأبى الله تعالى أن يجعل المسلمين كالمجرمين فقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36]. ولا أمن من فزع يوم القيامة بل ولا دخول للجنة إلا للمسلمين فقط، كما قال تعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70].
وأمر الله تعالى نبيه محمدا أن يعلن للناس قائلا: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108]. وأمر رسوله محمدا أن يقول للعرب وأهل الكتاب: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]. وليس هناك أديان سماوية كما يقول الناس، بل هناك دين واحد هو الإسلام، كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وإنما هناك شرائعُ ومناهج، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]. والإسلام هو الدين الذي أمرنا الله تعالى أن نموت عليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ومن مات على غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
إذًا فالإسلام هو دين الله تعالى الذي جاء به الأنبياء والمرسلون لشعوبهم وأقوامهم، جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجعل الله لكل نبي شريعة ومنهاجا تختلف عن شريعة النبي الآخر، فهنيئا لمن كان مسلما وعاش مسلما ومات مسلما، هنيئا له الجنة، وويل لمن كان كافرًا وعاش كافرًا ومات على الكفر، ويل له من النار ومن غضب الجبار جل جلاله.
عباد الله، لقد حاول الكفار بجميع طوائفهم إطفاء دين الإسلام على مر العصور وما استطاعوا ذلك، ولو نظرنا في حاضر الإسلام وكيف يتقدم ويكسب في كل لحظة مواقع جديدة، وناسًا يدخلون فيه، وناسًا من أهله يعودون إلى صفائه ونقائه، وإنجازات لرجاله ودعاته في مشاريع ومؤسسات وكتب، وجماهير تحتشد لهم، وجموعًا تؤم المساجد والمناسك، وصلاحًا هنا وهناك، وتقدمًا في المواقع رغم ضعف المسلمين، لو نظرنا في ذلك لأيقنا أن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه.
ولما لم يستطيعوا إطفاء نور الإسلام حاربوا أهل الإسلام، وأبادوا منهم جماعات ومجتمعات، وأسقطوا دولا وأذهبوا أسماءً وشعارات، وبقي الإسلام شامخا؛ لأنه دين الله، والذي يريد أن يطفئ نور الإسلام مثله كمثل الفراشة التي تحاول إطفاء نور الكهرباء، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32، 33]، ((ولن يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا وسيدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله)) كما النبي.
وما خُلقت هذه الأمة إلا للإسلام، وما وجدت إلا للإسلام، فالإسلام هو سر بقائها، والذي يريد أن يقضي على الإسلام فليقض على هذه الأمة، وهل يستطيع أحد أن يقضي على هذه الأمة أو على دينها، هيهات ثم هيهات. فهذه الأمة موعودة بالبقاء، وليس بالبقاء فقط بل بالنصر والتمكين، ولا يزال الله عز وجل يخرج لهذه الأمة في كل مرحلة من تاريخها علماء ودعاة وقادة ومجاهدين يستعملهم في خدمة هذا الدين.
انظروا كم دفن الناس من طاغية، وكم دفن الناس من كافر محارب لله ورسوله، كم دَفنوا من زنديق، وكم دفنوا من كافر، وكم دفنوا من منافق وملحد. فرعون مضى، النمرود مضى، أبرهة مضى، أبو جهل مضى، هولاكو مضى، جنكيز خان مضى، وقرونا بين ذلك كثيرا، حتى رؤساء الكفر والضلال في هذا الزمان سيدفنهم أصحابهم، فقط صبر جميل واستعانة بالله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إخواني في الله، إن هذا الدين هو كلمة الله عز وجل، و"لا إله إلا الله" هي كلمة الإسلام، ومن ذا الذي يستطيع أن يُطفأ نور هذه الكلمة؟!
أتُطفِئ نورَ الله نفخةُ كافر تعالى الذي في الكبرياء تفردَّا
إذا جلجلت الله أكبر فِي الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى
ونقول اليوم لأمريكا: لستِ أول من حارب الإسلام، بل حاربه قبلك الكثير، لكن ماذا كانت النتيجة؟! أهلك الله كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخا، وسيبقى بموعود الله ورسوله، وها هو الإسلام الآن يتململ في أوربا وأمريكا.
إخواني في الله، رغم الظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون في كل مكان إلا أن المستقبل للإسلام، لا بد أن يعتقد المسلمون بأن المستقبل للإسلام قطعًا، كيف وقد أفلس الغرب والشرق من القيم والمفاهيم والأخلاق؟! كيف وقد صاروا في أمر مريج؟! وما الدين المرشَّح للانتشار والظهور واقتناعِ البشرية به وإتيانهم إليه؟ أليس هو الإسلام؟! أليس الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في العالم رغم ضعف المسلمين اليوم؟! فكيف في غيره من الأوقات؟!
أجل لقد أفلس الغرب في الأصول الاجتماعية التي قامت عليها حضارته، فحياة الغرب التي قامت على العلم المادي والمعرفة الأولية والكشف والاختراع وإغراق أسواق العالم بمنتجات العقول والآلات لم تستطع أن تقدم للنفس الإنسانية خيطا من النور أو بصيصا من الأمل أو شعاعا من الإيمان، ولم ترسم للأرواح القلقة أي سبيل للراحة والاطمئنان رغم كثرة الكنائس والرهبان والكرادلة، ولهذا كان طبيعيا أن يتبرم الإنسان الغربي بهذه الأوضاع المادية البحتة، وأن يحاول الترفيه عن نفسه، ولم تجد الحياة الغربية المادية ما ترفِّهُ به عنه إلا الماديات أيضا، من الآثام والشهوات والخمور والنساء والاحتفالات الصاخبة والمظاهر المغرية التي تلهيه بها حينا، ثم ازداد بها بعد ذلك جوعا على جوع، وأحس بصرخات روحه تنطلق عالية تحاول تحطيم هذا السجن المادي والانطلاق في الفضاء واسترواح نسمات الإيمان، فاهتدت في آخر الطريق إلى الإسلام فدخلت فيه، فوجدت الراحة والأمن والأمان، وسلوا كل من أسلم يخبركم عن هذه الحقيقة. ومن هنا ندرك سر إقبال الغرب على الإسلام.
بل تدبروا معي ما تخطه الأقلام الغربية، لأن كثيرا من الناس ـ وللأسف ـ لا يصدقون الوحي إلا إذا كان من أوربا وأمريكا، أوردت مجلة التايم الأمريكية الخبر التالي: "وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب". من قلب أوروبا تلك القارة التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما، وصوتُ الأذان الذي يرتفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضا جديدة وأتباعا.
أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض من طوكيو حتى نيويورك، وعند نيويورك ومساجدها نتوقف، ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك من مائة مئذنة، يلبي نداءَ المؤذن فيها نحو مليون مسلم، ويكفي أن تعلم ـ أخي ـ أنه قد بلغ عدد المساجد في أمريكا ـ قلب قلعة الكفر ـ ما يقرب من (2000) مسجد والحمد لله، وترتفع في بريطانيا مآذن حوالي (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مآذن (1554) مسجدا ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ(2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيُوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصليات في هولندا إلى ما يزيد على (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مآذن (130) مسجدًا أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76) مسجدا.
هذه فقط بعض الدول في أوربا الغربية، عدا أوربا الشرقية، والإقبال على الإسلام يزداد يوما بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام وينطلق في أوربا، لذلك ليس غريبا أن تشدد أوربا وأمريكا في أمر المساجد ومراقبة أهلها والتضييق في إعطاء الرخص لبنائها، ولو علمتَ ـ أخي ـ أن معظم هذه المساجد كانت كنائس فاشتراها المسلمون وحولوها إلى مساجد لعجبت.
أما جريدة السانداي تلغراف البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضي: "إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ـ يعني الذي مضى ـ ومطلع القرن الجديد ـ الذي نحن فيه ـ ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية".
مجلة لودينا الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: "إن مستقبل نظام العالم سيكون دينيا، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة". لِمَ لا وهو دين الله الذي أنزله للعالمين؟!
وقال رئيس شرطة المسلمين وهو ضابط أمريكي أكرمه الله بالإسلام قال: "الإسلام قوي جدًا جدًا في أمريكا، وينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية".
إخواني في الله، وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ازداد في العالم الغربي الإقبال على فهم الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعا في الأسواق الأمريكية والأوربية حتى نفدت من المكتبات؛ لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، ويكفي أن تعلم أن في ألمانيا وحدها بيع خلال سنة واحدة أربعون ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن باللغة الألمانية، كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق.
وفي عام 2001م نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأميركيين يقدرون عدد الأميركيين الذين يعتنقون الإسلام سنويا بـ25 ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يوميا تضاعف أربع مرات بعد أحداث 11 سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي حيث قال: "إن أكثر من 24 ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام".
إخواني في الله، ونظرا لإقبال الغرب على الإسلام فقد حذر أسقف إيطالي بارز من أسلمة أوروبا. وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغدُ أوروبا مسيحية مجددًا. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء بل وصل الخوف إلى من كان يسمى بالأمس القريب بابا الفاتيكان، الذي صرخ بذعر في وثيقة التنصير الكنسي لكل المنصِّرين على وجه الأرض قائلاً: "هيّا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا". وقد قضى البابا عمره لاهثًا وراء حلم توحيد جميع كنائس العالم تحت الكنيسة الأم بالفاتيكان لمواجهة الزحف الإسلامي فما استطاع.
ونحن نقول للمسلمين ولأبنائنا المسلمين: إن المستقبل للإسلام، وبوادر الفتح الإسلامي لأوربا بات وشيكا، وتدبروا معي هذا الحديث الذي يسكب الأمل في قلوب الأمة سكبًا، فعن عبد الله بن عمرو قال: سئل النبي : أي المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله : ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) ، يعني قسطنطينية. رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وفي هذه الأيام التي تغرقنا فيها وسائل الإعلام بالحديث عن بابا الفاتيكان وموته نرى في الجانب الآخر أعدادا لا يعلمها إلا الله يدخلون في دين الله أفواجا، وهذا التوجه الهائل نحو الدين الإسلامي هو ما يخيف الحكومات الغربية، ويجعلها تزداد خوفا وحقدا على الإسلام وأهله، ومحاولة وقف هذا الزحف الإسلامي بشتى الوسائل، بالحروب العسكرية تارة، وبالغزو الفكري تارة أخرى.
أجل، إن الإعلام لا يريكم إلا ما يرى، بينما عندما يلقي داعية مسلما محاضرة عن الإسلام في قلب أمريكا كما فعل ذلك الداعية الإسلامي الأمريكي الذي كان قسيسا سابقا والمعروف بـ(يوسف إستس) ألقى محاضرة عن الإسلام، وفي نهاية المحاضرة أعلن جميع من في القاعة وعددهم 135 شخصًا أمريكيًا أعلنوا الشهادة بصوت واحد، فسبحان الله، أين وسائل الإعلام عن هذه المشاهد التي تهتز لها القلوب؟!
فهيا أيها المسلمون في كل مكان، تحركوا بكل ما تملكون من وسائل وإمكانيات، وبينوا صورة الإسلام المشرقة، فالإسلام الآن متَّهم في الغرب بالإرهاب والتطرف شئنا أم أبينا، فإن كنت ـ أخي ـ تعرف زميلاً لك في أي مكان فأرسل إليه رسالة، أو أهدِه كتابا أو شريطا عن الإسلام، وافعل ذلك مع جيرانك وزملائك في العمل، المهم أن تبذل شيئا للإسلام، وأنت سفيرُ الإسلام في هذه البلاد شئت أم أبيت، فهيا تحرك لخدمة دين الله تعالى، واعلم أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان ولا الفاتيكان، ولا يدير دفته الأوربيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه وتعالى. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
تعلمون ـ إخواني ـ أن للإعلام تأثيرا كبيرا في صياغة الأحداث والتأثير في عقلية القارئ والمستمع والمشاهد وتوجيه الرأي العام حول ما يريد، بل وإقناعه بما يريد، إلا أن الأمر ليس بالضرورة كما تصوره وسائل الإعلام، فهي في غالب الأحيان تَذْكُرُ الجزء الذي يناسبها ويخدم مصالحها من القضية الكلية، وتتغاضي عمدا عن جوانب أخرى مهمة من الحدث نفسه.
ولا أشك أنكم قرأتم وسمعتم وشاهدتم شيئا مما تناقلته وسائل الإعلام في حدث وفاة يوحنا بولس الثاني زعيم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بالفاتيكان، حيث صوره الإعلام أنه الزعيم الروحي للبشرية جمعاء، ويحظى بإجماع دولي على زعامة العالم، في حين أنه لا يتعدى كونه زعيم واحدة من الكنائس النصرانية التي لا تحظى بالقبول من طرف كنائس أخرى تنتمي إلى نفس الديانة.
وإن المتابع لوسائل الإعلام في هذه الأيام يرى أنها عظَّمت الرجل كثيرا، وأكثرت من ذكر أعماله الإنسانية والتنصيرية، حتى صورته أنه رسول السلام الوحيد في هذا العصر، الحريص على أمن الشعوب في العالم، ناسين أو متجاهلين الحروب الصليبية الدموية قديما وحديثا ضد المسلمين وغير المسلمين من الديانات الأخرى.
أقول: إن وراء هذه الحملة الإعلامية القوية حملة تنصيرية عالمية ودعوة خاصة للنصارى بكافة طوائفهم أن يعودوا إلى الكنيسة، ويحيوا دورها من جديد، بعد أن هجروها وباعوا بعضها بالمزاد، وما كان مسجدُنا هذا ـ أعني مسجد الأزهر هنا ـ إلا كنيسة باعوها بعد أن أصبحت خاوية على عروشها من المصلين، وهكذا حال معظم مساجد المسلمين في الغرب، كانت كنائس فحوّلها المسلمون إلى مساجد.
أقول: إن الاهتمام العالمي الزائد بالرجل وحضورَ رؤساء العالم اليوم للمشاركة في تشييعه إنما هو ثمرة تقطفها النصرانية التي باتت مهددة بالانحسار خاصة في أوربا، وذلك من جراء الزحف الإسلامي إلى قلبها كما سمعتم، حيث يتخذ الإسلام فيها مواقع جديدة كل يوم من خلال دخول أهلها في الإسلام، كما صرَّح بذلك البابا نفسه عندما صرخ بالمنصّرين أن يهبوا للوقوف في وجه الزحف الإسلامي داخل أوربا. وهذا إن دل فإنما يدل على قوة الإسلام وتقدمه، وقد استولى على الأخبار العالمية اليوم، فما من نشرة أخبار عالمية إلا وأخبار المسلمين تتصدرها أو تكون ضمنها، ولم يعد للنصرانية في السنوات الأخيرة ذكر في الأخبار العالمية، سوى فضائح الرهبان من اللواط والاغتصاب، فجاءهم حدث وفاة البابا فرصة ذهبية ليبشروا بالنصرانية التي قضى حياته في الدعوة إليها، كم من مسلم فقير في أدغال إفريقيا نصَّره، وكم من مسلم فقير عديم في آسيا نصَّره ومن دين الإسلام أخرجه، ثم بعد ذلك يحزن البعض من المسلمين على وفاته، بل ويترحمون عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اعلموا ـ إخواني ـ أن أبناءنا هم رأس مالنا في هذه الحياة الدنيا، وهم أكبادنا تمشي على الأرض، ودينهم أغلى علينا من كل شيء، فإن خسرنا دينهم فقد خسرنا كل شيء، وإن ربحنا دينهم فقد ربحنا كل شيء.
نقول لإخواننا وأبنائنا: من مات على الإسلام فمصيره إلى الجنة بإذن الله تعالى خالدا فيها أبدا، ومن مات على الكفر بالله فمصيره إلى النار والعياذ بالله تعالى كائنا من كان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161، 162]، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)). نقول هذا لننظف أذهان إخواننا وأبنائنا مما سمعوه طيلة هذه الأيام من أخبار عن الرجل وديانته النصرانية وكنيسته الكاثوليكية، وما سمعوه على الفضائيات من جواز الترحم عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اعلموا ـ إخواني ـ أنه تحرم الصلاة والاستغفار والترحم على الكفار والمنافقين لقول الله تبارك وتعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، ولقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، قال النووي في المجموع (5/144، 258): "الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة حرام بنص القرآن والإجماع".
سبحان الله! كيف يجوز الترحم على رجل ظل طيلة حياته وهو يدعو الناس إلى الكفر بالله والشرك بالله تعالى وإقناعهم بأن عيسى هو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وأنه قتل وصلب فداء للبشرية، والله تعالى يقول: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون:91]، ويقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]؟! كيف نترحم أو نحزن على رجل كان سببًا في تنصير كثير من فقراء المسلمين في أدغال آسيا وإفريقيا؟! لِم الحزن على رجل اعتذر لليهود عن الهوليكوست (محارق اليهود) ولم يعتذر للمسلمين عما لحق بهم من جرائم قديمًا وحديثًا بدءا من محاكم التفتيش النصرانية، ومرورا بالحروب الصليبية، ووصولا إلى الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك وكل ذلك باسم الصليب؟!
إن حروب العصر سواء كانت في البوسنة والهرسك أو في أفغانستان أو في العراق قد أوقد نارها شرذمة من المتطرفين النصارى الذين يكنّون العداء للمسلمين، وما تصريحات بوش عند غزو العراق إلا دليلا على ذلك، حيث أكد أن الحرب حرب صليبية، ويومها لم نسمع أي تعليق من البابا يستنكر فيه هذا الأمر الخطير أو يردُّ عليه، وصدق الله العظيم: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، واحشرنا مسلمين مع سيد الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/4446)
موت الرسول
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, السيرة النبوية
عبد السلام بن محمد زود
سدني
13/3/1426
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة مرض النبي ووفاته. 2- وصاياه عند موته. 3- غسله وتكفينه. 4- الصلاة عليه ودفنه. 5- فضل هجرته. 6- الحدث الأهم في سيريه. 7- بدع ومخالفات تقع من بعض المسلمين في هذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخواني في الله، فقد اختار الله تعالى محمد بن عبد الله ليكون نبيا ورسولا، وللعالمين بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه قوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1، 2]، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: "وقام حينئذ رسول الله في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم"، ودعا إلى الله القريب والبعيد والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كلُّ لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كلُّ جبار عنيد، وظل طيلة ثلاث وعشرين سنة يدعو إلى الله تعالى، وأخيرا يبشره ربه عز وجل باقتراب أجله فيقول له: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، ويقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:34، 35]، وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144].
وبعد مسيرة الدعوة الطويلة التي لاقى خلالها المتاعب والمشقات والأذى والابتلاء شاء الله تعالى أن يجمع المسلمين لرسوله وبين يديه في أعظم اجتماع عرفته الدنيا، ألا وهو اجتماع عرفات في حجة الوداع التي حضرها ما يزيد على مائة ألف حاج وحاجة من شتى أنحاء الجزيرة وما حولها، اجتمعوا في صعيد عرفات، بعد أن أدى النبي الأمانة وبلغ الرسالة، أوقفه الله بعدها بين أصحابه في هذا المشهد العظيم، ليأخذ هذا العهد وهذا الميثاق الكبير، ويسألَ الناس جميعا، قائلا كما في صحيح مسلم: ((وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات)).
وألقى النبي في هذا اللقاء الكبير النظرة الأخيرة على أصحابه وعلى أتباعه وعلى أمته، ونزل عليه وهو في عرفات قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، وأنزلت عليه وسط أيام التشريق: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، فعرف أنه الوداع، كما روى البيهقي في سننه عن ابن عمر، وفهم الصحابة ذلك، حيث سأل عمر بن الخطاب ابن عباس عن هذه السورة وقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أجَلٌ أو مَثَلٌ ضُرب لمحمد نعيت له نفسه. رواه البخاري.
وهكذا حج النبي حجة الوداع، وعلَّم أصحابه والأمة من بعدهم الركن الأخير من أركان الإسلام، ألا وهو الحج إلى بيت الله الحرام، وأخذ يشعر أصحابه بقرب أجله وانتقاله إلى جوار به، فقال لهم وهو في الحج كما في صحيح مسلم عن جابر : ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) ، وأمرهم النبي أن يرموا الجمرات بمثل حصى الخذف وقال: ((لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، فعرف الصحابة أن رسول الله يودعهم، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والضجيج، وكثر منهم النحيب. وكان قبل أن يتوجه إلى مكة لحجة الوداع قد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وخرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا)) أو قال: ((لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري)) ، فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله ، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) رواه أحمد.
وقبل أن يترك النبي مكة راجعا إلى المدينة بعد حجة الوداع يزور سعد بن أبي وقاص ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ ويطمئن على صحته حيث كان مريضا في تلك الأيام، ثم يودع النبي الكعبة أيضا، فيطوف بها طواف الوداع، ثم يرجع بعدها إلى المدينة المنورة، ويأتي يوم الاثنين لتبكي المدينة مرة أخرى، لا من الفرح كما كان عند مقدمه إليها، ولكن من الحزن هذه المرة، فلقد نام النبي على فراش الموت بعد عودته من عرفات بواحد وثمانين يوما، كما قال ابن جرير وغيره، وقد مرت عليه قبل موته أيام الوداع، وما أدراك ما تلك الأيام.
ذات يوم وفي جوف الليل الساكن الهادئ ينزل الأمين جبريل عليه السلام على النبي ويقول له: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، فيأتي النبي أهل البقيع ويقوم رافعا يديه إلى السماء وهو يدعو ويستغفر لهم.
وفي ليلة أخرى من تلك الليالي يوقظ النبي مولى له اسمه أبو مويهبة ويقول له: ((يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي)) ، يقول أبو مويهبة: فانطلقت معه في جوف الليل، فلما وقف عليهم قال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة أشد من الأولى)) ، ثم أقبل علي فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت بمفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي)) ، قلت: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: ((لا ـ والله ـ يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي)) ، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدئ رسول الله في وجعه الذي مات فيه. رواه الإمام أحمد في مسنده.
وأول معالم مرضه كان صداعا في رأسه، قالت عائشة: رجع إلي رسول الله ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، قال: ((بل أنا ـ يا عائشة ـ وا رأساه،)) ثم قال: ((وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك)) ، قلت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله ، ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه. رواه الإمام أحمد.
ثم اشتد عليه المرض في بيت زوجته ميمونة، قالت أسماء بنت عميس: أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة، فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، فتشاور نساؤه في لده فلدوه ـ أي: أدخلوا في جانب فمه دواء بغير اختياره ـ، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء. رواه البخاري عن عائشة.
ثم لما اشتد به الوجع استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذنّ له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين علي بن أبي طالب، ولما دخل بيتها واشتد به وجعه قال: ((هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس)) ، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ـ إناء يغسل فيه ـ ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. رواه البخاري عن عائشة.
وكان مما خطبهم في ذلك اليوم ما قاله أبو سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله في مرضه الذي مات فيه، ونحن في المسجد عاصبا رأسه بخرقة حتى أهوى نحو المنبر، فاستوى عليه واتبعناه فقال: ((والذي نفسي بيده، إني لأنظر إلى الحوض من مقامي هذا)) ، ثم قال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة)) ، قال: فلم يفطن لها أحد غير أبي بكر، فذرفت عيناه فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله، قال: ثم هبط فما قام عليه ـ أي: المنبر ـ حتى الساعة. رواه الدارمي.
ثم ازداد مرضه وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال : ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف ـ أي: رقيق القلب سريع البكاء ـ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، قالت: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقالت له، فقال رسول الله : ((إنكن لأنتن صواحب يوسف ـ يعني في الجدال والإلحاح ـ، مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض ـ وهما العباس وعلي ـ قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه فذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله : قم مكانك، فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله يصلي بالناس جالسا، وأبو بكر قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر، وفي حديث ابن مسهر: فكان النبي يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير. رواه مسلم عن عائشة.
وكان سبب مرض النبي مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه الذي دعته إليه في خيبر، فأكل رسول الله منه وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) رواه أبو داود، وفي مرضه الذي مات فيه قال: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) أخرجه البخاري. والأبهر: عرق في الإنسان متصل بقلبه متى انقطع مات صاحبه.
إخواني في الله، ولما كان يوم الاثنين الذي قبض فيه النبي أحس بنشاط كما قال أنس بن مالك : بينما المسلمون هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ليلقي نظرة الوداع على أحبابه، على الأطهار الأبرار الأخيار، على أبي وعمر وعثمان وعلي، على بلال على صهيب، على عمار، على هؤلاء الأبرار، ثم تبسم يضحك، كأنما يودعهم وهم على مثل تلك الحال، صف واحد وبنيان مرصوص وكلمة واحدة، يطمئن على هؤلاء النفر الذين رباهم على عينه، فيضطرب الصحابة رضوان الله عليهم، وينكص أبو بكر على عقبيه ـ أي: يرجع إلى الوراء ـ ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم بيده رسول الله: أن أتموا صلاتكم، وكأنها النظرة الأخيرة يودعهم فيها ويودعونه، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. رواه البخاري.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كشف رسول الله الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: ((أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، وأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)). ورجع أبو بكر إلى أهله بالسنح في عوالي المدينة، والصحابة يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه، ولا يدرون كيف يعاني من ألم المرض، دخل النبي الحجرة، ووضع رأسه في حجر عائشة حتى ثقل رأسه في حجرها، فجعلت تنفث عليه وتمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدها. رواه مسلم. فعن عائشة أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها. رواه البخاري. وللطبراني من حديث أبي موسى : فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء فقال: ((لا، ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى)).
ويزداد الكرب عليه، وتزداد السكرات والكربات، وتدخل زهرته فاطمة فترى الكرب يشتد على أبيها وحبيبها، فتصرخ وتقول: وا كرب أبتاه، فقال رسول الله : ((لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة)) صحيح سنن ابن ماجه عن أنس.
قالت عائشة: ودعا النبي فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت عائشة: فسألتها عن ذلك ـ يعني بعد وفاة رسول الله ـ فقالت: سارني النبي فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت. أخرجه البخاري. وفي صحيح سنن ابن ماجه قالت فاطمة رضي الله عنها: إنه كان يحدثني أن جبرائيل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنه عارضه به العام مرتين، ولا أراني إلا قد حضر أجلي.
ويشتد الألم على رسول الله فيأمر بركوة فيها ماء، ويدخل يده فيها ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، إن للموت سكرات)) ، وفي رواية أحمد: ((اللهم أعني على سكرات الموت)). وكانت عائشة تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. رواه البخاري. وعن عائشة قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبده رسول الله بصره، فأخذت السواك فقصمته بطرف أسناني ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي فاستن به، فما رأيت رسول الله استن استنانا قط أحسن منه. رواه البخاري. وكانت عائشة تقول: إن رسول الله كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) ، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض، ومالت يده. أخرجه البخاري.
وقبل أن تميل يده الشريفة وتفارق روحه جسده قالت عائشة: كان رسول الله يقول وهو صحيح: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)) ، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)) ، قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي قوله: ((اللهم الرفيق الأعلى)) رواه البخاري. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق)).
ويقبل ملك الموت على النبي لينادي على روحه الطاهرة: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض عنك غير غضبان، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، وتسقط يد النبي وتخرج عائشة تصرخ وتبكي: مات رسول الله، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب ، ويقابلها عمر بن الخطاب، فيصرخ ويشهر سيفه في الناس وهو في ناحية المسجد ويقول ـ كما في صحيح ابن ماجه ـ: (والله، ما مات رسول الله، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم).
وفي هذا الوقت كان أبو بكر في بيته في عوالي المدينة، فبلغه الخبر في وقت الضحى، قالت عائشة: وأقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم النبي ـ أي: قصده ـ وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري. وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه.
ويخرج الصديق ليعلن هذه الحقيقة الكبرى، ليعلن أنه لا بقاء إلا لله الحي الذي لا يموت. خرج الصديق وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس فأبى، فقال: اجلس فأبى، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس، وتركوا عمر، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فنشج الناس يبكون، قالت عائشة: والله، لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشرٌ إلا يتلوها. رواه البخاري. حتى قال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي قد مات. رواه البخاري. وعن أنس أن فاطمة بكت على رسول الله حين مات، فقالت: يا أبتاه، مِن ربه ما أدناه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه. أخرجه النسائي.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. متفق عليه. وفي مرضه الذي مات فيه وصى بالأنصار خيرًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ((أما بعد: فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) رواه البخاري عن ابن عباس. وكان من آخر وصاياه ما قاله أنس بن مالك : كانت عامة وصية رسول الله حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، حتى جعل رسول الله يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. رواه الإمام أحمد في المسند.
كانت هذه صورة مختصرة عن حدث وفاته ، وكانت مدة مرضه عشرة أيام كما عند البيهقي بإسناد صحيح.
أما تغسيله فقالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي قالوا: والله، ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟! فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. رواه أبو داود.
وأما الصلاة عليه ففي مسند الإمام أحمد سئل أبو عسيب مولى رسول الله وقد شهد الصلاة على رسول الله : كيف صلي عليه؟ قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر. وفي مصنف بن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمرا زمرا يصلون عليه ويخرجون، ولم يؤمهم أحد.
وأما دفنه فقال ابن إسحاق: "وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله "، وألحد في قبره لحدًا. وعن أنس بن مالك قال: ولما نفضنا عن رسول الله الأيدي وإنا لفي دفنه ـ مشغولون ـ حتى أنكرنا قلوبنا، أي: لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة؛ لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول من التأييد والتعليم. رواه الترمذي وصححه.
ولما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟! أخرجه البخاري. قال أبو ذؤيب الهذلي ـ كما في فتح الباري ـ: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله. وقال عثمان : توفي رسول الله فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة ـ وقد بويع أبو بكر ـ إذ مر بي عمر فسلم علي، فلم أشعر به لما بي من الحزن. وفي الصحيحين عن أنس أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله.
ولنا معه لقاء على الحوض المورود، وهذا ما يعزينا في نفوسنا من فقد رسول الله ، أننا نرجو لقاءه والشرب من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدا إن شاء الله تعالى، ومما يعزينا أيضا أننا نحرص على اتباعه والتمسك بسنته والأخذ بما أمرنا به والانتهاء عما نهانا عنه.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولا عن رسالته، اللهم لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة، لا نرد ولا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد اجتمع في هذا الشهر ـ أعني شهر ربيع الأول ـ أحداث ثلاثة هي مولده وهجرته ووفاته ، ولا ريب أن كلا منها كان حدثا مهما في حياة المسلمين، لا بل في حياة الثقلين أجمعين. ولو وقفنا أمام هذه الأحداث محاولين الوقوف على أهمها لجاز لنا أن نقول: إن ميلاد النبي حدثٌ مبارك، حيث أشرقت الدنيا بمولده، لكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل عليه الصلاة والسلام. والحدث الأهم من ولادته هو هجرته التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مر الزمن، ولأهمية هذا الحدث فقد أرخ به عمر بن الخطاب والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي، وقد روى ابن أبي شيبة عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها.
ولكن الحدث الأهم في سيرة النبي هو وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((إذا أصاب أحدكم مصيبةٌ فليذكر مصيبته بي؛ فإنها من أعظم المصائب)) رواه الدارمي وصححه الألباني. قال القرطبي: "وصدق رسول الله لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه". فأشار رحمه الله إلى أمر عظيم انقطع بموت النبي ، ألا وهو انقطاع الوحي الذي كان يتنزل من يوم أهبط آدم إلى الأرض، فانقطع بموته.
إخواني في الله، دخل أبو بكر وعمر على أم أيمن بعد وفاة النبي يزورانها كما كان رسول الله يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟! ما عند الله خيرٌ لرسوله، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم.
أجل، لقد كان موت النبي أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة مطلقا، وكان له أثره العظيم على نفوس الصحابة وحالهم، حتى صدق فيهم وصف عائشة رضي الله عنها: صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم. يقول أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. صحيح سنن الترمذي. ويقول أنس أيضا: قل ليلة تأتي علي إلا وأنا أرى فيها خليلي عليه السلام. يقول ذلك وتدمع عيناه. رواه الإمام أحمد.
فموته كان حدثا جللا عظيما، يقول ابن رجب في لطائف المعارف: "ولما توفي رسول الله اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية".
قال ابن حجر: "وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعا... ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه. وله من العمر ثلاث وستون سنة"، فأيُّ احتفال يكون في يوم أصيبت فيه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها؟! ويقول الفاكهاني: "هذا مع أنَّ الشهر الذي وُلِد فيه هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه".
فهذه الأحداث الثلاثة ـ أعني ولادة النبي وهجرته وموته ـ كلها وقعت في شهر ربيع الأول، ومع ذلك لم يُحْدِثِ الصحابة في هذا الشهر أيَّ عبادة دينية تذكرهم بهذه الأحداث؛ لأنهم فهموا أنَّ كمال الاقتداء والمحبة إنما هو في الاتباع لا في الابتداع، جيل فريد ربَّاهم النبي على التمسك بشعائر الدين، فلم يزيدوا عليه قدر أُنملة، فأين من يدَّعي الاقتداءَ والمحبةَ من أصحاب الموالد؟! أين هم من هدي ذلك الجيل؟!
وفي النهاية أقول: إن ما يقوم به بعض المسلمين في هذه الأيام من الاحتفال والفرح بمولده وتوزيع الحلوى وإنشاد القصائد الشركية وقراءة قصة المولد والوقوف عند الوصول في القراءة إلى قولهم: ولد النبي، واعتقادِ أنه يحضر مولدهم، وإقامةِ حلقات الذكر الصوفي وما فيها من هز ونط، كل ذلك بدع محدثة في دين الله عز وجل، الواجب على المسلمين وأهل العلم خاصة أن ينكروها ويحذروا منها ومن حضورها، بل ويحاربوها، كي لا تصبح مع مرور الأيام دينا يُتقرب بها إلى الله تعالى. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
اللهم صل على محمد...
(1/4447)
آداب استعمال الهاتف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
أحمد المتوكل
تاونات
مسجد الرميلة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تميز العصر الحاضر بالتطور الإلكتروني. 2- التقنية الحديثة وتقريب البعيد. 3- وجوب شكر الله على هذه النعم. 4- فوائد ومزايا جهاز الهاتف. 5- آداب وتوجيهات في استخدام الهاتف. 6- الحذر من استغلال الهاتف في المحرمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يُعرف عصرنا هذا بأنه عصر المعلوميات والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال السريعة المتطورة، وعصر الثورات العلمية الهائلة والكشوفات العظيمة، وعصر الصواريخ والأقمار الصناعية، وغير ذلك مما جادت به العقول المفكرة والأيدي المبتكرة والطاقات العلمية المشكورة التي سخرها الله ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ بقَدَره وقُدْرته، وأمدَّها بالتفكير والتدبير لخدمة الإنسانية على اختلاف عقائدها ومِللها وأجناسها ولغاتها وأماكنها، وتقديم النفع لها، وتيسير سبل العيش عليها في هذه الدنيا المترامية الأطراف، ذات الجبال والصحاري والبحار والقِفَار، لعلها تَذَّكّر فتكون هذه المخترعات والوسائل رسلَ خير توصل للإنسانية دين الله، وتصلها به، ممن كتب الله له في سابق أزله الإيمان والاستجابة.
أيها المؤمنون، لقد أصبح سكان العالم اليوم يعيشون متقاربين متواصلين، وكأنهم في قرية صغيرة متشابكة متصلة بخيوط عنكبوتية مرئية وغير مرئية، وكل هذا بفضل الله ثم بفضل وسائل وشبكات الاتصال الهائلة الحديثة من تلفون وناسوخ وإنترنت، وأجهزة متطورة ناقلة للصوت والصورة في بث حي مباشر عبر الأقمار الصناعية التي تتجول في الجو لهذا الغرض، إذ لولاها لما قامت الأجهزة الأرضية بعملها، حتى أصبح في مقدور الإنسان في أي بقعة من العالم كان أن يتصل متى شاء بمن شاء ويتواصل معه، ويقضي منه مآربه وحاجياته بشكل ميسَّر وفي أقرب وقت وبأقل التكاليف المادية والمعنوية.
أيها المسلمون، يجب على المؤمن أن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل هذا حدث بتسخير وتقدير القادر الوهاب سبحانه الذي خلق فسوّى وقدَّر فهدى، والذي خلق كلَّ شيء فقدره تقديرا، فالله عز وجل هو الذي أوجد هذا الكون، وأودع فيه كل ما يحقق السعادة للإنسانية، ويجعلها تعيش في راحة وهناء واطمئنان، وجعل فيه من الإمكانيات والمواد التي تُستخدَم لصالح الإنسانية، وهدى إليها العقول المبتكرة المخترعة، فاخترعت وأبدعت وصنَّعت وطوَّرت، فسبحان الذي خلق فسوّى، وقدَّر فهدى، وأوجد فأرشد، وأنذر فأعذر. قال الخالق الهادي سبحانه وهو يمتنّ على عباده: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13]، وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
أيها المؤمنون، ومما ابتكرته العقول المفكرة الذكية المبدعة التي سخرها الله لنفع الإنسانية وجعلها واسطة في تبليغ نعمه لخلقه الهاتف أو ما يُسمّى بالتلفون، هذه الوسيلة العجيبة الغريبة التي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل واسع ملفت للانتباه، التلفون هذا الجهاز الصغير الكبير ـ فهو صغير في حجمه كبير في نفعه ـ تُقضَى به المآرِب، ويقرِّب بين الأحبة، ويحقق الاتصال والتواصل والقرب بين الأحباب، وينقل الناس من عالم إلى آخر، حيث يتقارب الزمان، وتُطوَى المسافة، وتوصل الأخبار من بعيد الأقطار في أوقات قِصَار، ويُخفّف من المشاق والمتاعب، ويقي من الهموم والمصائب لمن أحسن استعماله، ويوصل بين الأرحام والأصدقاء الأباعد، إنه نعمة عظمى أنعم بها الله سبحانه على أهل هذا العصر رحمة بهم وتخفيفًا عنهم لمَّا تداخلت الأمور، وتُبُودِلت المصالح بين الناس، وحينما احتاج بعضهم إلى بعض في بقاع هذا العالم المتباعدة أقطاره، إنه بحق نعمة كثُر نفعها، ووجب شكرها، وتحتَّم معرفة آداب استعماله؛ حتى لا يأثم مستعمله، بل يؤجر وينتفع ولا يضُرّ ولا يتضرّر.
أيها الإخوة المؤمنون، وهذه بعض الآداب والتوجيهات الإسلامية جمعتُها لمن يستعمل الهاتف، ومن منا اليوم لا يستعمل هذه الوسيلة في حياته؟! ومن إحسان الله بخلقه أنه كلما كثرت البشرية وتعقّدت الأمور أظهر ما يُخفف من الأزمات، ويحلُّ المشكلات، ويقرِّب الشُّقَّة، ويزيل المَشَقَّة، ويُيسّر الصِّعَاب، ويزيل الأتعاب، فسبحان الرحيم بخلقه اللطيف بعباده، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر:61].
أولاً: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يختار الأوقات المناسبة لذلك، ويتجنب الاتصال بالناس في أوقات صلاتهم أو نومهم أو أكلهم أو عملهم؛ حتى لا يُقلقهم، ويؤذي مشاعرهم، ويُفسِد نومهم، ويقطعَهم عن أكلهم أو عملهم أو حاجاتهم، فيحصل بذلك الإيذاء النفسي، وإيذاء الغير منهي عنه في الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تؤذوا المسلمين)) رواه الترمذي عن ابن عمر في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن. فلا ينبغي الاتصال في مثل هذه الأوقات، إلا في حالات الضرورة والاستعجال والطوارئ مع سابق الاعتذار والتلطّف.
ثانيًا: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يتأكد من صحة الرقم الذي يطلبه قبل بدء الاتصال، حتى لا يركِّب رقمًا خاطئًا؛ لكي لا يوقظ نائمًا، أو يزعج مريضًا، أو يقلق آمنًا، أو يُروّع مطمئنًّا، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لرجل أن يُروّع مسلمًا)) رواه الطبراني في الكبير عن النعمان بن بَشِير ورواته ثقات.
ثالثًا: على كل من طلبه أحد في الهاتف أن يجيبه، ولا يقطع عنه مكالمته، فكثير من الناس إذا اتصل به أحد ولم يرغب في الكلام معه قطع عنه المكالمة، وأغلق الخط، وأطفأ الجهاز، وربما كذَب وقال له: أنا لستُ الذي تطلبه، أو لستُ في مكان قريب منك. وهذا ليس من أخلاق الإسلام؛ لأن إجابة المنادي وردّ الجواب وإجابة الدعوة من الواجبات، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((للمسلم على المسلم ست)) ، وذكر منها: ((ويجيبه إذا دعاه)) رواه الترمذي عن الحارث بن علي في كتاب الأدب، باب: ما جاء في تشميت العاطس. قال صاحب تحفة الأحوذي شارح جامع الترمذي: "أي: إلى دعوة أو حاجة"، ومن لم يرغب في الكلام مع أحد فيصارحه بذلك، وليصدق معه، وليعتذر له بعذر مقبول كالمَعَارِيض، روي عن الرسول أنه قال: ((إن في المَعَارِيض لَمَنْدُوحَة عن الكذب)) ، وعلى منِ اعتُذِر إليه أن يقبل الأعذار، وليحسِّن الظن بمن اعتذر له.
رابعًا: من اتصل بأحد أو اتصل به غيره مُشافَهة أو بالرسائل الصوتية أو المكتوبة فليكن أول كلامه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهي تحية الله للمؤمنين في الجنة، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، وتحية الملائكة لأهل الجنة، وتحية المرسلين، وبها يُبدأ الكلام عند المسلم كما بها يُختم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطعمُ الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) متفق عليه، وقال الرسول الكريم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم عن أبي هريرة. وعلى المسلم عند بدء المكالمة أن يتجنّب استعمال الكلمات الأجنبية مثل: "ألو" وغيرها؛ لأنها ليست من تحياتنا نحن المسلمين.
خامسًا: وإذا كان الجهاز مُزوَّدًا بآلة تصوير (كاميرا) فلا ينبغي لمستعمله أن يُصوّر به الأجسام العارية، ولا المناظر القبيحة الفظيعة، ولا كل ما يحرُم النظر إليه، ولا يصور به إلا المناظر الطبيعية، وما لا يلحق ضررًا نفسيًّا أو مادّيًّا بأحد.
سادسًا: أن يتجنّب المسلم استخدام أسلوب الجواسيس في اتصالاته، حيث لا يعرِّف بنفسه ولا بقصده من مكالمته، بل بمجرد ما يُلقِي المتصل السلام على من اتصل به عليه أن يُعرِّف بنفسه وبالمكان الذي يتكلم منه، ويصرِّح بقصده، ويُفصِح عن غرضه من مكالمته بأدب واحترام وحسن تحية وفصيح كلام، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13].
سابعًا: من أجابَتْه امرأة أو اتصلت به فليحترمها، وليتكلم معها باختصار وبأدب ووقار، ولا يَخرُج عن الموضوع الذي يتكلمان فيه، وعليها هي كذلك أن تجيبه بأدب واحترام وحِشْمة غير خاضعة بالقول؛ حتى لا يطمع أصحاب القلوب المريضة وذوو الأهداف السيئة، ولا ينبغي أن يوحي بعضهم إلى بعض زُخْرَف القول غرورًا، قال الله سبحانه مُوجّهًا للرجال: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا [النساء:5]، وقال للنساء: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
ثامنًا: إذا اتصل بنا أحد فلا ينبغي أن نطيل معه الكلام إلا إذا رغب في ذلك، وليكن كلامنا معه مختصرًا موجزًا هادفًا نظيفًا لطيفًا، اقتداء بالرسول الذي كان كلامه قَصْدًا وخاليًا من الفُحْش والإيذاء، كما ينبغي أن لا ندخل في غير الموضوع، أو نُكثر الكلام معه فيضيع رصيده من المكالمات، فنؤذي مشاعره فنأثم، ونتسبب في ضياع ماله بغير رضاه، وإضاعة مال الغير محرَّم ممقوت، وكذلك إذا استعملنا هاتف غيرنا، وإن بعض الناس أثناء المكالمة يمزحون ويلغون، قال النبي الكريم: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب البر والصلة والآداب. فتطويل المكالمة وتمديدها بغير رضا المتكلم مساهمة في ضياع ماله وارتفاع فاتورة مكالماته واستنزاف جيبه، وهذا ما لا يرضاه الإسلام في التعامل مع الناس، وإذا كان الله قد كَرِه القيل والقال في الكلام العادي الذي لا يضيع معه مال، فكيف بالكلام الكثير الفارغ التافه الذي كلما زاد واسترسل ازداد معه المال ضياعًا؟! قال الرسول الكريم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا)) ، فذكر ما يرضاه الله وقال: ((ويكره قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) رواه مسلم عن أبي هريرة، والكراهة هنا تحريمية.
تاسعًا: على المؤمن أن يكون حازمًا في استعماله للهاتف، ولا يستعمله إلا في الحالات المهمة، حتى يحفظ ماله، ويضعه في موضعه، ولا يبذِّره تبذيرًا؛ لأن التبذير حرام، والمبذِّر أخو الشيطان، والمؤمن مسؤول عن ماله يوم لقاء الله، وإن كثيرًا من مستعملي الهاتف اليوم من السفهاء والمبذّرين والطائشين يركِّبون الأرقام بغير معرفة لأهلها، فيتصلون بهذا، ويتكلمون مع هذه، كل ذلك من أجل التشويش والإحراج والفتنة والبحث عن عشيقة بواسطة الهاتف، فيُشغلون الخطوط، ويضيِّعون أموالهم وأوقات غيرهم، ويؤذونهم بغير حق.
عاشرًا: وإذا كان الهاتف محمولاً فلا ينبغي أن نتركه مُشغّلاً داخل المسجد؛ حتى لا نؤذي عُمَّار بيت الله من الملائكة والمؤمنين، فنشوّش عليهم، ونُذهب خشوعهم وطمأنينتهم في الصلاة إذا اتصل بنا أحد ونحن في المسجد، فتضيع هيبة المسجد، وتزول السكينة منه، فَرَنِين الهواتف المحمولة يحدث أصواتًا مُلْفِتة، وانشغالاً مُلْهِيًا عن صدق التوجه وكمال الحضور، قال الرسول الأكرم : ((ائتُوا الصلاة وعليكم السكينة)).
حادي عشر: ينبغي على المؤمن أن لا يترك الهاتف في متناول المراهقين من البنين والبنات؛ حتى لا يستعملوه في ربط العلاقات الحميمة مع أقرانهم، وكم يكون الهاتف سببًا في تفاهم وتلاقي الطائشين والطائشات وبُغاة الزنا ومقترفي الحرام والإجرام. وإذا تركنا الهاتف في متناول القاصرين إن لم يستعملوه في ربط العلاقات الغرامية الجنسية استعملوه في الاتصال بأصدقائهم ولو لقصد بريء فأكثَروا من المكالمات، فترتفع بذلك فاتورة الاستهلاك، ويضيع رصيد المكالمات، والإسلام حرَّم تضييع المنافع وإفساد المصالح، وكم من أب أزال الهاتف الثابت بعدما أرهقه أهله وأبناؤه بكثرة اتصالاتهم.
ثاني عشر: على المسلم المؤمن أن يستعمل هذا الجهاز الخفيف الظريف لقصد نبيل وشريف؛ لصلة أرحامه الأباعد الذين ربما لا يتمكن من زيارتهم مباشرة، إما لكثرة المشاغل، أو لكثرة تكاليف السفر، أو لبُعد المكان ومشقّة الوصول إليه، فبالهاتف يمكن الاتصال بهم والتعرُّف على أحوالهم وتهنئتهم في أفراحهم وتعزيتهم في مصائبهم، فيهنأ المتصل، وتقرُّ عينه على أحوالهم، ويقضي هدفه دون كثير عناء ودون مشقة السفر وتكاليفه.
وعلى المسلم أن يستعمله في الاتصال بأهل الفضل من العلماء والدعاة البعيدين عنه؛ للتواصل معهم، وسؤالهم عن أمور الدين؛ حتى يسترشد بفتاواهم، ويتبين له طريق الحق والصواب.
ثالث عشر: كما يحسُن بك ـ أخي مستعمل الهاتف المحمول ـ أن تكون رَنّة الإشارة بالمكالمة في جهازك عاديّة تُرضي الأذواق السليمة، ولا تثير العواطف ولا تحرك الغرائز، فلا ينبغي أن تكون رَنّة هاتفك موافِقة للنغمات الموسيقية التي تصاحب الأغاني الفاحشة الماجنة، كما يجب عليك أن لا تستعمل في رسائلك الصوتية أو المكتوبة أو المرسومة الكلمات أو العبارات أو الصور الفاحشة، فكل ذلك منهي عنه، وسبب في الإثم والوزر.
رابع عشر: على المؤمن الذي تم الاتصال به خطأً أو في وقت غير مناسب أن يتلطّف في الرد، ويلتمس الأعذار لمن اتصل به، وليكن حليمًا رحيمًا واسع الصدر، فلا يغضب ولا يسب ولا يؤذي أحدًا، وإن أوذي صبر وغفر، قال الله يوجِّه من قد يُؤذَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، والإسلام الحنيف ينهى عن الغضب واستعمال العبارات الفاحشة البذيئة، وما كان رسول الله فاحشًا ولا مُتفحّشًا قط.
وبعد: أيها المسلمون، فهذه الأجهزة والوسائل التي سخرها الله للناس في هذا العصر من مِذْياع وتلفاز وتلفون وناسوخ وإنترنت وحاسوب وغيرها غير محرمة، ولا قُبح فيها لذاتها، وإنما يَحرُم استعمالها إذا استُعملت في الحرام، أو كانت سببًا فيه أو سبيلاً إليه، وتَحسُن ويُطلب استعمالها إذا نشرت الخير، وأوصلت إليه، وكانت سببًا فيه، وداعيًا إليه، فيجب استعمالها بمراعاة تامة لأخلاق الإسلام وآدابه، ووفق ضوابط الدين الحنيف، ولنشر تعاليمه، وإيصال الدعوة الإسلامية لمن يجهلها في هذا العالم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4448)
أحوال المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد بن راشد الرشيدي
خيبر
جامع التقوى بالثمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرق بيننا وبين السلف الصالح. 2- صور العزة والكرامة في سلفنا الصالح. 3- سبب عزة المسلمين في الماضي. 4- حال المسلمين اليوم. 5- سبب ذل المسلمين. 6- الطريق إلى النصر والتمكين. 7- حرص الكفار على إضلال المسلمين. 8- كلمة للشباب المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن من تدبّر أحوال المسلمين في أيام مضَت وأحوالهم في هذه الأيام ليرى الفرق الشاسع والبونَ العظيم بين الحالين، لقد كان المسلمون في الماضي أعزة منتصرين، فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، لم يستعص عليهم بلد، ولم يقف أمامهم جيش، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، ومع هذا كله فإنهم لم يتركوا بلدًا إلا فتحوها، كانوا يخرجون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم لنصرة هذا الدين.
هذا ربعي بن عامر رضي الله عنه يقف أمام ملك الفرس بكل عزة وفخر يقول: (أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدالة الإسلام). وهذا عقبة بن نافع رضي الله عنه يقف على أطراف المحيط الأطلسي بعد أن فتح بلاد المغرب ويقول: (والله، لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضًا لخضته غازيًا في سبيل الله).
ولا تزال صور العزة والكرامة في تاريخ هذه الأمة تتجدّد صورة بعد صورة وعصرًا بعد عصر، فهذا المعتصم رحمه الله تستنجد به امرأة مسلمة آذاها أحد النصارى في عمّورية، فما كان منه إلا أن قال وبكل عزة وشهامة: "والله، لا يمسّ شعر رأسي غسل من جنابة حتى أفتح عمّورية"، فجهز جيشه وفتح عمورية، وجعل ذلك الرجل الذي آذى المرأة عبدًا عندها.
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
وهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يستنجد به الأقصى بعد أن لوّثه النصارى، فيجهز جيشه، ومنع الضحك في جنوده، وسار إلى الأقصى بكل عزة وشجاعة، فطهره من أنجاس النصارى، ورده إلى بلاد المسلمين.
هكذا كان المسلمون في الماضي، أعزة منتصرين، لا يعتدي على كرامتهم أحد كائنا من كان، فكيف نالوا هذه العزّة وتلك الكرامة؟! والله، ما نالوا تلك العزة والكرامة إلا لأنهم تمسكوا بدين الله، وأعزوه في أنفسهم، وقدموه على كل شيء، فأعزهم الله ونصرهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. لقد كانوا يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، ويتسابقون إلى بذل المال في سبيل الله، كانوا يتسابقون إلى المساجد وحلقات العلم والإيمان، فأعزهم الله ونصرهم وسخّر لهم جنود السماوات والأرض بقدرته.
عباد الله، وفي هذه الأيام تبدلت أحوال المسلمين، فتبدلوا بعد العزّ ذلاً، وبعد الكرامة مهانة، وبعد النصر هزيمة، يقتلون ويشرَّدون، يعتدَى على ديارهم وتسبَى نساؤهم. هذه الأندلس صارت ديارًا للنصارى بعد أن كانت إحدى بلاد المسلمين، وهذه القدس أولى القِبلتين وثالث المسجدين ومعراج النبي ، الأرض التي بارك الله حولها، التي هي منبع الرسالات وأرض النبوات، هذه اليوم في أيدي اليهود، يقتلون فيها المسلمين، ويخربون ديارهم، ويشردون أطفالهم، والمسلمون يتفرجون أذلة صاغرين كأنهم لا حول لهم ولا قوة. وصار حال المسلمين في كثير من بقاع الأرض شرّ حال.
أحلّ الكفر بالإسلام ضيمًا يطول به على الدين النحيب
فحقّ ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديرًا على محرابه نصب الصليب
دم الْخنزير فيه لهم خَلوق وتحريق الْمصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لطفل فِي عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذًا يطيب
أما لله والإسلام حقّ يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
نعم، هكذا تسلط الكفار على المسلمين في هذه الأيام، لكن السؤال الذي يجب أن يطرح: لماذا صار المسلمون إلى هذه الحال من الذلة والصغار بعد تلك العزة والكرامة التي كانوا عليها؟! والله، ما صاروا إلى هذه الحال إلا لأنهم ضيعوا أمر الله فضيعهم، وطلبوا العزة من غيره فأذلهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله). ووالله، لو تمسك المسلمون بدينهم حق التمسك لما صاروا إلى هذه الحال، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
نعم إخوة الإسلام، لما ضيعنا أمر ربنا وأهملناه وأشغلتنا الدنيا عن الانتصار له والدفاع عنه صرنا إلى هذه الحال، لما استبدل شبابنا المساجد بالملاعب والشوارع أصابتنا الذلة والمهانة، لما استبدلنا أشرطة القرآن وحلقات الذكر بالأغاني والجلوس أمام الشاشات والمباريات صرنا إلى هذه الحال، لما استبدلنا الصدقة والجهاد بالزرع وأكل الربا صرنا إلى هذه الحال، وهذا مصداق قول النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) ، وقول النبي : ((توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ؟! قال: ((لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ويسلط عليكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
نعم والله، هذه حال الأمة اليوم؛ غثاء متشتتين، أحبوا الدنيا وأبغضوا الجهاد في سبيل الله، فاجتمعت الأمم على قتالهم، فوالله لا عزّ لنا ولا نصر إلا بهذا الدين، فإذا تمسكنا به حق التمسك وأقمناه في أنفسنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا وبناتنا فوالله سننتصر على أمم الأرض كلها، وقد تكفل الله لنا بذلك، فقال جلّ وعلا: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ولنا في سلفنا الصالح القدوة الحسنة والسيرة الغراء، فمع قلة عددهم وكثرة أعدائهم فقد نصرهم الله، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنهم أعزوا هذا الدين، وضحَّوا بكل شيء في سبيله، فنصرهم الله وأعزهم.
يا أمة الإسلام لن تتسنمي رتب العلا بالْمال والأحساب
لن تسلكي درب الخلاص بمدفع وبكثرة الأعوان والأصحاب
لن تبلغي إلا بنهج صادق وتعلّق بالخالق الوهاب
تفنى الجيوش وتنتهي آثارها وننال بالإيمان عز جناب
تفنَى القوى مهما تكاثر عدها وتظل قوة ربنا الغلاب
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفوته من خلقه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فلقد أدرك الكفار سبب نصرة المسلمين في الماضي، وعرفوا أنهم ما انتصروا عليهم إلا بهذا الدين، وإلا فهم أكثر منهم عددًا وعدة، ولكن هذا الدين هو سبب نصرهم، فوضعوا أول أمر حتى ينتصروا على المسلمين هو أن يبعدوهم عن ربهم وعن دينهم، فينتصروا عليهم بقوتهم المادية، وأصبح همُّ هؤلاء الكفار ليس قتال المسلمين بالأسلحة، بل هو إبعاد المسلمين عن دينهم، فإذا حققوا ذلك قاتلوهم وانتصروا عليهم بكل سهولة.
وقد بدؤوا هذا المخطط بإفساد شباب الإسلام وإبعادهم عن دينهم، فركّزوا على الشباب والنساء خاصة حتى يضلوهم ويبعدوهم عن دينهم، يقول أحد قادة التنصير: "إن مهمتكم التي ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية هو أن تخرجوا المسلم من الإسلام، فيصبح مخلوقًا لا صلة له بالله"، ثم يقول بعد ذلك: "لقد أعددتم نشًا لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، فجاء النشء الإسلامي مطابقًا لما أردتم، لا يهتم بعظائم الأمور، يحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوة هدفه في الحياة".
نعم يا شباب الإسلام، هكذا أراد الكفار من شباب الإسلام؛ أن يبعدوهم عن دينهم ويشغلوهم بالشهوات والأمور المحرمة عن طريق الإعلام الفاسد من تلفاز ودش وأفلام ومجلات خليعة، حتى لا يهتموا لأمر دينهم وعقيدتهم، شغلوهم بالأمور التافهة كالرياضة واللعب والأغاني، حتى صارت الرياضة هدف كثير من شباب المسلمين، بها يفرحون، وعليها يحزنون، ولها يحبون ويكرهون. أما النساء فشغلوهن بالأزياء والموضات، حتى أصبح كثير من البنات لا هم لها إلا لباسها وزينتها وأن تفتن الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد حرص هؤلاء الكفار على نزع حجاب المرأة حتى تكون فتنة للمسلمين، يقول أحد المستشرقين: "لن يستقيم حال الشرق حتى ننزع حجاب المرأة ونغطي به القرآن"، ويقول كافر آخر: "كأس وغانية تفعل بالأمة المحمدية ما لا يفعل ألف مدفع".
نعم يا شباب الإسلام، هذا ما أراده الكفار بكم، فهل نقول لهؤلاء الأعداء: نعم سنسير كما تريدون ونتبع أهواءكم، أم نقول لهم: كلا وحاشا سنبقى على ديننا متمسكين بعقيدتنا مهما فعلتم وأردتم؟! فلنقف لهم بالمرصاد، ولنضحِّ بكل شيء من أجل ديننا، فوالله إن تمسكنا بديننا فسوف نجد السعادة والعزة والحياة الطيبة السعيدة، وسننتصر على أمم الأرض كلها، وعد من الله، والله لا يخلف وعده.
يا فتية الإسلام هذا يومكم هيا بأخلاق النبي تَخلّقوا
فكوا الحجاب عن العيون فباطل ما يدعيه مغرب ومشرّق
أدوا الأمانة قبل أن لا تملكوا إلا البكاء وحرقة الأكباد
وتوغلوا في كل درب نافع لا تتركوا الميدان للأوغاد
تأتِي البشائر بعد طول مشقة كالغيث بعد البرق والإرعاد
يا شباب الإسلام، والله إن هذا الدين سيبقى على مر الأيام والسنين، فإذا لم ننتصر له نحن وندافع عنه فسوف يهلكنا الله ويستبدل قومًا غيرنا لينصروا دينه ويدافعوا عنه، قال تعالى: إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39].
يا شباب الإسلام، نريد شبابًا مؤمنين حقًا، يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل هذا الدين، شبابًا لا تشغلهم الملاهي ولا الشهوات عن طاعة الله وطاعة رسوله ، شبابًا تربوا في المساجد وفي حلقات العلم والإيمان.
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصِّحاحْ
شعب بغير عقيدة ورقٌ تذريه الرياحْ
من خان حي على الصلاة يخون حيّ على الكفاح
نريد شبابًا يفتخر بهذا الدين ويعتز به، تتجلى فيه آداب الإسلام وأخلاقه، ويعكس للعالم كله الصورة الحقيقية للمسلم الحق. نريد شبابا قدوتهم النبي وصحابته الكرام.
شباب ذللوا سبل المعالِي وما عرفوا سوى الإسلام دينًا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا
وإذا جن الْمساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالي ولَم يسلم إلَى الخصم العرينا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لُحونا
وما عرفوا الْخلاعة فِي بنات وما عرفوا التخنث في بنينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابًا مخلصًا حرًا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تبنى فيأبَى أن يذل وأن يهونا
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يصلح أحوال المسلمين وأن يردهم إلى الحق ردًا جميلاً.وصلوا على النبي المصطفى والرسول المجتبى، فقد أمرنا الله فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4449)
العلاقة الشرعية بين الراعي والرعية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
23/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة النظر والتأمل في العلاقة بين الراعي والرعية. 2- أهمية الإمامة. 3- اهتمام الإسلام بقضية الإمامة. 4- وجوب طاعة الإمام ولزوم الجماعة. 5- مفاسد الخروج على الأئمة. 6- الإصلاح لا يكون بالفوضى. 7- ما يجب على ولاة الأمور. 8- من أصول السياسة الشرعية. 9- الالتحام بين الراعي والرعية في بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الرحمن، خير ما يُوصَى به ويلقَى ويَزدان به اللِّسان نُطقًا وأفضلُ ما نسمو به ونرقَى الوصيَّة بالتقوى؛ فهي الأقوَى والأبقَى والأنقَى، فاتَّقوا الله رحمكم الله، فهي للقلوبِ القوةُ والإشراق، وللأعمال الحقِيقَة والمصداق، وللحياة ـ لعمرو الحقِّ ـ البَلسَم والائتلاق.
أيّها المؤمنون، مِن عَبَق التّأريخ الذي سطَّر بمِدادِ اللُّجَينِ جَلالَ شريعتنا الغراء ودوَّن في طُروس المجدِ مَراسِيَ خِلافتها الشّماء وازدَهى بعِزَّتها القَعسَاء نَستروِح أنسامًا من نُظُم أمّتنا الإسلاميّة وقواعدها الشرعيّة وأحكامها العليّة ووَثيقَ الصِّلةِ السّنيّة بين الراعي والرعية، في تواؤُمٍ بديع خّلاب وتَلاؤُم محكَم مهاب وحقٍّ وواجب متقارَضَين قد أصَّلهما السنّةُ والكتاب، نُزجِي ذلك للحقِّ والحقيقة، في وقفةِ تعقُّل واعتِبار ولحظةِ تأمُّل واستبصار، حين رامَ فِئام الخيرَ والإصلاحَ، فجرَّبوا طرائقَ قِددًا ووسائِل لِبَدا وسلَكوا بُنَيَّاتِ الطريق، فلم تُجدِ في حلِّ المشكلاتِ ولا الخلاص من النّكبات، ولم تسدَّ الفجوةَ، ولم تَردم الهوّة، بل أشعَلتها فتيلاً، وغدا الحالُ بها بئِيسًا ووبيلاً، ولن تجِدَها إلاّ في مسلكٍ واحد ومَنهجٍ رَاشد يتمَّثل في العلاقةِ الشرعيّة بين الرُّعاة والرّعيّة.
يُؤَكَّد ذلك ـ أيّها المسلمون ـ تَبصِرةً للمعرِض القافِل وذِكرى للثّابر الغافل ورِدءًا للمتبصِّر العاقل، على حينِ اعتِرام الفتَن وغلَبَة الأهواء والمحن واندراسِ هذا الأصلِ الأصيلِ مِن الصدور وخُفوتِ ضوئه إلاّ من السّطور، وحَيث استولى لدَى فِئامٍ منَ الناس في بابِ الإمامة الاضمحلالُ والكلال، ولابَس معنى الولايةِ الاستثقالُ والإِمحَال، وعزَّ الإنصاف في هذا الموضوع وغارَ الاعتدال، على ما تقرَّرَ لدَى حُكماءِ الأمَم ورادَةِ العمرانِ البشريّ وأساطينِ الاجتِماع من أنَّ الإمامةَ قِوامٌ للملَّةِ وقَوَّامة على الأمّة؛ بها تُحكَم الأمورَ وتُصان الثّغور وتعمَر الدّور وتقمَع الفتن وتدرَأ المحَن وتصان البَيضَة وتزهِر الفَيضَة ويحفَظ الأمن والنّظام ويُساس الخاصّ والعام وتتهلَّل أساريرُ الإسلام ويعُمّ نوره الساطع الضّرابَ والآكام وتنتشِر العلوم والأحكام، فالقِسط والعدل بالإمامةِ منارُهما دائمٌ، والإحسانُ والفضل بها مَكين الدّعائم، والصّلاح منبسِط ممتدٌّ، والدين في علائِه مشتدّ.
إنها لُحمَةٌ على السّمع والطاعة تنصُّ، وعلى الإجلالِ والمحبّة تحضّ وتخُصّ. إنها علاقة عقديّة تعبُّدية تقوم على ركيزةِ إعلاءِ مصالحِ الدّين ورَفع صَرحِ الشريعة وإِعلاء رايةِ الحِسبة، وتتجافى عن المصالحِ الذاتية والمطامِع الشخصيّة والحبِّ المزعوم والمديح الكاذبِ والإطراءِ المزيَّف والاقتياتِ على فُتاتِ موائدِ الأحداث، عن عثمانَ رضي الله عنه قال: (ما يزَعُ الإمام أكثر ممّا يزَع القرآنُ) أخرجه ابن عبد البر، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "الفتنة إذا لم يكُن ثَمَّ إمامٌ يقوم بأمرِ النّاس"، ويقول الماوَرديّ رحمه الله: "فكانَت الإمامةُ أصلا، عليه استقرَّت قواعد المِلّة، وانتظَمَت به مصالح الأمّة، حتى استَثبتَت بها الأمور العامّة والخاصّة"، ويقول القلعيّ الشافعيّ: "نِظام أمرِ الدين والدنيا مقصودٌ، ولا يحصُل ذلك إلا بإمامٍ موجود، لو لم يكن للناس إمام مُطاع لانثلمَ شرفُ الإسلامِ وضاع، ولتعطَّلت الأحكام، وفسَد أمر الأنام، وضاعتِ الأيتام، ولم يحَجُّ البيت الحرام".
معاشرَ المسلمين، ولهذه المكانةِ الزاهرة والمفاخِر الظاهرة والأحكامِ الباهرة كان الشرعُ الحكيم بتلكَ الرّتبة حفيًّا، ولمقدارِها المُنيف معظِّمًا ووفيًّا، يقول جل شأنه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "والظاهرُ ـ والله أعلم ـ أنها عامَّة في كلِّ أُولي الأمر من الأمراءِ والعلماء"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلا أن يُؤمر بمعصيةٍ، فإن أمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة)) أخرجه البخاري، وعند مسلمٍ: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حمِّلوا، وعليكم ما حمِّلتم)).
ومِن آثار السّلف رحمهم الله في تعزيزِ هذا الأصل العظيمِ قولُ الإمام الطحاويّ رحمه الله: "ولا نرَى الخروجَ على أئمَّتنا وولاةِ أمورنا وإن جاروا، وندعو لهم ولا ندعو عليهم، ولا ننزِع يدًا من طاعتِهم، ونرى طاعتَهم من طاعةِ الله عزّ وجلّ فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصّلاح والمعافاة"، وقولُ أبي زرعةَ وأبي حاتم: "أدركنا العلماءَ في جميع الأمصار حِجازًا وعراقًا شامًا ويمَنًا، فكان من مَذهبهم: ولا نرى الخروجَ على الأئمّة، ونسمع ونطيع لمن ولاّه الله عزّ وجلّ أمرَنا، ولا ننزِع يدًا من طاعةٍ، ونتَّبع السنة والجماعةَ، ونجتنِب الشذوذَ والخلاف والفُرقة".
من أجلِ ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ كانت قضايا إقامةِ التشريعِ الإسلامي والحثِّ على الطاعة ولزومِ الجماعة وإقامةِ الولاية الحكيمةِ مِن أفدحِ المشاقّ والمسؤوليات وأثقلِ الأعباء والأماناتِ التي أناطها البارِي جل وعلا في عنُق كلِّ مسلم، فضلاً عن الولاةِ، وما نَسيج الأمة المسلمةِ الذي لُحمَتُه الإمام المقسِط وسَداه الرّعيّة السميعة إلا ثمرةٌ لتلك الأحكامِ التي في أكنافِها يبسُقُ الإسلام ويعِزّ أهله وتتحقَّق مصالحه وتتجلَّى إِشراقاتُه وجماليّاته ويؤتِي أُكُله كلَّ حين بإذن ربِّه.
إخوةَ الإيمان، إنها لَقضيّة أوجب بسطَها نَدُّ الفَهم وغَلَبة الوَهم، واقتضت أُلفة الجماعةِ سَبر أغوارِها وتجليَة أخبارِها التي عتَّمها بعضُ الصّلَف البشريّ والعتُوّ الأرعن والجعظريّة الممقوتة والادِّعاء الزائف من عُميِ الأبصار وطُمسِ البصائر؛ ممّا حمَل أقوامًا توشَّحوا سِربال الاستِصلاح أو الإِصلاح إلى بَسط أقوالهِم وأقلامِهم في نقدٍ مشحونٍ بالشّكوى والتبرُّم والتذمُّر، نفدٍ مُفعَم بالتركيزِ على السّلبيات وتتبُّع السّقَطات وجلدِ الذّوَات ونشرِ النقائصِ والسّوءات على كلِّ الشبكاتِ والمنتديَات.
وشرُّ الناس ما بين الورَى رجلٌ مِثل الذباب يُراعي مَوضِعَ العِلَل
مُنساقين وراءَ عشوائيَّة القول ونَزَق العَقل وحَبائل الهوَى ورَغائب النّفوس بدَعوى التطويرِ والمشاركةِ الفاعِلَة، يقول الإمام الشوكانيّ رحمه الله: "ينبَغي لمن ظهر له غلَط الإمام في بعض المسائلِ أن يناصِحَه، ولا يظهر الشناعةَ عليه على رؤوسِ الأشهادِ".
ومن ظنَّ أنَّ النقدَ لأهلِ الحلِّ والعقل والعلماء والدعاةِ ورجال الخير والحِسبة على هذا المنوالِ منطوٍ على إساءاتٍ زريّة وطعونٍ مُغرِضة فَريّة بحجَّة الإصلاح أو النصيحةِ أو الجرأةِ في الحقّ فقد جانبَ الصّواب وأبعد النجعةَ، وعَينُ النصيحة نبذُ ذلك؛ لإفضائِه بِتماسكِ الأمّة وتَرابُطِها إلى يَباب الفُرقة ورُعوناتِ الأهواء، ولخُلوصه إلى انتقاصِ مَن جاء الشرع برعايةِ حقوقهم وحِفظ هيبَتهم. وليس ذلك ـ يا إخوةَ الإيمان ـ مما يُزعم من حريَّة الرأي والتعبير ولا مِن رُؤَى التّعمير في قبيلٍ أو دَبير، وما هو إلاّ مِعوَل الهدمِ والتدمير. وعلى الأمةِ بكلِّ أطيافها ـ لا سيَّما دعاتُها وشبابها ـ أن تحذرَه وتخشاه وتتجانَفَ عن جرَّائِه ولأوَاه، ولا يَلزَم من ذلك التّرك والتغَاضي والتجافي عن الاحتِساب والتواصي؛ فأهمُّ من النُّصح أسلوبه وتحقيقُه للمصالحِ العظمى ودَرؤُه للمفاسد الكبرى، يقول الإمام القرافيّ رحمة الله: "ضَبطُ المصالحِ العامّة واجب، ولا ينضَبِط إلا بهيبةِ الأئمّة في نفوس الرعية".
أمّةَ الإسلام، ومِن نَبواتِ الأفهام وكَبوات الأقدامِ في كثيرٍ منَ المجتمعات ولدى كثيرٍ منَ الفئام والأطيافِ أنَّ التغييرَ والإصلاحِ كامِنٌ في المروقِ والإيجاف والصّولةِ والإرجاف، دون تبصُّرٍ في النتائجِ ونظَر في العواقب وتنوُّرٍ للآثار والمآلات بفهمٍ حصيفٍ ثاقِب، أو أنّه يكمُن في التنصّل من الدين والتميُّع في تطبيقِ الشريعة وتقديمِ التنازلاتِ تلوَ التنازلات والانفلات من الثوابِت والمبادئِ والقِيَم والانسياقِ وراء الانفتاحِ اللامُنضَبط دون مراعاةٍ لخصوصيّةِ الأمة المسلِمة ومميِّزات المجتمع المحافظ، لا سيّما في مجالِ التعليم والإعلام وقضايا المرأة.
سَلوا علماءَ الملَّة وحُكّام الأرض قاطِبةً والأمّة، استَعبِرا عَصرَكم الراهِن، اقرؤوا التأريخ، تأمَّلوا الوقائعَ والأحداث وما يَكمن فيها من عظاتٍ وعِبَر وما تنضُح به من قوانينَ لازِبَة وسُنَن، سلوهم جميعًا أو أشتاتًا: هل دفَعت المناوشاتُ والمصاوَلات والمصادَمات بين الرعيّة والرُعاة ضِيقًا وضيرًا؟! وهل جلَبتِ انفراجًا وخيرًا؟! كلا يا محبُّ ثم كلاّ، فما زادَت تلك الوسائل الأمّةَ إلا جراحًا، ولا أهلَ الدين والدعوةِ وأعمالَ الخير إلاّ شِدّةً ووَهنًا وأتراحًا، يعلم ذلك من لَه أدنى مَسكَة من علمٍ أو نهى.
وايمُ الله، إنَّ مِن الغبنِ لديننا والهضمِ لأمّتنا ـ وهي تحتَسِي الهمَّ والضّنى وتتجرَّع في كلِّ شبرٍ الصّابَ والعلقم ـ أن نغرِقَها في لُجَج المآسِي الذاتيّة، وأن نزيدَ من ضِرام الفِتن بين جَنَباتها، فكفاها ما دَهاها، ونَصرِف هممَنا عَن قضاياها الجلَّى وآمالِها الكبرَى، وما يرزَح تحت وطأَته كثيرٌ من الأنحاءِ جرَّاءَ الفِتَن والابتِلاء من القِوى الغاشمةِ والنُّظُم الظالمة ليس مَساغًا البتّة للتّناوُش والتّأليب.
مَن يلاقِ النارَ بالنارِ يزِدها لهبًا اطفاؤُه يغدو مُحالا
وأيّ برهانٍ ـ يا رعاكم الله ـ ينتزِعه العدوُّ المتربِّص وراءَ الأكمة على أنّنا أمّةٌ مستضعَفَة محتَرِبة أكبر من هذا؟! ساعةَ إِذ سَيشعُر الأعداءُ بالرِّضا والأمل لمزيدِ استقطاع أراضي أمَّتنا وبسطِ مَكرهم وقَهرهم ونفوذِهم. وليس يعزُبُ ذلك عن أولي الألبابِ والبصائر، وإنما يُعتَقَد وإليكم يُساق لَهُو والله صَفوَة الحبّ والودّ ومَحضُ النّصح والإشفاق، وأَلِيّة بالذِي وضع موازِنَ القِسط لا إله غيره أنّه ليس لأحدٍ مُجامَلة ومَدحًا، ولا لغيره ذمًّا وقدحًا، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:8].
أيها الإخوة الأحبّة، ومن أهمِّ الواجبات المرعيّة على من وَلِي أمرَ الإمامة في الرعيّة حسنُ السياسَة الشرعيّة وكمال الأمانة وتمامُ المسؤوليّة، عَدلٌ في الرعيّة، وقَسم بالسَّوِيّة، ومُراقبة الله في كلِّ قضيّة، ومِن آكد ذلك بسطُ الأمن ومدُّ رواق العَدل؛ إذ هو نِبراس الدّين والهدى، وبه تَنجلي ظلماتُ الغيّ والرّدَى، وبه تأتَلِف القلوب وتسعَد الأمّة على الوجه المطلوب، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وفي الحديث أنَّ رسول الله قال: ((المقسِطون على منابرَ من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يدَيه يمين؛ الذين يعدِلون في حكمِهم وأهليهم وما وَلوا)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
عن العدلِ لا تعدِل وكُن متيقِّظًا وحكمُك بين الناس فليَكُ بالقِسطِ
وبِالرّفق عامِلهم وأحسِن إليهمُ ولا تُبدِلَن وجهَ الرّضا مِنك بالسُّخط
ومِن ثَمَّ فعلاقةُ الإمامِ بأمّتِه والرّاعي برعيّته كعلاقةِ ربِّ الأسرة الرحيمِ بأفراد أسرتِه؛ يبذُل جهدَه لإسعادها، ولا يدّخر وُسعًا لمَدِّ فُسطاط الأمنِ والرّفق والتراحم والرخاء في أنحائِها، ينساق إلى تحقيقِ ذلك برُوح من الرّحمة والإخلاص ومخافةِ الله سبحانه.
ومِن أصول السياسة الشرعيّة عَدم الظلمِ والاعتساف؛ لأنَّ الظلم بابُ الفتن وبَريد القلاقلِ والمحَن ومُتبِّرُ الديار ومؤذنٌ بِغَضب الجبّار ونِقمة التّقاةِ والأخيار، ولم يكن امتطاء صهوةِ الاستبدادِ والنّهرِ والإقصاءِ والقَهر والمشقّة والإِعنات وقَصم الظّهر عبرَ التأريخ مؤلِّفًا للقلوب ولا دافعًا للخطوب، بل بالرّفق والعفوِ والحِلم والحكمة والرّحمةِ والحِوار تتحقَّق المقاصدُ الشرعية الغِزار والآمال العظيمة الكبار، يقول في وعيدٍ شديد: ((اللّهمّ مَن ولي من أمرِ أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِي من أمرِ أمتي شيئًا فرفَق بهم فارفُق به)) أخرجه الإمام مسلم.
ذلك، ولكي تبلُغ الأمة ذُرى الائتلاف والتراحم والوِدادِ لزِم الإمامَ توقيرُ حرمةِ الإمامة، واستيفاء توقيرِ الرعيّة ورعَاية مصالحها، وتَولَية الأكفاءِ الأمناءِ في ثغورِها ومسؤوليّاتها، واتخاذُ البطانةِ الصالحة الناصحةِ لصلاح البلاد والعباد، وردُّ المظالم وإيصال الحقوق لأصحابها.
إخوةَ العقيدة، ولا غِنى للإمامةِ المقسِطة التي تتَغيَّى منازلَ السؤدَد ومدارات المجدِ عن رجالٍ مخلَصين وفي مقاصِدِهم مخلِصين، يجمعون إلى العِلم ومَديدِ النُّهيَة الشجاعةَ في الحقّ، وإلى الشجاعةِ الحكمةَ والبصيرةَ والعقلَ والحِكمة، يشاوِرونهم في المهِمّات والنوازل والملِمّات وفي مناحي الأحكام ومصادِرِ النقضِ والإبرام، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، قاصدين عزَّةَ المجتمع وسعادتَه ووَحدتَه واستقامته؛ إذ لا إصلاح إلا بالدّين، ولا كمالَ دينٍ إلاّ بالعِلم، ولا علمَ إلا بالعَقل، ولا عقلَ إلا بعلُوِّ الهِمّة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، والله من وَراء القصد، وهو يهدِي السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
نفعني الله وإيّاكم بالذكر الحكيم وبهديِ سيّد المرسَلين، أقول قَولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ خطيئة وإثم، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا، وتوبوا إليه إنه كان توّابًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفرّد بالملكوت والسلطان، خصَّ من شاء بمزيد الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً نرجو بها الغفران والرضوانَ وأعاليَ الجنان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أشرفُ من درج على ثرى أقدس البلدان، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه البالغين ذرى القسط والإيمان، ومن ترسّم سيرتهم إلى يوم القيام للملك الديّان.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله حقَّ التقوى، وتذكَّروا الإرماسَ والمثوَى، فإمّا لظى عياذًا بالله، وإمّا جنّة المأوَى.
عبادَ الله، ولِما ظَهر من حاجةِ الأمصار إلى قوّةِ الإمامة، ولِما وجَب مِن لزومِ الائتِلاف والتّجافي عن التفرّق والاختلاف، ولِشيوع الاضطراب وتبايُن المشارِبِ في كثيرٍ من المجتمعاتِ وجَب على الراعِي والرعيّة التوارُدُ على الوفاق والتراحم والتنادِي على كلمةِ السّواء؛ للَمِّ الشعث ورأبِ الصدع، في خطابٍ يَهمِي بالمعاني الجوهريّة المتبادَلَة عبقًا بالسموِّ الخلقيّ والتجرُّد الشخصيّ النزِيه.
أعطني حبًّا وخُذ منّي وفاءً أعطني عَدلا وخُذ منّي اعتِدالا
وإنَّ مِن شكر النّعماء والتحدُّث بالآلاءِ ما تَعيشه هذه الديار المباركة ـ لا زالت بالإسلامِ منوَّرة وبحراسةِ الله مسوَّرة ـ وما خُصَّت به من كَونها تقدَّست ببيتِ الإلَه الديّان وتنزُّل القرآن ومأرِز الإيمان ومسجِد المصطفى من ولدِ عدنان، ومِن كونها مسرّةَ أهل التّقى والعرفان وبهجةَ الأرض ودرّة الأوطان وجمالَ الأسقاع وأقدَس البِقاع ومهوَى القلوب ومُستَراح الأرواح من النّدوب، فيها بقعةٌ من الجنة وحجَر من الجنّة، وفي الجُملة هل مِن شرفٍ أجلّ وأظهر وأعظم وأبهَر من وجود الحرمَين الشريفين على ثَراها؟!
في هذه الجزيرةِ الفيحاء التَأَم سلطان الشرعِ والعلم والكِياسة بسلطان الحكمِ والملك والسّياسة، وفيها التحَم الرعاة بالولاةِ، في إِرثِ حضارةٍ إسلامية شرعيّة ودَعوة إصلاحيّة سلفيّة مجيدَة، تُعلِي صرحَ العقيدة وترفَع لواءَ السنة وتحيِي منهجَ سلف هذه الأمة.
إني أرى هذه البلاد وأهلها عِقدًا ثمينًا لا يُنال بسوءِ ظنّ
علماؤها حكماؤها أبناؤُها جُبِلوا على حبّ العقيدة والسنَن
فكانَت بحمدِ الله وفضلِه في عَلياء الشّملِ النّظيم وعلى قُنّةِ المنهج الشرعيّ الوسطيّ القويم، وكانت محاسِنَ الإنصافِ المتلوَّة وآثارَ الكتاب والسنّة الغرّ المجلوَّة.
آياتُ فخرٍ تجلَّى نورُها فغدَت مذكورةً بلسان العُربِ والعَجَم
في عالَمٍ يموج بالتحوُّلات والاضطرابات وكثرةِ النوازل والمستجدّات والمتغيِّرات، مع ما يُؤَمَّل مِن بذل المزيد في وسائل الثّبات على ثوابِتِ الدّين أمامَ تربُّص الأعداء الحاقدين وسِهام الخصوم المغرضين.
فيا أحبّتي المخصوصين بهذه النّعَم والمزايا والمنن، يا مَحَطّ آمالِ المسلمين ومَعاقِد عِزّهم المكين، يا مَن تهفو لهم الأمّةُ الإسلاميّة بكلِّ الأشواق في سائرِ الآفاق، هنيئًا لكم هذه المكانةُ والمآثر، فبِها نبتَهِج، وفيها نفاخِر، وحيَّهلاً ثمّ حيَّهلا إلى الحفاظ على عقيدةِ وأمنِ هذه الديار، وأن نصدَّ عنها دعاوَى كلِّ مَن يشرَق بهذه الآلاء من دعيٍّ حاسِد ختّار، ونصونها بإذنِ الله عن شرور طوارقِ الليل ونوازِع النهار ووَبيل المشاربِ والمناهج والأفكار، وامهروا ـ أجزل الله مثوبَتكم ـ لعَلائها ووَحدتِها وتآلُفها خرَائد الحبِّ والإيثار وفَرائدَ الحِكمة والاصطبار؛ تفوزوا وتفلِحوا وتدرِكوا أسمَى آية وأنبلَ غايَة.
يا سامِعًا أصغَى لها إن راقَ معنًى لا تردّ
وافتح له بابَ الرضا وإن تَجِد عيبًا فسُدّ
جعلني الله وإياكم ممّن يستمِعون القول فيتّبعون أحسنه، ويترسّمون من الحقّ أجلاه وأبينَه.
هذا، وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على أكرمِ البريّة وسيّد الناس، خير من قادَ وسَاس، كما أمركم بذلك ربّكم في أصدق قيلِه ومحكَم تنزيله، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على النبيّ المجتبى...
(1/4450)
رسالة إلى أهل العراق
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
23/10/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب توتر الأوضاع في الشرق الأوسط. 2- إطلالة على أحوال العراق. 3- رسالة إلى أهل العراق. 4- استمرار العمليات الإسرائيلية في تهويد القدس. 5- تكفل الله بنصرة دينه وإظهاره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، قالت مصادر صحفية في الولايات المتحدة الأمريكية: إن كبار رجال الساسة والمهتمين بمنطقة الشرق الأوسط أكدوا للرئيس الأمريكي أن تفاقم الأوضاع وتدهور الحالة الأمنية وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط يعود أساسًا إلى إخفاق الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بالتوصل إلى تحقيق السلام بينهما. وأكد المسؤولون الأمريكيون أن عدم تنفيذ ما يسمونه: "خارطة الطريق" والتي ترعاها الإدارة الأمريكية ستزيد الأمور تعقيدًا وزيادة حدة التوتر وأعمال العنف، ويسبب بالتالي الانزعاج والقلق لمصداقية الإدارة الأمريكية في العالم العربي؛ بسبب انحيازها المكشوف لصالح إسرائيل، وأن إدارة الرئيس الأمريكي تتغاضى كليًّا عن الممارسات التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وفي مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية، من مداهمات يومية واغتيالات واعتقالات ومصادرة للأراضي وتوسيع للمستوطنات. وربطت المصادر الأمريكية بين التوتر الذي تشهده العديد من العواصم العربية وبين الأوضاع المأساوية في فلسطين إلى سوء الإدارة الأمريكية التي فشلت في تطبيق ما أسمته الديمقراطية في العراق وإحلال السلام والحرية للشعب العراقي من دكتاتورية النظام السابق.
أيها المسلمون، إن الطائفية المَقِيتة أخذت بُعْدًا خطيرًا بين العراقيين أنفسهم من ويلات التعذيب داخل زنازين ومعتقلات السلطة العراقية الحاكمة والمتمثلة بالطائفة الشيعية، فالعراقيون يعانون من الاضطهاد والتنكيل وشتّى أصناف وألوان العذاب، وإذا كان هذا هو الواقع العراقي فما الذي تغير؟! وهل مصير الشعب العراقي أن ينجر إلى دوامة الحرب الأهلية والتي تحصد الأخضر واليابس؟!
أيها المسلمون، عراق الرافِدَين لم يعد واحدًا، بل هو ساحة حرب، وساحة تفجيرات وانتقامات واغتيالات، آلاف مؤلفة من العراقيين أُزهِقت أرواحهم، الأمر الذي دفع مؤخّرًا بالجامعة العربية إلى إقناع الأطراف المعنية لحضور مؤتمر مصالحة عُقِد في القاهرة؛ لوضع آلية مصالحة، الإدارة الأمريكية رحّبت بقرار مؤتمر المصالحة، بعد أن كانت ترفض أي تدخل في الشأن العراقي عربيًّا كان أم أجنبيًّا، ويأتي الترحيب الأميركي لمؤتمر المصالحة لا لسواد عيون العرب والمسلمين، ولا لوقف حمّام الدم في أرض الرافِدَين، وإنما لوقف النزيف الدموي والحد من الخسائر البشرية في القوات الأمريكية، هذه الخسائر التي أخذت تداعياتها تؤثر سلبًا على الرئيس الأمريكي ومكانته، حيث هبطت شعبيته إلى أدنى مستوى. أمريكا وقوى الشر تُغذّي الاقتتال، وفي الوقت ذاته تُنَصِّب نفسها مصلحًا اجتماعيًّا.
فحذار من الحرب الأهلية والطائفية البغيضة، اسمعوا قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
أيها العراقيون، عودوا إلى رشدكم وصوابكم، وحّدوا صفوفكم، وليكن هدفكم واحدًا، العراق لكم، فلا تدعوا قوى الظلم والعدوان تسلب ثرواتكم وتنهب خيراتكم، لا تجعلوا من عراق الرشيد والمعتصم مقرًّا دائمًا للغزاة والحاقدين، كونوا أمة واحدة كما أرادكم الله، اسمعوا قوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وأنتم تعلمون شرعًا أنه لا يجوز لمسلم أن يشهر السلاح بوجه أخيه المسلم.
أيها المسلمون، شعبنا المسلم في أرضنا المقدسة يكتوي بنار الاحتلال، ويقع حاليًّا ضحية التفاعلات والتناقضات في العالم كله، إذ لم يعد قادرًا على المطالبة بحقوقه المشروعة، ذلك أن إسرائيل تستغل الحملة الدولية ضد الإرهاب لتعكس سياستها التوسعية على حساب الحقوق الفلسطينية، وتخلط بين الإرهاب والحق المشروع، فلم يعد في القاموس الدولي ما يعرف بالنِّضَال العادل والمشروع، وإنما يجب محاربة الإرهاب. وقد كشفت وزارة الخارجية البريطانية النقاب عن وثائق سرية تتحدث عن اعتزام الحكومة الإسرائيلية مواصلة تهويد مدينة القدس، ومصادرة المزيد من الأراضي لإقامة مستوطنات جديدة وتوسيع المُقَامَة، وإقامة نقاط حدود تعيق حركة المواطنين.
أيها المسلمون، الحركة المسعورة لتهويد مدينة القدس لا تزال مستمرة وبشتى الوسائل، فقد قامت دائرة الطابو الإسرائيلية بتسجيل ألف وثلاثمائة عقار داخل البلدة القديمة بأسماء يهود، وأمتنا غافلة لاهية وتحت مسمع العالم، ماذا تبقّى من بيوت وعقارات داخل القدس؟! العقارات تسرّب بطرق غير مشروعة، وقد يتم الاستيلاء عليها عنوة وبالقوة، وقد أعلنت الهيئة الإسلامية العليا رفضها لهذه الخطوة من جانب إسرائيل، ودعت المجتمع الدولي ورابطة العالم الإسلامي إلى التدخل السريع لوضع حد لهذه الممارسات التي تفقد الفلسطينيين حقهم المشروع في ممتلكاتهم. ومن هنا فالواجب أخذ الحيطة والحذر الكامل والتمسك بحقنا وتكثيف السكن والتواجد في البلدة القديمة وعدم إعطاء الفرص والذرائع لغيرنا بالاستيلاء على ممتلكاتنا.
عباد الله، وضمن سياسة تهويد المدينة تعتزم بلدية القدس القيام بحملة واسعة لهدم البيوت في مدينة القدس وضواحيها بدعوى البناء غير المرخص، علمًا بأن البلدية لا تعطي رخص بناء، وتفرض قيودًا تعجيزية تكلف المواطن مئات آلاف من الشواقل للحصول على رخص بناء، قبل الهدم تفرض الغرامات الباهظة والمخالفات المتعددة فيدفعها المواطن لعل الهدم يتوقف، ثم يفاجأ بقرار الهدم، ويصبح البيت رمادًا تجرفه جَرّافات الظلم. فلا الغرامات تعفيه من الهدم، ولا التراخيص بالأمر الهين السهل حتى يحصل عليها، فهل تعرف بلدية القدس أن أعداد الأسر تتكاثر، وأنه لا بد لهم من سكن ومأوى؟! هل تعرف للإنسانية معنى أو العدالة مغزى؟! هل يريدون أن نرحل من أرضنا؟! فليطمئنوا؛ لن نرحل من أرضنا وأرض الإسلام والمسلمين ما دام فينا عرق ينبض.
أيها المسلمون، أفيقوا من سباتكم، وانتبهوا لأنفسكم، فنحن نعيش في زمن المآسي والآلام والأحزان، لم نتذوق حلاوة الإيمان والنصر منذ زمن، وأنتم ترون بأنفسكم أن أفراحكم تتحول إلى أحزان ومآتم، وأبناء جلدتنا يروّجون للكفر والإلحاد والعلمانية والعولمة، وليس لكم من سبيل إلا أن تعودوا إلى طريق الله، وأن تتمسكوا بحبل الله، وأن تعملوا لإقامة دولتكم دولة العدل دولة القوة والتسامح دولة الإسلام دولة الأمن والأمان، فلا تكونوا عونًا للشيطان، وكونوا أهلاً لحمل المسؤولية، وتيقّنوا أن من كان مع الله فلن يخذله، فانصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5، 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله تعالى قد تكفّل بنصرة هذا الدين إلى يوم القيامة وبظهوره على الدين كله، وشهد بذلك وكفى بالله شهيدًا، وأخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة، وأخبر أنهم في أرض الشام، كما أخبرنا أن الساعة لا تقوم حتى نقاتل قومًا صغار الأعين، ذُلْف الأنوف، يَنْتَعِلُون الشعر، كأن وجوههم المجَانّ المُطْرَقَة. وأخبر أن أمته لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعور الدجال حين ينزل المسيح عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأخبرنا أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها، وأنتم تعلمون أن التجديد لا يكون إلا بعد هدم، ويقول نبينا : ((سألت ربي أن لا يُسلّط على أمتي عدوًّا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها)).
وما تزال دلائل نبوته تظهر شيئًا بعد شيء يا عباد الله، وأنتم ترون ذلك بأعينكم، مهما حدث لكم من تعب ونصب فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
عباد الله، نريد مسلمين حقيقة لا بأسماء ولا بالوراثة ولا بالوجود في أرض الإسلام، نريد مسلمين مستعدين أن يبذلوا في سبيل دينهم وأمتهم وعقيدتهم.
عباد الله، إن هذا الدين منصور لا محالة، فكونوا أنتم ـ أيها المؤمنون ـ أنصار الله، كونوا أتباع رسول الله ، كونوا أنتم الفئة المرجوة لنصرة دين الله تعالى، فإن لم تفعلوا: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. كونوا أنتم رجال الإسلام والقرآن والإيمان.
أيها المسلمون، إن الإسلام ـ والحمد لله ـ طود شامخ وجبل راسخ، بل هو أرسى من الجبال لا تزعزعه الرياح مهما عصفت، إن ديننا يمتد هنا وهناك، ويدخل فيه الكثيرون، ونحن موقنون أن المستقبل للإسلام والمسلمين.
عباد الله، نحن ننتظر اليوم الذي يعم فيه نور الإسلام في كل مكان، ووعد الله سوف يتحقق، ولن يخلف الله وعده، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/4451)
وداع العام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انصرام الأيام والليالي. 2- التحذير من طول الأمل وتسويف التوبة. 3- كلمات للغافلين. 4- أهمية محاسبة النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فتزوّدوا بها فهي خير الزاد، واستعدوا بالأعمال الصالحة ليوم المعاد، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40]، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].
أيها المسلمون، لو أعمَل عاقل فِكْره في سرعة مرور الليالي والأيام وشدة تصرّمها لرأى من ذلك عجبًا لا ينقضي، ولو تأمّل متأمّل فيما مضى من عمره طال أم قصر لوجده قد مَرّ كتحريك طرف أو كلمح بصر.
بالأمس بدأت السنة محمّلة بالأيام والليالي، مثقَلة بالساعات والدقائق والثواني، فمرت أيامها تباعًا، وتصرّمت ساعاتها سراعًا، آخذًا بعضها برقاب بعض، ومؤذنًا رحيل أولها بفناء آخرها. مَرّ على الناس ثمانية أشهر كثمانية أيام، ثم دخل شهر رمضان المبارك، وعاش المسلمون فيه أحلى الأيام، وقضوا أحلى الليالي، ثم انقضت تلك الأيام والليالي كساعة من نهار، ومَرّ عيد الفطر ورحل، وانتهى موسم العشر والحج كعشية أو ضحاها، وها هي السنة تكاد تخلع ثيابها وتلقي بخمارها وجلبابها، لتعلن لنا بكل صراحة وتفصح بكل وضوح أننا كنا بكثرة الأيام عند بدايتها مغترّين، وبحبال التسويف في أولها متعلّقين. كم من شخص أمّل أملاً في آخر هذه السنة فمضى وتركه، وكم من عاجز ألهته الأماني حتى أوقعه الشيطان في حبائله وشَرَكِهِ، مسوّف قال: إذا جاء رمضان حافظت على الصلاة، وعاجز وعد نفسه أن يرجع بعد الحج إلى الله، وخَوّار قال: إذا حل الشتاء طال الليل فقمته، وقصر النهار فصمته. ومضى رمضان وانقضى، وبدأ موسم الحج والعشر وانتهى، بل انتهت سنة كاملة، بما فيها من أيام ومواسم فاضلة، وما زال العاجز عاجزًا، وظل المسوّف مسوّفًا.
كلما انتهت سنة ومضت تمنّى المبطلون على الله الأماني في السنة التي تليها، وما علم هؤلاء المساكين أن الزمن إذا مضى لا يعود، وما درى هؤلاء المخدوعون أن العمر يذهب والعامر يخرب، وأن كل يوم يمر على العبد فإنه يزيد في عمره، وينقص من أجله، ويقربه إلى قبره، ويبعده عن أهله. جاهل من يغتر بالشباب، وأحمق من يتعلق بالتراب. ما أجهل مَن أنسته صحته، وما أسفه من أطغته قوته، ويا لخسارة من ألهته دنياه عن آخرته.
يا أبناء العشرين، بادروا الفُتوّة والشباب. ويا أبناء الثلاثين، انتصف العمر وجدّت الركاب. ويا أبناء الأربعين، بلغتم الأشد وحق العتاب. ويا أبناء الخمسين، ضعف الجسم والرأس شاب. ويا أبناء الستين، فُتِح ـ والله ـ للموت باب. ويا من بلغت السبعين أو أكثر، لقد أمهل الله لك وأعذر، أفيجدر بك أن تتراجع وتتقهقر؟! كيف ترضى لنفسك أن تجالس الفارغين البطّالين؟! أم كيف تخوض مع الخائضين وتستهزئ مع المستهزئين؟! بل كيف تجاري أهل الغيبة والنمّامين؟! أما آن لك أن تعود إلى ربك وتبكي على ذنبك؟! أما آن لك أن تشتغل بعيوبك عن عيوب غيرك؟! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
كم أودعت بيديك في القبر من قريب؟! وكم شيعت وودعت من أخ وحبيب؟! ألم تفكر في يوم تكون أنت فيه المودَّع المودَع؟! ألم تعمل ليوم تكون أنت فيه المحمول المشيَّع؟! عجبًا لك ثم عجبًا! كلما ازددت من الآخرة دنوًا وقربًا ازددت من الله بعدًا وهربًا. أيام عمرك في نفاد، وحرصك على الدنيا في ازدياد، لما شاب رأسك واكتمل عقلك وأُمِّل خيرك وطُلِب رأيك سرت خلف هواك وتبعته، وانقدت للشيطان وأطعته، وصرمت قريبك وقطعته، وبخلت بمالك ومنعته. تقضي أول الليل في القال والقيل، وتنام آخره عن الصلاة والذكر والتهليل، تغدو إلى الأسواق، وتطاحن على الدنيا، وتروح إلى مجالس البطالة، وتنسى الأخرى.
نهارُكَ يا مغرورُ سَهْوٌ وغفلة وليلُك نومٌ والأسى لك لازِمُ
تُسَرُّ بما يفنى وتفرحُ بالمُنَى كما سُرَّ باللذاتِ فِي النوم حالِمُ
وشُغْلُك فيما سوف تكره غِبَّهُ كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ
ألا فارجع إلى ربك، واستغفره لذنبك، وابك على خطيئتك، وقدم لنفسك، من قبل أن تقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت، فيقال لك: كلا، إنها كلمة هو قائلها.
أيها المسلمون، إنه يجب على العاقل أن يرجع إلى نفسه، فيحاسبها على ما قدم في يومه وأمسه، فإن كان خيرًا فليحمد الله، وليتزود من الصالحات، وإن كان غير ذلك فليتب، وليتخلص من السيئات. يجب عليه أن يحاسب نفسه في ختام يومه وشهره، وفي نهاية عامه وفي كل دهره، فإن من حاسب نفسه قبل أن يحاسَب خفّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن أهمل نفسه وأطلق لها العَنان ظهرت عند الموت حسراته، وطالت في العرصات وقفاته، وقادته إلى المقت والخزي سيئاته.
إنه لا آفة تأكل العمر وتحصد بركة الوقت مثل التسويف والأماني الكاذبة، ولا علاج يحسم ذلك مثل قصر الأمل وتذكر الموت، يذهب الرجل ليعمل العمل، فتسرقه منه الأماني وطول الأمل، حسن الربيع يلهيه، وحر الصيف يؤذيه، تيبس مع يبس الخريف نفسه، ويتجمّد في زمهرير الشتاء عزمه، وبين تلك الأزمنة وفي أثنائها دوام رسمي يذهب الوقت في خدمة الآخرين من أجل لقمة العيش، وإجازة تقضى في الترفيه والتنزه والتمشي، ساعات تمات في حضور الولائم ولعب الورق، وأخرى في لعب الكرة ومشاهدة الأفلام، وهنا تسكّع وتمشٍّ في الشوارع والأسواق، وهناك قنص وصيد ورحلات وطلعات، وكم للهاتف والجوال وأجهزة النداء من نصيب في قتل الوقت والقضاء على الدقائق الغالية، حيث جعلها كثير من الناس مع الدشوش والحاسب والإنترنت هدفًا، واتخذوها شغلاً وغرضًا. ويا لله! كم نجح الأعداء والأذناب من ورائهم في استغلال الأجهزة الحديثة والمخترعات لإبعاد الناس عن دينهم ومصدر عزتهم، أشغلوا الناس بسفاسف الأمور وساقطها، وأركسوهم بما نشروا في أوساطهم من حماقات وضلالات، وضيعوهم بما نقلوا لهم من شبهات وشهوات، فكم ممن نكص على عقبيه وارتدّ على دبره بعد إذ هداه الله، وكم من قتيل يتشحّط في دم الفضيلة المقتولة، وكم من شاب وشابة يتقلّبان في حمأة الرذيلة المنقولة.
أيها المسلمون، إن حقًّا على كل عاقل حَصِيف أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه؛ لينظر: هل أجاد أم قصّر؟ وهل هو يتقدّم أم يتأخّر؟ كلا، إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:35-37].
نعم أيها الإخوة، إن محاسبة النفس أمر ضروري لا بد منه؛ لأن السائر إلى الدار الآخرة يسلك طريقًا لا توقّف فيها، ويركب عجلة تدور دائمًا وأبدًا، وليس بإرادته ولا مقدوره أن يوقفها أو يقلّل من حركتها، وهو في سيره في تلك الطريق بين أمرين لا ثالث لهما، وخيارين لا يملك غيرهما، إما أن يسرع في سيره ويجد في شأنه، فلعله أن يصل في أول الركب، فينجو من الآفات، ويفوز مع الفائزين، ويد الله مع الجماعة، وإما أن يتباطأ ويتثاقل في حركته، وتتجاذبه السبل يمنة ويسرة، فيوشك أن لا يصل إلى مراده، وإن وصل وصل متأخّرًا، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
أيها المسلمون، إنه لا بد أن يقف كل منا مع نفسه وقفة محاسبة صادقة، يتذكر فيها أعماله الصالحة والطالحة، ثم يعقد موازنة دقيقة، لينظر ما له وما عليه، ثم لينتقل بعد ذلك إلى الأعمال التي رأى أنها صالحة لينظر هل أخلص فيها النية لله وحده؟ وهل تابع فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ؟ وإنه لو وقف الشخص كذلك لرأى عجبًا، ولهاله كثرة الأعمال التي لم تنطبق عليها شروط العمل الصالح المقبول، فضلاً عن الأعمال التي لا شك في كونها سيئات صغيرة أو كبيرة.
ليتفكر الإنسان في حاله مع الصلوات المفروضة، هل أداها بشروطها وأركانها وواجباتها؟ هل صلاها في المسجد مع جماعة المسلمين؟ كيف حاله مع صلاتي الفجر والعصر؟ ثم ما حاله بعد ذلك مع النوافل؟ هل تزود منها لتُرقَّع بها الفرائض وينال بها محبة الله؟ وليسأل نفسه عن بقية الفرائض والنوافل على هذا المنوال. ثم ليحاسب نفسه بعد ذلك عن أمواله التي اكتسبها، من أين حصلها؟ وفيم أنفقها؟ وما موقفه من حقوق الناس؟ هل أداها أم بخسهم إياها؟ الولائم التي أقامها وكلفته آلاف الريالات، المجالس التي جلس فيها وشرَّق فيها وغرَّب، الرحلات والنزهات التي قام بها، الرسائل التي كتبها بيده، المكالمات التي نطق بها لسانه، هل كان كل ذلك لله وفي الله؟ أم أنه مجاراة ومحاباة؟ ثم ليسأل نفسه في المقابل: كم ريالاً دفعه في سبيل الله؟ وكم زيارة قام بها لله؟ عيادة لمريض أو صلة لرحم؟ كم رحلة جعلها في الدعوة إلى الله لتعليم الناس الخير وتبصيرهم في أمور دينهم؟ كم رسالة أو مكالمة في جواله أو جهاز ندائه أشغل بها عباد الله بألغاز مكرورة أو نكت معصورة؟ وفي المقابل: كم استغل ذلك في دلالة على خير أو تحذير من شر؟ إنها أسئلة صعبة صعبة، والإجابة عنها أصعب وأصعب، ولكنه واقع مؤلم وحقائق مرة، يجب أن يتقبلها كل منا بصدر رحب، وأن يعيها لعله يغير من طريقة عيشه وفهمه لهذه الحياة، قبل أن يفجأه هاذم اللذات ومفرق الجماعات، فيندم ولات حين مندم، بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ما بينكم وبين ربكم يصلح الله ما بينكم وبين إخوانكم، واخشوه في السر يصلح علانيتكم، وحاسبوا أنفسكم محاسبة تورث لكم العمل الصالح، واعلموا أن الأمر فصل ما هو بالهزل، جد ليس باللعب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَن الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:37-46].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه، وتمسّكوا من الإسلام بأوثق عُرَاه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقُوِّضَت خيامه، ذهب بخيره وشره، وتولّى بحلوه ومُرّه، كنتم قد تقلبتم فيه بين الحزن والسرور، وتراوحت أيامكم بين العافية والمرض، وقضيتم الآمال والآلام، شرَّقتم فيه وغرَّبتم، وأكلتم وشربتم، كل ذلك قد ذهب بما فيه، ولن يعود عليكم أو يمر بكم إلا في سجل الذكريات، ولكن الذي ذهب وما ذهب ومر وسوف يعود ولا محالة هو ما دُوِّن في صحائف الأعمال في ذلكم الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
لقد ذهب عامكم شاهدًا لكم أو عليكم، فخذوا لما سيأتي زادًا كافيًا، وأعدوا للسؤال جوابًا شافيًا، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد ـ والله ـ من لاحظها وحاسبها، وفاز ـ وربي ـ من تابعها وعاتبها، وهلم إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها. فإن المردّ والمستقر ـ والله ـ لا بد إما إليها وفيها، وذلك هو الفوز الكبير، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وإما ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ إلى نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، فبئس المنقلب، وساءت مصيرًا.
عباد الله، أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا؟! أين من ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا؟! كم أغمضنا من أحبابنا جفنًا، كم عزيز دفناه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسبًا لأجل أبنائه وأطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟! أين من كانوا فينا في السنوات الخالية؟! لقد أتاهم هادم اللذات، وأخذهم مفرّق الجماعات.
فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِّنَة، قل لي بربك: لأي يوم أخّرت توبتك؟! ولأي عام ادّخرت أوبتك؟! أإلى عام قابل وحول حائل؟! فما إليك ـ والله ـ مدة الأعمار ولا معرفة المقدار، فبادر ـ أخي ـ بالتوبة، واحذر التسويف، تب إلى ربك قبل أن يشتمل الهدم على البناء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، قبل أن تخلو المنازل من أربابها وتؤذن الديار بخرابها، استدرك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدجى نادبًا، وقف على الباب تائبًا، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:6-15].
(1/4452)
عيد الأضحى 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال, محاسن الشريعة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
10/12/1422
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات مع عظمة دين الإسلام. 2- أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. 3- التلازم بين العقيدة والعبادة والسلوك. 4- خطورة الخروج عن أحكام الشريعة. 5- اندحار أعداء الإسلام. 6- الدين كُلٌّ لا يتجزّأ. 7- الأعمال المستحبة في عيد الأضحى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته واصبروا، واذكروه كثيرًا واثبتوا، وحافظوا على دينكم ولا تغيّروا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وفي هذه اللحظات العظيمة المشهودة وأمة الإسلام تعيش هذا العيد السعيد المبارك، في يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى الموافق ليوم الجمعة الذي هو أفضل أيام الأسبوع، وفي موسم الحج إلى بيت الله الحرام المعظم، ما أجمل أن تعود الأمة إلى دينها العظيم الذي أكمله الله لها، وأتم به عليها نعمه، ورضيه لها شِرْعَة ودينًا، ما أجمل أن ترجع إلى منهجها السوي القويم الذي هو مصدر قوتها ومنبع عزتها، ما أبهى أن تحس بفقرها إلى ربها وخالقها ورازقها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]. أَوَلم يكن العرب ضُلاّلاً فهداهم الله بهذا الإسلام؟! أولم يكونوا عالَة فأغناهم الله من فضله بهذا الدين؟! أَوَليس من دين الإسلام تُستمد الأحكام وتسن القوانين؟! أَوَليست به تستقيم الأحوال وتصلح الأوضاع؟! بلى والله، إنه لكذلك وفوق ذلك.
إن شؤون الأمة فردية كانت أو اجتماعية وأوضاعها مادية أو معنوية وعلاقاتها محلية أو دولية وأحوالها سلمية أو حربية كلها مضبوطة بشرع الله محكومة بدينه، موزونة بكتابه مربوطة بوحيه، ليس لهذه الأمة رصيد أغلى من هذا الدين، وليس لها قيام دون هذا الإسلام، وجودها مرتبط بوجوده، وفناؤها راجع إلى التقصير فيه، تعيش عزيزة ما تمسكت به وعضّت عليه بالنواجِذ، وترجع ذليلة ما تهاونت به ورضيت غيره. حَرِيّ بالأمة وهي تعيش خضم هذه الأحداث المتلاحقة أن تتحسّس موقعها وتعرف موقفها؛ لئلا تضل السبيل فتهلك، وجدير بها وهي تواقع هذه المتغيرات المتسارعة أن تتلمّس دربها وتحدد طريقها؛ لئلا تبقى في مؤخرة الركب وأعقاب الأمم.
إن أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، جعلها الله أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، وهذه الوسطية وتلك الخيرية تتأكدان في دينها العظيم القويم الذي حارب الشرك وما يفضي إليه، وفضح الانحرافات اليهودية والنصرانية، ذلك الدين الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة ولا يرضى التفريق، كمال في التوحيد والعقيدة والنبوات، وشمول في القضاء والقدر والبعث والنشور، إيمان بكل ما جاء به القرآن الكريم، وتصديق بكل ما صح به النقل عن النبي المعصوم. الخيرية والوسطية في هذا الدين تظهران في تمام العبادة وشمولها، حيث رسمت حدودها وحدت صفاتها، ونبه على أركانها وشروطها، ومنع من الإحداث والابتداع فيها: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وفي الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، لقد حفظ هذا الدين لهذه الأمة خيريتها ووسطيتها، حفظ الأنفس والأموال، وصان الدماء والأعراض، حد الحدود وشرع التعازير، وأخذ على يد الظالم وحارب الجريمة، نشر الفضيلة وفضح الرذيلة، وعظم أمر العفاف والحياء، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أوجب الصدق والأمانة، وحث على الصبر والوفاء، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، كل ذلك في نظر شامل لكل مناحي الحياة ومعاملاتها وعاداتها، في أصول عامة محكمة ونظم شاملة مفصلة، وحوت آداب الإسلام فيما حوت من أجل هذه الخيرية وتلك الوسطية، حوت آداب الأكل والشرب والنوم واليقظة، وحددت ضوابط اللباس والزينة والدخول والخروج، وجاءت بآداب المشي والجلوس والتحية واللقاء، وضعت أصولاً للزيارة والاستئذان، وسنّت أدبًا للحديث وحقًّا للطريق. غايتها في ذلك تهذيب البشرية ومناهضة النزعات الشيطانية وتوضيح الفرقان بين الحق والباطل.
أما المسلمون أتباع الإسلام فهم أولياء الله وأحباؤه، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله. هم خير أمة أخرجت للناس، يحمدون الله في السراء والضراء، ويذكرونه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، أناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل فرسان في النهار، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. وهم لذلك مسؤولون عن حماية الحق ونشر الفضائل الكريمة، مطالبون بإقامة المثل العليا وترسيخ المبادئ السامية. وهذا الحق الذي معهم يدعون إليه ويدافعون عنه، وذلك الخير الذي جعله الله لهم ووصفهم به محفوظ لهم ما استقاموا على الطريقة واستكملوا الشروط المهمة، باق لهم ما بقوا على العهد ولم ينقضوا الميثاق. والله سبحانه ناظر كيف يعملون، مطلع على ما يُبْرِمُون، وكل من ظلم وخالف فلن يفلت من سنة الله في الظالمين، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن في دين هذه الأمة تلازمًا وثيقًا بين العقائد والعبادات، وترابطًا عميقًا بين سلوك الإنسان وأخلاقه في البيت والسوق والعمل، وفي المسجد والمعهد والمدرسة، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. إنه تلازم يوجب على المسلمين أن يأخذوا بالدين كله، فالدين كلٌّ لا يتجزأ، ووحدة لا تقبل التفرقة، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
ووالله، لو صدق المسلمون في الانتماء لدينهم واعتزوا به لالتزموا آدابه وأحكامه الكاملة الشاملة، ولَمَا حادوا عن طريقه الواضح وصراطه المستقيم، ولو فعلوا ذلك لتميزوا بالحق والخير، ولتميزوا بهيئاتهم ولباسهم كما يتميزون بعقائدهم وشعائرهم، ولتميزوا بالتنزه عن الموبقات والفواحش كما يتميزون بالآداب الفاضلة والأعمال الخيرة. لكنّ فئامًا منهم اليوم ظنوا أن الإسلام مقصور على علاقة العبد بربه وخالقه، ولا صلة له بالمجتمع ولا بالحياة، فأخذوا ببعض الكتاب، وأعرضوا عن بعض، وجعلوا القرآن عِضِين، وصاروا فيه مختلفين، ما وافق أهواءهم أخذوا به واتبعوه، وما خالفها تركوه وراءهم ظِهْرِيًّا ونبذوه، اختاروا في كثير من مواطنهم وأوضاعهم غير ما اختار الله، ودانوا بمناهج على غير طريق رسول الله، اختلطت عليهم السبل والمناهج، وتعددت مواردهم والمشارب، اصطبغوا بغير صبغة الله، وتغيرت أحوالهم وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأكلوا الربا وفشا فيهم الفحش والزنا، اتبعوا خطوات الشيطان وساروا في طريقه، وتفرقوا شيعًا وأحزابًا، تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يكونوا أشداء على الكفار ولا رحماء بينهم، ولم يعِدّوا ما استطاعوا من قوة ليرهبوا بها عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم. من أمثال هؤلاء أتيت الأمة ودُخل عليها، وبتقصيرهم وتهاونهم هزمت وأذلت في كثير من أقطارها، وبتوليهم أمورها تسلط عليها أعداؤها من كل جانب ، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن الخروج على أحكام الإسلام وأصوله اعتقادًا أن غيره أقرب إلى الحق وأدنى إلى العدل أو أحفظ للمصلحة وحق الإنسان، إن ذلك يعد رِدّة وخروجًا عن هذا الدين القويم. ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإن على المسلمين اليوم وبين أيديهم كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد عليهم أن يتقوا ربهم ويراجعوا أحوالهم، وينظروا في سنن الله وأحوال من قبلهم، ويعتبروا بمن حولهم ممن دمر الله عليهم، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]. أين العروة الوثقى؟! وكيف المعتصم؟! أين الخيرية؟! وأين الوسطية؟! أين الشهادة على الناس؟! كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
فاتقوا الله ربكم أيها المسلمون، واستمسكوا بدينكم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، أقيموه في أنفسكم وأهليكم وسائر جوانب حياتكم , وعودوا إلى ربكم وتوبوا إليه لعلكم تفلحون، واعلموا أن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، والنصر بأمر الله لهذا الإسلام، فمهما احْلَوْلَكَت الظلمة وغابت شمس الحقيقة إلا أنها ستشرق على الدنيا في يوم ما، وسيصفو الجو الذي طالما تكدّر، وسيتبدّد الظلام الذي طغى وانتشر، ستبدو رايات الإسلام عالية خَفّاقة، وستختفي زعامات الباطل مغلوبة مدحورة، وسيظهر الحق ويزهق الباطل، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].
فلا تَحسبوا أنَّ الهمومَ مُقِيمةٌ رُوَيدًا فإنّ اللهَ بالخلق أَبْصَرُ
ستؤخذ ثاراتٌ وتُقضَى حوائجٌ وتبدو إشاراتٌ وتُقْصَمُ أَظهرُ
وتُطْمَس من شأن الأعادي بَوَارِزٌ ويظهر سرّ الله والله أكبرُ
أما أعداء الأمة ـ أيها الإخوة ـ فإنهم مخذولون مهزومون، وخبر الله فيهم لا يتخلف: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111]، إنه ضر لا يؤدي إلى هدم كيان الأمة ولا إلى اضمحلالها، إنه ضمان قرآني حق، وخبر إلهي صدق: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]، إنها بشارات كريمة مشروطة بمحافظة الأمة على دينها: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. فهل يهتدي المسلمون إلى العروة الوثقى ويعرفون كيف المُعْتَصَم؟! هل يهجرون السَّنَن ويتبعون السُّنَن؟! هل يرجعون عن اتباع السُّبُل ويتبعون السبيل؟! إن الأمل ما زال فيهم كبيرًا، وإن المسؤولية عليهم لعظيمة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:55-57].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه، واعلموا أنه لا أحسن دينًا ولا أشد تمسّكًا ولا أكمل إيمانًا ولا أتم يقينًا ممن أسلم وجهه لله وسلّم لأوامره ونواهيه، إذا قضى الله ورسوله أمرًا لم يتردد في تنفيذه وتطبيقه، وإذا بلغه نهي أو تحريم لم يتأخر عن اجتنابه والبعد عنه، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].
ألا فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، وسلموا لأوامر الله واجتنبوا نواهيه، ولا تقولوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإن الدين كلٌّ لا يتجزّأ، ووحدة لا تتفرّق، ليس ترك شيء من أوامره أو الوقوع في آخر من مناهيه هيّنًا ويسيرًا.
أيها المسلمون، إنكم في يوم عظيم سماه الله يوم الحج الأكبر، تتلوه أيام معدودات عظيمة، فعظموها بطاعة الله وذكره، وأكثروا من حمده وشكره، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]. ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، واذكروا الله على ما رزقكم وأن هداكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبّروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم نَضَّرَ الله وجوهكم، واحرصوا على حضور صلاة الجمعة هذا اليوم ولا تتركوها، فإنه وإن جاز لمن حضر العيد أن يترك الجمعة إلا أنه حرمان عظيم وخسارة فادحة أن يبقى الرجل ليس بينه وبين الجامع إلا خطوات معدودة أو إلا أن يركب سيارته لمسافة قريبة ثم يترك مع ذلك صلاة الجمعة اكتفاء بصلاة العيد، ألا فاحرصوا على شهود الجمعة رحمكم الله.
وصلوا وسلموا على خير الورى وأفضل من وطئ الثرى...
(1/4453)
عيد الأضحى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, التربية والتزكية, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق البشر. 2- التحذير من عقوبات الذنوب والمعاصي. 3- خطورة الغفلة والتهاون في السيئات. 4- أهمية تزكية النفس. 5- من أعمال يوم النحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا في السر والعلن، وطاعته سبحانه في المنشط والمكره، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20-25]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:27-29].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، مما لا شك فيه أن كل مسلم صغيرًا كان أو كبيرًا يعلم لماذا خلقه الله وأعطاه سمعًا وبصرًا وعقلاً، ولأي شيء أوجده على هذه الأرض وسخّر له ما فيها جميعًا، ولو سألت المسلمين جميعًا: لماذا خلقكم الله؟ لأجابوا بفم واحد وبلا تردّد: لقد خلقنا الله لعبادته وأوجدنا لطاعته، حيث قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولكنك لو تفكرت بعد ذلك بعين البصر والبصيرة في مجتمعات المسلمين، نعم، لو تفكرت في مجتمعات المسلمين ـ ولا أقول: في غيرها ـ لوجدت الشرك الأكبر والكفر البواح في بعضها منتشرًا، ولألفيت الكبائر والموبقات فيها فاشية، دع عنك المعاصي الصغيرة ومحقرات الذنوب، فقد أصبحت عند كثير من الناس كالطعام والشراب، أو كالضرورة التي لا بدّ له منها، يأكلها ويشربها ليلاً ونهارًا، ويتنفسها ويسمعها سرًا وجهارًا، ويمتّع بها بصره بكرة وعشيًا. منكرات ومحدثات لم تكن معهودة، أصبحت في سُنَيَّات معدودة من المألوفات، شَبّ عليها الوليد، واستمرأها الشاب، وسكت عنها الكهل، ولم ينكرها الشيخ، مما ينذر بالخطر ويوحي بالعقوبة.
ولو أننا ـ إخوة الإيمان ـ تأملنا العقوبات التي عاقب الله بها الأمم السابقة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر أمة عاقبها الله لوجدنا أنها جميعًا بسبب الذنوب والمعاصي، نعم أيها المسلمون، بسبب الذنوب والمعاصي، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، إنها القاعدة الربانية التي لا تتبدل والسنة الإلهية التي لا تتغير: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ، وما زالت تلك السنة ماضية إلى يوم القيامة، لا تتخلف عمن استحقها ولا تتأخر، وإلا فما الذي سلط بعض المسلمين شعوبًا وأفرادًا على بعض حتى أصبح التقاتل والتنافر بينهم شيئًا مألوفًا لا يُستَغرب؟! وما الذي أعاد الكَرَّة عليهم حتى اغتصب اليهود ديارهم وأموالهم ومقدساتهم وصارت قوى الكفر تهددهم ليل نهار وتملي عليهم أوامرها وتعليماتها فأصبحوا أذل أمة بعد أن كانوا أعز أمة؟! بل ما سبب نزع البركات وقلة الخيرات في الآونة الأخيرة؟! أليست هي الذنوب والمعاصي؟! بلى والله، إنها الذنوب والمعاصي، ولكن أكثر الناس في زماننا هذا لا يعلمون، حيث ظنوا إذ لم يروا العقوبة في الحال، ظنوا أنها لن تنالهم بعد ذلك، وأنهم قد عفي عنهم وغفر لهم، وما علموا أن العقوبة تأتي ولو بعد حين، وكأنهم لم يقرؤوا قول العزيز سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
وهنا مسألة خطيرة ومصيبة كبيرة، تعدّ من أعظم المصائب وأفدحها، وأكبر العقوبات على الذنوب وأقساها، حين يصاب المرء ـ وهو لا يدري ولا يشعر ـ بانقلاب الموازين واختلال المقاييس واضطراب النظر وانعدام التمييز، حتى يعود القبيح في نظره حسنًا جميلاً، ويصبح الضارّ في تصوره نافعًا، ويُزَيَّن له سوء عمله فيستحسنه ويستمريه، ويصر عليه ويتمادى فيه، فلا يرى قبحه ولا يحسّ ضرره، ولا يخاف عاقبته ولا يفكر في سوء المصير، ثم هو بعد ذلك يظن أن من سلم من الفقر أو المرض أو حدوث الزلازل وثوران البراكين أو نزول المحن وانتشار الفيضانات وفتح الله عليه الدنيا وكثر ماله وولده وعاش في أمن ورفاهية، يظن أن هذا قد أحبه الله ورضي عنه وأكرمه، وما علم هذا المسكين الذي غرّته نفسه وخدعه الشيطان أنّ من أعظم ما يصاب به المرء أن يُزَيَّن له سوء عمله فيراه حسنًا، فلا يزال بمعاصي الله عاملاً، ولحدوده متعدّيًا، يقترف ما يسخطه، ويقع فيما يغضبه، حتى يعلو الران على قلبه، ويطمس على بصيرته، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا ولا ينكر منكرًا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، في الحديث عنه أنه قال: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه)).
نعم أيها الإخوة، إن أعظم ما يصاب به المرء أن يستمرئ المعاصي ويحتقرها، ويعمل بالذنوب ولا يخاف عاقبتها، فلا يزال الران يغطي قلبه ويغلّف فؤاده، وكلما زاد هذا الران كان الشيطان أقوى تمكّنًا من ذلكم الإنسان، وأشد تسلّطًا عليه، وأقوى تأثيرًا في قلبه، وأكثر تحريكًا له، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37].
والسر في ذلك ـ أيها المسلمون ـ أن الروح تُظْلِمُ بالذنوب، وتنجس بالمعاصي، وتكتسب بالخطايا والسيئات صفات قبيحة، تجعلها تتلاءم مع شياطين الإنس والجن وتألفهم، وفي مقابل ذلك تنفر غاية النفرة من الأرواح الطيبة وتبتعد عنها؛ لعدم الملاءمة والمجانسة، قال سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً [الإسراء:84]، والمعنى أن كلاًّ يعمل على ما يناسبه، فمن كانت روحه طيبة زكية فإنها تعمل ما يتناسب مع طيبها وزكائها، من طاعة خالقها ومرضاته التي لا تزكو ولا تطيب إلا بها، ومن كانت روحه خبيثة نجسة فإنها لا تدله إلا على الشر والمعصية، ولا يناسبها إلا كل ما هو خبيث وقبيح، وفي الحديث عنه أنه قال: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)).
يقال هذا الكلام ـ أيها المؤمنون ـ ونحن نرى كثيرًا من الضلالات المهلكة والفتن المضلة قد أصبحت مألوفة عند كثير من الناس في هذا الزمان، حيث واقعوها غير مبالين ولا مستنكرين، وعايشوها غير مهتمين ولا وجلين، دخلت الشياطين كثيرًا من البيوت وعششت فيها، بل باضت وفرخت وكثر نتاجها، وامتلأت الجيوب بالأموال الحرام، وأترعت بطون بما لا يحل، فنبتت على ذلك أجساد كثيرة، وتغذت منه أخرى كانت قد نبتت من حلال، تَرْكٌ للصلوات واتباع للشهوات، وغناء في البيوت وفي السيارات، وموسيقى محرمة في الجوالات، لاحقت الناس حتى في أطهر البقاع وأشرفها، وأفسدت عليهم صلاتهم وأذهبت الخشوع، كلام قبيح تنطق به الألسن، وكذب على الآخرين تتفوه به الأفواه، افتراء على الناس وقذف لهم بما فيهم وما ليس فيهم، قطيعة للأرحام وهجر لذوي القربى، انتصار للنفس وهضم للآخرين، سموم تقذف بها بعض القنوات الإعلامية في بعض البلاد، وتركيز على تغريب المجتمعات المسلمة في أخلاقها ولباسها، وعمل على تشكيك الناس في اعتقادهم الحق، واعتراض على أحكام الله المحكمة، وسخرية بالله وآياته ورسوله، ودعوة للإباحية والانسلاخ من الدين، وتمكين للمنافقين من إعلان ما يحيك في صدورهم، ومجاهرة من المضلين بمقالات الكفر والتشكيك والردة عن الدين، كل ذلك باسم حرية الفكر والمناظرات المحايدة، ومعرفة الرأي الآخر والرأي المعاكس، ونحو ذلك من الإفك والكذب على عقول الرعاع المغفّلين، تنشره جرائد متجرّدة لحرب الحق، ومجلات مشتملة على ما يغضب الرب، ومع ذلك تشترى وتبذل الأموال للاشتراك فيها، وتنصب صناديق استقبالها على الأبواب وأسوار العمارات، تقليعات أفسدت الشباب، وموضات أهلكت النساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والأدهى من ذلك والأمرّ أن من وقعوا في هذه الموبقات وواقعوا تلك السيئات لم يفكروا يومًا ما أنهم إنما وقعوا فيها وألفوها لهوانهم على ربهم سبحانه، قال الحسن رحمه الله: "هانوا على الله فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم"، وصدق رحمه الله، فإن الله عز وجل إذا أحب عبدًا وعلا شأنه لديه دله على كل خير، وسيّره إلى كل بر، وجعله عبدًا ربّانيًّا موفّقًا، لا تنظر عينه إلا إلى ما يصلح قلبه، ولا تسمع أذنه إلا ما تزكو به نفسه، ولا تمشي رجله إلا إلى طاعة، ولا تبطش يده إلا فيما يرضي الله وينصر دينه ويعلي كلمته، في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: وما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
فانظروا يا أصحاب الذنوب، ويا مدمني المعاصي، يا من قل حياؤكم من الكرام الكاتبين عن الشمال وعن اليمين، يا من تضحكون وأنتم لا تدرون ما الله صانع بكم، يا من تخافون من اطلاع الناس عليكم وأنتم على الذنوب ولا تضطرب أفئدتكم من نظر الله إليكم وأنتم عليها عاكفون، وهو سبحانه المطلع عليكم في كل حال، والله إن استمراركم على حالكم هذه لمن أعظم العقوبات التي أصبتم بها وأنتم لا تشعرون، إذ ليس كل عقوبة لا بد أن تكون ماثلة للعيان، ولا كل مقت من الله لا بد أن يكون ظاهرًا، بل إن هناك عقوبات تدب إلى المعاقبين بخفية، وتسري فيهم على غفلة، والله قد يملي للظالمِ ويمهله ليزداد من الإثم ويحيط به الظلم، ولكن كل ذلك لا يعني أنه قد أفلت من العقوبة، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178].
وانظروا ـ عافانا الله وإياكم ـ كيف عاقب الله بعض من لم يوفوا بعهده حيث قال: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:75، 76]، فماذا كانت العقوبة يا عباد الله؟! هل احترقت أموالهم؟! لا والله، هل قصمت أعمارهم؟! لا وربي، هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟! كلا ثم كلا، هل ابتلعتهم الأرض؟! لم يحصل ذلك، إذًا فما العقوبة التي حلت بهم؟! استمع إلى العقوبة عافاك الله، قال سبحانه: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77]، لقد كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقًا مستحكمًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، وحكم عليهم بسوء الخاتمة وبئس المصير. وإنها لعقوبة بالغة الخطورة أن يملَى لك في الدنيا ويمد لك فيها، تقترف المعاصي وتواقع الذنوب، ثم يختم لك بخاتمة السوء عند موتك، وتوافى في موقف الحشر بكل جرائمك وموبقاتك، وتحاسب على ما اقترفت من الكبائر وتؤخذ بها.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ لعلكم ترحمون، واحذروا المعاصي والذنوب لعلكم تنجون، وتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، تمسكوا بها وحققوها، وتخففوا من الدنيا وطلقوها، وزكوا أنفسكم وتخلصوا من الهوى، فقد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين القويم ضياءً ونورًا لعباده، يخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]. ولا شك أن سعادة الإنسان في الحياة الدنيا وفوزه ونجاته في الأخرى، لا شك أن ذلك مرهون بتزكيته نفسه وتطهيره إياها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]. ومما لا مراء فيه ولا جدال أنه لن تزكو النفوس أو تصلح المجتمعات إلا بترك المعاصي والتخلص من الذنوب، ولن تنجو من كل خطر أو مخوف إلا بالعمل بطاعة الله والتقرب إليه سبحانه. أما إذا رأيت عقول الناس ـ كما هو شأنها اليوم ـ تؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنها قد مسخت، ومتى رأيت قلوبهم قد ترحّل عنها حب الله والاستعداد للقائه وحل فيها حب المخلوق والرضا بالدنيا والطمأنينة بها وبما فيها من معاص وشهوات فاعلم أنها قد خسف بها، ومتى أقحطت العيون من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلوب، وإن أبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي.
ولذا كان لزامًا على كل عبد ناصح لنفسه يرجو النجاة والفوز يوم الحسرة أن يسعى لتزكية نفسه وتطهيرها، وأن يقوم على من تحت يده بالتربية الإسلامية الصحيحة، وأن يقسرهم على الحق قَسْرًا، وأن يأطرهم على اتباعه أَطْرًا، عليه أن يُلزِمهم بأداء الصلوات واجتناب الشهوات ومصاحبة الصالحين ومجالسة أهل الدين، وأن يمنع عنهم كل ما فيه إفساد لهم أو إبعاد عن طاعة الله، من أصحاب سوء أو أجهزة خبيثة، إنه يجب على كل أب وولي أمر ومسؤول السعي فيما يصلح رعيته، ويدفع عنهم السوء والمضار، قال : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
إننا والله ـ أيها الآباء ـ لا نعجب من شابة مسكينة مُغرّر بها، ولا من شاب مراهق يخادعه أهل الباطل ويجتذبونه إليهم بما ينشرونه مما يوافق هوى النفوس، ولكن العجب الذي لا ينقضي أن تظلوا أنتم ـ أيها الأولياء ـ في غفلة مطبقة عما يدور حولكم، بل وفي بيوتكم وعقر دياركم، إذ في وسط تلك البيوت المحافظة وفي ساعات مختلفة من ليل أو نهار تُعرَض الرذيلة على مرأى من أبنائكم وبناتكم وأنتم غافلون، ويُقضَى على الحياء ويُنحر العفاف وأنتم راقدون، عبر أجهزة أنتم الذين اشتريتموها أو رضيتم بها، وتركتم الأبناء والبنات يعبثون بها دون رقيب ولا حسيب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واتقين الله يا نساء المؤمنين، واحذروا المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إنكم في يوم عظيم سمّاه الله: يوم الحج الأكبر، تتلوه أيام معدودات عظيمة، فعظّموها بطاعة الله وذكره، وأكثروا من حمده وشكره، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، واذكروا الله على ما رزقكم وأن هداكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم، نضَّر الله وجوهكم.
(1/4454)
العادات السيئة المنتشرة في رمضان
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, الصوم, قضايا المجتمع
أحمد المتوكل
تاونات
مسجد الرميلة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان شهر الطاعات والقربات. 2- جهل كثير من الناس بمقاصد الصوم. 3- استياء البعض من دخول رمضان. 4- رمضان ليس شهرًا للأكل والشرب. 5- انتشار ظاهرة الغضب أثناء الصوم. 6- التنبيه على خطأ السهر في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله تعالى جعل للناس رمضان شهرًا للطاعات وموسمًا للتقرب إليه بسائر القربات من صيام وقيام وذكر وقراءة للقرآن واستغفار وصدقة وتخلّق بكل خلق حسن. إن من خصائص رمضان أنه يوفّر الجو الرباني الروحاني بما يتَيَسّر فيه من عبادات متنوعة لا تُتاح في غيره من الشهور.
فعندما يَحل هذا الشهر ضيفًا على المسلمين ينالون من بركاته المتنوعة، وتُتْحفهم رحماته، وتغمرهم نفحاته الإيمانية، إلا أن بعض الناس ـ وخلافًا لما شُِرع من أجله رمضان ـ لا يعطونه حقه، ولا يقدرونه حق قدره، ولا يؤدونه كما هو مطلوب، بل يفتقد صيامُهم إلى ما يجعله صحيحًا كاملاً، وتظهر عليهم فيه سلوكيات خاطئة، وعادات قبيحة، تستولي على اهتماماتهم، وتظهر على جوارحهم، فتعكر صفو صومهم، وتفوِّت عليهم الأجر العظيم، وتوقِعُهم في الإثم المبين، يفعلونها إرضاء لأنفسهم، واتباعًا لرغباتهم، وتلبية لشهواتهم، في هذا الشهر الفضيل الذي لا ينبغي أن يُقابَل بهذا الإخلال والإهمال، ولا أن تُرى فيه هذه العادات السيئة، وهي أمور تدل فيما تدل عليه على عدم فهم الناس لأهداف ومقاصد الشعائر الدينية عامة، وجهلهم بأهداف الصيام وسننه وآدابه خاصة، وبقيمة هذا الشهر وفضله على سائر الشهور، وتفريطهم في فوائده وعوائده.
وأغلب الناس ضعُف عندهم معنى الصوم، أو غاب عنهم مفهومه الحقيقي كليًّا، وأصبحوا ينظرون إلى الصيام كإحدى العادات الاجتماعية التي تعَوَّدوا استقبالها وإحياءها كل سنة، دون أن يتأملوا في مقاصده وأبعاده، ولا أن يتفكروا في أسراره، ولا أن تظهرَ عليهم فوائده وآدابه، وبالتالي غاب تأثيره في حياتهم وواقعهم وفي حالهم مع ربهم عز وجل.
وفي هذا الموضوع سأتكلم عن أشهر هذه العادات وأكبرها ضررًا على الصائمين، وأثرها في إفساد صومهم.
أولاً: يُلاحظ أن بعض الناس يستاؤون ويغضبون إذا دخل رمضان، وكم يتمنون مرور ساعاته وأيامه بسرعة، ويترقبون خروجه بتلهّف؛ لأنهم يرون أن فيه حرمانًا لأنفسهم من شهواتها وملذاتها، وقطعًا لمألوفاتها وكبحًا لرغباتها، ولأنهم يرون أن الصيام يسبب لهم التعب والإعياء والعطش، مما يقلل من عطائهم، ويُضعف جهدهم في أعمالهم، فترى أنفسهم قلقة، وصدورهم حرجة ضيقة، ووجوههم عابسة مُكْفَهِرَّة، يشكون ويتألمون، ولا يصومونه إلا مجاراة وتقليدًا للناس، وخوفًا من الفضيحة والعار، ولذا فهم يفضلون عليه غيره من الشهور، ويرونه كضيف ثقيل حل بهم يتمنون رحيله سريعًا، قال الرسول : ((فلا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه)) رواه ابن خزيمة.
وعلى العكس من حال هؤلاء ينبغي للمؤمن أن يفرح ويُسَرَّ بقدوم رمضان، ويستبشر بحلوله، ويسعد بأيامه العظيمة، وينعم بلياليه الكريمة، وتطيب نفسه بمنافعه الجسيمة، قال الله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، ويعقدَ العزم على صيامه أحسن صيام، وإكرامِه غاية الإكرام، ويحرص أن لا تفوته فرصُه وفوائده وخيراته، ويستعد لذلك أفضل استعداد، وليجمع لذلك من الزاد ما يؤهله ليكون أحسن من استفاد، وإذا أكمل صوم رمضان تمنى حلوله بشوق وتوق.
ثانيًا: كثير من الناس يفهمون أن رمضان شهر للأكل والشرب والتمتع، فتراهم يستعدُّون له قبل حلوله ودخوله، وذلك بإعداد أنواع الحلويات والمأكولات وادِّخار بعض الأطعمة التي قد تنفَدُ في رمضان، وكأنه قد حل موسم جوع وقَحْط، ويزعم البعض أن الصيام يقطع عنهم أكلهم وشهواتهم في النهار، فتراهم إذا جاء الليل ملؤوا الموائد بأنواع المأكولات وألذ المشروبات، فيجعلون ليالي الصيام للمزيد من الاستهلاك والإسراف والتبذير والنَّهَم والشَّرَه، فترى الناس في الأسواق والمتاجر يزدحمون ويتسابقون على السلع والمشتريات، ويتزايدون في أثمانها، فترتفع أسعارها، وتحدث الفوضى والشِّجار والتدافع حولها، فتنفد السلع لكثرة الطلب عليها، مما يسبب لكثير من الفقراء الحرمان منها وهم في أشد الحاجة إليها، ويدفع بعض التجار الفجار لاحتكارها ليبيعوها بأثمان باهظة. وأغلب الناس تُضاعف ميزانية إنفاقهم في هذا الشهر، ولا يكفيهم مرتَّبهم الشهري فيه، بل يلجؤون إلى مدخراتهم أو إلى الاقتراض بالربا المحرم، حيث يستجيبون لإغراءات وتشجيعات البنوك الربوية، فيسقطون في الحرام وفي مستنقع الآثام، وأكثر الموظفين يشتكون مما يحدثه لهم هذا الشهر حسب زعمهم من نفاد في أموالهم، وما يترك خلفه من ديون ثقيلة عليهم يستمر تسديدهم لها شهورًا بعد رمضان.
فهذا الإسراف وكثرة الإنفاق والاستهلاك المنتشر بيننا ليسا من مقاصد الصيام، بل على العكس من ذلك فرمضان شهر الرخاء والاقتصاد والتقلل والزهد والتقشف وترشيد النفقات والاكتفاء بالضروريات دون الكماليات، وشهر لحلول البركات من الأرض والسماوات، شهر غذاء الأرواح والقلوب لا الأبدان والأجساد، يقول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، والتقلل سنة نبوية عاش عليها الرسول ومات عليها، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)) رواه الشيخان عن أبي هريرة. والقوت: ما يكفي دون زيادة، والتقلل: إمساك على زمام النفس لكيلا تجتلبها المغريات، وكان رسول الله سيد هذه المنزلة أوصى بالتقلل حتى يكتفي المؤمن في خاصة نفسه بمثل زاد الراكب، قال الرسول لأبي هريرة : ((يا أبا هريرة، كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكر الناس)) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد حسن، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسْب ابن آدم أكلات يقمن صُلْبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه)) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل.
ثالثًا: نرى بعض الصائمين يغضَبون لأتفه الأسباب، فيسبُّون ويشتمون ويقولون فُحْشًا وقُبْحًا ومُنكرًا من القول وزورًا، ويتراشقون بالكلام الساقط، ويتشاجرون ويتخاصمون، ويخرج من أفواه بعضهم كلام قد يُخرج من الملة إلى الكفر، كسبّ الدين أو الرب سبحانه، وقد ينشب العِراك، وتسيل الدماء، وتسقط الأرواح. وهذا سلوك يتنافى مع أخلاق هذا الشهر الكريم، ومع ما هو مطلوب منا فيه من إمساك للسان عن اللغو والفحش وصون له عن البذاءة والصَّخَب، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي عن الصيام: ((فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصْخَب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)) متفق عليه، وفي رواية: ((فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم)) مرتين.
فينبغي للصائم أن يمسك لسانه عن القول الذي لا يرضي الله، وليكن عفُوًّا صفوحًا حليمًا، ولا يعبأ بعبارات الطائشين، ولا يستَخِفُّه أصحاب اللسان الآثم فيهلك مع الهالكين.
رابعًا: ومن المشهور عند الناس في رمضان أنه شهر السمر والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، فأغلب الناس يحيون ليالي رمضان في الملاهي والمقاهي وفي الشوارع والأرصفة، وفي الغفلة والقيل والقال والغيبة والنميمة والخوض في الباطل، وأمام شاشات التلفاز لمشاهدة القنوات الفضائية والانتقال من واحدة إلى أخرى بحثًا عن أغنية أو منظر أجمل أو متعة أكمل أو مسلسل أو فلم أفضل، أو بحثًا في شبكة الإنترنت عن المواقع الإباحية ومواقع الرذيلة، وآخرون يلجؤون إلى لعب الورق والدَّامَّة وربما القمار المحرم، الشيء الذي يجعلهم يعوِّضون سهرهم بالليل بنوم النهار، مما يُضِر بأعمالهم، خاصة الموظفين منهم، فتراهم في مكاتبهم متكاسلين، تظهر عليهم علامات الخمول والإرهاق والإعياء، مما يقلل من عطائهم في العمل وإخلاصهم فيه، الشيء الذي يجعلهم يُخِلُّون بوظائفهم ولا يؤدونها على الوجه الأكمل، ويعطلون مصالح الناس، ويغلقون أبواب المكاتب في وجوههم، ويردونهم يومًا بعد يوم بدعوى تعب الصوم.
وإن رمضان يعرف قلبًا لحقيقته وتشويهًا لصورته من طرف الإعلام والقائمين عليه، حيث يعملون على تضليل الناس وإخفاء حقيقته في نفوسهم، إذ يملؤون برنامج هذا الشهر بالسهرات والحفلات والمسرحيات والأفلام ومختلف الفكاهات، وكأن رمضان شرع من أجل ذلك. وتفتح المقاهي والملاهي ودور السينما أبوابها مباشرة بعد الإفطار وعلى مدار الليل لجلب الناس وإتحافهم وإمتاعهم بسهرات رمضان الغنائية المسلية الملهية طلبًا للربح الوفير، ضاربين بعرض الحائط حرمة رمضان، حيث تختلط أصوات المؤذنين والمقرئين بأصوات المطربين والفنانين، وهذا منكر وضلال عظيم وفهم سقيم. والأولى للساهرين في التوافه أن يُشغلوا أنفسهم بذكر الله والاستغفار وقراءة القرآن والاستماع لدروس الوعظ والعلم، ومجالسة العلماء في المساجد، وحضور الندوات والمحاضرات التي تكثر في رمضان، ومتابعة البرامج النافعة في القنوات الفضائية، مما يزيد من فهمهم لأحكام الدين عامة وأحكام وآداب الصيام خاصة.
والسهر فيما لا نفع فيه نهى عنه رسول الله ، حيث كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوافل قبل العشاء إلا في خير. قال عليه الصلاة والسلام: ((لا سَمَر بعد الصلاة ـ يعني العشاء الآخرة ـ إلا لأحد رجلين: مصل أو مسافر)) رواه أحمد عن عبد الله بن مسعود وحسنه السيوطي، وكان من موقف أمير المؤمنين المُلْهَم عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الناس على السَّمَر في الليل ويقول: (أسَمَرًا أول الليل ونومًا آخره؟!). وللسمر الكثير بالليل مضار ومفاسد، أهمها تضييع الأوقات الفاضلة والتفريط فيما يتاح فيها من الخير، والحرمان من القيام في آخر الليل وما يكون فيه من بركات وكرامات وهبات، وتضييع لصلاة الصبح، وزهد في عطاءات الله لعباده المصلين الداعين المستغفرين في الأسحار، حيث ينزل إليهم إكرامًا وإنعامًا.
ألا فليعلم الصائمون أن رمضان إنما جاء ليكون وقاية وصيانة لنا من أخلاق منحطة، وليزيل منا عادات سيئة ترسخت فينا طوال السنة، وليربينا على الكمال الخلقي، وليدربنا على الصبر والتحمل والإنتاج والبذل والعطاء والاقتصاد والجهاد والإحسان إلى خلق الله والإخلاص والإتقان في الأعمال، وليزوِّد روحنا بالتقوى والزهد والورع، وليزكي نفوسنا حتى تسمو إلى بارئها عبر مدارج القرب والزلفى، وليطهر المجتمعات مما انتشر فيها من فساد خلقي واقتصادي واجتماعي وسياسي، وليحقق فينا العزة والإباء والشموخ. وتظهر هذه المعاني جلية من سيرة الرسول وأصحابه والتابعين الذين فهموا الغرض والقصد من الصيام، فصاموه وصانوه وقدروه حق قدره، فكانت لهم العزة والمجد والسؤدد.
اللهم وفقنا للصيام الذي ترضاه، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وحفظ حدوده، اللهم اجعلنا ممن رفع الصوم منزلته وأعتق رقبته من النار آمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4455)
رمضان شهر التوبة والرجوع إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
أحمد المتوكل
تاونات
مسجد الرميلة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التواب من أسماء الله الحسنى. 2- سعة رحمة الله وشمول توبته. 3- فرح الله بتوبة عبده. 4- الصيام فرصة سانحة للتوبة. 5- رمضان شهر التوبة والغفران. 6- التوبة الحقيقية التي نريد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، إن مِن أسماء الله الحسنى وصفات جماله وكماله ونواله التوابَ الغفار، ولا شك أن مَن هذه أسماؤه ومَن هذه صفاته ـ لا شك ـ يحب التوابين الراجعين إليه في كل حين المتطهرين من ذنوبهم.
نداءاتُ الله سبحانه لعباده بالتوبة وصلت كل أذن واعية: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ومغفرته جل في علاه شملت كل مذنب أسرف على نفسه بالمعاصي فندم حتى ضاقت عليه نفسه، وأبواب رحمته وسعت كل تائب هارب إليه، ويده مبسوطة في كل حين من ليل ونهار ليتوب المسيئون، وليؤوب إلى سبيل الرحمان من أبعدهم عنه الشيطان، وأوقعتهم أنفسهم في دَرَكات البعد عن الله، لا يَكَلُّ ولا يمل سبحانه، ولا تغلق أبوابه، ولا ينتهي حلمه وإحسانه، قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن اللطيف بعباده الرؤوف بهم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم وغيره عن أبي موسى الأشعري.
وإن الله سبحانه قد فتح باب التوبة، ويسَّر طُرق الأَوْبَة، ورغَّب فيها، وشوَّق إليها، ووعد من تاب وأناب بقبوله وتبديل سيئاته حسنات: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وقال سبحانه: مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]، ومن أجل التوبة إليه سبحانه رغَّب في الجنة وما فيها، ورهَّب من النار وما فيها، ولغايةِ الخضوع والرجوع إليه جل في علاه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، فأقام الحجة، وأوضح المحَجَّة، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى مَن حيَّ عن بينة.
ومن الدلائل على صفحه وحلمه جل سبحانه أنه لا يُنْزِل العقوبة على من أذنب إثر ذنبه مباشرة، بل يُمْهل ويستر ويُنْظِر، لعل المذنب يتوب، ولعل الآبق يؤوب، قال سبحانه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف:58]؛ لأن الله يريد للناس المتاب لا العذاب، والله عز وجل ما فرض الفرائض وشرع العبادات إلا للاعتراف بنعمه والثناء عليه والدخول في سلك التائبين المنيبين السائرين في طريقه السالكين إليه.
والصيام ما فرضه الله على عباده إلا لمصالحهم المتعددة: ليرجعوا إليه، ويقفوا على بابه، ويطهروا قلوبهم وأرواحهم مما عَلِق بها من أدناس، ويزكوها لتسمو إلى رب الناس، وينعموا بما عند خالقهم من فضل ورحمة وخير لا يقاس، وعطاء عظيم لا ينفد، ونعيم مقيم في جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
رمضان يُلهم الله فيه النفوس الآثمة والقلوب الهائمة، لترجع إلى مولاها، وتصحح المسار، وتصحب الأخيار، وتترك طرق الغاوين الفجّار، وتتطهّر من الأقذار والأكدار، وتتخفّف من الذنوب والأوزار، لتسْلَم من الأخطار يوم العرض على الجبّار، وتدخل جنات تجري من تحتها الأنهار، وتنظر إلى وجه الرحيم الكريم الغفار.
عباد الله، إن الصيام أهم شعيرة سنوية تحل بالمسلمين كمحطة للمراجعة والتوبة والإنابة وطلب الغفران، أراده الله ليكون مناسبة لمراجعة النفس ومواجهتها، وردِّها إلى فطرتها وأصل خِلقتها، والعودة بها إلى رحاب الله، وإلى كنفه وهداه مع أهل الله، ولتتذوق حلاوة الإيمان، ولترقى في مدارج الإحسان، ولتُحِس بعزة العبادة ولذتها، بعد مرارة المعصية وذلة الخضوع للهوى وللشيطان، ويكفي من شرف هذا الشهر المبارك وفضله أن من صامه وقامه بإيمان وإحسان وإتقان مُحِيت صفحاته السوداء، وفُتِحت له صحيفة نقية بيضاء، وسَطَع له في الملأ الأعلى نور وأضَاء، يقول المصطفى الكريم عليه صلوات وتسليمات الله: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة، وقال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة.
في رمضان ينادي منادي الله بنداء لطيف مُشفِق حانٍ: يا أيتها الأنفس الشاردة، ارجعي إلى ربكِ، وعودي إليه، وادخلي في صف عباده الصالحين، لتدخلي جنته مع الداخلين، ولتنعمي مع من: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70]. والله الكريم المنان ذو فضل على الناس ـ كل الناس ـ وعلى المؤمنين بوجه خاص، ففي رمضان يُغلِّق أبواب جهنم جميعًا، ويُفتِّح أبواب الجنان جميعًا، ويقيّد الشياطين ويسلسلهم، ويحرك الأنفس للطاعات، ويكلف من ينادي: ((يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)) رواه الحاكم عن كعب بن عُجْرَة وقال: "صحيح الإسناد".
عندما يُقبِل رمضان تتدفّق أمواج التائبين على المساجد، ويكثر سواد المتدينين، وتتطهر أرواح المذنبين، وتتعطر بأريج التوبة، وتعلو البسمة والبِشْر وجوههم، وتغمرهم نسائم الإيمان، وتهزُّهم أشواق الإحسان في شهر القرآن، وكم تبكي عيون المذنبين، وتقشعر جلودهم، وتلين قلوبهم، وتطمئن لذكر الله، ويزول عنها الران الذي علاها، وتصفو وتزكو، وتُفتح أبوابُ الأمل في وجوه المذنبين الذين أطاحت بهم الشياطين في فخاخها، وأوقعتهم في شباكها، وأحاطت بهم خطاياهم من كل جانب حتى اشتد قلقهم وتوجسهم منها؛ لأن الله الكريم الحليم هيّأ لهم الأجواء، وقلل عنهم سبل الإغواء، وأخرس ألسنة الشياطين الأعداء، وشَلَّ حركاتهم، وأزال وساوسهم، وجعل أرواح المؤمنين تستجيب لأوامره سبحانه، وأخمد نيرانَ الشهوات، وأضعف حدة الهوى في نفوسهم، وما ذلك إلا ليتوبوا ويسلكوا سبيل التائبين النادمين المقبلين على الله، قال الله الحليم الرحيم: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:26-28].
أيها التائبون الجدد، رمضان يأتي وفيه فُرَص الغفران ومواسم الامتنان ومفاتيح أبواب الجنان، وفيه تتطلع النفوس إلى رحمة الله المبسوطة في أوله، وإلى المغفرة الشاملة في وسطه، وإلى العتق من النار المتاح في آخره، فمن أقبل فيه على الطاعات فاز وسَعِد، ومن أعرض عنها غُبِن ونَكِد، وحرم نفسه من نفحات العفو الإلهي المعروضة في شهر المغفرة، قال الرسول : ((بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يُغفر له)) رواه الترمذي عن أبي هريرة في كتاب الدعوات، أي: أبعده الله عن رحمته وفضله، وقال عليه الصلاة والسلام: ((رَغِم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له)). إنه دعاء من جبريل دعا به على من فرَّط في اغتنام ما يتاح من فرص الخير وما يفتح من أبواب الفضل، وهذا الدعاء أمَّنَ عليه الرسول للزيادة في التأكيد على استجابته وقبوله، ولقد أعذر الله لعبد أدركه رمضانُ فلم يتب، بل بقي كما كان على حاله من الذنوب والآثام، فتَبًّا لمن جاءته مواسم الإنابة مفتوحة أبوابها ولم يغتنمها.
رمضان مناسبة يمنحها الكريم لعباده كي يغتنموها لإصلاح ما فسد من تدينهم، وتجديد ما بَلِي من إيمانهم، وتقويم ما اعوَجَّ من سلوكهم، وتطهير ما ران على قلوبهم، وللإكثار من الصالحات؛ ليكون ذلك رصيدًا يُكمِّل لهم ما يعتري أعمالهم خلال السنة من نقص أو تقصير، فإذا أضاع المسلم هذه الفرص وحُرِم مما يتاح فيها من الخيرات والبركات وأضاع ما يمكن أن يربح فيها من الصفقات فهو محروم مهموم مَغْبون، وأي حرمان بعد هذا؟! وبئس المحروم مَن حُرِم مِن فضل الله الدافق الرائق.
أيها الراغبون في التوبة، ها هو رمضان شهر التوبة قد أقبل، والتوبة افتقار إلى الله وانكسار، واستغفار واعتذار من الذنب والناس هجوع، وتذلل بين يديه وخضوع، وإقلاع عن الذنب ورجوع، وندم على ما فات، وعزم وعهد على الابتعاد عن المعاصي وأسبابها ومقترفيها وأمكنتها فيما هو آت، ورد للمظالم والحقوق المغتصبة بغير حق إلى أصحابها. والتوبة فتح صفحة بيضاء، وسلوك سبيل واضح وضَّاء، وحَذَر من العودة إلى الذنب وبكاء، وتضرع وقت النزول الإلهي ودعاء، وخوف ورجاء. قد أهَلَّ الهلال من رمضان شهر زلفى وتوبة وأذْكار، فاذكروا الله فيه ذكرًا كثيرًا، واستجيروه من عذاب النار، وارجعوا عن ذنوبكم بمتاب صادق، وأقلعوا عن الإصرار، فاعملوا أيها المسيئون، وادعوا ربكم جهرة وفي الإسرار، واحذروا غفلة القنوط وداووا داءها بالرجوع للغفار.
والتوبة خيرُ ما ينبغي أن يستقبل به الناس شهر الصيام، فإذا ظهر هلال رمضان حري أن يلجأ إلى الله المذنبون، ويقف بأبواب رحمته القانطون، ولفضله يرجو المسرفون. قل لأهل الذنوب والآثام: قابلوا بالمتاب شهر الصيام، وأقلوا الكلام فيه نهارًا، واقطعوا ليله بطول القيام، واطلبوا العفو من إله عظيم ليس يخفى عليه فعل الأنام.
إن الله التواب الرحيم العفو الحليم جل جلاله وكرُم نواله يفرح بتوبة التائبين أكثر من فرحة الأم بولدها، ويَقبَل رَجعتهم إليهم، ويغفر لهم ولا يبالي، قال الرسول : ((للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله بأرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، ومعنى الحديث: أن الله يفرح أكثر من الذي فقدَ بعيره في أرض واسعة خالية، ثم وجده ففرح بذلك كثيرًا، الله الله، ما أوسع رحمة الله! وما أجمل عفو الله! وما أكمل إحسان الله! جل الله، ما أعطف حلم الله! سبحان من سبقت رحمتُه غضَبه، سبحان من كتب على نفسه الرحمة، وجعلها تسَعُ كل شيء.
رمضان أجمل فُرَصِ التطهير، وأحسن أوقات التنوير، موسم الغفران المرتجى والعطاء والرضا والقربى والزلفى، شهر الصفح الجميل وعفو الجليل، شهر الهبات وإقالة العثرات ومحو السيئات وتكثير الحسنات وعلو الدرجات وانسكاب البركات.
فإذا كان الله عز وجل قد رغَّبنا في أن نتوب إليه، وإذا كانت نفوس الناس تتطلع إلى التوبة وترجو الغفران فأي توبة مطلوبة؟! وأي رجعة إلى الله مرغوبة؟!
إن التوبة المطلوبة هي التي لا تستقيم الحياة إلا بها، ولا يصحُّ السلوك إلى الله إلا بشروطها، ولا تصلح الأحوال ولا تكتمل سعادة المؤمن إلا معها، ولا تحصل فرحة الأمة وترفع عنها الغُمّة إلا بها، هي التوبة الشاملة الكاملة الفاعلة العميقة المتجدّدة، التي تقلب كل الموازين العقلية القلبية الأخلاقية السلوكية، وتوجِّه التائب وجهة الآخرة، وتستنقذه من عبوديته لهواه وأهواء الناس، وتخلّصه لله عز وجل خالقه ورازقه. توبة صادرة من الفرد المؤمن باعتباره مكلفًا مسؤولاً مُستخلَفًا، وصادرة من جماعة المؤمنين بصفتهم أمة خاتمة شاهدة، ينبغي أن تكون رائدة راشدة قائدة. فتوبة الناس بشكل فردي لا تُغَيِّر من واقع الأمة المُزْرِي شيئًا، وإن ربطت وحسنت علاقة الفرد بربه، وغيرت سلوكه، وصححت مسيره إلى الله.
ألا إن المطلوب هو التوبة الصادقة التي تعُم كل أفراد المجتمع أو أغلبهم، وتشمل مؤسساته وإداراته وهيئاته وحكَّامه ومسؤوليه من أدناهم منزلة إلى أعلاهم مسؤولية، توبة تنقل الفرد إلى الاستقامة على الدين والالتزام به والدعوة إليه وخدمة أفراد المجتمع وإسداء الخير لهم وأداء واجباتهم والسهر على مصالحهم والتألم لآلامهم والتطلع إلى تحقيق آمالهم والإشفاق على ضعيفهم وإغاثة محرومهم واجتناب كل ما يضرُّ بهم ويعطل مصالحهم ويحرمهم من حقوقهم، كالرشوة والاحتكار والسرقة والاستغلال وأكل أموالهم بالباطل، وتنقل الحكام والحكومات من التفرد باتخاذ القرارات والتصرف في الأموال والثروات إلى إشراك أفراد الأمة وأخذ آرائهم بعين الاعتبار، وإعطائهم نصيبهم الذي يستحقون من مال الله، وتوزيعه بعدل وإنصاف، دون ظلم أو نقص أو إجحاف، وتوبة تنقلهم من التزيُّن بالإسلام إلى العمل به في كل مجالات الحياة ونصرته، والانشغال بقضايا المسلمين أينما وجدوا.
وفي الجانب السياسي: توبة من التزوير والتمرد على إرادة الشعوب وانتهاك حقوقهم والضحك عليهم إلى قضاء مصالحهم وتحقيق مطامحهم واحترام توجهاتهم. توبة أصحاب المؤسسات والمشاريع الهدامة الحرام التي تنشر الشر، وتشيع الإجرام والفواحش، وتقوم على استغلال الضعفاء واستنزاف طاقاتهم. توبة تطهر المجتمع من المظاهر المشينة ومن فساد المفسدين كالإجرام والخمر والمخدرات والرشوة والربا والزنا والسرقة والقمار والاحتكار، وتطهر القلوب من سواد المعاصي وأكدارها، وتطهر النفوس من وساوسها وهواجسها. توبة تكون معها قلوب الأغنياء رحيمة، وبالعطاء كريمة. توبة تسود معها قيم التسامح والإحسان والحب، وتهب معها نسائم الخير، وتنتشر أخلاق المجتمع الأخوي الفاضل الطاهر، بدل أوصاف مجتمع التنافر والكراهية والبغض والاستغلال والأنانية والتسلط والاستعلاء.
توبة كل أفراد الأمة حيث تنقلهم من الاهتمامات الشخصية الفردية إلى الاهتمام بكل قضايا أمتهم، والفَتْل في حبل النهوض بها، ورَتْق ما انتُقِض من عُرَاها، بدءًا بما انتقض أولاً، ثم التدرج بحكمة ورحمة وهِمَّة.
وفي الجانب الإعلامي توبة من الكذب والتلفيق والافتراء والتضليل والتسفيه والتمويه والتشويه إلى الإصلاح والإرشاد والتوجيه ونشر الأخلاق والفضائل والحقائق وفضح المفسدين الظالمين المستغلين المستبدين وتوعية الناس بقضاياهم المصيرية، وأولها وأهمها المصير إلى الله اللطيف الحسيب الرقيب، وبما يجب عليهم فعله في كل مرحلة من حياتهم.
فلا بد من التوبة النصوح في كل مجال حتى تصلح الأحوال وتزول المصائب والأزمات والأهوال، وإلا فتوبتنا غير صادقة، وطريقنا خاطئ غير موصل، تحُفُّه المخاطر.
ألا فليكن رمضان بداية لتوبة حقيقية، وبداية انطلاقة راشدة ورجوع صادق إلى الله، توبة تنقلنا من التيه إلى الرشاد، ومن الذلة إلى العزة، ومن التخلف إلى التقدم، توبة تجعل لنا شأنًا عند الله، وذكرًا في الملكوت الأعلى، وموطئ قدم بين الأمم، فلا فرصة أجمل ولا لحظة أتم وأكمل من أيام رمضان ولياليه للراغبين في التوبة والطالبين للعفو والمغفرة.
اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين، واحشرنا مع أهلك وخاصتك، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4456)
العشر الأواخر وآخر جمعة من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
25/9/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار برحيل شهر رمضان. 2- فضل العشر الأواخر من رمضان. 3- فضل ليلة القدر. 4- هدي النبي في العشر الأواخر من رمضان. 5- فضل الدعاء. 6- مسائل متعلقة بزكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله؛ فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يُبلِّغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وكُفي من شرور النوائب.
معاشر المسلمين ، هذه أيامُ شهركم تتقلص، ولياليه الشريفةُ تنقضي، شاهدةٌ بما عملتم، وحافظةٌ لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محفوظة، ينادي ربكم يوم القيامة: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم.
هذا هو شهركم وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ، هلا تأملتم الأجل ومسيرَهُ، وهلا تبينتم خداع الأمل وغرورَهُ.
أيها الإخوة، إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامه بقية، بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ، إنها عشره الأخيرة التي مضى شيء منها، بقيةٌ كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأخيرة شمر وجدَّ وشدَّ المئزرَ، هجر فراشه وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان؟!)) يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، ويتّجه إلى حجرات نسائه آمرًا: ((أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون ، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيِّعوا فرصةً في غير قربة.
إحسانُ الظن ليس بالتمني، ولكنَّ إحسانَ الظن بحسنِ العمل، والرجاءُ في رحمةٍ مع العصيان ضربٌ من الحمق والخذلان، والخوفُ ليس بالبكاءِ ومسحِ الدموع، ولكنَّ الخوفَ بترك ما يُخَافُ منه العقوبةَ.
معاشر الصائمين، هذه العشر الأواخر من رمضان كأني بها واقفة تناديكم فتقول: أنا العشر الأواخر من رمضان، قد حللت بكم فهل عرفتم ماذا يعني قدومي؟! إن أول معنًى لقدومي هو إنذار لكل ذي بصيرة ولب بأن شهركم هذا قد آذن بالرحيل، وحق لكل من أحب هذا الشهر أن يحزن على فراقه لما وجد فيه من لذة العبادة وشفافية القلب وصفاء وارتقاء الروح. أعرفتم معنى الأواخر؟! أي: خاتمة الشهر، وقد أخبر نبيكم وحبيبكم بأن الأعمال بالخواتيم، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري حيث قال: ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) رواه البخاري. فعجبًا لقوم من بني الإيمان اجتهدوا في أول الشهر ثم لما اقتربت نهاية الشهر وخاتمته شغلوا بملابس العيد وبحلوى العيد وببرنامج العيد، فما لهم نسوا أن الأعمال بخواتيمها؟!
معاشر المؤمنين، إن من رحمة الله بكم أن اختصني من بين سائر ليالي وأيام العام بليلة القدر، أتدرون ما ليلة القدر؟! إنها ليلة اختصها الله من بين ليالي السنة، وشرفها بأن أنزل فيها كتابكم، أنزل فيها قرآنكم الذي بين أيديكم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأخبركم بذلك في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. وفي هذه الليلة المباركة العظيمة يحدث أمر عظيم، يقول عنه الخبير اللطيف: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، أي: في هذا اليلة يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة مقادير العام وما يحدث فيه، وما يكون فيه من الآجال والأرزاق والأحداث، قال بذلك ابن عمر ومجاهد والضحاك وغير واحد من السلف. فعجبًا لعبد تكتب مقاديره وما يحدث له طوال العام وهو في حالة غفلة عن الله، وما أسعد عبدا كان في تلك الليلة مقبلا مناجيا لربه ومولاه.
هذه الليلة أكرمكم الله فيها بالأجر المضاعف العظيم، يقول سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]. فما أعظمها من منحة، وما أكرمها من عطية، ليلة واحدة تقومها لله تكون خيرًا لك من عمرك كله، خير لك من ثلاثة وثمانين عامًا وربع العام، فأنت قد لا تعمر حتى تصل الثمانين، وإن وصلت فهل ستنفق عمرك كله في العبادة؟!
عباد الله الصالحين، دعونا نقترب بالمثال أكثر من الواقع، فلو قيل لأحدنا في عمله: لو عملت شهرًا كاملاً متواصلاً سوف تعطى رواتب ثلاث وثمانين عامًا، ألا ينظر إليها بأنها صفقة رابحة؟! ألا يحاول أن يكيف ظروفه ووضعه وحياته ليتفرغ لأداء عمل ذلك الشهر ليحصل على المقابل؟! والمقابل هنا لا يتطلب جهدًا كبيرًا، فربكم لم يطلب منكم إلا عشر ليالي فقط، ويضمن العبد بذلك أنه قام ليلة القدر، وأنه قد حصل ـ بإذن الله ـ على أجر يزيد على عبادة ثلاث وثمانين عامًا، أفلستم معي بأنها صفقة رابحة من الكريم سبحانه؟! وليس هذا فقط ولكن استمعوا معي إلى ما أخبركم به نبيكم وحبيبكم بقوله: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري.
الله أكبر، ليلة واحدة تقومها يغفر لك ما فعلت من ذنوب وخطايا طوال عمرك الذي مضى، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم وعظيم خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي؟! وما أشد غبن من فرط في ترصد هذه الليلة وقيامها.
أيها الأحبة في الله، إن هذا الأجر العظيم لا يلزمه أن يعرف المرء أي ليلة هي ليلة القدر، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر، ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف، لحديث أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) رواه الترمذي. لكن البلية يوم أن يقوم عباد مع الإمام القيام الأول ثم هم بين القيامين يرتكبون المنكرات والمعاصي من تدخين ونظر في القنوات ونحوها، ثم يعودون مرة أخرى ليقفوا خلف الإمام في القيام الثاني حتى إذا انتهى القيام الثاني وعادوا لمنازلهم وفي الثلث الأخير من الليل ذلك الوقت الفاضل يعودون لمنكراتهم والعياذ بالله. فنقول لهم: ألا تستطيعون التخلي عن تلك المنكرات ولو لمدة العشر الأواخر من رمضان؟!
ومن الناس من يدخل عليه عدوه مدخلاً عجيبًا ليفوت عليه هذا الأجر العظيم؛ بحيث إنه يقوم الليلة الأولى من ليالي العشر ثم يقنعه بأنها هي ليلة القدر، فيتكاسل المسكين ويجلس أو ينشغل عن قيام بقية العشر، وقد تكون ليلة القدر أمامه فيخسر ويحرم من هذا الأجر العظيم. وقد رجح أهل العلم جمعًا بين النصوص أن ليلة القدر هي ليلة متنقلة في العشر الأواخر من رمضان، وهي في ليالي الوتر آكد.
فتحروا ـ معاشر المؤمنين ـ هذه الليالي من هذا الشهر، وإن كان فات من العشر ما فات فما يدريكم قد تكون فيما بقي منه. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغني وإياكم تلك الليلة، وأن يوفقنا لقيامها، وأن يتقبل منا ومنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنّه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أهل الحمد والشكر والإحسان والبر، أحمده سبحانه فضَّل شهر رمضان وخص أيام العشر، وعظم فيها ليلة القدر، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا للعشر الأواخر من رمضان قدرها، ولكم في نبيكم وقدوتكم أسوة حسنة، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه شديد التحري لهذه الليلة وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد كان يتفرغ لها تفرغًا تامًا؛ حيث كان يعتزل أهله وبيته ويعتكف في المسجد، وقد اعتكف مرة من شدة تحريه شهر رمضان كاملا، فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي خطيبا صبيحة عشرين من رمضان، فقال: ((من كان اعتكف مع النبي فليرجع؛ فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء)) ، وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قزعة فأمطرنا، فصلى بنا النبي حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله وأرنبته تصديق رؤياه. وها هي زوجه الحبيبة أمنا أم المؤمنين تحكي لنا حاله بقولها: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. فأقبلوا على ربكم، وأحيوا ليلكم، وأيقظوا أهلكم؛ تأسّيا بسنة نبيكم. وقدِّموا لأنفسكم، وجِدُّوا وتضرعوا، تقول عائشة أمُ المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
نعم أيها الأخوة ، الدعاءَ الدعاءَ، عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أتعلمون من هؤلاء العباد؟! إن الخلائق كُلَّهم عبادُ الله، ولكنَّ هؤلاء عبادٌ مخصوصون، إنهم عُبّاد الدعاء، عُبادُ الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون مع عظم رجاءٍ وفي رغبة وإلحاح، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ.
إنَّ للدعاءِ ـ أيها الإخوةُ ـ شأنًا عجيبًا وأثرًا عظيمًا في حسن العاقبة وصلاحِ الحال والمآل والتوفيقِ في الأعمال والبركةِ في الأرزاق. أرأيتم هذا الموفق الذي يلجأ إلى الله في كل حالاته ويفزعُ إليه في جميع حاجاته؟! يدعو ويُدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفانِ وأبناؤه البررةُ والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخُلُق، وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظٌ من الله بالعناية والتسديد وإصلاح الشأن مع التوفيق. أين هذا من محرومٍ مخذولٍ لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه ويستكبر عن دعاء مولاه، محرومٌ سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة ، إن نزعَ حلاوةِ المناجاةِ من القلب أشدُّ ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟!
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو بابُ السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا ولا يُخيِّب راجيًا، فهو غياثُ المستغيثين وناصر المستنصرين ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون ، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة: العشرُ الأخيرة، جوفُ الليل من رمضان، والأسحارُ من رمضان، دبُرُ الأذان والمكتوبات، أحوالُ السجود، وتلاوةُ القرآن، مجامعُ المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون في هذه العبادة العظيمة؟! ألظّوا بالدعاء رحمكم الله ، لا تسأموا ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة، فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأولَ ثم فقد الثاني في مددٍ متطاولة، مازاده ذلك بربه إلا تعلقًا: عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]، ونبي الله زكريا عليه السلام كبرت سنة واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا [مريم:4]. لا تستبطىء الإجابة يا عبد الله؛ فربك يحب تضرعَك ويحب صبرَك ويحب رضاك بأقداره، رضًا بلا قنوط، وقد قال : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)) متفق عليه.
أيها المسلمون ، أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً وأكثرِها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار، وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته. المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرِم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فُرص الشهر وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبونٌ من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرفْ عينُه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة.
أيها المسلمون، لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك أعمالاً تفعلونها، من ذلك إخراج زكاة الفطر، وتسمى صدقة الفطر، ويقال للمخرَج: فطرة، وهي المقصودة في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى? [الأعلى:14]. وقد أضيفت إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهي صدقة عن البدن والنفس.
زكاة الفطر يخرجها المسلم قبل صلاة العيد شكرًا لله تعالى على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه، يختم بها المسلم عمل رمضان.
زكاة الفطر يخرجها المسلم من غالب قوت البلد، والأصل فيها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من شعير، على كل حر وعبد ذكر أو أنثى، على الصغير والكبير. ويستحب إخراجها عن الجنين فقد كان السلف رضي الله عنهم يخرجونها عنه. ويجب أن يخرجها عن نفسه وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأَولى أن يخرجوها عن أنفسهم لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
أما عن وقتها فإن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس ليلة العيد؛ لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وزمن دفعها له وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز، فأما وقت الفضيلة فهو صباح العيد قبل الصلاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه البخاري ومسلم. وأما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين لما ثبت عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنه كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها فهي صدقة من الصدقات.
والواجب في زكاة الفطر صاع من غالب قوت أهل البلد من بر أو شعير أو أرز أو تمر أو زبيب أو أقط، وكلما كان أجود فهو خير وأفضل. فعلى كل مسلم ذكر أو أنثى صغير أو كبير حر أو عبد أن يخرج صاعًا من طعام بصاع النبي أو ما يعادله كيلاً أو وزنًا، ولا يجزئ أقل من ذلك، والصاع بمقاييسنا الحالية يساوي بالوزن المتعارَف اثنين من الكيلو ومائتين غرامًا بالاحتياط.
أيها المسلمون، وزكاة الفطر تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج، سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين، وإذا كان الشخص لا يعرف فقراء البلد فيسلمها للجمعية الخيرية ويقومون بتوزيعها نيابة عنه.
ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا، وقد شرع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر، وبناء عليه فلا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وإنما يجب أن تكون من غالب قوت أهل البلد، يقول العلماء: "إن إخراج القيمة لا يجزئ لأنه مخالف لأمر النبي ، ولأنه مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يخرجونها صاعًا من طعام". ثم إن هذا ما عليه الفتوى من علماء هذه البلاد، فمخالفة رأي العلماء أيضا أمر صعب؛ فإنا لم نصل إلى ما وصلوا إليه من العلم الشرعي حتى نخالفهم.
تقبل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
هذا واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4457)
عيد الفطر 1426هـ
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الشرك ووسائله, فضائل الأعمال, محاسن الشريعة
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
القنفذة
1/10/1426
جامع الفلحة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات مع العيد والتكبير. 2- خطورة الشرك بالله تعالى. 3- من صور الشرك. 4- وقفات مع العيد والانتماء. 5- وقفات مع العيد وأحوال المسلمين. 6- وقفات مع العيد ورحيل رمضان. 7- وقفات مع العيد والأخوّة. 7- وقفات مع العيد والعبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فها هو العيد يعود مرة أخرى، ها هو يطل على الأمة من جديد، ها هو يكسو المسلم اليوم فرحة عظيمة يجدها بين جوانحه، ويعبر عنها في هذا اليوم المجيد، فأهلا بالعيد بكل ما يحمل في طياته من فرحة، أهلا بالعيد وكل عام وأنتم بخير.
أيها المسلمون، في العيد معاني نستلهمها في صباحه المشرق، فنعيد بها مراسم حياتنا، ونحن نفرح به ونشعر بوهج الفرحة يخالج قلوبنا، وإليكم أهم هذه المعاني:
أولا : العيد والتكبير: البارحة دوّى التكبير في بيوت المسلمين وفي طرقاتهم، وراح المسلمون كلهم يأتمرون بأمر الله تعالى، ويحيون سنة عظيمة في تاريخ الإسلام، حين يلهجون بالتكبير في كل فجاج من أرضهم، وبات صدى الصوت البارحة وهذا اليوم معلمًا من معالم الإسلام، وصورة حية من صور الاقتداء: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
والمتأمل في هذه الكلمة يدرك بعضًا من أسرارها، فالله أكبر من كل شيء يعارض منهجه ويخالف شريعته، الله أكبر من كل مخلوق يعارض به الناس ربوبيته، الله أكبر كلمة دوّت في بيوتنا وعلى أرضنا، وقبل ذلك دوّت بكل ما فيها من قوة في قلوبنا عقيدة صلبة وتوحيدًا خالصًا وتوجّهًا صادقًا.
أيها المسلمون، لا إسلام بلا عقيدة، ولا عبادة بلا توحيد، إن الشرك مع التوحيد ضدان لا يجتمعان إلا كما تجتمع الماء والنار. أيّ عيد يشهده مسلم اليوم لطّخ إيمانه بلوثات الشرك ودنّس قلبه بسيئة الكفر؟!
لقد وصف الله تعالى أقوامًا يقدمون يوم القيامة مستبشرين بأعمالهم، فرحين بجهودهم، يرجون الفوز عند ربهم، فإذا بتلك الأعمال كالرماد الذي يذره الإنسان في يوم ريح عاصف، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. ولا يصدق هذا في أعظم صورة له إلا في حق المشرك بالله تعالى، المدنّس لجناب الأولوهية، المنتقص من حق الربوبية.
إن الشرك بالله تعالى سيئة قبيحة، توقف عن صاحبها رحمة الله تعالى ولو كان من أعظم الناس قربة إلى الله تعالى، فهذا رسول الله مصطفاه وخليله ورسوله وأعظم أنبيائه، قال الله له محذّرًا من الوقوع في الشرك: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، فإذا كان رسول الله وخليله ومصطفاه متوعّدا بحبوط العمل حين الشرك فكيف بمن عداه؟! لقد قال الله تعالى محذّرًا من هذه السيئة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وعند البخاري من حديث ابن مسعود قال : ((من مات يدعو من دون الله ندًا دخل النار)). وصدق ابن مسعود حين قال: (لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أحلف بغيره صادقًا).
أيها المسلمون، صور الشرك كثيرة، دنّس بها أناس إيمانهم يشعرون أو لا يشعرون، ومن هذه الصور دعاء غير الله تعالى من المخلوقين سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا. ومن ذلك ما يفعله بعض الناس مع أهل القبور بحجة أنهم أولياء أو سادة، ويفعلون لهم ما يفعلون لله تعالى من القربة؛ كالتقرب إليهم بالذبح عند قبورهم، أو التمسّح بهذه القبور، وسؤالهم معافاتهم من البلاء، ففاعل هذا ـ والعياذ بالله ـ مشرك شركا أكبر، فإن اعتقد أن لهم شيئا من أحكام الربوبية فهو كافر كفرًا أكبر، خالد مخلّد في النار، قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: "حتى لو فعل ذلك مع قبر النبي كأن يتمسّح به، ويبتهل إليه، ويدعوه من دون الله تعالى، فإن فاعل ذلك كافر معتد على حق الربوبية".
ومن صور الشرك الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالأنبياء أو الكعبة أو الأمانة، كل ذلك خلاف التوحيد وانتقاص من حق الربوبية. ومن صور ذلك التعلق بالأشخاص؛ كأن يرى أن لهم حظًا من الربوبية كشفاء المرضى أو البرء من العاهات أو حصول العافية منهم نظير ولايتهم كما يدعي ذلك من يدعيه في الأولياء. ومن صور ذلك الذهاب إلى السحرة والكهنة وسؤالهم على وجه التصديق بأخبارهم، أو كمن يذهب بمريضه لساحر أو كاهن راجيًا الشفاء من ذلك. كل هذه الصور وأمثالها تخالف هذه الكلمة التي تدوي على ألسنتا: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
فيا أيها الإنسان المسلم، في يوم عيدك المبارك انظر ماذا أبقيت لله تعالى من عبادتك، ماذا صرفت لله تعالى من عملك وإخلاصك. يا أيها المعايد الكريم، تأمّل توحيدك، وانظر بعين البصيرة إلى إيمانك، ولا يغرنّك حال أقوام ضعفاء لا يملكون لخلاص أنفسهم شيئًا بين يدي الله تعالى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
ثانيًا: العيد والانتماء: العيد تعبير صادق عن انتماء الأمة لدينها، وهو في المقابل دليل على شمول هذه الشريعة ورعايتها للعواطف، وإعطائها فرصة للتعبير عن أفراحها ورغباتها، لقد قدم النبي المدينة ووجد أهلها آنذاك يحتفلون بعيدين يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال لهم: ((لقد أبدلكم الله خيرا منهما: يوم الفطر ويوم النحر)) ، وقال : ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام)).
إن الإسلام جاء متوافقًا مع الفطرة الإنسانية، فجعل له أوقات يفسح له فيها بإفراغ عواطفها، وتعبّر فيها عن مشاعرها، ولذا لا تجد المسلم يتعلّق بأعياد الكفار أو الأعياد المبتدعة في تاريخ الأمة، فليس في تاريخ الأمة عيدًا للأم، ولا عيدًا لوطن، ولا عيدًا لمناسبات غير هذه المناسبات. ومن حقك ـ أيها المسلم ـ اليوم أن تعبّر عن فرحتك بما شئت شريطة أن لا تتعارض هذه الرغبات بشرع الله تعالى، قتدنّس العيد أو تكتب به صورة من الفرح عقيمة في حقيقتها وفي معناها وفي تاريخها.
ثالثًا: العيد والمسلمون: هذا هو مشهد العيد أيها المسلمون، وأنا أراكم اليوم فرحين مستبشرين، ها أنتم ـ أيها المسلمون ـ بين أهلكم وإخوانكم، ها أنتم لا تجدون أقرب تعبيرًا عن هذه الفرحة من هذا الاجتماع واللقاء، وحين رأيت منظركم وتآلفكم واجتماعكم رنا طرفي هناك إلى بلاد المسلمين أردت أن تكتمل الصورة في عيني، فإذا صورة مبعثرة تترامى أمام عينيّ يبعثها أحد التقارير من أرض فلسطين، يقول في ثناياه: تحتجز إسرائيل (3000) طفل فلسطيني كوسيلة ضغط على أسرهم. تتحدث طفلة فلسطينية من تلك الجموع واسمها نور كايد تقول: "اعتقال أخي ترك عندنا فراغًا، فهذه أمي لا تستطيع الإفطار بسبب اعتقال أخي، وأنا تراجعت علاماتي الدراسية من كثرة تفكيري في أخي". وفي مخيم العين غرب مدينة نابلس ومع الأسير يوسف فؤاد سبعة عشر عامًا، وقد كُتب على باب أسرته: "سنظل صامدين"، تقول أمه: "من عامين لم تكتحل عيني برؤيته، لقد جهدت في زيارته حتى رحلت عن مدينتي، وغيرت اسمي وأردت زيارته، لكن دون جدوى". ومن أرض فلسطين إلى أرض الرافدين هناك أسر ممزقة وأطفال ضياع ومرضى من آثار الحروب والدمار. وفي باكستان بيوت مهدمة وأسر مشتتة وأحوال وأحوال. وفي أرض الإسلام في المشرق أو المغرب أحوال مماثلة يصدق في يوم عيدها قول القائل:
أقبلت يا عيد والأحزان أحزان وفِي ضمير القوافِي ثار بركان
أقبلت يا عيد والرمضاء تلفحني وقد شكت من غبار الدرب أجفان
أقبلت يا عيد والظلماء كاشفة عن رأسها وفؤاد البدر حيران
أقبلت يا عيد أجري اللحن في شفتي رطبًا فيغبطنِي أهل وإخوان
أزف تهنئتِي للناس أشعرهم أني سعيد وأن القلب جذلان
وأرسل البسمة الْخضراء تذكرة إلى نفوسهم تزهو وتزدان
قالوا وقد وجهوا نحوي حديثهم هذا الذي وجهه للبشر عنوان
هذا الذي تصدر الآهات عن دمه شعرًا رصينًا له وزن وألحان
لا لن أعاتبهم هم ينظرون إلى وجهي وفِي خاطري للحزن كتمان
والله لو قرؤوا في النفس ما كتبت يد الجراح وما صاغته أشجان
ولو رأوا كيف بات الحزن متكئًا على ذراعي وفي عينيه نُكران
لأغمضوا أعينًا مبهورة وبكوا حالي وقد نالني بؤس وحرمان
هكذا يقول لسان حالهم في كل يوم، لكن العيد أوضح المأساة في صورتها المعتمة، وأبان عن حسرات تخالج قلوب هذه الفئات حتى في يوم العيد الذي تشهده الأمة وهي في غاية فرحها وسرورها. ولكم من يتيم يترقرق الدمع في عينيه لا يجد من يواسيه فقد أبيه، أو أرملة آذاها وكوى قلبها صراخ صِبية صغار يبحثون عن كساء جديد يعبرون به عن فرحتهم، أو مريض أقعده المرض أن يجلب لأهلة وأبنائه كسوة العيد، فخرج كل هؤلاء في يوم العيد بثياب خَلِقة، وألبسة أبلاها الدهر وهتّك أستارها طول الزمن، لم يجدوا غيرها يشاركون بها الناس في يوم فرحتهم.
إنني من على منبر العيد أقدم قُبلة على جبين من يعمل لهؤلاء، فيسعى على كفالة يتيم، أو يتبنّى أسرة فقيرة، أو حتى يجلب لها الطعام والكساء، أو يجهد في ليله لهم بالدعاء. ولن نجد لكل هؤلاء إلا الدعاء خير تعبير نعبّر به عن سمو هذه النفوس وشدة رحمتها وتطلّعها إلى خير باريها، ألا فلتهنأ بالرحمة، وقد قال الغزالي وهو يعلّق على حديث: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها، فغفر لها به)) قال: "لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب".
رابعًا: العيد والرحيل: ها هو العيد ـ أيها المسلمون ـ أقبل كما يقبل كل عام، أقبل وهو يلبس ثوب الفرح، أقبل يخالج القلوب ويشام الروح ويعيش في وهج المشاعر، أقبل بعد أن خلّف شهر رمضان في طيات الزمن، وكتب عليه الرحيل، أقبل بكل ما فيه، وهناك بعيدًا عنه في الجانب الآخر صورة تمثّل رمضان في إدباره ورحيله، وكأن لسان المعايدين اليوم يستلهم هذا الوداع فيقول:
ترحّل الشهر وا لهفاه وانصرما واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرِما
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يَحصد إلا الهمّ والندما
ولكل هؤلاء جميعًا أيًا كانت حسرتهم على فوات شهر رمضان، لا يسعنا أن نقول لهم في يوم العيد: رحل رمضان ولم يبق لنا من رحيله إلا هتاف علي يقول: (ليت شعري، من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه)، رحل رمضان ولم يبق لنا من رحيله إلا قول ابن مسعود : (أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك)، لقد رحل رمضان وكأنه لم يكن، رحل هذا العام وترك من يشهد العيد وهو يلبس الجديد، غير أنا لا ندري أيعود ونحن شهود، أم يعود وقد طمس آثارنا الزمن، ووارى أجسادنا التراب، واندثرت أخبارنا في كثرة الراحلين. ولكأني بالشاعر يخاطبني ويخاطب كل موادع نادم مثلي فيقول:
دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار
واذرف الدموع نحيبًا وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
ولم أجد أصدق تعبيرًا لحالي وحال أمثالي من أن نقول:
يا لائمي في البكاء زدني به كلفا واسْمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مُجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري
إن هذا الرحيل صورة من صور الوداع المُرِّ في حياة الإنسان، والعاقل الفطن يجهّز للرحيل المنتظر لحياته من على وجه هذه الأرض، ولئن شهدنا اليوم وداع رمضان فإن الأيام حبالى بتوديع ذواتنا أو توديع أحبابنا في الرحلة الحتمية لبني الإنسان أيًا كان. فالله الله أن نبرهن بالعمل على صدق النية والاستعداد للنقلة، فإن الغد المنتظر أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، ولا يغرنكم التسويف فإنما آجالنا قد كُتبت، ورحيلنا ربما قد حان.
خامسًا: العيد والإخاء: جاء العيد ـ أيها المسلمون ـ ليرسم على الشفاه معاني الحب، ويكتب في حياة المسلمين حياة من الإخاء الصادق، يقول : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)). والسؤال الذي يطرح نفسه في ساحة العيد بالذات: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟! هل لا زالت مصرة على معاندتها للفطر السوية؟! هل لا زال الكبر يوقد ضرامها ويشعل فتيل حقدها؟! ألا يمكن أن ينجح العيد في أن يعيد البسمة لشفاه قد طال شقاقها؟! إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تُفلح الأعياد في ليّها للحق فإن لفح جهنم قد يكون هو الحل الأخير القادر على كسر مكابرتها ولي عناقها. إلى متى هؤلاء يصمّون آذانهم عن قول رسول الهدى : ((هجر المسلم سنة كسفك دمه)) ، وقوله : ((تُعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس إلا المتخاصمين، فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) ؟! وإن لم يُفلح العيد في تحليل صلابة هذه القلوب فوعيد الله تعالى غير بعيد حين قال في كتابه الكريم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. وقوم أصابتهم لعنة الله تعالى في أنفسهم وعاشت معهم في حياتهم أنّى يجدون طعم الراحة والاستقرار؟! فهذا العيد وهذه أيامه والفرصة سانحة، فلا تفوّتها، لا حرمك الله من الصفاء والوفاء.
سادسًا: العيد والعبادة: لقد رسم شهر رمضان لكثير من النفوس أثر الإقبال على العبادة، والذي أوصلها إلا صفاء في الروح ولذة في المناجاة، وصدقًا في التوجه، وأودع في نفوس الكثيرين درسًا عظيمًا مفاده أن الإنسان مهما أظلته المعصية وأركسته في حمأتها وأحاطت بنفسه عن التحليق في روحانية العبادة إلا أنه قادر ـ بإذن الله تعالى ـ على تجاوز هذا المنعطف في حياته متى ما وصلته الكلمة الهادفة والنصيحة الواعية، وهو يتطلّع اليوم إلى توجيه يرشده إلى طرق أخرى لهذا السمو ولذاك الرقي الذي وجده في رمضان، وهو يتساءل: هل يمكن أن يجد هذه المعاني بعد رمضان؟ وهل يمكن أن يصل إلى تلك النوعية من اللذة التي وجد أثرها في ليالي رمضان وأيامه؟
فنقول له ولأمثاله المتطلعين: نعم يمكن أن تستمر هذه المعاني، وتصل بالفرد إلى أعلى ما يتخيله من آمال وطموحات على مستوى الحياة بأسرها. إن الصيام الذي خلق في النفس روحانية عجيبة لا زال اليوم موجودًا، والفرد مدعو لامتثاله في قول رسول الله : ((من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر)). وحينما يتخطى شهره الذي يشهد فيه العيد يبدأ في تحقيق وصية رسول الله في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو في صيام الاثنين والخميس التي قال فيها لما سئل عن سر صيامها فقال: ((إن الأعمال تُعرض فيها وأحب أن يعرض عملي فيها وأنا صائم)). والصلاة التي وجد فيها سر المناجاة بينه وبين خالقه لا زالت لم يغلق بابها بعد، فهذا رسول الهدى يقول: ((ينزل الله تعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له)) الحديث. فمن يحول بينك وبين هذه اللذة وتلك المناجاة؟!
وحينما يتأمل الإنسان في معنى العبادة الذي جاء لتحقيقها يجد المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حينما قال: "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، وأوسع باب يلج منه إلى تحقيق هذه المعاني فيجد أمام ناظريه الأذى في الطريق فيبادر إلى إزالته، فيلقى على ذلك الأجر في قول رسوله : ((وتميط الأذى عن الطريق صدقة)). وحينما يرى ذلك الرجل يجهد في الركوب على دابته ومن ثم لا يستطيع لكبره وضعف جهده فيبادر إلى مساعدته، يلقى جزاء هذه المساعدة في توجيه رسوله الكريم حين قال : ((وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة)). وحينما يجد أخاه في الطريق فيبتسم للقياه تعبيرًا منه على صدق المودة يجد العوض قريبًا والأجر حاضرًا، وهو قوله : ((وتبسّمك في وجه أخيك صدقة)). وحين يرى منكرًا فيسعى لتغييره وإزالته يجد الثناء عظيمًا من ربه ومولاه في قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وعندما يسعى بجهده في إقامة معروف وإشاعة فضيلة لا يجد جزاء أوفى من قول رسوله الكريم : ((من سن في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)). بل يصل المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حتى إلى أن مداعبة الرجل لأهله على سبيل المزاح أمر يؤجر عليه المسلم ويحصّل به خيرًا كثيرًا عند ربه تبارك وتعالى، حين قال رسول الهدى : ((حتى اللقمة يرفعها إلى فيّّ زوجته له بها أجر)). إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي حث الشرع عليها وأرشد لها. والمتطلع إلى الأجر الذي أوصله وجده على فراق رمضان إلى حد البكاء، يمكن أن يعيش في ظل الإيمان والبحث عن الخير والمحافظة على المعروف إلى أرقى معاني العبودية بينه وبين ربه تبارك وتعالى.
وأخيرًا أيها المسلمون، العيد صورة من الفرحة تبدو واضحة حين يداعب الرجل أهله وأبناءه في يوم العيد، وحين يشاركهم لهوهم وسعادتهم في مثل هذه الأيام، ويبدو العيد أكثر فرحة حين تمتد اللقاءات بين الجيران والأصدقاء، حين يخرج المرء من بيته قاصدًا أهله وصحبه وإخوانه، لا لشيء إلا لمدّ فرحة العيد في قلوب الآخرين. وتبدو أكثر أثرًا وأوضح صورة حين يتجاوز أحدنا خلافاته مع الآخرين فينطلق إليهم إلى بيوتهم، فيقبلهم داعيًا لهم بهذه القدوة إلى نوع من الإبداع في صورة العيد في نفوسهم. نحتاج إلى عيد خاليًا من دنس المعصية، بعيدًا عن جرح النفوس الفرحة بالعيد على وجه العبادة. العيد صورة من صور العبادة لله تعالى، والفرحة التي نعيشها فيه إنما تنطلق من سياج العبودية العظيم، والفرح حقيقة هو الفرح في ظل هذا السياج العظيم.
واحذر ـ أخي المسلم ـ أن تبدد الفرحة اليوم بمقارفة منكر أو دنس ريبة، وحلّق بقلبك في سمو هذه الشريعة تجد فناءها أوسع فناء.
هنيئًا بالعيد يا أهل العيد، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا.
ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4458)
بين الصبر والنصر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
30/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة ابتلاء الأنبياء وأتباعهم. 2- محاربة الكفار للنبي. 3- سرعة انتشار الإسلام. 4- تسلط الأعداء على الأمة الإسلامية. 5- المخرج من الهوان. 6- سبب ضعف المسلمين. 7- سبيل تحقيق التضامن الإسلامي. 8- العاقبة للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]. من اتقى الله وقاه وكفاه وآواه، ومن كلّ كربٍ نجّاه. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنكم خُلقتم لأمر عظيم، فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
أيّها المسلمون، لقد خلَق الله تعالى الجنَّ والإنس لعبادته وحدَه، وابتلاهم بحكمتِه فصاروا فرِيقين، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]. ولم يزلِ الشيطان يجتهِد في الإبرارِ بقسمه لإغواءِ بني آدم مجلِبًا عليهم بخَيله ورَجلِه ممتطِيًا شياطينَ الجنّ والإنس، وما بعث الله تعالى نبيًّا ولا رسولاً إلا عودِيَ وكذّب وأوذِيَ، وهذه سنّة الله تعالى الجارِية بحكمتِه في رسلِه وأنبيائه وفي أتباعِ الرّسل، من لدن نوحٍ عليه السلام وإلى يومِنا هذا، واقرأ في التنزيل العزيز قصَصَ الأنبياءِ وأتباعِهم، كلُّهم أوذِيَ وطورد، ومنهم من قتِلَ أو أُبعد. ألم يلقَ إبراهيم الخليل في النار؟! ألم يطارَد موسى وقومُه إلى فجاجِ البحار؟! ألم تقتل بنو إسرائيل أنبياءَ الله؟! ألم يجتهِدوا لقتل وصلبِ المسيح عيسى ابنِ مريم، فأنجاه الله ورفعَه إليه وآواه؟! ثم مَاذا لقي سيِّدُ الرسل وأشرَف الخلق محمّد ؟! تمالَؤوا على قتلِه، ولحِقوه في دار هجرَته، وحاربوه، وقتَلوا أصحابه، وشجُّوه وكسروا رباعِيته، وخاضوا في عرضِه، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. وفي كلِّ هذه الأحوالِ تكون العاقبةُ الحسنى للمتَّقين، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
بل حتى لمّا أظهرَ الله تعالى نبيَّه محمّدًا جاءت جَحافلُ الروم من أقصى أراضِيها مِن غربِ شمال الأرض لتهدمَ الدين الفتيَّ في جزيرة العرب، والذي لم يحارِبهم ولم يدخُل أراضيهم. إنَّ النبيَّ حين تجهّز لغزوةِ تبوك لم يكن مبتدئًا بقتال بقدر ما كان مبتَدئا بالدّفاع، فما الذي أتى بالرومِ من أقصى أراضيهم لوأد الدين الجديد؟! إنه الطغيان والحِقد القديمُ والذي لا زال يتجدَّد على المسلمين إلى اليوم. وأتمَّ الله وعدَه لرسله وأتباعِهم حين نجَحوا في اجتيازِ المحن وأظهَرهم الله على أعدائهم.
ومِن لطائفِ تدبير الله أنَّ النبي لم يتجاوز حدودَ هذه الجزيرةِ حين كان يدافع عن دينهِ، ثم لم تمضِ ستُّ سنين حتى كان خليفته الفاروق رضي الله عنه يتسلّم مفاتيحَ بيت المقدس، ويصلي في المسجدِ الأقصى، ويأبَى البطارقة تسليمَ المفاتيح إلا للفاروق رضي الله عنه، ويعترِفون بوجود صفتِه في الكتب التي بين أيدِيهم، ويقِرّهم على أموالهم وأملاكهم، ويترك لهم كنائسَهم، ويطوِي عليهم كنفَ رحمة الإسلام وعَدله، ويشملهم بحمايتِه ورعايته.
ثم تدول الدوَل، ويفرِّط بعض المسلمين في عهد الله، فيضيع بيتُ المقدس، بل كثير من بلادِ المسلمين، بل عاثَ الأعداء في الدّماء والأموال والديارِ والتراب على طريقَةِ وحوشِ الغاب.
حكَمنا فكان العدلُ منّا سجيّةً فلما حَكمتُم سالَ بالدم أبطَحُ
وصدق الله: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:8].
عبادَ الله، ولم تواجِه أمّةٌ من الأمَم كما واجهت أمّة لإسلام، خصوصًا في العصر الحاضر، في زمنِ عولمة المبادئ والفكر وهيمنةِ القوّة على القِيَم، تهدَّد أمَمٌ بالذّوبان وشعوب بالضّياع، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
ولقد كانتِ المؤامرات في السّابق تُحَاك ضدَّ الإسلام وأهله، أمّا اليومَ فلا مؤامرات، بل هي حرب معلنةٌ تحرِّكها أحقاد الماضي وأطماعُ الحاضر والمستقبل، في حالٍ وصلت فيه أمّة الإسلام إلى مرحلةٍ واهنة، أصبحَ فيه الصراع صراعَ بقاء أو اضمحلال. وحالُ المسلمين اليوم ليسَ بحاجةٍ إلى شرح أو تصوير، والتباكي على واقع الأمة لن يجديَ شيئا، إنما المجدِي هو التفكير الجادّ في سببِه وعلاجه ودائِه ودوائه، ثم السعيُ الصادق المخلِص لإصلاح النفس والمجتمَع لإصلاحِ الأمة كلِّها.
أيّها المسلمون، إنَّ التنظيرَ للأمة ليس بالأمر الهيِّن، والتطبّب بعلمٍ وبلا علم في جسَد الأمة المثخَن ليس كلأً مباحًا لكلِّ أحد، ولقد خاض في لجّةِ هذا الأمر ألوفُ الأفراد والجماعات، كلُّهم يرى أنه الطبيب المداوِي، فمخطئٌ ومصيب، ومغرِب ومقارب، والحقُّ أنّ أمةً قامت برسالةٍ ذات معالم وحضارَة ذات مبادئ لن تنهَضَ من عثرتها ما لم تعُد لذات الرسالة وتترسَّم السننَ الإلهية والقواعد الربانيّة في قِيام الأمم وتعثُّرها ونهوض الدول وسقوطها، وكلُّ ذلك مبثوثٌ في القرآنِ العظيم.
أيّها المسلمون، لا يجادِل عاقلٌ في أثر الأعداءِ في تحطيم الأمة والنّيل منها والكيدِ لها والتربُّص بها، إلاّ أنَّ هذا في ميزانِ السنَن ليس هو السبَب الرئيس في الوضع التعِيس الذي وَصلت إليه كثيرٌ من أحوال المسلمين. إنَّ هنالك قانونًا إلهيًّا يجب نصبُه أمامَ العين: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
إنَّ الصّحابةَ الأبرارَ الذين يقدِّمون أعناقَهم وأرواحهم في سبيلِ الله ويقاتلون بجِوار رسولِ الله تحوَّل نصرُهم في غزوة أحُد إلى هزيمة؛ بسبَبِ مخالفة قلّةٍ منهم في أمرٍ تأوَّلوا فيه، فنزل الرماةُ من الجبل وقد نهاهم النبي عن النزولِ، لكنّهم ظنّوا المعركةَ قد انتهت. فهل تقيس الأمة اليومَ مخالفاتها بهذا المقياس؟! لقد صدق الله: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. إنَّ سنَنَ الله لا تحابي أحدًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].
عبادَ الله، إن حرثَ الدنيا وعلومَها أمر مشتَرَك بين شعوبِ الأرض من شرقها لغربِها، لكنَّ رسالةَ هذه الأمة من نوعٍ آخر، لا قيام لها بدونه، ولا سعادةَ للبشرية إلا بهديِه، إنها رسالةُ السماء ودين الله الخاتم، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فهل قامت الأمّة اليومَ برسالتها حتى تستحقّ أن تقودَ العالم؟! إنَّ دين الإسلامِ ليس ضمانًا للآخرة فحسب، بل هو سببُ بقاء الأمّة في الأرض وإثبات هويتِها، وإلاّ فليست بشيء دونَه. ومِن خيانة الأمة أن تبردَ عاطفتها تجاه حقوق الله، وأن تجعلَ حبَّها وبغضها مرتبطًا بمصالحها لا بمبادِئها. وإنَّ الأعداءَ كَسبُوا معارِكَهم حين أفلح الغزوُ الثقافيّ في الإبحار بفئامٍ من الأمة بعيدًا عن دينهم، وتهوين قِيَمه ومثُلِه وأحكامِه أمام أعين أبنائِه، وحين أفلح في صنعِ جيلٍ يُقاد من غرائزه ويُغرَى بعبادةِ الحياة الدنيا وينسى ربَّه وآخرتَه.
عبادَ الله، لسنا أوّلَ أمةٍ ابتُلِيت وفُرِض عليها أن تكافحَ لتحيا كما تريد، وإنَّ الهزيمة تجيء من داخلِ النفس قبل أن تجِيء من ضغوطِ الأعداء. ولما أمَرَ الله بني إسرائيل بدخولِ الأرض المقدَّسة ووعدهم بالنصرِ إن هم دخلوا كما أمرَ أبوا وتعلَّلوا بقوّة العدوّ، فلم يستحقّوا دخولَها، بل كتب الله عليهم التّيهَ أربعين سنَة، حتى انقرَض الجيل الواهن الخامِل، ونشأَ جيلٌ جبَلته المعيشةُ بين الجبال أن يكون مثلَها في علوّ همّته وقوّة بأسه وثباتِه.
أيّها المسلمون، إنه يمكن تصوّرُ تضامنٍ إسلاميّ ناجح إذا التفَّ الرعاة والرعية حولَ كتاب الله وسنّة رسوله ، وارتَقَى العقل إلى مستوَى الشمول في القرآنِ العظيم، وسارَ علَى هديِ الوحي. والعملُ للوحدة الإسلامية شرفٌ باذِخ ومجد شامخ، لم يفلِحِ الأعداء في النيلِ من الأمة إلا حين تفرَّقت وتمزَّقت. يجب على المسلمين أن يدرِكوا هذه الحقيقة، وأن يستضيئوا في نهضَتِهم بالوَحي، ويلتَزِموا شرائعَ الإسلام وشعائرَه، وعليهم مع ذلِك كلِّه أن لا يغفِلوا الأخذَ بالأسباب المادّيّة، والتي هي من سنَنِ الله في الكون، وأن يستفِيدوا من تجارِبِ الأمم حولَهم، وما أصلَحَ بعضَ جوانب دنياهم يمكِن أن يصلِحَ جوانبَ مِثلها من دنيانا.
وثمّةَ جبهاتٌ يقتضيها شمولُ الإسلام تجِب مراعاتُها عند نُشدانِ الرّقيّ، أهمُّها جبهَةُ الأخلاق والسّلوك والتنمِية والعلم والتّعليم.
وأمامَ العامِلينَ المخلِصين لأمّتهم ميدانٌ رَحب للرقيِّ بأمّتهم ودفع السوء عنها، وإنَّ وعد الله حقٌّ آتٍ لا محالة، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفَعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه وبعد: أيّها المسلمون، إنَّ مِنَ المبشِّرات والمحفِّزات أنَّ الأمّةَ مزوَّدَة بدينٍ عصِيٍّ على الفناء، له قدرةٌ على بعثِ الروح الهامِدَة وتجديدِ الأسمالِ البالية، وتِلك وعودُ لله في الكتابِ والسنة، وهي ما زالَت تستَشفي من سقامها، وتنتَقِل في مراحل العافيَة من طَورٍ إل طور، وتحاول أن تستعيدَ قواها كلَّها، وتستأنفَ أداءَ رِسالتها الأولى، وأُرَاها بإذن الله بالغةً ما تحِبَّ.
ومع تفاقُم المحَن ترى في طيّاتِها المِنَح، وسننُ تقضِي سقوطَ الطغيانِ والاستبداد والاستعلاءِ بالظلم والفساد، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. وفي سورَةِ يوسف وفي أَطواءِ فصولٍ مُثيرة منَ الغربة والسّجن والإغرارِ والظّلم يبرُز قانونان جليلان، الأول: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، والثّاني: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]. ففي الآيةِ الأولى نهجٌ صارِم في الاستقامة على التّقوى الصبرِ والإحسان، وفي الأخرَى الاستنادُ إلى الله في ارتقابِ مستقبَلٍ أفضل مهما أظلَمَت الآفاق في مرأَى العين، فهل تتِمّ تنشِئَةُ الأمة على هذه القواعدِ؟!
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال عز شأنه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد...
(1/4459)
بوابة الزمن
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اغتنام الأوقات
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
24/12/1422
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأيام والليالي. 2- حقيقة الدنيا. 3- وقفة محاسبة مع نهاية العام. 4- نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم. 5- الوصية بفتح باب المحاسبة مع النفس في نهاية العام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فوا عجبًا لتلك البوابة، ما أعظمها، ما أوسعها، ما أكبرها، اتسعت لملايين البشر على مر التاريخ، كلٌ يدخل منها ويمضي، دخل منها آدم وموسى وعيسى ومحمد والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام، دخل منها الأغنياء والفقراء، والكُبراء والحقراء، والرجال والنساء، اتسعت لملايين الأحداث، أممٌ تباد ودولٌ تشاد، حروبٌ طاحنة ونوازل ساخنة، عجبًا لها من بوابة، لم تضق يومًا بالموتى ولا بالمواليد، ولا بالأفراح ولا بالأتراح، عجبًا لها من بوابة قد أشرعت أبوابها يوم أن حط آدم قدمه على الأرض، وستغلق بإذن ربها يوم أن يأذن الله بخراب الدنيا وزوال العالم.
نعم يا رعاكم الله، إنها بوابة الزمن، تلج من بوابتها السنين تلو السنين، وها هو العام الثاني والعشرون بعد الأربعمائة والألف للهجرة قد أزف رحيله وقرب تحويله، ها هو يطوي بساطه ويقوض خيامه ويشدُّ رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، يا لله! العام الثاني والعشرون قطعناه من أعمارنا، أين ليله؟! أين نهاره؟! أين يومه؟! أين شهره؟! أين صيفه؟! أين شتاؤه؟! أين أفراحه؟! أين أحزانه؟! أين أنفاسه؟! أين لحظاته؟! إي وربي، إنها دوامة الزمن لا تقف لأحد، لا تنتظر أحدا، لا تحابي أحدا.
إخواني، إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن في الآخرة منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته.
ما كان شقاء الأشقياء ـ وربي ـ إلا أنهم كانوا لا يرجون حسابا، فوافتهم المنية وهم في غمرة ساهون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ [الحديد:20]، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
سبحان الله! ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟! أما علموا أن حياتها عناء ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى وملكها يفنى، ودّها ينقطع وخيرها ينتزع؟!
انظر إليها: ولادة وطفولة، وشباب وشيخوخة، ثم المشيب والهرم، ثم ينتهي شريط الحياة، ولكأنها غمضة عين أو ومضة برق، سرابٌ خادع، وبريق لامع، لكنها سيف قاطع، كم أذاقت بؤسًا، وكم جرعت غصصًا، وكم أحزنت من فرح وأبكت من مرح، وكدرت من صفو وشابت من غير. خدَّاعة مكارة، ساخرة غرارة، كم هرم فيها من صغير، وذل فيها من عزيز، وافتقر فيها من غني، أحوالها متبدلة، وشؤونها متغيرة، لا ترى فيها إلا راحلاً إثر راحل، أيام معدودة وأنفاس محدودة، وآجال مضروبة وأعمالٌ محسوبة.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وروى الترمذي وغيره أن النبي قال: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في هذه الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
يروي ابن حجر في الإصابة أن ضرار بن ضمرة قدم يومًا على معاوية فقال له: صف لي علي بن أبي طالب، فكان مما قال فيه : فإنه ـ والله ـ كان بعيد المدى شديد القوى، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان ـ والله ـ غزير الدمعة طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، أشهد بالله أني رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قائمٌ في محرابه قابضًا لحيته، يتململ تململ المريض، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: (يا دنيا، يا دنيا، أبي تعرضت، أم لي تشوفت؟! هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد طلقتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق)، قال: فذرفت دموع معاوية وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكلُّ يومٍ منها يدنِي من الأجل
النفس تغترّ بالدنيا وقد علمت أن السلامة منها ترك ما فيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلفٍ ولا الفرار من الأحداث ينجيها
وكلُّ نفس لها دورٌ يصبحها من المنية يومًا أو يمسيها
أيها المسلمون، إن هذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا العام، وإن سير الزمن الحثيث يباعد من الدنيا ويقرب من الآخرة. كان بعض السلف إذا غربت الشمس من كل يوم جلس عند باب داره يبكي، فيُسأل عن سبب بكائه فيقول: قطعت يومًا من حياتي إلى الدار الآخرة، ولا أدري أهي خطوات إلى الجنة أم أنها خطوات إلى النار. فكم من خطوات مشيناها، ومراحل قطعناها، وأوقات صرفناها.
هلموا ـ يا عباد الله ـ لنحاسب أنفسنا، دعونا نتساءل عن عامنا: كيف أمضيناه؟! وعن وقتنا: كيف قضيناه؟! ثم لننظر في كتاب أعمالنا وكيف طويناه، ونتبين ما قدمناه، فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه، كفى تجرُؤًا على حدود الله، كفى اقترافًا لمعاصي الله، كفى قسوة للقلوب وتفريطًا في جنب علام الغيوب، كفى ضياعًا للصلاة.
أتى عليك المحرم ومن بعده صفر، وشهر إثر شهر، وأنت تنام عن الفجر والعصر، لم تعرف روضة المسجد لك مكانًا، فأنت دائمًا في صلاتك تقضي، وبسرعة منها تمضي، مالِ حالك لا يتغير؟! زدت في دنياك وتقدمت، ونقصت في آخرتك وتأخرت. إلى متى وأنت تطلق لسانك يفري في أعراض الناس، ينهش لحومهم، غيبة ونميمة كذبا وافتراء؟! إلى متى وأنت ترى بعينيك ما حرم الله؟! أما تخشى أن تحترق هاتان العينان في نار الله؟!
وأنتم يا رعاة البيوت، يا أمناء البيوت، جلبتم آلات اللهو في بيوتكم، ونشأتم عليها صغاركم ونساءكم، وجعلتم الأطباق الفضائية تاج عز فوق رؤوسكم، وعمن لا يصلي من أبنائكم ويفجر ويعصي غضضتم طرفكم، كفى استحيوا من الله حق الحياء.
وأنتم يا من تنتسبون للدعوة والاستقامة، مضى عام كامل وأمتكم كثيرٌ من أبنائها يغرق في أوحال الشهوات والشبهات، ماذا قدمتم لدينكم؟! ثلاثمائة وستون يومًا كم كلمة فيها ألقيتَ؟! كم شريطًا وزّعتَ؟! وكم كتيبًا نشرتَ؟! وكم عاصيًا نصحت؟! وكم مرة وعظت؟! كم اهتدى على يديك؟! ماذا قدمت لدينك؟! ماذا قدمت لأمتك؟!
إخواني، إنا نودع هذا العام وأمتنا مثخنة بجراحاتها متلمظة بمآسيها، كم من مسلمين في هذا العام ماتوا جوعًا، كم من مسلمين هذا العام شردوا من بيوتهم فلا مسكن ولا مأوى، كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر، كم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتلٌ غليظ، كم من بلدٍ استبيحت حرمته وسلبت أراضيه، كم من أرضٍ أُحرقت ظلمًا لا لشيء إلا أن أهلها يقولون: ربنا الله، كم وكم من الصور المؤلمة التي سيحملها عامنا وسيرحل بها في حقيبته.
أيها العام قد طويت جناحًا وتهيأت للرحيل البعيد
سوف تمضي وقد تركت قروحًا داميات بقلبي المجهودِ
أنا ما زلت أنشد الشعر لكن نغمة الحزن لم تفارق قصيدي
نعم، سل نفسك: كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟! وكم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟! وكم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لإخوانك المساكين المستضعفين؟! وأراك يوم أن أصابك صداع في رأسك دعوت الله وتضرعت، أراك يوم أن جُرح ابنك ومرض سألت الله وتضرعت. فأين هذا التضرع والبكاء لإخوانٍ لك في الإسلام في بلاد شتى؟! لم يصبهم صداع في رأسهم كلا، لم يصبهم صداع لكن شويت رؤوسهم بالنار بقنابل وصواريخ تصب عليهم في الليل والنهار، ولم يجرح أبناءهم أو يمرضوا كلا، بل تقطع أوصال أبنائهم أمام أعينهم، نعم ماذا قدمت لهم؟!
آن ـ والله ـ أن ترجع النفس وتتوب، وتتجه لخالقها وتئوب، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: رضوان ربي على صحابة نبيه، ورحمات ربي على تُباع صحابته، لكَم وكم خلوا بأنفسهم وحاسبوها، وعاتبوها وأنّبوها، فهذا أنس بن مالك يقول: سمعت عمر بن الخطاب لما دخل بستانًا من البساتين وما عنده أحد وقف مع نفسه يناديها قائلاً لها: (عمر أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، والله يا ابن الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنك)، وبكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له: لم تبكِي؟ قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار، ثم أجهش بالبكاء وهو يردد: من يصلي لك يا يزيد؟! من يصوم لك؟! من يتوب عنك من الذنوب؟!
ونُقل عن ابن الصمة أنه جلس يومًا ليحاسب نفسه فعدَّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلي، ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب؟! فكيف وفي كل يومٍ عشرة آلاف ذنب؟! ثم خرَّ فإذا هو ميت. رحمهم الله؛ خافوا فأدلجوا، وزهدوا في الدنيا، وللآخرة قدموا.
أخي يا رعاك الله، اُخلُ بنفسك عند ختام هذا العام، وسلها وخاطبها: بأي شيء هذا العام أودعت؟! استعرض أوراق عامك بأي شي كتبت؟! وعلى ماذا سطرت؟! فإنها ـ والله ـ مدونة عليك، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6].
قف مع النفس التي طالما للعصيان تجرأت، وللمحارم اعتدت، وللطغيان أسرفت، وللقبيح أكثرت، وقل:
يا نفس توبِي فإن الْموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين الْمنايا كيف تلقطنا لقطًا فتلحق أُخرانا بأولانا
فِي كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه نرى بِمصرعه آثار موتانا
أين الملوك وأبناء الْملوك ومن كانت تخر له الأذقان إذعانًا
خلوا مدائن كان العز مفرشها واستُفرشوا حُفرًا غُبرًا وقيعانا
عجبًا ـ والله ـ ممن يوقن بالموت ثم ينساه، ويتحقق الضرر ثم يغشاه، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه، يطول عمره ويزداد ذنبه، يبيض شعره ويسوَّد قلبه، قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.
(1/4460)
بين موسى عليه السلام وفرعون
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, فضائل الأعمال
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
8/1/1423
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب كثرة ذكر قصة موسى مع فرعون في القرآن. 2- قصة موسى مع فرعون. 3- الدروس والعبر المستفادة من هذه القصة. 4- الثبات على مبدأ الحق حتى الممات نصر. 5- فضل صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، إن الناظر للقرآن العظيم ليجد أن القصص والحوادث قد أخذت حيزًا كبيرًا من آياته وخطاباته ونداءاته، وفي كل قصة عبرة وما يعقلها إلا العالمون. وقصص القرآن الكريم تحكي صورًا من صور الصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الأعداء.
ومن تلك القصص قصة عظيمة ما زال الناس يصدرون منها ويردون، قصة تميزت بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها، غاص المفسرون في أعماقها فرأوا العجب العجاب. كيف لا والذي قصها هو رب الأرباب؟! فيا لبلاغة الخطاب، ويا لروعة الجواب، سلوى الدعاة، وبشارة الأمل، وعظيم التوكل، وقوة الإيمان، وفأل المستضعفين والمضطهدين، إنها قصة النبي الكريم مع الطاغية اللئيم، إنها قصة نبي الله موسى بن عمران عليه السلام مع فرعون الظالم.
فيا ترى، هذه القصة لِم كثر في القرآن ذكرها وبآياته طال حديثها؟! قال المفسرون: "لأنها من أعجب القصص؛ فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره الله أن ربّى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع ورزق النبوة والرسالة، فعاد إلى القصر الذي ترعرع فيه داعيًا ومذكرًا ومنذرًا"، وأيضًا أن بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام هم آخر الأمم قبل أمة محمد ، وإن كان عيسى عليه السلام قد جاء بعد موسى إلا أنه جاء لبني إسرائيل أيضًا، وأيضًا لكثرة الآيات لنبي إسرائيل؛ تسع آيات بينات.
إخوة الإيمان، لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل؛ لأنه بلغه أن غلامًا منهم سيولد يكون هلاك حاكم مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم خشي انقراض شعبه، فأمر بقتل المواليد سنة وتركهم سنة، فيقدر الله سبحانه أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي تقتل فيها المواليد من بني إسرائيل، وقد حزنت أمه حين حملت به خوفًا عليه، وحين وضعته، وكذلك وهي ترضعه، ويُوحى إليها أن إذا خافت عليه أن تضعه في صندوق وتلقيه في البحر، فيا سبحان الله، ويا عجبًا من قدرة الله، البحر بأمواجه المتلاطمة ومياهه الغامرة وأعماقه المظلمة هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع، سبحانك إلهنا ما أعظمك، سبحانك ربنا ما أقدرك. نعم البحر المائج والموج الهائج هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع؛ لأنه وعد وهو أحق من وعد: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
وها هي الرياح العاتية تتقاذف صندوق الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال، إلى أين؟ إلى بيت فرعون؛ ليكون جبروت فرعون هباءً وخواءً أمام جبروت الجبار وقدرته جل في علاه وتقدس في سماه.
فيالله، ها هو موسى يولد ويسلم من القتل ويصل إلى بيت فرعون دون عناء، فهل لفرعون أن يقتله أو بالسوء يتعرضه؟! كلا ورب الكعبة، الله يحفظه، ومن السوء يمنعه، بل يربيه ويرعاه فرعون دهرًا من الزمن، وما علم أن الذي بين يديه نهايته على يديه، سبحانه أحكم الحاكمين، يعلم ولا نعلم، يقدر ولا نقدر، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وتتوالى المواقف والأحداث ليأتي الأمر الإلهي لعبده ونبيه موسى بالبدء بالدعوة والذهاب إلى رأس الكفر والطغيان: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43، 44]. وما أجمل أن يسبح الدعاة في بحر قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا. فهل نحن خير أم موسى عليه السلام؟! بل موسى ولا شك. وهل من ندعوهم شر من فرعون؟! بل فرعون أشر. فرفقًا معشر الدعاة، وصدق المصطفى : ((ومن يحرم الرفق فقد حرم الخير كله)). فالابتسامة الصادقة والكلمة الرفيقة والهمسة اللطيفة مفاتيح عظيمة لمغاليق القلوب.
ويبدأ موسى في دعوة فرعون وملئه بادئًا خطابه: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، وتطرق أذن الطاغية: مِنْ رَبِّكَ ، فيتعجب ويسأل: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49، 50].
الله أكبر، فعند كلمة: خَلْقَهُ عبر أيّ عبر، وتحت كلمة: هَدَى مجلدات من الصور، هدى كل شيء، هدى الطفل يوم أن رضعته أمه لا يعرف شيئا، هداه إلى ثدي أمه ليمص اللبن، فمن الذي دله لثديها وعلمه كيف يمص؟! إنه الله الواحد الأحد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. هدى النحلة أن تطير آلاف الأميال لتأخذ الرحيق ثم تعود إلى خليتها، من الذي علمها؟! من الذي دلها؟! إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. هدى النملة تدخر قوتها من الصيف لفصل الشتاء، تسير في نظام دقيق عجيب، من الذي علمها؟! من الذي بصرها؟! إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ويُسقط في يد فرعون، فيلجأ إلى القوة والسلطان ويهدّد بالسجن، وهذه لغة الطغاة والمجرمين، قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29].
أيها المسلمون، وحين نتجاوز كثيرًا من المشاهد والمواقف ونصل إلى نهاية القصة نجد العبرة فيها أكثر والدروس أبلغ، فهذا موسى والمؤمنون معه يفرون بدينهم من وجه الطاغية بأمر الله، ويصر فرعون وجنده على اللحاق بهم، بل ويرسل فرعون في المدائن حاشرين.
ثم ها هو المشهد يقترب من نهايته، والمعركة تصل إلى ذروتها، فها هو موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفينة، ولا يملكون خوضه، وما هم بمسلحين، وقد قارب فرعون وجنوده يطلبونهم ولا يرحمون، ودلائل الحال تقول: البحر أمامهم والعدو خلفهم، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، ويبلغ الكرب مداه، ويصل الضيق منتهاه، إلا أن موسى عليه السلام لا يشك لحظة، وملء قلبه الثقة بالحق المبين واليقين بعون أرحم الراحمين، قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. (كلا) بهذا الجزم والتأكيد، (كلا) بهذا الثبات واليقين، وحق لموسى أن يملأ فاه بـ(كلا)، ومعتمده مَنِ البحر والسموات والأرضين والبشر كلهم ملكه يصرفهم كيف يشاء، وها هو طريق النجاة ينفتح من حيث لا يحتسبون، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63].
فسبحانه أحكم الحاكمين، ينشق طريق يابس ولكأنه لم تصبه قطرة ماء، والبحر كالجبال العظيمة واقف ذات اليمين وذات الشمال، وتسير الطائفة المؤمنة والله يرقبها وبالحفظ يكلؤها، تسير واثقة بنصر الله مؤمنة بوعد الله، لكن العناد والطغيان والتجبر المتأصل في نفس فرعون أبى عليه إلا السير خلفهم، فلما تكامل قوم موسى خارجين من البحر وتكامل قوم فرعون داخلين في البحر أمر الله بحره أن أطبق عليهم، وصدق الله: وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:65-68].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلاله وسلطانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
إخوة الإيمان، وبين البدء والنهاية في هذه الملحمة العظيمة دروسٌ وعبر ما برحت أجيالٌ تلو أجيال تقف عندها، وتأخذ منها ما يروي ظمأها، وما فتئت كتب العلم تغوص في أعماقها.
وإن من هذه الدروس على عجالة أن نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه، انظروا إلى سحرة فرعون كم وعدهم فرعون ثم انقلبوا فجأة حين أبصروا دلائل الإيمان، فيا لله كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة، قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرفت لقدومهم".
ما أعظم الإيمان إذا تمكن من سويداء القلوب، يستسهل صاحبه عندئذٍ كل يسير، ويعرض نفسه للخطر الكبير، لمه؟ في سبيل رضا العليم الخبير. انظر إلى السحرة، فرعون يتوعد ويتهدد: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ومع ذلك يطلقها السحرة في وجه أعتى الطغاة فرعون: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73].
الله أكبر، دونك الأرض يا فرعون، افعل في أجسادنا ما تشاء فسلطانك مقيدٌ بها، وما أقصر الحياة الدنيا وأهونها، أما الأرواح فأنى لك أن تحجبها عن الخضوع لربها ومولاها؟!
ثلاثة قضايا ابتدأ الله بها وحيه لموسى، ولكأنها الزاد والمعين على دعوته ورسالته، وهكذا كل الدعاة، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:13-15]. نعم الاعتصام بلا إله إلا الله وإقامة الصلاة والإيمان باليوم الآخر.
عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفًا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، إلى أن وصل بهم الأمر إلى أن يسروا بصلواتهم في بيوتهم، فأرشدهم الله إلى وسائل يتجاوزن بها الصعاب، وهي:
أولاً: الصبر والصلاة، قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]، وقال سبحانه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128].
ثانيًا: الإيمان بالله والتوكل عليه، قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84].
ثالثًا: الدعاء وصدق اللجوء إليه، قال تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85، 86].
رابعًا: الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في الحصول على المطلوب، قال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، قال ابن جريج: "يقال: إن الله استجاب دعاء موسى على فرعون بعد أربعين سنة".
إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها والليل مهما ادلهم ظلامه ومهما كثرت الجراحات ومهما قتل الرجال ويتم الأطفال فإن الله ناصرٌ دينه، أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وإذا كان الحق قد انتصر في هذه القصة على مشهد من الناس، فليس ذلك شأن القصص كله في القرآن، إذ ليس أمد النصر ينتهي في هذه الحياة، وليس معنى النصر مقصورًا على النصر المحسوس للناس، فقد ينال النصر فرد أو مجموعة من الصادقين وإن خيل للناس أنهم قد استضعفوا أو أهينوا أو غلبوا في هذه الدنيا.
نعم، لقد انتصر الخليل إبراهيم عليه السلام على الطغاة وإن قذف في النار، وانتصر أصحاب الأخدود وإن حفرت لهم الأخاديد وأحرقوا، وانتصر الغلام المؤمن وإن كانت روحه أزهقت على ملأ من الناس الذين لم يتمالكوا أنفسهم إلا أن ضجوا: آمنا برب الغلام، وانتصر شيخ الإسلام بن تيمية وإن مات في سجنه الذي سجن فيه.
لذا ينبغي أن تعلم الأمة أن الثبات على مبدأ الحق حتى الممات نصر، وأن نصر المبادئ والقيم نجاح ونصر، وقد يشهد الأبناء والأحفاد هذا النصر الذي بذرت بذوره الأولى في عهد آبائهم وأجدادهم، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41، 42].
من الدروس العظيمة من قصة موسى وقومه الحفاظ على النصر، فبمضاعفة الشكر تتضاعف النعم، وكما يمتحن الله بالضعف والذلة يمتحن بالقوة والنصر، وإن الأمة إذا انتصرت ثم غيرت وبدلت بدل الله نصرها هزيمة وعزها ذُلاً. انظروا إلى بني إسرائيل بعدما أنجاهم الله من فرعون وانتصروا ما لبث كثير منهم إلا وأن ارتد، اتخذوا العجل وعصوا أمر الله بالذهاب إلى الأرض المقدسة، عابوا نبيهم، بل وصار أمرهم بعد ذلك إلى قتل أنبيائهم ورسلهم، فماذا حل بهم من أمة قال الله في شأنها: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122] حتى صار حالهم إلى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60].
وهكذا أمة الإسلام، انتصرت وتصدرت إبان تاريخها الأول، ثم غيرت وبدلت، فانظروا إلى دمائها المسفوكة ومجتمعاتها المنكوبة، وسنن الله لا تتغير، ونواميس كونه لا تتبدل، ألا يا ليت قومي يعلمون.
أيها المسلمون، إن يوم نجاة موسى عليه السلام من فرعون ليوم فرح عظيم، إنه يوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم، لذلك سن صيامه، روى البخاري ومسلم أنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن يوم عاشوراء، فقال: ما رأيت رسول الله صام يومًا يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني عاشوراء، وكما في مسلم قال : ((وصوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)). ومن حرص السلف عليه أنهم كانوا يصومونه حتى في أسفارهم كما ذكر ذلك عن ابن عباس والزهري وغيرهم، بل ثبت في البخاري أن الصحابة كانوا يصومون صبيانهم تعويدًا لهم على الفضل، ويلهونهم باللعب حتى الإفطار.
وأعلى المراتب في صيامه أن يصام عاشوراء مع التاسع والحادي عشر، ثم يليها صوم التاسع والعاشر، ثم يليها صومه وحده، وإن ضعفت فلا تغلبن على اليوم العاشر؛ فالذنوب كثيرة، والعمل قليل، والوقوف بين يدي الله قريب.
(1/4461)
قبل أن تحلَّ اللعنة (1)
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
15/1/1423
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.2- فضل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. 3- العواقب الوخيمة المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سراديب الظلمات في هذا الزمان كثيرة، وأشرار البلايا في دنيانا مستطيرة، فشمس القوة التي تغير تلك الظلمات والسيف القاطع الذي يقطع تلك الشرور والآفات هو ـ والذي نفسي بيده ـ في تقوى الله عز وجل في أنفسنا وفي أهلينا وفي مجتمعنا وفي كل ما نأتي ونذر في حياتنا، وعد بذلك الحق وهو أحق من وعد فقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
إخوة الإسلام، أسئلة تحتاج إلى إجابة، واستفهامات تستدعي أولي الفهم والنجابة: متى يُشد الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين وتحفظ به حرمات المسلمين؟! متى تظهر أعلام الشريعة وتفشو أحكام الدين؟! متى يعلو أهل الحق والإيمان ويندحر أهل الباطل والطغيان؟! متى تكشف الشبهات وتمنع الشهوات؟! متى تفيق الأمة كلها رجالها ونساؤها صغارها وكبارها؟! متى تفيق من غفلتها وتصحو من سكرتها؟! متى يستعلن صاحب الحق بحقه ولا يبالي، ويستخفي صاحب الباطل بباطله ويُداري؟! نعم، متى؟! إيه يا قومي متى؟! لا جواب لأن ذا العزة والملكوت والكبرياء والجبروت أجاب، بماذا أجاب؟! أجاب بأن هذا لن يتحقق إلا عندما تعود الأمة إلى مكمن خيريتها وسرِّ عزها وقوتها، ما هو؟! قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصن الإسلام الحصين، صُدت به نزوات الشياطين، وردت به دعوات الأفاكين والفاجرين، التأريخ يشهد لكم كان ـ وربي ـ درعًا واقيًا من الفتن، وسياجًا دافعًا من المعاصي والمحن. جعله الله فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين، قال تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة:71].
عز المؤمن وذلُّ المنافق فيه، يقول سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددتَّ ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
كفاك أنه صفة بل مهمة أفضل خلق الله، ألا وهم الأنبياء والمرسلون، قال الله في وصف إمامهم محمد : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، وقال الله في شأن نبيه إسماعيل عليه السلام: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، وما من نبي إلا قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]. وهو ركن ركين للتمكين في الأرض، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
أما أهله فأكرم بهم، فقد رتب الله لهم الفلاح بأمرهم ونهيهم، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وبُشروا برحمة الله في آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي اختتمت بقوله تعالى: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. وسبحان الله، يعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة، فقد روى الإمام أحمد وحسنه الألباني أن رسول الله قال: ((إن من أمتي قومًا يعطون مثل أجور أولهم؛ ينكرون المنكر)).
وما أعظم ـ والله ـ وأعلى منزلتهم، وهذا ما استنبطه الحسن رحمه الله من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، قال الحسن رحمه الله: "إن في هذه الآية دليلاً على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزلة الأنبياء، فلهذا ذُكر عُقيبهم".
ولقد كان السلف يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء، قيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: (الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا).
إخوة الإسلام، سنن الله تعالى في خلقه ثابتة لا تتغير، ولا تحابي أحدًا، ولا تتخلف عند وجود أسبابها، وإن الله جل في علاه يغضب ويلعن، فهذه صرخة نذير، وصيحة تحذير، يصرخ بها الدعاة، ويصيح بها المشفقون على الأمة، ينادون بها الأفواج الهائلة السائرة في غيها التاركة لأمر ربها، المتنكبة لطريقها، الساكتة عن خطئها، غضيضة الطرف عن سوءاتها وإجرامها. ألا يا قوم، انتبهوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، استيقظوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، كفوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، مروا أمركم وازجروا زجركم وأقيموا شعيرة ربكم قبل أن تحل اللعنة، بل قبل أن تحل اللعنات تلو اللعنات، ممن؟ من ربك الذي إذا غضب لم تقم لغضبه الأرض والسموات، ممن يغار على حُرمه، ويبتلي بالمصائب والبليات.
ألا أين المعتبرون؟! ألا أين الذين يقرؤون ويتفكرون؟! إنها لعنة لعنها الله سبحانه في كتابه تذكرةً وعبرة، فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. فيا لله، ورحماك ربي، إنا لا نقوى على لعنتك، إنا لا نقوى على لعنتك، الطف بنا أنت اللطيف، ارحمنا فأنت الرحيم.
عباد الله، أولى لعنات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثرة الخبث، روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي استيقظ يومًا من نومه فزعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا)) وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام، فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). والخبث يكثر ـ يا رعاكم الله ـ إذا أعلن المنكر في المجتمع ولا يوجد من ينكره، فإن سوقه تقوم وعوده يشتد ورواقه يمتد، عندها يقصر المعروف ويحدّ، فيعم الفساد ويستوحش الأخيار ويهلك العباد. ويا لله، الفساد يوحش ولو كان قليلاً، وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، حين قرأ مالك بن دينار رحمه الله هذه الآية قال: "فكم اليوم في كل قبيلة وحيّ من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون". فيا لله، ماذا لو رأى مالك أحوال المسلمين اليوم؟! والله المستعان.
اللعنة الثانية لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيذان الله بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل، وقد قال الله سبحانه عن أصحاب القرية: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:165، 166]، وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجلٍ يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقابٍ قبل أن يموتوا)).
اللعنة الثالثة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاختلاف والتناحر، وإذا أردت أن تعرف الارتباط الوثيق بينهما انظر ماذا قال الله بعد قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، قال بعدها مباشرة: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]. وروى أبو داود والترمذي أن النبي قال: ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)) يعني بني إسرائيل. وانظر لحال كثير من مجتمعات المسلمين فهي خير شاهد على ذلك، وما في القلوب من الغل والحقد والحسد والتناحر، والله المستعان.
اللعنة الرابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم إجابة الدعاء، روى الترمذي عن حذيفة بن اليمان عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)). نعم، ((تدعونه فلا يُستجاب لكم)) ؛ إنها لعنة العظيم إذا غضب، وماذا يبقى للناس إذًا؟! ماذا يبقى للناس إذا أوصدت دونهم رحمة الله؟! لمن يلجؤون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب؟! فالبدار البدار قبل أن تحلَّ اللعنة.
اللعنة الخامسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهور الجهل واندراس العلم واختفاء معالم الدين، فيكون الدين غريبًا، وذلك أن المنكر إذا ظهر فلم يُنكر نشأ عليه الصغير وألفه الكبير، وظنوه مع مرور الزمن من الحق، عندها ينكرُ على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويعظم الساكت، قال الإمام أحمد: "يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يُشار إليه بالأصابع"، قيل: يا أبا عبد الله، وكيف يُشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: "صيروا أمر الله فضولا"، وقال: "المؤمن إذا رأى أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني قالوا: في هذا فضول، والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نِعمَ الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل".
وها هو اليوم يقال في كثير من المجتمعات لمن يأمر وينهى: أنت تتدخل فيما لا يعنيك، ليس لك شأن، حتى أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللعنة السادسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسليط الأعداء، فإن الله عز وجل قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوًا خارجيًا، فيؤذيهم ويستبيح بيضتهم، ويتحكم في رقابهم وأموالهم.
والتاريخ حافل بشواهد على ذلك، انظر للمسلمين في الأندلس كيف تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير إلى ذل وهوان، سامهم النصارى حتى بيع سادة المسلمين آنذاك في أسواق الرقيق وهم يبكون، كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزانُ
اللعنة السابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأزمات الاقتصادية، نعم إن المجتمع الذي يُفرِّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تتلاطم به أمواج الفقر والضوائق ويذوق ويلات الحرمان، فالربا يعلن فيه ويستعلن به، والرشوة يجاهر بها، والغش يضرب بأطنابه في بيوع المجتمع، وأكل أموال الضعفاء، والشفاعات التي يؤخذ بها حقوق الغير، كل هذه وغيرها إذا سكت عنها ولم تنكر، عندها تحل بالمجتمع ضائقات المال، وما ظلمهم ربك ولكن بما كسبت أيديهم، فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس:102].
اللعنة الثامنة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للفرد اسودادُ قلبه وتنكيسه حيث جاء في الحديث الصحيح قوله : ((تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلبٍ أُشربها نَكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مُجَخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه)). ألا إنها حقًا لعنات قاسية وعقوبات قاضية، لكنها سنة الله الماضية.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: صدق الغزالي رحمه الله إذ يقول في الإحياء: "فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم لهذا الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد".
إخواني يا رعاكم الله، أقيموا هذا الأمر وأفشوه، وانهوا النهي واجتنبوه.
(1/4462)
قبل أن تحل اللعنة (2)
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
22/1/1423
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- وصايا للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. 3- العقبات التي يختلقها بعض الناس لأنفسهم تجاه هذا الأصل الأصيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المؤمنون، قد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن أهميته وفضله وفضل أهله، وعن اللعنات القاسية والعقوبات القاضية التي تلحق الأمة إذا هي تركته وتخلفت عنه، ونواصل حديثنا اليوم.
وهذا هو الغزالي رحمه الله يقول: "فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم لهذا الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد".
لذا ـ يا رعاكم الله ـ نقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه، وأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، كالنووي والجصاص وابن حزم وغيرهم، بل وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى بما أنه من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه تقاتل الطائفة الممتنعة عنه. وأما التفصيل في وجوبه العيني والكفائي فعلى اختلاف الأشخاص والأحوال بما هو مبسوط في كتب العلم، ويضيق عن التفصيل هنا.
أيها المسلمون، ولا يشك شاك أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم رسلُ الخير ودعاة الحق ونورٌ في دياجير الظلم، لكم سارت الأمة على نورهم، واهتدت بكلامهم وتعليمهم، لذا حري بأولئك الذين هم محط أنظار المجتمع وأمل الأمة أن يتحلوا في أمرهم ونهيهم بآداب عظيمة وصفات جليلة، ألا إن من أبرزها الإخلاص، فهو مفتاح القبول وطريق التأييد والتسديد من العزيز الحميد، فلا يأمر الآمر أو ينهى الناهي ليُحسب في الآمرين، أو ليصل بذلك إلى مالٍ أو رتبة أو جاه ونحوها من أعراض الدنيا الزائلة، وفي هذا ملحظٌ خفي دقيق أن الآمر والناهي إذا رُدَّ عليه أمره أو انتقص في كلامه أو أوذي فقد ينتصر لنفسه، وهذا مذهبٌ للإخلاص، عن أرطاة بن المنذر قال: "المؤمن لا ينتصر لنفسه، يمنعه من ذلك القرآن والسنة، فهو ملجم".
ثانيها: العلم، فينبغي أن يكون الآمر والناهي عالمًا بما يأمر به وما ينهى عنه، قال النووي رحمه الله: "إنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء؛ فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء". لكن مما ينبغي أن تعلمه أنه لا يشترط أن تكون عالمًا فقيهًا، بل يكفي أن تعلم أن هذا منكر فتنكره، وأن هذا من المعروف فتأمر به.
ثالثًا: الصبر، وهو سلاح ينبغي أن لا ينفك من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فلا بد أن يناله من أذى الناس وسخريتهم وصدودهم ما يحتاج معه إلى صبر يوطنه على مواصلة الطريق، وانظر إلى وصية لقمان لابنه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وقال العارفون: "من وطّنَ نفسه على الأذى وأيقن بثواب الله لم يجد مسَّ الأذى".
نعم فكثير من الناس تكره من يقطع شهوتها ويُكدر لذاتها حتى وإن كانت محرمة، فلا يأسفن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على من هجره وقلاه، ولا يحزنن على من فارقه وجفاه، فتالله إنه بهذا يقطع أطماعه في الخلق ليصير تعلقه برب الخلق.
ومما هو متعلق بما قبله الحلم، فالصبر والحلم وصفان متلازمان، فإن لم يكن الآمر والناهي ذا حلم فالغالب أن الناس لا تقبل منه. ويا لله، انظر لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عنه وعن وجهه ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
رابعًا: الرفق، وصدق : ((ومن يحرم الرفق يحرم الخير كُلَهُ)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عنك المنكر غير منكر". وشتان شتان بين من لا يملك أصحاب المنكر إلا الاستجابة العاجلة له لحسن أسلوبه ورفقه وحلمه، وبين من يزيد النار اشتعالاً بشدته وفظاظة أسلوبه. لكن مما ينبغي أن يُعلم أن الحاجة قد تدعو للعنف والشدة أحيانًا، ذلك بحسب المنكر وصاحبه، كما بين الأب وابنه، والمعلم وتلميذه ونحو ذلك.
خامسًا: البدء بالأهم وتقديمه على غيره حسب ما تقتضيه المصلحة.
إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا
والتدرج بالناس على طريق الخير واستلال الشر من نفوسهم أدب شرعي عظيم امتثله الأنبياء مع أقوامهم، فبدؤوا بالتوحيد وما بعده وهكذا، وكذلك رسل الأنبياء، وليست قصة معاذ وإرسال الرسول إياه إلى اليمن والتدرج مع الناس هناك عنا ببعيد، فالمنكرات لا سيما في زماننا هذا منتشرة، فهناك ما هو منها أشد نكارة من بعضها الآخر، فيبدأ بالأشد وهكذا.
سادسًا: مراعاة المصالح والمفاسد؛ بأن لا يترتب على الإنكار منكر آخر أكبر وأوسع انتشارًا من الأول، ومن هذا الفقه كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يفتي بعدم الإنكار على التتار لشربهم الخمر؛ لأنهم إذا أفاقوا واستقامت لهم عقولهم التفتوا إلى المسلمين يقتلون ويفسدون، وفي هذا يحسن الرجوع إلى أهل العلم العارفين، فهم أولى الناس بتقدير المصالح والمفاسد.
سابعًا: يجملُ بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إيجاد البديل عن المنكر، فالنفس قد تكون متعلقة بهذا المنكر إلى حدٍ لا يمكن أن تنفك عنه، فالعوض هنا والبدل مما يساعد على التخفف من المنكر، وهذا منهج رباني وأسلوبٌ نبوي، ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "فلا يُنهى عن منكرٍٍ إلا ويؤمر بمعروف يُغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويُنهى عن عبادة ما سواه". فصاحب الأغاني لو استبدلته ذلك بأشرطة القرآن المرتلة ترتيلاً جيدًا، وصاحب النظرات المحرمة لو دللته على الزواج وحاولت أن تعينه على ذلك، وهلم جرا.
إخوة الإسلام، ما أكثر المخذّلين في زماننا هذا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أكثر العقبات التي يختلقها الناس لأنفسهم تجاه هذا الأصل الأصيل، وهذه نظرة عجلى حول ذلك:
فمن الناس من يجالس أصحاب المنكر وهم يعملون مُنكرهم، ويخالطهم وهم متلبسون به، ويتعلل بأنه ليس مقرًا لهم وأنه منكر عليهم بقلبه، فلمثل هذا يقال: إن الله لم يُعذرك أن تنكر بقلبك فقط إلا عندما لا تستطع بلسانك ويدك، فكيف تسكت وأنت ترى المنكر؟! ومن يمنعك عن الكلام أم أنه خوف المعاتبة وقطع العلاقة بينك وبينهم وخشية السخرية؟! وهب أنك حقًا لم تستطع الإنكار بلسانك ولا يدك فإن الإنكار بالقلب يستلزم مفارقة أهل المنكر ومنكرهم، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140].
ومن الناس من يتعلل بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، فيفهم بعضهم أن الإنسان إذا اهتدى فلا عليه من أحد فلا يأمر ولا ينهى، وعن هذه سئل حذيفة بن اليمان عنه فأجاب: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ : إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر).
ومن الناس من يتعلل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن هذا الأمر مسؤوليته على العلماء أو أهل العلم أو الهيئات وأهل الحسبة، فسبحان الله، أين هؤلاء مما جاء في مسلم أن النبي قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) ؟! إذًا هو لكل مسلم رأى ذلك.
لا شك أن العلماء وطلبة العلم والهيئات عليهم من الحق ما ليس مثله على غيرهم، لكن سكوت المجتمع واكتفاء أفراده بحوقلات وأنات في زوايا المجالس، هذا الأمر لا ينفع ولا يجدي، بل لا بد من الإنكار بالطرق الشرعية بالحكمة والموعظة الحسنة، في رسالة لمسؤول واستنهاض لهمة عالم ومباشرة زيارة صاحب المنكر والإنكار عليه إن أمكن ذلك، وإلا الساكت شيطان أخرس.
ومن الناس ـ وهم كثير ـ من يكون الحياء وعدم الجرأة على الحق والخوف من الرد شبحًا شيطانيا ماثلاً أمام ناظريه، تجده يقدم رجلاً ويؤخر أُخرى، والشيطان يقول له: انتظر قف قليلاً، حتى يفعل صاحب المنكر منكره ويمضي وهو يتعلل بـ"لعل" و"عسى"، فيا سبحان ربي، صاحب المنكر يعلن منكره أمام الناس ويجاهر به ولا يبالي، وصاحب الحق لا يستعلن بحقه بل يخفي ويداري، ألا تخشى اللعنة قبل أن تحل؟! وما هذا إلا فعل بني إسرائيل، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]، وإنها لتحتاج إلى كسر حواجز الأوهام، ومن ثم يُصبح الأمرُ أمرًا عاديًا عن الشخص. وهب أنه رَدَّ عليك أو استهزأ بك، فالأنبياء والرسل أشرف منك وحصل لهم ذلك وأعظم، فاصبر وصابر وأمر وبادر.
ومن الناس من إذا وقع المنكر وطُلب منه الإنكار يتعلل بأنه قد وقع وانتهى الأمر، فليس في الإنكار فائدة، فلمثل هؤلاء يردّ الله سبحانه وتعالى فيقول: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164].
إن الله لم يطلب منا النتيجة، بل أمرنا بالبلاغ وبذل السبب، والله سبحانه من وراء ذلك، وسواء تغير المنكر أم لم يتغير كفاك أنه إبراء للذمة أمام الله، ناهيك أن الرائي يرى أن المنكر إذا أُنكر ـ لا سيما من أناسٍ كثير ـ غُير هذا المنكر أو خُفف ضرره أو تأخر شرٌ كثيرٌ كان سيأتي تباعًا بعده. أمأ أن تقع الفواجع ويُقال: وقعت وانتهى فلا؛ لأن الشر خطوات، وشياطين الإنس والجن لا تكفّ عن الوسوسة.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله، نحن في زمنٍ كثرت فيه الفتن والمنكرات والشهوات والمغريات، ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكاد تضعف في أوساط كثيرٍ من الناس، لذا ينبغي ـ وربي ـ أن تكون تلك الرسالة مسؤولية الجميع، تمارس في بيوتنا ومحيط أُسرنا، يمارسها المعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم، يمارسها الطلاب فيما بينهم وهم يرون بينهم من المنكرات ما قد لا يراه غيرهم، يمارسها الموظفون في دوائر أعمالهم، الجيران مع جيرانهم، انظر إلى البيت الذي يليك فيه ولدٌ لا يصلي ماذا قدمت له؟! انظر إلى ذلك البيت الذي أمامك في أعلاه طبق فضائي هل نصحت صاحبه؟! بادر ـ أُخي ـ قبل أن تحل اللعنة. انظر إلى شوارع المسلمين وما فيها ماذا قدمت؟! هل أمرت؟! هل نهيت؟! يقول ابن القيم رحمه الله: "وأيُّ دين وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسوله يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكتُ اللسان؟! شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء؟! إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين" إلى آخر كلامه رحمه الله.
ألا وإنه مما ينبغي التنبيه عليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد عاطفة تثور ثم تخبو، ولا مجرد حماس طارئ ثم ينتهي، وهذا مكمن خطأ ينبغي النظر إليه، وهي أن لا نعيش حياتنا ردود أفعال، بل يواصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل وقت وآن، فأهل المنكرات يبذلون لباطلهم ولا يفترون، ويجتهدون ولا ينقطعون، والصراع بين الحق وأهله والباطل وأهله قائم يوم أن قامت السموات والأرض، ومستمر حتى قيام الساعة.
(1/4463)
الغيرة
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان, قضايا المجتمع
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
5/3/1423
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غربة المؤمن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. 2- الغيرة صفة لله عز وجل. 3- منزلة الغَيرة في الإسلام. 4- مظاهر ذهاب الغيرة في المجتمع الإسلامي. 5- مفاهيم مغلوطة حول الغيرة. 6- كيف ننمي الغيرة في نفوسنا؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ثلاث شُرطت للفوز: طاعة الله ورسوله وخشيته سبحانه وتقواه، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52].
أيها المسلمون، عجبًا له عيناه حملقت، وأوداجه انتفخت، وأنياط قلبه تقطعت، وأفلاذ كبده تمزقت، وزفر من فؤاده زفرة أنينها دليل صدقها، ولكأن كلَّ عضو فيه يزفر، تكاد عيناه لما ترى تدمع، وتكاد رُوحه لما يؤرقها تجزع، والناس حوله كثير منهم لا يقدره بل ولا يأبه له، ويا ليته عند هذا وكفى، بل كلمات السوء تتقاذفه من كل جانب: لِمَ تحترق؟! هذا شأن غيرك، أنت طفيلي، دع الناس وشأنهم... وهلم جرا.
أصبح في بقاع كثيرة من بقاع الإسلام غريبًا، لما كثرت الآفات وتظاهرت القبائح والمنكرات. أصبح وجوده في هذا الوقت أعز من الكبريت الأحمر، نظرت إليه شُزر العيون، وأتاه الأذى من كل مفتون، لكن عزاؤه أنه لم ينتقم لنفسه، كلا وربي، بل انتقم لعلاّم خائنة العيون.
نِعْمَ الأرض التي أظلته، ويا بشرى السماء التي أقلته، إنه ـ يا رعاكم الله ـ المؤمن الغيور، إنها الغيرة، إنها الأنفة والحمية الجاهلية؟! لا وألف لا لأرض، لا وألف لا لمنصب، لا وألف لا لدنيا زائلة، لا وألف لا، إنها الأنفة والحمية لله لدين الله ولحرمات الله.
والمؤمن الصادق يستمد غيرته من الله سبحانه، فالغيرة صفة لله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. استدل العلماء بهذه الآية على إثبات الغيرة لله جل وعلا.
فرب العالمين يغار إذا ما انتهكت المجتمعات الفواحش واستعلنت بها. ورب العالمين يغار إذا بغى البغاة وعصي سبحانه في أرضه. ورب العالمين يغار إذا ما أشرك به وسوى العبيد بين مالك الرقاب ومخلوق من تراب. ورب العالمين يغار إذا افتري على شرعه وتُقوِّل على حكمه. ورب العالمين يغار ويغضب، ومن هي السموات ومن هي الأرض ومن هي العوالم كلها التي تقف أمام غضبه أو تواجه غيرته؟! كلها تُذعن لسلطانه وتشفق من عصيانه عدا هذا العبد الجهول الممعن في طغيانه، ينسى غيرة ربه وغضبه وعظيم شأنه، ألا يا بؤسه تصدعت أركانه وقوِّض بنيانه.
إنها الغيرة يا عباد الله، أصلُ الدين ولبُّه وفصله وأهله، ها هو طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله هاك خطابه إذ يقول: "إن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له"، ويقول رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كُلُّه".
من أجل الغيرة على حرمات الله سُجن الأئمة، وجُلدت ظهور علماء الأمة على مر التاريخ. من أجل الغيرة على دين الله قام القائمون بأمر الله واضعين عظمة الله وسلطانه وهيبته بين أعينهم.
قال أبو معمر القطيعي: لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، محنة خلق القرآن، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله قد أُحضر، وكان رجلاً هينًا لينًا، فلما رأى الناس يُسألون ويجيبون بخلق القرآن انتفخت أوداجة واحمرت عيناه، ذهب ذلك اللين فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشر؛ حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة قال: كان من أصحاب رسول الله من إذا أريد على شيء من أمر دينه رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون. وكتب التاريخ بأحرف من ذهب غيرة الإمام أحمد وثباته يوم أن سكت الجميع، فنصر الله بها الإسلام والأُمة.
وهكذا كلما رفعت بدعة رايتها أو فاحشة سوءتها أو خبيثة من الخبائث عقيرتها امتطى لها الغيورون خيول الفضيلة، وأشرعوا سيوف الحق في وجه كل سوءة ورذيلة.
ومن أعظم الغير التي رفع الإسلام لواءها وأيَّدها وقواها في القلوب وأصلها الغيرة على الأعراض، حتى إن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مُهجته، لم؟! لئلا يُدنس له عرض أو يمس له شرف، ورسول الله قد أعلى ذلك وأسماه عندما قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله قال يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدُكمُ على أهله ووجد ما يَريبُه أشهد أربعًا)) ، فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريُبني أنتظرُ حتى أُشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت في أهلي لأُصحينّ بالرأس عن الجسد، ولأضربن بالسيف غيرَ مُصْفَح، وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)).
حقًا والله، من حُرِم الغيرة حُرِم طُهرَ الحياة، ومن حُرِم طُهرَ الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام. وربِّ الكعبة، إنك عندما تسير في طرقات المسلمين اليوم وتنزل أسواقهم وتشاهد مجتمعاتهم لتكاد تودُّ أن العين عميت قبل أن ترى ما ترى، إن القلب ليتقطع ألمًا، وإن الكبد لتتفتت كمدًا مما يحدث اليوم. نعم، عندما ترى ذهاب الغيرة من رجال ونساء وذهاب أصل الحياء.
ألا وإن مظاهر ذهاب الغيرة في المجتمع لمنذرة بخطر كبير وشرّ مستطير، هذه الشياطين السوداء التي توجها بعض المسلمين فوق هام بيوتهم، لتجمع زبالات العالم وقاذوراته لتصبه في بيت عفاف لم يدنس بعد، أبواه مؤمنان، بنيه وبُنياته في ريعان الشباب تفتح عيونهم وتنام على مناظر مخزية ومشاهد داعرة وحركات فاجرة في قنوات داعرة. البعيد قبل القريب يُقرّ ويعترف أن فيها رقصا للنساء بملابس إلى العري أقرب، وأفلاما تنادي من يراها ألف مرة: هيت لك، ومشاهد تغتال العفاف في وضح النهار.
أين المسلمون الصائمون؟! أين الكرماء المتعففون؟! أين أهل الغيرة والحياء؟! أين من يخاف جبار الأرض والسماء؟! أين رعاة البيوت وأمناؤها؟! أين خوفك على أبنائك وبناتك؟! إني أخاطب إيمانك حياءك خوفك غيرتك. احذر ـ أُخي ـ فالله ينظر إليك، وهو يغار على دينه وحُرمه جل سبحانه وتقدس.
ومن مظاهر ذهاب الغيرة التساهل في ذهاب المرأة مع السائق الأجنبي، حتى ولكأنه فردٌ من أفراد العائلة، تركب معه المرأة وتنفرد به، تحادثه وتناوله الحاجات بيدها في يده، يذهب بها إلى وظيفتها، والبنات إلى مدارسهن، وفي المساء إلى السوق، أين الأب؟! حق له مشغول، مشغول بماذا؟! بعقارات وتجارات، أم بسهرات في استراحات، هل لهذا وأمثاله أن يعطي هذا السائق عشرة آلاف ليذهب بها إلى فلان من الناس؟! كلا يخاف عليها، لا يأمن السائق، يخشى منه، أما العرض والشرف فلا؛ الثقة موجودة، والحمد لله من سنين ولم يحدث شيء، ومثله يأخذ النساء في أماكن بعيدة تشد لها الرحال، إن الشيطان لم يمت وإنما يوسوس لابن آدم، ثم أين نخوة المؤمن وشرفه؟! أين الغيرة يا عباد الله؟! هل غاض ماؤها؟! وهل انطفأ بهاؤها؟!
واللجنة الدائمة للإفتاء ذكرت في بيان لها أنه لا يجوز للمرأة أن تذهب مع السائق الأجنبي وليس معها محرم؛ لعموم قوله : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) ، ووجودها مع السائق في السيارة بدون محرم خلوة.
ومن مظاهر ذهاب الغيرة التساهل في خروج النساء من البيت، مع العلم أن الأصل قرارها في بيتها، فأصبحت اليوم تخرج مع الرجل للسوق بلا حاجة، بل وتذهب معه إلى البقالة والسوق المركزي تزاحم الرجال لتشتري ما تريد، وبنقاب واسع أو كشف ليديها ومحرمها مجرد خادم أو محاسب مالي، وانظر للنساء اليوم إذا جلست في بيتها ثلاث أيام أو نحوه قالت: اخرج بنا، ألا ترى الناس في الشوارع.
يا لله، أينَ هنَّ من عائشة رضي الله عنها؛ تقرأ قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، وتضع خمارها على وجهها وتبكي وتقول: (خان النساء العهد، خان النساء العهد).
ومن مظاهر ذهاب الغيرة هذه العباءات المنمقة والمزركشة، فأي حجاب هذا؟! إنه حجاب الفتنة، إنه حجاب السوء، سبحان ربي! أهي تتستر به أم تتجمل وتلفت النظر إليها؟! وكذلك الألبسة الفاضحة التي امتلأت بها أسواق المسلمين، نحور بادية وصدور ظاهرة وملابس مشقوقة من أسفلها، وتلك البناطيل التي طفحت بها الأسواق، والحجة الشيطانية قد ركبت وأعدت: نحن أمام نساء لا يرانا رجال، ألا يا ويحهن، وألا يا ويح آبائهن. أين أنت أيها الأب؟! ألا ترى لباس ابنتك وزوجتك وعباءتها؟! أليس المال مالك والبيت بيتك؟! أين القوامة؟! أين الرجولة؟! أين النزاهة؟!
ومن مظاهر ذهاب الغيرة عدم الستر الكامل للمرأة، تراها في السوق أو غيره مبدية ليديها أو قدميها أو نقاب واسع، ويا للأسف وليها بجانبها ولكأن ما في الأمر شيء. فاتقوا الله يا عباد الله، والمرأة كلها عورة.
ومن مظاهر ضعف الغيرة إنزال المرأة في السوق بدون محرمها أو وليها، والحجة أنني واثق في ابنتي أو زوجتي، إن كان هذا صحيحا فهل أنت واثق في عيون ذئاب ينهشونها بنظراتهم؟! تخلو بصاحب المحل في محله تحادثه، ولربما ألان لها الكلام والمرأة ضعيفة، أينك أنت؟! نعم أنت مشغول لا تصبر على السوق، بئس والله ما فعلت.
وما عجب أن النساء ترجّلت ولكنَّ تأنيث الرجال عُجابُ
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: جاء في الأثر من علامات الساعة: "إذا كان آخر الزمان رفع الله من الأرض الحياء من النساء، والغيرة من رؤوس الرجال".
ألا يا رعاكم الله، إن من أعظم مظاهر ذهاب الغيرة عدم التألم والإنكار إذا انتقصت شريعة الله، أو استعلن صاحب منكر بمنكره، أو أراد المفسدون إشاعة الفساد والانحلال، والاختلاط بين الرجال والنساء، أو عُطلت الصلاة من بعض بيوت المسلمين، أو أي منكر كان، هنا لا بد من غيرة المؤمن وإنكاره بالطرق الشرعية الممكنة، أما السكوت وعدم الغيرة فهذه ـ والله ـ خيانة للأمة، ورب العالمين يغار.
ألا وإنه لا بد للغيورين أن يكونوا ذوي نفس طويل وصبر وحلم؛ لأن أهل النفاق والباطل يعملون خلف الستور ولا يفترون، ويجتهدون ولا يكلون.
وإنه مما ينبغي التنبيه عليه أن هناك مفاهيم مغلوطة عن الغيرة، فمن الناس من يظن أن الغيرة هي حبس المرأة في بيتها وعدم السماح لها بالخروج بتاتًا ولو لحاجتها، أو يظن أن الغيرة هي الشك في أهله. وآخرون يظنون أن الغيرة هي الغضب والغلظة في إنكار المنكر في موضع قد لا يستوجب ذلك، وهذا خطأ فادح ونقص فهم واضح.
وكلمة تشكر تذكر ولا تنكر لأُناس رجال ونساء هم غرة المجتمع وشامة الأمة، ترى حقًا الغيرة متمثلة في سلوكياتهم وذهابهم وإيابهم، مما يدلُّ أن الأمة الخير فيها باق إلى قيام الساعة. لكن السائل يسأل: كيف ننمي الغيرة في نفوسنا؟ والجواب أن الغيرة تنمَّى بأمور عدة، أهمها الحرص على تربية البيت صغيره وكبيره على الحياء والحشمة والعفاف والغيرة لدين الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعته، القوامة الحقيقية من الرجل على نسائه وأعراضه، وحفظهم وصيانتهم وردعهم عما يخدش الحياء، غض البصر، منع الاختلاط والخلوة، والتفطن لخطط الأعداء الخبيثة الماكرة في ذلك في قريب الزمان وبعيده.
(1/4464)
اللّغم الخطير: المخدرات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
الخرج
12/3/1423
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أضرار المخدرات والمسكرات. 2- الأدلة على تحريم المخدرات والمسكرات. 3- جزاء شارب المخدرات والمسكرات في الإسلام. 4- أسباب انتشار وباء المخدرات والمسكرات. 5- العلاج لمن وقع في هذا البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: شمس خطبتنا اليوم تشرق على خُطة صهيونية محكمة، ونور شعاعها يتوجه إلى لُغمٍ خطير جدُّ خطير، يفجر حضارات الشعوب ويهدد قيمها بالزوال وأخلاقها بالدمار.
أحابيل الشر تُغزل في الجهر والخفاء لهذه الخطة لتستهدف الأمة في أعز ما تملك، تستهدف الأمة في شبابها، في مستقبلها، في أملها وفخرها وقوتها، حربٌ طاحنة تطحن في طاحونتها آلاف النساء والرجال، وتمزق عشرات الأجيال. وحوشٌ كاسرة أنشبت مخالب الموت في عنق مجتمعاتنا الإسلامية، في حرب شرسة قذرة وُجهت إلى مكرمة الإنسان السليم وميزه عن الحيوان البهيم ألا وهو العقل. نعم، وجهت إلى العقول لتعطلها، وإلى الطاقات لتضعفها، إنها حرب المخدرات والإدمان، إنها دوامة الضياع والحرمان، ضياع للإيمان، وإغضابٌ للرحمن، وجرائم ومآسي وأهوال، رؤوس الصغار لها تشيب، ومصائب ونكبات أذهلت البعيد والقريب، وما الاغتصاب والسرقة وقتل الوالدين أو أحدهما والنصب والاحتيال إلا ثمرات مُرّة في الغالب نتجت من تلك الشجرة الخبيثة، شجرة المخدرات والإدمان.
ما زالت المجتمعات والأسر والبيوتات تتجرع في كثيرٍ منها مرارة تلك الحرب الشعواء والجريمة الشنعاء. أسرٌ يوم أن وقع بعض أفرادها أو فرد منها في شباك تلك المخدرات أصبحت لا تعرف سوى الرعب والألم والبُكاء والسقم؛ تفكك أسري، تشريد للأطفال، طردٌ من الوظيفة، فشلٌ دراسي وضياع للمستقبل، اختلالٌ في العقل، ضعف للذاكرة، نوبات الصداع، وتلف في خلايا المخ، اكتئاب وهم، وقلق وغم، ومزاج نكد، صورٌ محزنة، ونهايات منتنة، وخاتمات سيئة، وفضيحة في الدنيا وعذابٌ في الآخرة لمن مات وهو على ذلك.
ومن ثمار هذه الجريمة المنكرة ونتاجها المُرَّة الشذوذ الجنسي وجنون الشهوة الذي ربما وصل إلى نكاح المحارم والعياذ بالله. وهذا أحد الأساتذة يقول: كُلفت بالعمل بإحدى الدور التي تُدعى بدور الأيتام، وبدأت العمل فأحببت هؤلاء الأيتام وأحبوني، أطفالٌ كأعمار الزهور، أؤانسهم وأُفرح قلوبهم، لكنه استوقفني طفل يتيم أراه دائمًا مهمومًا مغمومًا كثير التفكير، وأجده أحيانًا يبكي، بعد أن استوقفت أحد الباحثين النفسيين في الدار وسألته عن ذاك الطفل، وقلت: بالله عليك، أخبرني عن حال هذا الطفل، سكت قليلاً وقال: أرجوك لا تُحرجني، كررت عليه الطلب فقال: إن والد هذا الطفل كان يتعاطى المخدرات ووقع على ابنته ثم حملت، وحالتها النفسية سيئة جدًا وأنجبت هذا الولد وهو كما ترى.
دمعي أمام جدار الليل ينسكبُ وجَمرة في حنايا القلب تلتهبُ
وصورة لضياع العمر قاتِمة تسعى إليَّ ومن عينِي تقتربُ
ووحشة في فؤادي أستريح لها كأننِّي بيْن أهل الدار مغتربُ
قاتل الله المخدرات، قاتل الله المخدرات، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وعافنا اللهم مما ابتلي به الناس، رحماك ربي.
إخوة الإسلام، هل رأيتم صور المدمنين وهم ميتون أثناء أخذهم للجرعات، ولم يتم اكتشافهم إلا بعد أن تعفنت أجسادهم. شابٌ في الثلاثين من عمره زاد من جرعة المخدر فانفجر مخّه، ووجد بعد ثلاث أيام متعفنًا في غرفته، أتدرون على أي حال؟! وجد ساجدًا على قطع من المخدرات، وقد تحجرت الدماء في وجهه فأصبح وجهه أسود كالفحم.
سبحانك ما أعظمك! سبحانك ما أحكمك! أعظم بشرع الله وأكبر بملة الإسلام يوم أن حرمت أم الخبائث والآثام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90، 91]، وقال أنس : لعن رسول الله في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له. ومثله روي عن ابن عمر عند أبي داود وغيره وهو حديث حسن. وفي مسند الإمام أحمد قال : (( مدمن الخمر إن مات بعثه الله كعابد وثن )) ورجاله رجال الصحيح، وفي صحيح مسلم قال : ((إن على الله عز وجل عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) ، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)).
شاربها في دين الله يجلد ثمانين جلدة، فإذا تكررت منه وهو يعاقب ولا يرتدع قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه إذا لم ينته الناس بدون القتل". وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم أن شاربها يُحد وإن لم يسكر ولو شرب قليل. وأجمع أهل العلم على أن شرب الخمر من الكبائر العظام المتوعد عليها بالنار.
وهلمَّ ـ يا رعاكم الله ـ إلى بيان أسباب هذا البلاء وعلل استفحال هذا الداء، فقد يكون البعض قد أخذ بهذه الأسباب أو بعضها تهاونًا في نفسه أو مع أبنائه، وما علم أن النهاية الجحيم الدنيوي والأخروي.
ألا وإن أعظم أسباب انتشار وباء المخدرات والمسكرات بلا منازع وأكبرها بابًا في دخول الواقعين فيها أصدقاء السوء. نعم، عشرات التائبين والنادمين يصدرون قصصهم: وتعرفت على قرناء السوء، وأغراني أصدقاء السوء، وقال لي أصدقاء السوء: جرب... وهلم جرا.
ويا عجبًا من الشباب اليوم، كثيرٌ منهم لا يفرق بين بائع المسك ونافخ الكير، هذا شابٌ يروي قصته وهو حزين وعيناه مملوءتان بالدموع فيقول: كنت وأخي وأختان صغيرتان نعيش مع أبي وأمي، كنا في سعادة وهناء، وأبي كان موظفًا، كانت حياتنا هنيَّة، أبي ذو خلق وأدب، وكذا أمي، كنا أنا وأخي من أوائل الطلاب في المدرسة، كان جو البيت سعيدًا، لكن جاء كابوس مخيف حلَّ ببيتنا وقلبها رأسًا على عقب، شيء لا يصدقه العقل، أبي انقلب من صاحب الابتسامة الرحيم إلى وحش كاسر، لا يعرف إلا الضرب والصراخ، وأمي كانت أول ضحاياه يسبها ويضربها، وهي صابرة ترجو أن يرجع إلى صوابه، نظرنا في حال أبي: لماذا تغير هكذا؟! فإذا هي رفقة السوء جلس معهم قادوا والدي إلى الهاوية بعد أن بادؤوه بحبة واحدة، فأخرى ثم ثالثة، وهكذا حتى ضيع أبي حياته وفصل من وظيفته، وتراكمت الديون علينا، باعت أمي المسكينة كل مجوهراتها، ولكن السم القاتل تمكن من أبي، دخل علينا مرة وهو في حال سكر شديد وهياج منقطع النظير، وهو يصرخ: أعطوني مالاً، فقالت أمي: لا يوجد عندنا مال والبيت كما ترى، إنك ستهلك بدنك بالحرام، اتق الله في دينك، اتق الله في أولادك، فقال لها والدي: أنا لا أعرف بيتًا ولا أولادًا أُريد مالاً، واشتدّ النقاش والصراخ، فاستل أبي سكينًا وطعن بها أمي المسكينة، فسقطت أمي ميتة تتخبّط في دمائها، أي جريمة اقترفتها أمي؟! أي ذنب جنته؟! وأُحيل والدي إلى السجن، وأحيلت أختاي الصغيرتان إلى دار أيتام في مدينة بعيدة عن مدينتنا، وأنا وأخي في دار أيتام أخرى، إنها صحبة السوء دمرت أبي ودمرت حياتنا كلها.
السبب الثاني: إهمال الوالدين وسوء التربية، ومن أراد الدليل على إهمال بعض الآباء فلينظر إلى الشباب وهم في الشوارع وعلى الأرصفة إلى ساعات متأخرة من الليل، بل ـ والله ـ لقد رأيت أطفالاً دون الثامنة وهم في الشوارع يذهبون ويجيئون إلى الساعة الواحدة ليلاً، لا حسيب ولا رقيب، يتعلم هذا الصغير والمراهق التدخين حبًا للتقليد والاستطلاع، ثم سيجارة الحشيش، وهكذا تبدأ البداية بل قل: النهاية، فأين الآباء والأمهات؟! أين الحب والحنان؟! هذا طالبٌ في الصف الثاني المتوسط يقول: إن بعض زملائه يبيع عليه سيجارة الحشيش التي تكلف ما بين 200 إلى 300 ريال يحصل عليها من والده ووالدته وأخواته الكبار، ولم يعلم الأب بتعاطي ابنه لهذا البلاء إلا بعد دخوله دار الملاحظة.
وها نحن هذه الأيام نعيش أيام الامتحانات، فهناك من الطلبة من يعمد إلى تعاطي المنبهات أو المخدرات، وذلك لدفع النوم كما يظنون، أو النشاط كما يزعمون، ولكنها البداية النكدة لو كانوا يعلمون، فأين الآباء والأمهات عنهم؟!
وانظر إلى شُلل الفساد والخراب التي تنتظر أبناءك بعد الخروج من الامتحانات، لتصطاده فبداية الأمر دوران في الشوارع وأنس وضحك، ونهايته إدمان وفحش ورذيلة.
إن الدلال والترف الزائد وتلبية كل ما يريد الأبناء طريق من طرق هذا البلاء، كما أن الضرب والقسوة الزائدة والحط دائمًا من قدر الأبناء طريق من طرق هذا البلاء، إذًا ما الحل؟ الحل لا تكن يابسًا فتكسر ولا لينًا فتعصر، وإنما القصد والتوسط ولين الرقيب المشفق.
السبب الثالث: وسائل الإعلام لا سيما الغربية منها، ويكون أثرها بنشر المستوى الفكري والأخلاقي الهابط، وذلك بإبعاد الشاب عن الدين وبالإثارة الجنسية، وجعل من يسمون بالفنانين نجومًا وكواكب يقتدى بهم ليقلدهم الشباب، وبعضهم مصابون بداء شرب الخمور وإدمان المخدرات.
السبب الرابع: السفر للخارج. لقد أثبتت الدراسات أن نسبة كثيرة من الشباب بدؤوا تعاطي المخدرات أول مرة خارج البلاد باسم السياحة الموهومة، وهي درب في الصياعة المرسومة، حيث الحانات والخمور والمراقص والفجور.
هذا شاب يقول: تزوجت في سنّ مبكرة وأكرمني الله بزوجة صالحة وأبناء منها، ولكن لم أشكر النعمة، جلست أنا وبعض أصحابي نتحدث عن السفر ولذته، فعقدنا العزم على السفر للخارج، وكذبت على زوجتي، وفعلاً سافرنا، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى إحدى النوادي الليلية على سبيل المشاهدة فقط، وهناك بدأت تجربة الخمور، ثم رويدًا رويدًا إلى المخدرات ثم السجن.
السبب الخامس: بعض العمالة الأجنبية وخاصة الكافرة منها، فقد جاءت بعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها من إباحة للجنس والمسكرات والانحرافات، والمصيبة اندماج العمالة الأجنبية العزاب في الأحياء السكنية ودخولهم مع الشباب والأحداث، بل ودخول بعضهم للبيوت كالسائقين والخدم والخادمات. وهذه خادمة جاءت من بلادها مدمنة على المخدرات لتعمل لدى أسرة مكونة من أب وأم وفتاة تبلغ من العمر 18عامًا، وتعرفت الخادمة على شاب مدمن من شباب الحي، وذات يومٍ اشترط هذا الشاب المدمن على الخادمة أن تمكنه من بنت هذه الأسرة وإلاَّ سيمنع عنها المخدرات، فوافقت واستغلت يومًا كان والد الفتاة قد سافر فيه ووالدتها خارج المنزل، فوضعت الخادمة مخدرًا للفتاة في الشاي وخدَّرها، فأدخلت الوحش المدمن لاغتصاب الفتاة المسكينة، وعندما أفاقت المسكينة من مفعول المخدر لم تتحمّل فأصيبت بالجنون. فانتبهوا فقد يؤخذ أهل البيت ممن يسكن فيه.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: السبب السادس من أسباب انتشار المسكر والمخدرات: المشاكل ومصائب الدنيا وهموم الحياة؛ وذلك مثل المشاكل الأسرية التي قد تنتهي بالطلاق ثم ينقسم البيت والأولاد ليكونوا في صراع نفسي، تؤدي إلى تفكك الأسرة لتفر إلى المخدرات ظانة أنها مهربها ومفرّها، وكذا مشاكل الحياة ومصائب الدنيا، الفشل في العمل أو الزواج أو الدراسة وانتشار البطالة والفقر، والشبح المظلم ألا وهو الفراغ ذاك السم القاتل.
السبب السابع ورأسها وأساسها: ضعف الإيمان وانعدام الخوف من الله سبحانه، فما وقع من وقع في دوامة الضياع هذه إلا يوم أن تُجوزت حدود الله، واعتدي على محارم الله، وإلا رب العالمين قد قالها يوم أنزل كتابه وهو أعلم: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].
السبب الثامن والأخير: الوقوع في التدخين، تلك السيجارة الخبيثة سواك الشيطان، ولا شك في حرمتها، أوَتظنّ عندما يبدأ المرء بها بإغراءٍ من الشيطان أن شيطانه يقنع بهذه الخطوة؟! لا، بل يجره إلى ما هو أشد، إلى الحبوب والحشيش، وسجائر المخدر دائمًا في مخيلة شاربها حلم المتعة ونشوة اللذة، وحقًا رب العالمين قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [الأنعام:142].
أخيرًا أيها الإخوة، لا شك أن العلاج هو عكس الأسباب، وأهم العلاج وأعظمه تقوية الإيمان، يقول المؤرخ العالمي تويني في كتابه محاكمة الحضارة: "إن الروح الإسلامية تستطيع أن تحرر الإنسان من ربقة الكحول (الخمر) عن طريق الاعتقاد الديني العميق، والتي استطاعت بواسطتها أن تحقق ما لم يمكن للبشرية أن تحقق في تاريخها الطويل".
والحق ما شهدت به الأعداء. نعم، المواظبة على الصلوات وحضور حلقات الذكر وتنشئة الأبناء على الأخلاق الحميدة أعظم سياج يقي من الشرور، كذلك الحرص على الصحبة الصالحة سواءً للكبار أو الصغار، وكذلك متابعة الأبناء ومعرفة أصدقائهم، وعدم السماح لهم بالسهر لأوقات متأخرة من الليل، وتجنيب الأبناء المشاكل الأسرية.
والحذر الحذر من خبثاء النفوس الذين يروجون مثل هذه المخدرات بوعد المتعة واللذة والنشاط والحيوية، ألا كذبوا لعمرو الله. والبدار البدار لمعالجة من ابتلي بهذه الآفات قبل استفحال الداء عن طريق مستشفيات الأمل واستشارة من يوثق فيه في ذلك، والتعاون يدًا واحدة مع رجال مكافحة المخدرات ورجال الهيئات والشُرط في التبليغ عن المروجين ومحاربتهم لاستئصال الشر من جذوره، عسى الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه.
(1/4465)
الابتلاء والصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار امتحان وابتلاء. 2- لا يسلم من مصائب الدنيا بشر. 3- أحوال الناس عند نزول البلاء. 4- أمور يسلو بها المؤمن في مصيبته. 5- ثمرات الصبر على الأقدار المؤلمة. 6- من أسباب نزول البلاء. 7- وجوب التأدب بالآداب الشرعية عند حلول المصائب. 8- غفلة الناس عن المصيبة في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وطاعته في المَنْشَط والمَكْرَه، وذكره في الرخاء والشدة، والصبر على طاعته وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنكم تعيشون بدار ابتلاء وامتحان، وتحيون حياة فتن واختبار، رماح المصائب عليكم مُشْرَعَة، وسهام البلاء إليكم مُرْسَلَة، قضاء الله فيكم نافذ صائر، وحكمه فيكم حاصل سائر، لا رادّ لما قضاه وقدّره، ولا مانع لما أراده ودبّره، فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر:68]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38].
أيها المسلمون، لقد جبل الله الدنيا على الكَدَر وعدم الصفو، وقدّر أن تكون دار متغيّرات ومتناقضات، إن أضحكت يومًا أبكت أيامًا، وإن سرّت حينًا أحزنت أحيانًا، صحيحها إلى سَقَم، وكبيرها إلى هَرَم، وحيّها إلى فناء، ووجودها إلى عدم، شرابها سراب، وعمارتها خراب، هذا مستبشر بمولود فرح بقدومه، وذاك مغموم لفقد حبيب حزين لفراقه.
على ذا مضى الناسُ اجتماعٌ وفرقةٌ ومَيْتٌ ومولودٌ وبِشْرٌ وأحزانُ
لا بدّ للمرء من ضِيقٍ ومن سَعَةٍ ومن سرورٍ يُوافِيهِ ومن حَزَنِ
واللهُ يطلبُ منه شُكرَ نعمتِهِ ما دام فيها ويبغي الصبرَ في المِحَنِ
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذَبْحَ الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضَّنْك، ومحمد يصابر الفقر وقَتْلَ عمه حمزة وهو أحب أقربائه إليه ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها".
ودخل سلمان الفارسي على صديق له يعوده فقال: (إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه، فيكون كفارة لما مضى، فيستعتب فيما بقي، وإن الله عز اسمه يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه، فيكون كالبعير عَقَلَه أهله ثم أطلقوه، فلا يدري فيم عَقَلُوه حين عَقَلُوه، ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه).
نعم أيها الإخوة، إن الله يبتلي عباده جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، وبرّهم وفاجرهم، فكل يأتيه من المصائب والبلايا نصيب، فهذا يُبتلَى بمرض مُزْمِن، وذاك يُصاب بجائحة في ماله أو ولده، وهنا مُبتلَى بموت قريب، وهناك مصاب بفقد حبيب، ولكنّ الناس يختلفون في استقبال هذه المصائب والرزايا، فمنهم من يستقبلها بالتسخط والجزع، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا بشرّ المنازل وأدناها، ومنهم من يصبر ويصابر، ومنهم من يرضى ويستسلم، ومنهم من يشكر الله ويحمده.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخط، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]. النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام. النوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
والصبرُ مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ لكنْ عواقبه أحلى من العَسَلِ
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكن صبر عليها.
المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال : ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها)) " انتهى كلامه رحمه الله.
أيها المسلمون، هنالك أمران مما يسلّي المؤمن في مصيبته ويعينه عند محنته، ينبغي أن يضعهما كل مبتلى نصب عينيه وأمام ناظريه:
الأمر الأول: أن يعرف أن أهله وماله ملك لله عز وجل على الحقيقة، وأنه ليس إلا أمينًا على ما في يده، فإذا أخذه الله منه فكأنه رد الأمانة إلى صاحبها، فليس العبد هو الذي أوجد الشيء، وإنما المالك الحقيقي لذلك هو الله عز وجل، وهو المتصرف فيما يريد كيف يشاء.
الأمر الثاني: ما دام مصير العبد إلى الله فيجب عليه أن يعلم أن هذه الدنيا قصيرة مهما طالت، وأنه سيتركها عاجلاً أو آجلاً، وأنه سيلقى ربه كما خُلِق أول مرة بلا أهل ولا مال، وإنما سيلقاه بحسناته وسيئاته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يفرح بموجود ويحزن لمفقود؟!
فيا من بليت بمصيبة أو رَزِيّة من مرض مزعج أو ألم مُضْن أو فقد قريب أو موت حبيب، عليك بالصبر؛ فإنه مرضاة للرب، مؤنس للقلب، مُذْهِب للهَمّ، طارد للغَمّ، مُعْظِم للأجر، مُؤْذِن بالعِوَض. عليك بالصبر؛ فإنه مطية لا تكبو، وصارم لا يَنْبُو، وحصن لا يهدم، وحَدّ لا يُثْلَم. عليك بالصبر؛ فإنه حسن توفيق وأمارة سعادة وعنوان إيمان ودليل إذعان.
إن الذي عَقَدَ الذي انعقدت له عُقَدُ المكاره فيك يملك حَلّها
صبرًا فإن الصبر يعقب راحة ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
إذا ادْلَهَمّت الأمور واسودت الحياة وعظمت المصائب وكثرت الرزايا فالصبر ضياء. إذا نزل المكروه وحَلّ الأمر المخوف وعظم الجزع واحتيج لمصارعة الحُتُوف فالصبر التجاء. إذا انسدت المطالب وهيمن القلق واشتد الخوف وعظمت الكربة فالصبر دواء. إذا أصبح الدين في غربة والإسلام في كُربة وعمت المعاصي وعظمت الشبهات والشهوات فالصبر عزاء.
قال : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) ، ويقول : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) ، وعن أبي موسى أن رسول الله قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه: بيت الحمد)) ، وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) ، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها)) ، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله ، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي خيرًا منه: رسول الله. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه".
حدّثَ أحدهم فقال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقّنه من الفقه جانبًا كبيرًا، قال: فمات فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقّنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي كأنّ القيامة قد قامت، وكأن صبيانًا بأيديهم قِلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم حارًا شديدًا حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلّفنا آباءنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
ألا فليتق الله كل مسلم يصاب بمصيبة أو رَزِيّة، وليحذر حال مصيبته كل الحذر أن يتكلم بشيء يسخط ربه ويحبط أجره مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عادل لا يظلم ولا يجور، عالم لا يضل ولا يجهل ولا ينسى، حكيم في أفعاله وأقداره، فعّال لما يريد، له الأمر من قبل ومن بعد، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)).
اصْبِرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجَلَّدِ واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مُخَلَّدِ
أَوَما ترى أنّ الْمصائبَ جَمَّةٌ وترى الْمنيّةَ للعباد بِمَرْصَدِ
مَن لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ هذا سبيلٌ لستَ فيه بأَوْحَدِ
وإذا ذكرتَ مصيبةً تَسْلُو بها فاذكر مُصَابَكَ بالنبي محمّدِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:153-157].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته.
واعلموا أنه ليس الخطب في أن يصاب المرء في دنياه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو قرابته، فهذه سنة الله عز وجل في عباده، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]، فقد تكون المصيبة لذنب ارتكبه أو لسوء فعله أو لظلم وقع فيه، نسيه أو تناساه، ولكن الله عز وجل مطّلع عليه، ويعلم سره ونجواه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وفي سنن الترمذي عن أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال: ((لا يصيب عبدًا نَكْبَةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر)) ، ثم قرأ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. وقد تكون المصيبة ـ أيها الإخوة ـ من أجل تكثير الحسنات ورفع الدرجات، وقد تكون من أجل أن يشعر المسلم بضعفه وعجزه وافتقاره إلى ربه جل وعلا وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
عباد الله، ليس الخطب في هذا، ولكنّ الخطب فيما وقع فيه أكثر الناس اليوم، وهو الجزع والهلع من المصيبة في الدنيا إذا وقعت، والتسخط والتأوّه منها، والإعراض عن الآداب الشرعية التي شرعت للمسلم عندما تحل به مصيبة في الدنيا، والوقوع في أعمال تنافي الإيمان وتضعفه في القلب، وتوجب الاعتراض على القضاء والقدر، ثم الغفلة بعد ذلك عن مصيبة الدين، فتجد المسلم يترك الصلاة ولا يعدّ ذلك مصيبة، يأكل الربا والرشوة ولا يعد هذا من البلاء، يقع في الفواحش والمنكرات ولا يعد هذا من الرزايا، يرفع الدشّ على سطح منزله ولا يعد ذلك رَزِيّة وبَلِيّة، يقع في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام ولا يكترث لذلك، يقع في ظلم الناس وأكل أموالهم وحقوقهم ولا يخاف لذلك ولا يهتزّ له قلب أو عضو، لقد صدق في الناس اليوم قول الصحابي الجليل أنس بن مالك في أهل زمانه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات)، قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله: "يعني بذلك من المهلكات".
(1/4466)
الاستعداد للاختبار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, الموت والحشر
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء العام الدراسي. 2- حرص الوالدين على نجاح أولادهم الدنيوي فقط. 3- التذكير باختبار اليوم الآخر وخطره. 4- نتيجة اختبار اليوم الآخر. 5- وجوب العناية بأوقات فراغ الأولاد زمن الاختبارات. 6- التحذير من الغش في الاختبارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فأُوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوى اللهِ عز وجل، فتزوّدوا بها فإنها خيرُ الزَّادِ، واستعدُّوا بالأعمالِ الصالحةِ ليومِ المَعَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
أيُّها المُسلمونَ، وقَبلَ أَشهُرٍ مَعدودةٍ بَدَأَ العامُ الدِّراسيُّ لِطُلابِ المَدَارسِ والجامعاتِ، وفي أَوَّلِ يومٍ منهُ نَظَرَ كثيرٌ مِنَ الطلابِ إلى ما أمامَهم من أيامٍ، فَرَأَوا أنها طَوِيلةٌ مُمتدّةٌ، وأنَّ بإمكانِهم أنْ يَلهُوا في أولِها ويَلعبوا، ثم يَعكُفُوا على كُتُبِهِم وَدَفَاتِرهِم في آخِرِها عُكُوفَ الجَادِّينَ، فَيَلتهِموُا ما فِيها من قَوَاعدَ وَمَعلُوماتٍ، وَيَشرَبوُا مَا تَحوِيهِ مِن مَسَائِلَ وَتَفرِيعَاتٍ، وَمَا زَالوا على الإِهمالِ مُقِيمِينَ، يَأكُلُ التَّسويفُ أَوقَاتَهُم سَاعةً بَعدَ سَاعةٍ، وَيَلَتهِمُ التَّأجِيلُ فُرَصَهُم يَومًا بَعدَ يَومٍ، حَتى اقتربَ مَوعدُ الاختِبارِ وَحَانت سَاعةُ الصِّفرِ، فإذا بِهِم يَجِدُونَ نَتِيجَةَ تَفرِيطِهِم وإِضاعتِهِم الأوقاتَ، يَجِدُونهََا نَدَمًا وَأَلمًا وَحَسَرَاتٍ، فَاستبدَلَ كَثيرٌ مِنهُم بِفرْحةِ اللَّعِبِ طُوالَ العَامِ تَرْحَةَ َاَلمُذَاكَرَةِ، وَبِجَلَسَاتِ الأحبَابِ العُكُوفَ على الكِتَابِ، بَل كَم مِن أبٍ وأمٍّ لم يَستَريحا في مَنَامٍ ولم يَهنَئَا بِطَعَامٍ تَضَامُنًا مَعَ أَبنائِهِم وبَنَاتِهِم، وَخَوفًا على مُستقبلِهِم مِنَ الضَّيَاعِ.
وَهَذا الشُّعورُ بِرَهْبةِ الامتحانِ مِن قِبَلِ الأبناءِ وَذَاكَ الخَوفُ مِن قِبَلِ الآباءِ والأولياءِ إنما هُوَ شُعُورٌ طَبيعِيٌّ وَخَوفٌ جِبِلِّيٌّ، لا غُبارَ عَلَيهِما ولا عَيبَ فَيهِما، وَلَكِنَّ المُصِيَبةَ العُظْمَى وَقَاصِمَةَ الظَّهرِ الكُبرَى أنْ تَرَى هذا الشُّعورَ أَوفرَ مَا يَكونُ عِندَ أُمُورِ الدّنيا وَاختِبَارِها اليَسِيرِ الذي أعظمُ ما يَحصلُ لِلطالبِ مِن جَرَّائِهِ أنْ يخُفِقَ فِيهِ أو يُحرَمَ مِنه، فإذا جاء أمرٌ مِمَّا يَخُصُّ الآخِرةَ واختبارَهَا الحقيقيَّ رأيتَ الأبوينِ أَبرَدَ ما يَكونانِ شُعُورًا، وَوَجدتَ الأبناءَ أَقَلَّ ما يُلْفَونَ اهتِمَامًا. كم مِن أَبٍ وَأمٍّ حَرِصا عَلَى إيقاظِ أبنائِهِم عِندَ أَذَانِ الفَجرِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ بل في أيامِ الدِّراسةِ، وَبَذَلُوا كُلَّ ما في وُسعِهِم لِتَنبِيهِهِم وَتَنشِيطِهِم، لِئَلا يفوتَهُم مَوعدُ الدِّراسةِ أوِ الامتحانِ فيُخفِقُوا، وَكم قد ذَكَّرُوهُم بِفُلانٍ وعَلانٍ مِمَّن نَجَحُوا في دِرَاسَتِهِم وَتعلِيمِهِم وَهُمُ الآنَ يتقلَّدونَ أغلى المناصبِ وَيَتَرَبَّعُونَ على أعلى المَرَاتِبِ؛ لعلَّهُم يَقتدونَ بِهِم ويَصنعُونَ مِثلَ ما صَنَعُوا، وَلَكِنَّ هَذينِ الوَالِدينِ لم يَهتَمَّا في يَومٍ مَا بِإِيقَاظِ الأبنَاءِ لِصَلاةِ الفَجرِ أو صَلاةِ العَصرِ، مَعَ عِلمِهِمَا بِأَهَمِّيَّةِ الصلاةِ وَخَطَرِ تَركِها، وَلَم يَربِطاهُم في دِينِهِم بِالقُدُوَاتِ الحَقِيقِيينَ مِن سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ وَعُلَمَاءِ الأمَّةِ الرَّبَانِيينَ.
إنَّ مِنَ الشَّقَاءِ الوَاضِحِ وَالخَسَارَةِ الفَادِحَةِ ـ أيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أنَّ يَظَلَّ اهتِمامُ الإِنْسانِ مُنصَبًّا على هذهِ الدُّنيا وَزَخَارِفِها، وَأَن لا يَظْهَرَ حِرصُهُ إلا عليها وَمِن أَجلِها، لا يُسعِدُهُ إلا نَجَاحُهُ في اختِبارِها، وَلا يُحزِنُهُ إلا إِخفَاقُهُ في جَمعِ حُطامِها، ثم لا يُهِمُّهُ بَعدَ ذَلكَ أَمرُ الآخِرَةِ ولا أَينَ مُوقِعُهُ مِنها، مَعَ عِلمِهِ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَصيرَ إليها يَومًا ما، وَأَنَّها هِيَ المَقَرُّ وَفِيها البَقَاءُ، إِنْ في سَعَادَةٍ وَإِنْ في شَقَاءٍ.
إنَّ كُلَّ مُوَفَقٍ مِنَ العِبَادِ ـ أيُّها الإخوَةُ ـ لا يَمُرُّ بِهِ مُوقِفٌ حتى وَإنْ كان دُنيويًا بَحْتًا إلا تَذَكَّرَ بِهِ الآخِرةَ وَيَومَ الحِسَابِ. وَنحنُ مُقبِلونَ على امتحِانَاتِ الطُّلابِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأيامَ العَصِيبَةَ على أبنَائِنا بل وَعَلى كَثيرٍ مِنَ الآباءِ لا بُدَّ أنْ نَتَذَكَّرَ بهَا يَومَ السُّؤَالِ والحِسَابِ وما أَعَدَّ اللهُ فَيهِ مِنَ الثَّوَابِ والعِقَابِ، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:103-108].
إِنَّهُ كَمَا أنَّ الطُّلابَ يُسْأَلُونَ في الامتِحَانِ وَلَن يَنجَحَ مِنهُم إلا مَن كَانَ مُجِدًّا مجتَهِدًا وَلَن يُفلِحَ مِنهُم وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيةَ إلا مَنِ اغتَنَمَ عَامَهُ مِن أَوَّلِه، فَيَجِبُ أَنْ نَعلَمَ أنَّ كُلَّ عَبدٍ سَيُسْأَلُ يَومَ القِيامَةِ عَمَّا سَلَفَ مِنهُ وَكَان، وَلَن يَنجَحَ إلا أَهلُ التَّقوَى وَالإيمَانِ الذين يَغتَنِمُونَ الأعمَارَ ويُبادِرُونَ الأوقَاتَ في التَّزَوُّدِ مِنَ البَاقِياتِ الصَّالِحَاتِ وَاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]. فَكُلٌّ سَيُسْأَلُ لا مَحَالَةَ، دَاعِيًا كانَ أو مَدعُوًّا، رَسُولاً أو مُرسَلاً إليه، وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:6-9].
أيُّهَا المُسلِمُونَ، إنهُ وَإِنْ حَرِصَ أَهلُ الدُّنيا على إِخفَاءِ أَسئِلَةِ الاختِبَارِ عَنِ الطُّلابِ إلا أنَّ اللهَ مِن رَحمتِهِ وَلُطفِهِ بِعبادِهِ جَعَلَ أَسئِلَةَ الاختِبَارِ الأُخرَوِيِّ مَكشُوفَةً وَمَعلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، فَقَد كَشَفَهَا مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الخيرَ بوحيٍ مِن ربِّهِ جل وعلا، وَنَصَحَ الأُمَّةَ بِتَوضِيحِها لهم، وَحَذَّرَهُم وَأَنذَرَهُم، فَقَالَ : ((لَن تَزُولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيامةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن أَربعِ خِصَالٍ: عَن عُمُرِهِ: فِيمَ أَفنَاهُ؟ وَعَن شَبَابِهِ: فِيمَ أَبلاهُ؟ وَعَن مَالِهِ: مِن أَينَ اكتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنفَقَهُ؟ وَعَن عِلمِهِ: مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)). ألا فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، وَأَعِدُّوا لِلجَوَابِ صَوَابًا، احفظُوا الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَتَذَكَّرُوا المَوتَ والبِلَى، وَاترُكُوا زِينَةَ الحَيَاَةِ الدُّنيَا لِتَفُوزُوا بِالأُخرَى، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا خَيرَ في طُولِ العُمُرِ إلا مَعَ حُسنِ العَمَلِ، وَلا في زَهرَةِ الشَّبَابِ إلا بِالطَّاعَةِ، وَلا في كَثرةِ المَالِ إلا مَعَ حُسنِ الإنفَاقِ، وَلا في العِلمِ إلا بِالعَملِ وَالتَّطبِيقِ.
إنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ـ أيُّها الإِخوَةُ ـ قَد تَجَاوَزَتْ أَعمَارُهُمُ الأربَعينَ وَالخَمسينَ، وَمَعَ ذَلك مَا زَالُوا يَلعَبُونَ وَيَلهُونَ سَامِدِينَ، يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ، وَيُقَصِّرُونَ في العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوقَاتُهُم تَضِيعُ في قِيلٍ وَقَالٍ، وَمَجَالِسُهُم غِيبةٌ وَنَمِيمَةٌ وَجِدَالٌ، أَضَاعُوا عَصرَ الفُتوَّةِ والشَّبَابِ وَمَا كَفَاهُم، فَيُرِيدُونَ أن يُلحِقُوا بِهِ عَصرَ الكُهُولةِ والشَّيخُوخَةِ، وَإِنَّ إِخوَانًا لهم مِن أَهلِ الغِنى والثَّرَاءِ مَا زَالُوا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِلا خَوفٍ ولا تَوَرُّعٍ، يَحرِصُونَ عَلَى جَمعِ الأَموَالِ مِن كُلِّ وَجهٍ وَسَبِيلٍ، لا يَتَوَرَّعُونَ عَن غِشٍّ وَلا رِبا، ولا يَأبَهُونَ بِمَا أَخَذُوهُ بِالحِيَلِ وَشَهَادَاتِ الزُّورِ، وَلا بِمَا كَسَبُوهُ بِالأَيمَانِ الكَاذِبَةِ وَالخُصُومَاتِ الفَاجِرَةِ.
أمَّا مَعشرُ الشَّبَابِ ـ وَمَا أَدرَاكَ مَا حَالُهُم؟! ـ فَوَقتُهُم مُضَاعٌ وَفُرَصُهُم غَيرُ مُغتَنَمَةٍ، سَهَرٌ مُمْتَدٌ وَسَمَرٌ طَوِيلٌ في غَيرِ عِبادةٍ وَلا تَحصِيلٍ، نَومٌ عَنِ الصَّلاةِ وَتَثَاقُلٌ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَصَحوٌ في البَاطِلِ وَخِفَّةٌ إلى المَعَاَصِي، عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا، وَقَالُوا: سَمِعنَا وَعَصَينا، وَأُشرِبُوا في قُلُوبِهِم حبَّ المُوبقِاَت والشَّهَوَاتِ، فَلَبِئسَ العِلمُ عِلمُهُم، إذْ لم يُورِثْهُمُ العَمَلَ وَخَشيَةَ العَلِيمِ سُبحَانَه.
أيُّهَا المُسلِمُونَ، إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالُ جُمهُورِ شَبَابِنَا وَشِيبنَِا فَأَينَ الإِعدَادُ لاختِبَارِ الآخِرةِ؟! وَكَيفَ سَتَكُونُ الإِجَابَةُ عَنِ الأَسئِلَةِ بَينَ يَدِي رَبِّ العَالَمِينَ؟! يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111]. لَيتَ شِعرِي، بِأيِّ جَوَابٍ سَيُقَابِلُ تَارِكُ صَلاةِ الفَجرِ والعَصرِ رَبَّهُ؟! أَتُرَاهُ سَيَقُولُ: كَانَ البَردُ في الفَجرِ شَديدًا وَالفِرَاشُ وَثِيرًا، وَكُنتُ في العَصرِ مُتعَبًا بَعدَ الدَّوَامِ وَجَمعِ الحُطَامِ؟! وَلا أَدرِي إلى أينَ يَفِرُّ مِن مَولاهُ مَن عَصَاهُ فَأَكَلَ الحَرَامَ وَشَرِبَ الحَرَامَ وَسَعَى إلى الحَرَامِ؟! مَا جَوَابُ مَن غَشَّ رَعِيَّتَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ فَأَدخَلَ عَلَيهِمُ الدُّشُوشَ وَأَجهِزَةَ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ؟! أَتُرَاهُ سَيَنجَحُ في اختِبَارِ الآخِرَة ِوَرَسُولُ اللهِ يَقُولُ: ((ما من عبدٍ يَسترعيهِ اللهُ عز وجل رعيةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ رعيتَهُ إلا حرَّمَ اللهُ تعالى عليهِ الجنةَ)).
ألا فَليُحاسبْ كُلُّ امرئٍ نفسَهُ قبلَ أن يُحَاسَبَ، وَليَسأَلها قبلَ أن يُسأَلَ، فإنَّ مَن حَاسَبَ نفسَهُ هُنَا خَفَّ عليهِ الِحسابُ هُناكَ، وَمَن أهملَها اليومَ نَدِمَ يَومَ لا يَنفعُ النَّدَمُ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ اختبارَ الآخرةِ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ، جِدٌّ ليس بِاللَّعِبِ، إنه واللهِ اختبارٌ لا يَستوي فيهِ مَن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صَالحًا ثم اهتدى بمن أغفل اللهُ قَلبَهُ عَن ذكرِهِ واتَّبعَ هَوَاه ُوكان أمرُهُ فُرُطًا، إنه اختبارٌ لا يُعادُ ولا يُكَرَّرُ، وَنَتيجَتُهُ لا تُرَاجَعُ ولا يُرجَعُ فيها، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]. مَا نَتيجَتُهُ وَاللهِ إلا أن يُحِلَّ اللهُ رِضوَانَهُ عَلَى عبدِهِ فَلا يَسخَطُ عليه بعدَهُ أَبَدًا، أَو يَسخَطُ عليه فَلا يَرضَى بَعدَهُ أَبَدًا، ما ثَمَّ إلا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، جَنَّةٌ عَاليَةٌ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، عَرْضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمتقيَن، وَنَظَرٌ إلى وَجهِ رَبٍّ كَرِيمٍ، في عِيشةٍ رَاضيةٍ، في سِدرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرفُوعَةٍ، أَو نَارٌ مُوقدةٌ مؤصدةٌ حاميةٌ تلظَّى، أُعِدَّت للكافرينَ، لا يَصلاها إلا الأشقى الذي كذَّبَ وتوَلَّى، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:158].
فاتقوا اللهَ ـ يَا طُلابَ الآخرةِ ـ وأطيعوهُ، وراجِعوا كتابَ ربِّكُم والزمُوهُ، واقتدوا بمعلمِكُم الخيرَ واتَّبِعُوهُ، ولا يكنْ حالُكُم كحالِ المفرّطينَ الذين يلعبون ولا يَجِدُّونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20-25].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ ـ أيها المسلمونَ ـ حقَّ التقوى، وتمسَّكُوا مِنَ الإسلامِ بِالعروةِ الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيها المسلمون، إن أولادَنا أمانةٌ في أعناقِنا، وَسَنُسْأَلُ عنها فيما نُسألُ عنه ولا بُدَّ، قال : ((كلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتِهِ)).
وإذا كان الأمرُ كذلكَ ـ أيها الإخوةُ ـ فَيَجِبُ أن لا يَكُونَ كُلُّ هَمِّنا أن يُحَصِّلَ أبناؤُنا دنيًا فانِيةً، أو يَحُوزُوا مَنَافِعَ زَائِلَةً، أو يتقلَّدُوا مَنَاصِبَ غَالِيةً ويرتقوا رُتَبًا عَالِيةً، ثم نتركَهم بعدَ ذلك بِلا تربيةٍ إسلاميةٍ وتوجيهٍ سديدٍ؛ لأنَّ هَذهِ الأُمُورَ الدُّنيَوِيَّةَ البَحتةَ سَتُصبِحُ وَلا شَكَّ وَبَالاً عَلَيهِم إذا لَم تُربَطْ بَشَرْعِ اللهِ وَالدَّارِ الآخِرةِ، فَلْيكنْ هَمُّنا إِصلاحَهُم عَقِيدةً وَقَولاً وَفِعْلاً وَسُلُوكًا، لِيَستَفِيدُوا مِن دِرَاسَتِهِم وَمِن جَمِيعِ أُمُورِ حَيَاتِهِم، وليستَغِلُّوهَا في الخَيرِ وَنَشرِ الإسلامِ والدَّعوَةِ إليهِ.
وَمَا دامَ الكَلامُ عَنِ الاختِبَارِ وَأَيَّامِهِ وَعَنِ التَّربِيَةِ وَأَهَمِّيَتِهَا، فَإِنَّ هُنَا أَمْرًا مُهِمًا جِدّ مُهِمٍّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأبناءِ وَتَربيتِهِم، رَأَيتُ أنْ أُنَبِّهَ عَلَيهِ كُلَّ أَبٍ حَرِيصٍ غَيُورٍ يَعِي المَسؤوليةَ المُلقَاةَ عَلَى عَاتقِهِ وَيَشعُرُ بها، ذَلكم هُوَ أَنَّ أَيَّامَ الاختباراتِ والامتحاناتِ كَثيرًا مَا يَخرجُ الطَّالبُ فيها مِنَ المَدرَسَةِ مُبكِّرًا، وَهُنا مَكمَنُ الخَطَرِ وَمَنبَعُ الشَّرِّ، حَيثُ يَستَغِلُّ كَثيرٌ مِن عَبيدِ الشَّهَوَاتِ هَذا الوَقتَ الضَّائعَ الذي يَمتَدُّ إلى أَكثرَ مِن ثَلاثِ سَاعاتٍ أَحيَاَنًا، فَيَتَكَرَّمُون مَأْزُورِينَ غَيرَ مَأْجُورِينَ ويَجعَلُونَ مِن سَيَّارَاتِهِم مَأْوًى لِكَثِيرٍ مِنَ الأَيتامِ الضَّائِعِين الذينَ فَقَدُوا محَاَضِنَ التَّربيةِ السَّلِيمَةِ، وَبُلُوا بأمهاتٍ تَخَلَّينَ أَو آبَاءٍ مَشغُولِينَ، فَيَحصُلُ في هذا الإرْكَابِ مِنَ الشَّرِّ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، مِنِ استماعِ غِنَاءٍ وَمَزَامِيرَ، وَإِيذَاءٍ لِعِبادِ اللهِ في أَسوَاقِهِم وَشَوَارعِهِم، وَمُهَاوَشَاتٍ وَمُنَاوَشَاتٍ، إلى لوَاطٍ وَهَتْكٍ لأعرَاضِ هؤلاءِ الأبناءِ المَخدُوعيَن مِن قِبَلِ تِلكَ السِّباعِ الضَّارِيةِ، بَلِ البَهَائِمِ العَارِيَةِ التي تَشَبَّعَت بما في الدُّشُوشِ مِن خَلاعةٍ وَمُجُونٍ، فَعَادَت لا تُفَكِّرُ إلا في كَيفيةِ قَضَاء ِالشَّهوَةِ والبَحثِ عَنها.
ألا فَاتقوا اللهَ أيُّهَا الآبَاءُ، واحفَظوا أَبنَاءَكُم مِنَ الضَّيَاعِ وَمِمَّا لا يَليقُ بِكُم ولا بِهِم، فَقَدْ ثَبَتَ بِتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِنَ المُعَلِّمِينَ المُهْتَمِّينَ بِالوَاقِعِ وَرِجَالِ الهَيئَةِ وَاستِقْرَائِهِم لِجَرَائمِ اللِّوَاطِ وَالمُضَارَبَاتِ وَاستِعْمَالِ المُخِدِّرَاتِ وَحَوَادِثِ السَّيَّارَاتِ التي تَقَعُ للطلابِ أَنَّ أَكثَرَها وُقُوعًا وَأَشنَعَها إنما يحَدُثُ في أَيَّامِ الاختِبَارَاتِ، حَيثُ طُولُ الفَرَاغِ وَانعِدَامُ الرَّقِيبِ وَتَسلِيمُ الآبَاءِ السَّيَّارَاتِ لأبنَائِهِم مِن غَيرِ اهتِمَامٍ وَلا مُتَابَعَةٍ.
أَلا فَرَحِمَ اللهُ أبًا اهتَمَّ بِأَبنَائِهِ وَتَابَعَهُم، وَأَخَذَ عَلَى أَيدِيهِم دَونَ كُلِّ شَرٍّ وَمَنَعَهُم، وَطُوبَى لِمَن كَفَى الناسَ شَرَّ أَبنَائِهِ وَأَذَاهُم، ذَاكَ وَاللهِ هُوَ المُسلِمُ حَقًّا، قَالَ : ((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عَنْه)). وَيَا لخسَارَةِ مَن ضَيَّعَ أَبنَاءَهُ وَأَهمَلَهُم، وَتَرَكَ لهم الحَبلَ عَلَى الغَارِبِ، وَشَجَّعَهُم لِيُؤذُوا عِبَادَ اللهِ بِغَيرِ ما اكتسبوا، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
وَقَضِيَّةٌ أَخِيرةٌ نُنَبِّهُ إِلَيهَا أَبنَاءَنَا الطلابَ وَإِخوَانَنَا المُعِلِّمِينَ، ألا وَهِيَ الغِشُّ في الامتحَاناتِ، أوِ الدُّخُولُ في سَرَادِيبَ مُلتَوِيَةٍ لِتَحصِيلِ أَورَاقِ الأَسئِلَةِ أَو جُزءٍ مِنها مِن بَعضِ المَصَادرِ، فَإِنَّ ذَلكَ مِن أَعظَمِ الغِشِّ لِلنَّفسِ وَلِلأُمَّةِ، حَيثُ يَنجَحُ بِهَذِهِ الطُّرُقِ مَن لا يَستَحِقُّ النَّجَاحَ، وَيَتَقَلَّدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ المُزَوَّرَةِ مَنَاصِبَ لا يَستَحِقُّهَا، وَيَأكُلُ بها أَموَالاً لا تَحِلُّ لهُ، فَالحَذرَ الحَذرَ مِن ذَلِكَ، وَليَتَذَكَّرْ كُلُّ مَن دَعَتهُ نَفسُهُ إلى الغِشِّ أوِ المُرَاوَغَةِ قَولَهُ : ((مَن غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)). وَلْيَعلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ مُنطَبِقٌ عَلَى الغِشِّ في الامتِحَانَاتِ وَفي كُلِّ المَوَادِّ بِلا استثناءٍ، كَمَا قَرَّرَ ذَلك الرَّاسِخُونَ في العِلمِ مِن عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ.
(1/4467)
الولاية والأولياء
قضايا في الاعتقاد
الأولياء, معجزات وكرامات
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الولي. 2- أهم صفات أولياء الله. 3- الكرامات بين الأولياء والأدعياء. 4- لا يجوز لأحد الخروج عن شريعة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، مما جاء في كتاب الله تعالى وكلام رسوله أن لله سبحانه وتعالى من خلقه أولياء، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64]، وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء)) ، قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم، قال: ((هم قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) ، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن الله تعالى قال: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري.
ولكن من أولياء الله؟ وما صفاتهم؟ وهل يجوز أن نحكم لمعيّن بالولاية؟ ولو قُدّر أنّا عرفنا أن فلانًا من أولياء الله فهل لنا أن نرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها؟ وهل يجوز له هو أن يخالف ما جاء به النبي ؟
تلكم أمور من العقيدة عظيمة، لبّسَ الشيطان فيها على عامة الناس، واستغل جهلهم بها لإضلالهم عن الحق، فتعلقوا بأناس وسموهم الأولياء، وعبدوهم من دون الله عز وجل، واستغل أقوام ممن لا يرجون لله وقارًا هذا الأمر، وادعوا الولاية ليأكلوا أموال الناس بالباطل ظلمًا وعدوانًا، وهم في الواقع من أجهل الناس بعبادة الله وأضعفهم توحيدًا، فضلاً عن أن يكونوا من أوليائه.
أيها المسلمون، إن الولي في لغة العرب خلاف العدو، وهو مشتق ومأخوذ من الولاء وهو الدنو والتقرب، فولي الله هو من والى الله بموافقته محبوباته والتقرب إليه بمرضاته، ومن صحت ولايته فهو من أهل الجنة ولا ريب. ولما كان من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يجزمون لمعين بالجنة فإنه لا يجوز لنا أن نجزم بولاية أحد من الناس كائنًا من كان، قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: "قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومن أظهر الله على يديه ممن ليس بنبيّ كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاًّ على ولايته، خلافًا لبعض الصوفية والرافضة... دليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنًا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنًا لم يمكننا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى" اهـ.
وبالرجوع إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ نعرف أهم صفات أولياء الله، فقد وصفهم الله بأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون. فما الإيمان؟ وما الشيء الذي آمنوا به؟ وما التقوى حتى نتصف بهما، وحتى نعرف من أولياء الله؟
أما الإيمان فهو الاعتراف المستلزم للقبول، وقد بينه المصطفى في حديث جبريل المشهور حينما سأله عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). أما التقوى ـ وهي الصفة الثانية من صفات أولياء الله ـ فهي أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه، جاء في تفسير الطبري عند تفسير قوله تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، يقول: "ما أولياء الله إلا المتقون، يعني الذين يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34]، يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون". والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
ومن صفات أولياء الله أنهم إذا رُؤوا ذُكِر الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: ((الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله)) رواه البزار وصححه الألباني.
ومن صفاتهم أنهم يحبون في الله ويبغضون في الله، ويوالون في الله ويعادون في الله، كما ورد في الحديث: ((من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك)) ، وروى الإمام أحمد والطبراني عن النبي قال: ((لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله)).
ومن صفات الأولياء المحافظة على الصلوات الخمس وصيام رمضان طاعة لله وإخراج الزكاة واجتناب الكبائر، في الحديث أن رسول الله قال في حجة الوداع: ((ألا إن أولياء الله المصلون، من يقيم الصلوات الخمس التي كتبن عليه، ويصوم رمضان يحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي زكاة ماله يحتسبها، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها)) ، ثم إن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: ((هي تسع: الشرك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا)) ، ثم قال: ((لا يموت رجل لم يعمل هذه الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي في دار أبوابها مصاريع من ذهب)) ، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
ومن صفات الأولياء أنهم يخفون أعمالهم ولا يبرزونها للناس، بل قد لا يعرفهم الناس ولا يأبهون لهم، فعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر خرج إلى المسجد فوجد معاذًا عند قبر رسول الله يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله قال: ((اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة)) رواه ابن ماجه والحاكم وقال: "صحيح ولا علة له".
ومن صفات الأولياء التحلي بالعلم الموروث عن رسول الله والاتصاف بالفضل وصفاء القلوب والعقيدة والإخلاص لله تعالى والدعوة إليه، قال ابن عبد البر: "فمن الحب في الله حب أولياء الله، وهم الأنقياء العلماء الفضلاء، ومن البغض في الله بغض من حاد الله وجاهر بمعاصيه أو ألحد في صفاته وكفر به وكذب رسله أو نحو هذا كله".
ويروى عن الخليل بن أحمد كما في تهذيب الكمال أنه قال: "إن لم تكن هذه الطائفة ـ يعني أهل العلم ـ أولياء الله فليس لله ولي". وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري رحمه الله أنه تلا هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ الآية [فصلت:33]، فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله".
وقال شيخ الإسلام: "فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله كان من أولياء الله المتقين أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64]. والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله الرُّبَّان الحافظون له من الزيادة والنقصان هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]"، وقال رحمه الله: "وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور"، وقال رحمه الله: "فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا بفعل ما أمر وترك ما حظر وتصديقه فيما أخبر، ولا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين، وكل ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغي والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا، فقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4]، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6، 7]"، وقال رحمه الله: "كل من آمن بالله ورسوله واتقى الله فهو من أولياء الله".
أيها المسلمون، ومما لبّس به الشيطان على كثير من المخرّفة والصوفية أن أجرى أمورًا خارقة للعادة وخارجة عن المألوف على أيدي من يسمونهم أولياء وما هم بأولياء، ونسي أولئك الجهلة أو تناسوا أنه لا يشترط في الولي أن يكون له كرامات أو أمور خارقة للعادة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المتقرّبون إليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم، الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئًا، وإن لم تجر على أيديهم خوارق، فإن كانت الخوارق دليلاً على ولاية الله فلتكن دليلاً على ولاية الساحر والكاهن والمنجّم والمُتَفَرِّس ورهبان اليهود والنصارى وعُبّاد الأصنام، فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف، ولكن هي من قبل الشياطين، فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221، 222]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]. وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانًا، أو يمشي على الماء، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلاً عن أن يكون وليًا لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله وموافقته لأمره ونهيه. ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليًا لله، وقد يكون عدوًا له، فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع، وتكون لهؤلاء من قبل الشياطين، أو تكون استدراجًا، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله، بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة، ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية، بل يكون مُلابِسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى المزابل، رائحته خبيثة، رَكّابًا للفواحش، يمشي في الأسواق كاشفًا لعورته، غامزًا للشرع مستهزئًا به وبحملته، يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين، كافرًا بالله، ساجدًا لغير الله من القبور وغيرها، يكره سماع القرآن وينفر منه، ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن، فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليًا لله محبوبًا عنده حتى يكون متبعًا لرسوله باطنًا وظاهرًا" اهـ.
وقال في شرح العقيدة الطحاوية: "فلا طريقة إلا طريقة الرسول ، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا. ومن لم يكن له مصدّقًا فيما أخبر ملتزمًا لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنًا فضلاً عن أن يكون وليًا لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقرّبة إلى سخطه وعذابه. فمن اعتقد في بعض البُلْهِ أو المولَعِين مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله أنه من أولياء الله وفضّله على متبعي طريقة الرسول فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطانًا زنديقًا، أو زُوكَارِيًّا متحيّلاً، أو مجنونًا معذورًا، فكيف يفضّل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟!... قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قَصَّرَ الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في معرض كلامه عما استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى قال رحمه الله: "وهو غلط ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكًا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا" اهـ.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعملوا بطاعته، واتبعوا سنة الحبيب ، واتبعوا طريقته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا أسباب سخط ربكم جل وعلا؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه لا يجوز لأحد كائنًا من كان الاستغناء عن شريعة محمد فضلاً عن مخالفتها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "من اعتقد أن في أولياء الله من لا يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر يُسْتَتاب، فإن تاب وإلا قتل، مثل من يعتقد أن في أمة محمد من يستغني عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، فإن موسى لم تكن دعوته عامة، بخلاف محمد فإنه مبعوث إلى كل أحد، فيجب على كل أحد متابعة أمره، وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافرًا فكيف من اعتقد أنه أفضل منه أو أنه يصير مثله؟!".
(1/4468)
صيانة المساجد والاهتمام بها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأعمال
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المال عارية مؤداة. 2- دعوة للبذل في سبيل الله. 3- لا تحقرن من المعروف شيئًا. 4- حال السلف مع الإنفاق في وجوه الخير. 5- الصدقة الحاضرة خير من الوصية الآجلة. 6- كيف نساهم في عمارة المساجد الحسية؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيها المسلمون، مما تقرّر في ذهن كل عاقل لبيب أنّ المال عَارِيّة مُؤدّاة ودَين مردود، يملكه الإنسان حينًا من الدهر قد يطول أو يقصر، ثم ما يلبث أن يرده إلى مالكه الحقيقي، ويعيده إلى واهبه الغني. فمُلك الإنسان للمال ناقص وليس بكامل، وبقاؤه في يده محدود وليس بدائم، ذلك أنه إما أن تصيب المال آفة مهلكة فتذهب به وتفنيه، وتبقى لصاحبه حسرته، وإما أن تكون الآفة أعجل إلى صاحبه وأسرع، فيذهب ويتركه لورثته يتمتعون به، ويتلذّذون بأكله، لهم غُنْمُه وعليه غُرْمُه، هم يذوقون حلاوته ولذّته، وهو يواجه السؤال عنه والحساب عليه.
وإذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن أضعف الناس عقلاً وأفسدهم رأيًا من يتمسّك بما يعلم أنه مُتَفَلِّت منه ولا محالة، يجمع المال ولا يفرّقه، ويدخل الدرهم ولا يخرجه، ويسجن الدينار ولا يطلقه، المصارف ملأى من دراهمه، والمخازن مُتْرَعَة من دنانيره، ريقه ناشف ونفسه طامعة، وعمره ذاهب وأجله مقترب، ولم يقدم لنفسه ما يرجو عند الله ثوابه، ولم يحتسب عنده ما يبقى له ذُخْرًا ويُعْظِم الله له به أجرًا. كم من إنسان يملك من المال ما لو أنفق منه طول عمره لكفاه وزاد، ومع هذا فهو يلهث ويطلب المزيد، وآخر يملك ما لو قُسم على عصبة من القوم لوسعهم، ومع ذلك لم يفكر في يوم من الأيام أن يقيم مشروع خير أو يبني لله مسجدًا، ولم يخطر بباله في ساعة ما أن يشارك في دعم دعوة أو إغاثة ملهوف، أو يسعى في تفريج كربة مكروب أو سد خلّة محتاج.
أيها المسلمون، امرأة سوداء ضعيفة في عهد رسول الله لا يُؤْبَه لها ولا يُهتَم لأمرها، لدرجة أنها لما ماتت وفارقت الحياة صلى عليها جمع من الصحابة ودفنوها ولم يخبروا الرسول بأمرها، فلما افتقدها الحبيب عليه الصلاة والسلام سأل عنها اهتمامًا بها وإكبارًا لشأنها، فأخبره الصحابة بما كان منهم تجاهها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((دلوني على قبرها)) ، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه، ثم صلى عليها.
الله أكبر! امرأة سوداء ضعيفة قليلة الشأن عند أهل ذاك الزمان يسأل عنها أفضل الورى وخير من وطئ الثرى، ثم يذهب حتى يقف على قبرها ويصلي عليها، وهو الذي صلاته سكن ورحمة. ماذا فعلت هذه المرأة يا تُرَى؟! وماذا الذي حصل منها؟! وماذا صنعت؟! أي شيء قدمت لخدمة دينها؟! وبأي شيء بلغت ما بلغت عند نبيها؟! أَجَهَّزَت جيشًا أو حاربت عدوًا؟! لا والله، أبنت مسجدًا أو حفرت بئرًا؟! لا وربي، أكفلت يتيمًا أو آوت محتاجًا؟! كلا، فماذا فعلت إذًا؟ لا أشك أن كثيرًا منكم ـ يا عباد الله ـ يعلم أنها إنما كانت تَقُمّ المسجد، نعم أيها الإخوة، كانت تَقُمّ المسجد وتنظّفه، وتحمل عنه القَذَى وتُجَمّله. هذا هو قُصَارَى جهدها ومبلغ قوتها، اتقت الله ما استطاعت، وبذلت ما في وسعها، وأدّت ما أمكنها، وبذلت وقتها وعنايتها لبيت ربها طلبًا لمرضاته وابتغاء وجهه، فكان ما كان من صلاة نبي الله عليها ورحمة الله لها.
فأين من ذلك رجال اليوم؟! أين من ذلك الأغنياء الذين بدلاً من أن ينفقوا المال في بناء المساجد وعمارتها بخلوا به حتى عن متابعتها وصيانتها؟! يمر أحدهم بالمسجد والمسلمون لا يجدون ماءً يتوضؤون به فلا يحرك ذلك منه ساكنًا، ويحضر خطبة لا يفهم شيئًا منها لضعف مكبّرات الصوت فلا يفكر في أن يغيرها أو يساهم في تغييرها، يرى مكيفًا متعطّلاً فلا يسعى لإصلاحه، أو مصباحًا قد انطفأ فلا يفكّر باستبداله، أو فُرُشًا قد بليت وتقطعت فلا يخطر بباله أن يعوّض بها خيرًا منها. ألا فلا نامت أعين مدّت لزهرة الحياة الدنيا وفتنتها، ولا سكنت قلوب ترجف خوفًا على المال أن لا تنفقه في سبيل الله.
أيها المسلمون، لقد كان صحابة رسول الله ورضي عنهم ومن بعدهم من سلفنا الصالح رحمهم الله كانوا حريصين على بذل أموالهم في سبل الخير عامة، ولم يكونوا على شيء أحرص منهم على أن يقدموا لأنفسهم ما يكون فيه نجاتهم وفوزهم في أخراهم، ولذا فقد ضربوا أروع الأمثلة وأعلاها في الإنفاق والبذل وتفريق المال في وجوه الخير وأنواع البر، أنفق أبو بكر ماله كله في سبيل الله، وبذل عمر نصف ماله ابتغاء مرضاة الله مسابقة في الطاعات ومسارعة إلى الخيرات، وعبد الرحمن بن عوف ـ وكان من أثرياء الصحابة ـ بذل في جيش العُسْرَة مالاً كثيرًا، أما عثمان ـ وما أدراك من عثمان؟! ـ فهو الذي أنفق وأنفق وأنفق، وبذل وأعطى وتصدق، ووزّع المال في وجوه الخير وفرّق، اشترى بئر رُومَة بعين في الجنة وعده بها رسول الله، ثم سَبَّلَها للمسلمين يشربون منها ويرتوون، وجهّز جيش العُسْرَة بألف دينار وألف بعير وسبعين فرسًا، حتى قال رسول الله : ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)) ، بل حتى فقراء الصحابة بذلوا جهدهم ونصحوا لله ولرسوله، حتى كان بعضهم لا يجد إلا صاعًا أو نصف صاع فيتصدق به.
فيا لله، ما أهون الدنيا عندهم وما أغلاها عندنا! لقد عرفوا حقيقتها وعلموا كُنْهَها، فجعلوها مَطِيّة لهم للآخرة، وجهلنا نحن خطرها وتجاهلنا شرها، فعبدناها وتطاحنّا عليها. الأخ يهجر من أجلها أخاه، والقريب يصرم فيها قريبه، مرافعات في المحاكم ومخاصمات، وأيمان كاذبة وفجور، وإغداق على المحامين وبذل للأموال لشهود الزور، ثم نبخل بعد ذلك على بيوت الله بل على أنفسنا، وتمر على أحدنا السنوات والأعوام وهو غارق في دنياه غائص في أمواله، لم يفكر يومًا في بناء مسجد أو عمارته، أو إصلاح آخر وصيانته، بل إذا حُدِّث في ذلك عَبَسَ وتولّى، ثم صَعَّرَ خدَّه ومضى، أو أعطى قليلاً وأَكْدَى، يجمع المال ويعدّده، يحسب أنه سيخلّده، وما درى أنه ليس له منه إلا ما على ظهره أو في بطنه، أو ما قدّمه أمامه عند ربه، في الحديث عنه أنه قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت؟!)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي : ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)). الله أكبر يا عباد الله! ما أبعد الفرق بين من يرى أنه إذا تصدق أبقى ونما ماله، وبين من يرى أنه إذا أنفق أبلى وأفنى ونقص ماله.
أيها المسلمون، كثيرًا ما يلجأ أصحاب الأموال قَلَّت أو كثرت إلى الوصية ببعض المال من بعد موتهم، مؤمّلين فيمن وراءهم من أولاد أو أقارب أو أوصياء، لعلهم ينفذون هذه الوصايا ويتابعونها، وينمون هذه الأموال ويستمرون في البذل منها، إما في أضحية أو ما شابه ذلك، وقد ثبت أن هذه الوصايا لا تنفذ غالبًا على الوجه المطلوب، وقد يؤخر تنفيذها سنوات عديدة وأزمنة مديدة، بل قد تنقطع بعد جيل أو جيلين ولا يبقى لها أي أثر، وهذا هو مصيرها طال الزمان أم قصر، ولذا فقد أرشدنا الحبيب عليه الصلاة والسلام إلى أن نتصدق من أموالنا ونحن أحياء أغنياء أقوياء في الحال التي نخشى فيها الفقر ونأمل الغنى، فعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان)). ويُحكَى أن رجلاً جاء إلى أحد العلماء فقال: أريد أن أوصي من مالي بعد موتي، فأراد الشيخ أن يعلمه درسًا من واقع الحياة المشاهد، يقرره به إلى أن التصدق في حال الصحة والحياة وتقديم الخير أمام العبد أولى وأفضل منه بعد أن يكون قد غادر الدنيا، وأصبحت لا تساوي عنده جناح بعوضة، فقال له رحمه الله: أيهما أقوى: أضواء السيارة الأمامية أم الخلفية؟ فقال الرجل: بل الأمامية، فقال الشيخ رحمه الله: فكذلك الصدقة التي أمامك فهي أفضل من التي خلفك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:96].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته.
أيها الإخوة، إن مما يضعف العزائم عن البذل في بناء المساجد وصيانتها ما يفكر به كثير منا وهو خطأ ولا شك إذ يعتقد أن ذلك من مهمة التجار والأغنياء، ولا يستطيعه إلا أصحاب الملايين ورؤوس الأموال الذين لو أنفق أحدهم مليونًا أو أكثر ما نقصت من ماله إلا كما ينقص من مال أحدنا لو أنفق ألفًا أو عشرة آلاف. وإن هذا الاتجاه وإن كان صحيحًا بالمنظار الاقتصادي الدنيوي البحت، فإنه ليس بشيء في ميزان طالبي الآخرة المشمرين لدخول جنة عرضها السماوات والأرض، فكم ((سبق درهم مائة ألف درهم)) حسب نية صاحبه وإخلاصه وحاجته إليه وحبه له.
ألا فليعلم كل مسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه أنه مطلوب منه أن يقدم لدينه وأمته، بل يقدم لنفسه هو ما دام في زمن المهلة قبل النقلة، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير)) الحديث، قال ابن عبد البر رحمه الله: "وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أقل التكرار وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ـ فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل)) رواه البخاري، وعن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله في صدر النهار، فجاءه قوم حُفَاة عُرَاة مُجْتَابِي النِّمَار أو العَبَاء مُتقلِّدي السيوف، عامتهم من مُضَر بل كلهم من مُضَر، فتَمَعَّرَ وجه رسول الله لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن وأقام فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، والآية التي في الحشر: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ، ((تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره)) ، حتى قال: ((ولو بشقّ تمرة)) الحديث رواه مسلم.
إنها توجيهات نبوية كريمة، يحث فيها النبي أمته على الإنفاق كل بحسب قدرته وَجِدَته، لم يأمر التجار وحدهم، ولم يقصر الاستحباب عليهم دون الفقراء، بل ذكر أقل القليل وهو شقّ التمرة، وماذا يساوي شق التمرة لو قورن بثمنه اليوم، إنه لا يساوي جزءًا من مائة جزء من هللة، فضلا عن أن يساوي ريالاً أو أكثر، أفبعد هذا يستقل مسلم شيئًا أو يحتقره، أو يرى أن الصدقة والإنفاق أمر خاص بأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة؟! لا والله، ما بعد هذا الحديث من عذر لغني أو فقير يتعذر به عن أن ينفق ويقدم لنفسه، واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8] لتعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيب رجاء من أنفق قليلاً أو زهيدًا، فله سبحانه الحمد على ما وهب وأعطى، وله الحمد على التوفيق لكل خير، وله الحمد على قبول العمل وتزكيته.
(1/4469)
الأحزاب
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, غزوات, معارك وأحداث
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دراسة السيرة لاستنباط الدروس والعبر. 2- عرض موجز لأحداث موقعة الأحزاب. 3- دروس من موقعة الأحزاب. 4- من حكم الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لأَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:28، 29].
أيها المسلمون، الحديث عن سيرة المصطفى حديث تحبّه النفوس المؤمنة، وتأنس به القلوب المطمئنة، ولكن هل يكفي الحديث العابر والسرد المجرّد؟! وهل يُجدِي الترداد البارد والتكرار الجامد؟! إن حقًّا على أمة الإسلام وقد تشابكت عليها حلقات من المحن وتقاذفتها أمواج من الفتن وصِيح بهم من كل صوب وجانب وتداعى عليهم الأَكَلَة من كل مكان، إن حقًّا عليهم أن يعودوا إلى سيرة نبيهم ؛ ليأخذوا منها الدروس، ويستلهموا العبر، لا في حال سلمهم وأمنهم فقط، ولكن في حال حربهم وجهادهم أعداءهم، وليس الأعداء الخارجيّون فحسب، بل حتى مع أعدائهم الذين هم من جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم.
أيها الإخوة، لم يكن الأعداء ليركنوا إلى هدوء أو سكون، ولم يكونوا ليصرفوا أنظارهم عن دولة محمد طرفة عين، لقد أجمعوا أمرهم وشركاءهم، وأعملوا مكرهم ودسائسهم لحربها والقضاء عليها، ففي السنة الرابعة من الهجرة النبوية المباركة، ولما رأى اليهود انتصار المشركين على المسلمين في غزوة أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين وخروجه ثم رجوعه في العام المقبل، خرج أشرافهم إلى قريش بمكة، يحرّضونهم على غزو رسول الله ويؤلّبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش إلى ما أرادوا، ثم خرجوا إلى غَطَفَان فدعوهم فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك فاستجاب لهم من استجاب، واجتمع من الكفار عشرة آلاف مقاتل، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا جبل سَلْع خلف ظهورهم، والخندق الذي أشار بحفره سلمان الفارسي أمامهم، وخرج عدو الله حُيَيّ بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِي زعيم بني قُرَيظة، وكان قد وادع رسول الله وعاهده، فما زال به حتى نقض عهده مع رسول الله ، وهكذا صار المسلمون بين فكَّين، وأصبحوا في قبضة عدوّين، جيوش المشركين أمامهم، وبنو قُرَيظة خلفهم. واشتدت الأزمة على المسلمين، وصاروا كما قال الله تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]، وجعل المنافقون يسخرون ويستهزئون، ويجهرون بالحقد ويقولون: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!
هكذا أصبح الأمر شديدًا وحرجًا على المسلمين، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وبدأ رسول الله بالتخطيط لمجابهة هذا الظرف الراهن، فاستشار سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في أن يصالح غَطَفَان على ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينصرفوا ويعودوا، ويبقى المسلمون وقريش فيلحقوا بها الهزيمة ويجابهوها، فأجاباه قائلَين: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف، وصوَّب رسول الله هذا الرأي، وقال: ((إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)).
ويريد الله بالمسلمين خيرًا، ويقدّر لهم ظهورًا ونصرًا، فيهيئ لهم رجلاً من غَطَفَان يقال له: نُعَيم بن مسعود، إذ أتى إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني ما شئت، فقال رسول الله : ((إنما أنت رجل واحد، فخَذِّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خُدْعة)) ، فذهب هذا الصحابي وجعل يتنقل ما بين اليهود والأحزاب حتى أفسد ما بينهم بذكائه وسرعة بديهته، فتخاذلوا ودبّت الفرقة في صفوفهم، وخارت عزائمهم، وضعفت قواهم، ثم بعث الله عليهم ريحًا هَوْجَاء مخيفة في ليلة مظلمة باردة، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، فقلبت القدور، وطارت بالخيام، وقطعت الأطناب، واقتلعت الأوتاد، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُرَاع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قُرَيظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. وفي صباح اليوم الثاني كان المشركون قد ولوا الأدبار، وعاد رسول الله وصحبه إلى المدينة، وانتهت هذه الغزوة دون قتال ولا عِرَاك، وقال رسول الله بعدها قولة الواثق بنصر ربه: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)).
ولقد أعطى الله المسلمين بهذه الغزوة دروسًا وألهمهم عبرًا، إذ كشفت لهم أن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ هم من أشد الناس عداوة للمؤمنين، وقد أكد الرب سبحانه ذلك في كتابه حيث قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، وأصبحت تلك الحقيقة واضحة لعباد الله المؤمنين، لا يجادل فيها إلا من طمس الله على قلبه، وأعمى عن الحق بصيرته.
ذكر ابن هشام في السيرة عن صفية بنت حُيَيّ رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمّي مُغَلِّسَين، ولم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، وسمعت عمي وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه ولا تنكره؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته ما بقيت. بهذا المنطق ـ إخوة الإسلام ـ نطق حبر اليهود حُيَيّ بن أخطب قاتله الله، وبهذا المنطق ينطق اليهود، وبه يفكرون، وله يعتقدون، فمع أنهم يعرفون الحق إلا أنهم لا يتبعونه، بل يحاربونه حربًا لا هوادة فيها.
إن اليهود ـ معشر المسلمين ـ قوم غَدَرَة فَجَرَة، يعاهدون ويعقدون، ثم ينقضون العهود والمواثيق ولا يبالون، يمدون يدًا للسلام ليطعنوا بالأخرى، ويظهرون الضعف وهم يخططون للشر والفساد ما استطاعوا، قلوبهم تغلي حسدًا على المسلمين وحقدًا، وصدورهم تمتلئ كراهية للمؤمنين وبغضًا، حاولوا قتل رسول الله مرارًا، ونقضوا عهده، وأشعلوا الحروب على مدى التأريخ وأوقدوها، وأسسوا الفرق الضالة منذ عهد الصحابة، وأجّجوا الخلافات، إن ماضيهم مظلم أسود معتم، وحاضرهم لا يقل عن ماضيهم إظلامًا وسوادًا، فها هم ما زالوا منذ عشرات السنين في فلسطين يذيقون المسلمين أشد أنواع التنكيل والتعذيب، بعد أن استولوا على أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين.
واليوم وبعد أن رأوا تخاذل المسلمين وضعفهم وتفرقهم وجدوا الفرصة سانحة والساعة مواتية، فانقضوا على بلاد الرافدين، يريدون أن يمدوا سلطانهم على المناطق الأخرى؛ ليكملوا أجزاء دولتهم المزعومة الموهومة، والتي يخططون لها من الفرات إلى النيل، أفيظن مؤمن بعد هذا أنهم يريدون الخير للآخرين؟! أفيظن مسلم أنهم دعاة سلام في يوم من الأيام؟!
إننا ـ مسلمين وعربًا ـ يجب أن نعتقد بأن اليهود من أشد الناس عداوة لنا، وأنهم لن يرضوا عنا أبدًا إلا إذا انسلخنا عن ديننا الحق، واتبعناهم في دينهم الباطل، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، هذا هو قول ربنا الذي يعلم طبائع البشر وأخلاقهم، وتلك توجيهات القرآن وتعليماته منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، ولن يرضوا هم والنصارى عنهم حتى يكفروا بالله، ويتهودوا مثلهم أو يتنصروا، جاهلٌ أشد الجهل من يظن خلاف هذا، ومخطئ كلَّ الخطأ من ينتظر أن يتخلّى اليهود والنصارى في يوم من الأيام عن طبائعهم ومعتقداتهم، فيكونوا له إخوة أو أصدقاء، أو يوفوا بعهد، أو يصدقوا في ميثاق.
ومن دروس غزوة الأحزاب ـ أيها المؤمنون ـ أن العدو مهما جمع عدّته وعتاده ومهما ازداد عدده وكثر سواده ومهما قلَّ عدد المسلمين وضعفت قوتهم وأحيط بهم إلا أن الأمر كله لله القوي العزيز وبيده سبحانه، وهو القادر في أية لحظة على إهلاك العدو وإضعافه بجنوده الكثيرة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، منها الريح التي تلقي الرعب في قلوب الأعداء: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4]، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:7]. ولهذا ـ أيها المسلمون ـ فإن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعدة الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم، فيكفي المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يتقوا الله، وأن يثقوا بنصره، ويثبتوا ويصبروا، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]. يقول عبد الله بن رواحة لأصحابه في غزوة مؤتة: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين: إما ظهور وإما شهادة).
وإن لنا ـ أيها المسلمون ـ في جهاد أفغانستان ضد أكثر من دولة مما يسمى بالدول العظمى في السنوات الماضية، إن لنا في ذلك لشاهدًا حاضرًا على أن الجهاد توكّل وإعداد، لا كثرة عدد وأعداد، وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
لكن أول عدد النصر والاستعداد هو الرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين، والانتصار على النفس وشهواتها، ودحر الشيطان وأعوانه. والأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم لأمر الله، وإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية. إن المؤمن حين يعادي ويعارك وحينما يقاتل ويجاهد فهو إنما يعادي لله ويعارك لله، ويجاهد في سبيل الله، ويقاتل بقوة الله.
وفي غزوة الأحزاب ـ أيها المسلمون ـ قد أتى المشركون بجميع ما لديهم للقضاء على المسلمين، في هذا الظرف الصعب الدقيق الذي بلغت القلوب فيه الحناجر يبشّر الرسول الواثق بنصر ربه وتمكينه لدينه، يبشّر بانتصار الإسلام وانتشاره وهيمنته على الدين كله، عن البراء بن عازب قال: لما أمرنا رسول الله أن نحفر الخندق عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المِعْوَل، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله فجاء رسول الله فألقى ثوبه، وأخذ المِعْوَل وقال: ((بسم الله)) ، فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة، قال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا)) ، قال: ثم ضرب أخرى، وقال: ((بسم الله)) ، وكسر ثلثًا آخر، وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)) ، ثم ضرب ثالثة، وقال: ((بسم الله)) ، فقطع الحجر، وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء)). إنه الاعتزاز بالله سبحانه والاعتماد عليه، إنه التوكل على الله الذي افتقده المسلمون أيامنا هذه، وصار اعتمادهم وتوكلهم على الأسباب المادية والمحسوسة، إنها الثقة بالله وبنصره، والتي صارت عند المسلمين اليوم متعلقة بالدرهم والدينار والقوى المادية البحتة أكثر من تعلقها بالمولى الكريم الذي عنده خزائن كل شيء وبيده مفاتيح كل شيء.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وتوكلوا عليه، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
معاشر الإخوة في الله، البلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب، ويظهر مكنون الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء. عند الحوادث يتميز الغَبَش من الصفاء، والهَلَع من الصبر، والثقة من القنوط. ولقد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والشجاعة، ويحسب فيها التجرّد والنزاهة، ويتوقع منها البعد عن الشح والحرص، فإذا نزلت النازلة ووقعت الواقعة واشتبكت الجيوش وحمي الوَطِيس تبيّن مَن بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه كان بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، وأن من الخير له أن يعتبر ويتعظ ويستدرك قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154].
إن من حكمة الله في الابتلاء أن تستيقظ النفس، ويرق القلب بعد طول غفلة، فيتوجه الخلائق إلى ربهم يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه. إعلان تام للعبودية لله وحده، وتسليم كامل لله رب العالمين، إنابة واستكانة تصلح بها حياتهم ومعاشهم، يتصلون بربهم، ويتحررون من شهواتهم وأهوائهم، ومن ثَمَّ يجدون في ظل الضراعة والإنابة والاستكانة، يجدون الطمأنينة والراحة والأمل في الفرج والوعد بالبشرى، وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
وكفى بالتضرع ـ أيها المسلمون ـ دليلاً على الرجوع إلى الله، ولجوءًا إليه، وأملاً في الفرج من عنده، وحِرْزًا واقيًا من الغفلة. فلا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلِمّات سواه، ولا يُلاذ إلا بجنابه وحماه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه. لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هو المتصرف في الملك ولا معقب لحكمه.
نعم أيها الإخوة، في البلاء يتجلّى توكل المتوكلين، ومن وجد في قلبه اعتمادًا على غير ربه فليراجع إيمانه. يقول سعيد بن المسيب: "التوكل على الله جماع الإيمان". وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق تبارك وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]. وليعلم علم اليقين أن المؤمن مَكْفِيٌّ سوء البلاء ما استقام على أمر الله، محفوظ من كيد الأعداء ما اعتصم بالله.
فاتقوا الله جميعًا أيها المؤمنون، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
(1/4470)
الإسراف والتبذير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفشي ظاهرة الإسراف والتبذير في المناسبات. 2- الأفراح بين الأمس واليوم. 3- الدوافع الباعثة على الإسراف. 4- خطورة الإسراف. 5- من حكم تحريم الإسراف. 6- الإسلام دين العدل والوسطية. 7- خطأ إسرار النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون، واسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:24-26].
أيها المسلمون، واستكمالاً لحديث سبق حول منكرات الأفراح ومخالفات الأعراس، فإننا سنتحدث اليوم عن مخالفة عظمى ومصيبة كبرى، أمرها خطير وشرها مستطير، نهى الله تعالى ورسوله عنها، وحذر المصلحون الناصحون من مَغَبّتها، وكثر حديث الخطباء والوعاظ حولها، علم الناس حرمتها وخطرها على دينهم ودنياهم، ولكنهم ما زالوا مع كل ذلك يقعون فيها، بل لا يزدادون مع الأيام إلا تعلقًا بها وإصرارًا عليها، تلكم هي قضية الإسراف والتبذير في الحفلات ومجاوزة الحد في البذل والإنفاق في المناسبات، فبدلاً من أن تكون الأعراس والولائم فرصة لإظهار الفرح والسرور بنعمة الله، أصبحت ميدانًا للتفاخر والتكاثر، وغدت مجالاً للرياء والسمعة، تباهٍ بالأموال المصروفة، وتفاخرٌ بالموائد الممدودة، وتغالٍ في الصالات المستأجرة، لهو وطرب وغناء، ورقص وخلاعة ومجون، استعمال غير مشروع للذهب والفضة، وتنافس في الملابس وأنواع الحلل والحلي، قصور في الفهم وانحطاط في التصور، وضعف في الدين ونقص في الإيمان، نسيان للماضي وتجاهل للغابر، وغفلة عن الغد وإغراق في الحاضر، وكأن الهدف من الحفلات والمناسبات قد أصبح حب مدح الناس وثنائهم، وخوف ذمهم وكلام ألسنتهم.
أيها المسلمون، لنعد قليلاً إلى أيامنا الماضية، ولنرجع هُنَيهة إلى عصورنا الخالية، ولا أقول: ارجعوا إلى قرون طويلة أو أجيال غابرة، أو انتقلوا إلى أماكن بعيدة ومسافات سحيقة، ولكن ارجعوا إلى أربعين سنة مضت، وعودوا إلى أربعة عقود خلت، وانظروا كيف عاش آباؤنا وأجدادنا في هذه البلاد، وتفكروا كيف كانت زيجاتهم وحفلاتهم في هذه الديار، ماذا ذبحوا، وماذا أكلوا، وبأي طعام أكرموا ضيوفهم وتبلّغوا. إنه اليسر وعدم التكلف، تقديم لما يسّر الله وهيّأه، في تواضع جمّ وراحة بال، وطيب قلوب وسعة صدور، شاة واحدة أو شاتان، مع ما يسّر الله من بُرّ أو رز وما أقله وأعزه، لا فاكهة ولا مشروبات، ولا إضاءة ولا إنارة، ولا فرش وثيرة ولا تعقيد، ومع ذلك كله كانت المحبة والألفة في أبهى صورها وأعلى معانيها، الجميع راض بما قسم الله وأعطى، يبدؤون باسم الله، ويختمون بحمده، ويدعون للعروسين بالبركة والولد، لا شيء من النعمة يمتَهن أو يستهان به، بل كثير يؤكل.
وتعمى الأبصار، فإذا بالذي يستر حاله بالأمس ويتعفّف أصبح اليوم يبذّر ويسرف، أناس كانوا وما زالوا فقراء مُعدَمين عالة مُمْلِقين يتكفّفون الناس ويستدينونهم، ويُلْحِفُون في سؤال الأغنياء والأمراء، ويلجؤون إلى مصارف التسليف والجمعيات الخيرية، يتحملون من الديون ما لا يستطيعون، ويتكلفون ما لا يطيقون، ويتنافسون على ما لا يقدرون، كل ذلك طمعًا في المظاهر الكذابة الخداعة، وتلبّسًا وتشبّعًا بما لم يعطهم الله، وتقليدًا للمسرفين الآخرين، وخوفًا من النقص عما يفعلون، حتى لقد غدا الزواج عند الشاب مطلبًا عزيزًا، بل أصبح شبحًا مخيفًا، يهابه ولا يجرؤ على القرب منه، يتمناه ولا يكاد يحصله، حتى إذا طال عليه الأمد وعبثت به الشهوة ورأى الأقران يستسلمون لهذا الواقع المرّ واحدًا واحدًا عقد العزم على اللحاق بهم والاستمتاع بما أحلّه الله، فلا يجد مناصًا من الوقوع في الديون الباهظة، ولا محيدًا عن مسالك الإسراف المفتعلة، يتجرّع مرارة الإسراف ولا يكاد يسيغها، ويتحمل مؤونة التبذير دَينًا على عاتقه، يستمر به سنوات وسنوات، ينغّص عليه عيشه وحياته، ويكره معه الزوجة وأهل الزوجة والمجتمع من حوله؛ حيث كانوا سببًا في إذلاله وإهانته وضياع حاضره ومستقبله.
من الذي اضطره إلى ذلك ـ أيها المسلمون ـ وأجبره عليه؟ من الذي أرغمه على الإسراف ودعاه إليه؟ إنه أنا وأنت والمجتمع بأسره، حين جعلنا الزواج مجالاً للمفاخرة وميدانًا للمكاثرة، فإذا ذبح فلان في زواجه خمسًا أو ستًا من الغنم لم يرض علان إلا بذبح عشر أو عشرين، وإذا نحر ابن فلان قعودين أو ثلاثة نحر ابن علان أربعة أو خمسة، ثم لا نبالي بعد ذلك بمصير هذه النعم ولا أين يُذهب بها، أفي البطون أم إلى القمامات؟! أأكلها الناس أم أكلتها السباع والعوافي؟! أوزعت على المحتاجين أم على صناديق النفايات؟!
والمصيبة كل المصيبة ـ أيها المسلمون ـ حين لا يكون الإسراف إلا ممن جرّب الفاقة وعايش الحاجة وأصابته الخلة وباء بالمسكنة، قد مسته البأساء والضراء، وقرصه الجوع وعضته المَسْغَبَة، ثم لما كثر ماله وحسنت حاله واخضرّ عوده وأورق غصنه تكبّر وتجبّر، وتطاول وتعاظم، وغدا شديد الصَّلَف كثير السَّرَف، لا يقنع بقليل ولا يملأ عينه كثير.
ولقد عايشنا وعايشتم في حفلات كثيرة، ورأينا ورأيتم شيوخًا وكهولاً، لا يُتّهمون إلا برجاحة العقول ورزانة الأحلام، قد عاشوا أيام الفقر والجوع، ومرت بهم سنون عجاف، إن وجد أحدهم غداءه لم يلق عشاءه، وإن شبع في وجبة تجاوز وجبات، فلما أنعم الله عليهم وأغناهم ـ وكان الأحرى بهم أن يقيدوا النعمة بشكر المنعم سبحانه ـ إذا هم قد جحدوا النعمة ولم يرعوها حق رعايتها، بل تفننوا في تبديدها وإهدارها في الذبائح والولائم، وفي شراء الملابس والفساتين، وفي جلب المغنيات والكوافيرات، وفي شراء الحلويات والمشروبات، وفي طلب الكماليات والثانويات، حتى لقد صارت قيمة فستان الزفاف في بعض الأحيان تبلغ أكثر من عشرين ألف ريال، وإيجار الصالات قد ينوف على ثلاثين ألفًا، ودُفِعت للمغنيات آلاف الريالات، هذا عدا ما يصرف على الإنارة والفرش والعمال والطباخين والفواكه والمرطبات، وما يعطاه الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، ويقولون ما لا يفعلون.
أيها الإخوة، إن الإسراف والتبذير مسلك خطأ من مسالك الإنسان في المال، تولى القرآن الكريم الحديث عنه وعن أهله، فبيّنه وفضح الغارقين فيه، ودلّ على آثاره وجزاء المنغمسين فيه، وجاء في السنة المطهرة التحذير منه والنهي عنه. قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وقال : ((كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة)) ، وقال عليه السلام: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
والإسراف داء مهلك ومرض قتّال، ينبت أخلاقاً سيئة مرذولة، ويهدم بيوتًا عامرة مصونة، ويورث الجبن وينبت الذل، والمسرف ضعيف العزيمة واهن القوة، منهمك في فنون المتاع الرخيص، لا يصمد أمام الشدائد ولا يحتمل المكاره؛ لأنه متعلق بمشتهيات نفسه، مغرق في لذيذ عيشها، مما يقوي حرصه على الحياة وكراهيته للموت. الإسراف يمسك بيد صاحبه عن فعل الخير وبذل المعروف، وأهل الإسراف تأبى أيديهم أن تبسط في إسعاد ذوي الحاجات والنكبات، لا يسارعون إلى مروءة ولا يسعفون في أخوة، ولا يهمهم أن يكون لهم في الناس ذكر جميل أو صيت حسن، ومن ثم تنقطع صلة التعاطف والتراحم بين كثير من أفراد الأمة، بل لقد نبه المجربون ـ أيها الإخوة ـ إلى أن للإسراف أثرًا كبيرًا في إهمال النصيحة وحب الناصحين، ولقد قال الله في فرعون: إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:31].
أيها المسلمون، إن النهي عن الإسراف والتبذير قُصِد به حماية الأمة من الليونة المفرطة، ووقايتها من الاسترسال في المتع الرخيصة، مما يؤدي إلى الانحدار في الرذائل والمحرمات، ويصرف عن حياة الجد والجهاد والبذل والتضحية، كما قُصِد به حفظ الأموال التي بها قيام الناس واستقامة معاشهم. ومن أجل ذلك، فكما أن الفرد مسؤول ومحاسب عن إسرافه وترفه فإن الأمة مسؤولة عن هذه الظاهرة ومحاسبة عليها، فيجب عليها مقاومتها ومنعها والتبصر بمخاطرها وسيئ آثارها، وإذا هي لم تفعل حقّت عليها كلمة الله، وأحاط بها وعيد القرآن، جزاءً وفاقًا: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
وليزداد الأمر في ذلك وضوحًا وجلاءً فلتعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن المسرفين المترفين في العادة هم أشد الناس استغراقًا في الاستمتاع وذهولاً عن المصير. مترفون مسرفون، يجدون المال ويجدون الخدم، ويجدون الراحة وينعمون بالدّعَة؛ حتى تترهّل نفوسهم وتضعف أبدانهم، وترتع في الفسق حياتهم، وتستهتر بالقيم سلوكياتهم. فإذا لم يوجد من يأخذ على أيديهم ويمنعهم مما هم فيه عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا فيها الفواحش والموبقات، وأرخصوا القيم العليا والمبادئ السامية التي لا تعيش الأمم ولا تقوم إلا بها، ومن ثم تتحلّل الأمم وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها، فتهلك وتطوى صفحتها، وهذا من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، مصداق ذلك في كتاب الله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
إذا كان ذلك كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإنه يتعين على ولاة الأمور وأهل العلم والصلاح، ويجب على الوجهاء والأعيان وشيوخ العشائر، ويلزم ذوي الأثر والقدوة في الناس أن تتضافر جهودهم وتتعاضد توجهاتهم على المجاهدة في هذا السبيل، حتى يبتعد الواقعون في الإسراف عن إسرافهم، ويسلكوا طريق القصد ونهج العدل؛ حفاظًا على الدين والمروءة، وإبقاءً على ثروات الأمة ومقدراتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الوسط والعدل هو قاعدة الإسلام الكبرى، والإفراط أخو التفريط، والإسلام لا يدعو إلى ارتداء الخِرَق البالية مع تحصيل أفضل منها، ولا إلى تجويع النفس مع تحصيل الطعام الطيب، ولكنه العدل والوسط، يأخذ فيه المرء ما يجد ولا يتكلف ما فقد. هذا هو نهج عباد الرحمن، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، يأكلون ليعيشوا، ويعيشون ليعطوا الحياة قدرها ويحفظوا لها وظيفتها، عبادة لله وإحسانًا إلى عباده، رجاءً لواسع فضله وطمعًا في عظيم ثوابه. يأخذون من الطيبات، ويستمتعون بالزينة، ويقفون عند حدود الله ولا يتجاوزونها، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
إن الكريم ذا المروءة من يعرف للمال قدره ومكانته، فيضعه في موضعه، وينزله منزلته، عنده في الحياة مطالب يبذل فيها المال بسخاء وسماحة نفس، يؤدي الحقوق ولوازم النفقة على النفس والوالدين والوِلْدان والزوج والأقربين. مصارف البر عنده واسعة، من المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية، في نظرة واسعة للمصالح العامة والخاصة. وحينما قال أهل العلم: لا خير في الإسراف فقد قالوا: لا إسراف في الخير، وحينما قالوا: لا تنفق قليلاً في باطل قالوا: لا تمنع كثيرًا في حق. وإنه لا يضر أولي الفضل والسعة أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم ويختصروا في حفلاتهم وزيجاتهم ما داموا يبذلون أموالهم فيما تكمل به مروءتهم، وتدعو إليه حقوق مجتمعهم وأمتهم، بل إن ذلك ليزيدهم مكارم إلى مكارمهم، ذلكم هو مسلك العدل والاقتصاد، وسبيل الكرم والسماحة، وطريق الفضل والمروءة، وسط بين البخل والإسراف، وعدل بين الشح والتبذير، إنه مسلك يملك العبد به الدنيا ليسخرها للدين، ويأخذ من متاع الأولى ما يبلغه الأخرى.
أيها المسلمون، وهنا أمر لا بد من ذكره مقترنًا بالتحذير من الإسراف، ذلكم هو ما يفعله بعض العقلاء ومريدي الخير من إسرار الزواج وإخفائه، وتصغيره وتحقير شأنه، إلى الحد الذي قد لا يعلم جيرانه وأقاربه أنه قد حصل عنده زواج، يفعل ذلك تيسيرًا لأمور الزواج وتخفيفًا على الزوج، وابتعادًا عن الإسراف وهربًا من التبذير، وكسبًا للراحة وطردًا للتعب والعناء، وهو مأجور على نيته الخيرة تلك، مثاب على ذلك إن شاء الله، ولكن ينبغي أن يعلم أن إسرار الزواج ليس من السنة في شيء، بل السنة إعلانه وإظهاره، وعمل وليمة لذلك، من غير مبالغة ولا تبذير ولا إسراف، قال عليه الصلاة والسلام: ((فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح)) وقال: ((أعلنوا النكاح)) ، وقال لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج بامرأة من الأنصار: ((أولِم ولو بشاة)).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، واعلموا أن السعيد هو من كان مباركًا على مجتمعه وأمته، مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، والحر هو من تحرر من كل ما يستطيع الاستغناء عنه، وأجمل عادة وأحسنها أن لا يكون العبد أسيرًا للعادة. طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء، وهو عن الله راض والله عنه راض. وويل ثم ويل للمسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
(1/4471)
القرآن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالكتب, القرآن والتفسير
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الفساد والفتن في زماننا. 2- حاجتنا إلى القرآن. 3- الحث على تعاهد القرآن. 4- التحذير من هجر القرآن تلاوة أو عملاً. 5- مسؤولية الجميع تجاه تعليم القرآن. 6- أهمية الدُّور النسائية في تعليم القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إننا اليوم نعيش في زمن تلاطمت فيه الآراء والأفكار، وتغيرت فيه كثير من الثوابت والمفاهيم، زمن شبهات منشورة وشهوات مسعورة، يقرع بها أعداء الله أسماع العباد ليلا ونهارًا، ويعرضونها أمام أعينهم صغارًا وكبارًا، زمن تحديات متطاولة وتساؤلات مثيرة، وإيرادات شيطانية وحجج إبليسية، يوردها أهل الكفر على قلوب كثير من ضعفاء الإيمان، وينقلها أرباب الفتنة ليتلقّاها مَطْمُوسُو البصائر ممن حُجِبوا عن نور الوحي بظلمات الفتن المرئية والمسموعة، فانتكست فطرهم، وأظلمت أرواحهم، فعادوا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، بل أصبحوا دعاة سوء وحملة أفكار خبيثة، يرون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ويدافعون عن منكرهم بكل ما أوتوا من قوة السِّنان وسحر البيان.
وإنه لا أحد منا ـ أيها الإخوة ـ إلا وهو بأمس الحاجة إلى ما يشد أزره، ويرسي قدمه، ويزيد من إيمانه، ويقوي يقينه بالله؛ ليرسو أمام الفتن، ويثبت أمام الشهوات. وإنه لا تقوية لأَزْرٍ ولا رسوخ لقدم ولا أُنْسَ لنفس ولا تسلية لروح ولا ثبوت لمُعْتَقَد ولا تحقيق لوعد ولا أمن من عقاب ولا بقاء لذكر إلا بأن يتجه المرء بكل أحاسيسه ومشاعره إلى كتاب ربه، ويقبل بقلبه وقالبه على تلاوته وتدبره، يتعلمه ويعمل به، ويرتوي من معينه المعين، ويصدر عن أحكامه المحكمة، فإنه كتاب مبارك مبين، أنزله الله على رسوله الأمين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
أيها المسلمون، إن لزوم القرآن وتعاهده في كل يوم وليلة، بل إن تعاهد النفس به في كل وقت وحين لضرورة حتمية على كل مسلم ومسلمة، للداعية الذي يهدي إلى صراط مستقيم، للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، للوالي في مملكته والملك على عرشه، للموظف في دائرته وللمعلم في مدرسته، وللطالب والطالبة على كراسي الدراسة ومقاعد التعلم، بل ولكل مسلم صغر شأنه أو كبر، يقول سبحانه لنبيه : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، ويقول على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91، 92]، وامتدح الله الذين يتلونه ويقيمون الصلاة وينفقون، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]. وقد تكفّل سبحانه لمن قرأ القرآن واتبع ما جاء فيه أن لا يضلّ ولا يشقى، قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة).
وكما تكفل الله عز وجل بذلك ووعد به وهو لا يخلف الميعاد فقد أنذر من خطر نسيان القرآن وضياعه والإعراض عنه وهجره، قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124، 127]، وقال جل وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176]، وقال سبحانه على لسان رسوله : وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
وكما أنذرنا سبحانه من نسيانه وهجره فقد أنذرنا من العدول عنه في الحكم والتحاكم إلى غيره، قال سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال جل وعلا: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. وأنذرنا سبحانه كذلك من إعمال بعضه وترك بعضه بقوله مهدّدًا قومًا أنزل عليهم الكتاب فأعملوا بعضه وتركوا بعضه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وخذوا كتاب ربكم بصدق تمنحوا كنوزه وتشرفوا بشرفه، ويتحقق لكم وعد الله في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58]. واحذروا أن يكون في صدوركم حرج أو تردد عن التحاكم إلى كتاب الله جل وعلا، وسلموا تسليمًا، فقد قال جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المسلمون، إن القرآن الكريم كلام الله ووحيه وأفضل كتبه، أنزله على خيرة خلقه وخاتم رسله، ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لم ينزله تبارك وتعالى ليُتْلَى باللسان تلاوة مجردة عن التدبر والفهم، منفصلة عن العلم والعمل، ولا ليكتب على لوحات وملصقات تزين بها الجدران ومداخل البيوت ومجالسها، لم ينزله سبحانه ليُكتب في حُجُب وحُرُوز وتمائم تعلق على الأكتاف وفي الرقاب؛ لتُدفَع بها العين، ويُرَد بها البلاء، ما أنزل القرآن ليُقرأ على الموتى والأضرحة، أو في المناحات المبتدعة باسم العزاء، ولا لتُفتتح به برامج الإذاعات لربع ساعة أو نحوها ثم يتلوه العزف والغناء والطرب والغثاء! إنما أُنزِل ليُقرأ وليُتدبَّر، وليتذكر به مَن يتذكر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ولكن الناس انشغلوا اليوم عن هذا الكتاب، واتخذوه وراءهم ظِهْرِيًّا، فالكبار انشغلوا عنه بأعمالهم وأموالهم، والصغار التهوا عنه بالكرة واللعب واستماع الغناء ومشاهدة القنوات ومتابعة المسلسلات والمباريات، والمدارس النظامية لا تعطيه في الغالب وقتًا كافيًا ولا عناية لائقة، ومعلموه إما أن يكونوا من أجهل الناس به قراءة وفهمًا، وإما أن يقصّروا في تدريسه وتعليمه لطلابهم، مما أدى إلى جهل كثير من الناس بهذا القرآن وابتعادهم عن أحكامه، حتى إنك لتجد منهم من يحمل أكبر الشهادات الدراسية في علوم الدنيا، فإذا سمعته يقرأ ظننته عاميًا لكثرة لحنه وخطئه، مما أقضّ مضاجع الغيورين على هذا الكتاب العزيز، فأسسوا الجمعيات الخيرية للعناية به وتنظيم تعليمه، ونشروا الحلقات في كل مسجد لتحفيظه وتجويده، وبنوا الدور الخيرية لتدريسه وربط الناس به، فجزى الله أهل القرآن خير الجزاء على ما يبذلونه من خدمة كتاب ربهم وربط الناس به، فإنهم قد بذلوا ما في وسعهم لتعليم كتاب الله، وهيئوا الحلقات والدور بكل ما يلزمها وتحتاجه، نصبوا فيها المعلمين والمعلمات، ووفروا المصاحف والأشرطة والسجلات، ودعموها بالجوائز والمحفزات، ولم يبق إلا دور الآباء وأولياء الأمور والمواطنين والطلاب، وهو دور عظيم بلا شك، إن لم يقوموا به خير القيام ويتحملوا المسؤولية الملقاة على عواتقهم تجاه كتاب ربهم فمن يقوم به ويتحمل المسؤولية؟!
إن كل إنسان في هذا المجتمع صغر أو كبر عليه جزء من المسؤولية تجاه كتاب الله جل وعلا وتجاه حلقات التحفيظ ودور تعليم القرآن، فالمعلم عليه الصبر واحتساب الأجر والثواب، وتنويع الطرق وبذل ما في وسعه لتحبيب كتاب الله إلى طلابه، والطالب عليه الجد والمثابرة والاجتهاد، والإخلاص لله في الحفظ والتعلم، وولي الأمر والأب عليه تشجيع أبنائه، وحثهم على الاستمرار في حفظ كتاب ربهم وقراءته وتجويده، وتهيئة الجو المناسب لهم ليقبلوا على الحفظ والمراجعة، والمواطن الآخر عليه دعم الحلقات ودور التحفيظ بماله وجاهه.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل القرآن، فإن لله أهلين وخاصة، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:155-157].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا أسباب سخط ربكم جل وعلا؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون، ومن البشائر التي تثلج صدور المؤمنين والمؤمنات وتقر بها أعين الحريصين على الخير والحريصات ما اختص الله به بلدتنا هذه دون كثير من القرى والهجر المجاورة من افتتاح دار خيرية نسائية لتحفيظ القرآن بها. وإنها ـ والله ـ لنعمة عظيمة ومِنّة جسيمة، أن هيأ الله هذه الدار المباركة، وخصنا بها دون كثير ممن يتمنون افتتاح أمثالها في مدنهم وقراهم، فنحمد الله حمدًا كثيرًا على ما أولانا وأعطانا، ونسأله عز وجل أن يجعلها مباركة نافعة، وأن يجزي من قام على تأسيسها أو سعى في بنائها وتجهيزها خير الجزاء.
ولكن هذه الدار ـ أيها الإخوة المباركون ـ وخاصة وهي في أول نشأتها وبداية أمرها تحتاج منا نحن أهل البلدة إلى دعم قوي وتشجيع مستمر، حتى تنطلق في عملها بحول الله وقوته، ويعم نفعها الجميع بإذن الله، فالله الله أيها الإخوة، ولندعمها ماليًا وماديًا، ولنشجعها معنويًا وحسيًا، وذلك بأن نبادر إلى تسجيل بناتنا ونسائنا فيها، وأن نتابعهن ونشجعهن على حفظ كتاب الله وتحسين تلاوتهن، وأن لا نبخل بشيء دون خدمة هذه الدار المباركة، فإن خير الناس أنفعهم للناس، والدال على الخير كفاعله، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه، وطوبى لمن كان مفتاحًا للخير مِغْلاقًا للشر.
(1/4472)
تركه ما لا يعنيه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أخلاق عامة, التربية والتزكية
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية تزكية النفس. 2- ركنا تزكية النفس. 3- حاجة الناس في هذا الزمان إلى ترك الاشتغال بما لا يعنيهم. 4- الضابط فيما يعنيك وما لا يعنيك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
أيها المسلمون، لا شك أن مدار فلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة هو تزكية نفسه، قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]. وكان من دعائه أن يقول: ((اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها)).
وتزكية النفس ـ أيها المسلمون ـ لها ركنان أساسيان لا تكون إلا بهما: الأول: تخليتها بترك ما لا يعني، والثاني: تحليتها بالاشتغال بما يعني.
ونحن في هذا الزمن الذي تزاحمت فيه الواجبات وتنازعت الأولويات فإن الحاجة إلى تركيز الاهتمام فيما ينفع قد ازدادت، والضرورة إلى ترك ما لا يعني قد ألحّت، ولا سيما مع ضيق الأوقات وصعوبة الموازنة بين الأعمال واشتغال كثير من الناس بما لا يعنيهم ولا يفيدهم وغفلتهم عما فيه فوزهم ونجاتهم، وما دام جانب التخلية مقدّمًا على جانب التحلية فإن العبد بحاجة قبل أن يشتغل بما يعنيه إلى ترك ما لا يعنيه، وإنه إذا فعل ذلك وانتصر على نفسه حسن إسلامه وكمل إيمانه، وصحّ التزامه ووفّق إلى الاشتغال بما ينفعه، وقد أرشدنا النبي إلى هذا الأدب القويم فيما رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)). وهذا الحديث ـ عباد الله ـ أصل عظيم من أصول تأديب النفس وتزكيتها، ولذا كان له شأن عظيم عند أهل العلم، حيث تعددت كلماتهم في بيان منزلته، وتنوعت عباراتهم في تبيان مكانته، حتى عدّه بعضهم ثلث الإسلام، وأشار بعضهم إلى أن النبي جمع فيه الورع كله، وقال بعضهم عنه: إنه أصل عظيم من أصول الأدب.
أيها المسلمون، إن المرء ينبغي له أن يهتم بما فيه نجاته وخلاصه، وأن يقصر اشتغاله على ما فيه سعادته وفلاحه، وذلك منحصر فما يجلب له مصالح دنياه وآخرته، وفيما يدفع عنه مفاسدهما ويدرؤها، وقد وصف الله عباده المؤمنين المفلحين بالإعراض عن اللغو فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وقال في وصف عباد الرحمن: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وفي إعراضهم عن اللغو وعن مجالسه إشارة إلى ابتعادهم عن الاشتغال بما لا يعنيهم، وهو مُستلزِم لانشغالهم بما يعنيهم، إذ إن الاشتغال بما لا يعني ولا يفيد يدل في الدرجة الأولى على التفرّغ من الانشغال بما يعني ويفيد، وانشغال الإنسان بما لا يعنيه ولا ينفعه إنما يدل في الواقع على جهله بمصالحه، بل جهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة، أو يدل على غفلته عن السنن والنواميس الكونية، وقد يدل على محاولة التهرب من المسؤوليات، وذلك دليل عجزه وأمارة ضعف علاقته مع الله جل وعلا، فإن المؤمن القوي يكتسب قوته من حرصه على ما ينفعه، مع استعانته بالله عز وجل كما قال : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز)).
وإن فيما كُلِّف به الإنسان من الواجبات وما نُدِب إليه من المستحبات شغلاً شاغلاً عما لا يعنيه، فعساه أن يقوم بما يُطلب منه، ويتزود مما نُدِب إلى التزود منه، والطاقة البشرية محدودة، وهي إما أن تنفق فيما يصلح الحياة وينميها ويرقيها، وإما أن تنفق في الهَذَر واللغو واللهو، والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح، ولا ينفي هذا أن يُروّح المؤمن عن نفسه بين الحين والآخر، ولكن هذا شيء والهَذَر واللغو والفراغ شيء آخر.
إن الرجل الجاد يستولي عليه الاهتمام بالعمل المثمر المنتج، فيتعالى ويترفّع عن الإيغال في العناية بالمظهر والشكليات التي تؤثر سلبًا على أهدافه، أو تأخذ وقتًا وجهدًا فيما لا طائل من ورائه، وإن المجتمع الرباني الذي ينشئه الإسلام لا مجال فيه للقيل والقال وكثرة السؤال والتدخل في شؤون الناس الخاصة بهم؛ لأن أفراده مشغولون بما هو أهم وأكبر وأجل، قال الحسن البصري رحمه الله: "من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، وقالُ الرجلِ على أخيه فيما يأتي، أو يذكر من أخيه ما يعرف من نفسه، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه"، وقال الإمام مالك: "لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح له قلبه".
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه.
واعلموا أن الضابط في معرفة المرء ما يعنيه وما لا يعنيه هو الشرع المطهر، لا هوى النفس ورغباتها، أو تأثير الآخرين ونظرياتهم، أو ما يفهمه كثير من الناس اليوم عما يُسمّى بالحرية الشخصية، إذ ما لا يعني عندهم هو شؤون الآخرين على الإطلاق، وهذا خلط في المفاهيم وانقلاب في الموازين، ولَبْس في فهم المراد والمقصود، بل هو تنصُّل عن المسؤولية وتخلٍّ عن الواجب، فإن هناك شؤونًا للآخرين وهي تعني الإنسان مباشرة، وسيُسأل عنها: لِمَ تركها وأغفلها؟ ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النبي قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
أما احتجاج بعض المنكوسين على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] فهو مردود بما جاء عن الصديق أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه، فقال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمّهم بعقابه)).
ومما يعني الإنسان بدرجة كبيرة من شؤون الآخرين شؤون المسلمين وقضاياهم في أي بلد كانوا ومن أية جنسية، فإن: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، و((ومَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى)).
ومما يعني الإنسان من شؤون الآخرين ما تحمّله من أمانة التربية والتنشئة لأولاده وأهل بيته، حيث يلزمه الأخذ على أيديهم عن كل شر ومنكر، وأمرهم بكل معروف وبر، و((وما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، و((وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
وبالجملة ـ أيها المسلمون ـ فإن كل أمر لا تعود على العبد منه منفعة لدينه ولا لآخرته فهو مما لا يعنيه، وكل أمر يخاف من تركه فوات أجر أو بارتكابه حصول وزر فهو مما يعنيه. وبعبارة أخرى: فإن كل ما يقرب إلى الله عز وجل فهو مما يعني، وما لا يقرب إليه فهو مما لا يعني.
(1/4473)
صيام الست وبعض المفارقات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار صيام الست من شوال بين الناس. 2- مفارقات تقع أثناء صيام الست من شوال. 3- أهمية المحافظة على الفرائض. 4- التحذير من التهاون في إقامة الصلوات. 5- النهي عن قطيعة الرحم. 6- كلمة لصائمي الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، من الأمور التي تثلج الصدر وتبهج النفس في هذه السنوات انتشار العلم الشرعي وتيسّر سبله وكثرة وسائله بما لم يسبق له مثيل أو يعرف له شبيه من قبل، وتفقّه الناس في أمور دينهم بعد سنين مرت عليهم من الجهل المطبق في كثير من شعائره، وصحوة كثير منهم شبابًا وشيبًا بعد طول غفلة وامتداد رقود، مما نشأ عنه إحياء سنن قد أميتت ودفنت، وإماتة بدع قد أحييت وظهرت، وكان من تلك السنن المباركة والمندوبات العظيمة التي انتشرت بين الناس وكثر مطبقوها في كل بلد صيام الست من شوال بعد رمضان، حيث كثر الصائمون من الرجال بل ومن النساء، والتزم بذلك الكبار بل وثلة من الصغار، عملاً بما صح في الحديث عنه أنه قال: ((من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصوم الدهر)).
وهذا في واقع الأمر فعل محمود وعمل مستحسن، بل هو من علامات قبول صيام رمضان ورفعه إن شاء الله، إذ إنه مما تقرر عند العلماء والعارفين أن من علامات قبول الحسنة إتباعها الحسنة بعدها، ومن أمارات ردها نقض الغَزْل من بعد قوّة أنكاثًا، والولوغ في السيئات بعدها، والعَبّ من الشهوات بلا رادع ولا وازع.
ألا فما أجمل المسلمين وهم يتبعون رمضان بصيام الست من شوال؛ ليعلنوا حبهم للصيام واستمرارهم على العمل الصالح بعد رمضان، وما أحسن حالهم حين يحرصون على السنن حرصهم على الواجبات، وحين يبتغون من فضل الله، ويتزودون من الحسنات والباقيات الصالحات.
ولكن المحب للخير ـ أيها المسلمون ـ بقدر ما يُسرّ من كثرة هؤلاء الصائمين لست شوال إلا أنه يستاء عندما يرى منهم تصرفات ومفارقات لا تليق بمن يحرص على تطبيق السنن والمندوبات، عندها تساوره الشكوك، وتخالجه الظنون، ويتساءل والأسى يملأ ما بين جوانحه: هل صام هؤلاء ست شوال وواظبوا عليها احتسابًا للأجر وطلبًا للمثوبة، أم لأنهم رأوا الناس يفعلون شيئًا فجاروهم وقلّدوهم، أم حرصوا عليها تخفيفًا للبطون وطلبًا لصحة الأجسام؟! إذ كيف يصوم الست من لا يحسب للصلوات المفروضة حسابًا؟! وكيف يحرص عليها من لا يصلي الفجر في جماعة؟! وكيف يهتمّ بها من لا يهتمّ بإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام؟! وأين هو من أجرها من هو قاطع لرحمه مغاضب لأقربائه؟! وهل صامها حقيقة من أمسك عما أحل الله وأفطر على ما حرم الله؟! أسئلة متعددة وخواطر كثيرة ترد على خاطر المرء حين يرى هذه المفارقات التي يقع فيها بعض من يحرص على السنن ويترك الواجبات، ويتورّع عن المكروهات ويقع في المحرمات.
أيها الصائمون السِّت تطلبون الأجر وتريدون وجه الله، لا شك أنكم تعلمون أن الدين وحدة متكاملة ومنهج شامل، وكلٌّ لا يتجزأ ولا يتبعّض، وجسد لا يتمزّق ولا يتفرّق، وأن فيه حلالاً وحرامًا، وأن له أركانًا وواجبات، وسننًا ومندوبات، وأمورًا لا تنبغي ومكروهات، وأن من أراد أن يتقبل الله منه السنة فلا بد أن يحافظ على الفريضة، ومن أراد الكمال فليبتعد عن المكروه قبل ترك المحرم، ومن طمع في بلوغ مرتبة الإحسان وتحقيق العروة الوثقى فليسلم وجهه إلى الله، ولينقد إليه بالطاعة، جاعلاً كل أعماله صغيرها وكبيرها لله، غير ممتثل لأمر وتارك لآخر، ولا مجتنب لمحرّم وواقع في غيره، قال سبحانه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22]، وقال جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وقال : ((إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها)).
أيها الصائمون السِّت إيمانًا واحتسابًا، لا ريب أنكم تعلمون أهمية الصلوات الخمس ومكانتها من الدين، وأنها ثاني أركان الإسلام وعمود خيمته، وأنه لا حظَّ في الإسلام لمن تركها وتهاون بأدائها، وغير خاف عليكم وجوب صلاة الجماعة مع المسلمين وأهمية إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، قال جلّ وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، وقال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا)) ، وقال سبحانه آمرًا بصلاة الجماعة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقال : ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتِب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)).
فيا عجبًا أيها المؤمنون! كيف يحافظ مسلم ويحرص على صيام أيام مسنونة من صامها أدرك الثواب ونال الأجر ومن لم يصمها فليس عليه ذنب ولا وزر، ثم تراه بعد ذلك يتهاون في أداء صلاة الفجر مع المسلمين، ويغط في نوم عميق لا يوقظه منه إلا صلاة الظهر أو قبلها بقليل، ليصلي الفجر في غير وقتها الذي جعلها الله فيه، ناسيًا أو متناسيًا أن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل؟! قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، ثم تراه تمر عليه الليالي والأيام وهو لا يكاد يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، والتي هي أفضل التكبيرات وصفوة الصلاة. إن هذا لتناقض عجيب أيها المؤمنون، منشؤه إما عدم الإخلاص في صيام هذه الست وكونه مراءاة للآخرين ومجاراة لهم، وإما الجهل بأولويات الدين وفرائضه، وما يجب البدء به وتقديمه على غيره، وما لا يقبله الله إلا بالإتيان بغيره، وإلا لو نظر من يصوم الست ويترك الصلاة نظرة متفقّه موفق لوجد أنه من قلة الفقه وبلادة الفهم وعدم التوفيق، بل من الخذلان وتلاعب الشيطان أن يفعل سنة ويترك واجبًا، ويحرص على مندوب ويتهاون بركن ركين، ويقيم فرعًا ويكسر أصلاً أصيلاً.
أيها الصائمون السِّت تبتغون وجه الله، هل من الفقه أن يصوم العبد عما أحل الله له من الطيبات من طعام وشراب، ثم يفطر طوال نهاره على السيئات والموبقات، ولا يبالي بما اكتسب من الآثام والخطيئات، من أكل للربا والسحت، وأخذ لأموال الناس بأيمان باطلة، واستيلاء على ممتلكاتهم بشهادات الزور، وولوغ في الغيبة والنميمة وسماع للغناء، ومشاهدة لما لا يحل في قنوات الشر؟!
أيها الصائمون السِّت تريدون أن تجدوها غدًا في ميزان الحسنات، كيف تأملون ذلك وقد قطعتم الطريق دون رفعها بقطع الأرحام وهجر القرابات؟! ما هذا التناقض العجيب؟! وما تلك المفارقات؟! وأين أخذ الأمور بالأولويات؟! وأين الفقه بالمهم والبدء بالأهم؟! قال : ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) ، فكيف تطيب نفس صائم يطلب الأجر وقد سد دونه الطريق وأوصد الباب؟!
ألا فاتقوا الله جميعًا ـ أيها المسلمون ـ لعلكم تفلحون، وتفقهوا في دينكم، ولا تتشبهوا بالذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، دعوا الأماني والزموا الجادَّة فعلاً وتركًا، فإنه لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:123-125].
فأسلموا وجوهكم لله وأحسنوا، واتبعوا ملة الحنيف إبراهيم عليه السلام، فبذلك أمر نبيكم ، وما أنتم إلا أتباعه وإخوانه، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161-163].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا أسباب سخط ربكم جل وعلا؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون، إنه يجب على كل مسلم أن يكون عبدًا ربّانيًا مخلصًا أعماله لله، متابعًا في كل ما يأتي ويذر سنة محمد رسول الله، فبذلك يتم له الأجر، ويكتب له الثواب، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
ومن كان كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإنه لا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ولا يأخذ بما اشتهت نفسه ويترك ما خالف هواها، بل لا تراه إلا متابعًا للكتاب والسنة، يحل حلالهما ويحرم حرامهما، ويعمل بمحكمهما ويؤمن بمتشابههما، هوى نفسه في طاعة خالقه، وربيع قلبه الإذعان والتسليم لأمره ونهيه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
فيا أيها الصائمون السِّت بعد رمضان طمعًا في رحمة الله أن يجزيكم الحسنة بعشر أمثالها فيكتب لكم كصيام الدهر، اتقوا الله تعالى في دينكم ورأس مالكم، ولا تبيعوه بدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أقيموا الصلاة واركعوا مع الراكعين، وأطيبوا مطعمكم تستجب دعواتكم وتقبل أعمالكم، وصلوا أرحامكم ترفع حسناتكم، واحفظوا أعمالكم الصالحة من أن توزعوها على غيركم فتكونوا من المفلسين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فإن المفلس يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار.
إننا لا نقول: إنه لا يصوم الست إلا من كان معصومًا مبرّأً من الزلل والخطأ والتقصير، فذلك محال وغير ممكن، فكل ابن آدم خطاء مذنب مقصر، ولا شك أننا نعلم أن من هدف الصائم للست أن تغفر بها ذنوبه وتكفر سيئاته، ولكننا نربأ بأنفسنا وبكم ـ إخوة الإيمان ـ من أن تكون أعمالنا الصالحة من قبيل العادات، فلا يكون لها أثر على مجريات حياتنا، ولا ننتهي بها عن منكر، ولا نزداد بتكرارها خيرًا وتقى، و((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، ومن لم يصم عما حرم الله طول حياته فحري به أن تزداد حسراته، وأن تطول في العرصات وقفاته، وأن يندم يوم التغابن على ما فاته.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وافعلوا الواجبات، وانتهوا عن المحرمات، واحرصوا على السنن والمندوبات، واهجروا المكروهات والمبتدعات، وارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
(1/4474)
البركة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار ظاهرة قلة البركة. 2- العلاقة بين التمسك بالدين والبركة. 3- أسباب ذهاب البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ معاشر المؤمنين ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله هي خير مخرج وأقوى منهج، وهي مفتاح الخيرات ومعدن البركات، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المسلمون، من الظواهر التي لحظها أغلب الناس اليوم واتفقت فيها كلمة أكثرهم حتى لا يكاد يختلف فيها اثنان قلّة البركة في الأموال والأولاد، وعدم الانتفاع بالأرزاق والأبناء، حتى إن الرجل ليكون مرتّبه عاليًا ودخله جيدًا وأبناؤه عُصْبَة من الرجال الأقوياء الأشداء ثم تراه يقترض ويستدين، ويعيش في بيته وحيدًا أو مع زوجه العجوز لا أحد من أبنائه يحدب عليه أو يلتفت إليه. ولربما دخل كثير من الناس السوق وجيبه مليء بالمال، فلا يخرج إلا وهو صفر اليدين أو قد تحمَّل شيئًا من الدَّين، وعندما ينظر فيما أتى به من أغراض وحاجات لأهله لا يجد إلا أشياء كمالية صغيرة، يحملها بين يديه بلا عناء، ولا تساوي ما أنفق فيها من مال.
وإن هذا الأمر ـ أيها الإخوة في الله ـ ليس قضية عارضة أو مسألة هينة، بل هو في الواقع يشكل ظاهرة ملموسة وقضية محسوسه، ويعد منحنى خطيرًا في حياة المجتمع المسلم، يجب على كل فرد أن يدرسه ويتعرف أسبابه، ويبحث عن حله الناجح وعلاجه الناجع، فيأخذ به ويقي نفسه، لعل الله أن ينجيه مما ابتلي به غيره من الناس، أو مما قد يكون هو نفسه مبتلى به.
أيها المسلمون، إننا يجب أن نعلّق أنفسنا بهذا الدين العظيم الذي ندين الله عز وجل به في كل أمورنا، يجب أن نرتبط به في جميع مناحي حياتنا، وأن ندرس تحت مظلته قضايانا، ونحل به مشكلاتنا، وأن نعلم أننا مهما تمسكنا به وعضضنا عليه بالنواجِذ فلن نضل ولن نشقى بتوفيق الله، وأننا بقدر ما نبتعد عنه أو ننحرف عن صراطه المستقيم أو نتخلّى عن تعاليمه السمحة المباركة أو نتهاون بها فإننا نهوي إلى مكان مُوحِش سَحِيق، ونلقي بأنفسنا في مجاهل من المستقبل المتردّي الذي لا يعلم ما يكون عليه إلا الله.
يقال هذا الكلام ـ أيها الإخوة في الله ـ ونحن قد رأينا الناس في الماضي القريب بل القريب جدًا، عندما كان قدر دينهم في قلوبهم أقوى وأعلى، ومكانته في نفوسهم أمكن وأسمى، إذ ذاك كانت أرزاقهم سهلة ميسورة، والخيرات والبركات بينهم منشورة، كان راتب أحدهم قليلاً ومعاشه ضئيلاً، ولكنه كان يسد حاجته ويمنعه الفاقة، ويكفيه ذل سؤال الناس واستجدائهم، بل كان يوفر منه ويدّخر شيئًا كثيرًا، يجده عند الشدائد والملمات، وينفعه الله به عند المضائق والكربات، ثم ما زالت الرواتب تزداد والبركة تقل والمعاشات ترتفع ومستوى المعيشة ينخفض، في ظل هذه الحضارة المادية البحتة التي ازداد الناس فيها علمًا بظاهر الحياة الدنيا، وأصبحوا عن الآخرة هم غافلون، فقلّت البركة فيهم ونُزِعت من أموالهم، حتى أصبح الذي بالأمس تكفيه ألف ريال في شهره ينفق الآن ثلاثة آلاف أو أكثر في أسبوع أو أسبوعين، ثم يظل بقية شهره لا يجد شيئًا، مما يضطره للاستدانة من الآخرين أو سؤالهم، وكلاهما أمران أحلاهما مُرّ عَلْقَم.
ولذا ـ أيها المسلمون ـ كان لا بد أن نتأمل أحوالنا، ونراجع أنفسنا، وأن نعود إلى ديننا، ونتوب إلى ربنا، لعله سبحانه أن يرحمنا رحمة من عنده واسعة، يغنينا بها عن رحمة من سواه. وإنه لا بد مع ذلك أن نتعرف الأسباب التي بها نُزِعت البركات وقلّت الخيرات، حتى نعالجها ونتخلص منها.
ومن تلك الأسباب ـ أيها المسلمون ـ بل هو أهمها وأقواها ضعف الإيمان في النفوس وانعدام التقوى من كثير من القلوب، حتى عاد كثير من المسلمين لا يرجون لله وَقَارًا، فعصوه ليلاً ونهارًا، وخالفوا أمره سرًا وجهارًا، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا. لقد أصبح جمهور الناس اليوم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ لا يقيمون لأوامر الدين ونواهيه وزنًا، ولا يعطونها اهتمامًا ولا قدرًا، بل لقد أصبح بعضهم لا يلقي لها بالاً بالكلية، إذ تأتي عنده في المرتبة الأخيرة من اهتماماته، وتجيء في مؤخرة أولوياته.
انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى الصلوات الخمس أهمّ أركان الدين العملية كيف تجرّأ كثير منا اليوم على تركها وتهاون بأدائها، وكأنها عنده أمر اختياري عادي، يخضع لهوى نفسه ورغباتها. كم هي نسبة الذين لا يصلون الفجر في وقتها ومع الجماعة؟! وكم عدد الذين يتركونها بالكلية؟! وكم تبلغ أعداد الذين يسلمون أنفسهم للنوم بعد الغداء فلا يصلون العصر إلا كفعل المنافقين المستهزئين؟! وأين من التقوى والإيمان ـ أيها الإخوة ـ من يرفع أطباق الشر على سطح منزله، ويدخل فيه أجهزة اللهو والباطل، تغذي أبناءه بالشر والرذيلة، وتقتل في نفوسهم الحياء وتئد الفضيلة؟! ووالله لو صدق كل منا مع نفسه وحاسبها محاسبة صادقة لوجد أخطاء لا يحصيها العَدّ، ولا يبلغها الحَدّ، لسنا بحاجة إلى تعدادها والتفصيل فيها، فكل أدرى بنفسه وأخبر بحاله، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
ومن أسباب قلة البركات ونزعها ـ أيها الإخوة ـ تعلق الناس بالمال والدنيا، وغفلتهم عن المآل والأخرى، حتى لقد أصبح كثير منهم يوالي في المال ويعادي فيه، ويحب له ويبغض من أجله، ويرضى إن أعطي ويسخط إن منع، وإلا فقولوا لي بربكم: ما شأن هذه المنازعات التي أقضّت مضاجع القضاة؟! وما سبب تلك المرافعات التي شغلت الولاة؟! وما نهاية تلك القضايا المستغلقة المتعسّرة التي مضى عليها عشرات السنين، وأصدرت فيها صكوك كأنها لكبرها سُمُط منشورة، ومع هذا لم يأخذ صاحب الحق حقه، ولا الظالم ارتدع فيها عن ظلمه؟! ولِمَ يتهاجر إخوان ويتقاطع جيران؟! وعلى أي شيء تنقضي أعمار كثير من المحامين والموكلين؟! أعلى ما يرضي الله وفي طاعة الله، أم إنه في سبيل الشيطان وإغراق في المعصية وتفريق بين الأخ وأخيه وابن العم وقريبه؟! إنه لا يستطيع أحد من المتهاجرين المتصارمين أن يقول: إنه هجر أخاه لأنه لا يصلي، ولا يقدر أحد من المتخاصمين المتقاطعين أن يدعي أنه أقام على من خاصمه دعوى لأنه عاص لله، إذًا فمن أين ننتظر حلول البركة في أموالنا وأرزاقنا ونحن قد جعلنا هذا المال هدفنا ومُبْتَغَانا؟! من أين ننتظر البركة ونحن قد أصبحنا عبيدًا للمال خدمًا لسلطانه؟! من أين تأتينا البركة وقد أصبح المال محركنا وهو الذي يسكننا، وهو الذي يرضينا ويسخطنا؟! من أين تأتي البركة وصاحب الفضل يبخل بفضله والغني يمنع خيره ولا يمنح رِفْدَه؟!
يا لها من تعاسة ما أشدها على الأفراد والمجتمعات! ويا لها من انتكاسة ما أقوى أثرها على القلوب والنفوس! قال : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعْطِي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)). يا له من حديث ما أعظم شأنه وما أصدق برهانه! ويا له من واقع ما أقرب معايشتنا له! هل ترون هذا الحديث منطبقًا إلا علينا؟! وهل ترون تفسير معناه إلا ما يجري الآن في واقعنا؟! وإلا فأي تعاسة أكبر وأشد وأبلغ من تعاسة إخوة أشقاء لا يسلّم أحدهم على الآخر، ولا يرى له عليه حقًّا؟! وأي انتكاسة أقوى وأعظم وأطم من انتكاسة جارين مسلمين وقد يكونان ذوي رحم واحدة، ثم لا يرعى أحدهما للآخر حرمة، ولا يقوم له بواجب؟! إنها والله لمصيبة وأي مصيبة، أن يكون ذلك من أجل الدنيا وطمعًا في نيل أكبر قدر منها، ثم لا يحصل العبد منها إلا ما كتب له بعد أن يكون قد اكتسب الآثام والذنوب العظام، واجترح السيئات وارتكب الموبقات، وأذهب بركة رزقه، وفقد طعم ماله، وضيّع وقته وأفسد مآله.
عن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس ـ يعني بتطلّع وطمع وشَرَه ـ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)). ألا ما أشد انطباق هذا الحديث على المسلمين مجتمعات وأفرادًا في هذا الزمان! وما أقرب معناه من واقعهم المؤلم المُزْرِي! حيث جمع أكثرهم المال بإشراف نفس وطمع، وأخذه آخرون بشَرَه وتطلّع، فأفنوا من أجله الأعمار، وأذهبوا في طلبه الأوقات، بل ونسوا في سبيله الطاعات، وذُهِلوا عما خُلِقوا من أجله من العبادات، ووقعوا في الموبقات والمهلكات، يكذبون في بيعهم ويغشون، ويحلفون الأيمان الكاذبة ويخادعون، ويرابون ويرتشون ويشهدون الزور، كل ذلك طمعًا في الاستزادة من المال، فمن أين تأتي لمثل هؤلاء البركة؟! قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدق البيعان وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحًا ويمحقا بركة بيعهما)) ، ((اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) ، وقال : ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) ، وفي لفظ: ((ممحقة للبركة)) ، وقال فداه كل كاذب وحلاّف: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اليمين الفاجرة تذهب المال، أو تذهب بالمال)).
ومن أسباب عدم البركة ـ أيها الإخوة ـ البخل والشح وعدم الإنفاق في سبل الخير وأوجه البر، قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا)) ، وقال : ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك)). فكيف يبغي البركة بخيل ممسك تدعو عليه ملائكة الرحمن بالتلف؟! وكيف ينتظر البركة شحيح نحيح لا يفعل خيرًا ولا يدعى له بخير؟! ألا فلا نامت عين كل هَلُوع مَنُوع، جَمّاع للمال مَنّاع للخير، يحسب أن بركة المال في وفرته، وما علم أن بركته في الانتفاع به، وهو ما لم يذقه هو ومن على شاكلته.
ومن أسباب عدم البركة أكل المال الحرام وتناوله والاستهانة بذلك أخذًا وعطاءً، وقد كثر في هذا الزمان ذلك المنكر العظيم، واتسع فيه الخرق على الراقع، في معاملات الناس فيما بينهم، وفي التخوض في أموال إخوانهم العامة بغير حق، فكم من المصارف الربوية التي توقع الناس في الربا من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيما يسمى بعمليات التقسيط والمرابحة، أو فيما يدعى بالفوائد البنكية، وكم من قنوات الشر والفساد والإفساد وجرائد الشر والفتنة ومحلات الجشع والطمع من يبتلون المسلمين بمسابقات الميسر والقمار، وكم من التجار من يتعامل بالربا الذي لا مرية فيه، وكم من الموظفين والعمال من يأخذ الأجر ولا يقوم بالعمل كما ينبغي، وكم من الناس من يتلاعب بأموال المسلمين ومقدراتهم، سواء بأخذ الرشوة جهارًا نهارًا، أو الاقتطاع من مستحقات المشروعات والمرافق العامة، أو بأخذ ما لا يستحقه من انتدابات أو زيادات أو أراض ومنح في البلديات. أفلا يكون ذلك سببًا في نزع البركات وقلة الخيرات، والتي من أبرز معالمها الواضحة عدم استجابة الدعاء؟! وقد قال سبحانه في الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)) ، وفي لفظ: ((الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قِلّ)).
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، وتقربوا منه وارجوا رحمته، وخافوا منه واخشوا نقمته، فإنه لا نجاة إلا بطاعته، ولا سعادة إلا في التقرب منه، واعلموا أن الدنيا زاد قليل وظل زائل، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وليست أهلاً لأن يجعلها المرء هَمّه، فإن الله يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن يحب، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، واحذروا أسباب غضبه والبعد عنه، وعظّموا حرماته تفلحوا وتفوزوا، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].
أيها المسلمون، ومن أسباب عدم البركة مخالفة سنة الله الكونية، حيث جعل سبحانه الليل لباسًا والنهار معاشًا، فقلب كثير من المسلمين هذه الآية رأسًا على عقب، فسهروا الليل على ما لا يرضي الله، وناموا النهار عن طاعته، وكسلوا عن السعي في الأرض لطلب رزقه والأكل مما أحله، عن صخر بن وداعة الغامدي أن رسول الله قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) ، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا، فكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
ألا فأين من البركة من نام في وقت البركة؟! أين من البركة من نام عن صلاة الفجر مع الجماعة؟! أين من البركة من بال الشيطان في أذنيه؟!
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وراجعوا أنفسكم، وصححوا مساركم، وعليكم بالحلال وإن قل، وإياكم والحرام وإن كثر، فإنما هي أيام معدودة وأعمار محدودة، يوشك أن تنقضي فترجعون إلى الله، فاتقوا الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
(1/4475)
منزلة التوكل على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
30/10/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوكل على الله من أبرز صفات المؤمنين. 2- سبيل الخلاص وطريق النجاة من المصائب والشرور. 3- من ثمار التوكل على الله. 4- نماذج مشرقة من حياة المتوكلين. 5- التوكل على الله لا ينافي اتخاذ الأسباب ولا ينافي العمل. 6- الدروس المستفادة من ذكرى تشرين الثاني.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].
أيها المسلمون، المؤمنون بالله تعالى ـ وفي مقدمتهم رسل الله ـ يتوكلون على الله وحده، ولا تلتفت قلوبهم إلى سواه، ولا يرجون عونًا ولا نصرًا إلا منه، ولا يركنون إلا إلى حماه، كما أنهم يواجهون الطغيان بالإيمان، ويواجهون الأذى والاضطهاد والعدوان بالصبر والثبات، ويقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ. إنها كلمات المطمئن إلى موقفه وطريقه، المالئ يديه من وليه وناصره، المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد أن ينصر ويعين، وماذا يهم هذا الصنف من الناس حتى لو لم يتم لهم النصر في الدنيا ما داموا ضمن هداية السبيل؟!
أيها المسلمون، إن القلب الذي يحس ويشعر بأن يد الله سبحانه تقود خطاه وتهديه السبيل هو قلب موصول بالله تعالى مطمئن إلى نصره وتحقيق وعده؛ ولذلك لا يتردد في المضي في الطريق مهما كانت العقبات، وأيًا كانت قوى الطواغيت والجبابرة التي تتربص به، ما دام صاحب هذا القلب يصبر ويعمل ويأخذ بالأسباب.
أيها المسلمون، وفي ظل هذا الظلام الحالك الذي يتخبط فيه الكثير من المسلمين على غير هدى يبرز السؤال عن سبيل الخلاص وعن طريق النجاة، والأمر المؤسف أن هذا الصنف من المسلمين راح يلتمس سبيل الخلاص والنجاة والسعادة من خلال معتقدات زائفة وتشريعات وضعية فاسدة وأفكار مستوردة من الغرب حينًا ومن الشرق حينًا آخر، ومنهم من راح يلتمسه من خلال طروحات سياسية مبرمجة، ناسين أو متناسين أن شريعة الإسلام هي سبيل الخلاص، وقد قال في شأنها الصادق الأمين محمد رسول الله : ((تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكبها إلا ضال)) ، وصدق الله العظيم القائل: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
أيها المؤمنون، والإنسان في صراعه مع الحياة تنتابه المخاوف وتعتريه الصعاب وتنزل به الآلام النفسية، فلا يجد للحياة طعمًا، وفي هذه الحالة لا يستطيع أن يقوم بدوره الرئيسي في إسعاد نفسه ونفع غيره، فتتعطل قواه البدنية والروحية. والحياة ـ كما نعلم ـ لا تطيب للإنسان ولا يسعد بها ولا يستطيع أن يقوم بتأدية رسالته في هذه الحياة إلا إذا استمتع بسكينة النفس وطمأنينة القلب وراحة البال وعافية البدن، وسبيل ذلك أن نثق بالله تعالى ونعتمد عليه ونحسن الظن به ونتوكل عليه، جاء في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)).
ومن هنا ـ أيها المؤمنون ـ كان التوكل على الله أمرًا ضروريًا لنا، لا يستغني عنه العالم ولا العامل ولا الرجل ولا المرأة ولا الحاكم ولا المحكوم، لحاجة هؤلاء جميعًا إلى يد حانية قوية تعينهم إذا أقدموا ونجحوا وانتصروا من جانب، وتمسح آلامهم وتخفف عنهم إذا فشلوا وانهزموا من جانب آخر.
أيها المؤمنون، وإن الناظر في الإسلام يرى دعوته صريحة إلى التوكل على الله والاعتماد عليه، يقول الله تعالى في آيات كثيرة منها على سبيل المثال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ويقول أيضًا: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. والمسلمون بعد غزوة أحد حين هددوا بتجمع الأعداء وقيل لهم: إن المشركين قد جمعوا للقضاء عليكم واستئصال شأفتكم لم يبالوا بذلك ولم يستسلموا ولم يتنازلوا، بل بقوا صابرين ثابتين متوكلين على الله، فصرف الله عنهم عدوهم، وسجل لهم هذا الموقف الرائع ضمن آيات ستبقى تتلى إلى يوم الدين، يقول الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:171-173].
وهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام كان آخر قوله حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل)، فأنجاه الله من النار وجعلها بردًا وسلامًا عليه، قال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
أيها المسلمون، وهذا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله يحدث ويقول: كنا مع رسول الله بغزوة ذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله معلق بالشجرة، فاخترطه ـ أي: سله ـ فقال: تخافني؟ فأجابه الرسول : ((لا)) ، قال المشرك: فمن يمنعك مني؟ قال : ((الله)) ، فسقط السيف من يده فأخذه الرسول وقال للرجل المشرك: ((من يمنعك مني؟)) ، فقال: يا محمد، كن خير آخذ، فقال : ((تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) ، قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى الرسول سبيله، فأتى الرجل أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
أيها المؤمنون، إن التوكل على الله لا ينافي اتخاذ الأسباب، ولا ينافي العمل، بل إن التوكل لا يصح ولا يكون إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عمل يريده جميع الأسباب الموصلة إلى تحقيقه؛ فالله سبحانه وتعالى قد ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، وعدم الأخذ بالأسباب مناف للفطرة ومخالف لأمر الله، وقد كان رسولكم محمد سيد المتوكلين، ومع ذلك فقد كان يأخذ لكل أمر عدته، ويستعد لملاقاة أعدائه الاستعداد الكامل، ويتخذ جميع أسباب النصر، وكان يعمل ويسعى للكسب ويأمر غيره بالسعي والعمل، وسار على نهجه أصحابه الغر الميامين وأتباعه من المؤمنين المخلصين. فالتوكل على الله لا يتحقق إلا باتخاذ الأسباب والعمل ومتابعة سنن الله وقوانينه أولاً، ثم بالاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه وترك النتائج له ثانيًا. وقد جاء رجل إلى رسول الله وأراد أن يترك ناقته على باب المسجد دون أن يربطها، فقال: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال له: ((اعقلها وتوكل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن الناظر في حال الأمة العربية والإسلامية يلاحظ أنها تتعرض لحرب لا هوادة فيها، إلى حرب مادية ونفسية واقتصادية وثقافية، وما ذلك إلا لإضعاف العقيدة في القلوب، وانهيار قواها المادية بأقل الضربات على يد أعدائها، فتنسج الأساطير حول قوتهم كما تنسج الأساطير حول ضعفها، وعندها يدخل الرعب إلى القلوب، ويحصل الاستسلام والتسليم، ويحقق الأعداء أهدافهم ومخططاتهم.
أيها المرابطون، ولقد شاءت إرادة الله تعالى أن يتلقى المسلمون في أرض الإسراء والمعراج الصدمة الأولى من القوى الصليبية في حربها الحاقدة، ولا يغيب عن البال ما قاله الجنرال اللنبي وقت دخوله بيت المقدس عام 1917م، وبعد شهر تقريبا من صدور وعد بلفور: "الآن انتهت الحروب الصليبية". قالها ظنًا منه أنه قد قضي على الإسلام وأهله، متناسيًا طبيعة هذا الدين وحقيقته وأن المستقبل له، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8].
واستمر مخطط العدوان حتى حصل الذي حصل لهذه الأرض المباركة من احتلال واغتصاب، على حين فرقة من العرب والمسلمين وغفلة وضعف، وتآمر من قبل السياسة الغربية الحاقدة. ولم يستطع أهل فلسطين وقتئذٍ صنع شيء بسبب الخيانة والخذلان من جانب، وبسبب سوء التقدير من جانب آخر، فهاموا على وجوههم في الأرض وفقدوا حقهم. وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947م قررت هيئة الأمم المتحدة إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيمها إلى دولتين عربية ويهودية حسب خرائط قررت سلفًا، كما قررت تدويل القدس وتعاون الدولتين اقتصاديا، ولم يوافق الفلسطينيون والعرب في حينه على هذا التقسيم تمسكًا بالحق الثابت. وفي مثل هذا التاريخ من كل عام يحيي شعبنا هذه الذكرى الأليمة، ويشاركه في ذلك الكثير من دول العالم، حيث أصبح هذا التاريخ رمزًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وستبقى هذه الذكرى ماثلة أمام أعيننا باعتبارها الجرح الذي ينزف من أجسادنا إلى أن يشاء الله تعالى، وإلى أن يتم تحرير الأرض والمقدسات، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال.
ومن أبرز الدروس المستفادة من هذه الذكرى ضرورة إعداد النفوس لما ينبغي أن تكون عليه في المستقبل، ولم الشمل وجمع الصفوف وتوحيد الكلمة.
فيا أيها العرب والمسلمون، أفيقوا من غفلتكم، وتحملوا مسؤولياتكم تجاه ما يحدث على هذه الأرض المباركة من استيلاء عليها والعمل على تهويدها، وما يجري عليها من إقامة المستوطنات ومصادرة البيوت وهدمها، والحد من البناء عليها كما هو حاصل في مدينة القدس، والاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري، ومحاولة التدخل في شؤون المسجد الأقصى المبارك، إلى غير ذلك من الممارسات الاستفزازية التي تحدث يوميًا. وكل هذه الأشياء تأتي ضمن تنفيذ المخططات المرسومة لذلك.
يضاف إلى ذلك حملات الاعتقالات وحوادث الاغتيالات ضد أبناء هذا الشعب، والتعرض لإخواننا المعتقلين في سجون الاحتلال بصورة لا تتفق مع حقوق الإنسان كإنسان، وتتنافى مع الأعراف والمواثيق الدولية.
(1/4476)
تزكية النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية تزكية النفس. 2- أسباب تدسية النفس. 3- أثر التوحيد في تزكية النفس. 4- الحث على المجاهدة في تزكية النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، تمسكوا بها وحققوها، وتخففوا من الدنيا وطلقوها، وزكوا أنفسكم وتخلّصوا من الهوى، واعملوا صالحًا تقدمون به على الله، واحذروا من القدوم عليه وأنتم بلا زاد، أو وأنتم قد تحمّلتم ما يوردكم المهالك، فـ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74 76].
أيها المسلمون، إن الله سبحانه قد جعل هذا الدين القويم ضياء ونورًا لعباده، يخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]. شرع الله هذا الدين ليزكي به النفوس، ويطهرها من أوضار الشرك وأدناس الجاهلية، ولينقيها من أمراض الشبهات وأدواء الشهوات. ولا شك أن فلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والأخرى وفوزه ونجاته في حياته وبعد مماته، لا شك أنه مرهون بتزكيته نفسه وتطهيره إياها من كل ما يدنسها ويدسّيها، قال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10]، قال قتادة وابن عيينة وغيرهما: "قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال"، وقال ابن قتيبة في معنى دَسَّاهَا : "أي: أخفاها بالفجور والمعصية".
وتَدْسِيَة النفس وتدنيسها ـ أيها المسلمون ـ مرض قديم جديد في حياة الناس، تأتي به وتجلبه آفات كثيرة ومسببات متعددة، تتنوع وتتغير بتغير المكان والزمان، غير أن أشدها أثرًا وأسوأها تأثيرًا الكفر والشرك، والنفاق والشك، والخوف من غير الله، واتباع الهوى والكبر والشح، والجبن والحسد والجزع، والغرور وحب الرياسة، والتقصير والغلو، والعجلة والشكوى، والطمع والهلع، والعلو في الأرض والحمية للنفس والغضب لها. وإذا رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ، ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب المخلوق والرضا بالدنيا والطمأنينة بها فاعلم أنه قد خسف به، ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وإن أبعدَ القلوب من الله تعالى القلب القاسي. ولذا كان لزامًا على كل عبد ناصح لنفسه يرجو النجاة والفوز يوم الحسرة أن يسعى لتزكية نفسه وتطهيرها وتنقيتها وتنظيفها، وأن يتعاهد قلبه بذلك دائمًا وأبدًا، فإنه هو ملك الأعضاء ورئيسها، إن صلح وزكا صلحت الجوارح وزكت، وإن فسد وتدَسَّى، فسدت الجوارح كلها وتَدَسَّت، وخاب الإنسان وخسر، قال : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
ولا ريب أن رأس الأمر كله في تزكية النفس هو الإيمان بالله وتوحيده، وإفراده بالعبادة، والانقياد له بالطاعة، والتسليم بشرعه وأمره، وتمام الذل له مع تمام الحب. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا من أحبه الله، ولا يبغض شيئًا إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته يبرئه الله من الكبر والشرك" اهـ.
والعدو الأكبر للتوحيد والإيمان هو الشرك بالله جل وعلا الذي سماه الله ظلمًا عظيمًا فقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهو الذي لا يغفر الله لمن لقيه به، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقُرَابها مغفرة)).
ولما كان التوحيد والإيمان في قلوب الصحابة نقيًا صافيًا خالصًا من شوائب الشرك وأوضار الجاهلية زكت نفوسهم وارتفعت، وصفت قلوبهم وطهرت، فاستعذبوا العذاب في سبيل الله، واستهانوا بكل عظيم من أجل رضاه، وقدموا النفوس رخيصة لنشر دين الله والذَّوْد عن حماه، وبذلوا الأموال بسخاء وكرم عظيمين عجيبين، لم يعرف التأريخ لهما شبيهًا ولا مثيلاً، ففتحوا القلوب والديار، وامتدت رقعة الإسلام شرقًا وغربًا في مدة وجيزة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وزكوا أنفسكم تفوزوا وتفلحوا، اتقوا الشرك بجميع أنواعه، واحذروا صغيره وكبيره، وإياكم والمعاصي والسيئات، حققوا التوحيد في قلوبكم تفلحوا، واعملوا بطاعة الله تفوزوا وتسعدوا. فـ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14، 15]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:15-18].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه.
واعلموا أن تزكية النفوس لا تكون بعد الإيمان بالله والرضا به ربًّا ومالكًا وخالقًا ومدبّرًا إلا باتباع الوحيين والسير على هدي سيد الثقلين، قال ابن القيم رحمه الله: "تزكية النفوس مُسَلَّمَة إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، لا خلقًا ولا إلهامًا، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152]. وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟! فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام عالم رباني خبير بأدواء القلوب وأدويتها، فوالله ما دَسَّى نفوس كثير من البشر اليوم ـ والله المستعان ـ إلا تنكب كتاب ربهم وسنة نبيهم ، حيث تركوهما وراءهم ظِهْرِيًا، وابتعدوا عن تعاليمهما، وأشربوا فتن الشبهات والشهوات في قلوبهم، فأصبحوا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا إلا ما أشربوا من هوى أنفسهم.
فاتقوا الله عباد الله، وزكوا أنفسكم بطاعة الله وفعل الحسنات، ولا تدسّوها بالمعاصي والسيئات، أقيموا الصلاة وأمروا بها أبناءكم والبنات، طهروا بيوتكم من أجهزة اللهو والباطل من الدشوش والقنوات والصور المحرمة والجرائد والمجلات، اتقوا المكاسب المحرمة واحذروها، واطلبوا الحلال وأنفقوا من طيبات ما كسبتم، واتقوا الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
(1/4477)
حب الدنيا والمال
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الزهد والورع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الركون إلى الدنيا. 2- خطورة الإفراط في حب المال. 3- حقيقة الغنى. 4- الحث على طلب الرزق الحلال. 5- قيمة الدنيا في ميزان الله ورسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه ولا تعصوه، واعلموا أنكم تعيشون أعمارًا قصيرة، وتحيون أيامًا معدودة، وأن الدنيا دار ممر وليست بدار مقر، وقد جعلها الله سبحانه مزرعة للآخرة ومحطة للتزود منها بصالح الأعمال، فاعبروها ولا تعمروها، وتزودوا منها بخير الزاد ليوم المعاد، وانظروا إلى ما أمامكم، واجعلوا الآخرة هي همكم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
نعم أيها الإخوة، اعملوا للآخرة وكونوا من أهلها، ولا يكن جُلّ همكم الدنيا والعيش لأجلها، فإن من كانت الدنيا همه شتّت الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة.
وإن أقوامًا في هذا الزمان جعلوا الدنيا رأس مالهم، واستحكم فيها طمعهم، واشتد عليها حرصهم وجشعهم، فسعوا في جمع حطامها من كل باب، وتهارشوا عليها تهارش السباع والكلاب، فطغوا وتكبروا، وفسقوا وتجبروا، تركوا أوامر الله إذ ألبسهم الصحة والعافية، وتعالوا على عباد الله بما حازوا من هذه الدنيا الفانية، وصعّروا خدودهم صَلَفًا، ومشوا في الأرض مَرَحًا، حياتهم فخر واختيال، ومعاملتهم مكر واحتيال، ينفقون بذَخًا وسرفًا، ويطلبون تنعّمًا وترفًا، يركبون أفخم السيارات وأغلاها، ويسكنون أوسع العمارات وأعلاها، يباهون الناس بما يركبون ويسكنون، ولا يبالون بما في ذممهم من القروض والديون، همهم الظهور أمام الناس بمظهر الغنى وكثرة المال، وليس يهمهم بعد ذلك من أي السبل جمعوه، ولا من أي الطرق حصلوه، أمن حلال أم من حرام؟! بل لقد أصبح عند كثير من الناس أن ما حل في يده فهو الحلال، وأن ما لم يحصله فهو الحرام، ولهذا تجده يسلك المسالك الملتوية، ويتصنع الخطط الآثمة، لتحصيل أكبر قدر من المال، ولو على حساب الآخرين، فتارة يغش ويسرق، وتارة يرتشي ويرابي، ومرة يبيع الأشياء المشبوهة، وأخرى يسوّق البضائع المحرمة، وحينًا يخادع وينافق، ثم هو لا يتورع بعد ذلك أن ينثر ماء وجهه على أبواب الناس أو في أسواقهم ومساجدهم، أو يفرش ثوبه ويمد يده لزملائه بعد تسلمهم لرواتبهم، يسأل الناس تكثّرًا، ويمزّق لحم وجهه بما يضع في جيبه، يلح في الطلب ويسأل إلحافًا، ويحمل من لم يعطه ظلمًا وإجحافًا، إن أعطي رضي ومدَح، وإن لم يعط سخط وقدح، يفعل ذلك وأمثاله ويتحمل الأوزار والآثام، ويتعدى على حقوق الناس وأموالهم، ولا يبالي بما عليه من القروض والديون، كل ذلك من أجل أن يظهر أمام الناس بمظهر غير مظهره، ويلبس ثوب زور يغطي حقيقته ومخبره، يتشبع بما لم يعطه الله، ويظهر الغنى وهو أفقر خلق الله. ذلكم هو حال كثير منا في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وليس يبعد عن الأذهان ـ أيها الإخوة ـ حال كثير من المخدوعين المخذولين الذين استخدموا كل ما أوتوا من فصاحة اللسان وقوة الحجة، فخدعوا القضاة والمسؤولين، وساقوا معهم قطيعًا ممن لا يرجون لله وقارًا، ليشهدوا لهم بالبهت والزور، ويؤيدوهم بالكذب والفجور، فيقتطعوا بتلك الشهادات الفاجرة أراضي لم تكن لهم ولا لآبائهم، ويستخرجوا عليها الصكوك والحجج المزوّرة، فيأكلوا من بيت مال المسلمين المبالغ العظيمة مما يسمّى بالتثمين، من غير أن يكون لهم فيها أدنى حق، ليبوؤوا بعد ذلك بإثمهم وإثم من شهد معهم وأعانهم على أكل أموال المسلمين بغير حق. ذلكم هو حالنا وواقعنا، نبيع ديننا بدنيانا، ونستبدل الأدنى بالذي هو خير:
نرقّعُ دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّعُ
فطوبى لعبدٍ آثرَ اللهَ ربَّه وجاد بدنياه لما يتوقّعُ
أيها المسلمون، إن حب الدنيا والتفاني في جمع المال من أي وجه كان من غير نظر إلى حلال أو حرام هو رأس كل إثم وخطيئة، وإن البحث عن الغنى وكثرة المال بالطرق المحرمة لهو دليل على التكبر والتجبر، وليس الغنى الحقيقي ـ ورب الكعبة ـ فيما يراه كثير من الناس ويعتقدونه، حيث يرونه مالاً وفيرًا وقصرًا كبيرًا، وسيارة فخمة وثروة ضخمة، أو لباسًا غاليًا ومنصبًا عاليًا، إن الغنى الحقيقي والله في غنى النفس وقناعتها، وإن الثروة الحقيقية هي طاعة الله والرضا بما قسمه، ولا غنى يكون أفضل ولا أكمل من الاستغناء عن الآخرين والزهد فيما في أيديهم من قليل أو كثير، قال : ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافًا وقنعه الله بما آتاه)) ، وعن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس تكثّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر)) ، وقال عليه السلام: ((من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واقنعوا بالقليل لعلكم تفلحون، واتقوا الله يا من تعديتم حدود الله، واعتديتم على أموال عباد الله، واتقوا الله يا من تستدينون وتبذّرون، ثم تماطلون ولا توفون، اتقوا الله يا من تبنون العمارات العليّة، وتركبون المراكب الوطيّة، تذبحون وتضيفون، وتتكرمون وتعزمون، ثم تأتون في آخر كل شهر وتسألون، وتلحفون ولا تستحون، من أعطاكم مدحتموه ورفعتموه، ومن منعكم قدحتموه ووضعتموه، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وتواضعوا يرفعكم الله، وإياكم والمسألة والاستعطاء، لتُروا الناس أنكم أغنياء وما أنتم بأغنياء، يقول : ((إن المسألة كدّ يكدّ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل سلطانًا أو في أمر لا بد له منه)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:76-84].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه المبين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، والصلاة والسلام على نبيه المبعوث رحمة للعالمين القائل: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
واعلموا أن قيمة الإنسان في هذه الدنيا ليست بما عنده من الأموال والضيعات، ولا بما يحيط به من الأولاد والزوجات، فكل ذلك عَرَض زائل وعارية مستردّة، وليس يبقى للإنسان من عمله إلا ما كان خالصًا صالحًا، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى وأبقى، وكل ذلك إما حلال فيحاسب عليه، أو حرام فيعاقب عليه، ولو كانت الدنيا عند الله تساوي جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، ولو كانت عنده غالية ما حجبها عن نبيه وخيرة خلقه محمد وأصحابه الكرام الذين هم خير البرية وأزكاها، لكن الله تعالى ـ وهو أعلم بما يختار ـ اختار لهم أن يكونوا فقراء مُقلّين، حتى يلقوه مخفين من أثقال الدنيا. واسمعوا إلى ما سأورده من أحاديث لعلكم تفقهون:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أرسل إلى نبيه ملكًا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسوله: إن الله يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا، وبين أن تكون ملكًا نبيًا، فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله أن تواضع، فقال رسول الله : ((بل أكون عبدًا نبيًا)) ، قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا حتى لقي الله عز وجل.
وعن عمر بن الخطاب قال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يتلوّى؛ ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه.
وعن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض.
وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أختي، إن كنا ننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار، وكانت لهم منايح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا.
وعن أبي هريرة أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصليّة، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.
وعن أنس قال: لم يأكل النبي على خِوَان حتى مات، وما أكل خبزًا مرقّقًا حتى مات، ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير.
وعنها رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله من أَدَم حشْوه لِيف.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا الله يا أصحاب البطون الكبيرة، يا من تبحثون عن الثروة والغنى، ولا تبالون بأكل الحرام والسحت، اتقوا الله تعالى وخافوا عقابه، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13، 14]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، واتقوا المكاسب المحرمة، فإنها فتنة ونصب في الدنيا، ونار وعذاب في الآخرة، وقد صح عنه أن العبد يسأل يوم القيامة عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فأعدوا للسؤال جوابًا صوابًا، لعلكم تفلحون.
(1/4478)
هل يخاف المؤمنون ويفزعون من الأعداء؟
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف الطبيعي. 2- الفرق بين خوف المؤمن وخوف غيره. 3- ذم الخوف الشديد على أمور الدنيا. 4- من أنواع خوف الناس في هذا الزمان. 5- الخوف جند من جنود الله. 6- لماذا يخاف المسلمون اليوم؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وخافوه وتوكّلوا عليه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].
أيها المسلمون، هل يخافُ المؤمنون منَ الأعداءِ ويفزعون؟ هل ترتعدُ فرائصُهُم خوفًا منَ الكفارِ ويقلقون؟ هل يحسِبون للمستقبلِ حسابَه ويتأهّبون؟ أسئلةٌ تتواردُ على الخواطرِ بتكرارٍ، ويكثرُ ورودُها على النفوسِ في هذهِ الأيامِ بإلحاحٍ، خاصةً بعدَ هذهِ الحروبِ الظالمةِ الغاشمةِ، وفي إثرِ تلك التفجيراتِ المروّعةِ الآثمةِ، وفي مثلِ هذهِ الأوضاعِ المتردّيةِ والأحوالِ المنتكسةِ التي تهددُ دولُ الكفرِ فيها أمنَ المنطقةِ بأكملِها، بعدَ أن أرست قواعدَها في كلِّ شبرٍ منها. وللإجابةِ عن مثلِ هذهِ الأسئلةِ يقالُ: إن الخوف شعور إنساني طبيعي، ينتاب الإنسان عند تعرّضه لما يفزعه، والمؤمن ما هو إلا فرد من بني جنسه، يعتريه ما يعتريهم من الخوف والفزع، ويصيبه ما يصيبهم من الخشية والقلق، ولكنه يختلف عن غيره في أثر ذلك الخوف ونتيجته، وطريقة معالجته له والتخلص منه.
إن المؤمن يفزع في الظاهر ويخاف، بل الأنبياء يفزعون ويخافون، فهذا موسى عليه السلام عندما أمره الله أن يلقي عصاه التي في يده فألقاها فتحولت إلى ثعبان عظيم خاف من ذلك ورهب، بل فرّ وهو في حضرة الله استجابة لذلك الشعور الإنساني الطبيعي لديه، قال تعالى: وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل:10]، وقال سبحانه: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]، ولما قتل عليه السلام ذلك الرجل الذي من عدوه أصبح في المدينة خائفًا يترقب، ولما خرج منها خرج خائفًا يترقب، هكذا حكى الله لنا خبره في القرآن.
وهكذا المؤمن يخاف ويفزع، ولكنه في نفس الوقت لا يشمله عميم الخوف، ولا تملؤه الرهبة، ولا يحتويه الفزع، ولا يستولي عليه الهلع مطلقًا، وإنما خوفه الحقيقي من الله سبحانه وتعالى الذي قال: وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة:13].
إن المؤمن ـ أيها المؤمنون ـ لا ينفعل بالخوف، ولا يتحرك في غاياته بناءً على ذلك الخوف، وإنما خوفه مجرد رد فعل مؤقت لالتماس الاطمئنان، ووسيلة آنية لطلب الأمان، وإلا فإن المدبر عنده للأمور والحاكم فيها هو الله سبحانه الآمر الناهي والنافع الضار، الذي لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوا أحدًا بشيء لم يكتبه له لم يستطيعوا، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يكتبه عليه لم يقدروا، ومن هنا يتميز المؤمن في طريقة معالجة الخوف، إذ يعالجه باللجوء إلى الله والأنس به والاستعلاء بدينه، ويدافعه بالطمأنينة بالله والثقة في موعوده، قال تعالى: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، وقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
والحاصل أن المؤمنين يخافون ويفزعون، ويتزلزلون ويقلقون، ولكنهم لا يرتدون على أدبارهم ناكصين، ولا يرجعون عن دينهم مرتدين، ولا يزهدون في قيمهم أو مبادئهم شاكّين مرتابين، وحتى وإن استبيحت ديارهم واحتلت مقدساتهم أو زعزع أمنهم وأضعف اقتصادهم فإنهم يظلون أقوياء بربهم، أعزة بدينهم وإيمانهم، يطلبون الحياة كريمة، أو يموتون ميتة شريفة. ولقد حكى الله موقف المسلمين من الأحزاب، وأنهم خافوا منهم وفزعوا، بل زلزلوا لهول ما رأوا زلزالاً شديدًا، قال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]. نعم، خاف المسلمون وهم مع رسول الله من أحزاب الكفر، ولكنه كان في المقام الأول خوفًا على الدين.
وهذا عمر بن الخطاب يطرق عليه رجل الباب بشدة، فيفزع ويقول: هل دخلت الروم؟ نعم، هل دخلت الروم؟ فهذا هو ما كان يخشاه ويخاف منه، لم يخف على جاه أو سلطان أو منصب، ولم يخش أن يؤخذ مال أو تسلب مزرعة أو يستولى على كرسي أو تسقط رئاسة، وإنما كان يخاف هجومهم على الإسلام، وأن يستحلّوا حماه، ويستبيحوا بيضته.
وهذا الصديق قبله في طريق الهجرة خاف على رسول الله من الكفار الذين يلاحقونه ويطلبونه، فكان يمشي تارة عن يمينه، ويتحوّل تارة عن يساره، ومرّة يحميه من خلفه، وأخرى يحرسه من أمامه، كل ذلك خوفًا عليه أن يُقتَل فيذهب الإسلام.
هكذا كان خوف المؤمنين السابقين؛ لأنهم لم يكن لهم رأس مال سوى الدين، فلم يكونوا يخافون على ضياع شيء سواه، لم يكونوا يخافون على عمارة أو ضيعة، أو يخشون على سيارة أو وظيفة، أو يقلقون على رصيد في مصرف أو بضائع في متجر.
أما لو نظرنا إلى المسلمين في هذا الزمان لوجدنا خوفهم لم يعد مقصورًا على دينهم ورأس مالهم الحقيقي؛ لأنهم أقبلوا على الدنيا، وارتموا في أحضانها غير ناظرين إلى ما وراءهم، وصاروا يعبّون من أنواع شهواتها غير آبهين بما قدموا لما أمامهم، ولهذا تشعّبت الهموم عليهم من كل واد، وتعددت أنواع خوفهم من أحزاب الكفر، فصار منهم من يخاف على مكانته ومنصبه فحسب، إذ شغلته لذة الكرسي، وقيّده سحر المكانة، فلا همّ له إلا أن يحافظ على ذلك الكرسي بكل سبيل ولو غير مشروع، ويتشبّث بكل خيط يبقيه على تلك المكانة ولو كان واهيًا. ووجد في المسلمين من يخاف أن تجمد أرصدته أو يؤخذ ماله، أو يحرم رحلات الترف والسرف على موائد الغرب، والتي يأكل فيها الربا، ويأخذ الميسر، ويعاقر الخمر، ويتمتع بالجنس والرقص، وهؤلاء على اختلافهم يسارعون في موالاة أحزاب الكفر والائتمار بأمرهم والسمع والطاعة لهم، بل بعضهم لا يتوانى في التآمر على إخوانه المسلمين، والدلالة على عوراتهم ونقاط الضعف فيهم؛ لكي يظفر بعرض زائل أو مال قليل، أو لتبقى له على الأقل شهواته لا يحرم منها ولا يمنع عنها، وما سقوط بغداد عنا ببعيد فيُنسَى، ولا قتل بعض القادة الربّانيين في الشيشان بسر فيخفى، وما حال فلسطين الجريحة بخاف علينا، إذ يقتل قادة الجهاد فيها بيد عميلة خائنة من عملاء اليهود الذين باعوا وطنهم، ودلّوا على عورات إخوانهم وثغرات بلادهم، ألا فلا نامت أعين الجبناء وعُبّاد الشهوات.
ومن أنواع خوف الناس في هذا الزمان الخوف الناتج من ضعف اليقين بالله وانعدام الثقة به سبحانه، وهذا خوف عامة الناس، حيث يخافون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وهو بلاء عمّ، وشرّ طمّ، استغرق نفوسًا وطغى عليها، واستولى على قلوب واستحوذ عليها، حتى صارت حال كثير من الناس لا توحي بأنهم يثقون في وعد الله بنصر دينه، فتراهم قد أصيبوا بهزيمة نفسية داخلية، وحملوا بين أضلعهم نفوسًا انهزامية، لا تفكر بنصر ولا تبحث عنه ولا تسعى فيه، وإنما جُلّ همها الدنيا والملذات والشهوات، وحالها الخوف المستمر والهلع الدائم، وعقيدتها الشك في قضاء الله وقدره وفي حصول موعوده سبحانه، وهؤلاء غالبًا ما يكونون من المنافقين المرتابين الذين نزع الله السكينة من قلوبهم، وقذف فيها الرعب، ووصفهم بقوله: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19]، وسمّاهم في القرآن وأشار إليهم بأوصاف كثيرة، ووسمهم بأنهم الفُرّار والمثبّطون وأنهم أهل الخبال والمُعَوِّقون، قال الله تعالى فيهم في سورة الأحزاب: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً [الأحزاب:13-15]، وقد ردّ عليهم سبحانه بسبق قضائه وقدره ونفاذ حكمه، فقال قارعًا لهم ومذكّرًا للمؤمنين الصادقين: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:16، 17].
ومن أوصاف هذه الفئة ـ أيها المسلمون ـ الشح على الخير والسخاء في فاحش القول، وهذا وصف حقيقي لأولئك النفر الشاكّين في قضاء الله سبحانه وقدره، حيث تجدهم أحرص الناس على دينار ودرهم، كأنما قد كتب لهم في هذه الدنيا الخلود، أو كأنما قد ضمن لهم فيها طول العمر. وفي المقابل تجدهم أسخياء في الاعتذار والتعلل والانسلاخ من مواقف المواجهة، إضافة إلى الفحش في القول والخوض في أعراض المؤمنين والمجاهدين، قال سبحانه: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19].
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وخافوه إن كنتم مؤمنين، وآمنوا بالقدر خيره وشره، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ونهيه ولا تعصوه.
واعلموا أن الخوف من أعظم جند الله سبحانه التي يهزم بها أعداءه، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، ولذلك أوصى الله جنده المؤمنين بالصبر والثبات وإعداد العدة لإدخال الرعب في قلوب الأعداء، قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
وقد وعد الله سبحانه المؤمنين بأن يقذف في قلوب أعدائهم الرعب؛ تقوية لهم وتثبيتًا، بل قد نصر رسوله والمؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب أعدائهم في كثير من الغزوات، فهزموا دون حرب أو قتال، وتفرّق جمعهم، وتشتت شملهم، وتولوا هاربين لما سمعوا هتاف المسلمين وترديدهم قائلين: الله أكبر، قال تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151]، وقال جلّ وعلا: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26]، وقال رسول الله في الحديث الذي رواه مسلم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة)).
هكذا قال عليه الصلاة والسلام، وهكذا كانت حاله، فلماذا عاد المسلمون اليوم هم الذين يخافون من أعداء الله من اليهود والنصارى؟! لِمَ أصبحوا يخافون والخوف مضروب على أعدائهم؟! لِمَ صاروا يخافون والله معهم ما داموا على الحق ينصرهم ويؤيدهم؟! هل انقلبت الموازين الكونية واختلّت السنن الإلهية؟! أم هل تخلى الله عن عباده والمؤمنين به ونسيهم؟! أم هل من إرادته سبحانه أن يهزم جنده ويمحو دينه؟! لا والله وكلا، وتعالى الله وجلّ أن يخذل من قام بأمره واعتصم به أو يخزيه. وما أجمل قول تلك المرأة المؤمنة الشريفة الصادقة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها حينما جاءها النبي أول ما أنزل عليه الوحي خائفًا يقول: زمّلوني زمّلوني، وقال لها وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) ، فقالت: كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق. فرضي الله عنها ما كان أعقلها من امرأة! وعفا الله عن إخوان لنا اليوم على ما تكنّه صدورهم من سوء ظن بالله سبحانه، وغفر لهم ما يملأ صدورهم من خوف من أعدائه، وهم الذين ما زالوا تحت قبضته وفي ملكه، لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، فضلاً عن أن يملكوا لغيرهم نفعًا أو ضرًا.
(1/4479)
الخاتمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
رياض بن سليمان السلطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الموت. 2- حال العبد المؤمن والكافر عند الاحتضار. 3- صور للخاتمة السيئة. 4- نماذج من الخاتمة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فسُبحان من تفردَ بالبقاءِ، حيٌّ لا يموت سُبحانهُ وتعالى، تفنى الخلائقُ جمعاء بعد أن تستنفدَ ما كتب اللهُ لها، وتتلقى الأقدارُ التي كتبها الديانُ برحمتهِ وحكمته، ثُمَّ تنتقلُ إلى حيثُ الحياة المكتوبة والمصير المضروب، الكلُّ ماضٍ إلى ما قُدر له، إمَّا إلى جنةٍ أو نار، الملكُ والمملوك، الرئيسُ والمرؤوس، من كان معروفًا بفقرهِ إلى عفو الله، ومن كان فقيرًا يومَ أن استغنى عن رحمةِ الله، الكلُّ راحلٌ مُغادر، والله سُبحانه وتعالى معروفٌ موصوفٌ بما قال عن نفسهِ قرآنًا أملاهُ الوحي على محمدٍ : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
ولكن قبلَ أن تبردَ الأعضاء وينتقلُ الجسمُ من الحركةِ إلى السكون وحملهِ من شاهقِ القصورِ إلى ظُلمات القبور، وقبل أن يغمضَ العبدُ عينيه على آخر نظرةٍ له إلى هذه الحياة، قبل أن يُشارَ إلى الابنِ أنَّهُ يتيم فقد أباه، وإلى الزوجةِ أنها ثكلى قد رحلَ عنها زوجُها وانقضت روحهُ إلى الله، وقبل أن يُعانق الأب وتضم الأم ويُقال: أحسن اللهُ العزاءَ وجبرَ اللهُ المُصاب، قبلَ أن تُزايلَ الحياةُ الأجساد ـ إي وربي عباد الله ـ قبل أن يظفرَ هادمُ اللذاتِ بالروح منك، يوم لا يقرعُ بابًا، ولا يهابُ حجابًا، ولا يقبلُ بديلاً، ولا يأخذُ كفيلاً، ولا يرحمُ صغيرًا، ولا يُوقرُ كبيرًا، يظفرُ بالروحِ منك أنت أيّها الإنسان، إنَّها خاتمةُ المطاف وملخّصُ الحياةِ السالفة، النهايةُ المُنتظرةِ، كربٌ بيدِ سواك لا تدري متى يَغشاك.
إنَّها الخاتمةُ يا أُمة الإسلام، التي طالما تسابقت دموعُ العارفين خوفًا منها، وضُمت الركبُ في المحاريب بين يدي الله تحسبًا لها، الخاتمةُ كربٌ أشدُّ من ضربِ السيوف ونشرٍ بالمناشير؛ فالروحُ تنجذبُ، لكلِّ عضوٍ سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، فتنقطعُ الأنظارُ عن الدنيا، ويُغلقُ دونَ العبدِ باب الإجابةِ، وتحيطُ به الحسرةُ والندامة. فما أهول تلك اللحظات، فما أهولَ تلك اللحظات.
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله كان بينَ يديهِ ركوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدهُ المباركة فيها، ويمسحُ بها وجههُ ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ لسكرات )) ، ثُمَّ نصب يدهُ وجعلَ يقولُ: ((في الرفيقِِ الأعلى)) ، حتى قُبض ومالت يده.
فاعتبر ـ أخا الإيمان ـ بحقائق أدلى الناطقون بها في ذلك المقام، ومُشاهدات وصفها المتألمونَ المتوجعونَ من سكرات الموت، وتشخيصًا يكسرُ القلوبُ طلبا لرحمةِ الله، طلبًا لمغفرة الله.
رُوي عن عمرو بن العاص لما حضرتهُ الوفاة قال لهُ ابنهُ عبد الله: يا أبتاه، إنَّك لتقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزولِ الموت حتى يصف لي ما يجدُ، وأنت ذلك الرجل؛ فصف لي الموت؟ فقال: يا بني، والله كأنَّ جبيني في تخت، وكأني أتنفسُ من ثُقبِ إبرة، وكأنَّ غُصنَ شوكٍ يُجذبُ من قدمي إلى هامةِ رأسي.
فكيفَ بك ـ يا مغرور ـ وقد حلَّت بك السكرات ونزل بك الأنين والروحُ كالشوكةِ تُسحبُ من أسفلِ قدمكَ إلى مفرقِ رأسك؟! تسمعُ عويلَ الحاضرين وتلقينَ الناصحين الشهادة لك، ثقل اللسان، وبارت القوى، وارتخت اليدان، وغارت العينان، تسمعُ نداءَ بنتكَ الصغيرةِ تبكي كالأسيرة؛ تقول: أبي لا تفارقني، وأنت تسمعُ الكلام، ولا تَقدر على الجواب، ما أضعفك وأهونك في تلك اللحظات إن تخلى اللهُ عنك وعبثَ بك الشيطان، لن تستطيعَ الجواب؛ فعزرائيل عليه السلام يُنادي الروحَ أن تخرج؛ فمثِّل نفسك أيّها الناسي، وتذكر أيُّها السادرُ المغرور.
أمةَ الإسلام، اسمعوا الخبرَ اليقين والحديثَ الجلي الذي يُغني عن التنبيهات والمواعظِ المُبكيات، خبرًا صحيحًا عن النبي الكريم، عن محمدٍ أنَّهُ قال: ((فإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ على الآخرةِ نزل إليه ملائكةٌ من السماءِ بيضُ الوجوه، كأنَّ وجُوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنة، وحنوط من حنوطها، حتى يجلسوا منهُ مُدَّ البصر، ثم يجيء ملكُ الموتِ حتى يجلس عند رأسه؛ فيقولُ: أيَّتُها النفسُ المطمئنةِ، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال: فتخرج؛ فتسيلُ كما تسيلُ القطرة من في السقاء؛ فيأخذُها فإذا أخذها لم يَدعوها في يدهِ طرفةَ عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ وفي ذلك الحنوطِ، وتخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجهِ الأرض؛ فيصعدون بها، فلا يمرُون بها على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الريحُ الطيبة؟ فيقولون: فلانُ بن فلان بأحسنِ أسمائهِ التي كانوا يُسمُونَهُ بها في الدنيا، حتى السماء السابعة، فيقولُ الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوهُ إلى الأرض؛ فإنِّي منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أُخرى، فتُعادُ رُوحه.
وإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ إلى الآخرة نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ سود الوجوهِ معهم المسوح، فيجلسون منهُ مدَّ البصر، ثُمَّ يجيء ملكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه، فيقولُ: أيَّتها النفسُ الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتتفرقُ في جسده، فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ من الصوفِ المبلول، فيأخذُها، فإذا أخذها لم يدعُوها في يدهِ طرفةَ عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على الأرض، فيصعدون فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروحُ الخبيثة؟ فيقولون: فلانُ ابن فلان بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمى بها في الدنيا ـ نسألُ الله العافيةَ من هذا ـ حتى ينتهي بها إلى السماءِ السابعة، فيستفتحُ فلا يُفتحُ له)) ، ثُمَّ قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابهُ في سجِّين في الأرضِ السفلى، فتطرح روحهُ طرحًا)) ، ثُمَّ قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن البراء بن عازب وصححهُ الألباني على شرطِ الشيخين.
قال سلمان الفارسي : (أضحكني ثلاث: مؤملُ الدنيا والموتُ يطلبُه، وغافلٌ ليس بمغفولٍ عنه، وضاحك بملء فيهِ وهو لا يدري أرضيَ اللهُ عليه أم سخط. وأبكاني ثلاث: فراقُ الأحبةِ محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى).
تزود من الدنيا فانَّكَ لا تدري إذا جنَ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجر
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد أخذت أرواحهم ليلةََ القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم وقد أُدخلت أرواحهم ظلمةَ القبرِ
وكم من سليمٍ مات من غيْرِ علةٍ وكم من سقيمٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكم من فتى يُمسي ويُصبحُ لاهيًا وقد نُسجت أكفانهُ وهو لا يدري
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ وعند المسا قد كان من ساكنِي القبرِ
فداوم على تقوى الإلهِ فإنَّها أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
أُمةَ الإسلام، كيف يستمرئُ العُصاةُ لذاتهم المنقضية؟! تأتلفُ نفوسهم كلفًا بها، يبحرون في لُجةِ كلِّ معصية طلبًا للذةِ الساقطةِ والسعادةِ المزورة التي تبرقعت بالسراب، كيف يتكلفون المُحرمات ومِن خلفهم مقاريض الخاتمة وأوجاع نسجوها هُم بأيديهم وما قُدمت ليومِ رحيلهم؟! كيف يستمرئُ العُصاةُ ذلك وقد زلَّ عن منهجِ النجاةِ من رُئي عليهم بهاء الطاعة ونضارة القُربِ من الله سُبحانه وتعالى؟! فالحيُّ لا تَؤمن فتنتهُ.
كان محمدُ بن الحسن ممن اشتدَّ كلفهُ وعشقهُ لغلامٍ أمرد، ففارقهُ الصبرُ منذُ أن عشقهُ، وفشت أشعارهُ فيه، وجرت على الألسنةِ، وأنشدت في المحافل، وكان يتبعُ الأمردَ الذي عشقهُ عندما يجلسُ على عتبةِ بابه، فاعتزل الأمردُ مجلسه ذلك، ففقدَهُ ابن الحسن فأنهكهُ المرض، وأضجعهُ الهم، فنصحهُ المُقربون عندهُ بمعاودةِ الأطباء فرفضَ، وقال: الدواءُ والعلاج نظرةٌ من أسلم ـ وأسلم هو ذلك الغلامُ الأمرد ـ، فذهبَ أحدُ أصدقاءِ محمد بن الحسن إلى الأمرد يراوِدهُ بمعاودته، وأن يتصدقَ عليه بنظرةٍ تُذهبُ بما فيه، وهيهات هيهات؛ فمن أسرفَ في محبةِ زينةٍ من الدنيا عذبهُ اللهُ بحبهِ ذاك، فرضيَ أسلم ذلك الأمرد بالذهابِ إلى ابن الحسن وهو على فراشه لكي ينظرَ إليه ويريحَ قلبهُ من فقدهِ فسارا جميعًا، ثُمَّ في وسط الطريقِ تردد أسلم، ورفضَ إكمال المسيرِ إلى ابن الحسن، قال له الرجل: لا بُدَّ أن تفي بوعدك وتُكمل سيرك، ولكنهُ رفض ورجع يوم أن رجع إليه عقله، فلحقهُ الرجل، وتعلق بردائه حتى تمزق، ولكنهُ رفض، فرجعَ الرجلُ لابن الحسن؛ فسألهُ عن الغلام؛ فقصَّ عليه ما حصل وأنَّهُ رفضَ المجيء إليك لتراه، فقال ابن الحسن ـ وليتهُ ما قال ليتهُ ما قال، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً ـ، قال لصاحبهِ احفظ عني هذه الأبيات:
أسلم يا راحة العليل رفقًا على الهائمِ النحيل
ووصلك أشهى إلى فؤادي من رحمةِ الْخالقِ الْجليل
قال له صاحبه: اتق الله، ما هذه العظيمة؟! فقال: قد كان، قد كان. يقولُ صاحب ابن الحسن: واللهِ، ما توسطتُ الطريقَ حتى سمعتُ الصراخَ عليه، وقد فارقَ الدنيا. نعوذُ باللهِ من سُوءِ الخاتمة.
اللهمَّ ارزقنا حُبك، وحبّ من يحبك، وحبّ كلّ عملٍ يُقربنا منك.
تلك هي النهاياتُ التي تنشقُ عن المتأملِ فيها حقارةُ الحياةِ الفانية، وأنَّ الحياةَ الحقة لذلك القلب الذي يملكُ وثبةً واصلةً في أعمالِ الخير، وذلاً يُحصِّنهُ من النهاياتِ المُرة، ألا إنَّها دعوةٌ للعودةِ الصادقةِ للهِ الواحد القهار، لمحةٍ بارقةٍ تسترشدُ ـ أخي الكريم ـ بنورها طريق النجاة.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
_________
الخطبة الثانية
_________
أمَّا بعد: فهنيئًا لأهلِ الطاعةِ والعرفان، الذين طوَّعُوا أنفسهم لأوامرِ الله تعالى ونواهيه، معترفينَ بحقِّ العُبوديةِ والأُلوهيةِ لله سبحانه وتعالى، الذين انتزعوا كلَّ حائلٍ بينهم وبين رضا اللهِ جل وعلا، وامتلكوا كلَّ عنوان تضحيةٍ، يثبون به إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، وكانوا ألويةً رفيعةً لجحافل المتقين العاملين.
فأبشر يا باغي الهدى، يا من تغشيتَ حلقَ العلمِ يومَ أن زهدَ فيها كثيرٌ من شبابِ الإسلامِ في هذا الزمن، وعكفت الركب عند العلماء، فانظر إلى نجم واحد من تلك النجومِ الكثيرةِ السيارة على مرِّ العصور وطويل الأزمان، العالمُ الهُمام علامةُ الزمان شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، المجاهدُ المُناضلُ بما أملاهُ اللهُ عليه من فضلهِ.
يقولُ الذي يقيمُ على زنزانتهِ في السجن قبلَ أن يلفظَ الشيخُ أنفاسهُ ويُغادرُ الدنيا، في آخرِ لحظةٍ يَعيشُها من عمره قبلَ أن ينتقلَ من الحياةِ إلى الممات، قرأ قول الله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54، 55] ثم قضى ومات رحمه الله.
لماذا ـ أيّها الأحبة ـ نفتحُ صفحاتٍ من التاريخِ صفراء، ونرجعُ إلى الوراءِ كثيرًا، ونحسرُ أعيننا عن الواقعِ المُشرقِ الذي عطرهُ شُبانٌ أتقياء نبلاء، رجال أيُّ رجال، عطَّروا مسامعنا بنهايتهم التي تُجددُ الحياة في القلب، وتؤكدهُ بمغفرةِ اللهِ ورحمتهِ أكثر وأكثر؛ دعاة هداة نصبوا أيَّامهم أمام الآخرةِ، يشدُّون أمامَ جدارَ الليلِ أحلى أنواعَ العبادةِ لله وحدهُ لا شريك له.
كان هُناك شابٌ تعلق قلبهُ بالأذان، تتراقصُ الدمعاتُ من عينيهِ وهو يُنادي الناس: (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) رافعًا بها صوتهُ، يمُدُّها ويُرسلُها حانيةً باردةً إلى آذانِ القاصي والداني، وبعد أيامٍ معدودة جاءَهُ الابتلاءُ من الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى، فأصيبت مقلتاهُ وعيناهُ بالعمى، وصار يحتاجُ إلى رعاية وإلى أحدٍ يقومُ بشُؤونه ويكفلُ له متطلباته، فأمرهُ عمّهُ وصنو أبيه أن يسكنَ عندهم في بيته، فحصلَ ما لا يُريدُهُ الشاب؛ فسيصبحُ بعيدًا عن الأذان وبُيوت الرحمن، فرفضَ، وألحَّ عليه عمّهُ رأفةً عليه وشفقة به، فقبلَ بعد ذلكَ ولكن بشرطٍ واحد، قال عمَّهُ: وما ذاك؟ قال: تأتون بي قبلَ صلاة الفجر إلى مسجدي هذا، ثُمَّ بعد شروق الشمس تأخذوني، وتأتون بي قبلَ صلاة الظُهر، وتتركوني للأذان والإقامة والصلاة والدعاء بينهما، حتى صلاةَ العشاء أُؤدي السُنة بعدها، ثُمَّ أرجعُ إلى بيتكم، استحسنَ العمُّ الطلبَ على كُلفتهِ وصعوبته، وبعد زمنٍ ليس باليسير والشابُ يَدفنُ سبابتيهُ في أذنيه ويُنادي المسلمين للصلاة: (الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلا الله، حيَّ على الصلاة)، فإذا بروحهِ تخرج ويموتُ ساعتها وهو يُؤذنُ. نسألُ الكريمَ من فضله.
وبعدُ: عباد الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
يا رب إن عظُمت ذنوبِي كثرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجُوكَ إلاَّ محسنٌ فمن الذي يدعو إليه المجرم
أدعوك ربِّ كما أمرت تضرعًا فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
ما لِي إليكَ وسيلة إلاَّ الرجا وجميلُ ظني ثُمَّ أني مسلمُ
عباد الله، إنِّي داعٍ فأمنوا، اللهمَّ يا من لا يَحِيفُك سائل، ولا ينقُصُك نائل، يا من خزائنهُ ملأى لا تغيضها النفقة، يا من وسعت رحمتهُ غضبه، يا من يُعطي الكثيرَ على القليل، ويغفرُ الذنبَ العظيم، ويقبلُ توبةَ العاصي، اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إلهَ إلاَّ الله، اللهمَّ ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً بعد الموت، ولذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم.
(1/4480)